ـ[إعراب القرآن وبيانه]ـ
المؤلف: محيي الدين درويش
الناشر: دار الإرشاد للشئون الجامعية - حمص - سورية، (دار اليمامة - دمشق - بيروت) ، (دار ابن كثير - دمشق - بيروت)
الطبعة: الرابعة، 1415 هـ
عدد الأجزاء: 10
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير](/)
ترجمة المؤلف (*)
محيي الدين درويش (1326 - 1403 هـ = 1908 - 1982 م)
محيي الدين بن أحمد مصطفى درويش.
ولد في مدينة حمص (سورية) ، وفيها توفي.
عاش في سورية.
تلقى علومه في مدارس حمص، حيث كانت في ذلك الوقت عبارة عن كتاتيب يتلقى فيها طلاب العلم القرآن الكريم وعلومه، ظهرت نجابته فأنهى دراسته للقرآن
الكريم وهو في سن العاشرة؛ مما أهله للالتحاق بمدرسة دار المعلمين العليا في دمشق.
عمل مدرسًا للأدب العربي في مدارس حمص التجهيزية بعد أن اختارته وزارة المعارف لهذا العمل في عام 1932م، وفي عام 1963 م أصدر مجلة «الخمائل الأدبية»
التي كانت متنفس الأدباء والشعراء داخل القطر السوري وخارجه، وكان قد رأس تحرير عدد من الجرائد.
كان عضوًا في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية.
من أعماله:
- إعراب القرآن وبيانه - دار ابن كثير - دمشق 1988
- تحقيق «ديوان ديك الجن» بالاشتراك - مطابع الفجر - حمص 1960
- الرواد الأوائل للشعر في مدينة حمص - مجلة العمران العددان (27 و28) - حمص مارس 1969
- نشرت له مجلة الخمائل عددًا من المقالات منها:
* الشريف الرضي في غزله - العدد (21) - سبتمبر 1962
* الصور الفنية المقتبسة من القرآن - العدد (14) - يناير 1963
* أبو العلاء المعري في رسالة الغفران - في عشر حلقات منذ عام 1964.
الإنتاج الشعري:
- أورد له كتاب «الحركة الشعرية المعاصرة في حمص» العديد من النماذج الشعرية
- أورد له كتاب «من أعلام حمص» نماذج من شعره
- نشرت له مجلة «الرسالة» عددًا من القصائد منها:
* «بقية حلم» - العدد (166) - القاهرة سبتمبر 1936،
* «مساء القرية» - العدد (173) - القاهرة أكتوبر 1936
- نشرت له مجلة الخمائل عددًا من القصائد منها:
* «اليتيم» - العددان (25 و26) - حمص ديسمبر 1964.
مصادر الدراسة:
1 - أدهم آل جندي: أعلام الأدب والفن (جـ 2) - مطبعة الاتحاد - دمشق 1958.
2 - عبد القادر عياش: معجم المؤلفين السوريين في القرن العشرين - دار الفكر - دمشق 1985.
3 - عبد المعين الملوحي: بلدي الصغير الحبيب حمص - غرفة التجارة والصناعة - حمص 2002.
4 - محمد غازي التدمري: الحركة الشعرية المعاصرة في حمص1900 - 1956 - مطبعة سورية - دمشق 1980.
: من أعلام حمص (جـ 1) - دار المعارف - حمص 1999.
5 - لقاء أجراه الباحث أحمد هواش مع عبد المعين الملوحي أحد تلاميذ المترجم له - حمص 2003
__________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: الترجمة ليست في المطبوع بل نسختها من معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين(/)
[المجلد الاول]
مقدمة
أما بعد حمد الله على آلائه، والصلاة والسلام على خاتمة رسله وأنبيائه، فهذا كتاب «اعراب القرآن وبيانه» ، أتيح له أن يظهر بعد أن طال احتجابه، وكثر طلابه، ولعله أول كتاب جمع البيان فأوعى، ورسم لشداة الآداب السبيل الأقوم والأسنى، ولست أدل به لأنه عن أئمة البيان مقتبس، وفيه لمن رام البيان نعم الملتمس، ولن أتحدث عنه فهو أولى بالحديث عن نفسه،
والمسك ما قد شف عنه ذاته ... لا ما غدا ينعته بائعه
وقد جعلته بعدد أجزاء القرآن الكريم، ليسهل تناوله فلا يحتاج مقتنيه إلى كتاب في الإعراب والبيان، وقد قطعت جهيزة قول كلّ خطيب بعد الآن.
محيي الدين الدرويش
جمادى الأولى 1400
حمص نيسان 1980(1/5)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
اللغة:
(أعوذ) : أعتصم وأمتنع (الشيطان) : إمّا أن يكون على وزن فعلان من شاط يشيط بقلب ابن آدم أي مال به وأهلكه، وإمّا أن يكون على وزن فيعال من شطن أي بعد كأنه بعد عن الخير أو بعد غوره في الشّر. (الرجيم) : فعيل بمعنى مفعول والمرجوم في اللّغة:
المطرود الملعون أو فعيل بمعنى فاعل أي يرجم غيره بالإغواء والتضليل وإلقاء النفس في المتالف.
الإعراب:
(أعوذ) فعل مضارع مرفوع وهو فعل معتل أجوف لأن عين الفعل واو والأصل أعوذ على وزن أفعل فاستثقلت الضمة على الواو فنقلت الى العين فصارت أعوذ وهذه علّة ما كان من هذا الباب وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره: أنا. (بالله) : جار ومجرور متعلقان بأعوذ (من الشيطان) جار ومجرور متعلقان بأعوذ أيضا ومن لابتداء الغاية كما أن إلى لمنتهى الغاية فإذا قلت: لزيد من الحائط إلى الحائط فقد بيّنت به طرفي ماله، وإذا قال الرجل: لزيد عليّ من واحد الى عشرة فجائز أن يكون عليه ثمانية إذا أخرجت الحدّين وجائز أن يكون عليه عشرة إذا ادخلت الحدّين معا، وجائز أن يكون عليه تسعة إذا أدخلت حدّا وأخرجت حدّا. (الرجيم) نعت حقيقي للشيطان وجملة الاستعاذة ابتدائية لا محل لها من الإعراب.(1/7)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(1) سورة الفاتحة مكّيّة وهي سبع آيات
[سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)
اللغة:
(اسم) اختلف علماء اللغة في اشتقاق الاسم فذهب البصريّون إلى أنه من السّموّ وهو العلوّ وذهب الكوفيون إلى أنه مشتق من السّمة وهي العلامة وكلاهما صحيح من جهة المعنى وفيه خمس لغات:
اسم بكسر الهمزة، واسم بضمها، وسم بكسر السين، وسم بضمها، وسمى بوزن هدى، هذا والاسم هو واحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة تفاديا للابتداء بالسّاكن لسلامة لغتهم من كل لكنة وإذا وقعت في درج الكلام لم تفتقر إلى شيء.
(الله) علم لا يطلق إلا على المعبود بحقّ خاص لا يشركه فيه غيره وهو مرتجل غير مشتق عند الأكثرين واليه ذهب سيبويه في أحد قوليه فلا يجوز حذف الألف واللام منه وقيل: هو مشتق وإليه ذهب سيبويه أيضا ولهم في اشتقاقه قولان:
آ- ان أصله إلاه على وزن فعال من قولهم: أله الرّجل يأله إلاهة أي عبد عبادة ثم حذفوا الهمزة تخفيفا لكثرة وروده واستعماله ثم أدخلت الألف واللام للتعظيم ودفع الشّيوع الذي ذهبوا إليه من تسمية أصنامهم وما يعبدونه آلهة من دون الله.
ب- أن أصله لاه ثم أدخلت الألف واللام عليه واشتقاقه من لاه يليه إذا تستر كأنّه، سبحانه، يسمّى بذلك لاستتاره واحتجابه عن إدراك الأبصار وما أجمل قول الشريف الرّضي الشاعر:(1/8)
«تاهت العقلاء في ذاته تعالى وصفاته، لاحتجابها بأنوار العظمة.
وتحيّروا أيضا في لفظ الجلالة كأنه انعكس إليه من تلك الأنوار أشعة بهرت أعين المستبصرين، فاختلفوا: أسريانيّ هو أم عربي؟ اسم أو صفة؟ مشتقّ وممّ اشتقاقه؟ وما أصله؟ أو غير مشتق؟ علم أو غير علم؟» . (الرَّحْمنِ) : صيغة فعلان في اللغة تدل على وصف فعليّ فيه معنى المبالغة للصفات الطارئة كعطشان وغرثان. (الرَّحِيمِ) صيغة فعيل تدل على وصف فعليّ فيه معنى المبالغة للصفات الدائمة الثابتة ولهذا لا يستغنى بأحد الوصفين عن الآخر.
الإعراب:
(بِسْمِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف والباء هنا للاستعانة أو للالصاق، وتقدير المحذوف أبتديء فالجار والمجرور في محل نصب مفعول به مقدم أو ابتدائي فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف وكلاهما جيد و (اللَّهِ) مضاف اليه و (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) صفتان لله تعالى وجملة البسملة ابتدائية لا محلّ لها من الإعراب.
البلاغة:
في البسملة طائفة من فنون البلاغة:
آ- الأولى في متعلق بسم الله أن يكون فعلا مضارعا لأنه الأصل في العمل والتمسّك بالأصل أولى ولأنه يفيد التجدّد الاستمراري وإنما حذف لكثرة دوران المتعلق به على الألسنة وإذا كان المتعلق به اسما فإنه يفيد الديمومة والثبوت كأنما الابتداء باسم الله حتم دائم في كل ما نمارسه من عمل ونردده من قول.(1/9)
ب- الإيجاز بإضافة العام إلى الخاص ويسمى إيجاز قصر.
ح- إذا جعلنا الباء للاستعانة فيكون في الكلام استعارة مكنية تبعية لتشبيهها بارتباط يصل بين المستعين والمستعان به وإذا جعلنا الباء للالصاق فيكون في الكلام مجاز علاقته المحلية نحو مررت بزيد أي يمكان يقرب منه لا يزيد نفسه.
الفوائد:
في البسملة فوائد لا يجوز الجهل بها ومنها:
آ- اعلم أن البسملة آية من سورة الحمد وآية من أوائل كل سورة عند الشافعي وليست آية في كل ذلك عند مالك وعند أبي حنيفة وأحمد بن حنبل هي آية من أول الفاتحة وليست آية في غير ذلك، والاحتجاج لذلك مبسوط في كتب الفقه والتفسير فارجع إليها.
ب- لم يوصف بالرحمن في العربية بالألف واللام إلا الله تعالى، وقد نعتت العرب مسيلمة الكذاب به مضافا فقالوا: رحمان اليمامة.
قال شاعر منهم يمدح مسيلمة:
سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا ... وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
ح- تكتب بسم الله بغير ألف في البسملة خاصة استغناء عنها بباء الاستعانة بخلاف قوله تعالى: «اقرأ باسم ربك الذي خلق» .
د- تحذف الألف من الرحمن لدخول الألف واللام عليها.(1/10)
هـ- يقال لمن قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ: مبسمل وهو ضرب من النحت اللغوي وقد ورد ذلك في شعر لعمر بن أبي ربيعة:
لقد بسملت ليلى غداة لقيتها ... فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل
ومثل بسمل حوقل إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله وهيلل إذا قال: لا إله إلا الله وسبحل إذا قال: سبحان الله وحمدل إذا قال: الحمد لله وحيصل وحيعل إذا قال: حي على الصلاة وحي على الفلاح وجعفل إذا قال: جعلت فداك.
هذا والنحت عند العرب خاص بالنسبة أي أنهم يأخذون اسمين فينحتون منهما اسما واحدا فينسبون إليه كقولهم: حضرميّ وعبقسيّ وعبشيّ نسبة إلى حضرموت وعبد القيس وعبد شمس على أن الفراء ذكر عن بعض العرب: معي عشرة فأحد هنّ لي أي صيرهنّ أحد عشر، وقال الفراء: معنى اللهمّ: يا الله أمّنا بخير أي اقصدنا بخير فكثرت في كلام العرب ونحت العرب من اسمين فقيل عن الصّلدم إنه من الصّلد والصّدم ومنه بلحارث لبني الحارث ولعل الحقّلد وهو السّيء الخلق والثقيل الروح منحوت من الحقد والثقل ونحتوا من فعل وحرف فقالوا: الأزليّ وهو منحوت من لم يزل، ونحتوا من اسم وحرف فقالوا: من من لا شيء تلاشى ونحتوا من حرفين فقال الخليل: إن كلمة (لن) منحوتة من لا وأن وانها تضمّنت بعد تركيبها معنى لم يكن في أصليها مجتمعين وانما أوردنا هذه الأقوال، لا لأنها قاطعة فهي موضع خلاف كما رأيت، ولكننا استأنسنا بها لتتوافر هم المشتغلين باللّغة على النحت ففيه ثروة جديدة للغتنا وتسهيل لكثير من التعابير الحديثة التي نفتقر إليها، فالنحت من أبرز الظواهو في اللغات الأجنبية الحديثة بفضل ما(1/11)
يلحق بالأصل من لواحق سابقة أو لاحقة، أو بفضل ما يعطونه للغتهم من مرونة حين يؤلفون كلمة جديدة من اسمين أو صفتين أو فعلين حى إذا تألفت الكلمة، وأعطت مدلولا خاصا سارت على الأفواه كل مسير، ومن أمثلة ذلك في اللغة الفرنسية قولهم المؤلف من فعل واسم- للمنديل المعد لتنشيف الأيدي وقولهم المؤلف من فعلين:- للإذن المكتوب للمرور وقولهم المؤلف من اسمين: لنوع من طير صغير وغيرها.
وكانت قريش قبل البعثة تكتب في أول كتبها: «باسمك اللهمّ» وكان أميّة بن أبي الصّلت أول من كتب باسمك اللهم إلى أن جاء الإسلام ونزلت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وروى محمد بن سعد في طبقاته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب كما تكتب قريش:
باسمك اللهم حتى نزل قوله تعالى: «وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها» فكتب: باسم الله حتى نزل قوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ» فكتب باسم الله الرحمن حتى نزل قوله تعالى:
«إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» فكتب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.(1/12)
اللغة:
(الْحَمْدُ) : الثناء بالجميل والنداء عليه باللسان، والشكر هو الثناء على النعمة خاصة فبينهما عموم وخصوص (رَبِّ) الرب: هو السيّد والمالك والثّابت والمعبود والمصلح وزاد بعضهم الصّاحب مستدلا بقوله:
فدنا له رب الكلاب بكفّه ... بيض رهاف ريشهنّ مقزّع
والمربي: الذي يسوس من يربيه ويدبره فهو اسم فاعل حذفت ألفه كما قيل: بارّ وبرّ وقيل: مصدر وصف به ويقيّد بالاضافة نحو رب الدّار من ربّه يربّه وقيل: هو صفة مشبّهة مصوغة من فعل متعدّ فلا بد من تقديره لازما بالنقل الى فعل بالضم (الْعالَمِينَ) جمع عالم بفتح اللام وجمع جمع المذكر السالم العاقل تغليبا والمراد به جميع الكائنات ولذلك أدرجه النّحاة فيما ألحق بجمع المذكر والنّكتة فيه هي أن هذا اللفظ لا يطلق عند العرب على كل كائن وموجود كالحجر والتراب وإنما يطلقونه على كل جملة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العاقل الذي جمعت جمعه وان لم تكن منه فيقال: عالم الإنسان، وعالم الحيوان وعالم النبات والعالم لا واحد له من لفظه ولا من غير لفظه لأنه جمع لأشياء مختلفة (الدِّينِ) : الجزاء ويوم الدّين: يوم الجزاء ومنه قول العرب: «كما تدين تدان» وقول الشاعر:
ولم يبق سوى العدوا ... ن دناهم كما دانوا
والدّين ايضا: الطاعة كقوله تعالى «في دين الملك» ، والدّين أيضا: الملّة قال المثقّب العبديّ:
تقول إذا درأت لها وضيني ... أهذا دينه أبدا وديني(1/13)
(الصِّراطَ) : الطّريق الواضح والمنهاج، قال جرير:
أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوجّ الموارد مستقيم
وفي الصراط أربع لغات: السّراط بالسّين من سرط الشيء إذا بلعه وسمي الطريق سراطا لجريان الناس فيه كما يجري الشيء المبتلع والصراط وبالزاي خالصة وبإشمام الصاد الزاي وكل هذه اللغات قد قرىء به ويذكّر ويؤنّث وتذكيره أكثر.
الإعراب:
(الْحَمْدُ) مبتدأ (لِلَّهِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (رَبِّ) : صفة لله أو بدل منه (الْعالَمِينَ) مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء نيابه عن الكسرة لأنه ملحق بجمع المذكّر السالم (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) صفتان لله تعالى ايضا (مالِكِ) صفة رابعة لله وقرىء ملك وبينهما فرق دقيق وهو أن المالك هو ذو الملك بكسر الميم والملك ذو الملك بضمّها قال أهل النحو: إن ملكا أمدح من مالك وذلك ان المالك قد يكون غير ملك ولا يكون الملك إلا مالكا وجمع الملك أملاك وملوك وجمع المالك ملاك ومالكون (يَوْمِ الدِّينِ) مضاف إليه (إِيَّاكَ) ضمير منفصل في محل نصب مفعول به مقدّم للاختصاص (نَعْبُدُ) فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره نحن (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) عطف على إياك نعبد ونستعين فعل مضارع مرفوع وهو معتلّ أجوف والأصل فيه نستعون فاستثقلت الكسرة على الواو فنقلت الى العين فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها فصار نستعين (اهْدِنَا) فعل أمر مبني على حذف العلّة وهو هنا بمعنى الدّعاء ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت (الصِّراطَ) مفعول به ثان(1/14)
أو منصوب بنزع الخافض لأنّ هدى لا تتعدى إلا الى مفعول واحد وتتعدى الى الثاني باللام كقوله تعالى: «يهدي للتي هي أقوم» أو بإلى كقوله تعالى «وإنك لتهدى الى صراط مستقيم» ولكن غلب عليها الاتّساع فعداها بعضهم إلى اثنين وقد نظم بعض الظرفاء أبياتا ضمّنها الأفعال التي تتعدى الى واحد والى الثاني بحرف جر وهي:
تعدى من الافعال طورا بنفسه ... وحينا بحرف الجر للثان ما ترى
دعا في الندا سمّى كذا كنى ... وزوجه واستغفر اختار غيرا
أمرت صدقت الوعد كلت وزنته ... عفا وهدى منّى كذا سأل اذكرا
ومجموعها ستة عشر فعلا (الْمُسْتَقِيمَ) صفة للصراط وهو معتلّ وعين الفعل فيه واو والأصل مستقوم فاستثقلت الكسرة على الواو فنقلت الى القاف فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها (صِراطَ) بدل مطابق من الصراط (الَّذِينَ) اسم موصول مضاف اليه في محل جر (أَنْعَمْتَ) فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرك والتاء ضمير متصل في محل رفع فاعل وجملة أنعمت لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (عَلَيْهِمْ) جار ومجرور متعلقان بأنعمت (غَيْرِ) بدل من الضّمير في عليهم أو من الذين أو نعت للذين وسيأتي بحث مسهب عن غير في باب الفوائد (الْمَغْضُوبِ) مضاف اليه (عَلَيْهِمْ) جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل للمغضوب لأنه اسم مفعول (وَلَا) الواو حرف عطف ولا زائدة لتأكيد معنى النفي وهو ما في غير من معنى النفي وهذه الزيادة مطّردة (الضَّالِّينَ) معطوفة على المغضوب عليهم مجرور وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم.(1/15)
البلاغة:
اشتملت هذه السورة، على قصرها، على أفانين متعددة من البلاغة ندرجها فيما يلي:
1- جملة الحمد لله خبر لكنها استعملت لإنشاء الحمد وفائدة الجملة الاسمية ديمومة الحمد واستمراره وثباته.
2- في قوله إياك نعبد وإياك نستعين فنّ التّقديم فقد قدّم الضمير لحصر العبادة والاستعانة بالله وحده، وقدمت العبادة على الاستعانة لأن الاستعانة ثمرتها وإعادة إياك مع الفعل الثاني تفيد أن كلّا من العبادة والاستعانة مقصود بالذات فلا يستلزم كل منهما الآخر ولأن الكاف التي مع إيّا هي الكاف التي كانت تتصل بالفعل أعني بقوله نعبد لو كانت مؤخرة بعد الفعل وهي كناية عن اسم المخاطب المنصوب بالفعل فكثّرت بإيّا متقدمة وكان الأفصح إعادتها مع كل فعل.
3- وفي قوله لله فن الاختصاص للدلالة على أن جميع المحامد مختصة به وكذلك بالاضافة في قوله مالك يوم الدين لزوال المالكين والأملاك عن سواه في ذلك اليوم.
4- وفي هذه السورة فن الالتفات من لفظ الغيبة الى لفظ الخطاب ومن لفظ الخطاب الى لفظ الغيبة والغرض من هذا الفن التّطرية لنشاط الذهن جريا على أساليبهم، ولأنه لما أثنى على الله بما هو أهل له وأجرى عليه تلك الصفات العظيمة ساغ له أن يطلب الاستعانة منه بعد أن مهد لذلك بما يبرر المطالبة وهو، تعالى، خليق بالاستجابة، وللاشعار بأن اولى ما يلجأ اليه العباد لطلب ما يحتاجون اليه هو عبادته تعالى والاعتراف له بصفات الألوهية، البالغة، وقال «صراط(1/16)
الذين أنعمت عليهم» فأصرح الخطاب لما ذكر النّعمة ثم قال: غير المغضوب عليهم فزوى لفظ الغضب عنه تحنّنا ولطفا وهذا غاية ما يصل اليه البيان، وهذه مراتب الالتفات في هذه السورة:
آ- عدل عن الغيبة الى الخطاب بقوله: إياك نعبد وإياك نستعين بعد قوله: الحمد لله رب العالمين لأن الحمد دون العبادة في المرتبة ألا تراك تحسد نظيرك ولا تعبده فلما كانت الحال بهذه المثابة استعمل لفظ الحمد لتوسطه مع الغيبة في الخبر ولم يقل الحمد لك.
ب- ولما صار الى العبادة وهي قصارى الطاعات قال: «إياك نعبد وإياك نستعين» فخاطب بالعبادة إصراحا بها، وتقرّبا منه عزّ وجلّ بالانتهاء الى عدد محدود منها.
ح- وعلى نحو من ذلك جاء آخر السّورة فقال: «صراط الذين أنعمت عليهم» فأصرح الخطاب لما ذكر النعمة ثم قال: «غير المغضوب عليهم عطفا على الأول، لأن الأول موضع التقرّب من الله بذكر نعمه وآلائه فلما صار إلى ذكر الغضب جاء باللفظ منحرفا عن ذكر الغاضب فأسند إليه النعمة لفظا وزوى عنه لفظ الغضب تحنّنا ولطفا.
د- وأتى بنون الجمع في قوله: «نعبد» و «نستعين» والمتكلم واحد لأنه ورد في الشّريعة أنه من باع أجناسا مختلفة صفقة واحدة ثم ظهر للمشتري في بعضها عيب فهو مخيّر بين ردّ الجميع أو إمساكه وليس له تبعيض الصّفقة، بردّ المعيب وإبقاء السّليم، وهنا لما رأى العابد أن عبادته ناقصة معيبة لم يعرضها على الله مفردة بل جنح الى ضمّ عبادة جميع العابدين إليها وعرض الجميع صفقة كاملة راجيا قبول عبادته في ضمنها لأنّ الجميع لا يردّ البتّة، إذ بعضه مقبول(1/17)
وردّ المعيب، وابقاء السليم تبعيض للصفقة وقد نهى سبحانه عباده عنه، وهو لا يليق بكرمه العظيم، وفضله العميم فبقي قبول الجميع.
5- وعلى ذكر استهلال القرآن بالفاتحة نذكر هذا الفنّ في الفاتحة، وهو براعة الاستهلال، وهو من أرقّ فنون البلاغة وأرشقها، وحدّه أن يبتدىء المتكلم كلامه بما يشير الى الغرض المقصود من غير تصريح بل بإشارة لطيفة، وإيماءة بعيدة أو قريبة، والاستهلال في الأصل: هو رفع الصوت، وسمي الهلال هلالا لأن الناس يرفعون أصواتهم عند رؤيته ومن أمثلته في الشعر قول أبي تمام في مطلع قصيدته:
«فتح عمورية» :
السّيف أصدق أنباء من الكتب ... في حدّه الحدّ بين الجدّ والّلعب
فقد استهلّ قصيدته بذكر السيف وفيه إيماءة قريبة جدا الى الموضوع الذي نظمت القصيدة بصدده وقد اشتهر ابو الطيب ببراعة مطالعه ومن روائعها قوله:
أتراها لكثرة العشّاق ... تحسب الدّمع خلقة في المآقي
فقد ألمع الى موضوع قصيدته وهو الغزل برشاقة زادها ابتكار المعنى في حسبان الدمع خلقة في المآقي حسنا وجمالا.
6- الاستعارة التّصريحيّة في قوله: «اهدنا الصراط المستقيم» فقد شبه الدين الحق بالصراط المستقيم الذي ليس به أدقّ انحراف قد يخرجه عن حدود الاستقامة لأن الخط المستقيم هو أقصر بعد بين نقطتين ووجه الشبه بينهما أن الله سبحانه وإن كان متعاليا عن(1/18)
الأمكنة لكن العبد الطالب الوصول لا بد له من قطع المسافات، ومس الآفات، ليكرم الوصول والموافاة.
7- التفسير بعد الإبهام وذلك في قوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» .
8- التسجيع في الرحيم والمستقيم وفي «نستعين» و «الضالين» والتسجيع هو اتفاق الكلمتين في الوزن والرّويّ.
الفوائد:
انطوت هذه السورة على فوائد لا تحصى وسنورد ما تهم معرفته منها:
1- الألف واللام في الحمد للجنس على الأصح لأن حقيقة المحامد ثابتة لله تعالى.
2- وسميت هذه السورة «الفاتحة» لأنها أول القرآن وبراعة استهلاله وتسمى أمّ الكتاب لانطوائها على المثل السامية وهي مكية على الأصح ومن أسمائها السبع المثاني والوافية، والكافية والشافية، والرّقية، والكنز والأساس وغيرها.
3- غير: لفظ غير مذكر مفرد أبدا إلا أنه إذا أريد به مؤنّث جاز تأنيث فعله المسند اليه تقول قامت غير هند وأنت تعني امرأة وهي في الأصل صفة بمعنى اسم الفاعل وهو مغاير ولذلك لا تتعرف بالاضافة، وقد يستثنى بها حملا على إلّا كما يوصف بإلا حملا عليها وهي من الألفاظ الملازمة للاضافة لفظا أو تقديرا فادخال الألف واللام عليها خطأ.(1/19)
4- آخر الفاتحة «ولا الضّالّين» وأما لفظ آمين فليس منها ولا من القرآن مطلقا وهو اسم بمعنى استجب ويسنّ ختم الفاتحة به وفيه لغتان: المدّ والتقصير قال ابو نواس في المد:
صلى الإله على لوط وشيعته ... أبا عبيدة قل بالله: آمينا
وقال آخر في القصر:
تباعد مني فطحل إذ دعوته ... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
5- قد يقال: إن المؤمنين مهتدون فما معنى طلبها؟ والجواب ان المطلوب هو الثبات على الهدى أو زيادته وليس في كون بعض الناس لم يهتدوا ما يخرجه عن أن يكون هدى فالشمس شمس وإن لم يرها الضّرير، والعسل عسل، وان لم يجد طعمه المرور، فالخيبة كل الخيبة لمن عطش والماء زاخر، ولمن بقي في الظلمة والبدر زاهر، وخبث والطّيب حاضر.
6- الأرجح أن الفاتحة هي أول سورة كاملة نزلت وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجعلها أول القرآن وانعقد على ذلك الإجماع ونزول أول سورة العلق وهو «اقرأ باسم ربك الذي خلق» يعتبر بمثابة تمهيد للوحي المجمل والمفصّل فلا ينافي كونها أول سورة من القرآن وذكر السيوطي في الإتقان: أن أول ما نزل من آي القرآن اقرأ باسم ربك، ويا أيها المدثر وسورة الفاتحة.(1/20)
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
(2) سورة البقرة مدنيّة وهي مائتان وست وثمانون آية
[سورة البقرة (2) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
اللغة:
(الم) : الحروف التي ابتدئ بها كثير من السور هي على الأرجح اسماء للسور المبتدأة بها أما ماهيتها والحكمة منها فقد اختلفت في ذلك الآراء، وتشعبت المقاصد، حتى ليتعذّر إن لم نقل يستحيل على الباحث أن يستوفيها ويمكننا أن نصنف هذه الآراء إلى صنفين:
1- انها من المتشابه به الذي نفوض الأمر فيه إلى الله ويسعنا في ذلك ما وسع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم، قال هؤلاء: ليس من الدين في شيء أن يتنطّع متنطّع فيخترع ما يشاء من العلل، التي قلّما يسلم مخترعها من الزّلل.
2- انها كغيرها من الكلام الوارد في القرآن فيجب أن نتكلم بها ونسبر اغوارها ونكتنه المعاني المندرجة في مطاويها عملا بقوله(1/21)
تعالى: «أفلا يتدبرون القرآن» ؟ وعلى هذا الرأي نرجح أن معناها التحدي والارهاص بأن هذا القرآن مؤلف من نفس الحروف التي ينظم بها العرب أشعارهم، ويؤلفون خطبهم وأسجاعهم وهم مع ذلك عاجزون عن الإتيان بمثله أو محاكاته وهذا تفسير يتمشى مع إعجاز القرآن الذي تميز به، وتقول دائرة المعارف الاسلامية في بحثها عن القرآن ما خلاصته: إن العلماء تعبوا كثيرا في فهم المقصود من هذه الحروف وقد وردت هذه الحروف في تسع وعشرين سورة كلها من العهد المكّيّ إلا ابتداء سورتي البقرة وآل عمران فقد وردا في العهد المدني وجملة الحروف التي تكررت في هذه الابتداءات أربعة عشر حرفا.
وقد اعجبنا بحث كتبه الدكتور زكي مبارك في كتابه «النثر الفني» فأحببنا أن نقتبس منه ما يروق قال صاحب النثر الفني ما خلاصته: كنت أتحدث عن فواتح السور مع المسيو بلا نشو فعرض علي تأويلا جديرا بالاعتبار، جديرا بالدرس والتحقيق وفحواه:
ان الحروف: الم. الر. حم. طسم هي الحروف:..
التي توجد في بعض المواطن من:- فهي ليست إلا إشارات وبيانات موسيقية يشار الى الحانها بحرف أو حرفين أو ثلاثة فهي رموز صوتية فليس من المستبعد أن تكون فواتح السور إشارات صوتية لتوجيه الترتيل، ولعل ما أورده الدكتور زكي مبارك يتصل اتصالا قريبا أو بعيدا بما أوردناه من معنى التحدي وقرع العصا للمكابرين الذين سبروا أغوار القرآن وأدركوا بفطرتهم البلاغية ما يتميز به من بيان، وللسيوطي في كتابه الممتع «الإتقان» رأي يؤيد ما ذهبنا إليه إذ قال: انه أريد مفاجأة العرب، وهم أهل الفصاحة والبلاغة، برموز وإشارات لا عهد لهم بها ليزداد التفاتهم،(1/22)
وتتنبه أذهانهم ونفوسهم (رَيْبَ) : الريب: الشّكّ وقلق النّفس واضطرابها وفي الحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» هذا وللريب في اللغة ثلاثة معان أحدها: الشك وهو المراد هنا، وثانيها التهمة قال جميل:
بثينة قالت: يا جميل اربتني ... فقلت: كلانا يا بثين ريب
وثالثها الحاجة قال:
قضينا من تهامة كل ريب ... وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
(يُنْفِقُونَ) نفق الشيء ونقد بمعنى واحد وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء دالّ على معنى النّفاد والخروج والذهاب يقال: نفث الشيء من فيه: رمى به ونفث في العقد ومن أقوالهم: «لا بد للمصدور أن ينفث» و «هذه نفثة مصدور» ونفق الحمار: مات والتقصّي في هذا الباب، يضيق عنه صدر هذا الكتاب وهو من عجائب ما تميّزت به لغتنا الشريفة وسيأتيك الكثير من أمثاله في هذا الكتاب العجيب (الْمُفْلِحُونَ) الفائزون ببغيتهم الذين انفتحت أمامهم وجوه الظفر وكل ما جاء ممّا فاؤه فاء وعينه لام دال على معنى الانفتاح والشّقّ نحو فلق وفلح.
الإعراب:
(الم) كلمة أريد لفظها دون معناها في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أي هذه ألم (ذلِكَ) اسم اشارة في محل رفع مبتدأ واللام للبعد والكاف للخطاب (الْكِتابُ) خبر ذلك وهو اولى من جعله بدلا من اسم الاشارة لأنه قصد به الإخبار بأنه الكتاب المقدس المستحق لهذا(1/23)
الاسم تدعيما للتّحدّي، والجملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب على أنه يجوز جعله بدلا من اسم الاشارة فتكون جملة لا ريب فيه خبرا لاسم الاشارة (لا رَيْبَ فِيهِ) لا نافية للجنس وريب اسمها المبني على الفتح في محل نصب اسم لا والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبرها والجملة خبر لذلك أو حال من الكتاب (هُدىً) خبر ثالث لذلك (لِلْمُتَّقِينَ) جار ومجرور متعلقان بهدى لأنه مصدر ولك أن تجعله صفة لهدى (الَّذِينَ) اسم موصول في محل جر صفة للمتقين (يُؤْمِنُونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الافعال الخمسة والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (بِالْغَيْبِ) جار ومجرور متعلقان بيؤمنون (وَيُقِيمُونَ) الجملة عطف على جملة يؤمنون داخلة في حيّز الصّلة (الصَّلاةَ) مفعول به (وَمِمَّا) الواو حرف عطف ومما جار ومجرور متعلقان بينفقون (رَزَقْناهُمْ) فعل ماض وفاعل ومفعول به وجملة رزقناهم لا محل لها من الإعراب لأنها صلة ما والعائد محذوف أي رزقناهم إياه (يُنْفِقُونَ) فعل مضارع مرفوع معطوف على يقيمون داخل في حيز الصلة أيضا (وَالَّذِينَ) الواو حرف عطف واسم الموصول معطوف على الموصول الأول مندرج معه في سلك المتقين (يُؤْمِنُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (بِما) الجار والمجرور متعلقان بيؤمنون (أُنْزِلَ) فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه تقديره هو يعود على ما اي القرآن والجملة لا محل لها من الإعراب لانها صلة الموصول (إِلَيْكَ) الجار والمجرور متعلقان بأنزل (وَما) الواو حرف عطف وما عطف على بما أنزل إليك وجملة (أُنْزِلَ) لا محل لها لانها صلة الموصول (مِنْ قَبْلِكَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال وهو اولى من تعليقها بأنزل (وَبِالْآخِرَةِ) الواو حرف عطف والجار والمجرور متعلقان بيوقنون (هُمْ) ضمير منفصل(1/24)
في محل رفع مبتدأ (يُوقِنُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعله والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية وهي «ومما رزقناهم ينفقون» وسيأتي سر المخالفة بين الجملتين في باب البلاغة (أُولئِكَ) اسم اشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ والكاف للخطاب (عَلى هُدىً) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لأولئك (مِنْ رَبِّهِمْ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لهدى والجملة استئنافية لا محل لها (وَأُولئِكَ هُمُ) أولئك مبتدأ، وهم ضمير فصل أو عماد لا محل له (الْمُفْلِحُونَ) خبر أولئك ولك أن تعرب هم مبتدأ والمفلحون خبره والجملة الاسمية خبر أولئك.
البلاغة:
في هذه الآيات فنون عديدة نوردها فيما يلي:
1- التعريف: في تعريف الكتاب بالألف واللّام تفخيما لأمره وهو في الأصل مصدر قال تعالى: «كتاب الله عليكم» .
2- التقديم: فقد قدم الريب على الجار والمجرور لأنه اولى بالذكر استعدادا لصورته حتى تتجسّد أمام السّامع.
3- وضع المصدر هدى موضع الوصف المشتق الذي هو هاد وذلك أوغل في التعبير عن ديمومته واستمراره.
4- المجاز المرسل: في قوله «هدى للمتقين» وعلاقته اعتبار ما يئول اليه أي الصّائرين الى التقوى.
5- الإيجاز: في ذكر المتقين لأن الوقاية اسم جامع لكل ما تجب الوقاية منه.(1/25)
6- الاستعارة التّصريحية التّبعيّة في قوله: «على هدى» تشبيها لحال المتقين بحال من اعتلى صهوة جواده فحذف المشبه واستعيرت كلمة على الدالة على الاستعلاء لبيان أنّ شيئا تفوق واستعلى على ما بعدها حقيقة نحو: زيد على السطح أو حكما نحو: عليه دين فالدين للزومه وتحمله كأنه ركب عليه وتحمله، والدقة فيه أن الاستعارة بالحرف، ويقال في إجرائها: شبه مطلق ارتباط بين هدى ومهدي بمطلق ارتباط بين مستعل ومستعلى عليه بجامع التمكن في كل منها فسرى التشبيه من الكليات الى الجزئيات ثم استعيرت على وهي من جزئيات المشبه به لجزئي من جزئيات المشبه على طريق الاستعارة التصريحية التبعية ومثل الآية الكريمة قوله:
لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوما على الآباء نتكل
فتأمل هذا البحث فانه من الدقة والحسن بمكان، وسيرد في القرآن الكريم نماذج منه كالسحر الحلال.
7- التكرار في قوله: «يؤمنون بالغيب» و «يؤمنون بما انزل إليك» وفي تكرار اسم الموصول وإن كان الموصوف واحدا، وقد يكون الموصوف مختلفا فهو تكرار للفظ دون المعنى. وفائدته الترسيخ في الذهن، والتأثير في العاطفة ويكثر في الشعر.
8- الحذف في قوله «الم» أي هذه الم و «هدى» أي هو هدى فحذف المبتدأ وفي قوله «ينفقون» أي المال فحذف المفعول به وقد استهوى الإنفاق في سبيل المحامد والمآثر نفوس شعراء العرب وما أجمل قول دعبل:
قالت سلامة: اين المال؟ قلت لها: ... المال ويحك لاقى الحمد فاصطحبا(1/26)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
9- حسن التقسيم وهو فن من فنون البلاغة فحواه استيعاب المتكلم جميع اقسام المعنى الذي هو آخذ فيه بحيث لا يغادر منه شيئا فقد استوعبت هذه الآيات جميع الأوصاف المحمودة، والعبادات التي يعكف عليها المؤمنون لأن العبادات كلها تنحصر في نوعين:
بدنية ومالية، ولا بد من استيفائهما لتكون العبادات كلها مقبولة وما أجمل الحديث الشريف القائل: «يقول العبد مالي مالي وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس» وقوله: مالي مالي مفعول به لفعل محذوف أي أحبّ مالي والثاني تأكيد للأول.
[سورة البقرة (2) : الآيات 6 الى 7]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)
اللغة
: (سَواءٌ) اسم بمعنى الاستواء أجري مجرى المصادر فلذلك لا يثنّى ولا يجمع قالوا: هما وهم سواء فإذا أرادوا لفظ المثنّى قالوا:
سيّان وإن شئت قلت سواءان وفي الجمع هم أسواء وأيضا على غير القياس: هم سواس وسواسية أي متساويان ومتساوون والسّواء:
العدل الوسط بين حدّين يقال: ضرب سواءه أي وسطه وجئته في سواء النهار أي في منتصفه، وإذا كانت سواء بعد همزة التّسوية فلا بدّ من أم اسمين كانت الكلمتان، أم فعلين وإذا كان بعدها فعلان بغير همزة التّسوية عطف الثاني بأو، نحو: سواء عليّ قمت أو قعدت وإذا كان بعدها مصدران عطف الثاني بالواو أو بأو، نحو سواء عليّ(1/27)
قيامك وقعودك. وقيامك أو قعودك (غِشاوَةٌ) فعالة من غشاه أو غشيه إذا غطّاه وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعسامة ويجوز في الغين الكسر والضّمّ والفتح.
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ) إنّ واسمها وجملة (كَفَرُوا) من الفعل والفاعل لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (سَواءٌ) خبر مقدم أو خبر إنّ (عَلَيْهِمْ) جار ومجرور متعلقان بسواء (أَأَنْذَرْتَهُمْ) همزة الاستفهام بمعنى التسوية وهي والفعل بعدها في تأويل مصدر مبتدأ مؤخّر أو فاعل نسواء الذي أجري مجرى المصادر والجملة خبر إنّ (أَمْ) عاطفة متصلة وسيأتي حكمها في باب الفوائد (لَمْ تُنْذِرْهُمْ) لم: حرف نفي وقلب وجزم وتنذرهم فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به والجملة معطوفة على جملة أأنذرتهم (لا) نافية (يُؤْمِنُونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل وجملة لا يؤمنون خبر بعد خبر ولك أن تجعلها تفسيرية لا محل لها من الإعراب (خَتَمَ) فعل ماض (اللَّهُ) فاعل (عَلى قُلُوبِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بختم (وَعَلى سَمْعِهِمْ) عطف على قوله على قلوبهم (وَعَلى أَبْصارِهِمْ) الواو استئنافية والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم (غِشاوَةٌ) مبتدأ مؤخر (وَلَهُمْ) الواو حرف عطف والجار والمجرور متعلقان بمحذوف (عَذابٌ) مبتدأ مؤخر (عَظِيمٌ) نعت لعذاب والجملة معطوفة على الجملة السابقة.
البلاغة:
1- في إسناد الختم الى القلوب استعارة تمثيلية فقد شبّهت(1/28)
قلوبهم في نبوّها عن الحقّ وعدم الإصغاء إليه بحال قلوب ختم الله عليها وهي قلوب البهائم وهو تشبيه معقول بمحسوس أو هو مجاز عقليّ وهو باب واسع عند العرب يقولون: سال بهم الوادي إذا هلكوا وطارت بفلان العنقاء إذا طالت غيبته.
2- وحدّ السمع لوحدة المسموع دون القلوب والابصار لتنوّع المدركات والمرئيات.
3- تنكير العذاب هنا فيه إشارة الى أنه نوع منه مجهول الكمّ والكيف ووصفه بعظيم لدفع الإيهام بقلّته وندرته، والتأكيد بأنه بالغ حد العظمة.
الفوائد:
1- همزة التسوية هي الواقعة بين سواء وبعد ما أبالي وما أدري وليت شعري وضابطها: أنها الهمزة التي تدخل على جملة يصح حلول المصدر محلها كما تقدم.
2- أم: لها حالان:
آ- متصلة وهي منحصرة في نوعين وذلك لأنها إما أن تتقدّم عليها همزة التسوية كما في الآية أو همزة يطلب بها التّعيين نحو:
أزيد في الدّار أم عمرو؟ وسميت متصلة لأن ما قبلها وما بعدها لا يستغنى بأحدهما عن الآخر وتسمى أيضا معادلة لمعادلتها الهمزة في النوع الأول إذ كلتاهما تفيد التسوية.
ب- منقطعة وهي المسبوقة بالخبر المحض نحو قوله تعالى:(1/29)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
«تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه» وسميت منقطعة لانقطاع ما بعدها عما قبلها فكل منهما كلام مستقل لا ارتباط له بالآخر.
[سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 10]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)
اللغة:
(النَّاسِ) اسم جمع لا واحد له من لفظه ومادّته عند سيبويه والفراء همزة ونون وسين، وحذفت همزته شذوذا وأصله أناس وقد نطق القرآن بهذا الأصل قال تعالى: «يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم» ، وذهب الكسائيّ الى أن مادته نون وواو وسين مشتقّ من النّوس وهو الحركة يقال: ناس ينوس نوسا والنّوس تذبذب الشيء في الهواء ومنه نوس القرط في الأذن وسمّي أبو نواس بذلك لأن ذؤابتين كاتنا تنوسان عند أذنيه واسمه الحقيقي الحسن بن هانيء، وإنما أطلنا في هذا البحث لأن بعض المعاجم الحديثة خلط في أصله فأورده في مادة أنس وبعضها أورده في مادة نوس وأضاعوا بذلك الطالب والمراجع في متاهات لا منافذ منها.
(يُخادِعُونَ) الخداع في الأصل: الإخفاء ومنه الأخدعان وهما عرقان مستبطنان في العنق ومنه أيضا المخدع وهو داخل البيت ثم أطلق على اظهار غير ما في النفس.(1/30)
(يَشْعُرُونَ) الشعور: ادراك الشيء من وجه يدقّ ويخفى وهو مشتق من الشعر لدقته، وقيل هو الإدراك بالحاسة فهو مشتقّ من الشعّار وهو ثوب يلي الجسد ومشاعر الإنسان: حواسّه وشعر بالأمر من بابيّ نصر وكرم: علم به وفطن له، ومنه يسمى الشاعر شاعرا لفطنته ودقة معرفته. والتحقيق أنّ الشعور إدراك ما دقّ من حسّيّ وعقليّ.
(مَرَضٌ) : المرض: مصدر مرض ويطلق في اللغة على الضّعف والفتور وقالوا: المرض في القلب: الفتور عن الحق، وفي البدن فتور الأعضاء، وفي العين فتور النظر وهو جميل يتغنّى به الشعراء قال:
مرضي من مريضة الأجفان ... علّلاني بذكرها علّلاني
ويطلق المرض فيراد به الظّلمة قال:
في ليلة مرضت من كلّ ناحية ... فما يحس بها نجم ولا قمر
الإعراب:
(وَمِنَ النَّاسِ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لذكر المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم فقد افتتح سبحانه، بذكر المتقين ثم ثنّى بالكافرين ظاهرا وباطنا، وثلّث بالمنافقين، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (مِنَ) اسم موصول في محل رفع مبتدأ مؤخّر ويجوز أن تكون من نكرة موصوفة في محل رفع مبتدأ مؤخر كأنه قيل: ومن الناس ناس وسيأتي بحثها (يَقُولُ) فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر فيه تقديره هو والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب صلة لمن إذا كانت موصولة وصفة لها إذا كانت(1/31)
نكرة موصوفة (آمَنَّا) فعل وفاعل والجملة الفعلية في محل نصب مقول للقول (بِاللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بآمنا (وَبِالْيَوْمِ) عطف على بالله (الْآخِرِ) نعت لليوم (وَما) الواو حاليّة وما نافية حجازية تعمل عمل ليس (هُمْ) ضمير منفصل في محل رفع اسم ما (بِمُؤْمِنِينَ) الباء حرف جر زائد للتوكيد لأنه ليس في القرآن حرف جر زائد ولكنه الاصطلاح النحوي جرى على ذلك فهو عند البلاغيين حرف لا يستغنى عنه والجملة الاسمية في محل نصب على الحال (يُخادِعُونَ) فعل مضارع وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعل والجملة الفعلية مستأنفة كأنه قيل: لم يتظاهرون بالايمان؟ فقيل: يخادعون ويحتمل أن تكون حالية من الضمير المستكنّ في يقول، أي مخادعين الله والذين آمنوا (اللَّهَ) مفعول به ليخادعون (وَالَّذِينَ) عطف على الله (آمَنُوا) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَما) الواو حالية وما نافية (يَخْدَعُونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامه رفعه ثبوت النون والواو فاعل (إِلَّا) أداة حصر (أَنْفُسَهُمْ) مفعول به والهاء ضمير متصل في محل جر بالاضافة (وَما) الواو عاطفة أو استئنافية وما نافية (يَشْعُرُونَ) فعل مضارع مرفوع والجملة عطف على جملة وما يخدعون أو مستأنفة (فِي قُلُوبِهِمْ) الجار والمجرور خبر مقدم (مَرَضٌ) مبتدأ مؤخر (فَزادَهُمُ) الفاء حرف عطف وزاد فعل ماض والهاء مفعول به والجملة عطف على ما تعلق به الخبر ويحتمل أن تكون الفاء استئنافية وجملة زادهم الله دعائية لا محل لها (اللَّهُ) فاعل زادهم (مَرَضاً) مفعول به ثان وزاد يستعمل لازما ومتعديا لاثنين ثانيهما غير الأول (وَلَهُمْ) الواو عاطفة أو استئنافية والجار والمجرور خبر مقدم (عَذابٌ) مبتدأ مؤخر (أَلِيمٌ) صفة لعذاب (بِما) الباء حرف جر للسببية وما اسم موصول في محل جر بالباء (كانُوا) كان واسمها (يَكْذِبُونَ) فعل مضارع وفاعل والجملة خبر كانوا وجملة كان واسمها(1/32)
وخبرها لا محل لها لأنها صلة الموصول ويجوز أن تكون مصدرية والمعنى على الأول بالذي يكذبونه وعلى الثاني بسبب كونهم يكذبون والجار والمجرور صفة ثانية لعذاب أو مصدر أي بسبب كونهم يكذبون.
البلاغة:
1- المشاكلة في قولهم يخادعون الله لأن المفاعلة تقتضي المشاركة في المعنى وقد أطلق عليه تعالى مقابلا لما ذكره من خداع المنافقين كمقابلة المكر بمكرهم ومن أمثلة هذا الفنّ في الشعر قول بعضهم:
قالوا: التمس شيئا فجد لك طبخه ... قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا
2- المجاز: في الخداع المنسوب اليه لتعاطيهم أفعال المخادع ظنا منهم أنهم يستطيعون ذلك لصدق نفيه ولذلك قال: وما يخدعون إلا أنفسهم.
3- الاستعارة التصريحية في قوله: في قلوبهم مرض حيث استعير المرض لما ران على قلوبهم من جهل وسوء عقيدة وما الى ذلك من ضروب الجهالات المؤدية الى المتالف.
الفوائد:
1- تأتي من نكرة موصوفة في موضع يختص بالنكرة كقول سويد بن أبي كاهل:
ربّ من أنضجت غيظا قلبه ... لو تمنّى لي موتا لم يطع(1/33)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
2- ما الحجازية هي العاملة عمل ليس وإنما سميت حجازية لأن التنزيل جاء بلغة أهل الحجاز وأحكامها مبسوطة في كتب النحو.
[سورة البقرة (2) : الآيات 11 الى 13]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13)
اللغة:
(الفساد) : خروج الشيء عن حال استقامته ونقيضه الصلاح، والفساد في الأرض: تهييج الحروب، وإثارة الفتن، والإخلال بمعايش الناس.
(السُّفَهاءُ) : جمع سفيه وهو المنسوب للسّفه والسّفه: خفّة رأي وسخافة يقتضيهما نقصان العقل، ويقابله الحلم يقال سفه بكسر الفاء وضمّها.
الإعراب:
(وَإِذا) الواو استئنافية والجملة بعدها مستأنفة لا محل لها ويجوز أن تكون الواو عاطفة والجملة بعدها معطوفة على جملة يكذبون فتكون في موضع نصب عطفا على خبر كان والمعطوف على الخبر خبر فهي بهذه المثابة جزء من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه (قِيلَ) فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه تقديره يعود على الله تعالى وفي هذا التعبير بحث هام سيأتي في باب الفوائد وجملة قيل في محل جرّ بإضافة(1/34)
الظرف إليها (لَهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بقيل (لا) الناهية الجازمة (تُفْسِدُوا) فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعل (فِي الْأَرْضِ) الجار والمجرور متعلقان بتفسدوا (قالُوا) فعل وفاعل والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم (إِنَّما) كافة ومكفوفة (نَحْنُ) مبتدأ (مُصْلِحُونَ) خبر نحن مرفوع وعلامة رفعه الواو لأنه جمع مذكر سالم والجملة في محل نصب مقول القول (أَلا) حرف تنبيه يستفتح بها الكلام (إِنَّهُمْ) إن حرف مشبه بالفعل والهاء اسمها (هُمُ) ضمير فصل أو عماد لا محل له من الإعراب ولك أن تعرب هم مبتدأ (الْمُفْسِدُونَ) خبره والجملة الاسمية في محل رفع خبر إن (وَلكِنْ) الواو عاطفة ولكن مخففة من الثقيلة لمجرد الاستدراك (لا) نافية (يَشْعُرُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة معطوفة على ما تقدم (وَإِذا قِيلَ) الواو استئنافية أو عاطفة وقد تقدم الكلام عنها وجملة فيل الفعلية في محل جر بإضافة الظرف إليها (لَهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بقيل وجملة قيل في محل جر بإضافة الظرف إليها (آمِنُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو والجملة لا محل لها لأنها مفسرة ونائب الفاعل مصدر وهو القول وقد أضمر لأن الجملة بعده تفسرة والتقدير: وإذا قيل لهم قول هو آمنوا لأن الأمر والنهي قول وقد منع النحاة أن تكون الجملة قائمة مقام الفاعل لأن الجملة لا تكون فاعلا فلا تقوم مقامه (كَما) الجار والمجرور نعت لمصدر محذوف والتقدير آمنوا إيمانا كإيمان الناس، واختار سيبويه أن يكون في محل نصب على الحال سواء أكانت الكاف حرفا أم اسما بمعنى مثل وصاحب الحال هو المصدر المفهوم من الفعل المتقدم وما مصدرية (آمَنَ النَّاسُ) فعل وفاعله (قالُوا) فعل وفاعل وإذا متعلقة بقالوا والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (أَنُؤْمِنُ) الهمزة للاستفهام الإنكاري(1/35)
ونؤمن فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره نحن (كَما) تقدم إعرابها قريبا (آمَنَ السُّفَهاءُ) فعل وفاعل (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) تقدم إعراب نظير هذه الجملة قريبا.
البلاغة:
1- في الآية خروج الاستفهام من معناه الأصلي وهو طلب العلم إلى أغراض أخرى تفهم من مضمون الكلام وتفصيله في علم المعاني ومردّ ذلك الى الذوق السليم وقد صدق فولتير حيث يقول: «ذوقك أستاذك» .
2- التغاير: وهو فنّ يكاد يكون من المرقص فقد وردت في الفاصلة الأولى «لا يشعرون» ووردت في الفاصلة الثانية «لا يعلمون» لسرّ عجيب لا يدركه إلا الملهمون وتفصيل ذلك: أن أمر الديانة، والوقوف على أن المؤمنين هم على الحقّ وأما المنافقون فهم على الباطل، هو أمر يحتاج الى بعد نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر العلم والمعرفة وأما النفاق وما فيه من البغي المؤدي الى اشتجار الفتنة، واستبحار الفساد في الأرض، فأمر دنيويّ مبنيّ على العادات، وهو معلوم عند الناس، بل هو بمثابة المحسوس عندهم فلذلك قال فيه:
لا يشعرون وأيضا فإنه لما ذكر السّفه في الآية الثانية وهو جهل مطبق كان ذكر العلم أكثر ملاءمة فقال: لا يعلمون وهذا من الدقائق فتنبّه له.
الفوائد:
1- نائب فاعل قيل: يقدره النحاة ضميرا لمصدره وجملة النهي مفسرة لذلك الظرف وقيل الظرف نائب الفاعل فالجملة في محل نصب(1/36)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
واختلفوا في وقوع الجملة فاعلا أو نائب فاعل والوجه أن الجملة التي يراد بها لفظها يحكم لها بحكم المفردات ولهذا تقع مبتدأ نحو لا حول ولا قوة كنز من كنوز الجنة وفي المثل: زعموا مطيّة الكذب ولهذا لم يحتج الخبر الى رابط.
2- (أَلا) قيل: هي حرف بسيط يفتتح به الكلام وينبّه على أن ما بعده متحقّق لا محالة، وقيل: هي حرف مركب من همزة الاستفهام وحرف النفي، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقا وأختها (أما) التي هي من مقدمات اليمين على حدّ قوله:
أما والذي بكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر
[سورة البقرة (2) : الآيات 14 الى 15]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
اللغة:
(الطّغيان) مصدر طغى طغيانا بضم الطاء وكسرها، ولام طغى قيل: ياء وقيل: واو ومعناها مجاوزة الحدّ.
(يَعْمَهُونَ) العمه: التردد والتحير وهو قريب من العمى إلا أنّ بينهما عموما وخصوصا لأن العمى يطلق على ذهاب نور العين وعلى الخطأ في الرأي والعمه لا يطلق إلا على الخطأ في الرأي.(1/37)
الإعراب:
(وَإِذا) عطف على ما تقدّم وقد تكرر إعراب إذا فيقاس على ما تقدّم (لَقُوا) أصله لقيوا وهو فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة استثقلت الضمة على الياء فحذفت ونقلت حركتها الى القاف والواو فاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (الَّذِينَ) اسم موصول مفعول به (آمَنُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (قالُوا) فعل وفاعل والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم (آمَنَّا) فعل وفاعل والجملة الفعلية مقول القول (وَإِذا) عطف على وإذا المتقدمة (خَلَوْا) فعل ماض مبني على الضم المقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والواو فاعل والجملة في محل جر باضافة الظرف إليها (إِلى شَياطِينِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بخلوا والى معناها انتهاء الغاية وسيأتي بحثها في باب الفوائد (قالُوا) فعل ماض والجملة لا محل لها من الإعراب (إِنَّا) إن حرف مشبه بالفعل ونا ضمير متصل في محل نصب اسمها (مَعَكُمْ) مع ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر إن والكاف مضاف اليه وجملة إنا معكم اسمية في محل نصب مقول القول (إِنَّما) كافة ومكفوفة (نَحْنُ) ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (مُسْتَهْزِؤُنَ) خبر نحن مرفوع وعلامة رفعه الواو لأنه جمع مذكر سالم والجملة الاسمية تأكيد لجملة إنا معكم فهي داخلة في حيّز مقول القول ولك أن تجعلها مستأنفة لا محل لها مبنية على سؤال نشأ من ادعاء المعيّة كأنه قيل لهم عند قولهم: إنا معكم فما بالكم تشايعون المؤمنين بكلمة الايمان؟ فقالوا: إنما نحن مستهزئون أو انها تعليلية للمعيّة (اللَّهُ) مبتدأ (يَسْتَهْزِئُ) فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا يعود على الله والجملة الفعلية(1/38)
خبر (بِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بيستهزىء (وَيَمُدُّهُمْ) الواو عاطفة ويمدهم فعل مضارع مرفوع عطفا على يستهزىء والفاعل مستتر تقديره هو والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به (فِي طُغْيانِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بيمدهم (يَعْمَهُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة الفعلية في محل نصب على الحال من الضمير في يمدهم.
البلاغة:
انطوت هاتان الآيتان على فنون عديدة من فنون البلاغة نوجزها فيما يلي:
1- المفارقة بين الجمل فقد خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية وهي جملة آمنا وخاطبوا شياطينهم بالجملة الاسمية وهي جملة إنا معكم وذلك لأن الجملة الاسمية أثبت من الجملة الفعلية فإيمانهم قصير المدى لا يعدو تحريك اللسان، أو مدة التقائهم بالمؤمنين وركونهم الى شياطينهم دائم الاستمرار والتجدد وهو أعلق بنفوسهم، وأكثر ارتباطا بما رسخ فيها.
2- المخالفة بين جملة مستهزئون وجملة يستهزىء لأن هزء الله بهم متجدد وقتا بعد وقت، وحالا بعد حال، يوقعهم في متاهات الحيرة والارتباك زيادة في التنكيل بهم.
3- المشاكلة: فقد ثبت أن الاستهزاء ضرب من العبث واللهو وهما لا يليقان بالله تعالى، وهو منزه عنهما ولكنه سمّى جزاء الاستهزاء استهزاء فهي مشاكلة لفظية لا أقل ولا أكثر.(1/39)
4- الفصل الواجب في قوله: «الله يستهزىء بهم» لأن في عطفها على شيء من الجمل السابقة مانعا قويا لأنها تدخل عندئذ في حيز مقول المنافقين والحال أن استهزاء الله بهم وخذلانه إياهم ثابتان مستمران سواء خلوا الى شياطينهم أم لا فالجملة مستأنفة على كل حال لأنها مظنّة سؤال ينشأ فيقال ما مصير أمرهم؟ ما عقبى حالهم؟ فيستأنف جوابا عن هذا السؤال.
الفوائد:
ذكر النحاة معاني لإلى الجارة أحدها الانتهاء وهو الأصل فيها وثانيها المعية كقوله تعالى: «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ» أي مع الله وثالثها التبيين وهي المبينة لفاعلية مجرورها بعد ما يفيد حبا أو بغضا من فعل تعجب أو اسم تفضيل نحو: «رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ» ورابعها مرادفة اللام نحو «وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ» وخامسها موافقة (في) كقول النابغة الذبياني:
فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطليّ به القار أجرب
وسادسها موافقة (عند) كقول أبي كبير الهذلي:
أم لا سبيل الى الشباب وذكره ... أشهى إليّ من الرحيق السّلسل
وسابعها التوكيد كقراءة بعضهم: «أفئدة من الناس تهوى إليهم» بفتح الواو في تهوى على تضمين تهوى معنى تميل.(1/40)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
[سورة البقرة (2) : الآيات 16 الى 17]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)
الإعراب:
(أُولئِكَ) اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ (الَّذِينَ) خبر أولئك (اشْتَرَوُا) فعل ماض مبني على الضم المقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والواو فاعل (الضَّلالَةَ) مفعول به (بِالْهُدى) الجار والمجرور متعلقان باشتروا والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (فَما) الفاء حرف للعطف مع التعقيب وما نافية (رَبِحَتْ) فعل ماض والتاء تاء التأنيث الساكنة (تِجارَتُهُمْ) فاعل ربحت (وَما) الواو عاطفة وما نافية (كانُوا) كان فعل ماض ناقص والواو اسمها (مُهْتَدِينَ) خبرها وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مذكر سالم (مَثَلُهُمْ) مبتدأ (كَمَثَلِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مثلهم أو الكاف اسم بمعنى مثل خبر ومثل مضاف اليه (الَّذِي) اسم موصول في محل جر بالاضافة (اسْتَوْقَدَ) فعل ماض مبني على الفتح بمعنى أوقد وهي استفعل بمعنى أفعل ومثله أجاب واستجاب، وأخلف واستخلف والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو وجملة استوقد لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول واستعمل الذي في موضع الذين ولذلك قال فيما بعد: «بنورهم» (ناراً)
مفعول به، وجملة مثلهم مستأنفة مسوقة لضرب المثل لحال المنافقين الذين اشتروا الضلالة بالهدى استحضارا للصورة ورفعا للأستار عن الحقائق (فَلَمَّا) الفاء حرف عطف ولما ظرف بمعنى حين متضمن معنى الشرط وقيل: هي حرف(1/41)
وجوب لوجوب وسماها ابن هشام رابطة (أَضاءَتْ) فعل ماض والتاء تاء التأنيث الساكنة والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي (ما) اسم موصول بمعنى المكان مفعول به (حَوْلَهُ) ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة ما وزعم بعض اللغويين أن أضاء فعل لازم فيتعيّن أن تكون ما زائدة أي أضاءت حوله (ذَهَبَ اللَّهُ) فعل وفاعل والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم (بِنُورِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بذهب (وَتَرَكَهُمْ) فعل ماض وفاعل مستتر فيه جوازا ومفعول به أول (فِي ظُلُماتٍ) الجار والمجرور في موضع المفعول الثاني لتركهم (لا) نافية (يُبْصِرُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة في موضع نصب على الحال المؤكدة لأن من كان في الظلمة لا يبصر.
البلاغة:
في هاتين الآيتين من فنون البلاغة ما تضيق عنه الصحف وسنحاول تلخيص هذه الفنون:
1- الاستعارة التصريحية الترشيحية والمعنى اختاروا واستبدلوا وقرينة الاستعارة الضلالة ثم رشح لهذه الاستعارة بقوله: فما ربحت تجارتهم فأسند الربح الى التجارة فالمستعار منه الذي هو الشراء رشّح لفظي الربح والتجارة للاستعارة لما بين الشراء والربح من الملاءمة، والترشيح هو أن يبرز المجاز في صورة الحقيقة ثم يحكم عليه ببعض أوصاف الحقيقة فينضاف مجاز الى مجاز ومن ذلك قول حميدة بنت النعمان بن بشير:(1/42)
؟؟ بكى الخزّ من روح وأنكر جلده ... وعجّت عجيجا من جذام المطارف
؟؟ فد أقامت الخز مقام شخص حين باشر روحا بكى من عدم ملاءمته بقولها: وأنكر جلده ثم زادت في ترشيح المجاز بقولها:
وعجّت أي صاحت مطارف الخز من قبيلة روح هذا وهي قبيلة جذام ومعنى البيت ان روحا وقبيلته جذام لا يصلح لهم لباس الخز ومطارفه لأنهم لا عادة لهم بذلك فكنى عنهم بما كنى في البيت.
2- الفرق بين اشتروا واستبدلوا من وجهين:
ا- ان الاستبدال لا يكون شراء إلا إذا كان فيه فائدة يقصدها المستبدل منه سواء كانت حقيقية أم وهمية.
ب- ان الشراء يكون بين متبايعين بخلاف الاستبدال فاذا أخذت ثوبا من ثيابك بدل آخر يقال: انك استبدلت ثوبا بثوب فالمعنى الذي تؤدي إليه الآية أن أولئك القوم اختاروا الضلالة على الهدى لفائدة لهم بإزائها يعتقدون الحصول عليها من الناس فهو معاوضة بين طرفين يقصد بها الربح وهذا هو معنى الاشتراء ومثلهما البيع والابتياع ولا يؤديه مطلق الاستبدال، إذا عرفت هذا أدركت السرّ في اختيار اشتروا على استبدلوا، وتبينت أن القرآن وهو أعلى درج البلاغة لا يختار لفظا على لفظ من شأنه أن يقوم مقامه إلا لحكمة في ذلك، وخصوصية لا توجد في غيره.
3- التتميم في قوله: «وما كانوا مهتدين» وحدّه أن يأتي(1/43)
في الكلام كلمة أو كلام إذا طرح منه نقص معناه في ذاته أو في صفاته أو لزيادة حسنة فقوله: «وما كانوا مهتدين» تتميم لما تقدّم أفاد بأنهم ضالون في جميع ما يتعاطونه من عمل.
4- التشبيه التمثيلي: في قوله: «مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم» وحقيقة التشبيه التمثيلي أن يكون وجه الشبه فيه صورة منتزعة من متعدّد أي أن حال المنافقين في نفاقهم وإظهارهم خلاف ما يسترونه من كفر كحال الذي استوقد نارا ليستضيء بها ثم انطفأت فلم يعد يبصر شيئا، وهكذا يبدو لك أن التشبيه التمثيلي يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين، ويريك للمعاني المتمثلة بالأوهام شبها في الأشخاص الماثلة وينطق لك الأخرس ويعطيك البيان من الأعجم ويريك الحياة في الجماد، ويجعل الشيء قريبا بعيدا، ومن أمثلته في الشعر قول بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
فقد شبّه ثوران النقع المنعقد فوق الرؤوس والسيوف المتلاحمة فيه أثناء الحرب بالليل الأسود البهيم تتهاوى فيه الكواكب، وتتساقط الشهب وقول أبي تمام يصف الربيع:
يا صاحبيّ تقصّيا نظريكما ... تريا وجوه الأرض كيف تصوّر
تريا نهارا مشمسا قد شابه ... زهر الربا فكأنما هو مقمر
شبه النهار المشمس في الروض البهي المكلل بالأزاهير بالليل المقمر الساجي.(1/44)
5- المخالفة بين الضميرين فقد وحد الضمير في استوقد وحوله نظرا الى جانب اللفظ لأن المنافقين كلهم على قول واحد وفعل واحد، وأما رعاية جانب المعنى في (بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ)
فلكون المقام تقبيح أحوالهم وبيان ذاتهم وضلالهم فاثبات الحكم لكل فرد منهم واقع.
6- مراعاة النظير: وهو فن يعرف عند علماء البلاغة بالتناسب والائتلاف وحدّه أن يجمع المتكلم بين أمر وما يناسبه مع إلغاء ذكر التضادّ لتخرج المطابقة وهي هنا في ذكر الضوء والنور والسرّ في ذكر النور مع أن السياق يقتضي أن يقول بضوئهم مقابل أضاءت هو أن الضوء فيه دلالة على الزيادة فلو قال بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نورا والغرض هو إزالة النور عنهم رأسا وطمسه أصلا ويؤكد هذا المعنى أنه قال ذهب بنورهم ولم يقل: أذهب نورهم والفرق بينهما أن معنى أذهبه أزاله وجعله ذاهبا ومعنى ذهب به استصحبه ومضى به معه والغرض إفادة أنه لم يبق مطمع في عودة ذلك النور إليهم بالكلية إذ لو قيل: أذهب الله نورهم ربما كان يتوهم أنه إنما أذهب عنهم النور وبقي هو معهم فربما عوضهم بدل ما فاتهم فلما قال: ذهب الله بنورهم كان ذلك حسما وانقطاعا لمادة الاطماع من حصولهم على أي خير لهم أو منهم وهذا من أسمى ما يصل إليه البيان وقد تعلق ابن الرومي بأهداب هذه البلاغة حين قال في وصف العنب الرّازقيّ:
لم يبق منه وهج الحرور ... إلّا ضياء في ظروف نور
فجعل ماء العنب ضوءا لأنه أشد توهّجا وأكثر لألاء من قشره(1/45)
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
الذي هو بمثابة نور يصون ذلك الضوء ويحفظه فما أبرع ابن الرومي في اقتباسه.
الفوائد:
1- لكاف التشبيه ثلاث حالات:
آ- يتعيّن أن تكون اسما وهي ما إذا كانت خبرا أو فاعلا أو مفعولا أو مجرورة بحرف أو إضافة كما تقدم في الآية وكقول أبي الطيب:
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا
ب- يتعين أن تكون حرفا وهي الواقعة صلة للموصول.
ج- يجوز فيها الأمران فيما عدا ذلك وسيأتي المزيد من بحث الكاف في هذا الكتاب.
2- ترك: في الأصل بمعنى طرح وخلّى فيتعدّى لواحد وقد يتضمن معنى التصيير فيتعدّى لاثنين.
[سورة البقرة (2) : الآيات 18 الى 20]
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)(1/46)
اللغة:
(صُمٌّ) جمع أصمّ وهو الذي لا يسمع، يقال: صمّ يصمّ بفتح الصاد فيهما أي ثقل السمع منه وقيل: أصله السّدّ وصست القارورة أي سددتها.
(بُكْمٌ) : جمع أبكم وهو الذي لا يتكلم أي الأخرس.
(عُمْيٌ) جمع أعمى والعمى ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات والفعل منها على وزن عمي على فعل بكسر العين واسم الفاعل على أعمى وهو قياس الآفات والعاهات.
(صيّب) : هو المطر الذي يصوب أي ينزل وأصله صيوب اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء.
(السّماء) كلّ ما علاك فأظلّك فهو سماء والسماء مؤنث وقد يذكّر. قال:
فلو رفع السماء إليه قوما ... لحقنا بالسماء مع السحاب
الإعراب:
(صُمٌّ) خبر لمبتدأ محذوف أي هم صم والجملة مستأنفة (بُكْمٌ)(1/47)
خبر ثان (عُمْيٌ) خبر ثالث وهذه الأخبار وإن تباينت في اللفظ متحدة في المدلول والمعنى لأن مآلها الى عدم قبول الحقّ (فَهُمْ) الفاء عاطفة وهم مبتدأ (لا يَرْجِعُونَ) لا نافية ويرجعون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة خبر هم والجملة عطف على هم صم أي لا يعودون الى الهدى والمعنى أن مشاعرهم انتقضت بناها التي بنيت عليها للاحساس والإدراك (أَوْ) حرف عطف للتفضيل أي أن الناظرين في حالهم منهم من يشبّههم بحال المستوقد ومنهم من يشبّههم بأصحاب صيب (كَصَيِّبٍ) الجار والمجرور معطوفان على كمثل ولا بد من تقدير مضاف أي كأصحاب صيب بدليل يجعلون أصابعهم في آذانهم (مِنَ السَّماءِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لصيب (فِيهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (ظُلُماتٌ) مبتدأ مؤخر (وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) معطوفان على ظلمات (يَجْعَلُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة مستأنفة مسوقة للإجابة عن سؤال مقدر كأنه قيل: فكيف حالهم مع ذلك الرعد؟ فقيل يجعلون (أَصابِعَهُمْ) مفعول به (فِي آذانِهِمْ) الجار والمجرور في موضع المفعول الثاني ليجعلون (مِنَ الصَّواعِقِ) الجار والمجرور متعلقان بيجعلون، ومن سببية وانظر الفوائد (حَذَرَ الْمَوْتِ) مفعول لأجله (وَاللَّهُ) الواو اعتراضية والله مبتدأ (مُحِيطٌ) خبر (بِالْكافِرِينَ) الجار والمجرور متعلقان بمحيط والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها معترضة بين جملتين من قصّة واحدة وهما: يجعلون أصابعهم ويكاد البرق (يَكادُ) فعل مضارع مرفوع من أفعال المقاربة التي تعمل عمل كان وفيها لغتان: فعل وفعل ولذلك يقال كدت بكسر الكاف وكدت بضمها (الْبَرْقُ) اسم يكاد المرفوع (يَخْطَفُ) فعل مضارع مرفوع وفاعل مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على البرق وجملة يخطف خبر يكاد وخبر هذه الأفعال لا يكون إلا فعلا مضارعا وجملة يكاد مستأنفة كأنها جواب قائل يقول(1/48)
فكيف حالهم مع ذلك البرق فقيل: يكاد (أَبْصارَهُمْ) مفعول به والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة (كُلَّما) كلّ منصوب على الظرفية الزمانية وقد سرت الظرفية الى كل من إضافتها لما المصدرية الظرفية وما مع مدخولها (أَضاءَ) في تأويل مصدر في محل جر بالإضافة وقيل: ما نكرة موصوفة ومعناها الوقت والعائد محذوف تقديره كل وقت أضاء لهم فيه فجملة أضاء في الأول لا محل لها لأنها صلة الموصول الحرفي وفي الثاني محلها الجر على الصفة وكلما برأسها متضمنة معنى الشرط والعامل فيها جوابها (لَهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بأضاء (مَشَوْا) فعل ماض مبني على الضم المقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والواو فاعل وجملة مشوا فيه لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم (فِيهِ) الجار والمجرور متعلقان بمشوا (وَإِذا) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه (أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ) فعل ماض مبنى على الفتح والفاعل مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على البرق والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها وعليهم متعلقان بأظلم (قامُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم (وَلَوْ) الواو استئنافية ولو: شرطية وعبارة سيبويه انها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره وهي أحسن من قول النحويين إنها حرف امتناع لامتناع وستأتي مباحث طريفة عنها في هذا الكتاب (شاءَ اللَّهُ) فعل وفاعل ومفعول المشيئة محذوف وهذا الحذف سائغ في كلام العرب يكادون لا يذكرون مفعول شاء إلا في الأمر المستغرب كقول الخريمي:
فلو شئت أن أبكي دما لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
فأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول شئت لأنه شيء مستغرب فحسن ذكره ومثل شاء أراد في هذا الحكم (لَذَهَبَ) اللام واقعة في(1/49)
جواب لو وذهب فعل ماض مبني على الفتح وفاعله مستتر فيه جوازا تقديره هو (بِسَمْعِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بذهب (وَأَبْصارِهِمْ) عطف على يسمعهم (إِنَّ) حرف مشبه بالفعل (اللَّهُ) اسمها المنصوب (عَلى كُلِّ) الجار والمجرور متعلقان بقدير (شَيْءٍ) مضاف اليه (قَدِيرٌ) خبر إنّ وجملة لذهب لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم وجملة إن الله تعليلية لا محل لها من الإعراب.
البلاغة:
1- الاستعارة التصريحية فقد شبههم بالصم والبكم والعمي وطوى ذكر المشبه واعتبره بعض علماء البلاغة في حكم المذكور فهو عندهم تشبيه بليغ وارد في كلامهم كثيرا.
قال شاعرهم:
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم دفنوا
ولكن بلغاء المحققين يتناسون المشبّه ويضربون عن توهمه صفحا.
قال أبو تمام يمدح خالد بن يزيد الشيبانيّ:
ويصعد حتى يظنّ الجهول ... بأنّ له حاجة في السماء
فقد استعار الصعود من العلوّ الحسيّ للعلوّ المعنوي على طريق الاستعارة التصريحية ثم بنى عليه ما يبنى على العلو في المكان ترشيحا وتتميما للمبالغة ولم يذكر المشبّه.
2- التشبيه التمثيلي المتكرر فقد شبّه سبحانه المنافقين وإظهارهم الايمان وإبطانهم الكفر بمن استوقد نارا ثم انقطعت وذلك من ثلاثة أوجه:
آ- أن مستوقد النار يستضيء بنورها، وتذهب عنه وحشة الظلمة فإذا انطفأت ذهبت الاستضاءة وانتفى الانتفاع والاهتداء.(1/50)
ب- أن مستوقد النار إذا لم يمدها بالوقود ذهب ضوءها كذلك المنافق إذا لم يستدم الايمان ذهب إيمانه.
ج- ان مستوقد النار المستضيء بها هو في ظلمة ربداء من نفسه فاذا ذهبت النار بقي في ظلمتين: ظلمة الليل وظلمة نفسه ثم شبّه الدّين بالصيّب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر وما يتعلق به من تشبيه الكفار بالظلمات وما في ذلك من الوعد والوعيد بالبرق والرعد وما يصيب الكفرة من الفتن والبلايا بالصواعق.
3- وإنما أفرد الرعد والبرق وظاهر الكلام وسياقه يستوجبان جمعهما كما جمع ظلمات ولأن الجمع أبلغ من الإفراد على حدّ قول البحتري:
يا عارضا متلفّعا ببروده ... يختال بين بروقه ورعوده
نقول إنما جنح القرآن إلى الإفراد لنكتة هامة وهي أن البرق والرعد لما كانا في الأصل مصدرين والمصادر لا تجمع يقال رعدت السماء رعدا، وبرقت برقا، روعي حكم الأصل بأن ترك جمعهما وإن أريد معنى الجمع وهذه النكتة ذهل عنها البحتري، ولا يخفى أن من بين الألفاظ ما يعذب مفرده ويقبح جمعه وبالعكس وسيأتي ذلك كله في مواطنه من هذا الكتاب العجيب.
4- المجاز المرسل في قوله: «يجعلون أصابعهم في آذانهم» لأن الإصبع ليست هي التي تجعل في الأذن فذكر الأصابع وأراد الأنامل وعلاقته الكلية والمجاز هنا أبلغ من الحقيقة ولذلك عدل عنها إليه وجمع الأصابع لأنه لم يرد أصبعا معينة لأن الحالة حالة دهش وحيرة(1/51)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
فأية أصبع اتفق لهم أن يسدوا بها آذانهم فعلوا غير معرّجين على ترتيب معتاد أو تعيين مفترض.
الفوائد:
زعم قاضي القضاة تاج الدين محمد بن عبد الرحمن بن عقيل شارح ألفية ابن مالك في النحو أن من الصواعق متعلقان بحذر الموت وفي ذلك تقديم معمول المصدر، قال ابن عقيل: إن الذي حمله على ذلك أنه لو علّقه بيجعلون لكان في موضع المفعول لأجله ويلزم على ذلك تعدّد المفعول لأجله من غير عطف وذلك ممتنع عند النحاة وأجاب عن هذا الاعتراض أن المفعول لأجله الأول تعليل للجعل مطلقا، والثاني تعليل له مقيدا بالأول والمطلق والمقيّد متغايران فالمعلّل متعدّد في المعنى وإن اتحد في اللفظ، وقد استدرك ابن هشام في مغني اللبيب على ابن عقيل، فارجع اليه إن شئت ففيه متعة وفائدة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 22]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
اللغة:
أندادا جمع ندّ بكسر النون وهو المثل ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوىء. قال جرير:(1/52)
أتيما تجعلون إليّ ندّا ... وما تيم لذي حسب نديد
الإعراب:
(يا أَيُّهَا) يا حرف نداء للمتوسط ولم يقع النداء في القرآن بغيرها من أدوات النداء وأي: منادى نكرة مقصودة مبنيّ على الضم في محل نصب (النَّاسُ) بدل من أي على اللفظ (اعْبُدُوا) فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الأفعال الخمسة والواو فاعل (رَبَّكُمُ) : مفعول به والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة (الَّذِي) اسم موصول نعت لربكم (خَلَقَكُمْ) فعل ماض والكاف مفعول والفاعل مستتر تقديره هو (وَالَّذِينَ) الواو حرف عطف والذين اسم موصول معطوف على الكاف أي وخلق الذين (مِنْ قَبْلِكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف لا محل له من الإعراب لأنه صلة الموصول (لَعَلَّكُمْ) لعل حرف ترجّ ونصب والكاف اسمها (تَتَّقُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة الفعلية خبر لعل وجملة لعلكم تتقون لا محل لها لأن موقعها مما قبلها موقع الجزاء من الشرط ويجوز أن تعرب حالية أي حال كونكم مترجين للتقوى طامعين فيها (الَّذِي) اسم موصول في محل نصب صفة ثانية لربكم (جَعَلَ) فعل ماض والفاعل ضمير مستتر فيه تقديره هو والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (لَكُمُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لفراشا ثم تقدمت (الْأَرْضَ) مفعول جعل الأول إن كانت من الجعل بمعنى التعبير (فِراشاً) مفعول به ثان وان كانت من الجعل بمعنى الخلق فتكون فراشا حالا مؤوّلة (وَالسَّماءَ) عطف على قوله الأرض (بِناءً) عطف على فراشا (وَأَنْزَلَ) الواو حرف عطف وأنزل عطف على قوله جعل (مِنَ السَّماءِ) جار ومجرور متعلقان بأنزل(1/53)
(ماءً) مفعول أنزل (فَأَخْرَجَ) عطف على أنزل (بِهِ) جار ومجرور متعلقان بأخرج (مِنَ الثَّمَراتِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة وتقدمت (رِزْقاً) مفعول به (لَكُمُ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ثانية لرزقا (فَلا) الفاء تعليلية ولا:
ناهية (تَجْعَلُوا) فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والجملة تعليلية لا محلّ لها بمثابة الاستئنافية والمعنى أن هذا النهي متسبّب عن إيجاد هذه الآيات الباهرة (لِلَّهِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف في موضع المفعول الثاني لتجعلوا (أَنْداداً) مفعول تجعلوا الأول (وَأَنْتُمْ) الواو حالية وأنتم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (تَعْلَمُونَ) فعل مضارع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والجملة الفعلية في محل رفع خبر أنتم والجملة الاسمية في موضع نصب على الحال.
الفوائد:
1- اضطرب كلام النحاة في إعراب الاسم المعرف بالألف واللام بعد يا أيها فقال معظمهم: إنه صفة وحجتهم أن كلا من حرف النداء وأل أداة تعريف وهم يكرهون أداتين لمؤدّى واحد فأقحمت أي لتكون هي المنادى ظاهرا والمحلّى بأل صفة لها ويرد بأنه جامد مثل يا أيها الرجل ويجاب بأنه وإن كان جامدا لكنه في حكم المشتقّ أي المتصف بالرجولية والذي نراه أنه يقال في أن أي أو أية منادى وها حرف تنبيه وما فيه أل بدل من المنادى إذا كان جامدا وإلّا أعرب نعتا.
2- إنما سميت الأرض أرضا لأنها تتأرض ما في بطنها يعني تأكل ما فيها.(1/54)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
3- إذا ورد الترجّي في كلام الله تعالى ففيه ثلاثة تأويلات:
آ- إن لعلّ على بابها من الترجّي والاطماع ولكنه بالنسبة الى المخاطبين وقد نص على هذا التأويل سيبويه في كتابه والزمخشري في كشافّه.
ب- إن لعلّ للتعليل أي اعبدوا ربكم لكي تتقوا نصّ عليه قطرب واختاره الطبري في تفسيره الكبير.
ج- انها للتعرض للشيء كأنه قيل: افعلوا ذلك متعرضين لأن تتقوا نص عليه أبو البقاء واختاره المهدويّ في تفسيره الممتع.
4- إذا تقدم النعت على المنعوت أعرب حالا وساغ لذلك أن يكون صاحب الحال نكرة مع أنه محكوم عليه أن يكون معرفة لأن الحكم على المجهول لا يفيد في الغالب وعليه قول الشاعر:
لميّة موحشا طلل ... يلوح كأنه خلل
[سورة البقرة (2) : الآيات 23 الى 24]
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)(1/55)
اللغة:
(السورة) الطائفة من القرآن التي أقلّها ثلاث آيات، ومن معانيها المرتبة الرفيعة قال النابغة الذبياني:
ألم تر أنّ الله أعطاك سورة ... ترى كلّ ملك دونها يتذبذب
(وَقُودُهَا) بفتح الواو وهو ما توقد به النار من حطب وغيره وأما بضمها فهو مصدر وقد، وكذا يقال فيما جاء على هذا الوزن كالوضوء والطهور والسحور.
الإعراب:
(وَإِنْ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق للرد على من ارتابوا في القرآن تعنتا ولجاجا وإن شرطية تجزم فعلين (كُنْتُمْ) كان فعل ماض ناقص والتاء اسمها والفعل الناقص في محل جزم فعل الشرط (فِي رَيْبٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر كنتم (مِمَّا) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لريب وما موصولة (نَزَّلْنا) فعل ماض مبني على السكون ونا ضمير في محل رفع فاعل والجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (عَلى عَبْدِنا) الجار والمجرور متعلقان بنزلنا والعائد محذوف أي نزلناه ولم يقل أنزلناه لأن القرآن نزل منجّما على سبيل التدريج (فَأْتُوا) الفاء رابطة لجواب الشرط لأن الجملة طلبية لا تصلح لتكون شرطا وأتوا فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الأفعال الخمسة والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل والجملة في محل جزم جواب الشرط (بِسُورَةٍ) الجار والمجرور متعلقان بأتوا (مِنْ مِثْلِهِ) متعلقان بحسب عودة الضمير فهو إما(1/56)
أن يعود على القرآن فهما متعلقان بمحذوف صفة لسورة وإما أن يعود على عبدنا فهما متعلقان بقوله: فأتوا والمعنى على الأول يتناول عدة أمور:
آ- فأتوا بسورة من مثله في حسن النظم وبديع الوصف وروعة الأسلوب وإيجازه.
ب- فأتوا بسورة من مثله في غيبوبة أخباره وأحاديثه عن الماضين وتحدثه عما يكون.
ج- فأتوا بسورة من مثله فيما انطوى عليه من أمر ونهي ووعد ووعيد وبشارة وإنذار، وحكم وأمثال.
د- فأتوا بسورة من مثله في صدقه وصيانته من التحريف والتبديل وغير ذلك من خصائصه.
هـ- فأتوا بسورة من مثله في منطوياته البعيدة، وأحكامه المتمشية مع تطورات الأزمنة، وتقدم العلوم، ومواكبته للحضارة الانسانية في مختلف ظروفها وأحوالها.
والمعنى على الثاني يتناول عدة أمور أيضا:
آ- فأتوا من مثل الرسول أي من أمّيّ لا يحسن الكتابة على الفطرة الأصلية.
ب- فأتوا من مثل الرسول أي من رسول لم يدارس العلماء، ولم يجالس الحكماء، ولم يتعاط أخبار الأولين، ولم يؤثر ذلك عنه بحال من الأحوال.(1/57)
ج- فأتوا من مثل الرسول أي من كل رجل كما تحسبونه في زعمكم شاعر أو مجنون وكلا المعنيين كما ترى، حسن جميل.
(وَادْعُوا) عطف على قوله: فأتوا والواو فاعل (شُهَداءَكُمْ) مفعول به لادعوا والكاف في محل جر بالاضافة (مِنْ دُونِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بادعوا والمعنى: وادعوا من دون الله شهداءكم، والشهداء: إما جمع شهيد للمبالغة كعليم وعلماء وإما جمع شاهد كشاعر وشعراء ويحتمل أن يتعلقا بمحذوف حال من قوله شهداءكم والتقدير منفردين عن الله تعالى أو مغايرين لله (إِنْ) شرطية وانظر بحثا هاما عنها في باب الفوائد (كُنْتُمْ) كان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها (صادِقِينَ) خبرها وجواب الشرط أي فافعلوا ذلك (فَإِنْ) الفاء استئنافية وإن شرطية (لَمْ) حرف نفي وقلب وجزم (تَفْعَلُوا) فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون (وَلَنْ) الواو اعتراضية ولن حرف نفي ونصب واستقبال (تَفْعَلُوا) فعل مضارع منصوب بلن وعلامة نصبه حذف النون والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها معترضة بين الشرط وجوابه (فَاتَّقُوا) الفاء رابطة لجواب الشرط واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (النَّارَ) مفعول به (الَّتِي) اسم موصول في محل نصب صفة للنار (وَقُودُهَا) مبتدأ مرفوع والهاء ضمير متصل في محل جر بالاضافة (النَّاسُ) خبر (وَالْحِجارَةُ) عطف على الناس والجملة الاسمية لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (أُعِدَّتْ) فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي (لِلْكافِرِينَ) الجار والمجرور متعلقان بأعدت والجملة الفعلية في محل نصب حال لازمة من النار وإنما قلنا لازمة ردا على بعض المعربين كأبي حيان وابن عطية فقد جعلا الجملة استئنافية تفاديا لجعلها حالية من النار لأن المعنى(1/58)
يصير فاتقوا النار في حال إعدادها للكافرين بينما هي معدة لهم اتقوها أم لم يتقوها ولكن اضافة لازمة تدفع هذه المظنّة.
البلاغة:
1- إيجاز القصر في قوله: «فاتقوا النار» والإيجاز هو جمع المعاني الكثيرة تحت اللفظ القليل مع الإبانة والإفصاح.
2- إيجاز الحذف في قوله «فاتقوا النار» أيضا وإيجاز الحذف يكون بحذف كلمة أو جمالة أو أكثر مع قرينة تعين المحذوف لأن من اتقى النار عصم نفسه عن جميع الموبقات التي يطول تعدادها.
وترك المكابرة والمعاندة.
3- الاعتراض: في قوله: «ولن تفعلوا» وهو يأتي في الكلام الأغراض كثيرة، والغرض هنا التأكيد بأن ذلك غير متاح لهم ولو جهدوا وتضافرت هممهم عليه ومن روائعه قول عوف بن محلم الخزاعي:
إن الثمانين، وبلغتها، ... قد أحوجت سمعي الى ترجمان
فقوله: وبلغتها اعتراض بين اسم ان وخبرها وفائدتها الدعاء للمخاطب بأن يمتدّ عمره إلى الثمانين مع التنصل من مسؤولية عدم السمع بسبب كبر السنّ ووقر السمع وقول المتنبي جميل للغاية:
وخفوق قلب لو رأيت جحيمه- يا جنّتي- لظننت فيه جهنّما(1/59)
والاعتراض في قوله: يا جنتي وقول أبي نواس وقد عشق الأمين:
قد هام قلبي ولا أقول بمن ... أخاف من لا يخاف من أحد
إذا تفكّرت في هواي له ... مسست رأسي هل طار عن جسدي؟
إني- على ما ذكرت من فرقي- لآمل أن أناله بيدي والاعتراض في قوله: على ما ذكرت من فرقي وفيه مالا يكتنه حسنه.
الفوائد:
1- فشل محاولات التحدي: دعا القرآن قريشا الى أن تحاول محاكاة القرآن تحديا لها في مواطن كثيرة أبرزها الآية التي نحن بصددها ويظهر أنها حاولت أن تردّ على هذا التحدي فعجزت عن هذا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم تنقطع الرغبة في تقليد القرآن بعد حياته، فقد حاول مسيلمة الكذاب الذي ظهر باليمامة في بني حنيفة وطليحة بن خويلد الذي تنبّأ في بني أسد والأسود العنسي الذي تنبّأ في اليمن وسجاح التي ظهرت في بني تغلب ولا سبيل الى الجزم بأن الكلام الذي جاء به هؤلاء منسوب إليهم حقيقة بل نرجّح أنه من تخيّل القصّاص المتأخرين، فمن هذا الكلام المتهافت الذي نسب الى مسيلمة انه كان يقول: «يا ضفدع بنت ضفدعين، نقّي ما نقين، نصفك في(1/60)
الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدّرين، ولا الشارب تمنعين» وواضح تماما أن هذا الهراء ليس من لغة الجاهلين في شيء، ومع هذا فقد خدع عنه الجاحظ، أو هو يسخر منه حين يقول: «ولا أدري ما الذي هيّج مسيلمة حتى ساء رأيه في الضفدع» وأما وحي الأسود العنسي- كما يقول- فكان ينزل به عليه- على زعمه- ملك أسماه:
ذا ضمار وكان رجلا فصيحا يجيد سجع الكهّان وقد ضاع كلامه ولم يصلنا منه شيء، وأما وحي طلحة فقد كان ينزل به عليه- فيما يزعم- ملك سمّاه ذا النون ثم عدل عن ذي النون وقال لا بل هو جبريل ولم يعرف شيء عن قرآنه المزعوم وأما سجاح فقد ادّعت قرآنا إلا أن وحيها صمت حين لقيت مسيلمة وتزوجته ذلك الزواج الماجن المضحك، الذي تذكر مخازيه كتب الأدب والتاريخ، وذكر ابن قيّم الجوزيّة والباقلّاني أن عبد الله بن المقفع عند ما انتهى الى قوله تعالى: «حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور» الى قوله: «وقيل بعدا للقوم الظالمين» عدل عن إنشاء قرآنه وقال: هذا لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله، وترك المعارضة وأحرق ما كان اختلقه، ويقول الباقلّاني: إن قوما أدعوا أن ابن المقفع عارض القرآن في كتابه «الدرّة اليتيمة» ولكنه لم يجد فيما أنشأ ابن المقفع في هذا الكتاب ما يصح أن يكون تقليدا للقرآن.
وكان شاعرنا العظيم أبو الطيب المتنبي قد تنبأ- فيما يقول الرواة- في بادية السماوة وأنشأ كلاما سماه قرآنا منه قوله: «والنجم السيّار، والفلك الدوّار، والليل والنهار، إن الكافرين لفي أخطار امض على سننك، واقف من كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك زيغ من ألحد في دينه، وضلّ عن سبيله» إلا أن المتنبي عدل عن هذه(1/61)
المحاولة، على أننا نشك كثيرا في هذه الروايات لأن المتنبي كان أحصف من أن ينسب الى نفسه مثل هذا الهراء ولأسباب أخرى لا مجال لبحثها الآن.
ومن الذين اتهموا أيضا بهذه التهمة أبو العلاء المعري في كتابه «الفصول والغايات، في محاذاة السّور والآيات» ومما ورد في هذا الكتاب «سبحانك مؤبّد الآباد، هل للمنية نسب إلى الرّقاد؟
لا أتخيل إذا انتبهت أحدا من الأموات، إذا هجعت لقيني قريب عهد بالمنية، ومن فقدت منذ أزمان، أسألهم فيجيبون وأحاورهم فيتكلمون كأنهم بحبل الحياة معلّقون، لو صدق الرقاد لسكنت الى ما يخبر عنه سكان القبور ولكن الهجعة كثيرة الكذاب» وقد ذكر مصطفى صادق الرافعي من أدبائنا المحدثين في كتابه الممتع: «إعجاز القرآن» ما نصه: «وتلك ولا ريب فرية على المعري أراده بها عدوّ حاذق لأن الرجل أبصر بنفسه وبطبقة الكلام الذي يعارضه» أما الدكتور طه حسين فقد ذكر في كتابه «مع أبي العلاء في سجنه» ما خلاصته:
هل أراد أبو العلاء إلى معارضة القرآن في الفصول والغايات كما ظن بعض القدماء؟ نعم ولا، نعم إن فهمنا من المعارضة مجرد التأثر والمحاكاة، ولا إن فهمنا من المعارضة أن أبا العلاء قد نظر الى القرآن على أنه مثل أعلى في الفن الأدبي فتأثّره وجدّ في تقليده كما يتأثر كل أديب بما يعجب به من المثل الفنية العليا، ذلك شيء لا شك فيه فأيسر نظر في كتاب «الفصول والغايات» يشعرك بأن أبا العلاء حاول أن يقلد قصار السور وطوالها وليس المهم أنه وفق في هذا التقليد أو لم يوفق بل من المحقق أن التوفيق لم يقدر له، كما لم يقدر لغيره» .
2- نصّ النحاة والأصوليون على أن إن الشرطية لا يعلّق عليها(1/62)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
إلا مشكوك فيه فلا تقول: إن غربت الشمس آتك بل إذا غربت آتيك وان إذا يعلق عليها المشكوك فيه والمعلوم والشك على الله محال فكيف جاءت هنا؟ والجواب أن الخصائص الإلهية لا تدخل في أوضاع العربية بل هي مبنية على خصائص الخلق، وهذا منزّل منزلة كلامهم فيما بينهم كأنه قيل: إن العادة بين الناس الشك في أمر الإله والرسول والمعاد وليس ذلك ما وقع القطع به في الذهن إلا بعد قيام النظر وقيام الأدلة.
[سورة البقرة (2) : آية 25]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25)
اللغة:
(وَبَشِّرِ) : البشارة: الإخبار بما يظهر سرور المخبر به ومنه البشرة لظاهر الجلد، وتباشير الصبح: ما ظهر من أوائل ضوئه، ولهذا التفسير اللغوي بحث فقهي طريف. قال الفقهاء: إذا قال لعبده:
أيّكم بشّرني بقدوم فلان فهو حرّ فبشروه فرادى أعتق أولهم لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره دون الباقين ولو قال مكان بشرني:
أخبرني عتقوا جميعا لأنهم جميعا أخبروه.(1/63)
الإعراب:
(وَبَشِّرِ) الواو عاطفة عطفت وصف جملة ثواب المؤمن على وصف جملة عقاب الكافر وفاعل بشر ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت (الَّذِينَ) اسم موصول في محل نصب مفعول به (آمَنُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَعَمِلُوا) عطف على آمنوا داخل في حيز الصلة والواو فاعل (الصَّالِحاتِ) مفعول به منصوب وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم (أَنَّ) حرف مشبه بالفعل تنصب الاسم وترفع الخبر وهي مع مدخولها في موضع نصب بنزع الخافض وسيأتي بحثه في باب الفوائد (لَهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر أن المقدم (جَنَّاتٍ) اسمها المؤخّر وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم (تَجْرِي) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء منع من ظهورها الثقل (مِنْ تَحْتِهَا) الجار والمجرور متعلقان بتجري (الْأَنْهارُ) فاعل مرفوع (كُلَّما) ظرف زمان متضمن معنى الشرط وما مصدرية أو نكرة مقصودة وقد تقدم القول فيها قريبا (رُزِقُوا) فعل ماض مبني للمجهول والواو ضمير متصل في محل رفع نائب فاعل والجملة الفعلية لا محل لها أو في محل جر على الصفة أي كل وقت رزقوا فيه (مِنْها) الجار والمجرور متعلقان برزقوا (مِنْ ثَمَرَةٍ) الجار والمجرور بدل اشتمال من قوله منها ومثاله: أكلت من بستانك من الرمان شيئا حمدتك، فموقع من ثمرة موقع قولك من الرمان (رِزْقاً) مفعول به ثان لرزقوا والمفعول الأول هو نائب الفاعل الذي هو الواو ويبعد أن يكون رزقا مصدرا منصوبا على المفعولية المطلقة، وجملة كلما رزقوا صفة ثانية لجنات أو حالية ولك أن تجعلها مستأنفة لا محل لها من الإعراب (قالُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب(1/64)
شرط غير جازم (هذَا) اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ (الَّذِي) اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول (رُزِقْنا) فعل ماض مبني للمجهول ونا ضمير متصل في محل رفع نائب فاعل وجملة رزقنا لا محل لها لأنها صلة الموصول والعائد محذوف أي رزقناه (مِنْ قَبْلُ) من حرف جر لابتداء الغاية وقيل ظرف مبني على الضم لانقطاعه عن الإضافة لفظا لا معنى في محل جر بمن والجار والمجرور متعلقان برزقنا أو بمحذوف حال (وَأُتُوا) الواو استئنافية وأتوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل (بِهِ) الجار والمجرور متعلقان بأتوا والجملة مستأنفة مسوقة للاخبار عن هذا الذي رزقوه (مُتَشابِهاً) حال أي مشبها للثمر الذي كانوا يألفونه في الدنيا لأن الإنسان بالمألوف آنس، وإليه أميل، وقيل يشبه بعضه بعضا في اللون وإن تباين في الطعم والمعنى الأول أرجح بدليل ما تقدم وهو قوله: «هذا الذي رزقنا من قبل» (وَلَهُمْ) الواو حرف عطف ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم (فِيها) جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (أَزْواجٌ) مبتدأ مؤخّر والزوج ما يكون معه آخر فيقال زوج للمرأة والرجل وأما الزوجة بالتاء فقليل وقال الفراء: انها لغة (مُطَهَّرَةٌ) نعت لأزواج (وَهُمْ) الواو حرف عطف وهم مبتدأ (فِيها) الجار والمجرور متعلقان بخالدون (خالِدُونَ) خبر هم.
البلاغة:
1- المجاز المرسل في قوله تجري من تحتها الأنهار والعلاقة المحلية هذا إذا كان النهر مجرى الماء كما قال بعض علماء اللغة أما إذا كان بمعنى الماء في المجرى فلا مجاز فيه وفيه لغتان فتح الهاء وسكونها.(1/65)
2- التشبيه البليغ في قوله: هذا الذي رزقنا من قبل وسمي بليغا لأن أداة التشبيه فيه محذوفة فتساوى طرفا التشبيه في المرتبة ومن أمثلته قول أبي العلاء يصف ليلة:
ليلتي هذه عروس من الزنج عليها قلائد من جمان
الفوائد:
1- قد يحذف الجار سماعا فينتصب المجرور بعد حذفه تشبيها له بالمفعول به ومنه قول جرير:
تمرّون الديار ولم تعوجوا ... كلامكم عليّ إذن حرام
أي تمرون بالديار، ويقاس سقوط حرف الجر قبل أن المصدرية وأن المشبّهة بالفعل المفتوحة الهمزة.
2- جمع غير العاقل يجوز وصفه بالجمع المناسب قال تعالى:
«جنات معروشات» ويجوز في غير القرآن معروشة وجمع التكسير الدال على العقلاء يجوز وصفه أيضا بالمفرد المؤنث ويجوز وصفه بالجمع كما في الآية وهو «أزواج مطهرة» ويجوز في غير القرآن مطهرات.(1/66)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
[سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 27]
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)
اللغة:
(يَسْتَحْيِي) الحياء: تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من تخوّف ما يعاب به ويذمّ. ومن أقوال العرب: «فلان أحيا من مخدّرة» وقالت ليلى:
وأحيا حياء من فتاة حييّة ... وأشجع من ليث بخفّان حادر
(البعوض) الحيوان العضوض المعروف واشتقاقه من البعض وهو القطع ومنه بعض الشيء لأنه قطعة منه.
(النقض) : الفسخ وفك الترتيب.
الإعراب:
(إِنَّ) حرف مشبه بالفعل (اللَّهَ) اسمها المنصوب (لا) نافية (يَسْتَحْيِي) فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على الله والجملة الفعلية في محل رفع خبر إن (أَنْ يَضْرِبَ) أن حرف مصدري ونصب ويضرب فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا وأن وما بعدها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به إن كان يستحيي يتعدّ بنفسه أو في محل نصب بنزع الخافض وقد تقدم(1/67)
بحثه قريبا (مَثَلًا) مفعول به ليضرب (ما) فيها أقوال عديدة أرجحها فيما نرى أنها الإبهامية وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة زادته شيوعا وعموما وإبهاما تقول: أعطني كتابا ما تريد أي كتاب شئت وتعرب صفة للاسم قبلها (بَعُوضَةً) بدل من مثلا (فَما) الفاء عاطفة وما اسم موصول في محل نصب معطوف على بعوضة (فَوْقَها) ظرف مكان متعلق بمحذوف لا محل له من الإعراب لأنه صلة الموصول المراد:
فما تجاوزها في المعنى الذي ضربت فيه مثلا وهو القلّة والحقارة أو فما تجاوزها في الحجم كأنه قصد بذلك ردّ ما استهجنوه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت لأنهما أكبر من البعوضة تقول: فلان لا يبالي أن يبخل بنصف درهم فما فوقه تريد الدرهم والدرهمين وجميل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه مسلم عن ابراهيم عن الأسود قال: دخل شباب قريش على عائشة رضي الله عنها وهي بمنى وهم يضحكون فقالت: ما يضحككم؟ قالوا: خرّ على طنب فسطاط فكادت عنقه أو عينه أن تذهب فقالت: لا تضحكوا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه خطيئة. يحتمل فيما عدا الشوكة وتجاوزها في القلة ويحتمل ما هو أشد من الشوكة وأوجع (فَأَمَّا) الفاء استئنافية وأما حرف شرط وتفصيل (الَّذِينَ) اسم موصول في محل رفع مبتدأ (آمَنُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الذين (فَيَعْلَمُونَ) الفاء: رابطة لجواب الشرط ويعلمون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل وجملة يعلمون في محل رفع خبر الذين (أَنَّهُ) أنّ: حرف مشبه بالفعل والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها (الْحَقُّ) خبرها وان وما في حيزها سدت مسدّ(1/68)
مفعولي يعلمون (مِنْ رَبِّهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (وَأَمَّا) الواو حرف عطف واما حرف شرط وتفصيل (الَّذِينَ) اسم موصول في محل رفع مبتدأ (كَفَرُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها صلة الموصول (فَيَقُولُونَ) الفاء: رابطة لجواب الشرط ويقولون:
فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والجملة خبر الموصول (ماذا) اسم استفهام في محل نصب مفعول به مقدم لأراد أو ما اسم استفهام وذا اسم موصول- هنا خاصة- في محل رفع خبر ما والجملة في محل نصب مقول القول وعلى الوجه الأول تعرب جملة أراد مقولا للقول (أَرادَ) فعل ماض مبني على الفتح (اللَّهَ) فاعل أراد (بِهذا) الجار والمجرور متعلقان بأراد (مَثَلًا) تمييز مؤكد أو حال من اسم الاشارة أي ممثلا به أو من الفاعل أي ممثلا (يُضِلُّ) فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر فيه جوازا تقديره هو والجملة الفعلية مستأنفة جارية مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين بأمّا وقيل: في محل نصب صفة مثلا والمعنى: مثلا يفترق الناس به إلى ضالين ومهتدين (بِهِ) الجار والمجرور متعلقان بيضل (كَثِيراً) مفعول به (وَيَهْدِي) عطف على يضل (بِهِ) الجار والمجرور متعلقان بيهدي (كَثِيراً) مفعول به (وَما يُضِلُّ) الواو حالية أو استئنافية وما نافية (بِهِ) الجار والمجرور متعلقان بيضل (إِلَّا) أداة حصر (الْفاسِقِينَ) مفعول به والجملة لا محل لها من الإعراب أو حالية (الَّذِينَ) اسم موصول في محل جر لأنه صفة للفاسقين (يَنْقُضُونَ) فعل مضارع مرفوع والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (عَهْدَ اللَّهِ) مفعول به ومضاف إليه (مِنْ بَعْدِ) الجار والمجرور متعلقان بينقضون (مِيثاقِهِ)(1/69)
مضاف اليه والضمير يعود على اسم الله أو على العهد وسيأتي تفسير طريف في الميثاق في باب الفوائد (وَيَقْطَعُونَ) عطف على قوله ينقضون (ما) اسم موصول في محل نصب مفعول به (أَمَرَ) فعل ماض مبني على الفتح (اللَّهِ) فاعل أمر (بِهِ) جار ومجرور متعلقان بأمر (أَنْ يُوصَلَ) أن حرف مصدري ونصب ويوصل فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هو وأن وما في حيزها في تأويل مصدر بدل من الضمير في به والمعنى ويقطعون ما أمر الله بوصله، أو مفعول لأجله والتقدير كراهية أن يوصل أو لئلا يوصل (وَيُفْسِدُونَ) عطف على يقطعون (فِي الْأَرْضِ) الجار والمجرور متعلقان بيفسدون (أُولئِكَ) اسم اشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ (هُمُ) ضمير فصل أو عماد لا محل له (الْخاسِرُونَ) خبر أولئك ولك أن تعرب هم مبتدأ والخاسرون خبره والجملة الاسمية في محل رفع خبر أولئك.
البلاغة:
1- التمثيل: عني العرب بالتمثيل عناية كبيرة وذكر علماء البلاغة له مظهرين:
آ- أحدهما أن يظهر المعنى ابتداء في صورة التمثيل.
ب- وثانيهما: ما يجيء في أعقاب المعاني لإيضاحها وتقريرها في النفوس وهو على الحالين يكسو المعاني بهجة وجمالا ويرفع من أقدارها، ويبعث فيها الحركة والحياة، ويجسدها للقارىء حتى ليكاد يتقرّاها بلمس، وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور(1/70)
والحشرات. ومن أروع ما صنف العرب في ذلك كتاب كليلة ودمنة الذي قيل إنه ترجمه عن الفارسية عبد الله بن المقفع وفي الفرنسية قصص لافونتين.
وعن الحسن وقتادة: لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه، وضرب للمشركين بهما المثل ضحكت اليهود، وقالت: ما يشبه هذا كلام الله فأنزل الله سبحانه الآية، ومما يرجّح أنها أنزلت فيهم انها اشتملت على نقض العهد وهو من أبرز سماتهم. وأدبنا العربي حافل بضرب الأمثال بمختلف الهوامّ وسائر الحشرات قال شاعرهم:
وإنّي لألقى من ذوي الضغن منهم ... وما أصبحت تشكو من الوجد ساهره
كما لقيت ذات الصفا من خليلها ... وما انفكت الأمثال في الناس سائره
وذات الصفاحية تقول الأسطورة العربية: انها كانت قتلت قرابة حليفها فتواثقا بالله على أنها تدي ذلك القتيل الى آخر تلك الأسطورة الممتعة.
2- الاستعارة المكنية وذلك في قوله: «ينقضون عهد الله» فقد شبه العهد بالحبل المبرم ثم حذف المشبه به ورمز إليه بشيء من خصائصه أو لوازمه وهو النقض لأنه إحدى حالتي الحبل وهما النقض والإبرام.(1/71)
3- المقابلة: وهي تعدّد الطباق في الكلام، فقد طابق بين يضل ويهدي وبين يقطعون ويوصل.
الفوائد:
1- (أمّا) حرف شرط وتفصيل وقد تبدل ميمها الأولى ياء استثقالا للتضعيف كقول عمرو بن أبي ربيعة:
رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت ... فيضحي وأيما بالعشيّ فيخصر
ويفصل بين أما والفاء الجوابية بواحد من ستة:
آ- المبتدأ: كالآية الآنفة الذكر.
ب- الخبر: نحو: أما في الدار فعلي.
ج- جملة الشرط كقوله تعالى: «فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان» .
د- اسم معمول لمحذوف كقوله تعالى: «وأما ثمود فهديناهم» .
هـ- اسم منصوب لفظا أو محلّا بالجواب نحو قوله تعالى:
«فأما اليتيم فلا تقهر» .
وظرف معمول لأما لما فيها من معنى الفعل الذي نابت عنه نحو: أما اليوم فإني ذاهب.
هذا وتكون أما للتوكيد والشرط فتنوب عن مهما نحو: اما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، والتقدير مهما يكن من شيء. وقد(1/72)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
تنوب الواو عن أما فيقال وبعد، وهذا الاستعمال شائع في الخطب والمكاتبات والى ذلك أشار الشاعر بقوله:
لقد علمت قيس بن عيلان أنني ... إذا قلت: أما بعد أني خطيبها
2- ماذا: فيها وجهان:
آ- أن تكون ذا مركبة مع ما مجهولتين اسما واحدا للاستفهام وتعرب حسب موقعها.
ب- أن تكون ذا اسما موصولا بمعنى الذي فتكون خبرا لما الاستفهامية ويظهر أثر ذلك في جوابه ولهذا أوردنا الوجهين معا في الإعراب وقد قرىء قوله تعالى: «يسألونك ماذا ينفقون؟ قل العفو» بنصب العفو ورفعه على التقديرين وقال لبيد:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضى أم ضلال وباطل
فقد روي أنحب مرفوعا على البدلية من ذا على الوجه الثاني ولو قال أنحبا على البدلية من ماذا كلها المنصوبة على المفعولية ليحاول لجاز.
[سورة البقرة (2) : الآيات 28 الى 29]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)(1/73)
اللغة:
(اسْتَوى) : اعتدل واستقام وانتصب كالسهم المرسل.
(فَسَوَّاهُنَّ) : خلقهنّ أو صيرهنّ.
الإعراب:
(كَيْفَ) : اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب على الحال ومعنى الاستفهام هنا: التوبيخ (تَكْفُرُونَ) : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل (بِاللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بتكفرون (وَكُنْتُمْ) : الواو. حالية وقد مقدرة بعدها على القاعدة المقررة وهي إن الفعل الماضي إذا وقع جملة حالية فلا بد من قد ظاهرة أو مقدرة وكان واسمها (أَمْواتاً) خبر كان المنصوب والجملة الفعلية في محل نصب على الحال (فَأَحْياكُمْ) الفاء حرف عطف وأحيا فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف والفاعل ضمير مستتر تقديره هو والكاف مفعول به (ثُمَّ) حرف عطف للترتيب مع التراخي (يُمِيتُكُمْ) فعل مضارع مرفوع والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود على الله (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) عطف أيضا وإنما عطف(1/74)
بثم للتراخي الممتدّ بين الحالين (ثُمَّ) حرف عطف أيضا (إِلَيْهِ) جار ومجرور متعلقان بترجعون (تُرْجَعُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة معطوفة (هُوَ) ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (الَّذِي) اسم موصول في محل رفع خبر (خَلَقَ) فعل ماض مبني على الفتح وفاعله ضمير مستتر تقديره هو (لَكُمْ) جار ومجرور متعلقان بخلق (ما) اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به (فِي الْأَرْضِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له من الإعراب لأنه صلة الموصول (جَمِيعاً) حال من المفعول به الذي هو ما خلافا لمن أعربه من المفسرين توكيدا لما ولو كان ذلك لقيل جميعه (ثُمَّ) حرف عطف للترتيب مع التراخي (اسْتَوى) فعل ماض معطوف على خلق (إِلَى السَّماءِ) جار ومجرور متعلقان باستوى (فَسَوَّاهُنَّ) الفاء حرف عطف وسوى فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف والفاعل ضمير مستتر تقديره هو والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به (سَبْعَ سَماواتٍ) حال إذا كانت سوّى بمعنى الخلق المجرد لأنه دل على العدد المجرد ومثله قوله تعالى: «فتمّ ميقات ربه أربعين ليلة» أو على البدلية من الضمير في فسواهن، وإذا كانت سوّى بمعنى صيّر كانت مفعولا ثانيا وأنكر أبو حيان هذا الإعراب ولا مسوغ لانكاره (وَهُوَ) الواو استئنافية وهو مبتدأ (بِكُلِّ شَيْءٍ) الجار والمجرور متعلقان بعليم (عَلِيمٌ) خبر هو.
الفوائد:
كيف: اسم مبني على الفتح وأكثر ما تستعمل استفهاما ومحلها من الإعراب إما خبر لما بعدها إن وقعت قبل ما لا يستغنى عنها نحو:
كيف أنت؟ وكيف كنت، وإما مفعول ثان لظن وأخواتها نحو: كيف(1/75)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
تظن الأمر وإما نصب على الحال مما بعدها إذا وقعت قبل ما يستغني عنها نحو. كيف جاء أخوك؟ أي على أية حال جاء؟ وإما نصب على المفعولية المطلقة نحو «ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل» .
[سورة البقرة (2) : آية 30]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30)
الإعراب:
(وَإِذْ) الواو استئنافية وإذ: ظرف لما مضى من الزمن في محل نصب مفعول به لفعل محذوف تقديره اذكر وهذا الإعراب هو الغالب على إذ المذكورة في أوائل القصص في القرآن واختاره الزمخشري وابن عطية وغيرهما من المعربين وقد ردّه أبو حيّان والكرخي ولعلّ من الممتع أن نورد نصا طريفا لأبي حيان بهذا الصدد قال: «وليس بشيء لأن فيه إخراج إذ عن بابها وهو أنه لا يتصرّف فيه بغير الظرفية أو بإضافة الظرف الزماني إليها» وردّ عليه ابن هشام بما تراه مفصّلا في باب الفوائد ومضى أبو حيان يقول: «والذي تقتضيه العربية نصبه بقوله: قالوا أتجعل أي وقت قول الله للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة قالوا: أتجعل كما تقول في الكلام: إذ جئتني أكرمتك أي وقت مجيئك أكرمتك وإذ قلت لي كذا قلت لك كذا فانظر الى هذا الوجه السهل الواضح كيف لم يوفق أكثر الناس الى القول به وارتكبوا في دهياء، وخبطوا خبط عشواء» (قالَ) فعل ماض والجملة الفعلية في(1/76)
محل جر باضافة الظرف إليها (رَبُّكَ) فاعل (لِلْمَلائِكَةِ) : الجار والمجرور متعلقان بقال (إِنِّي) إن حرف مشبه بالفعل والياء اسمها (جاعِلٌ) خبرها (فِي الْأَرْضِ) الجار والمجرور متعلقان بجاعل إذا كانت بمعنى خالق وفي محل نصب مفعول به ثان إذا كانت اسم فاعل من الجعل بمعنى التّصيير وجملة اني جاعل في محل نصب مقول القول (خَلِيفَةً) مفعول به لجاعل لأنه اسم فاعل (قالُوا) : فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة والواو فاعل والجملة لا محل لها لأنها استئنافية (أَتَجْعَلُ) الهمزة للاستفهام التعجبي المجرّد كأنهم يطلبون استكناه ما خفي عليهم من الحكمة الباهرة، وتجعل فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت (فِيها) جار ومجرور لك أن تعلقهما بجعل إذا كانت بمعنى الخلق وأن تجعلهما في موضع المفعول الثاني المقدم إذا كانت بمعنى التصيير (يُفْسِدُ) فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره هو والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (فِيها) جار ومجرور متعلقان بيفسد (وَيَسْفِكُ) فعل مضارع معطوف على يفسد داخل حيّز الصلة (الدِّماءَ) مفعول به (وَنَحْنُ) الواو حالية ونحن ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (نُسَبِّحُ) فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره نحن والجملة الفعلية في محل رفع خبر نحن (بِحَمْدِكَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي متلبّسين بحمدك (وَنُقَدِّسُ) فعل مضارع معطوف على نسبح (لَكَ) جار ومجرور متعلقان بنقدس وجعلها بعضهم زائدة والكاف مفعول لنقدس، (قالَ) فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو والجملة مستأنفة (إِنِّي) ان واسمها (أَعْلَمُ) فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره أنا والجملة خبر انّ (ما) اسم موصول في محل نصب مفعول(1/77)
به (لا) نافية (تَعْلَمُونَ) فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول وجملة إني أعلم الاسمية في محل نصب مقول القول.
البلاغة:
في الاستفهام الوارد في قوله: أتجعل، خروج لمعناه الأصلي عن موضوعه فهو للتعجب كما اخترنا في الإعراب وقيل: هي للاسترشاد أي أتجعل فيها من يفسد كمن كان فيها من قبل، وقيل استفهموا عن أحوال أنفسهم أي أتجعل فيها مفسدا ونحن مقيمون على طاعتك لا نفتر عنها طرفة عين، وقال آخرون هي للايجاب، والواقع أن كل لفظ استفهام ورد في كتاب الله تعالى لا بخلو من أحد الوجوه الستة الآتية:
1- التوبيخ، 2- التعجب، 3- التسوية، 4- الإيجاب، 5- الأمر، 6- التقرير. أما الاستفهام الصريح فلا يقع من الله تعالى في القرآن لأن المستفهم متعلّم ما ليس عنده والله عالم بالأشياء قبل كونها، فالتوبيخ نحو: «أذهبتم طيباتكم» والتقرير: «أأنت قلت للناس» ؟ والتسوية نحو: «سواء عليهم أأنذرتهم» والإيجاب نحو:
«أتجعل فيها من يفسد فيها» ، والأمر نحو: «أأسلمتم» فعلى هذا يعرف ما جاء في كتاب الله فاعرف مواضعه وتدبر.
الفوائد:
1- إذ ظرف للزمن الماضي ولا تقع بعدها إلا الجملة وقد تحذف الجملة ويعوض عنها بالتنوين ويسمى تنوين العوض نحو:
«ويومئذ يفرح المؤمنون» والأصل يوم إذ غلبت الروم يفرح(1/78)
المؤمنون فحذت جملة غلبت الروم وجيء بالتنوين عوضا عنها فالتقى ساكنان: ذال والتنوين فكسرت الذال على أصل التقاء الساكنين ويتلخص إعرابها بخمسة أوجه:
آ- أن تكون ظرفا نحو: «فقد نصره الله إذا أخرجه الذين كفروا» .
ب- أن تكون مفعولا به: وهو الغالب على إذ المذكورة في أوائل التنزيل.
ج- أن تكون بدلا من المفعول نحو: «واذكر في الكتاب مريم إذا انتبذت» فإذ بدل اشتمال من مريم.
د- أن يضاف إليها اسم زمان صالح للاستغناء عنه نحو:
«يومئذ تحدث أخبارها» .
هـ- وترد إذ للمفاجأة وتقع بعد بينا وبينما. قال الشاعر:
استقدر الله خيرا وارضينّ به ... فبينما العسر إذ دارت مياسير
وعند ما تكون إذ للمفاجأة ماذا يكون إعرابها؟ عندئذ يكون الأرجح اعتبارها حرفا للمفاجأة.
2- هذا وقد اختلفت الأقوال كثيرا في معرفة الكيفية التي عرف الملائكة أن ذرية آدم يفسدون في الأرض وأقرب ما رأيناه فيها الى المنطق أنهم علموا ذلك من لفظ خليفة قالوا: الخليفة هو الذي يحكم بين الخصوم، والخصم إما أن يكون ظالما أو مظلوما ومتى حصل التظالم بينهم حصل الفساد في الأرض واستشرى.(1/79)
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
[سورة البقرة (2) : الآيات 31 الى 33]
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
اللغة:
(آدَمَ) : اسم علم أعجمي كآذر وعابر وعاذر وهو ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وأخطأ من زعم أنه مشتق من الأدمة أي السمرة أو من أديم الأرض أي وجهها لأن الاشتقاق من خصائص العربية. وللإمام الطبري زعم لا نعلم كيف صدر عنه وهو أنه فعل رباعيّ سمّي به ومن هذا الخطأ محاولتهم اشتقاق يعقوب من العقب وإبليس من الإبلاس، وإذن يحق لنا أن نتساءل: لم منعت هذه الأعلام من الصرف لولا العلمية والعجمة؟ فتنبّه لهذا الفصل.
الإعراب:
(وَعَلَّمَ) الواو حرف عطف وعلم فعل ماض مبني على الفتح وفاعله ضمير مستتر فيه تقديره هو يعود على الله، والجملة معطوفة على جمل محذوفة تقديرها: فجعل في الأرض خليفة وسماه آدم (آدَمَ)(1/80)
مفعول به أول (الْأَسْماءَ) مفعول به ثان (كُلَّها) تأكيد للأسماء (ثُمَّ) حرف عطف للترتيب مع التراخي (عَرَضَهُمْ) عطف على جملة وعلّم أي وعرض المسميات أو ألقاها في قلوبهم وغلب العقلاء على غير العقلاء وتلك سنة من سنن العرب في كلامهم (عَلَى الْمَلائِكَةِ) جار ومجرور متعلقان بعرضهم (فَقالَ) عطف على جملة عرضهم (أَنْبِئُونِي) فعل أمر والمقصود من الأمر هنا التعجيز وهو مبني على حذف النون لأن مضارعه من الأفعال الخمسة والواو فاعل والنون للوقاية والياء ضمير متصل في محل نصب مفعول به (بِأَسْماءِ) الجار والمجرور في موضع المفعول الثاني (هؤُلاءِ) اسم الاشارة مبني على الكسر في محل جر بالاضافة (إِنْ) حرف شرط جازم (كُنْتُمْ) فعل ماض ناقص والتاء اسمها (صادِقِينَ) خبرها وكنتم في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف تقديره فأنبئوني، (قالُوا) فعل وفاعل (سُبْحانَكَ) مفعول مطلق وهو مصدر لا يكاد يستعمل إلا مضافا منصوب بإضمار فعله كمعاذ الله (لا) نافية للجنس من أخوات إن المشبهة بالفعل (عِلْمَ) اسمها المبني على الفتح (لَنا) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لا (إِلَّا) أداة حصر (ما) مصدرية أو اسم موصول وهي مع مدخولها أو هي وحدها في موضع الرفع على البدلية من محل لا واسمها نحو لا إله إلا الله وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه (عَلَّمْتَنا) فعل وفاعل ومفعول والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (إِنَّكَ) ان واسمها (أَنْتَ) ضمير فصل أو عماد لا محل لها (الْعَلِيمُ) خبر إن الأول (الْحَكِيمُ) خبر إن الثاني ويجوز أن تعرب أنت مبتدأ خبراه العليم الحكيم والجملة الاسمية في محل رفع خبر إن (قالَ) فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو والجملة ابتدائية لا محل لها (يا آدَمُ) ياء حرف نداء للمتوسط وآدم(1/81)
منادى مفرد علم مبني على الضم (أَنْبِئْهُمْ) فعل أمر مبني على السكون وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول (بِأَسْمائِهِمْ)
في موضع المفعول الثاني (فَلَمَّا) الفاء عاطفة على جملة محذوفة والتقدير: فأنبأهم بأسمائهم فلما أنبأهم وحذفت الجملة لوضوح المعنى ولما ظرفية بمعنى حين أو رابطة متضمنة معنى الشرط على كل حال (أَنْبَأَهُمْ) الجملة في محل جر باضافة الظرف إليها إن جعلت لما ظرفية أو معطوفة إن كانت للربط (بِأَسْمائِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بأنبأهم (قالَ) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (أَلَمْ) الهمزة للاستفهام التقريري والهمزة إذا دخلت على النفي أفادت التقرير ولم حرف نفي وقلب وجزم (أَقُلْ) فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله ضمير مستتر فيه تقديره أنا (لَكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بأقل (إِنِّي) ان واسمها (أَعْلَمُ) فعل مضارع مرفوع والجملة الفعلية خبر إن وجملة إن وما في حيزها في محل نصب مقول القول (غَيْبَ السَّماواتِ) مفعول اعلم (وَالْأَرْضِ) عطف على السموات (وَأَعْلَمُ) عطف على أعلم الأولى (ما) اسم موصول في محل نصب مفعول به (تُبْدُونَ) فعل مضارع مرفوع وجملة تبدون لا محل لها لأنها صلة (وَما) عطف على ما الأولى (كُنْتُمْ) كان واسمها (تَكْتُمُونَ) الجملة الفعلية في محل نصب خبر كنتم.
البلاغة:
الطباق بين السموات والأرض وبين تبدون وتكتمون. هذا وإن الطباق من الألفاظ التي خالفت مضمونها ولذلك سماه بعضهم التضاد والتكافؤ وهو الجمع بين معنيين متضادين ولا مناسبة بين معنى(1/82)
المطابقة لغة واصطلاحا فإنها في اللغة الموافقة. يقال: طابقت بين الشيئين إذا جعلت أحدهما على حذو الآخر. وابن الأثير يعجب لأنه لا يعرف من أين اشتقت هذه التسمية إذ لا مناسبة بين الاسم ومسمّاه، وقدامة يسميه التكافؤ، ولا فرق بين أن يكون التقابل حقيقيا أو اعتباريا أو تقابل السلب والإيجاب. ومن طباق السلب قول السوءل:
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول
فقد طابق بين ننكر وهو إيجاب، وبين ولا ينكرون وهو سلب ويصبح الطباق مقابلة حين يؤتى بمعنيين أو أكثر ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب كقول البحتري:
فإذا حاربوا أذلوا عزيزا ... وإذا سالموا أعزّوا ذليلا
وما زال الناس يعجبون من جمع البحتري بين ثلاث مطابقات في قوله:
وأمة كان قبح الجور يشحطها ... دهرا فأصبح حسن العدل يرضيها
حتى جاء أبو الطيب فزاد عليه مع عذوبة اللفظ ورشاقة الصنعة وطابق بين خمسة وخمسة:
أزورهم وسود الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي(1/83)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
فقد طابق بين الزيارة والانثناء وبين السواد والبياض وبين الليل والصبح وبين يشفع ويغري وبين لي وبي.
[سورة البقرة (2) : الآيات 34 الى 36]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36)
اللغة:
(إِبْلِيسَ) اختلف فيه أهو مشتق أم لا؟ والصحيح انه علم أعجميّ ولهذا لم ينصرف للعلمية العجمية ولو كان مشتقا من الإبلاس أي اليأس لا نصرف وقد تقدمت الاشارة الى ذلك.
(رَغَداً) يقال: رغد العيش بالضم رغادة اتسع ولان فهو رغيد ورغد بالكسر رغدا بفتحتين فهو راغد.
(فَأَزَلَّهُمَا) يحتمل معنيين أولهما: أظهر زلّتهما وثانيهما أبعدهما.(1/84)
الإعراب:
(وَإِذْ) الواو حرف عطف وإذ ظرف لما مضى من الزمن (قُلْنا) :
فعل وفاعل والجملة الفعلية في محل جرّ بإضافة الظرف إليها (لِلْمَلائِكَةِ) جار ومجرور متعلقان بقلنا (اسْجُدُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول (لِآدَمَ) جار ومجرور متعلقان باسجدوا (فَسَجَدُوا) الفاء عاطفة وسجدوا فعل وفاعل (إِلَّا) أداة استثناء (إِبْلِيسَ) مستثنى بإلا متصل إن كان إبليس في الأصل من الملائكة وقبل منقطع لأنه ليس منهم (أَبى) فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف والجملة الفعلية في محل نصب على الحال أي حال كونه رافضا للأمر مستكبرا له كافرا به (وَاسْتَكْبَرَ) الواو حرف عطف واستكبر فعل ماض معطوف على أبى (وَكانَ) الواو حرف عطف وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره هو (مِنَ الْكافِرِينَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر كان (وَقُلْنا) الواو حرف عطف وقلنا فعل وفاعل معطوف على قلنا واختلاف الزّمانين ليس علة مانعة من عطف الفعل على الفعل (يا آدَمُ) يا حرف نداء للمتوسط وآدم منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب (اسْكُنْ) فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت (أَنْتَ) تأكيد للفاعل المستتر في اسكن (وَزَوْجُكَ) الواو حرف عطف وزوجك معطوف على الضمير المستكن في اسكن وحسن عطف الظاهر على الضمير توكيده بالضمير المنفصل (الْجَنَّةَ) مفعول به على السعة (وَكُلا) الواو حرف عطف وكلا فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الأفعال الخمسة والألف ضمير متصل في محل رفع فاعل (مِنْها) الجار والمجرور متعلقان بكلا (رَغَداً) صفة لمصدر محذوف أي أكلا رغدا فهو مفعول مطلق ويجوز(1/85)
أن يعرب حالا مؤوّلة بالمشتق أي راغدين هانئين (حَيْثُ) ظرف مكان مبني على الضم متعلق بكلا وقد أطلق لهما الأكل والرغد في الجنة حتى يقطع عليهما منافذ العذر إذا خطرت لهما شجرة واحدة معينة وفي أشجار الجنة الكثيرة مندوحة عنها (شِئْتُما) الجملة الفعلية في محل جر بإضافة ظرف المكان إليها (وَلا تَقْرَبا) الواو حرف عطف ولا ناهية وتقربا فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والألف فاعل (هذِهِ) اسم اشارة في محل نصب مفعول به (الشَّجَرَةَ) بدل من اسم الاشارة (فَتَكُونا) الفاء فاء السببية وتكونا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية والألف ضمير متصل في محل رفع اسم تكونا (مِنَ الظَّالِمِينَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر تكونا (فَأَزَلَّهُمَا) الفاء عاطفة على محذوف مقدر يقتضيه سياق الكلام أي فأكلا من الشجرة عينها وأزلهما فعل ماض مبني على الفتح والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به والميم والألف حرفان دالّان على التثنية (الشَّيْطانُ) فاعل أزلّ (عَنْها) الجار والمجرور متعلقان بأزلهما أو بمحذوف حال (فَأَخْرَجَهُما) عطف على أزلهما (مِمَّا) جار ومجرور متعلقان بأخرجهما (كانا) فعل ماض ناقص والألف اسمها (فِيهِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كانا (وَقُلْنَا) معطوف على ما تقدم وجملة كان لا محل لها لأنها صلة الموصول (اهْبِطُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول القول (بَعْضُكُمْ) مبتدأ (لِبَعْضٍ) متعلق بقوله (عَدُوٌّ) وهو خبر المبتدأ أو متعلق بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لعدو وتقدمت عليه. وجملة بعضكم إلخ جملة اسمية في محل نصب حال أي متعادين (وَلَكُمْ) الواو حرف عطف ولكم متعلقان بمحذوف خبر مقدم(1/86)
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
(فِي الْأَرْضِ) متعلقان بالاستقرار الذي تعلق به الخبر أو بمحذوف حال (مُسْتَقَرٌّ) مبتدأ مؤخر (وَمَتاعٌ) عطف على مستقر (إِلى حِينٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمتاع أي ممتد الى يوم القيامة.
الفوائد:
(أَبى) من الأفعال الواجبة التي معناها النفي ولهذا يفرغ ما بعد إلا معها كما يفرغ الفعل المنفي قال تعالى: «ويأبى الله إلا أن يتم نوره» ولا يجوز ضربت إلا زيدا على أن يكون استثناء مفرغا لأن إلا لا تدخل في الواجب.
[سورة البقرة (2) : الآيات 37 الى 38]
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
الإعراب:
(فَتَلَقَّى) الفاء استئنافية وتلقى فعل ماض مبني على الفتح المقدّر (آدَمُ) فاعل (مِنْ رَبِّهِ) الجار والمجرور متعلقان بتلقّى (كَلِماتٍ) مفعول به ونصب بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم (فَتابَ) الفاء حرف عطف على محذوف يقتضيه المقام أي فقالها فتاب (عَلَيْهِ) متعلقان بتاب (إِنَّهُ) ان واسمها (هُوَ) ضمير فصل أو عماد لا محل(1/87)
نه ويجوز أن يكون مبتدأ (التَّوَّابُ) خبر ان الاول (الرَّحِيمُ) خبر إن الثاني ويجوز أن يكونا خبرين لهو والجملة الاسمية خبر لأن (قُلْنَا) فعل وفاعل (اهْبِطُوا) الجملة الفعلية مقول القول (مِنْها) متعلقان باهبطوا (جَمِيعاً) حال من الواو وجملة قلنا اهبطوا تابعة لجملة وقلنا اهبطوا تأكيدا لها ولتناط بها زيادة جديدة (فَإِمَّا) الفاء عاطفة وإن شرطية وما زائدة للتأكيد (يَأْتِيَنَّكُمْ) فعل الشرط مجزوم وبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به (مِنِّي) الجار والمجرور متعلقان بيأتينكم (هُدىً) فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدّرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين (فَمَنْ) الفاء رابطة لجواب الشرط ومن اسم شرط جازم في محلّ مبتدأ (تَبِعَ) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاعل مستتر تقديره هو (هُدايَ) مفعول تبع وعلامة نصبه الفتحة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم المضافة الى هدى والفاء ومدخولها في محل جزم جواب الشرط (فَلا) الفاء رابطة لجواب الشرط وهو من ولا نافية (خَوْفٌ) مبتدأ وساغ الابتداء به وهو نكرة لتقدم النفي عليه وهو أحد مسوّغات الابتداء بالنكرة (عَلَيْهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر خوف ولك أن تعمل لا عمل ليس فيكون خوف اسمها وعليهم خبرها (وَلا) عطف على لا الأولى و (هُمْ) مبتدأ أو اسم لا العاملة عمل ليس (يَحْزَنُونَ) الجملة الفعلية في محل رفع أو نصب خبرهم أو خبر لا وجملة فعل الشرط وجوابه خبر من.
الفوائد:
الراجح عند النحاة أن اسم الشرط إذا وقع مبتدأ وذلك إذا وقع بعده فعل لازم نحو: من يذهب أذهب معه، أو فعل متعدّ استوفى(1/88)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
مفعوله نحو: «من يعمل سوءا يجز به» فالخبر هو جملة فعل الشرط وهناك من النحاة من يجعل جملة الجواب هي الخبر ومنهم من يجعل الخبر جملة فعل الشرط وجوابه معا وهذا ما وقع اختيارنا عليه.
[سورة البقرة (2) : الآيات 39 الى 41]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
اللغة:
(إِسْرائِيلَ) : اختلفوا فيه والأصح أنه علم أعجمي ولهذا منع من الصرف وهو مركب تركيب الاضافة فإن إسرا هو العبد بالعبرية وإيل هو الله وقد تصرّفت العرب فيه بلغات أصحها لغة القرآن، وهو لقب ليعقوب وقرأ أبو جعفر والأعمش إسرائيل بياء بعد الألف من غير همز وروي عن ورش اسرائل بهمزة بعد الألف دون ياء واسرال بألف محضة بين الراء واللام وتروى قراءة عن نافع: اسرائين ابدلوا من اللام نونا كأصيلان، هذا وتتعاقب اللام والنون في كلمات مسموعة منها: عنوان الكتاب وعلوانه وأبّنت وأبّلته إذا أثنيت عليه بعد موته وغيرها.(1/89)
الإعراب:
(وَالَّذِينَ) الواو حرف عطف والذين مبتدأ والجملة معطوفة على قوله في الآية السابقة فمن تبع هداي لأنها قسيمه وكان مقتضى التقسيم أن يقول: ومن لم يتبع هداي، ولكنه عدل عنه ليبرز القسيم مسجلا عليه الكفر (كَفَرُوا) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَكَذَّبُوا) معطوف على كفروا داخل في حيّز الصلة (بِآياتِنا) الجار والمجرور متعلقان بكذبوا (أُولئِكَ) اسم اشارة مبتدأ ثان (أَصْحابُ النَّارِ) خبر أولئك والجملة الاسمية خبر الذين (هُمْ) ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (فِيها) الجار والمجرور متعلقان بخالدون (خالِدُونَ) خبرهم والجملة الاسمية في محل رفع خبر ثان للمبتدأ الذي هو أولئك ويحتمل أن تكون في محل نصب على الحال وأعربها بعضهم مفسرة لا محل لها لقوله: «أولئك أصحاب النار» لبيان أن صحبتهم للنار ليست لمجرد الاقتران بل هي للديمومة والخلود وهو إعراب سائغ وجميل (يا بَنِي) يا حرف نداء وبني منادى مضاف وعلامة نصبه الياء نيابه عن الفتحة لأنه ملحق بجمع المذكر السالم وقد تغيّر بناء مفرده وأصل ابن واويّ والبنوّة دليل عليه وقيل: أصله يائيّ لأنه مشتق من البناء وهو وضع الشيء على الشيء والابن فرع عن الأب فهو موضوع عليه وجمع جمع تكسير فقالوا أبناء وجمع جمع سلامة فقالوا بنون (إِسْرائِيلَ) مضاف اليه مجرور وعلامة جرّه الفتحة نيابة على الكسرة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة (اذْكُرُوا) فعل أمر مبني على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة والواو فاعل (نِعْمَتِيَ) مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم والياء مضاف اليه (الَّتِي) اسم موصول في محل(1/90)
نصب نعت لنعمتي (أَنْعَمْتُ) فعل وفاعل (عَلَيْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بأنعمت وجملة أنعمت لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَأَوْفُوا) عطف على اذكروا (بِعَهْدِي) الجار والمجرور متعلقان بأوفوا (أُوفِ) فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب (بِعَهْدِكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بأوف (وَإِيَّايَ) الواو عطف وإياي ضمير منفصل في محل نصب مفعول به مقدم لا رهبوا مقدّر لاستيفاء فارهبون مفعوله وهو الياء المقدرة والأصل فارهبوني (فَارْهَبُونِ) الفاء في هذا التركيب الذي تكرّر في القرآن كثيرا فيها قولان: أحدهما أنها جواب مقدّر تقديره تنبّهوا أو نحوه كقولك: الكتاب فخذ، أي تنبّه فخذ الكتاب ثم قدم المفعول إصلاحا للّفظ لئلا تقع الفاء صدرا، وثانيهما: أنها زائدة (وَآمِنُوا) عطف على ما تقدم (بِما) الجار والمجرور متعلقان بآمنوا (أَنْزَلْتُ) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (مُصَدِّقاً) حال من اسم الموصول (لِما) اللام حرف جر مقويّة للتعدية وما اسم موصول مبني على السكون في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بمصدقا (مَعَكُمْ) ظرف مكان متعلق بمحذوف لا محلّ له من الإعراب لأنه صلة الموصول (وَلا) الواو حرف عطف ولا ناهية (تَكُونُوا) فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو اسمها (أَوَّلَ) خبر تكونوا (كافِرٍ) مضاف اليه (بِهِ) متعلقان بكافر (وَلا تَشْتَرُوا) عطف على ولا تكونوا (بِآياتِي) الجار والمجرور متعلقان بتشتروا (ثَمَناً) مفعول به لتشتروا (قَلِيلًا) صفة (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) تقدم اعراب هذا التركيب.(1/91)
البلاغة:
في قوله تعالى: «أوف بعهدكم» فن يقال له التعطف وفحواه إعادة اللفظة بعينها في الجملة من الكلام ويسميه بعضهم فن المشاركة، ويدخل في عموم العهد عهد الله الذي أخذه عليهم وعلى البشر كافة وهو التدبّر، ووزن كل ما يعرض لهم في حياتهم بميزان العقل والنظر وهو ميزان لا يطيش، لا بميزان الهوى والغرور وهو ميزان طائش.
الفوائد:
انطوت هذه الآيات الآنفة على فوائد متعددة ندرجها فيما يلي:
1- مقتضى القياس أن يقول: أول كافرين به ليطابق الواو في قوله: تكونوا ولكنه عدل عن ذلك لأسباب هي:
آ- أنه على حذف الموصوف والتقدير أول فريق كافر به.
ب- النكرة المضاف إليها اسم التفضيل يجب افرادها نحو:
أنت أفضل رجل وأنتما أفضل رجل وأنتم أفضل رجل.
2- نحو قوله: «واياي فارهبون» هو من باب الاشتغال وايا فيه منصوبة بفعل محذوف يفسره المذكور ولا يصح أن يكون الضمير مفعولا مقدما للفعل الذي يليه لأن الفعل نصب الضمير الذي بعد نون الوقاية والمحذوف للتخفيف.(1/92)
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
[سورة البقرة (2) : الآيات 42 الى 43]
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
اللغة:
(وَلا تَلْبِسُوا) يقال: لبست الشيء بالشيء: خلطته به والمصدر اللّبس بفتح اللام المشددة.
الإعراب:
(وَلا تَلْبِسُوا) الواو حرف عطف ولا ناهية وتلبسوا: فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعل (الْحَقَّ) مفعول به (بِالْباطِلِ) الجار والمجرور متعلقان بتلبسوا والباء للملابسة أو للاستعانة (وَتَكْتُمُوا) : الواو عاطفة وتكتموا فعل مضارع مجزوم عطفا على تلبسوا داخلة تحت حكم النهي ولك أن تجعلها للمعية وتكتموا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعدها وهي مسبوقة بالنهي (الْحَقَّ) مفعول به (وَأَنْتُمْ) الواو حالية وأنتم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (تَعْلَمُونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل وجملة تعلمون الفعلية خبر أنتم وجملة وأنتم تعلمون الاسمية حالية (وَأَقِيمُوا) الواو عاطفة وأقيموا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (الصَّلاةَ) مفعول به (وَآتُوا الزَّكاةَ) عطف على أقيموا الصلاة (وَارْكَعُوا) عطف أيضا (مَعَ) ظرف ظرف مكان متعلق باركعوا (الرَّاكِعِينَ) مضاف اليه.(1/93)
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
[سورة البقرة (2) : الآيات 44 الى 46]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)
اللغة:
(بِالْبِرِّ) البر بكسر الباء الصلة والطاعة والصلاح والصدق والبر بفتح الباء الصحراء والبر بضمها القمح والواحدة برّة.
(الْخاشِعِينَ) الخشوع: الخضوع والذل ومن مجاز هذه المادة أرض خاشعة أي متطامنة وخشعت الجبال وخشعت دونه الابصار.
الإعراب:
(أَتَأْمُرُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاريّ بل تجاوز هنا الإنكار الى التوبيخ والتقريع والتعجب من حال هؤلاء اليهود لأنه ليس هناك أقبح في العقول من أن يأمر الإنسان غيره بخير وهو لا بأتيه، وتأمرون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل (النَّاسَ) مفعول به (بِالْبِرِّ) الجار والمجرور متعلقان بتأمرون (وَتَنْسَوْنَ) عطف على تأمرون (أَنْفُسَكُمْ) مفعول به (وَأَنْتُمْ) الواو واو الحال وأنتم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (تَتْلُونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة(1/94)
رفعه ثبوت النون وجملة تتلون الفعلية خبر أنتم وجملة وأنتم الاسمية حالية من فاعل تنسون (الْكِتابَ) مفعول به (أَفَلا) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء حرف عطف ولا نافية (تَعْقِلُونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل وسيأتي سر هذا التركيب (وَاسْتَعِينُوا) عطف على ما تقدم (بِالصَّبْرِ) جار ومجرور متعلقان باستعينوا (وَالصَّلاةِ) عطف على الصبر (وَإِنَّها) الواو حالية وان واسمها (لَكَبِيرَةٌ) اللام هي المزحلقة وكبيرة خبر إن (إِلَّا) أداة حصر (عَلَى الْخاشِعِينَ) الجار والمجرور متعلقان بكبيرة فهو استثناء مفرّغ لأن ما قبل إلا ليس فيه ما يتعلق بكبيرة لتستثنى منه فهو كقولك هو كبير عليّ ولأن الكلام مؤول بالنفي أي وإنها لا تخف ولا تسهل إلا على الخاشعين فتنبه لهذا فإنه من الدقائق (الَّذِينَ) اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة للخاشعين (يَظُنُّونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (أَنَّهُمْ) ان واسمها (مُلاقُوا) خبرها (رَبِّهِمْ) مضاف اليه وإن وما في حيزها سدت مفعولي يظنون (وَأَنَّهُمْ) عطف على انهم (إِلَيْهِ) جار ومجرور متعلقان براجعون (راجِعُونَ) خبر انهم.
البلاغة:
في قوله: وأنتم تتلون الكتاب فقد صدّر الكلام بالضمير زيادة في المبالغة وتسجيلا للتبكيت والتوبيخ عليهم بعد أن عبّر عن تركهم فعلهم البر بالنسيان زيادة في مبالغة الترك أي فكأن البرّ لا يخالج نفوسهم ولا يدور لهم في خلد لأن نسيان الشيء يترتب عليه تركه أو استعمال السبب في المسبب.(1/95)
الفوائد:
1- القاعدة في العربية أن ضمير الغائب لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل وقد كان مقتضى الظاهر أن يعود الضمير في قوله: انها على الصلاة لأنها الأقرب جريا على مقتضى الظاهر وكف عن خبر الأول لعلم المخاطب بأن الأول داخل ضمنا فيما دخل فيه الآخر وهو مطرّد في كلامهم. قال الانصاري:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والأمر مختلف
أراد نحن راضون وأنت بما عندك راض فكف عن خبر الأول إذ قام دليل على معناه. ومنه قول الآخر:
إن شرخ الشباب والشعر الأسود ما لم يعاص كان جنونا وقيل يعود على المصدر المفهوم من قوله واستعينوا أي الاستعانة.
2- إذا اجتمعت همزة الاستفهام وحرف العطف ففيها مذهبان:
آ- مذهب سيبويه وهو أن الهمزة في نية التأخير عن حرف العطف ولما كان لها صدر الكلام قدمت عليه وذلك بخلاف هل.
ب- مذهب الزمخشري وهو أن الواو والفاء وثم بعد الهمزة واقعة موقعها وليس في الأمر تقديم ولا تأخير ويجعل بين الهمزة وحرف العطف جملة مقدرة يصح العطف عليها وتلائم سياق الكلام فيقدر هنا: أتفعلون فلا تعقلون ولا نرى مرجحا لأحد المذهبين على الآخر.(1/96)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
3- اللام المزحلقة: هي لام الابتداء زحلقت الى الخبر لدخول إن عليها وقد تزحلق الى الاسم نحو: «إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرا» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 47 الى 48]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
اللغة:
(عَدْلٌ) بفتح العين وهو الفداء لأنه معادل للمفديّ قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه، وبكسر العين هو المساوي في الجنس والجرم ويقال: عدل وعديل.
الإعراب:
(يا) حرف نداء للمتوسط (بَنِي إِسْرائِيلَ) منادى مضاف وقد تقدم القول فيها قريبا (اذْكُرُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (نِعْمَتِيَ) مفعول به (الَّتِي) اسم موصول في محل نصب صفة لنعمتي (أَنْعَمْتُ) فعل وفاعل والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (عَلَيْكُمْ) جار ومجرور متعلقان بأنعمت وقد تقدمت هذه الجملة بنصها وإنما أعيدت للتوكيد وقرع العصا وتنبيه أذهانهم الكليلة عن سماع الخير (وَأَنِّي) الواو حرف عطف وان واسمها عطف(1/97)
على نعمتي فهي في محل نصب ولذلك فتح همزتها (فَضَّلْتُكُمْ) الجملة في محل رفع خبر أني (عَلَى الْعالَمِينَ) جار ومجرور متعلقان بفضّلتكم وال في العالمين للعهد لا للجنس لئلا يلتزم تفضيلهم على جميع الناس والمراد على عالمي زمانهم (وَاتَّقُوا) الواو حرف عطف واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (يَوْماً) مفعول به على حذف مضاف أي عذاب يوم أو هول يوم ويجوز نصبه على الظرفية والمفعول به محذوف تقديره اتقوا العذاب يوما (لا) نافية (تَجْزِي) فعل مضارع (نَفْسٌ) فاعل تجزي والجملة الفعلية في محل نصب صفة ليوما (عَنْ نَفْسٍ) الجار والمجرور متعلقان بتجزي (شَيْئاً) مفعول به ويجوز أن يكون انتصابه على المصدر أي لا تجزي شيئا من الجزاء فيه وفيه إشارة الى القلة والضآلة (وَلا) الواو حرف عطف ولا نافية (يُقْبَلُ) فعل مضارع مبني للمجهول (مِنْها) جار ومجرور متعلقان بتقبل (شَفاعَةٌ) نائب فاعل (وَلا) عطف على ما تقدم (يُؤْخَذُ) فعل مضارع مبني للمجهول (مِنْها) جار ومجرور متعلقان بيؤخذ (عَدْلٌ) نائب فاعل (وَلا) عطف أيضا (هُمْ) ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (يُنْصَرُونَ) فعل مضارع مبني للمجهول والواو ضمير متصل في محل رفع نائب فاعل والجملة الفعلية خبرهم.
البلاغة:
أتى بالجملة المعطوفة الأخيرة وهي «ولا هم ينصرون» اسمية مع أن الجمل التي قبلها فعلية للمبالغة والدلالة على الثبات والدّيمومة أي أنهم غير منصورين دائما ولا عبرة بما يصادفونه من نجاح مؤقت.(1/98)
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
[سورة البقرة (2) : آية 49]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
اللغة:
(يَسُومُونَكُمْ) من سامه خسفا إذا أولاه ظلما. قال عمرو بن كلثوم:
إذا الملك سام الناس خسفا ... أبينا أن نقرّ الذّلّ فينا
وأصله من سام السلعة إذا طلبها.
(بَلاءٌ) محنة واختبار.
الإعراب:
(وَإِذْ) الواو عاطفة، وإذ: ظرف لما مضى من الزّمن متعلق بأذكر مقدرة وقد تقدم القول فيها (نَجَّيْناكُمْ) فعل ماض مبني على السكون ونا ضمير متصل في محل رفع فاعل والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) الجار والمجرور متعلقان بنجيناكم وفرعون مضاف اليه وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة وفرعون يطلق على كل من ملك العمالقة بمصر كقيصر لملك الروم وكسرى لملك الفرس (يَسُومُونَكُمْ) الجملة في محل نصب على الحال(1/99)
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
ويحتمل أن تكون مستأنفة (سُوءَ الْعَذابِ) مفعول به ثان لأن سام يتعدى لاثنين ويحتمل أن تكون منصوبة على المصدرية فهي صفة لمصدر محذوف أي يسومونكم سوما سوء العذاب (يُذَبِّحُونَ) الجملة تفسيرية لا محل لها ولك أن تجعلها بدلا من جملة يسومونكم (أَبْناءَكُمْ) مفعول به (وَيَسْتَحْيُونَ) عطف على يذبحون والاستحياء:
الاستبقاء (نِساءَكُمْ) مفعول يستحيون والنساء جمع نسوة ونسوة جمع امرأة من حيث المعنى وقيل النسوة والنساء جمعان لامرأة على المعنى (وَفِي ذلِكُمْ) الواو مستأنفة والجار والمجرور خبر مقدم (بَلاءٌ) مبتدأ مؤخر (مِنْ رَبِّكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لبلاء (عَظِيمٌ) صفة ثانية لبلاء.
[سورة البقرة (2) : الآيات 50 الى 52]
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
اللغة:
(واعَدْنا) ووعدنا بمعنى واحد وليس هو من باب المفاعلة التي تقتضي المشاركة مثل قولك: عافاه الله وعاقبت اللص.
(مُوسى) علم أعجمي لا ينصرف وهو في الأصل مركب والأصل موشى بالشين المعجمة لأن الماء بالعبرية يقال له مو والشجر يقال له شا(1/100)
فعربته العرب وقالوا: موسى، أما موسى الحلق المعروفة فهي مشتقة من ماس يميس إذا تبختر في مشيته وقلبت الياء واوا لأنها وقعت بعد ضم كموقن لأن الموسى تتحرك عند الحلق بها وقيل: هي مشتقة من اوسيت رأسه إذا حلقته والموسى تذكّر وتؤنث وتجمع على مواسي وموسيات.
الإعراب:
(وَإِذْ) تقدم إعرابها كثيرا (فَرَقْنا) فعل وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (بِكُمُ) الجار والمجرور متعلقان بفرقنا أو بمحذوف حال أي فصلناه ملتبسا بكم والمعنى أن فرق البحر حصل بدخولكم إياه (الْبَحْرَ) مفعول به (فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا) عطف أيضا (آلَ فِرْعَوْنَ) مفعول به وفرعون مضاف اليه (وَأَنْتُمْ) ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (تَنْظُرُونَ) الجملة الفعلية في محل رفع خبر أنتم والجملة الاسمية في محل نصب على الحال من الكاف في أنجيناكم (وَإِذْ) عطف على وإذا الأولى (واعَدْنا) الجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (مُوسى) مفعول به أول (أَرْبَعِينَ) مفعول به ثان ولا يجوز أن ينصب على الظرفية لفساد المعنى إذ ليس وعده في أربعين ليلة وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم (لَيْلَةً) تمييز ملفوظ والعامل في هذا النوع اسم العدد قبله (ثُمَّ) حرف عطف للترتيب مع التراخي (اتَّخَذْتُمُ) معطوف على واعدنا (الْعِجْلَ) مفعول به أول والمفعول الثاني محذوف لأنه مفهوم من سياق الكلام أي إليها (مِنْ بَعْدِهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (وَأَنْتُمْ) الواو حالية وأنتم مبتدأ (ظالِمُونَ) خبره والجملة الاسمية في محل نصب على الحال (ثُمَّ عَفَوْنا)(1/101)
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
عطف على ما تقدم (عَنْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بعفونا (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال والاشارة الى المصدر المفهوم من اتخذ أي من بعد ذلك الاتخاذ (لَعَلَّكُمْ) لعل واسمها (تَشْكُرُونَ) الجملة الفعلية في محل رفع خبر لعل وجملة الرجاء حالية.
[سورة البقرة (2) : الآيات 53 الى 54]
وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
اللغة:
(لِقَوْمِهِ) : القوم: اسم جمع لا واحد له من لفظه وإنما واحده امرؤ وقياسه أن لا يجمع وشذّ جمعه قالوا: أقوام وجمع جمعه قالوا:
أقاويم قيل: يختص بالرجال قال تعالى: «لا يسخر قوم من قوم ...
.. ولا نساء من نساء» وقال زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
وقيل: لا يختص بالرجال بل يطلق على الرجال والنساء قال تعالى:
«إنا أرسلنا نوحا الى قومه» والقول الأول أصوب واندراج النساء في القوم هنا على سبيل الاتساع وتغليب الرجال على النساء وسمّوا قوما لأنهم يقومون بالأمور.(1/102)
(بارِئِكُمْ) : البارئ: الخالق يقال: برأ الله الخلق، أي خلقهم وأصل مادة برأ يدل على انفصال شيء وتميّزه عنه يقال: برأ المريض من مرضه إذا زال عنه المرض وانفصل، وبرىء المدين من دينه إذا زال عنه الدّين وسقط، ومنه البارئ في أوصاف الله تعالى لأنه الذي أخرج الخلق من العدم وفصلهم عنه الى الوجود.
الإعراب:
(وَإِذْ) تقدم القول فيها (آتَيْنا) فعل وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (مُوسَى) مفعول به أول (الْكِتابَ) مفعول به ثان (وَالْفُرْقانَ) الواو حرف عطف والفرقان معطوف على الكتاب والمراد بالكتاب التوراة والفرقان ما يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلالة عطف عليه وان كان المعنى واحدا (لَعَلَّكُمْ) لعل واسمها (تَهْتَدُونَ) الجملة الفعلية خبر لعل وجملة الرجاء حالية (وَإِذْ قالَ مُوسى) عطف على ما تقدم (لِقَوْمِهِ) الجار والمجرور متعلقان بقال (يا قَوْمِ) يا حرف نداء وقوم منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة (إِنَّكُمْ) إن واسمها (ظَلَمْتُمْ) الجملة الفعلية خبر إن (أَنْفُسَكُمْ) مفعول به (بِاتِّخاذِكُمُ) الجار والمجرور متعلقان بظلمتم والباء للسببية أي بسبب اتخاذكم (الْعِجْلَ) مفعول به للمصدر: اتخاذ (فَتُوبُوا) الفاء تعليلية لأن الظلم سبب التوبة وتوبوا فعل أمر مبني على حذف النون (إِلى بارِئِكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بتوبوا (فَاقْتُلُوا) الفاء للعطف والتعقيب (أَنْفُسَكُمْ) مفعول به وسيأتي معنى القتل في باب البلاغة (ذلِكُمْ) اسم إشارة مبتدأ (خَيْرٌ) خبر (لَكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بخير لأنه اسم تفضيل على غير القياس إذا القياس أخير ومثله شر والقياس أشر (عِنْدَ) ظرف متعلق بمحذوف حال (بارِئِكُمْ) مضاف(1/103)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
إليه (فَتابَ) الفاء عاطفة على محذوف والتقدير ففعلتم ما أمركم فتاب (عَلَيْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بتاب (إِنَّهُ) إن واسمها (هُوَ) ضمير فصل أو عماد لا محل له (التَّوَّابُ) خبر ان الاول (الرَّحِيمُ) خبر إن الثاني أو هو مبتدأ خبراه التواب الرحيم والجملة الاسمية خبر إن.
البلاغة:
1- في قوله تعالى: «فاقتلوا أنفسكم» مجاز مرسل علاقته اعتبار ما يئول إليه أي أسلموها للقتل تطهيرا لها أي لينفذ هذا الحكم الصادر وهذا أحد الأقوال في القتل وقيل المراد بقتل الأنفس تذليلها وكبح جماحها فإن القتل يرد بمعنى التذليل ومنه قول حسان بن ثابت في وصف الخمر:
إن التي ناولتني فرددتها ... قتلت، قتلت، فهاتها لم تقتل
أراد مزجها بالماء لتذهب سورتها.
2- الالتفات في قوله: «فتاب عليكم» والالتفات هنا من التكلم الذي يتطلبه سياق الكلام إذ كان مقتضى المقام أن يقول:
فوفقتكم فتبت عليكم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 55 الى 56]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)(1/104)
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
الإعراب:
(وَإِذْ) تقدم القول فيها (قُلْتُمْ) فعل وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (يا) حرف نداء للمتوسط (مُوسى) منادى مفرد علم (لَنْ) حرف نفي ونصب واستقبال (نُؤْمِنَ) فعل مضارع منصوب بلن، وفاعله ضمير مستتر تقديره نحن، والجملة مقول القول (لَكَ) الجار والمجرور متعلقان بنؤمن (حَتَّى) حرف غاية وجر (نَرَى) فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد حتى (اللَّهَ) مفعول به (جَهْرَةً) مفعول مطلق لأنها مصدر جهر أي قرأ بصوت عال فهي بمثابة الذي يرى بالعين ويجوز أن تعرب نصبا على الحال أي جاهرين بالرؤية (فَأَخَذَتْكُمُ) الفاء عاطفة وأخذتكم فعل ماض والتاء تاء التأنيث الساكنة والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به مقدم (الصَّاعِقَةُ) فاعل والجملة معطوفة على قلتم (وَأَنْتُمْ) الواو حالية وأنتم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (تَنْظُرُونَ) فعل مضارع والواو فاعل وجملة تنظرون خبر أنتم وجملة أنتم تنظرون في محل نصب حال (ثُمَّ) حرف عطف للترتيب والتراخي (بَعَثْناكُمْ) فعل ماض وفاعل ومفعول به (مِنْ بَعْدِ) الجار والمجرور متعلقان ببعثناكم (مَوْتِكُمْ) مضاف إليه (لَعَلَّكُمْ) لعل واسمها وجملة (تَشْكُرُونَ) خبرها وجملة بعثناكم عطف على جملة فأخذتكم.
[سورة البقرة (2) : آية 57]
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)(1/105)
اللغة:
(الغمام) : السحاب الأبيض.
(وَظَلَّلْنا) جعلناه يظلّلكم.
(الْمَنَّ) : نبات خاص يستعمل طعاما ويسمى الترنجبين.
(السَّلْوى) : طير معروف يسمى السمانى بضم السين وفتح النون بعدها ألف مقصورة ويعرف في بلاد الشام بالفرّي.
الإعراب:
(وَظَلَّلْنا) الواو عاطفة وظللنا فعل وفاعل (عَلَيْكُمُ) جار ومجرور متعلقان بظللنا (الْغَمامَ) مفعول به وهذه الجملة متصلة بما قبلها في سياق الذكرى منفصلة عنها في الوقوع فإن التظليل استمر إلى دخولهم أرض الميعاد ولولا أن ساق الله إليهم الغمام يظلّلهم في التّيه لسفعتهم الشمس ولفحت وجوههم ولا معنى لوصف الغمام بالرقيق كما قال كثير من المفسرين بل السياق يقتضي كثافته إذ لا يحصل الظل الظليل الذي يفيده حرف التظليل إلا بحساب كثيف يمنع حر الشمس ووهجها (وَأَنْزَلْنا) عطف على وظلّلنا (عَلَيْكُمُ) جار ومجرور متعلقان بأنزلنا (الْمَنَّ) مفعول به (وَالسَّلْوى) عطف على المن (كُلُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وجملة كلوا في محل نصب مقول القول أي وقلنا: كلوا (مِنْ طَيِّباتِ) جار ومجرور متعلقان بكلوا (ما) اسم موصول في محل جر بالاضافة (رَزَقْناكُمْ) فعل وفاعل ومفعول(1/106)
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَما) الواو حرف عطف وما نافية (ظَلَمُونا) فعل وفاعل ومفعول والجملة معطوفة على محذوف يقتضيه سياق الكلام والتقدير فظلموا أنفسهم بكفران تلك النعمة السابغة (وَلكِنْ) الواو حالية ولكن حرف استدراك أهمل لتخفيف نونه (كانُوا) كان واسمها (أَنْفُسَهُمْ) مفعول به مقدّم ليظلمون (يَظْلِمُونَ) فعل مضارع والواو فاعل والجملة الفعلية خبر كانوا وجملة لكن وما في حيزها في محل نصب على الحال.
[سورة البقرة (2) : آية 58]
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
اللغة:
(الْقَرْيَةَ) مشتقة من قريت أي جمعت لجمعها أهلها تقول: قريت الماء في الحوض أي جمعته واختلف في القرية فقيل: هي بيت المقدس وقيل: هي أريحا وهي قرية بغور الأردن.
(حِطَّةٌ) : فعلة بكسر الحاء من الحطّ.
الإعراب:
(وَإِذْ) تقدم القول فيها (قُلْنَا) فعل وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (ادْخُلُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة في محل نصب مقول القول (هذِهِ) الهاء حرف تنبيه(1/107)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
وذه اسم إشارة في محل نصب على المفعولية اتساعا (الْقَرْيَةَ) بدل من اسم الاشارة (فَكُلُوا) الفاء حرف عطف وكلوا عطف على ادخلوا (مِنْها) الجار والمجرور متعلقان بكلوا (حَيْثُ) ظرف مكان مبنى على الضم متعلق بمحذوف حال أي متنقلين (شِئْتُمْ) فعل وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (رَغَداً) مفعول مطلق أو حال (وَادْخُلُوا) عطف على ادخلوا (الْبابَ) مفعول به على السعة (سُجَّداً) حال أي متواضعين متطامين كحال الساجد (وَقُولُوا) عطف على وادخلوا (حِطَّةٌ) خبر لمبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة أو أمرنا خطة والجملة الاسمية مقول القول والأصل فيها النصب لأن معناها حط عنا ذنوبنا ولكنه عدل الى الرفع للدلالة على ديمومة الحط والثبات عليه (نَغْفِرْ) فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب (لَكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بنغفر (خَطاياكُمْ) مفعول به (وَسَنَزِيدُ) الواو استئنافية ونزيد فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره نحن (الْمُحْسِنِينَ) مفعول به.
الفوائد:
كل ما كان من ظروف المكان محدودا غير مشتق لا يجوز نصبه على الظرفية بل يجب جرّه بفي نحو جلست في الدار وأقمت في البلد وصليت في المسجد، إلا إذا وقع بعد دخل ونزل وسكن فيجوز نصبه على الظرفية أو على نزع الخافض والصحيح أنه منصوب على المفعولية اتّساعا.
[سورة البقرة (2) : آية 59]
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)(1/108)
اللغة:
(الرجز) بكسر الراء وسكون الجيم: العذاب.
الإعراب:
(فَبَدَّلَ) الفاء استئنافية وبدل فعل ماض (الَّذِينَ) اسم موصول فاعل وجملة (ظَلَمُوا) لا محل لها لأنها صلة الموصول (قَوْلًا) مفعول به (غَيْرَ) صفة لقولا (الَّذِي) اسم موصول مضاف اليه (قِيلَ) فعل ماض مبني للمجهول (لَهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بقيل (فَأَنْزَلْنا) الفاء حرف عطف وأنزلنا عطف على الجملة السابقة (عَلَى الَّذِينَ) جار ومجرور متعلقان بأنزلنا (ظَلَمُوا) الجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (رِجْزاً) مفعول به (مِنَ السَّماءِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرجزا أو بأنزلنا (بِما) الباء حرف جر وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالباء أي بسبب فسقهم (كانُوا) كان واسمها وجملة (يَفْسُقُونَ) خبرها.
البلاغة:
في هذه الآية ضرب من البلاغة دقيق المسلك وهو وضع الظاهر موضع المضمر زيادة في تقبيح أمرهم وقد رمقه البحتري في مطلع سينيته فقال:
صنت نفسي عما يدنّس نفسي ... وترفعت عن جدا كلّ جبس(1/109)
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
فلم يقل يدنسها وإنما وضع الظاهر موضع المضمر لهذا الغرض الجليل.
[سورة البقرة (2) : آية 60]
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
اللغة:
(تَعْثَوْا) يقال عثا يعثوا وعثي يعثى أي أفسد.
الإعراب:
(وَإِذِ) تقدم القول فيها (اسْتَسْقى) فعل ماض (مُوسى) فاعل (لِقَوْمِهِ) جار ومجرور متعلقان باستسقى (فَقُلْنَا) الفاء عاطفة وقلنا:
فعل وفاعل (اضْرِبْ) فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والجملة في محل نصب مقول القول (بِعَصاكَ) الجار والمجرور متعلقان باضرب (الْحَجَرَ) مفعول به (فَانْفَجَرَتْ) الفاء هي الفصيحة وسيأتي الحديث عنها في الفوائد وانفجرت فعل ماض والتاء تاء التأنيث الساكنة أي فامتثل الأمر فضرب أو فإن ضربت فقد انفجرت (مِنْهُ) الجار والمجرور متعلقان بانفجرت (اثْنَتا عَشْرَةَ) فاعل انفجرت وعلامة رفعه الألف لأنه ملحق بالمثنى وعشرة جزء العدد المركب مبني على الفتح دائما (عَيْناً) تمييز ملفوظ (قَدْ) حرف تحقيق (عَلِمَ) فعل ماض مبني على الفتح(1/110)
(كُلُّ أُناسٍ) فاعل (مَشْرَبَهُمْ) مفعول به والجملة لا محل لها لأنها مستأنفة (كُلُوا وَاشْرَبُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل واشربوا عطف على كلوا (مِنْ رِزْقِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بأي الفعلين شئت (وَلا تَعْثَوْا) الواو عاطفة ولا ناهية وتعثوا فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل (فِي الْأَرْضِ) جار ومجرور متعلقان بتعثوا وجملة كلوا واشربوا: مقول قول محذوف وقد تقدم نظيره (مُفْسِدِينَ) حال وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مذكر سالم.
الفوائد:
الفاء الفصيحة: سميت بذلك لأنها أفصحت عن مقدر ذلك لأنه لما ذكر عقب الأمر بالضرب الانفجار دل على أن المطلوب بالأمر الانفجار فلذا حذف الضرب على تقدير فضربه دلالة على أن المأمور التزم الأمر أي أن المحذوف قد يكون جملة هي السبب المذكور فسميت فصيحة من باب المجاز العقلي.(1/111)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
[سورة البقرة (2) : آية 61]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61)
اللغة:
(البقل) : كل ما تنبته الأرض من النّجم مما لا ساق له وجمعه بقول.
(القثّاء) : معروف والواحدة قثاءة بكسر القاف وضمها والهمزة أصلية لأن الفعل اقثأت الأرض أي كثر قثاؤها.
(الفوم) : الحنطة وقيل الثوم ولعله أرجح بدليل قراءة ابن مسعود «وثومها» .
(الْمَسْكَنَةُ) مصدر ميمي من السكون والخزي لأن المسكين قليل الحركة والنهوض لما به من الفقر والمسكين مفعيل مبالغة منه قالوا:
ولا يوجد يهودي غني النفس.
(باؤُ) : رجعوا.
الإعراب:
(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى) تقدم اعرابها قريبا (لَنْ نَصْبِرَ) لن حرف نفي ونصب واستقبال ونصبر فعل مضارع منصوب بلن وفاعله ضمير مستتر وجوبا تقديره نحن (عَلى طَعامٍ) الجار والمجرور متعلقان بنصبر (واحِدٍ) صفة لطعام (فَادْعُ) الفاء استئنافية وادع فعل أمر مبني على(1/112)
حذف حرف العلة وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت (لَنا) جار ومجرور متعلقان بادع (رَبَّكَ) مفعول به (يُخْرِجْ) فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب (لَنا) جار ومجرور متعلقان بيخرج (مِمَّا) جار ومجرور متعلقان بيخرج (تُنْبِتُ) فعل مضارع (الْأَرْضُ) فاعل وجملة تنبت الأرض لا محل لها لأنها صلة الموصول (مِنْ بَقْلِها) الجار والمجرور بدل بإعادة الجار أو بمحذوف حال من الضمير المحذوف وهو العائد على الموصول أي تنبته (وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها) أسماء معطوفة على بقلها (قالَ) فعل ماض مبني على الفتح وفاعله ضمير مستتر تقديره هو والجملة استئنافية (أَتَسْتَبْدِلُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري مع التوبيخ وجملة أتستبدلون مقول القول (الَّذِي) اسم موصول مفعول به (هُوَ) مبتدأ (أَدْنى) خبر والجملة الاسمية لا محل لها من الإعراب لأنها صلة (بِالَّذِي) الجار والمجرور متعلقان بتستبدلون (هُوَ) مبتدأ (خَيْرٌ) خبر (اهْبِطُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول قول محذوف أي قلنا (مِصْراً) مفعول به بمعنى انزلوا (فَإِنَّ) الفاء تعليلية وإن حرف مشبه بالفعل (لَكُمْ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر إن المقدم (ما) اسم موصول في محل نصب اسم إن وجملة (سَأَلْتُمْ) لا محل لها من الإعراب لأنها صلة (وَضُرِبَتْ) الواو استئنافية وضربت فعل ماض مبني للمجهول والتاء تاء التأنيث الساكنة (عَلَيْهِمُ) جار ومجرور متعلقان بضربت (الذِّلَّةُ) نائب فاعل ضربت (وَالْمَسْكَنَةُ) عطف على الذّلة (وَباؤُ) عطف على ضربت (بِغَضَبٍ) جار ومجرور متعلقان بباءوا (مِنَ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لغضب (ذلِكَ) اسم إشارة مبتدأ(1/113)
(بِأَنَّهُمْ) الباء حرف جر وان واسمها، وان ما في حيزها في محل جر بالباء أي ذلك كله بسبب كفرهم والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر والجملة استئنافية لا محل لها (كانُوا) كان واسمها والجملة خبر ان (يَكْفُرُونَ) الجملة الفعلية خبر كانوا (بِآياتِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بيكفرون (وَيَقْتُلُونَ) عطف على يكفرون (النَّبِيِّينَ) مفعول به (بِغَيْرِ الْحَقِّ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي حالة كونهم ظالمين متنكرين للحق في اعتقادهم ولو أنصفوا لاعترفوا بالواقع (ذلِكَ) اسم الاشارة مبتدأ (بِما عَصَوْا) الباء حرف جر وما مصدرية مؤولة مع الفعل بمصدر مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر ذلك (وَكانُوا) عطف على عصوا وكان واسمها (يَعْتَدُونَ) جملة فعلية في محل نصب خبر كانوا.
البلاغة:
الكناية في ضرب الذلة والمسكنة وهي كناية عن نسبة أراد أن يثبت ديمومة الذلة والمسكنة عليهم فكنى بضربها عليهم كما يضرب البناء وقد رمق الشعراء سماء هذه الكناية فقال الفرزدق بهجو جرير:
ضربت عليك العنكبوت بنسجها ... وقضى عليك به الكتاب المنزل
الفوائد:
الباء مع الابدال تدخل على المتروك لا على المأتيّ به.(1/114)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
[سورة البقرة (2) : آية 62]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
اللغة:
(هادُوا) تهوّدوا يقال: هاد يهود وتهوّد ويتهوّد إذا دخل في اليهودية وهو هائد والجمع هود.
(النَّصارى) جمع نصران ونصرانيّ، يقال: رجل نصران ونصرانيّ وامرأة نصرانة ونصرانيّة والياء في نصرانيّ للمبالغة سمّوا بذلك لأنهم نصروا السيد المسيح أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها:
نصران أو ناصرة فسموا باسمها قال سيبويه: لا يستعمل في الكلام إلا مع ياء النسب.
(الصَّابِئِينَ) : جمع صابىء من صبأ فلان إذا خرج من الدين والصابئة قوم كانوا يعبدون النجوم ومنهم أبو اسحق الصابىء الكاتب الشاعر المشهور.
الإعراب:
(إِنَّ) حرف مشبه بالفعل (الَّذِينَ) اسم موصول اسمها (آمَنُوا) الجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (وَالَّذِينَ) عطف على الذين الأولى وجملة (هادُوا) لا محل لها وجملة إن وما تلاها مستأنفة (وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ) عطف على اسم ان (مَنْ) اسم موصول بدل من اسم إن وجملة (آمَنَ) صلة الموصول لك أن تجعلها شرطية في محل رفع مبتدأ (بِاللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بآمن (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) عطف على الله (وَعَمِلَ) عطف على آمن (صالِحاً) مفعول به لعمل أو مفعول مطلق(1/115)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)
أي عمل عملا صالحا (فَلَهُمْ) الفاء جيء بها لتضمن الموصول معنى الشرط أو رابطة لجواب الشرط ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (أَجْرُهُمْ) مبتدأ مؤخر والجملة خبر إن إذا جعلنا من موصولة أو في محل جزم جواب الشرط إذا جعلناها شرطية والجملة بكاملها في محل رفع خبر إن (عِنْدَ رَبِّهِمْ) الظرف متعلق بمحذوف حال أي مستحقا أو مستقرا (وَلا خَوْفٌ) الواو عاطفة ولا نافية وخوف مبتدأ ساغ الابتداء به لتقدم النفي عليه (عَلَيْهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر خوف (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) عطف على ما تقدم وقد تقدم إعراب نظيرها تماما.
[سورة البقرة (2) : الآيات 63 الى 64]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64)
اللغة:
(الطُّورَ) : من جبال فلسطين ويطلق على كل جبل كما في القاموس.
الإعراب:
(وَإِذْ أَخَذْنا) تقدم اعراب نظائرها وجملة أخذنا في محل جر بإضافة الظرف إليها (مِيثاقَكُمْ) مفعول به (وَرَفَعْنا) عطف على أخذنا (فَوْقَكُمُ) الظرف متعلق برفعنا (الطُّورَ) مفعول به (خُذُوا) فعل(1/116)
أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول قول محذوف أي قلنا: خذوا وجملة القول حالية والتقدير قائلين خذوا (ما) اسم موصول مفعول خذوا وجملة (آتَيْناكُمْ) لا محل لها من الإعراب لأنها صلة ما (بِقُوَّةٍ) الجار والمجرور في محل نصب حال والمعنى خذوا ما آتيناكم حال كونكم عازمين على الجد والعمل (وَاذْكُرُوا) عطف على خذوا (ما) اسم موصول مفعول اذكروا (فِيهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول (لَعَلَّكُمْ) لعل واسمها وجملة (تَتَّقُونَ) خبرها (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) عطف يفيد التراخي إشعارا بأن هناك امتثالا للأمر ثم إعراضا عنه (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الجار والمجرور متعلقان بتوليتم (فَلَوْلا) الفاء عاطفة ولولا حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط (فَضْلُ اللَّهِ) مبتدأ خبره محذوف تقديره موجود (عَلَيْكُمْ) جار ومجرور متعلقان بفضل (وَرَحْمَتُهُ) عطف على فضل (لَكُنْتُمْ) اللام واقعة في جواب لولا وكان واسمها (مِنَ الْخاسِرِينَ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كنتم والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم.
الفوائد:
(لولا) حرف امتناع لوجود وتختصّ بالجملة الاسمية والاسم الواقع بعدها مبتدأ خبره واجب الحذف لدلالة الكلام عليه وسدّ جواب لولا مسده في حصول الفائدة وحكم اللام في جوابها أن الكلام إن كان مثبتا فالكثير دخول اللام كما في هذه الآية ونظائرها وإن كان منفيا فإن كان حرف النفي ما فالكثير فيه حذف اللام ويقلّ الإتيان بها.(1/117)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
قال المتنبي:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرا وحنا سبلا
وإن كان حرف النفي غير ما فترك اللام واجب.
قال عمر بن أبي ربيعة:
عوجي علينا ربة الهودج ... لو لاك في ذا العام لم أحجج
لئلا يتوالى لامان ومثل لولا في جميع أحكامها لو ما.
[سورة البقرة (2) : الآيات 65 الى 66]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
اللغة:
(السَّبْتِ) : في الأصل مصدر سبت أي قطع العمل وهو إما مأخوذ من السبوت الذي هو الراحة والدّعة وإما من السّبت وهو القطع لأن الأشياء فيه سبتت وتمّ خلقها ثم سمي به هذا اليوم من الآسبوع (خاسِئِينَ) : مبعدين مطرودين من الخسوء وهو الصّغار والطرد.
(نَكالًا) : النكال: المنع والنكل اسم للقيد من الحديد وسمي العقاب نكالا لأنه يمنع غير المعاقب أن يفعل فعله ويمنع المعاقب أن يعود إلى فعله الأول.(1/118)
الإعراب:
(وَلَقَدْ) الواو استئنافية واللام جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق (عَلِمْتُمُ) فعل وفاعل (الَّذِينَ) اسم موصول مفعول به (اعْتَدَوْا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (مِنْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير في اعتدوا (فِي السَّبْتِ) والجار والمجرور متعلقان باعتدوا لأنه ظرف الاعتداء وقيامهم بصيد السمك وقد نهوا عنه (فَقُلْنا) الفاء عاطفة وقلنا: فعل وفاعل والجملة معطوفة على جملة اعتدوا (لَهُمْ) جار ومجرور متعلقان بقلنا (كُونُوا) فعل أمر ناقص مبني على حذف النون والواو اسمها (قِرَدَةً) خبرها (خاسِئِينَ) خبر ثان ولا مانع من جعلها صفة وقيل كلاهما خبر وانهما نزلا منزلة الكلمة الواحدة وهو قول جيد (فَجَعَلْناها) الجملة معطوفة على ما تقدم (نَكالًا) مفعول جعلنا الثاني وانما أتى الضمير في جعلناها لأنه يعود على المسخة المفهومة من مطاوي الكلام (لِما) اللام حرف جر وما اسم موصول في محل جر باللام والجار والمجرور صفة لنكالا (بَيْنَ يَدَيْها) الظرف معلق بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول (وَما) عطف على ما (خَلْفَها) ظرف متعلق بمحذوف صلة ما الثانية (وَمَوْعِظَةً) عطف على نكالا (لِلْمُتَّقِينَ) الجار والمجرور صفة لموعظة.
الفوائد:
للمفسرين كلام طويل في قصة هذا الاعتداء وخلاصتها أنه تعالى حرّم العمل عليهم وصبد الحيتان في يوم السبت، فكان يكثر ظهورها فيه وتذهب بذهابه فتحيلوا في صيده بأنواع الحيل كحفر حفيرة أو(1/119)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
ربط الحيتان فإذا مضى السبت أخذوه ثم كثر ذلك حتى صار ديدنا لهم إلى آخر تلك القصة الممتعة التي تصور طبيعة اليهود وتفننهم في الكيد.
[سورة البقرة (2) : آية 67]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67)
الإعراب:
(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) : تكرر إعراب نظائرها (إِنَّ اللَّهَ) إن واسمها وجملة (يَأْمُرُكُمْ) خبرها (إِنَّ) حرف مصدريّ ونصب (تَذْبَحُوا) فعل مضارع منصوب بأن، وان وما في حيّزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي بأن تذبحوا بقرة (بَقَرَةً) مفعول به (قالُوا) : فعل وفاعل (أَتَتَّخِذُنا) الهمزة للاستفهام الاستنكاري وتتخذنا: فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول (هُزُواً) مفعول به ثان والجملة الفعلية مقول القول (قالَ) فعل ماض وفاعله هو وجملة (أَعُوذُ بِاللَّهِ) مقول القول (أَنْ أَكُونَ) أن وما في حيزها مصدر منصوب بنزع الخافض أي من أن أكون واسم أكون مستتر تقديره أنا (مِنَ الْجاهِلِينَ) خبرها.
[سورة البقرة (2) : آية 68]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68)(1/120)
اللغة:
(الفارض) : المسنّة لأنها فرضت سنّها أي قطعتها وبلغت آخرها.
(البكر) الفتية الصغيرة.
(العوان) النصف في السنّ والجمع عون بضم العين وسكون الواو وقال الكسائي. العوان: التي قد كان لها زوج ومنه قيل:
حرب عوان.
الإعراب:
(قالُوا) فعل وفاعل (ادْعُ) فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والجملة مقول القول (لَنا) جار ومجرور متعلقان بادع (رَبَّكَ) مفعول به (يُبَيِّنْ) فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب (لَنا) جار ومجرور متعلقان بيبين (ما) اسم استفهام في محل رفع مبتدأ (هِيَ) ضمير منفصل في محل رفع خبر والجملة الاسمية في محل نصب مفعول يبين (قالَ) فعل ماض (إِنَّهُ) ان واسمها وكسرت همزة إن لسبقها بالقول وجملة (يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ) خبر إن وجملة ان وما في حيزها مقول القول (لا) نافية (فارِضٌ) صفة بقرة (وَلا بِكْرٌ) عطف على ما تقدم وإذا وصفت النكرة بما دخل عليه لا كررت وكذلك الخبر والحال (عَوانٌ) صفة أيضا لبقرة (بَيْنَ ذلِكَ) الظرف متعلق بمحذوف صفة لعوان وذلك مضاف إليه وقد نابت الاشارة عن الشيئين حيث وقعت مشارا بها الى الفارض والبكر معا ومثله قول عبد الله بن الزبعرى يوم أحد قبل إسلامه:(1/121)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
إن للخير وللشرّ مدى ... وكلا ذلك وجه وقبل
(فَافْعَلُوا) الفاء هي الفصيحة وافعلوا فعل وفاعل (ما) اسم موصول مفعول به وجملة (تُؤْمَرُونَ) صلة الموصول والعائد محذوف أي به وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية أي فافعلوا أمركم ويكون المصدر بمعنى المفعول أي مأموركم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 69 الى 71]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71)
اللغة:
(فاقِعٌ) : شديد الصفرة يقال في التوكيد أصفر فاقع كما يقال:
أسود حالك وأبيض يقق وأحمر قان وأخضر ناضر.
(لا ذَلُولٌ) لم تذلل للحراثة وإثارة الأرض.
(الشية) بكسر الشين: العلامة والمراد لا لمعة فيها من لون آخر سوى الصفرة.(1/122)
الإعراب:
(قالُوا) فعل وفاعل (ادْعُ) فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة مقول القول (لَنا) جار ومجرور متعلقان بادع (رَبَّكَ) مفعول به (يُبَيِّنْ) جواب الطلب (لَنا) متعلقان بيبين (ما) اسم استفهام مبتدأ (لَوْنُها) خبر والجملة في محل نصب مفعول (قالَ) فعل ماض (إِنَّهُ) ان واسمها وجملة (يَقُولُ) خبرها (إِنَّها بَقَرَةٌ) ان واسمها وخبرها والجملة مقول القول (صَفْراءُ) نعت لبقرة (فاقِعٌ) صفة ثانية (لَوْنُها) فاعل فاقع ويجوز أن يكون فاقع خبرا مقدّما ولونها مبتدأ مؤخر والجملة صفة ثانية لبقرة وكلاهما جيد (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به والجملة صفة ثالثة لبقرة (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) تقدم إعرابها بحروفه فجدّد به عهدا (إِنَّ) حرف مشبه بالفعل (الْبَقَرَ) اسمها والجملة تعليل للسؤال لا محل لها (تَشابَهَ) فعل ماض وفاعله هو والجملة خبر إن (عَلَيْنا) جار ومجرور متعلقان بتشابه (وَإِنَّا) الواو حرف عطف وان واسمها (إِنَّ) حرف شرط جازم (شاءَ) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط (اللَّهُ) فاعل وجواب إن محذوف تقديره اهتدينا (لَمُهْتَدُونَ) اللام المزحلقة ومهتدون خبر إن (قالَ) فعل ماض (إِنَّهُ يَقُولُ) ان واسمها وجملة يقول خبرها (إِنَّها بَقَرَةٌ) تقدم إعراب نظيرها تماما (لا) نافية (ذَلُولٌ) صفة بقرة (تُثِيرُ الْأَرْضَ) الجملة الفعلية في محل رفع صفة ثانية والمقصود نفي اثارتها للارض (وَلا) الواو حرف عطف ولا مزيدة لتأكيد الأولى لأن المعنى لا ذلول تثير وتسقي على أن الفعلين صفتان لذلول فكأنه قيل لا ذلول صفتها انها مثيرة وساقية فالنفي مسلط على الموصوف وصفته(1/123)
ونرجىء القول في هذا التركيب العجيب الى باب الفوائد (تَسْقِي الْحَرْثَ) فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به (مُسَلَّمَةٌ) صفة ثالثة أي سلمها الله من العيوب (لا) نافية للجنس من أخوات إن (شِيَةَ) اسمها المبني على الفتح (فِيها) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر والجملة صفة رابعة (قالُوا) فعل وفاعل (الْآنَ) ظرف زمان متعلق بجئت (جِئْتَ) جملة جئت مقول القول (بِالْحَقِّ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي متلبسا بالحق (فَذَبَحُوها) معطوف على محذوف يتطلبه السياق أي فطلبوها فوجدوها وذبحوها ولك أن تجعل الفاء فصيحة أي فلما حصلت لهم هذه البقرة الجامعة لأشتات هذا الوصف ذبحوها (وَما) الواو عاطفة وما نافية (كادُوا) كاد واسمها لأنها من أفعال المقاربة العاملة عمل كان وجملة (يَفْعَلُونَ) خبر كادوا.
البلاغة:
1- في هذه الآيات المتقدمة فن التكرير وهو داخل في باب الاطناب كأنهم يكررون السؤال استكناها لحقيقة البقرة وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم» .
2- أسرار كاد في العربية كثيرة فهي تدخل على الفعل لإفادة معنى المقاربة في الخبر فإذا دخلت عليها النفي لم تكن إلا لنفي الخبر كأنك قلت: إذا أخرج يده يكاد لا يراها فكاد هذه إذا استعملت بلفظ الإيجاب كان الفعل غير واقع وإذا اقترن بها حرف النفي كان الفعل بعدها قد وقع ولهذا اختلف في معنى الكيدودة هنا وعلى كل حال هي(1/124)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
صورة مجسدة لطبائع اليهود ولجوئهم الى اللجاج والمكابرة، فقد فعلوا الذبح بعد لجاج طويل وتعنت ما عليه مزيد.
الفوائد:
1- احتدم الخلاف بين المعربين حول قوله ولا تسقي الحرث فقد شجر الخلاف بين أبي حاتم وأبي البقاء من جهة وبين الزمخشري وأبي حيان من جهة ثانية وقد اخترنا في الإعراب أسهل الأوجه وأقربها الى المنطق.
2- الآن: ظرف زمان يقتضي الحال ويخلص المضارع وهو لازم للظرفية لا يتصرّف وبني لتضمنه معنى الاشارة كأنك قلت:
هذا الوقت، واختلف في حرف التعريف الداخل عليه فقيل هو لمحض التعريف الحضوري وقيل: هو حرف زائد لازم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 72 الى 73]
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
اللغة:
(ادّارأتم) : تدافعتم لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضا أي يدفعه ويزحمه والمعنى. اتهم بعضكم بعضا لطمس معالم الجريمة ودرء الشبهة عنه.(1/125)
الإعراب:
(وَإِذْ) عطف على القصة الآنفة ونزولهما على ترتيب وجودهما فيكون أنه تعالى قد أمرهم بذبح البقرة فذبحوها وهم لا يعلمون ما وراء ذلك الأمر ثم وقع بعد ذلك أمر القتل فأظهر لهم سبحانه ما كان قد أخفاه من الحكمة (قَتَلْتُمْ) الجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (نَفْساً) مفعول به (فَادَّارَأْتُمْ) عطف على قتلتم (فِيها) جار ومجرور متعلقان بادارأتم (وَاللَّهُ) الواو اعتراضية والله مبتدأ (مُخْرِجٌ) خبر والجملة لا محل لها لأنها اعتراضية (ما) اسم موصول مفعول به لمخرج لأنه اسم فاعل (كُنْتُمْ) كان واسمها (تَكْتُمُونَ) جملة فعلية في محل نصب خبر كنتم والجملة لا محل لها لأنها صلة ما (فَقُلْنا)
عطف (اضْرِبُوهُ)
فعل أمر مبني على حذف النون وواو الجماعة فاعل والهاء مفعول به والجملة مقول القول (بِبَعْضِها)
جار ومجرور متعلقان باضربوه (كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى)
جار ومجرور في محل نصب مفعول مطلق مقدم لأنه في الأصل وصف للمصدر والتقدير يحيي الله الموتى إحياء مثل ذلك الإحياء (وَيُرِيكُمْ)
عطف على يحيي والكاف مفعول به أول (آياتِهِ)
مفعول به ثان (لَعَلَّكُمْ)
لعل واسمها (تَعْقِلُونَ)
الجملة في محل رفع خبر لعل.(1/126)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
[سورة البقرة (2) : آية 74]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
الإعراب:
(ثُمَّ) حرف عطف للتراخي واستبعاد القسوة من بعد ما ذكر من موجبات الليونة للقلوب (قَسَتْ) فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والتاء تاء التأنيث الساكنة (قُلُوبُكُمْ) فاعل (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) جار ومجرور متعلقان بقست وذلك مضاف إليه (فَهِيَ) الفاء عاطفة وهي مبتدأ (كَالْحِجارَةِ) الكاف اسم بمعنى مثل خبر والحجارة مضاف إليه ولك أن تجعلها جارة والجار والمجرور خبر هي (أَوْ) حرف عطف للتخيير أو للابهام أو للتنويع (أَشَدُّ) معطوف على الكاف إذا كانت اسما أو على كالحجارة لأن الجار والمجرور في موضع رفع (قَسْوَةً) تمييز وكان القياس أن يقول:
أقسى لأن اسم التفضيل يأتي من الثلاثي المستوفي شروطه ولكنه عدل عن ذلك لأن سياق القصة يقتضي العدول الى الإسهاب وزيادة التهويل بذكر لفظ الشّدّة (وَإِنَّ) الواو استئنافية وإن حرف مشبه (مِنَ الْحِجارَةِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها المقدم (لَما) اللام هي المزحلقة وما اسم موصول في محل نصب اسمها المؤخر (يَتَفَجَّرُ) فعل مضارع مرفوع والجملة صلة لا محل لها (مِنْهُ) جار ومجرور متعلقان بيتفجر (الْأَنْهارُ) فاعل يتفجر (وَإِنَّ) عطف على أن الأولى (مِنْها) جار ومجرور خبر مقدم (لَما) اللام المزحلقة وما اسم موصول اسم ان المؤخر (يَشَّقَّقُ) فعل مضارع مرفوع (فَيَخْرُجُ) عطف على يشقق (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ) عطف على ما تقدم (مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) الجار(1/127)
والمجرور متعلقان بيهبط بمثابة التعليل له (وَمَا) الواو استئنافية وما نافية حجازية تعمل عمل ليس (اللَّهِ) اسمها المرفوع (بِغافِلٍ) الباء حرف جر زائد وغافل مجرور لفظا بالباء منصوب محلا على أنه خبر ما (عَمَّا) جار ومجرور متعلقان بغافل (تَعْمَلُونَ) الجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول.
البلاغة:
1- التشبيه المرسل فقد شبه قلوبهم في نبوّها عن الحق، وتجافيها مع أحكامه بالحجارة القاسية ثم ترقى في التشبيه، فجعل الحجارة أكثر لينا من قلوبهم.
2- الاستعارة المكنية التبعية في قوله تعالى: «ثم قست قلوبكم» تشبيها لحال القلوب في عدم الاعتبار والاتعاظ بما هو ماثل أمامها، ناطق بلسان الحال، بالحجارة النابية التي من خصائصها القسوة والصلابة.
3- المجاز العقلي في إسناد الخشية إلى الحجارة وهو كثير في ألسنة العرب.
الفوائد:
(ما الحجازية) سميت حجازية لأنها تعمل عمل ليس في لغة أهل الحجاز، وهي نافية مهملة في لغة تميم ويشترط لاعمالها أربعة شروط:
آ- أن لا يتقدم خبرها على اسمها وإلا أهملت وفي أمثالهم:
ما مسئيء من أعتب.(1/128)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
ب- أن لا يتقدم معمول خبرها على اسمها وإلا أهملت نحو:
ما بك أنا منتصر.
ج- أن لا تراد بعدها إن وإلا بطل عملها كقوله:
بني غدانة ما إن أنتم ذهب ... ولا صريف ولكن أنتم الخزف
د- أن لا ينتقض نفيها بإلا وإلا بطل عملها نحو: «وما محمد إلا رسول» .
[سورة البقرة (2) : آية 75]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
اللغة:
(الطمع) تعلق النفس بإدراك أمر تعلقا قويا فهو أشد من الرجاء يقال: طمع يطمع طمعا وطماعية وطماعية. قال المتنبي:
إلام طماعية العاذل ... ولا رأي في الحبّ للعاقل
الإعراب:
(أَفَتَطْمَعُونَ) الهمزة للاستفهام والمراد به النهي أو الاستنكار وقد تقدم بحث دخول الهمزة على حروف العطف والمعنى: لا تطمعوا في إقناع هؤلاء العتاة الجفاة القاسية قلوبهم (أَنْ يُؤْمِنُوا) أن وما بعدها(1/129)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)
في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض (لَكُمْ) جار ومجرور متعلق بيؤمنوا على تضمين يؤمنوا معنى الانقياد (وَقَدْ) الواو حالية وقد حرف تحقيق (كانَ) فعل ماض ناقص (فَرِيقٌ) اسمها (مِنْهُمْ) جار ومجرور صفة لفريق (يَسْمَعُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وجملة يسمعون خبر كان (كَلامَ اللَّهِ) مفعول به (ثُمَّ) حرف عطف للتراخي (يُحَرِّفُونَهُ) عطف على يسمعون (مِنْ بَعْدِ) الجار والمجرور متعلقان بيحرفونه (ما) مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالاضافة (عَقَلُوهُ) فعل وفاعل ومفعول به (وَهُمْ) الواو حالية وهم مبتدأ (يَعْلَمُونَ) الجملة في موضع رفع خبرهم والجملة الاسمية في موضع نصب على الحال أي والحال أنهم عالمون بكفرهم وعنادهم وافترائهم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 76 الى 77]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77)
الإعراب:
(وَإِذا) الواو استئنافية أو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه متعلّق بجوابه (لَقُوا) فعل ماض مبني على الفتح والواو فاعل وجملة لقوا فعلية لا محل لها من الإعراب لإضافة الظرف إليها (الَّذِينَ) اسم موصول مفعول به (آمَنُوا) فعل وفاعل(1/130)
والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (قالُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم (آمَنَّا) فعل وفاعل والجملة في محل نصب مقول القول (وَإِذا) عطف على وإذا الأولى (خَلا بَعْضُهُمْ) فعل وفاعل والجملة في محل جر باضافة الظرف إليها (إِلى بَعْضٍ) جار ومجرور متعلقان بخلا (قالُوا) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (أَتُحَدِّثُونَهُمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري وتحدثونهم فعل وفاعل ومفعول به والجملة في محل نصب مقول القول (بِما) جار ومجرور متعلقان بتحدثونهم (فَتَحَ اللَّهُ) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (عَلَيْكُمْ) جار ومجرور متعلقان بفتح (لِيُحَاجُّوكُمْ) اللام هي لام العاقبة أو الصيرورة لا للتعليل في المعنى لأنهم لم يقصدوا ذلك وإنما كان المآل والعاقبة له ولكنها مثل لام التعليل في العمل ويحاجوكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام العاقبة أو الصيرورة واللام ومجرورها متعلقان بتحدثونهم (بِهِ) الجار والمجرور متعلقان بيحاجوكم (عِنْدَ رَبِّكُمْ) الظرف متعلق بمحذوف حال (أَفَلا تَعْقِلُونَ) تقدم حكم همزة الاستفهام إذا دخلت على حرف العطف كثيرا (أَوَلا) الهمزة للاستفهام التقريري ومعناه حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف ولا يخلو من التوبيخ والواو عاطفة وهي بنية التقديم على الهمزة وانما أخرت لقوة الهمزة ولا نافية (يَعْلَمُونَ) معطوف على فعل محذوف والمعنى أيلومونهم على التحدث بما ذكر ولا يعلمون (أَنَّ اللَّهَ) ان واسمها وما بعدها سدت مسد مفعولي يعلمون ولذلك فتحت همزتها (يَعْلَمُ) فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره هو والجملة في محل رفع خبر أن (ما) اسم موصول أو مصدرية وهي على كل مع مدخولها مفعول يعلم (يُسِرُّونَ) الجملة لا محل لها على كل حال (وَما يُعْلِنُونَ) عطف عليها.(1/131)
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
[سورة البقرة (2) : الآيات 78 الى 79]
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
اللغة:
(أُمِّيُّونَ) : لا يحسنون الكتابة والقراءة والمفرد أمي نسبة الى الأم لأنه ليس من شعل النساء عندهم أو إلى الأمة وهي القامة والخلقة كأن الذي لا يكتب ولا يقرأ قائم على الفطرة والجبلة أو الى الأمة لأنها ساذجة قبل أن تعرف المعارف.
(أَمانِيَّ) جمع أمنية بتشديد الياء وتخفيفها وهي في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه ويحدس به ولذلك تطلق على الكذب والمراد أنهم لا يعلمون الكتاب إلا كما حدسوه أو تخيلوه في هواجسهم من أنهم شعب الله المختار وأن الله يعفو عنهم وان آباءهم الأنبياء يشفعون لهم وما ذلك كله إلا أكاذيب منمقة لفقها لهم أحبارهم فتناقلوها من دون تمحيص أو رويّة.
(الويل) مصدر لا فعل له من لفظه ولم يجيء من هذه المادة التي فاؤها واو وعينها ياء إلا ويل وويح وويس وويب ولا يثنى ولا يجمع وقيل: يجمع على ويلات قال امرؤ القيس:(1/132)
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة ... فقالت: لك الويلات إنك مرجلي
وإذا أضيف فالأحسن فيه النصب على المفعولية المطلقة لأنه مصدر لفعل أماته العرب وإذا لم يضيف فالأحسن فيه الرفع على الابتداء وساغ الابتداء لتضمنه معنى خاصا والويل معناه الفضيحة والحسرة وقال الخليل: شدة الشر، وقال غيره الويل: الهلكة.
الإعراب:
(وَمِنْهُمْ) الواو حرف عطف ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (أُمِّيُّونَ) مبتدأ مؤخر (لا) نافية (يَعْلَمُونَ) فعل مضارع والواو فاعل (الْكِتابَ) مفعول به وجملة لا يعلمون صفة أميون (إِلَّا) أداة استثناء (أَمانِيَّ) مستثنى بإلا وهو استثناء منقطع لأن الأماني ليست مندرجة تحت مدلول الكتاب ولهذا وجب نصبه رغم تقدم النفي وإنما يكون ذلك كذلك في كل موضع حسن أن يوضع فيه مكان إلا لكن فيعلم حينئذ انقطاع معنى الثاني عن معنى الاول (وَإِنْ) الواو حالية وإن نافية (هُمْ) مبتدأ (إِلَّا) أداة حصر لتقدم النفي، (يَظُنُّونَ) فعل مضارع وفاعل والجملة فعلية خبرهم (فَوَيْلٌ) الفاء استئنافية وويل مبتدأ ساغ الابتداء به لتضمنه معنى الدعاء والتهويل (لِلَّذِينَ) الجار والمجرور خبر ويل (يَكْتُبُونَ) فعل مضارع وفاعل والجملة صلة الموصول (الْكِتابَ) مفعول به (بِأَيْدِيهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بيكتبون (ثُمَّ يَقُولُونَ) عطف على يكتبون (هذا) مبتدأ (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الجار والمجرور خبر والجملة الاسمية مقول القول (لِيَشْتَرُوا) اللام لام التعليل ويشتروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام التعليل والواو فاعل (بِهِ) الجار(1/133)
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
والمجرور متعلقان بيشتروا (ثَمَناً) مفعول به (قَلِيلًا) صفة (فَوَيْلٌ) تقدم إعرابها وكررها للتأكيد (لَهُمْ) الجار والمجرور خبر ويل (مِمَّا) الجار والمجرور متعلقان بويل (كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة ما (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) عطف على ما تقدم وقد سبق اعرابها.
البلاغة:
(الاطناب) بذكر أيديهم فقد ذكرها والكتابة لا تكون إلا بها لتصوير الحالة في النفس كما وقعت، وتجسيبها أمام السامع حتى يكاد يكون مشاهدا لها ولتسجيل الأمر عليهم كما تقول لمن ينكر معرفته ما كتب ووقع: أنت كتبته بيمينك.
[سورة البقرة (2) : الآيات 80 الى 82]
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)
الإعراب:
(وَقالُوا) الواو استئنافية قالوا: فعل وفاعل (لَنْ) حرف نقي ونصب واستقبال (تَمَسَّنَا) فعل مضارع منصوب بلن ونا ضمير متصل(1/134)
في محل نصب مفعول به (النَّارُ) فاعل والجملة فعلية في محل نصب مقول القول (إِلَّا) أداة حصر (أَيَّاماً) نصب على الظرفية الزمانية متعلق بتمسنا (مَعْدُودَةً) صفة لأياما (قُلْ) فعل أمر وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت والجملة استئنافية (أَتَّخَذْتُمْ) حذفت همزة الوصل المتصلة بالماضي الخماسي لاجتماع همزتين والجملة في محل نصب مقول القول (عِنْدَ اللَّهِ) ظرف متعلق باتخذتم (عَهْداً) مفعول به (فَلَنْ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدّر والتقدير ان اتخذتم عند الله عهدا فلن (يُخْلِفَ) فعل مضارع منصوب بلن (اللَّهِ) فاعل (عَهْدَهُ) مفعول به (أَمْ) حرف عطف معادل للاستفهام فهي متصلة ويحتمل أن تكون منقطعة بمعنى بل وكلاهما يفيد معنى التقرير والتوبيخ (تَقُولُونَ) عطف على ما قبله (عَلَى اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بتقولون (ما) اسم موصول مفعول تقولون (لا) نافية (تَعْلَمُونَ) فعل مضارع والواو فاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (بَلى) حرف جواب يثبت ما بعد حرف النفي (مَنْ) اسم شرط جازم مبتدأ (كَسَبَ) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره هو (سَيِّئَةً) مفعول به (وَأَحاطَتْ) عطف على كسب (بِهِ) الجار والمجرور متعلقان بأحاطت (خَطِيئَتُهُ) فاعل أحاطت (فَأُولئِكَ) الفاء رابطة لجواب الشرط واسم الاشارة مبتدأ (أَصْحابُ النَّارِ) خبره (هُمْ) مبتدأ (فِيها) متعلق بخالدون (خالِدُونَ) خبر هم والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط الجازم (وَالَّذِينَ) الواو عاطفة والذين اسم موصول مبتدأ (آمَنُوا) فعل وفاعل والجملة صلة الموصول (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) عطف على آمنوا (أُولئِكَ) مبتدأ أيضا(1/135)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
(أَصْحابُ الْجَنَّةِ) خبر أولئك والجملة الاسمية خبر الذين (هُمْ) مبتدأ (فِيها) الجار والمجرور متعلقان بخالدون (خالِدُونَ) خبرهم والجملة الاسمية خبر ثان لاسم الموصول.
الفوائد:
(بَلى) حرف جواب مثل نعم والفرق بينهما أن بلى تختص بوقوعها بعد النفي لتجعله إثباتا أما نعم ومثلها أجل فان الجواب بهما يتبع ما قبلهما في إثباته ونفيه فإن قلت لرجل: أليس لي عليك ألف درهم؟ فإن قال: بلى، لزمه ذلك وإن قال: نعم لم يلزمه ومن أحرف الجواب إي وجير.
[سورة البقرة (2) : آية 83]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
الإعراب:
(وَإِذْ أَخَذْنا) تقدم إعرابه كثيرا (مِيثاقَ) مفعول به (بَنِي) مضاف إليه مجرور وعلامة جرّه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم (إِسْرائِيلَ) مضاف اليه وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة لأنه علم أعجمي (لا) نافية (تَعْبُدُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل(1/136)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
(إِلَّا) أداة حصر (اللَّهَ) مفعول به والجملة لا محل لها لأنها مفسرة والخبر بمعنى النهي أي (وَبِالْوالِدَيْنِ) الواو حرف عطف على موضع ان المحذوفة في لا تعبدون إلا الله فكان معنى الكلام وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا إلا الله وأحسنوا بالوالدين بالوالدين الجار والمجرور ومتعلقان بفعل المصدر أي وأحسنوا بالوالدين (إِحْساناً) مفعول مطلق لفعل محذوف (وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) عطف على الوالدين (وَقُولُوا) عطف ولكن لا بد من تقدير محذوف أي وقلنا قولوا (لِلنَّاسِ) متعلق بالفعل المحذوف (حُسْناً) صفة لمفعول مطلق محذوف أو قولا حسنا (وَأَقِيمُوا) عطف أيضا على ما تقدم (الصَّلاةَ) مفعول به (وَآتُوا الزَّكاةَ) عطف على أقيموا الصلاة (ثُمَّ) حرف عطف عطفت على محذوف أي فقبلتم الميثاق (تَوَلَّيْتُمْ) فعل وفاعل (إِلَّا) أداة استثناء لأن الكلام تام موجب (قَلِيلًا) مستثنى بإلا (مِنْكُمْ) الجار والمجرور صفة لقليلا (وَأَنْتُمْ) الواو حالية وأنتم مبتدأ (مُعْرِضُونَ) خبر والجملة الاسمية في محل نصب على الحال.
البلاغة:
1- جملة لا تعبدون خبر معناه النهي وهو أبلغ من التصريح به.
2- الالتفات: من الغيبة الى الخطاب في قوله: «لا تعبدون» ومن خطاب بني إسرائيل القدامى الى خطاب الحاضرين منهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 84 الى 85]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)(1/137)
اللغة:
(تَظاهَرُونَ) تتعاونون وحذفت احدى التاءين وأصل المظاهرة المعاونة مشتقة من الظهر لأن بعضهم يقوي بعضا فيكون له كالظهر (تُفادُوهُمْ) تنقذوهم من الأسر بالمال.
الإعراب:
(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) تقدم إعراب هذه الجملة قريبا (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) خبر معناه النهي أيضا وقد تقدم اعراب هذه الجملة (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) عطف على ما تقدم أي اعترفتم على أنفسكم بعد التراخي وطول الأمد (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) ثم حرف عطف وأقررتم فعل وفاعل (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) تقدم إعرابها (ثُمَّ) حرف عطف للتراخي (أَنْتُمْ) مبتدأ (هؤُلاءِ) اسم اشارة في محل نصب على الذم بفعل محذوف تقديره أذمّ وقيل في محل نصب منادى محذوف منه حرف النداء (تَقْتُلُونَ)(1/138)
فعل مضارع والواو فاعل وجملة تقتلون خبر أنتم (أَنْفُسَكُمْ) مفعول به وقيل: اسم الاشارة هو الخبر وجملة تقتلون حال وقد قالت العرب:
ها أنت ذا قائما وإنما أخبر عن الضمير باسم الاشارة في اللفظ وكأنه قال: أنت الحاضر (وَتُخْرِجُونَ) عطف على تقتلون (فَرِيقاً) مفعول به (مِنْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لفريقا (مِنْ دِيارِهِمْ) متعلقان بتخرجون (تَظاهَرُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة في محل نصب حال من الواو أي متعاونين عليهم (عَلَيْهِمْ) جار ومجرور متعلقان بتظاهرون (بِالْإِثْمِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال والمعنى تظاهرون عليهم حال كونهم ملتبسين بالإثم (وَالْعُدْوانِ) عطف على الإثم وهذه الآية عجب في صدق تصويرها لحقيقة هؤلاء الذين نشاهد اليوم مصداقا لها (وَإِنْ) الواو استئنافية وإن شرطية (يَأْتُوكُمْ) فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والكاف مفعول به (أُسارى) حال (تُفادُوهُمْ) جواب الشرط مجزوم (وَهُوَ) الواو حالية وهو مبتدأ وهو المسمى بضمير الشأن وسيأتي الحديث عنه (مُحَرَّمٌ) خبر مقدم (عَلَيْكُمْ) جار ومجرور متعلقان بمحرم (إِخْراجُهُمْ) مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية في محل رفع خبر لضمير الشأن ويجوز أن يعرب قوله محرم خبر هو وإخراجهم نائب فاعل لمحرم لأنه اسم مفعول (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) تقدم إعراب نظيرها (فَما) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدر كأنه قيل إن شئتم أن تعرفوا جزاء من يفعل وما نافية (جَزاءُ) مبتدأ (مِنْ) اسم موصول في محل جر بالاضافة (يَفْعَلُ) فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو والجملة صلة الموصول (ذلِكَ) اسم الاشارة مفعول به(1/139)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
(مِنْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي حال كونه منكم (إِلَّا) أداة حصر (خِزْيٌ) خبر جزاء لأنه استثناء مفرع (فِي الْحَياةِ) الجار والمجرور صفة لخزي (الدُّنْيا) صفة للحياة (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) الواو استئنافية والظرف معلق بيردون (يُرَدُّونَ) الجملة الفعلية لا محل لها من الإعراب لأنها مستأنفة (إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) الجار والمجرور متعلقان بيردون (وَمَا) الواو استئنافية وما نافية حجازية تعمل عمل ليس (اللَّهُ) اسمها المرفوع (بِغافِلٍ) الباء حرف جر زائد وغافل خبر ما محلا (عَمَّا) الجار والمجرور متعلقان بتعملون (تَعْمَلُونَ) الجملة الفعلية صلة الموصول.
[سورة البقرة (2) : آية 86]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
الإعراب:
(أُولئِكَ) اسم الاشارة مبتدأ (الَّذِينَ) اسم موصول خبر (اشْتَرَوُا) الجملة الفعلية لا محل لها لانها صلة الموصول (الْحَياةَ) مفعول به (الدُّنْيا) صفة للحياة (بِالْآخِرَةِ) الجار والمجرور متعلقان باشتروا (فَلا) الفاء الفصيحة ولا نافية (يُخَفَّفُ) فعل مضارع مبني للمجهول والجملة خبر ثان لاسم الاشارة (عَنْهُمُ) الجار والمجرور متعلقان بيخفف (الْعَذابُ) نائب فاعل (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) الواو عاطفة على ما تقدم ولا نافية وهم مبتدأ وجملة ينصرون خبر.(1/140)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
البلاغة:
الاستعارة المكنية التبعية في شراء الحياة الدنيا بالآخرة وقد تقدم نظيرها.
[سورة البقرة (2) : آية 87]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)
اللغة:
(قَفَّيْنا) اتبعنا والمادة كلها تدل على التبعية، والقفا كل تابع وهو مؤخر العنق ومنه قافية الشعر لأنها تتبع البيت (عِيسَى) : علم أعجمي وهو بالسريانية ايشوع وليس مشتقا من العيس وهو بياض يخالطه شقرة.
(مَرْيَمَ) علم أعجمي ولهذا منع من الصرف. والمريم في اللغة العربية من النساء كالزير من الرجال والزّير هو الذي يخالط النساء ويمازحهن بغير شر او به.
الإعراب:
(وَلَقَدْ) الواو حرف عطف واللام جواب قسم محذوف وقد:(1/141)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
حرف تحقيق (آتَيْنا) فعل وفاعل (مُوسَى) مفعول به أول (الْكِتابَ) مفعول به ثان (وَقَفَّيْنا) عطف على آتينا (مِنْ بَعْدِهِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (بِالرُّسُلِ) جار ومجرور متعلقان بقفينا (وَآتَيْنا) عطف على ما تقدم (عِيسَى) مفعول به أول (ابْنَ) بدل أو صفة (مَرْيَمَ) مضاف اليه (الْبَيِّناتِ) مفعول به ثان وعلامة نصبه الكسرة لأنه جمع مؤنث سالم (وَأَيَّدْناهُ) عطف على ما تقدم (بِرُوحِ الْقُدُسِ) الجار والمجرور متعلقان بأيدناه (أَفَكُلَّما) الهمزة للاستفهام والفاء عاطفة وكلما ظرف زمان متضمن معنى الشرط (جاءَكُمْ) فعل ماض ومفعول به مقدّم (رَسُولٌ) فاعل جاء والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (بِما) الباء حرف جر وما اسم موصول مجرور بالباء محلا والجار والمجرور متعلقان بجاءكم (لا) نافية (تَهْوى) فعل مضارع (أَنْفُسُكُمُ) فاعل والجملة لا محل لها لانها صلة (اسْتَكْبَرْتُمْ) فعل ماض وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (فَفَرِيقاً) الفاء عاطفة وفريقا مفعول به مقدّم (كَذَّبْتُمْ) فعل (وَفَرِيقاً) الواو عاطفة وفريقا مفعول مقدم لتقتلون (تَقْتُلُونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل.
[سورة البقرة (2) : آية 88]
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88)
اللغة:
(غُلْفٌ) : جمع أغلف وهو في الأصل الذي لم يختن أي لا يعي ولا يفهم والمعنى هي مغشّاة بأغطية لا يدري أحد ما وراءها.(1/142)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
الإعراب:
(وَقالُوا) الواو استئنافية وقالوا فعل ماض وفاعل (قُلُوبُنا) مبتدأ ونا مضاف اليه (غُلْفٌ) خبر قلوبنا والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول (بَلْ) حرف عطف وإضراب (لَعَنَهُمُ اللَّهُ) فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل (بِكُفْرِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بلعنهم أي بسبب كفرهم (فَقَلِيلًا) الفاء استئنافية وقليلا نعت لمصدر محذوف أي يؤمنون إيمانا قليلا (ما) نكرة مبهمة صفة لقليلا (يُؤْمِنُونَ) فعل مضارع مرفوع.
[سورة البقرة (2) : الآيات 89 الى 90]
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)
اللغة:
(يَسْتَفْتِحُونَ) : يستنصرون وفتح الله على نبيّه نصره وهنا ناحية طريفة من وصف اليهود، فقد كانوا يستنصرون الكافرين إذا قاتلوهم قائلين: اللهم انصرنا بالنبي المذكور عندنا في التوراة.(1/143)
الإعراب:
(وَلَمَّا) الواو استئنافية ولما ظرفية بمعنى حين أو هي حرف لمجرد الربط وهي متضمنة معنى الشرط (جاءَهُمْ) فعل ومفعول به (كِتابٌ) فاعل (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف نعت لكتاب والجملة في محل جر بإضافة الظروف إليها إذا أعربنا لما ظرفية أو لا محل لها إذا كانت رابطة وجواب لما محذوف تقديره كذبوا أو نحوه (مُصَدِّقٌ) نعت لكتاب أيضا (لَمَّا) اللام حرف جر وما اسم موصول في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بمصدق (مَعَهُمْ) مفعول به ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة (وَكانُوا) الواو حرف عطف والمعطوف هو الجواب المحذوف وكان واسمها (مِنْ قَبْلُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (يَسْتَفْتِحُونَ) فعل مضارع والواو فاعل والجملة فعلية في محل نصب خبر كانوا (عَلَى الَّذِينَ) جار ومجرور متعلقان بيستفتحون (كَفَرُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لأنها صلة الموصول (فَلَمَّا) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة (جاءَهُمْ) تقدم اعرابها (ما) اسم موصول فاعل (عَرَفُوا) فعل وفاعل والجملة صلة الموصول (كَفَرُوا بِهِ) جملة فعلية لا محل لها من الإعراب لأنها جواب لما (فَلَعْنَةُ) الفاء للتعليل ولعنة مبتدأ والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها في حكم الاستئنافية (اللَّهِ) مضاف اليه (عَلَى الْكافِرِينَ)
جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لعنة والمعنى أن لعنة الله متسببة عما تقدم (بِئْسَمَا) بئس فعل ماض لانشاء الذم وما نكرة تامة بمعنى شيء في محل نصب على التمييز وهي مفسرة لفاعل بئس بمعنى بئس شيئا (اشْتَرَوْا) فعل وفاعل والجملة صفة لما (بِهِ) الجار والمجرور(1/144)
متعلقان باشتروا (أَنْفُسَهُمْ) مفعول به (أَنْ يَكْفُرُوا) أن وما في حيزها في تأويل مصدر مبتدأ لأنه المخصوص بالذم وجملة بئس هي الخبر المقدم (بِما) الباء حرف جر وما اسم موصول في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان بيكفروا (أَنْزَلَ اللَّهُ) فعل وفاعل والجملة صلة الموصول (بَغْياً) مفعول لأجله وهو علة اشتروا أو علة يكفروا (أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ) أن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي بغوا لانزال الله (مِنْ فَضْلِهِ) الجار والمجرور متعلقان بينزل أيضا (عَلى مَنْ يَشاءُ) جار ومجرور متعلقان بينزل ويشاء فعل وفاعله مستتر (مِنْ عِبادِهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال مبنية لمن يشاء (فَباؤُ بِغَضَبٍ) الفاء حرف عطف وباءوا فعل وفاعل والجار والمجرور متعلقان بباءوا (عَلى غَضَبٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لغضب أو مترادف (وَلِلْكافِرِينَ) الواو استئنافية وللكافرين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (عَذابٌ) مبتدأ مؤخر (مُهِينٌ) صفة لعذاب.
الفوائد:
1- (ما) المتصلة بنعم وبئس من أفعال المدح والذم اختلف فيها النحاة والأكثر أنها نكرة تامة بمعنى شيء فتكون موضع نصب على التمييز وقيل هي موصولة فتكون هي الفاعل.
2- المخصوص بالمدح والذّم يعرب مبتدأ والجملة الفعلية قبله خبر ولك أن تعربه خبرا لمبتدأ محذوف واجب الحذف.(1/145)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
[سورة البقرة (2) : آية 91]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
الإعراب:
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا) تقدم اعراب نظائرها وجملة آمنوا في محل نصب مقول القول (بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) الباء حرف جر وما اسم موصول في محل جر بالباء وجملة أنزل الله لا محل لها (قالُوا) الجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم (نُؤْمِنُ) الجملة في محل نصب مقول القول (بِما أَنْزَلَ) الجار والمجرور متعلقان بنؤمن (عَلَيْنا) جار ومجرور متعلقان بأنزل (وَيَكْفُرُونَ) الواو حالية (بِما) الجار والمجرور متعلقان بيكفرون (وَراءَهُ) ظرف متعلق بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول (وَهُوَ الْحَقُّ) الواو حالية وهو مبتدأ والحق خبره وجملة المبتدأ والخبر في محل نصب على الحال (مُصَدِّقاً) حال مؤكدة لأن تصديق القرآن لازم لا ينتقل (لِما) الجار والمجرور متعلقان بمصدقا (مَعَهُمْ) ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة ما (قُلْ) فعل أمر (فَلِمَ) الفاء هي الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدر أي إن كانت دعواكم صحيحة فلم تقتلون واللام حرف جر وما اسم استفهام في محل جر باللام أي لأي شيء وحذفت الألف من ما فرقا بينها وبين ما الخبرية والجار والمجرور متعلقان بتقتلون (تَقْتُلُونَ) فعل مضارع (أَنْبِياءَ اللَّهِ) مفعول به (مِنْ قَبْلُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ان شرطية وكنتم كان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وجملة تقتلون خبرها وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه أي فلم تقتلون.(1/146)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
الفوائد:
1- (وراء) من الظروف المتوسطة التصرف وهو ظرف مكان والمشهور أنه بمعنى خلف وقد يكون بمعنى أمام فهو من الأضداد.
2- إذا سبق ما الاستفهامية حرف جر حذفت ألفها ونزلت الكلمتان منزلة الكلمة الواحدة فتقول: إلام، علام، حتام، لم. بم، حتّام، عمّ، فيم، ممّ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 92 الى 93]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
الإعراب:
(وَلَقَدْ) الواو استئنافية واللام جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق (جاءَكُمْ مُوسى) فعل ومفعول به مقدم وفاعل الكلام مستأنف مسوق للاعتراض عليهم بقتل الأنبياء مع ادعائهم بأنهم يؤمنون بالتوراة والتوراة لا تسوغ ذلك بحال (بِالْبَيِّناتِ) جار ومجرور(1/147)
متعلقان بجاءكم (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي واتخذتم فعل وفاعل والعجل مفعول به (مِنْ بَعْدِهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) الواو حالية وأنتم مبتدأ وظالمون خبره والجملة نصب على الحال (وَإِذْ) تقدم إعرابها (أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) فعل ماض وفاعل ومفعول به والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (وَرَفَعْنا) عطف على أخذنا ولك أن تعربها حالية (فَوْقَكُمُ) ظرف مكان متعلق برفعنا (الطُّورَ) مفعول به (خُذُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول قول محذوف وجملة القول نصب على الحال أي قائلين لكم (ما) اسم موصول مفعول به (آتَيْناكُمْ) فعل وفاعل ومفعول به والجملة صلة (بِقُوَّةٍ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (وَاسْمَعُوا) عطف على ما تقدم (قالُوا) فعل وفاعل والجملة مستأنفة مسوقة لذكر سماعهم وعصيانهم في وقت واحد وتلك طبيعة مركوزة في اليهود (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) الجملتان مقول للقول (وَأُشْرِبُوا) الواو حالية أو عاطفة واشربوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل (فِي قُلُوبِهِمُ) جار ومجرور متعلقان باشربوا (الْعِجْلَ) مفعول به ثان على تقدير مضاف أي حب العجل (بِكُفْرِهِمْ) جار ومجرور متعلقان بأشربوا والباء للسببية أي بسبب كفرهم (قُلْ) فعل أمر وفاعله ضمير مستتر والجملة مستأنفة (بِئْسَما) تقدم اعرابها قريبا (يَأْمُرُكُمْ) فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به والجملة لا محل لها (بِهِ) جار ومجرور متعلقان بيأمركم (إِيمانُكُمْ) فاعل (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط وفعله والجواب محذوف فلم فعلتم ذلك وكان واسمها ومؤمنين خبرها.(1/148)
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
البلاغة:
(التشبيه البليغ) أي جعلت قلوبهم لتمكّن حب العجل منها كأنها تشرب ومثله قول زهير:
فصحوت عنها بعد حبّ داخل ... والحبّ يشربه فؤادك دائما
وانما عبر عن حبّ العجل بالشرب دون الأكل لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل الى باطنها والطعام لا يتغلغل فيها.
[سورة البقرة (2) : الآيات 94 الى 95]
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
الإعراب:
(قُلْ) فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والجملة مستأنفة مسوقة للدخول في فن آخر من أراجيفهم التي يحيكونها (إِنْ) شرطية تجزم فعلين (كانَتْ) فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط (لَكُمُ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كانت لمقدم (الدَّارُ) اسمها المؤخر (الْآخِرَةُ) نعت للدار (عِنْدَ اللَّهِ) ظرف مكان متعلق بخالصة (خالِصَةً) حال من الدار أي سالمة (مِنْ دُونِ النَّاسِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال مؤكدة للحال لأن دون تستعمل للاختصاص(1/149)
يقال: هذا لي دونك أو من دونك أي لا حق لك فيه (فَتَمَنَّوُا) الفاء واقعة في جواب الشرط لأن الكلام طلبي وتمنوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة في محل جزم جواب الشرط (الْمَوْتَ) مفعول به (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) تكرر اعرابها وجواب الشرط محذوف أي فتمنوا الموت (وَلَنْ) الواو استئنافية ولن حرف نفي ونصب واستقبال (يَتَمَنَّوْهُ) فعل مضارع منصوب بلن وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به (أَبَداً) ظرف زمان متعلق بيتمنوه (بِما) الجار والمجرور متعلقان بيتمنوه أيضا (قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) جملة فعلية لا محل لها من الإعراب لأنها صلة ما والعائد محذوف أي قدمته أيديهم (وَاللَّهُ عَلِيمٌ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة (بِالظَّالِمِينَ) الجار والمجرور متعلقان بعليم.
البلاغة:
في قوله: «فتمنوا الموت» خروج الأمر عن معناه الأصلي الى معنى التعجيز لأن ذلك ليس من سماتهم ولا من ظواهرهم المألوفة وتمنى الموت من شأن المقربين الأبرار لأن من أيقن بالشهادة اشتاق إليها. وبكى حنينا إليها وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه كان يطوف بين الصفين في غلالة فقال ابنه الحسن: ما هذا بزي المحاربين فقال:
يا بني لا يبالي أبوك سقط أم سقط عليه الموت، ولما احتضر خالد بن الوليد بكى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: والله ما أبالي إشفاقا من الموت ولكن لأني حضرت كذا وكذا معركة ثم أموت هكذا كما تموت العنز(1/150)
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
فلا نامت أعين الجبناء، وعن حذيفة أنه كان يتمنى الموت فلما احتضر قال حبيب: جاء على فاقة لا أفلح من ندم يعني على التمني. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لو تمنّوا الموت لغصّ كل انسان بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهودي» .
[سورة البقرة (2) : آية 96]
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)
اللغة:
(زحزح) : يستعمل متعديا ولازما وتكرار الحروف بمثابة تكرار العمل.
الإعراب:
(وَلَتَجِدَنَّهُمْ) الواو عاطفة واللام جواب لقسم محذوف وتجدنهم فعل مضارع مبني على الفتح وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت والهاء مفعوله الأول (أَحْرَصَ النَّاسِ) مفعوله الثاني (عَلى حَياةٍ) الجار والمجرور متعلقان بأحرص (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) الواو عاطفة والعطف هنا محمول على المعنى والتقدير أحرص من الذين أشركوا ولكنه حذف «أحرص» للتخصيص بعد التعميم (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) فعل مضارع وفاعل(1/151)
والجملة حالية أو استئنافية لا محل لها (لَوْ يُعَمَّرُ) لو مصدرية غير عاملة أي يود التعمير وهي خاصة بفعل الودادة وهي والفعل بعدها في تأويل مصدر مفعول يود أي يود التعمير ويعمر فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر فيه جوازا تقديره هو (أَلْفَ سَنَةٍ) ظرف زمان متعلق بيعمر (وَما هُوَ) الواو حالية وما نافية حجازية وهو اسمها (بِمُزَحْزِحِهِ) الباء حرف جر زائد ومزحزحه مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما (مِنَ الْعَذابِ) الجار والمجرور متعلقان بمزحزحه (أَنْ يُعَمَّرَ) ان وما في حيزها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل لمزحزحه لأنه اسم فاعل والضمير في قوله وما هو راجع الى أحدهم وقيل هو لما دل عليه يعمر من مصدر أي وما التعمير بمزحزحه ويكون قوله أن يعمر بدلا منه وكلاهما جيد (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) الواو استئنافية ويجوز في ما أن تكون موصولة أو مصدرية.
البلاغة:
1- الإيجاز في الآية ففي تنكير حياة فائدة عجيبة فحواها أنّ الحريص لا بد أن يكون حيا، وحرصه لا يكون على الحياة الماضية والراهنة فانهما حاصلتان بل على الحياة المستقبلة ولما لم يكن الحرص متعلقا بالحياة على الإطلاق بل بالحياة في بعض الأحوال وجب التنكير وفي الحذف توبيخ عظيم لليهود لأن الذين لا يؤمنون بالمعاد ولا يعرفون الا الحياة الدنيا لا يستبعد حرصهم عليها فإذا زاد أهل الكتاب عليهم في الحرص وهم مقرون بالبعث والجزاء كانوا أحرى باللوم والتوبيخ.(1/152)
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
2- الكناية في قوله (أَلْفَ سَنَةٍ) وهي كناية عن الكثرة فليس المراد خصوص الألف.
[سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 98]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98)
الإعراب:
(قُلْ) فعل أمر وفاعله أنت (مَنْ) اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وجملة قل مستأنفة مسوقة لبيان نمط آخر من أنماط لجاجهم وعنادهم (كانَ) فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط واسمها يعود على من (عَدُوًّا) خبرها (لِجِبْرِيلَ) اللام حرف جر وجبريل اسم مجرور باللام وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة لأنه علم أعجميّ والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لعدوا (فَإِنَّهُ) الفاء عاطفة على جواب الشرط المحذوف بمثابة التعليل له والتقدير فليمت غيظا أو فلا موجب لعداوته ولا يصح أن يكون قوله فإنه هو الجواب لأن جواب الشرط لا بد أن يكون فيه ضمير يعود عليه فلا يصح أن تقول من يكرمني فزيد قائم وان واسمها ولأن فعل التنزيل متحقق المعنى والجزاء لا يكون الا مستقبلا (نَزَّلَهُ) فعل وفاعل مستتر ومفعول به والضمير يعود على القرآن وفي إضماره على ما لم يسبق ذكره تفخيم لشأن صاحبه كأنه يدل على نفسه وجملة نزله خبر كأن(1/153)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
(عَلى قَلْبِكَ) الجار والمجرور متعلقان بنزله (بِإِذْنِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (مُصَدِّقاً) حال ثانية (لِما) الجار والمجرور متعلقان بمصدقا (بَيْنَ يَدَيْهِ) الظرف متعلق بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول (وَهُدىً وَبُشْرى) معطوفان على مصدقا (لِلْمُؤْمِنِينَ) الجار والمجرور متعلقان ببشرى أو بمحذوف صفة وخبر من فعل الشرط والجواب المحذوف (مَنْ) اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ (كانَ) فعل ماض ناقص واسمها مستتر يعود على من (عَدُوًّا) خبر كان (لِلَّهِ) متعلقان بمحذوف صفة لعدو (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) عطف (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) الجملة معطوفة على جواب الشرط وقد تقدم تقرير ذلك.
الفوائد:
العرب إذا نطقت بالأعجمي تصرفت فيه وجبر معناه عبد، وايل هو الله فهو بمنزلة عبد الله ومعنى ميكال أو ميكائيل عبيد الله فكأنه أصغر منزلة من جبريل.
[سورة البقرة (2) : الآيات 99 الى 101]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)(1/154)
اللغة:
(نبذ) : لهذا الفعل خصائص عجيبة فهو في الأصل بمعنى الطّرح يقال: نبذ الشيء من يده أي طرحه ورمى به، وصبي منبوذ ونهي عن المنابذة في البيع وهي أن تقول: انبذ إليّ المتاع أو أنبذه إليك. ومن مجاز هذا الفعل قولهم: نبذ أمري وراء ظهره إذا لم يعمل به ومنه قوله تعالى: «نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم» قالوا: ويتعيّن أن يكون نبذ من أفعال التحويل أو التصيير لدلالتها على الانتقال من حالة الى حالة أخرى وعلى هذا فكتاب الله مفعول به أول ووراء ظهورهم مفعول به ثان ويبعد بل يتعذر جعله ظرفا لنبذ لأن الظرف لا بد أن يكون حاويا لفاعل العامل فيه والنابذون غير كائنين وراء ظهورهم على أن بعض النحاة لا يشترطون وجود الفاعل والمفعول في الظرف وقال ابن حجر في شرح المنهاج: ولك أن تقول: إن للقاعدة وجها وجيها لأن ظرف المكان من الحسيات فاذا جعل ظرفا لفعل حسي متعد لزم كون الفاعل والمفعول فيه لأن الفعل المذكور لا يتحقق إلا بوجودهما بخلاف الفعل المعنوي فانه أجنبي من الظرف الحسي فاكتفى بما هو لازم له لكل تقدير وهو الفاعل فقط وللفقهاء أحكام في التشريع مستندة الى هذا الخلاف الطويل، فتدبر هذا الفصل فانه وإن طال بعض الطول فهو كالحسن غير مملول.
الإعراب:
(وَلَقَدْ) الواو استئنافية واللام جواب لقسم محذوف وقد حرف تحقيق (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) فعل وفاعل والجار والمجرور متعلقان بأنزلنا (آياتٍ) مفعول به منصوب وعلامة نصبه الكسرة لأنه جمع مؤنث(1/155)
سالم (بَيِّناتٍ) صفة (وَما) الواو عاطفة وما نافية (يَكْفُرُ بِها) فعل مضارع مرفوع والجار والمجرور متعلقان به (إِلَّا) أداة حصر (الْفاسِقُونَ) فاعل يكفر (أَوَكُلَّما) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على محذوف تقديره اكفروا بالآيات البينات أو أن الأصل تقديم العاطف على حرف الاستفهام وإنما قدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام وكلما ظرف زمان متضمن معنى الشرط وقد تقدم اعرابها (عاهَدُوا) فعل وفاعل (عَهْداً) مفعول به وعاهدوا بمعنى أعطوا والمفعول الأول محذوف أي اعطوا الله عهدا ويجوز أن نعرب عهدا مفعولا مطلقا (نَبَذَهُ) فعل ومفعول به مقدم (فَرِيقٌ) فاعل (مِنْهُمْ) الجار والمجرور صفة لفريق (بَلْ) حرف إضراب وعطف (أَكْثَرُهُمْ) مبتدأ (لا يُؤْمِنُونَ) لا نافية وجملة لا يؤمنون خبر أكثرهم والجملة الاسمية عطف على الجملة السابقة (وَلَمَّا) الواو عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة (جاءَهُمْ) فعل ومفعول به (رَسُولٌ) فاعل وجملة جاءهم في محل جر باضافة الظرف إليها أو لا محل لها (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الجار والمجرور صفة لرسول (مُصَدِّقٌ) صفة ثانية (لَمَّا) جار ومجرور متعلقان بمصدق (مَعَهُمْ) ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة للموصول (نَبَذَ فَرِيقٌ) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (مِنَ الَّذِينَ) الجار والمجرور صفة لفريق (أُوتُوا الْكِتابَ) فعل ماض ونائب فاعل ومفعول به ثان (كِتابَ اللَّهِ) مفعول نبذ (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) مفعول ثان لنبذ لتضمنه معنى جعل أو ظرف مكان متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني وقد تقدم القول فيه (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) كأن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها وجملة كأنهم حالية.(1/156)
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
[سورة البقرة (2) : آية 102]
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102)
اللغة:
(هارُوتَ وَمارُوتَ) : علمان أعجميان بدليل منع الصرف ولو كانا من الهرت والمرت أي الكسر كما زعم بعضهم لا نصرفا وقد نسجت حولهما أساطير طريفة يرجع إليها في المطوّلات.
(خَلاقٍ) : بفتح الخاء أي نصيب.
(بابل) : مدينة قديمة والمنع من الصرف للعلمية والعجمة وتقع أنقاضها على الفرات قرب الحلة شرقي بغداد.
الإعراب:
(وَاتَّبَعُوا) الواو عاطفة واتبعوا فعل ماض وفاعل (ما) اسم موصول مفعول اتبعوا (تَتْلُوا الشَّياطِينُ) فعل مضارع وفاعل والجملة صلة الموصول (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) الجار والمجرور متعلقان بتتلو(1/157)
وسليمان مضاف اليه وعلامة جره الفتحة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة وزيادة الألف والنون موقوفة على معرفة الاشتقاق (وَما كَفَرَ) الواو حالية أو استئنافية وما نافية (سُلَيْمانَ) فاعل كفر (وَلكِنَّ) الواو عاطفة ولكن حرف استدراك مشبه بالفعل (الشَّياطِينُ) اسم لكن (كَفَرُوا) الجملة الفعلية خبر لكن (يُعَلِّمُونَ) فعل مضارع والواو فاعل والجملة حالية أو خبر ثان (النَّاسَ) مفعول به أول (السِّحْرَ) مفعول به ثان (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) الواو حرف عطف وما اسم موصول معطوف على السحر وجملة أنزل صلة ما والجار والمجرور متعلقان بأنزل (بِبابِلَ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (هارُوتَ وَمارُوتَ) بدل من الملكين (وَما) الواو استئنافية وما نافية (يُعَلِّمانِ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والألف فاعل (مِنْ أَحَدٍ) من حرف جر زائد وأحد مجرور لفظا منصوب محلا لأنه مفعول يعلمان (حَتَّى) حرف غاية وجر ومن الغريب أن يزعم أبو البقاء أنها تأتي بمعنى إلا ولم ترد في اللغة بهذا المعنى (يَقُولا) فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى (إِنَّما) كافة ومكفوفة (نَحْنُ) مبتدأ (فِتْنَةٌ) خبر والجملة الاسمية في محل نصب مقول للقول (فَلا تَكْفُرْ) الفاء هي الفصيحة ولا ناهية وتكفر فعل مضارع مجزوم بلا، أي إذا شئت اتباع الطريق السويّ فلا تكفر بتعلمه (فَيَتَعَلَّمُونَ) الفاء استئنافية وقال سيبويه هي عاطفة (مِنْهُما) جار ومجرور متعلقان بيتعلمون (ما) اسم موصول مفعول به (يُفَرِّقُونَ) الجملة صلة ما (بِهِ) جار ومجرور متعلقان بيفرقون (بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) الظرف متعلق بيفرقون أيضا (وَما) الواو حالية وما حجازية (هُمْ) اسمها (بِضارِّينَ) الباء حرف جر زائد وضارين مجرور لفظا خبر ما محلا (بِهِ) جار ومجرور متعلقان(1/158)
بضارين (مِنْ أَحَدٍ) من حرف جر زائد، أحد مجرور لفظا منصوب محلا لأنه مفعول ضارين وهو اسم فاعل (إِلَّا) أداة حصر (بِإِذْنِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر الفاعل لضارين أو من المفعول به الذي هو أحد (وَيَتَعَلَّمُونَ) عطف على ما سبق (ما) اسم موصول مفعول به (يَضُرُّهُمْ) الجملة صلة ما (وَلا يَنْفَعُهُمْ) عطف على الصلة (وَلَقَدْ) الواو استئنافية مسوقة للشروع في بيان حالهم بعد تعلم السحر واللام جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق (عَلِمُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم (لَمَنِ) اللام لام الابتداء وتفيد التأكيد ومن اسم موصول مبتدأ وجملة (اشْتَراهُ) لا محل لها (ما) نافية أو حجازية (لَهُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم أو خبر ما (فِي الْآخِرَةِ) الجار والمجرور في محل نصب حال (مِنْ) حرف جر زائد (خَلاقٍ) اسم مجرور بمن لفظا مبتدأ مؤخر أو اسم ما والجملة في محل رفع خبر من والجملة كلها في حيز النصب وقد سدت مفعولي علموا المعلقة عن العمل (وَلَبِئْسَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وبئس فعل ماض جامد لانشاء الذّمّ (ما) نكرة بمعنى شيء في محل نصب على التمييز مفسرة لفاعل بئس أي شيئا (شَرَوْا) فعل وفاعل والجملة صفة (بِهِ) جار ومجرور متعلقان بشروا (أَنْفُسَهُمْ) مفعول به (لَوْ) شرطية (كانُوا) كان واسمها وجملة (يُعَلِّمُونَ) خبرها وجواب لو محذوف أي لما أقدموا على ما اجترحوه من عمل مغاير.
البلاغة:
في هذه الآية فن رفيع من فنون البلاغة وهو تنزيل العالم منزلة الجاهل فإن صدر الآية يدل على ثبوت العلم في أنه لا نفع لهم في اشتراء(1/159)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
كتب السحر والشعوذة واختيارها على كتب الله وآخر الآية ينفي عنهم العلم فإن لو تدل على امتناع الثاني لامتناع الاول إلا أن نفي العلم عنهم لأمر خطابي نظرا الى أنهم لا يعملون على مقتضى العلم ولكن في ذلك مبالغة من حيث الاشارة الى أن علمهم بعدم الثواب كاف في الامتناع فكيف العلم بالذم والرداءة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 103 الى 104]
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)
اللغة:
(راعِنا) : راقبنا وتأنّ بنا حتى نفهمه، روي أن المسلمين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ألقى عليهم شيئا من العلم راعنا، وكانت لليهود كلمة عبرانية يتسابّون بها وهي «راعنا» قيل:
معناها: اسمع لا سمعت فلما سمعوا قول المؤمنين راعنا افترصوا ذلك وخاطبوا الرسول، ولما سمعها سعد بن معاذ منهم وكان يعرف العبرية قال: يا أعداء الله عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله لأضربنّ عنقه فقالوا: أولستم تقولونها فنزلت الآية.
(انْظُرْنا) أنسئنا وأمهلنا.(1/160)
الإعراب:
(وَلَوْ) الواو استئنافية أو عاطفة ولو شرطية ولسيبويه في تسميتها اسم طريف وهو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره (أَنَّهُمْ) أن واسمها (آمَنُوا) فعل ماض وفاعل والجملة الفعلية خبر ان وان واسمها وخبرها في تأويل مصدر مبتدأ خبره محذوف أي لو أن إيمانهم ثابت وقيل في محل رفع فاعل لفعل محذوف أي لو ثبت إيمانهم (وَاتَّقَوْا) عطف على آمنوا (لَمَثُوبَةٌ) اللام للابتداء وقيل هي واقعة في جواب لو وقد أو ثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب لو للدلالة على الثبوت والديمومة للمثوبة ومثوبة مبتدأ أو ساغ الابتداء بالنكرة لأنها وصفت (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الجار والمجرور صفة لمثوبة (خَيْرٌ) خبر مثوبة (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) تقدم إعرابها وجواب لو محذوف دلّ عليه ما قبله أي لأثيبوا (يا أَيُّهَا) يا حرف نداء وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه (الَّذِينَ) بدل من أيها (آمَنُوا) فعل وفاعل والجملة صلة الموصول (لا) ناهية (تَقُولُوا) فعل مضارع مجزوم بلا (راعِنا) فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت ونا مفعول به وذلك في الأصل والمراد بها هنا الحكاية فتعرب كلمة أريد بها لفظها دون معناها في محل نصب مفعول به (وَقُولُوا) عطف على لا تقولوا (انْظُرْنا) في الأصل فعل أمر ونا مفعوله والمراد بها هنا الحكاية (وَاسْمَعُوا) الواو عاطفة واسمعوا معطوفة على لو والمفعول به محذوف أي اسمعوا ما يكلمكم به الرسول ويلقي عليكم من المسائل المؤدية الى فلا حكم (وَلِلْكافِرِينَ) الواو استئنافية مسوقة للاجمال بعد التفصيل والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (عَذابٌ) مبتدأ مؤخر (أَلِيمٌ) نعت لعذاب.(1/161)
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
البلاغة:
ألمعت الآية الى فن من أجلّ فنون البلاغة وأكثرها استقطابا للمقاصد السامية والمثل الرفيعة وهو فن التهذيب أي ترداد النظر فيما يكتبه الكاتب وينظمه الشاعر، فقد خلصت من الإيهام ودلت على آداب المخاطبة ليكون الكلام بريئا من المطاعن، بعيدا عن الملاحن..
[سورة البقرة (2) : آية 105]
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
اللغة:
(اختص) فعل متعدّ يقال خصّه بكذا واختصّه وخصّصه وأخصّه فاختصّ به وجميع ما فاؤه خاء وعينه صاد يدل على الاجتماع والتكاثر والانضمام كخصب المكان وأخصب أي وقع فيه الخصب وهو اجتماع النبت وتكاثره وخاصر المرأة قبض على خاصرتها قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت:
ثم خاصرتها الى القبة الخضر ... اء تمشي في مرمر مسنون
وخصف الأوراق: اتبع بعضها ببعض وهم خصوم وخصاء ولا يكون ذلك إلا في اجتماع.(1/162)
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
الإعراب:
(ما) نافية (يَوَدُّ) فعل مضارع مرفوع (الَّذِينَ كَفَرُوا) فاعل يود وجملة كفروا صلة (مِنْ) حرف جر (أَهْلِ الْكِتابِ) مجرور بمن والجار والمجرور في محل نصب على الحال (وَلَا الْمُشْرِكِينَ) عطف على أهل الكتاب ودخلت لا للتأكيد ولو كانت في غير القرآن لجاز حذفها (أَنْ يُنَزَّلَ) أن وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول يود وينزل مبني للمجهول (عَلَيْكُمْ) جار ومجرور متعلقان بينزل (مِنْ) حرف جر زائد (خَيْرٍ) مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه نائب فاعل (مِنْ رَبِّكُمْ) صفة لخير (وَاللَّهُ) الواو استئنافية والله مبتدأ (يَخْتَصُّ) فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو والجملة خبر الله (بِرَحْمَتِهِ) جار ومجرور متعلقان بيختص (مِنْ) اسم موصول مفعول به (يَشاءُ) الجملة صلة الموصول (وَاللَّهُ) الواو عاطفة والله مبتدأ (ذُو الْفَضْلِ) خبر وعلامة رفعه الواو لأنه من الأسماء الخمسة (الْعَظِيمِ) نعت للفضل.
[سورة البقرة (2) : الآيات 106 الى 107]
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107)
اللغة:
(النسخ) الإزالة والنقل يقال: نسخت الريح الأثر أي أزالته ونسخت الكتاب أي نقلته وتفيد معنى طروء حال أحسن وجميع ما فاؤه(1/163)
نون وعينه سين يدل على التجدد والتبدل وطروء الأحسن أو الذهاب والانتقال فمن ذلك نسأ الشيء والأمر: أخّره وأنسأ الله أجلك أخره وأطاله ونسب: تغزّل ووصف المرأة بأوصاف ملائمة لمفاتنها وهذا من أعاجيب لغتنا العربية فتأمله فإنه مما ابتدعناه لأول مرة ومعنى الآية عجيب أيضا أي أن كل آية نذهب بها على ما تقتضيه الحكمة من إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما معا نأتي بخير منها.
الإعراب:
(ما) اسم شرط جازم في محل مفعول به مقدم لننسخ (نَنْسَخْ) فعل الشرط مجزوم (مِنْ آيَةٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لاسم الشرط واسم الشرط ليس معرفة فلا يجوز أن يكون الجار والمجرور حالا منه والمعنى أي شيء ننسخ من الآيات فهو مفرد وقع موقع الجمع وهذا مطرد بعد الشرط لما فيه من معنى العموم وعلى هذا يخرج كل ما جاء من هذا التركيب كقوله: ما يفتح الله للناس من رحمة، وما بكم من نعمة فمن الله، وأجاز بعضهم أن تكون من آية في موضع نصب على التمييز والمميّز ما وليس ببعيد أيضا وأعربها ابن هشام في موضع نصب على الحال وليس ببعيد أيضا (أَوْ) حرف عطف (نُنْسِها) معطوف على ننسخ وقد سهّلت الهمزة فلم يظهر السكون والأصل ننسئها أي نرجئها والهاء مفعول به (نَأْتِ) جواب الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة (بِخَيْرٍ) الجار والمجرور متعلقان بنأت (مِنْها) جار ومجرور متعلقان بخير لأنها اسم تفضيل (أَوْ مِثْلِها) عطف على بآية (أَلَمْ) الهمزة للاستفهام التقديري ولم حرف نفي وقلب وجزم (تَعْلَمْ) فعل مضارع مجزوم بلم (أَنَّ اللَّهَ) أن واسمها (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) الجار(1/164)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
والمجرور متعلقان بقدير (قَدِيرٌ) خبر أن وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تعلم (أَلَمْ تَعْلَمْ) تقرير ثان (أَنَّ اللَّهَ) أن واسمها (لَهُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (مُلْكُ السَّماواتِ) مبتدأ مؤخر (وَالْأَرْضِ) عطف على السموات (وَما لَكُمْ) الواو عاطفة وما نافية ولكم خبر مقدم (مِنْ دُونِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (مِنْ وَلِيٍّ) من حرف جر زائد وولي مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر (وَلا نَصِيرٍ) عطف على ولي.
[سورة البقرة (2) : آية 108]
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)
الإعراب:
(أَمْ) عاطفة منقطعة بمعنى بل (تُرِيدُونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل (أَنْ تَسْئَلُوا) أن وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول تريدون (رَسُولَكُمْ) مفعول به لتسألوا (كَما سُئِلَ مُوسى) الكاف حرف جر وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مفعول مطلق أو حال وموسى نائب فاعل سئل (مِنْ قَبْلُ) جار ومجرور متعلقان بسئل (وَمَنْ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ (يَتَبَدَّلِ) فعل الشرط (الْكُفْرَ) مفعول به (بِالْإِيمانِ) جار ومجرور متعلقان بيتبدل وهو المتروك (فَقَدْ) الفاء رابطة لجواب الشرط وقد حرف تحقيق (ضَلَّ) فعل ماض وفاعله هو (سَواءَ السَّبِيلِ) مفعوله والجملة في محل جزم جواب الشرط.(1/165)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
[سورة البقرة (2) : آية 109]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
الإعراب:
(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) فعل وفاعل والجار والمجرور صفة لكثير (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) لو مصدرية وهي مؤوّلة مع ما بعدها بمصدر مفعول ود، يردونكم فعل وفاعل ومفعول أول (مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ) جار ومجرور متعلقان بيردون وايمانكم مضاف إليه (كُفَّاراً) مفعول ثان ليردونكم (حَسَداً) مفعول لأجله (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بود على معنى أنهم تمنوا أن ترتدوا عن دينكم وتمنيهم ذلك من عند أنفسهم لا من قبل الجنوح الى الحق لأنهم ودوا ذلك من بعد ما تبين لهم أنكم على الحق ويؤكده قوله فيما بعد «تلك أمانيهم» (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) الجار والمجرور متعلقان بود وما مصدرية مؤولة مع الفعل بعدها بمصدر مضاف لبعد والحق فاعل تبين (فَاعْفُوا) الفاء هي الفصيحة واعفوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (وَاصْفَحُوا) عطف على فاعفوا (حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) حتى حرف غاية وجر ويأتي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والله فاعل وبأمره الجار والمجرور متعلقان بيأتي (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إن واسمها وقدير خبرها والجار والمجرور متعلقان بقدير وجملة إن الله استئنافية أو بمثابة التعليل.(1/166)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
[سورة البقرة (2) : آية 110]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
الإعراب:
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) الواو استئنافية وأقيموا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والصلاة مفعول به (وَآتُوا الزَّكاةَ) عطف على ما تقدم (وَما تُقَدِّمُوا) الواو استئنافية وما اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدم وتقدموا فعل الشرط والواو فاعل (لِأَنْفُسِكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بتقدموا (مِنْ خَيْرٍ) الجار والمجرور صفة لاسم الشرط أو تمييز كما تقدم (تَجِدُوهُ) جواب الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به (عِنْدَ اللَّهِ) الظرف متعلق بتجدوه أو بمحذوف حال (إِنَّ اللَّهَ) إن واسمها (بِما تَعْمَلُونَ) الجار والمجرور متعلقان ببصير (بَصِيرٌ) خبر إن وجملة إن وما تلاها مستأنفة أو تعليلية.
[سورة البقرة (2) : الآيات 111 الى 112]
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
الإعراب:
(وَقالُوا) عطف على ودّ والضمير لأهل الكتاب من اليهود(1/167)
والنصارى (لَنْ) حرف نفي ونصب واستقبال (يَدْخُلَ) فعل مضارع منصوب بلن (الْجَنَّةَ) مفعول به على السعة (إِلَّا) أداة حصر (مَنْ) اسم موصول فاعل (كانَ) فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره هو (هُوداً) خبرها (أَوْ نَصارى) عطف على هودا (تِلْكَ) اسم اشارة مبتدأ (أَمانِيُّهُمْ) خبر والجملة الاسمية لا محل لها لأنها اعتراض بين قوله وقالوا وبين قوله قل هاتوا برهانكم (قُلْ) فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة مستأنفة (هاتُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (بُرْهانَكُمْ) مفعول به (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) شرط وفعله والجواب محذوف والتقدير فهاتوا برهانكم (بَلى) حرف جواب لاثبات ما نفوه من دخول غيرهم الجنة (مَنْ) اسم شرط جازم مبتدأ (أَسْلَمَ وَجْهَهُ) فعل الشرط (لِلَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بأسلم (وَهُوَ) الواو للحال وهو مبتدأ (مُحْسِنٌ) خبره والجملة في محل نصب على الحال (فَلَهُ أَجْرُهُ) الفاء رابطة والجار والمجرور خبر مقدم وأجره مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط (عِنْدَ رَبِّهِ) الظرف متعلق بمحذوف حال (وَلا خَوْفٌ) الواو عاطفة ولا نافية وخوف مبتدأ ساغ الابتداء به لتقدم النفي عليه (عَلَيْهِمْ) الجار والمجرور خبر خوف (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) عطف على ما تقدم.
الفوائد:
اختلف اللغويون في نون البرهان فقال قوم: زائدة لأنه مشتق من البرة وهو القطع وذلك لأنه دليل يفيد العلم القطعيّ ومنه البرهة للقطعة الطويلة من الزمن فوزنه فعلان وقال آخرون: انها أصلية لأنه من برهن يبرهن برهنة والبرهنة البيان فوزنه فعلال وعلى هذا فبرهان إذا كان علما لرجل يجوز صرفه ومنعه حسب الاعتبارين الآنفين.(1/168)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
البلاغة:
(جمع الأماني) في حين ما تمنّوه لا يعدو كونه أمنية واحدة وهي دخول الجنة لسرّ عجيب في صناعة البيان وهو انها لشدة تمنيهم لهذه الأمنية وتأصلها في نفوسهم جمعت وأنها بمثابة أمان توزعت في كل قلب فلم تترك فراغا لغيرها.
[سورة البقرة (2) : آية 113]
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
الإعراب:
(وَقالَتِ الْيَهُودُ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حالة من حالات الجهالة المتأصلة في نفوسهم، روي أنّ وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم وضلل كل فريق صاحبه (لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) ليس فعل ماض ناقص ووزنها فعل بكسر العين وهو بناء نادر في الثلاثي اليائيّ العين والنصارى اسمها وعلى شيء خبرها والجملة مقول القول (وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) عطف على الجملة الأولى (وَهُمْ) الواو حالية وهم مبتدأ (يَتْلُونَ) فعل مضارع وفاعل والجملة خبرهم والجملة الاسمية في محل نصب على الحال(1/169)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
(الْكِتابَ) مفعول به (كَذلِكَ) الجار والمجرور في محل نصب نعت لمفعول مطلق محذوف أي قالوا قولا مثل ذلك ولك أن تعرب الجار والمجرور في محل نصب على الحال (قالَ الَّذِينَ) فعل وفاعل (لا يَعْلَمُونَ) لا نافية ويعلمون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) صفة لمصدر محذوف والمعنى مثل قول اليهود والنصارى (فَاللَّهُ) الفاء استئنافية والله مبتدأ (يَحْكُمُ) فعل مضارع وفاعله هو والجملة خبر الله (بَيْنَهُمْ) ظرف متعلق بيحكم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) الظرف متعلق بمحذوف حال (فِيما) جار ومجرور متعلقان بيحكم (كانُوا) كان واسمها والجملة صلة الموصول (فِيهِ) جار ومجرور متعلقان بيختلفون (يَخْتَلِفُونَ) الجملة الفعلية خبر كانوا.
[سورة البقرة (2) : الآيات 114 الى 115]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)
اللغة:
(المساجد) : جمع مسجد وهو اسم مكان للسجود وكان من حقّه أن يأتي على مفعل بفتح العين لأن عين مضارعه مضمومة ولكنه(1/170)
سمع بالكسر شذوذا كما شذّت ألفاظ جاءت بالكسر مع أنها مصوغة من مضموم العين في المضارع وهي المطلع والمغرب والمشرق والمسجد والمنسك والمجزر والمنبت والمسقط والمفرق والمسكن ويجوز فيها الفتح ولكن السماع أفصح.
الإعراب:
(وَمَنْ) الواو استئنافية ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ ومعناه النفي (أَظْلَمُ) خبر من (مِمَّنْ) جار ومجرور متعلقان بأظلم (مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ) فعل ماض وفاعل مستتر يعود على من ومساجد الله مفعول به والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (أَنْ يُذْكَرَ) أن وما في حيّزها في تأويل مصدر مفعول ثان لمنع ولك أن تعرب المصدر مفعولا لأجله أي كراهة أن يذكر فيها اسمه (فِيهَا) جار ومجرور متعلقان بيذكر (اسْمُهُ) نائب فاعل ولك أن تعرب المصدر بدل اشتمال من مساجد الله لأنها تشتمل على الذكر (وَسَعى) عطف على منع (فِي خَرابِها) الجار والمجرور متعلقان بسعى (أُولئِكَ) اسم اشارة مبتدأ والجملة مستأنفة (ما) نافية (كانَ) فعل ماض ناقص (لَهُمْ) خبر مقدم لكان (أَنْ يَدْخُلُوها) المصدر المؤول من أن وما في حيزها اسم كان المؤخر (إِلَّا) أداة حصر (خائِفِينَ) حال من فاعل يدخلوها (لَهُمْ) الجار والمجرور خبر مقدم (فِي الدُّنْيا) جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (خِزْيٌ) مبتدأ مؤخر والجملة لا محل لها لأنها استئنافية (وَلَهُمْ) الواو عاطفة لهم خبر مقدم (فِي الْآخِرَةِ)
الجار والمجرور في محل نصب حال (عَذابٌ) مبتدأ مؤخر (عَظِيمٌ) نعت لعذاب (وَلِلَّهِ) الواو عاطفة والجار والمجرور خبر مقدم (الْمَشْرِقُ) مبتدأ مؤخر (وَالْمَغْرِبُ) عطف على(1/171)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
المشرق (فَأَيْنَما) الفاء استئنافية وأينما اسم شرط جازم في محل نصب ظرف مكان متعلق بما بعده (تُوَلُّوا) فعل الشرط (فَثَمَّ) الفاء رابطة لجواب الشرط وثم ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم (وَجْهُ اللَّهِ) مبتدأ مؤخر والجملة في محل جزم جواب الشرط (إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) إن واسمها وخبراها.
الفوائد:
(ثم) : بفتح التاء ويقال للمؤنث ثمة إشارة للمكان البعيد ولا يجران الا بمن والى.
[سورة البقرة (2) : الآيات 116 الى 117]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
اللغة:
(اتَّخَذَ) : من أفعال التحويل التي تنصب مفعولين وأخواتها تخذ وصير وردّ وترك وجعل وهب وقد أثيرت معركة طريفة حول اتخذ فقد استدرك ابن هشام على الجوهري صاحب الصحاح فقال: «وقول الجوهريّ في اتّخذ أنه افتعل من الأخذ وهم وإنما التاء أصل وهو من تخذ كاتبع من تبع» ويعتمد ابن هشام في تخطئته للجوهري على أنه لو كان من أخذ لوجب أن يقال: أيتخذ لأن الضابط في ذلك انك(1/172)
تقول في افتعل من الإزار ايتزر بابدال الهمزة ياء تحتانية ولا يجوز ابدال هذه الياء التحتانية تاء فوقانية وإدغامها في التاء لأن هذه الياء بدل من همزة وليست أصلية، وقد استدرك آخرون على ابن هشام فقالوا: إن الإقدام على تغليط الجوهري ليس بالهين فيجوز أن يكون ذلك مذهبا له، ولا يقال: الجوهري ليس من أرباب المذاهب مع أن الظاهر يساعده فما قاله الجوهري وجه والوجه الثاني ما ذكره ابن هشام.
الإعراب:
(وَقالُوا) الواو حرف عطف وقالوا فعل وفاعل (اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) فعل وفاعل ومفعول به والجملة مقول القول (سُبْحانَهُ) مفعول مطلق لفعل محذوف والجملة معترضة للتنزيه (بَلْ) حرف عطف وإضراب (لَهُ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (ما) اسم موصول مبتدأ مؤخر (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول (كُلٌّ) مبتدأ ساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم والتنوين في كل عوض عن كلمة أي كل فرد من أفراد المخلوقات (لَهُ) جار ومجرور متعلقان بقانتون أي خاضعون منقادون وقد غلب في الملكية ما لا يعقل فقال ما في السموات لأن المراد تسخيرها له التسخير الطبيعي الذي لا يشترط فيه الاختيار ولا التسخير الشرعي المعبر عنه بالتكليف الذي يفعله الكاسب باختياره ويستوي في التسخير الطبيعي العاقل وغيره ولكنه في غير العاقل أظهر ولما ذكر القنوت له تعالى جمعه جمعا مذكرا سالما فغلب فيه العقلاء لأن من شأن القنوت أن يكون من العاقل الذي يشعر بموجبه ويفعله باختياره وإن كان لغير العاقل قنوت يليق به (قانِتُونَ)(1/173)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
خبر كل (بَدِيعُ السَّماواتِ) خبر لمبتدأ محذوف وهو من باب إضافة الصفة المشبهة الى فاعلها والأصل بديع سمواته (وَالْأَرْضِ) عطف على السموات (وَإِذا) ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه (قَضى أَمْراً) الجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (فَإِنَّما) الفاء رابطة وإنما كافة (يَقُولُ لَهُ) الجار والمجرور متعلقان بيقول والجملة لا محل لها (كُنْ) فعل أمر من كان التامة بمعنى حدث (فَيَكُونُ) الفاء استئنافية ويكون فعل مضارع تام مرفوع أي فهو يحدث وجملة كن مقول القول.
البلاغة:
(المجاز العقلي) في إسناد الفعل أو ما في معناه الى غير ما هو له لعلاقة مع قرينة مانعة من الإسناد وهو يدرك بالعقل ومن أمثلته البديعة في الشعر قول المتنبي:
كلّما أثبت الزمان قناة ... ركب المرء في القناة سنانا
وقد يلتبس بالاستعارة والفرق بينهما قصد التشبيه أو عدمه كما هو مقرر في كتب البلاغة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 118 الى 119]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119)(1/174)
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
الإعراب:
(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الواو استئنافية وقال فعل ماض والذين فاعل وجملة لا يعلمون صلة الموصول (لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ) لولا حرف تحضيض بمعنى هلّا ويكلمنا الله فعل ومفعول به مقدم وفاعل (أَوْ) حرف عطف (تَأْتِينا) عطف على يكلمنا (آيَةٌ) فاعل (كَذلِكَ) الجار والمجرور صفة لمفعول مطلق محذوف أو حال وقد تقدم بحثه (قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فعل وفاعل ومن قبلهم صلة الموصول (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) بدل من كذلك (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) فعل وفاعل (قَدْ) حرف تحقيق (بَيَّنَّا الْآياتِ) فعل وفاعل والآيات مفعول به وعلامة نصبه الكسرة (لِقَوْمٍ) الجار والمجرور متعلقان ببينا (يُوقِنُونَ) الجملة صفة لقوم (إِنَّا) إن واسمها (أَرْسَلْناكَ) فعل وفاعل ومفعول به (بِالْحَقِّ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال ملتبسا به ومصاحبا له وجملة أرسلناك خبرها (بَشِيراً) حال أيضا (وَنَذِيراً) عطف على بشيرا (وَلا تُسْئَلُ) الواو استئنافية على الأرجح ولا نافية وتسأل فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره أنت (عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) جار ومجرور متعلقان بتسأل.
[سورة البقرة (2) : الآيات 120 الى 121]
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121)(1/175)
الإعراب:
(وَلَنْ) الواو استئنافية ولن حرف نفي ونصب واستقبال (تَرْضى) فعل مضارع منصوب بلن (عَنْكَ) الجار والمجرور متعلقان بترضى (الْيَهُودُ) فاعل (وَلَا النَّصارى) عطف على اليهود (حَتَّى) حرف غاية وجر (تَتَّبِعَ) فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد حتى (مِلَّتَهُمْ) مفعول به والفاعل مستتر تقديره أنت (قُلْ) فعل أمر مبني على السكون والجملة مستأنفة (إِنَّ) حرف مشبه بالفعل (هُدَى اللَّهِ) اسمها والجملة في محل نصب مقول القول (هُوَ) مبتدأ (الْهُدى) خبره والجملة الاسمية خبر إن (وَلَئِنِ) الواو استئنافية واللام موطئة للقسم وإن حرف شرط جازم (اتَّبَعْتَ) فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط والتاء فاعل (أَهْواءَهُمْ) مفعول به وجواب الشرط محذوف دلّ عليه جواب القسم (بَعْدَ) ظرف (الَّذِي) اسم موصول في محل جر بالاضافة والظرف متعلق باتبعت وجملة (جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) لا محل لها لأنها صلة الموصول ومن العلم في محل نصب حال (ما لَكَ) ما نافية ولك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (مِنَ اللَّهِ) جار ومجرور متعلقان بولي (مِنْ وَلِيٍّ) من حرف جر زائد وولي مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه مبتدأ مؤخر (وَلا نَصِيرٍ) عطف على ولي (الَّذِينَ) اسم موصول مبتدأ (آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) فعل وفاعل ومفعولا آتينا وجملة آتيناهم لا محل لها لأنها صلة الموصول (يَتْلُونَهُ) فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعله والهاء مفعول به والجملة(1/176)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
خبر الذين (حَقَّ تِلاوَتِهِ) مفعول مطلق (أُولئِكَ) اسم إشارة مبتدأ (يُؤْمِنُونَ بِهِ) الجملة خبر أولئك، وجملة أولئك يؤمنون به خبر بعد خبر (وَمَنْ) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ (يَكْفُرْ) فعل الشرط (بِهِ) جار ومجرور متعلقان بيكفر (فَأُولئِكَ) الفاء رابطة واسم الاشارة مبتدأ (هُمُ) مبتدأ ثان (الْخاسِرُونَ) خبر هم والجملة الاسمية خبر أولئك ويحتمل أن يكون هم ضمير فصل أو عماد لا محل له.
الفوائد:
إذا اجتمع شرط وقسم استغني بجواب المتقدّم منهما عن جواب المتأخر لشدة الاعتناء بالمتقدم ما لم يتقدم عليهما مبتدأ فحينئذ يترجح جانب الشرط.
[سورة البقرة (2) : الآيات 122 الى 123]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
الإعراب:
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ) يا حرف نداء للمتوسط وبني منادى مضاف وإسرائيل مضاف اليه وقد تقدم اعراب نظيره (اذْكُرُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (نِعْمَتِيَ) مفعول به والجملة مستأنفة(1/177)
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
مسوقة للتذكير بالنعم التي أسبغها الله على بني إسرائيل وجحدوا بها (الَّتِي) اسم موصول صفة (أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) الجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَأَنِّي) اني وما بعدها عطف على نعمتي أي وتفضيلي إياكم على عالمي زمانكم (فَضَّلْتُكُمْ) فعل وفاعل ومفعول والجملة خبر اني (عَلَى الْعالَمِينَ) جار ومجرور متعلقان بفضلكم (وَاتَّقُوا) الواو حرف عطف واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (يَوْماً) مفعول به على حذف مضاف أي خافوا عذابه (لا تَجْزِي) لا نافية وتجزى فعل مضارع مرفوع (نَفْسٌ) فاعل (عَنْ نَفْسٍ) الجار والمجرور متعلقان بتجزي (شَيْئاً) مفعول به أو مفعول مطلق والجملة الفعلية صفة ليوما (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ) عطف على ما تقدم وعدل نائب فاعل (وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) عطف أيضا (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) عطف أيضا وهم مبتدأ وجملة ينصرون خبر والواو نائب فاعل.
[سورة البقرة (2) : آية 124]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
اللغة:
(إِبْراهِيمَ) : معناه في السريانية أب رحيم.
الإعراب:
(وَإِذِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للتأسّي بما جرى للماضين مما يدل الى التوحيد ويزع عن الشرك وإذا ظرف لما(1/178)
مضى من الزمان في محل نصب بفعل محذوف تقديره اذكر (ابْتَلى) فعل ماض (إِبْراهِيمَ) مفعول به مقدم (رَبُّهُ) فاعل مؤخر وجملة ابتلى في محل جر باضافة الظرف إليها (بِكَلِماتٍ) جار ومجرور متعلقان بابتلى (فَأَتَمَّهُنَّ) معطوف على ابتلى ومعنى الإتمام أداؤهن أحسن تأدية من غير تفريط أو توان والمراد بالكلمات ما أوحي اليه من أوامر ونواه (قالَ) فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو والجملة مفسرة لا محل لها (إِنِّي) ان واسمها (جاعِلُكَ) خبرها والجملة مقول القول (لِلنَّاسِ) جار ومجرور متعلقان بجاعلك ولك أن تعلقه بمحذوف في محل نصب حال لأن كان في الأصل صفة لإماما (إِماماً) مفعول جاعلك الثاني، أما المفعول الثاني فهو الكاف لأنه من إضافة اسم الفاعل الى مفعوله (قالَ) فعل ماض وفاعله هو (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) الواو عاطفة والجار والمجرور عطف على الكاف كأنه قال وجاعل بعض ذريتي كما يقال لك سأكرمك فتقول: وأخي هذا ما أعربه الكثيرون. وفي النفس منه شيء فالأولى في رأينا أن يتعلقا بمحذوف والتقدير: واجعل من ذريتي إماما (قالَ: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) عهدي فاعل والظالمين مفعول به.
البلاغة:
في هذه الآية فن طريف من فنونهم يقال له: فنّ المراجعة وهو أن يحكي المتكلم مراجعة في القول جرت بينه وبين محاور في الحديث أو بين اثنين غيره بأوجز عبارة، وأبلغ اشارة، وأرشق محاورة، مع عذوبة اللفظ وجزالته، وسهولة السبك، انظر الى هذه القطعة من الكلام التي عدة ألفاظها ثلاث عشرة لفظة كيف جمعت معاني الكلام من الخبر والاستخبار، والأمر والنهي والوعد والوعيد وهذا هو التفصيل:(1/179)
1- الخبر في قوله: «إني جاعلك» وهو في الحقيقة وعد باستخلافه على الناس.
ب- الاستخبار في ضمن الخبر لأنه فرع عليه إذ الخبر يصير استخبارا بتصدير ما يدلّ على الاستفهام.
ج- الأمر في قوله: «ومن ذريتي» فإن معناه الطلب لذريته ما وعد به من الاستخلاف، فكأنه قال: رب وافعل ذلك لبعض ذريتي وكل طلب أمر لكنه إذا كان من الله سبحانه أوجب حسن الأدب أن يسمى دعاء ولا يطلق عليه لفظ الأمر وإن كان أمرا في أصل الوعد.
د- النهي وهو في ضمن الأمر لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده فكأن معناه ولا تحرم بعض ذريتي ذلك.
هـ- الوعد تقدم بيانه في الخبر.
والوعيد في قوله: «لا ينال عهدي الظالمين» فإن حاصل ذلك أن الظالمين من ذريتك لا ينالهم استخلافي وحرمان ذلك غاية الوعيد.
ومن شواهد هذا الفن الشعرية قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
بيننا ينعتني ابصرنني ... دون قيد الميل يعدو بي الأغر
قالت الكبرى: ترى من ذا الفتى؟ ... قالت الوسطى لها: هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيمتها ... قد عرفناه وهل يخفى القمر؟
وفي هذه الأبيات نكتتان بليغتان تدلان على قوة عارضة الشاعر(1/180)
صاحب الفستق المقشر، كما يسمون شعره، ومعرفته بوضع الكلام مواضعه وهما:
1- أن قوافي الأبيات لو أطلقت لكانت كلها مرفوعة.
2- انه جعل التي عرفته من جملة البنات وعرّفت به وشبهته تشبيها يدل على شغفها بحبه هي الصغرى منه ليدل على أنه فتيّ السن بدليل الالتزام إذ الفتية من النساء لا تميل إلا الى الفتى من الرجال غالبا ليدمج في ذلك عذره بالصّبوة وأنه إنما كان منه ذلك في أيام الشبيبة.
3- ونكتة ثالثة تربو على جميع ما تقدم وهي في التذييل الذي أخرجه مخرج المثل السائر حيث قال في الحكاية عنها: وهل يخفى القمر ولا يحسب أحد أن الصغرى مالت إليه لغرارتها وضعف عقلها وتقاصره عن التمييز وقلة التجربة، ذلك أنه أخبر عن الكبرى أنها ما كانت تعرفه وقد راقها وشغفها حبا حين رأته حتى لم تتمالك عن التساؤل عنه، أو أنها عارفة به وإنما سألت عنه تغطية لأمرها وتعمية فيه من باب تجاهل العارف، إما إظهارا لفرط التّولّه والتّدلّه في الحب أو لأنها كانت تنتظر أن تجاب باسمه فتلتذ بسمعه، أما الوسطى فقد صرحت باسمه لأن منزلتها في رجاحة العقل وحصافته ورصانة اللب ونزاهته دون منزلة الكبرى فلما سترت الكبرى نفسها بالسؤال عنه لما يقتضيه عقلها صرحت الوسطى باسمه ومعرفته بالنسبة وأبانت الصغرى عما في نفسها منه بوصفها له بصفة تدل على عظم مكانته من قلبها لمكان سنها من الأختين وهذا من عجائب ما يسمع في هذا الباب ولا نحب أن نختم بحث هذا الفن قبل أن نورد بعض الشواهد فمن شواهده قول ديك الجن واسمه عبد السلام بن رغبان:(1/181)
مرّت فقلت لها: تحية مغرم ... ماذا عليك من السلام؟ فسلمي
قالت: بمن تعني؟ فطرفك شاهد ... بنحول جسم قلت: بالمتكلّم
فتضاحكت، فبكيت قالت: لا ترع ... فلربّ مثل هواك بالمتبسّم
قلت: اتفقنا في الهوى فزيارة ... أو موعدا قبل الزيارة قدّمي
فتبسمت خجلا وقالت: يا فتى ... لو لم أدعك تنام بي لم تحلم
وللبحتري واسمه الوليد:
ونديم حلو الشمائل كالد ... ينار محض النّجار عذب المصفّى
بتّ أسقيه صفوة الرّاح حتى ... وضع الكأس مائلا يتكفّا
قلت: عبد العزيز تفديك نفسي ... قال: لبيك قلت: لبيك ألفا(1/182)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
هاكها قال: هاتها قلت: خذها ... قال: لا أستطيعها ثمّ أغفى
وحسبنا ما تقدم.
[سورة البقرة (2) : آية 125]
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
اللغة:
(مَثابَةً) : مباءة ومرجعا للحجاج يتفرقون عنه ثمّ يثوبون إليه فهو من ثاب يثوب أي رجع وقيل: هو من الثواب الذي هو الجزاء ويجوز أن يكون مصدرا ميميا أو اسم مكان والهاء فيه إما للمبالغة كعلّامة ونسّابة لكثرة من يثوب إليه أو لتأنيث المصدر كمقامة أو لتأنيث البقعة.
الإعراب:
(وَإِذْ) تقدم كثيرا اعراب نظائره (جَعَلْنَا) فعل وفاعل والجملة في محل جر باضافة الظرف إليها (الْبَيْتَ) مفعول جعلنا الاول (مَثابَةً) مفعول جعلنا الثاني (لِلنَّاسِ) متعلق بمحذوف صفة لمثابة (وَأَمْناً) عطف على مثابة (وَاتَّخِذُوا) الواو عاطفة واتخذوا فعل أمر(1/183)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول القول محذوف معطوف على جعلنا (مِنْ مَقامِ) الجار والمجرور متعلقان باتخذوا (إِبْراهِيمَ) مضاف اليه مجرور بالفتحة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة (مُصَلًّى) مفعول اتخذوا ومن للابتداء كأنه قيل: اتخذوا مصلّى بادئين من هذا المكان ولا داعي لما تكلفه المعربون من أوجه لا يستقيم واحد منها (وَعَهِدْنا) فعل وفاعل (إِلى إِبْراهِيمَ) متعلق بعهدنا (وَإِسْماعِيلَ) عطف على ابراهيم وهو علم أعجمي أيضا وفيه لغتان اللام والنون (أَنْ) الأظهر فيها أنها تفسيرية بمعنى أي لأنها واقعة بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه (طَهِّرا) فعل أمر مبني على حذف النون والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها مفسرة ويجوز أن تكون مصدرية والمصدر المؤول في موضع نصب بنزع الخافض (بَيْتِيَ) مفعول به (لِلطَّائِفِينَ) متعلق بطهرا (وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) عطف على الطائفين ولما كان الركّع والسجود بمثابة واحدة لأن الركوع والسجود يؤلفان الصلاة أسقط حرف العطف ونزلهما منزلة الكلمة الواحدة ولو عطف السجود بالواو لأوهم أنهما عبادتان منفصلتان.
[سورة البقرة (2) : آية 126]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
الإعراب:
(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) تقدم اعرابها (رَبِّ) منادى محذوف منه حرف النداء وهو مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة (اجْعَلْ) فعل أمر(1/184)
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
وفاعله أنت (هذا) اسم إشارة مفعول به أول (بَلَداً) مفعول به ثان (آمِناً) صفة (وَارْزُقْ أَهْلَهُ) عطف على اجعل وأهله مفعول به (مِنَ الثَّمَراتِ) متعلق بارزق (مِنَ) اسم موصول بدل من أهله (آمَنَ) الجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (مِنْهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (بِاللَّهِ) متعلقان بآمن (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) عطف على الله (قالَ) فعل ماض والجملة استئنافية لا محل لها (وَمَنْ) اسم موصول معطوف على من الأولى (كَفَرَ) الجملة لا محل لها لأنها صلة (فَأُمَتِّعُهُ) الفاء رابطة لتضمن الموصول معنى الشرط وأمتعه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به (قَلِيلًا) مفعول مطلق (ثُمَّ) حرف عطف (أَضْطَرُّهُ) عطف على أمتعه (إِلى عَذابِ النَّارِ) متعلق باضطره (وَبِئْسَ) الواو استئنافية وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذّم (الْمَصِيرُ) فاعل بئس والمخصوص بالذم محذوف تقديره مصيره.
[سورة البقرة (2) : آية 127]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
الإعراب:
(وَإِذْ) الواو عاطفة على ما تقدم وإذ ظرف لما مضى من الزمن وقد تقدم بحثها (يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ) فعل مضارع وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (الْقَواعِدَ) مفعول به (مِنَ الْبَيْتِ) الجار والمجرور في موضع نصب على الحال ومعنى الرفع هنا البناء (إِسْماعِيلُ) عطف على ابراهيم (رَبَّنا) منادى مضاف محذوف منه حرف النداء ولا بد من تقدير قول محذوف أي يقولان ربنا ويكثر حذف الحال إذا كان(1/185)
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
قولا أغنى عنه المقول (تَقَبَّلْ) فعل أمر معناه الدعاء (مِنَّا) الجار والمجرور متعلقان بتقبل (إِنَّكَ) إن واسمها (أَنْتَ) ضمير متصل لا محل له من الإعراب أو مبتدأ (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) خبران لإن أو لأنت والجملة الاسمية خبر إن.
[سورة البقرة (2) : الآيات 128 الى 129]
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
اللغة:
(يُزَكِّيهِمْ) : يطهرهم ويصفّي نفوسهم من الحوبات والآثام.
الإعراب:
(رَبَّنا) منادى مضاف وقد تقدم إعرابه (وَاجْعَلْنا) عطف على ما تقدّم (مُسْلِمَيْنِ) مفعول به ثان (لَكَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف نعت مسلمين (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا) الواو عاطفة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف دلّ عليه المذكور أي واجعل من ذريتنا (أُمَّةً) مفعول به أول للفعل المحذوف ومن ذريتنا هو المفعول الثاني (مُسْلِمَةً) نعت (لَكَ) نعت ثان لأمة (وَأَرِنا) الواو عاطفة وأر فعل أمر مبني(1/186)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
على حذف حرف العلة والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول (مَناسِكَنا) مفعول به ثان (وَتُبْ عَلَيْنا) عطف أيضا (إِنَّكَ) ان واسمها (أَنْتَ) ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (التَّوَّابُ) خبر أول (الرَّحِيمُ) خبر ثان والجملة الاسمية خبر إن ولك أن تعرب الضمير ضمير فصل لا محلّ له من الإعراب والتواب الرحيم خبران لأن (رَبَّنا) منادى مضاف (وَابْعَثْ) عطف على ما تقدم (فِيهِمْ) متعلقان بابعث (رَسُولًا) مفعول به (مِنْهُمْ) صفة لرسولا (يَتْلُوا) الجملة إما صفة ثانية وإما حال لأن رسولا وصف بقوله منهم (عَلَيْهِمْ) متعلقان بيتلو (آياتِكَ) مفعول يتلو (وَيُعَلِّمُهُمُ) عطف على يتلو والهاء مفعول به أول (الْكِتابَ) مفعول به ثان (وَالْحِكْمَةَ) عطف على الكتاب (وَيُزَكِّيهِمْ) عطف على يعلمهم (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تقدم اعرابها قبل قليل.
[سورة البقرة (2) : آية 130]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
اللغة:
رغب عن الشيء: مال عنه وكرهه. ورغب فيه: أراده ومال اليه وأحبه. السفه: الخفة والمراد به هنا امتهان النفس.
الإعراب:
(وَمَنْ يَرْغَبُ) الواو استئنافية ومن: اسم استفهام معناه النفي(1/187)
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
والإنكار في محل رفع مبتدأ وجملة يرغب خبره (عَنْ مِلَّةِ) الجار والمجرور متعلقان بيرغب (إِبْراهِيمَ) مضاف اليه وعلامة جره الفتحة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة (إِلَّا) أداة حصر (مَنْ) اسم موصول في محل رفع بدل من الضمير في يرغب لأن الكلام غير موجب أو نصب على الاستثناء (سَفِهَ نَفْسَهُ) سفه فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول ونفسه منصوب بنزع الخافض أي سفه في نفسه وقيل: إن سفه يتعدى بنفسه كما حكى ثعلب والمبرّد فهو مفعول سفه يقال سفه نفسه: أي امتهنها وقيل: هي نصب على التمييز ولكن فيه تعريف التمييز وهو لا يكون إلا شذوذا فلا يجوز حمل القرآن عليه (وَلَقَدِ) الواو استئنافية واللام جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق (اصْطَفَيْناهُ) فعل ماض وفاعل ومفعول به (فِي الدُّنْيا) الجار والمجرور متعلقان باصطفيناه (وَإِنَّهُ) الواو حالية وان واسمها (فِي الْآخِرَةِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (لَمِنَ الصَّالِحِينَ) اللام المزحلقة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر ان.
[سورة البقرة (2) : الآيات 131 الى 132]
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
الإعراب:
(إِذْ) إن أضفنا الآيات بعضها الى بعض فالظرف متعلق باصطفيناه والأسهل أن نجري على النسق المتبع في القرآن وقد ألفناه فيها وهو(1/188)
تعليقه بمضمر أي اذكر (قالَ) الجملة الفعلية في محل جر باضافة الظرف إليها (لَهُ) الجار والمجرور متعلقان بقال (رَبُّهُ) فاعل قال والهاء ضمير متصل في محل جر بالاضافة (أَسْلِمْ) فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول (قالَ) فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو (أَسْلَمْتُ) الجملة الفعلية في محل نصب مقول القول (لِرَبِّ) جار ومجرور متعلقان بأسلمت (الْعالَمِينَ) مضاف اليه وعلامة جره الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم (وَوَصَّى) الواو عاطفة ووصى فعل ماض (بِها) الجار والمجرور متعلقان بوصي (إِبْراهِيمُ) فاعل وصى (بَنِيهِ) مفعول به منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والهاء ضمير متصل في محل جر بالاضافة (وَيَعْقُوبُ) معطوف على ابراهيم داخل في حكمه (يا بَنِيَّ) منادى مضاف على إضمار القول أي قائلين فالجملة حالية (إِنَّ اللَّهَ) إن واسمها (اصْطَفى) الجملة الفعلية في محل رفع خبر إن وفاعل اصطفى مستتر تقديره هو (لَكُمُ) الجار والمجرور متعلقان باصطفى (الدِّينَ) مفعول به (فَلا تَمُوتُنَّ) الفاء الفصيحة وسيأتي معناها أي إذا عرفتم هذا ولا ناهية وتموتن: فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون والنون المشددة للتوكيد وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والأصل تموتوننّ (إِلَّا) أداة حصر (وَأَنْتُمْ) الواو حالية وأنتم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (مُسْلِمُونَ) خبر والجملة الاسمية في محل نصب حال.
الفوائد:
1- يلحق بجمع المذكر السالم في إعرابه ما ورد عن العرب مجموعا جمع المذكر السالم غير مستوف لشروطه نحو: أولي وأهلين(1/189)
وعالمين ووابلين وأرضين وبنين وعشرين الى تسعين وسنين وبابه وهو كل ثلاثي حذفت لامه وعوّض عنها هاء التأنيث نحو عضين وعزين وثبين ومئين وظبين ونحوها ومفردها سنة وعضة وعزة وثبة ومائة وظبة ويلحق به ما سمّي من الأسماء المجموعة جمع المذكر السالم مثل عليّين وسجّين وغيرها.
2- كيفية اجراء الفعل المؤكد الذي تتوالى فيه النونات إذا جزم أن يقال فيه: أصل تموتنّ تموتوننّ النون الأولى علامة الرفع والثانية والثالثة نون التوكيد الثقيلة فاجتمعت ثلاثة أمثال فحذفت نون الرفع للجزم لأن نون التوكيد الثقيلة أولى بالبقاء باعتبارها دالة على معنى مستقبل فالتقى ساكنان: الواو والنون الأولى المدغمة فحذفت الواو لالتقاء الساكنين وبقيت الضمة تدل عليها وهكذا كل ما جاء من نظائره.
البلاغة:
في النهي عن الموت أو الأمر به نكتة بلاغية رائعة فهو في حدّ ذاته ليس بمنهي عنه ولا مأمور به لأنه من الأمور التي لا تدخل في الارادة الانسانية ولكنه نهى عنه هنا لإظهار أن الموت على خلاف الإسلام هو موت لا خير فيه وانه ليس بموت السعداء وكذلك الأمر بالموت تقول مت وأنت شهيد لا تريد الأمر بموته ولكن مت الميتة التي تورثك خلود الذكر في الدنيا والجنة والحياة الراغدة في الآخرة وقد تشبث أبو الطيب المتنبي بهذه النكتة فقال:
عش عزيزا أو مت وأنت كريم ... بين طعن القنا وخفق البنود(1/190)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
[سورة البقرة (2) : آية 133]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
الإعراب:
(أَمْ) يجوز فيها أن تكون متصلة عاطفة على محذوف مقدّر كأنه قيل:
أتدعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء وحضورا؟ ويجوز أن تكون منقطعة بمعنى بل أي لم تكونوا حاضرين عند ما حضر يعقوب الموت والشهداء الحضور جمع شاهد ويجوز أن تكون لمجرد الاستفهام بمعنى الهمزة (كُنْتُمْ) كان واسمها (شُهَداءَ) خبرها (إِذْ) ظرف لما مضى متعلق بشهداء (حَضَرَ) فعل ماض والجملة في محل جر باضافة الظرف إليها (يَعْقُوبَ) مفعول به مقدم (الْمَوْتُ) فاعل مؤخر (إِذْ) ظرف بدل من إذ الاولى (قالَ) فعل ماض وفاعله مستتر والجملة فعلية في محل جر باضافة الظرف إليها (لِبَنِيهِ) جار ومجرور متعلقان بقال (ما تَعْبُدُونَ) ما اسم استفهام في محل نصب مفعول به مقدم لتعبدون وتعبدون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والجملة في محل نصب مقول القول (مِنْ بَعْدِي) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (قالُوا) فعل وفاعل والجملة استئنافية (نَعْبُدُ إِلهَكَ) الجملة في محل نصب مقول القول (وَإِلهَ آبائِكَ) عطف على إلهك (إِبْراهِيمَ) بدل من آبائك (وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) عطف على ابراهيم (إِلهاً) بدل من إلهك أو حال موطئة(1/191)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
أو نصب على الاختصاص لنفي ما قد يخطر على البال من تعدد الإله فأتى به لدفع التوهم (واحِداً) صفة (وَنَحْنُ) الواو اما عاطفة وما بعدها وهو جزء الجواب معطوف على الجزء الاول ومن الجزأين يتألف الجواب وإما اعتراضية وإما حالية نحن مبتدأ (لَهُ) جار ومجرور متعلقان بمسلمون (مُسْلِمُونَ) خبر نحن.
البلاغة:
في قوله تعالى: (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ) الآية، فنّ من فنون البلاغة يسمى الاطراد وهو أن يطرد للمتكلم أسماء الآباء المخاطب مرتبة على حكم ترتيبها في الميلاد فقد تجاوز جدهم الأدنى الى جدهم الأعلى لكونه المبتدأ بالملة المتبعة وفيه أيضا فنّ المساواة لأن ألفاظ هذا المعنى لا فضل فيها عنه ولا تقصير وفيه أيضا حسن البيان لأن فيها بيانا عن الدين بأحسن بيان لا يتوقف أحد في فهمه وفيها أيضا فن الاحتراس لأنه لو وقف عند آبائك لاختلت صحة المعنى لأن مطلق الآباء يتناول من الأب الأدنى الى آدم وفي آباء يعقوب عليه السلام من لا يجب اتباع ملته فاحترس بذكر البدل عما يرد على المبدل منه لو كان وقع الاختصار عليه فتأمل واعجب.
[سورة البقرة (2) : الآيات 134 الى 135]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)(1/192)
اللغة:
(حَنِيفاً) من الحنف بفتحتين وهو الميل وأصله في القدمين وقد تستعمل في اليدين والحاء والنون إذا وقعتا في أول الفعل دلّ على الميل والانعطاف ومنه الحنين الى الوطن أي الميل اليه والنزوع نحوه وحنا عليه أي أعطف ومال وحنق عليه: التصق بطنه بظهره من الألم.
الإعراب:
(تِلْكَ أُمَّةٌ) مبتدأ وخبر (قَدْ خَلَتْ) الجملة صفة لأمة (لَها) الجار والمجرور خبر مقدم (ما) مبتدأ مؤخر (كَسَبَتْ) الجملة لا محل لها لأنها صلة ما الموصولية، (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) عطف على الجملة السابقة (وَلا تُسْئَلُونَ) الواو استئنافية وتسألون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل والجملة مستأنفة (عَمَّا) الجار والمجرور متعلقان بتسألون (كانُوا) الجملة صلة ما (يَعْمَلُونَ) الجملة الفعلية خبر كانوا (وَقالُوا) الواو استئنافية وقالوا فعل وفاعل (كُونُوا هُوداً) كان واسمها وخبرها والجملة في محل نصب مقول القول (أَوْ) حرف عطف ومعنى أو هنا التفصيل وهذا من اللف والنشر والسامع يرد الى كل فريق قوله (نَصارى) عطف على هودا (تَهْتَدُوا) فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للطلب (قُلْ) فعل أمر والجملة مستأنفة (بَلْ) حرف إضراب وعطف (مِلَّةَ) مفعول به لفعل محذوف أي نتبع أو منصوب على الإغراء بتقدير الزموا (إِبْراهِيمَ) مضاف إليه (حَنِيفاً) حال من ابراهيم (وَما) الواو عاطفة وما نافية (كانَ) فعل ماض ناقص(1/193)
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
واسمها ضمير مستتر تقديره هو (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها.
[سورة البقرة (2) : آية 136]
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
اللغة:
(الْأَسْباطِ) : جمع سبط بكسر السين وهو ولد البنت مقابل الحفيد الذي هو ولد الابن.
الإعراب:
(قُولُوا) فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الأفعال الخمسة والواو فاعل (آمَنَّا) فعل وفاعل والجملة في محل نصب مقول القول (بِاللَّهِ) جار ومجرور متعلقان بآمنا (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) عطف على الله وجملة أنزل إلينا صلة ما الموصولية (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) عطف أيضا (وَما) عطف أيضا (أُوتِيَ) الجملة صلة ما (مُوسى) نائب فاعل (وَعِيسى) عطف على موسى (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) عطف أيضا (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) الجملة الفعلية حالية ومنهم صفة لأحد (وَنَحْنُ) الواو حالية ونحن(1/194)
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
مبتدأ (لَهُ) جار ومجرور متعلقان بمسلمون (مُسْلِمُونَ) خبر نحن والجملة في محل نصب على الحال.
البلاغة:
النكرة الواقعة في سياق النفي تفيد العموم لفظا حتى يتنزّل المفرد منها بمنزلة الجمع في تناوله الآحاد، ولذلك صح دخول بين عليه وهي لا تكون إلا بين شيئين.
[سورة البقرة (2) : آية 137]
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
اللغة:
(الشقاق) بكسر الشين: الخلاف لأن كل واحد من المتشاقّين يكون في شق غير شق صاحبه وله في اللغة ثلاثة معان لا تخرج عن المفهوم الأول والثاني العداوة وهي وليدة الخلاف والثالث الضلال وهو سمة المتنازعين والمتشاقّين لأنهم يذهبون مع أهوائهم ومن غريب أمر الشين والقاف أنهما إذا وقعتا فاء للكلمة وعينا لها دلتا على هذا المعنى أو ما يقرب منه فالشّقّ: الصدع والاشتقاق شق الكلمة من الكلمة وهذا مما لم نسبق الى استخراجه.(1/195)
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
الإعراب:
(فَإِنْ آمَنُوا) الفاء استئنافية وان حرف شرط جازم وآمنوا فعل ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط (بِمِثْلِ) جار ومجرور متعلقان بآمنوا (ما) اسم موصول في محل جر بالاضافة (آمَنْتُمْ) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول (فَقَدِ) الفاء رابطة لجواب الشرط وقد حرف تحقيق (اهْتَدَوْا) فعل ماض وفاعل والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط (وَإِنْ تَوَلَّوْا) عطف على فإن آمنوا (فَإِنَّما) الفاء رابطة وانما كافة ومكفوفة (هُمْ) مبتدأ (فِي شِقاقٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر هم (فَسَيَكْفِيكَهُمُ) الفاء عاطفة للتعقيب وفائدة التعقيب الاشعار بأن الكفاية تأتي عقيب شقاقهم والسين حرف استقبال وهي أقرب في التنفيس من سوف أي في المستقبل القريب ويكفي فعل مضارع مرفوع والكاف مفعول به أول والهاء مفعول به ثان (اللَّهُ) فاعل (وَهُوَ) الواو استئنافية وهو مبتدأ (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) خبران وتعدد الخبر جائز.
[سورة البقرة (2) : الآيات 138 الى 139]
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
اللغة:
(صِبْغَةَ) : بكسر الصاد مصدر هيئة من صبغ والمراد بها هنا الدين وسمّي صبغة لظهور أثره على معتنقه.(1/196)
الإعراب:
(صِبْغَةَ اللَّهِ) مصدر مؤكد فهو مفعول مطلق لفعل محذوف، وفيها إشارة الى ما أوجده الله في الناس من بدائه العقول (وَمَنْ) الواو عاطفة ومن اسم استفهام وقد خرج الاستفهام هنا الى معنى النفي في محل رفع مبتدأ (أَحْسَنُ) خبر (مِنَ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بأحسن (صِبْغَةَ) تمييز (وَنَحْنُ) الواو عاطفة ونحن مبتدأ (لَهُ) الجار والمجرور متعلقان بعابدون (عابِدُونَ) خبر نحن (قُلْ) فعل أمر وفاعله أنت (أَتُحَاجُّونَنا) الهمزة للاستفهام الانكاري وتحاجون فعل مضارع والواو فاعل والضمير المشترك في محل نصب مفعول (فِي اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بتحاجوننا (وَهُوَ) الواو حالية وهو مبتدأ (رَبُّنا) خبر والجملة الاسمية في محل نصب على الحال (وَرَبُّكُمْ) عطف على ربنا (وَلَنا) الواو عاطفة ولنا الجار والمجرور خبر مقدم (أَعْمالُنا) مبتدأ مؤخر والجملة حالية (وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) عطف على الجملة السابقة (وَنَحْنُ) الواو حالية ونحن مبتدأ (لَهُ) الجار والمجرور متعلقان بمخلصون (مُخْلِصُونَ) خبر نحن والجملة حالية أيضا.
البلاغة:
في قوله: صبغة الله استعارة تصريحية شبّه الدين الاسلامي بالصبغة وحذف المشبه وأبقى المشبه به وقد تشبث بالمعنى واللفظ أعشى همدان حيث قال:
وكل أناس لهم صبغة ... وصبغة همدان خير الصّبغ
صبغنا على ذاك أولادنا ... فأكرم بصبغتنا في الصّبغ(1/197)
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
[سورة البقرة (2) : آية 140]
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
الإعراب:
(أَمْ) عاطفة متصلة معادلة للهمزة أو منقطعة بمعنى بل (تَقُولُونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل (إِنَّ إِبْراهِيمَ) إن واسمها (وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ) أسماء منسوقة على إبراهيم والجملة في محل نصب مقول القول (كانُوا) كان واسمها (هُوداً) خبر كان (أَوْ) عاطفة (نَصارى) معطوف على هودا والجملة الفعلية في محل رفع خبر إن (قُلْ) فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت (أَأَنْتُمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري وأنتم مبتدأ (أَعْلَمُ) خبر (أَمِ اللَّهُ) عطف على أنتم (وَمَنْ) الواو استئنافية ومن اسم استفهام مبتدأ (أَظْلَمُ) خبر (مِمَّنْ) الجار والمجرور متعلقان بأظلم والجملة مستأنفة مسوقة للتعريض بكتمانهم شهادة الله وهذا ديدن اليهود دائما (كَتَمَ) فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (شَهادَةً) مفعول به (عِنْدَهُ) الظرف متعلق بمحذوف صفة لشهادة (مِنَ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة ثانية لشهادة تقول: هذه شهادة مني(1/198)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
لفلان إذا شهدت له ولك أن تعلقها بكتم ولا بدّ لك حينئذ من تقدير مضاف أي من كتم من عباد الله شهادة عنده (وَمَا) الواو عاطفة أو استئنافية وما نافية حجازية تعمل عمل ليس (اللَّهُ) اسمها (بِغافِلٍ) الباء حرف جر زائد وغافل مجرور بالباء لفظا في محل نصب خبر ما (عَمَّا) الجار والمجرور متعلقان بغافل (تَعْمَلُونَ) فعل مضارع وفاعل والجملة صلة ما.
[سورة البقرة (2) : الآيات 141 الى 142]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
الإعراب:
(تِلْكَ) اسم إشارة في محل رفع مبتدأ (أُمَّةٌ) خبر (قَدْ) حرف تحقيق (خَلَتْ) فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والتاء تاء التأنيث الساكنة والفاعل مستتر تقديره هي(1/199)
والجملة الفعلية صفة لأمة (لَها) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (ما) اسم موصول مبتدأ مؤخر (كَسَبَتْ) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة ما (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) عطف على الجملة قبلها (وَلا) الواو عاطفة ولا نافية (تُسْئَلُونَ) فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل (عَمَّا) الجار والمجرور متعلقان بتسألون (كانُوا) كان واسمها (يَعْمَلُونَ) الجملة الفعلية خبر كانوا والجملة معطوفة على ما قبلها (سَيَقُولُ) السين حرف استقبال ويقول فعل مضارع مرفوع (السُّفَهاءُ) فاعل (مِنَ النَّاسِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من السفهاء والقائلون هم اليهود الموسومون بخفة الأحلام والجملة مستأنفة مسوقة للدلالة على استمرار غيهم وسفههم (ما) اسم استفهام مبتدأ (وَلَّاهُمْ) فعل وفاعل مستتر ومفعول به والجملة خبر ما والجملة كلها مقول القول (عَنْ قِبْلَتِهِمُ) متعلقان بولاهم (الَّتِي) اسم موصول في محل جر صفة لقبلتهم (كانُوا) كان واسمها والجملة صلة التي (عَلَيْها) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر كانوا، أي عاكفين عليها في الصلاة وهي بيت المقدس (قُلْ) فعل أمر، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت (لِلَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (الْمَشْرِقُ) مبتدأ مؤخر (وَالْمَغْرِبُ) عطف على المشرق (يَهْدِي) فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله تعالى (مِنَ) اسم موصول مفعول يهدي، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول (يَشاءُ) فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره هو، والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (إِلى صِراطٍ) الجار والمجرور متعلقان بيهدي (مُسْتَقِيمٍ) صفة لصراط.(1/200)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
[سورة البقرة (2) : آية 143]
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)
اللغة:
(وَسَطاً) : خيارا عدولا مزكّين بالعلم والعمل، ويستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما كان الخيار وسطا لأن الخلل إنما يتسرب الى الأطراف وتبقى الأوساط محمية. وقد رمق أبو تمام سماء هذا المعنى فقال:
كانت هي الوسط المحميّ فاكتنفت ... بها الحوادث حتى أصبحت طرفا
الإعراب:
(وَكَذلِكَ) الواو استئنافية والكاف حرف جر، واسم الاشارة في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف أي مثل ذلك الجعل جعلناكم (جَعَلْناكُمْ) فعل وفاعل ومفعول به أول لجعلنا (أُمَّةً) : مفعول جعلنا الثاني (وَسَطاً) صفة لأمة (لِتَكُونُوا) : اللام لام التعليل، وتكونوا فعل مضارع ناقص منصوب(1/201)
بأن مضمرة جوازا بعد لام التعليل والجار والمجرور في محل نصب مفعول لأجله، والواو اسمها (شُهَداءَ) خبرها (عَلَى النَّاسِ) الجار والمجرور متعلقان بشهداء (وَيَكُونَ) عطف على تكونوا (الرَّسُولُ) اسم يكون (عَلَيْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بشهيدا (شَهِيداً) خبر يكون (وَما) الواو عاطفة، وما نافية (جَعَلْنَا) فعل وفاعل (الْقِبْلَةَ) مفعول جعلنا الاول (الَّتِي) اسم موصول في محل نصب مفعول جعلنا الثاني (كُنْتَ) كان واسمها (عَلَيْها) الجار والمجرور خبر كنت، والجملة لا محل لها لأنها صلة التي، وسيأتي مزيد من اعراب هذه الآية في باب الفوائد. (إِلَّا) أداة حصر (لِنَعْلَمَ) اللام لام التعليل، ونعلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن، وموضع لنعلم مفعول لأجله فهو استثناء مفرّغ من أعمّ العلل (مَنْ) اسم موصول في موضع نصب مفعول نعلم (يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول، والرسول مفعول به (مِمَّنْ) الجار والمجرور متعلقان بنعلم المضمّنة معنى نميّز (يَنْقَلِبُ) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول (عَلى عَقِبَيْهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، أي مرتدا على عقبيه (وَإِنْ) الواو حالية، وإن مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف، أي والحال أنها (كانَتْ) فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر تقديره التولية إليها، والجملة الفعلية خبر إن، وجملة إن وما في حيزها في موضع نصب على الحال (لَكَبِيرَةً) اللام هي الفارقة، وكبيرة: خبر كانت (إِلَّا) أداة استثناء (عَلَى الَّذِينَ) الجار والمجرور في موضع نصب على الاستثناء، والمستثنى منه محذوف تقديره: وإن كانت لكبيرة على الناس إلا على الناس الذين هداهم الله، ولك أن تجعل «إلا» أداة حصر لأن الكلام غير تام أو لتضمنه معنى النفي فيتعلق الجار والمجرور بكبيرة (هَدَى اللَّهُ) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة(1/202)
الذين (وَما) الواو عاطفة، وما نافية (كانَ اللَّهُ) كان واسمها (لِيُضِيعَ) اللام لام الجحود وهي مسبوقة بكون منفي، ويضيع فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد لام الجحود، وخبر كان محذوف تقديره مريدا، والجار والمجرور متعلقان بالخبر المحذوف (إِيمانَكُمْ) مفعول به (إِنَّ اللَّهَ) ان واسمها (بِالنَّاسِ) الجار والمجرور متعلقان برؤوف أو رحيم (لَرَؤُفٌ) اللام هي المزحلقة، ورؤوف خبر إن الأول (رَحِيمٌ) خبر إنّ الثاني، وجملة إن وما في حيزها لا محلّ لها لأنها تعليلية.
البلاغة:
1- التورية في قوله: «وسطا» فالمعنى القريب الظاهر للوسط هو التوسط مع ما يعضده من توسط قبلة المسلمين، ومعناه البعيد المراد هو الخيار كما تقدم في باب اللغة.
2- الكناية في الوسط أيضا عن غاية العدالة كأنه الميزان الذي لا يحابي ولا يميل مع أحد.
3- المجاز المرسل في قوله: «على عقبيه» والعلاقة هي المصير والمآل، فليس ثمة أسمج ولا أقبح من رؤية الإنسان معكوس الخلقة، مخالفا للمألوف المعتاد.
4- التقديم والتأخير: فقد قدم «شهداء» على صلته وهي «على الناس» ، وأخر «شهيدا» عن صلته وهي «عليكم» لأن المنّة عليهم في الجانبين ففي الاول بثبوت كونهم شهداء، وفي الثاني بثبوت كونهم مشهودا لهم بالتزكية، والمقدم دائما هو الأهم.(1/203)
الفوائد:
1- لا مندوحة لنا عن إيراد بعض الأقوال الجديرة بالاهتمام، فقد أورد العلماء خمسة أعاريب لهذه الآية يضيق المجال عن إيرادها وقد أوردنا ما اخترناه منها واختاره الزمخشري، واختار الجلال أن تكون «القبلة» المفعول الثاني مقدما و «التي كنت عليها» هو المفعول الأول محتجا بأن التصيير هو الانتقال من حال الى حال، فالمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني، ألا ترى أنك تقول: جعلت الطين خزفا. واختاره أبو حيان. وقيل «القبلة» هي المفعول الأول و «التي كنت عليها» صفة، أما المفعول الثاني فهو محذوف تقديره منسوخا أو نحوه.
لمحة تاريخية:
فقد اتفق الجميع على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الى صخرة بيد المقدس بعد الهجرة مدة، ثم أمر بالصلاة إلى الكعبة، وإنما اختلفوا في قبلته بمكة هل كانت الكعبة أو بيت المقدس، والمرويّ عن أئمة أهل البيت أنها كانت بيت المقدس، ثم لا يخفى أن الجعل في الآية مركب لا بسيط، وقوله تعالى: «التي كنت عليها» ثاني مفعوليه كما نص عليه أكثر المفسرين، وأما القائلون بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة الى الكعبة، فالجعل عندهم يحتمل أن يكون منسوخا باعتبار الصلاة بالمدينة مدة الى بيت المقدس، وأن يكون جعلا ناسخا باعتبار الصلاة بمكة، وقال الرازي: إن قوله تعالى «التي كنت عليها» ليس نعتا للقبلة وإنما هو ثاني مفعولي جعلنا، هذا وسميت الكعبة كعبة لتربيعها وسيأتي مزيد بحث بذلك.(1/204)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
2- إذا خففت «إنّ» دخلت على الجملتين الفعلية والاسمية، فان دخلت على الاسمية جاز إعمالها وإهمالها، والأكثر الإهمال. وإن دخلت على الفعلية وجب إهمالها، والأكثر أن يكون الفعل ماضيا ناسخا، لأن العرب لما أخرجوها عن وضعها الاصلي بدخولها على الفعل أرادوا أن يكون ذلك الفعل من أفعال المبتدأ والخبر لئلا يزول عنها وضعها كليا كما ترى في الآية، ولا بد من دخول «لام» بعدها تسمى اللام الفارقة للفرق بينها وبين «إن» النافية.
3- لام الجحود أي لام الإنكار، هي الواقعة بعد كون ماض منفيّ، وخبر كان مختلف فيه فقيل: هو محذوف يقدّر بحسب المقام وتتعلق به لام الجحود مع المصدر المجرور بها، لأن «أن» المصدرية تضمر بعدها وجوبا، وقيل الجار والمجرور في محل الخبر، وهذا أسهل ولكن الاول أشهر وأضبط لاستقامة الخبر.
[سورة البقرة (2) : آية 144]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
اللغة:
(شَطْرَ) للشطر في كلام العرب وجهان: فأحدهما النصف، ومن ذلك قولهم «شاطرتك مالي» . والوجه الآخر: القصد، يقال:
«خذ شطر زيد» أي قصده، وهو المراد هنا، ومنه قولهم: «حلبت(1/205)
الدهر أشطره» أي مرّ بي خيره وشره، ومنه سميّ الشاطر وهو من أعيا أهله خبثا.
الإعراب:
(قَدْ) هنا للتكثير بقرينة ذكر التقلب، والتكثير بالنسبة الى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فهو محال على الله تعالى (نَرى) فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر تقديره نحن (تَقَلُّبَ) مفعول به (وَجْهِكَ) مضاف اليه (فِي السَّماءِ) الجار والمجرور متعلقان بتقلب لأنه مصدر (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ) الفاء عاطفة للتعليل، واللام موطّئة للقسم، ونولينك: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن، والكاف مفعول به أول (قِبْلَةً) مفعول به ثان ويجوز نصبها على نزع الخافض (تَرْضاها) فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت، و «ها» مفعول به. والجملة صفة لقبلة، وجملة فلنولينك لا محل لها لأنها تعليلية (فَوَلِّ) الفاء هي الفصيحة، وول فعل أمر مبني على حذف حرف العلة. وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت (وَجْهِكَ) مفعول به، والكاف ضمير متصل في محل جر بالاضافة (شَطْرَ الْمَسْجِدِ) مفعول فيه ظرف مكان متعلق بولّ، والمسجد مضاف اليه (الْحَرامِ) صفة للمسجد وجملة فولّ لا محل لها.. (وَحَيْثُ ما) الواو استئنافية، وحيثما اسم شرط جازم في محل نصب على الظرفية متعلق بمحذوف خير كنتم المقدم (كُنْتُمْ) كان فعل ماض ناقص واسمها، والجملة في محل جزم فعل الشرط، وكان القياس أن تكون في محل جر بالاضافة لولا المانع وهو كونها من عوامل الافعال (فَوَلُّوا) الفاء رابطة للجواب لأنه طلبي، وولوا: فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الافعال الخمسة(1/206)
والواو فاعل والجملة في محل جزم جواب الشرط (وُجُوهَكُمْ) مفعول به (شَطْرَهُ) ظرف مكان متعلق بولوا (وَإِنَّ الَّذِينَ) الواو استئنافية، وان واسمها (أُوتُوا الْكِتابَ) الجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول، والكتاب مفعول ثان لأوتوا، والأول هو النائب للفاعل وهو الواو (لَيَعْلَمُونَ) اللام هي المزحلقة، وجملة يعلمون خبر إن (أَنَّهُ الْحَقُّ) أن واسمها وخبرها، وقد سدت مسد مفعولي يعلمون (مِنْ رَبِّهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (وَمَا) الواو استئنافية، وما نافية حجازية تعمل عمل ليس (اللَّهُ) اسم ما (بِغافِلٍ) الباء حرف جر زائد، وغافل مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما (عَمَّا) الجار والمجرور متعلقان بغافل (يَعْمَلُونَ) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة ما.
الفوائد:
1- (حَيْثُ ما) اسم شرط جازم محله النصب على الظرفية المكانية، وأصله حيث، وزيدت ما فكان اسما جازما، و «حيث» ظرف مكان مبني على الضم، وهو مضاف الى الجمل، فهو يقتضي جر ما بعده، وما اقتضى الجر لا يقتضي الجزم فلما وصلت ب (ما) زال عنها معنى الاضافة كما تقدم.
2- لمحة تاريخية:
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم توجّه الى الكعبة وكان ذلك في رجب قبل موقعة بدر بشهرين ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمسجد سلمة، وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر أو العصر فتحول في الصلاة(1/207)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
واستقبل القبلة، وحوّل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فسمي المسجد مسجد القبلتين، والحكمة في ذلك واضحة بل هي أروع ما تصل اليه المعاملة الانسانية التي تستهدف قبل كل شيء استمالة القلوب وتلين العواطف، بيد أن ذلك لم يجد شيئا في ازالة التحجر الذي ران على قلوب اليهود، وقد علل القرآن هذا التحجر بالآية التالية:
[سورة البقرة (2) : آية 145]
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
الإعراب:
(وَلَئِنْ) الواو استئنافية، واللام موطّئة للقسم، وإن شرطية (أَتَيْتَ) فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعل (الَّذِينَ) اسم موصول في محل نصب مفعول به (أُوتُوا الْكِتابَ) فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل، والكتاب مفعول أوتوا الثاني (بِكُلِّ آيَةٍ) الجار والمجرور متعلقان بأتيت (ما) نافية (تَبِعُوا) فعل ماض وفاعل (قِبْلَتَكَ) مفعول به، والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم، وقد أغنت عن جواب الشرط لتقدم القسم، وإذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للمتقدم منهما (وَما) الواو عاطفة، وما نافية حجازية (أَنْتَ) اسم ما (بِتابِعٍ) الباء حرف جر زائد، وتابع مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما (قِبْلَتَهُمْ) مفعول به لاسم(1/208)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
الفاعل تابع، وهذه الجملة معطوفة على ما سبق (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) الجملة عطف على سابقتها (وَلَئِنْ) الواو استئنافية، ولئن تقدم إعرابها (اتَّبَعْتَ) فعل وفاعل (أَهْواءَهُمْ) مفعول به (مِنْ بَعْدِ) الجار والمجرور متعلقان باتبعت (ما) اسم موصول في محل جر بالاضافة (جاءَكَ) الجملة لا محلّ لها لأنها صلة ما (مِنَ الْعِلْمِ) الجار والمجرور في موضع نصب على الحال (إِنَّكَ) ان واسمها (إِذاً) حرف جواب وجزاء، وهي مهملة جيء بها لتوكيد القسم (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) اللام هي المزحلقة، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر إن، وجملة إن وما في حيزها لا محلّ لها لأنها جواب القسم ولذلك لم ترتبط بالفاء.
[سورة البقرة (2) : الآيات 146 الى 147]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
اللغة:
(الامتراء) : الشك، وقد يساور الغافلين سؤال وهو: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يشك في أن الحق من ربه حتى نهي عن الشك؟
والجواب: إن ذلك هو الكلام الذي تخرجه العرب مخرج الأمر أو النهي للمخاطب والمراد به غيره.
الإعراب:
(الَّذِينَ) اسم موصول مبتدأ (آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) فعل وفاعل ومفعول به، والكتاب مفعول به ثان لآتيناهم والجملة الفعلية لا محل(1/209)
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
لها لأنها صلة الذين (يَعْرِفُونَهُ) فعل مضارع وفاعله ومفعوله، وجملة يعرفونه خبر الذين (كَما) الكاف حرف جر، وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف هو المفعول المطلق (يَعْرِفُونَ) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول الحرفي وهو ما المصدرية (أَبْناءَهُمْ) مفعول به (وَإِنَّ فَرِيقاً) الواو حالية، وان واسمها، والجملة نصب على الحال، ولك أن تجعل الواو استئنافية فتكون الجملة مستأنفة لتقرير حالتهم (مِنْهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لفريقا (لَيَكْتُمُونَ) اللام هي المزحلقة، ويكتمون فعل وفاعل (الْحَقَّ) مفعول به، والجملة في محل رفع خبر إن (وَهُمْ) الواو حالية، وهم مبتدأ (يَعْلَمُونَ) الجملة الفعلية خبر هم، والجملة بعد الواو في محل نصب على الحال (الْحَقُّ) مبتدأ (مِنْ رَبِّكَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر والجملة استئنافية، (فَلا) الفاء استئنافية ولا ناهية (تَكُونَنَّ) جملة تكونن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم بلا الناهية، واسم تكونن ضمير مستتر تقديره أنت (مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر.
[سورة البقرة (2) : آية 148]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
اللغة:
ِجْهَةٌ)
بضم الواو وكسرها وهي الجهة التي تتجه إليها، يقال:
ضلّ وجهة أمره أي جهته، والجهة مثلثة الجيم والكسر أشهر.(1/210)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)
الإعراب:
َ لِكُلٍّ)
الواو استئنافية، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدمِ جْهَةٌ)
مبتدأ مؤخرُوَ)
مبتدأُوَلِّيها)
خبر، والجملة الاسمية صفة لوجهةَاسْتَبِقُوا)
الفاء هي الفصيحة، أي إذا أردتم معرفة الأصوب فاستبقوا، واستبقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل لْخَيْراتِ)
منصوب بنزع الخافض لأن استبق لازم، أي الى الخيرات، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط مقدرَيْنَ ما)
اسم شرط جازم منصوب على الظرفية المكانية، وهو متعلق بمحذوف خبر تكونوا المقدمَ كُونُوا)
فعل مضارع مجزوم لأنه فعل الشرط والواو اسمها وجملة تكونوا استئنافيةَأْتِ)
جواب الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلةِكُمُ)
جار ومجرور متعلقان بيأت للَّهُ)
فاعلَ مِيعاً)
حالِ نَّ اللَّهَ)
ان واسمهاَلى كُلِّ شَيْءٍ)
الجار والمجرور متعلقان بقديرَدِيرٌ)
خبر إن، والجملة تعليلية لا محل لها.
[سورة البقرة (2) : آية 149]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)
الإعراب:
(وَمِنْ حَيْثُ) : الواو استئنافية، والجار والمجرور ظاهرهما أنهما متعلقان بول، ولكن فيه إعمال ما بعد الفاء فيما قبلها وهو ممتنع، غير أن المعنى متوقف على هذا الظاهر، فالأولى تعليقهما بفعل(1/211)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
محذوف يفسره فولّ أي ولّ وجهك من حيث خرجت (خَرَجْتَ) فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بالاضافة (فَوَلِّ) الفاء رابطة لما في «حيث» من رائحة الشرط، وولّ فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، والجملة لا محل لها لأنها مفسرة (وَجْهَكَ) مفعول به (شَطْرَ الْمَسْجِدِ) ظرف مكان متعلق بولّ، والمسجد مضاف اليه (الْحَرامِ) صفة (وَإِنَّهُ) الواو عاطفة أو حالية، وان واسمها (لَلْحَقُّ) اللام هي المزحلقة، والحق خبر إنّ (مِنْ رَبِّكَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) تقدم إعرابه.
[سورة البقرة (2) : الآيات 150 الى 151]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
الإعراب:
(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) تقدم اعرابها وهي تأكيد ثان، وكرر الكلام لتشديد أمر القبلة وإماطة الشبهة بعد أن طرأ النسخ على القبلة التي هي بيت المقدس (وَحَيْثُ ما(1/212)
كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)
تأكيد ثالث لئلا تبقى للمعاندين حجة في نظرهم ينفذون منها أو ثغرة يتسرّبون الى الإرجاف عن طريقها (لِئَلَّا) اللام هي لام التعليل وأن المدغمة بلا النافية حرف مصدري ونصب (يَكُونَ) فعل مضارع ناقص منصوب بأن والجار والمجرور «اللام والمصدر المؤول» متعلقان بولوا (لِلنَّاسِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر يكون المقدم. (عَلَيْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لحجة فلما تقدمت الصفة على الموصوف أعربت حالا كما هي القاعدة (حُجَّةٌ) اسم يكون المرفوع المؤخر (إِلَّا) أداة استثناء (الَّذِينَ) مستثنى متصل من الناس (ظَلَمُوا) الجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (مِنْهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (فَلا) الفاء هي الفصيحة أي إذا عرفتم ذلك ورسخت حقيقته في نفوسكم ولا ناهية (تَخْشَوْهُمْ) فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به (وَاخْشَوْنِي) الواو عاطفة واخشوا فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الافعال الخمسة والنون للوقاية والواو فاعل والياء مفعول به (وَلِأُتِمَّ) عطف على لئلا يكون فهو علة ثانية (نِعْمَتِي) مفعول به والياء مضاف إليه (عَلَيْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بأتمّ (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الواو عاطفة ولعل واسمها، وجملة تهتدون خبرها (كَما أَرْسَلْنا) الكاف حرف جر وما مصدرية وأرسلنا فعل وفاعل والكاف ومجرورها المصدر المؤول في موضع نصب على المفعول المطلق وأعربه سيبويه حالا (فِيكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بأرسلنا (رَسُولًا) مفعول به (مِنْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة (يَتْلُوا) الجملة الفعلية صفة ثانية لرسولا (عَلَيْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بيتلو (آياتِنا) مفعول به ونا مضاف اليه (وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ)(1/213)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
الفعلان المضارعان معطوفان على يتلو (الْكِتابَ) مفعول به (وَالْحِكْمَةَ) عطف على الكتاب (وَيُعَلِّمُكُمُ) معطوف على ما تقدم والكاف مفعول به أول (ما) اسم موصول مفعول به ثان (لَمْ) حرف نفي وقلب وجزم (تَكُونُوا) فعل مضارع ناقص مجزوم بلم والواو اسمها والجملة الفعلية صلة ما (تَعْلَمُونَ) الجملة الفعلية خبر تكونوا.
[سورة البقرة (2) : الآيات 152 الى 154]
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)
الإعراب:
(فَاذْكُرُونِي) الفاء هي الفصيحة أي إذا شئتم الاهتداء الى محجّة الصواب فاذكروني، واذكروني: فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به (أَذْكُرْكُمْ) فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به (وَاشْكُرُوا) عطف على اذكروني، وشكر يتعدى بنفسه تارة وتارة بحرف الجر على حد سواء (لِي) جار ومجرور متعلقان باشكروا (وَلا) الواو حرف عطف ولا ناهية (تَكْفُرُونِ) فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء المحذوفة لمناسبة فواصل الآي مفعول به والكسرة دليل عليها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها كثيرا (اسْتَعِينُوا) فعل أمر مبني(1/214)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
على حذف النون والواو فاعل (بِالصَّبْرِ) الجار والمجرور متعلقان باستعينوا (وَالصَّلاةِ) عطف على الصبر (إِنَّ اللَّهَ) ان واسمها (مَعَ الصَّابِرِينَ) مع ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر والصابرين مضاف اليه. وجملة ان وما في حيزها اسمية لا محل لها لأنها تعليلية (وَلا تَقُولُوا) الواو عاطفة على ما تقدم ولا ناهية وتقولوا فعل مضارع مجزوم بلا (لِمَنْ) الجار والمجرور متعلقان بتقولوا وجملة (يُقْتَلُ) صلة الموصول لا محل لها (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بيقتل (أَمْواتٌ) خبر لمبتدأ محذوف أي هم أموات والجملة الاسمية مقول القول (بَلْ) حرف إضراب وعطف (أَحْياءٌ) خبر لمبتدأ محذوف والجملة معطوفة على جملة هم أموات (وَلكِنْ) الواو حالية ولكن مخففة من الثقيلة فهي لمجرد الاستدراك (لا) نافية (تَشْعُرُونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الافعال الخمسة والجملة نصب على الحال.
البلاغة:
1- الإيجاز في الآية الاخيرة وهو إيجاز الحذف فقد حذف المبتدأ لأهمية ذكر الخبر لأنهم ما كانوا يتصورون أنهم أحياء ففند سبحانه هذه البدائية العجيلة تصويرا رشيقا.
2- الطباق بين أموات وأحياء في الآية هو طباق رشيق لا تكلف فيه.
[سورة البقرة (2) : الآيات 155 الى 157]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)(1/215)
اللغة:
(البلاء) : الاختبار والامتحان.
الإعراب:
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) الواو استئنافية واللام موطّئة للقسم ونبلونّ فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر وجوبا تقديره نحن والكاف مفعول به (بِشَيْءٍ) الجار والمجرور متعلقان بنبلونكم (مِنَ الْخَوْفِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لشيء، وجملة نبلونكم لا محل لها لأنها جواب قسم محذوف وطّأت له اللام وقد اقترنت بنون التوكيد الثقيلة لأنه مضارع مثبت مستقبل متصل بلامه (وَالْجُوعِ) عطف على الخوف (وَنَقْصٍ) عطف أيضا (مِنَ الْأَمْوالِ) الجار والمجرور متعلقان بنقص لأنه مصدر نقص، أو بمحذوف صفة لنقص لأنه نكرة (وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ) معطوفان على الأموال وجملة القسم وجوابه مستأنفة مسوقة لاختبار أحوالهم ومدى صبرهم على البلاء واستسلامهم للقضاء بشيء من الخوف والجوع (وَبَشِّرِ) الواو عاطفة وبشر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت (الصَّابِرِينَ) مفعول به وجملة بشر معطوفة على ولنبلونكم ولا تقل إنه فعل طلبي فكلاهما مضمونه طلبي، فهو من باب عطف المضمون على المضمون، أي أن الابتلاء حاصل وقت البلاء ووقت البشارة (الَّذِينَ) صفة(1/216)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
للصابرين (إِذا) ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق بجوابه وهو قالوا (أَصابَتْهُمْ) الجملة في محل جر بالاضافة (مُصِيبَةٌ) فاعل وجملة الشرط وجوابه لا محل لها لأنها صلة الموصول (قالُوا) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (إِنَّا) ان واسمها (لِلَّهِ) الجار والمجرور متعلقان براجعون (وَإِنَّا إِلَيْهِ) عطف على جملة انا الله (راجِعُونَ) خبر إن (أُولئِكَ) اسم الاشارة مبتدأ (عَلَيْهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (صَلَواتٌ) مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر اسم الاشارة (مِنْ رَبِّهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لصلوات (وَرَحْمَةٌ) عطف على صلوات وجملة الاشارة وما بعدها مستأنفة مسوقة لبيان ما بشروا به (وَأُولئِكَ) الواو عاطفة وأولئك مبتدأ (هُمُ) مبتدأ ثان أو ضمير فصل لا محل له (الْمُهْتَدُونَ) خبر «هم» أو خبر أولئك والجملة خبر أولئك.
[سورة البقرة (2) : آية 158]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
اللغة:
(الصَّفا) : جبل بمكة، وأصل معنى الصفا أنه جمع صفاة أي الصخرة الملساء. وألفها منقلبة عن واو (الْمَرْوَةَ) جبل بمكة أيضا.
وأصل معنى المروة الحجارة الرخوة وقيل: التي فيها صلابة.(1/217)
قال أبو ذؤيب:
حتى كأنّي للحوادث مروة ... بصفا المشقّر كلّ يوم تقرع
(الشعائر) : جمع شعيرة وهي العلامة.
(حَجَّ) : قصد.
(اعْتَمَرَ) : زار البيت المعظم على الوجه المشروع.
ثم صار الحج والعمرة علمين لقصد البيت وزيارته.
(لا جناح) الجناح: الميل الى المأثم، ثم أطلق على الإثم، يقال: جنح الى الشيء أي مال اليه، ومنه جنح الليل أي ميله بظلمته، وجنح الطائر وجناحه.
الإعراب:
(إِنَّ الصَّفا) إن واسمها (وَالْمَرْوَةَ) عطف على الصفا (مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر إن والجملة ابتدائية لا محل لها (فَمَنْ) الفاء استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ (حَجَّ الْبَيْتَ) حج فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله مستتر يعود على من والبيت مفعول به (أَوِ اعْتَمَرَ) أو حرف عطف واعتمر فعل ماض معطوف على حج (فَلا جُناحَ) الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية ولا نافية للجنس وجناح اسمها المبني على الفتح (عَلَيْهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لا (أَنْ يَطَّوَّفَ) أن المصدرية وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي في أن يطوف (بِهِما) الجار والمجرور متعلقان بيطوف. وجملة فلا جناح عليه في(1/218)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
محل جزم جواب الشرط وجملة فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر من (وَمَنْ تَطَوَّعَ) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وتطوع فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره هو (خَيْراً) صفة لمصدر محذوف فهو مفعول مطلق أي يتطوع تطوعا خيرا. ولك أن تعربه منصوبا بنزع الخافض أي بخير، واختار سيبويه أن يعرب حالا من المصدر المقدر معرفة، ولو لم يكن سيبويه قائله لخطّأته (فَإِنَّ اللَّهَ) الفاء رابطة لجواب الشرط وإن واسمها (شاكِرٌ عَلِيمٌ) خبر ان لإن وجملة فإن الله في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من.
[سورة البقرة (2) : الآيات 159 الى 160]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ) إن واسمها (يَكْتُمُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل، والجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول، وجملة إن وما في حيّزها مستأنفة مسوقة لبيان حكم من كتم شيئا من أحكام الدين بصورة عامة، وقد نزلت في حقّ اليهود الذين يجمجمون حبا للجدل والمكابرة، وخصوص السبب لا يمنع من عموم الحكم (ما) مفعول يكتمون (أَنْزَلْنا) فعل وفاعل والعائد محذوف أي أنزلناه، والجملة(1/219)
لا محل لها لأنها صلة الموصول (مِنَ الْبَيِّناتِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، أي حالة كونها مبينة شاهدة بالحقائق. وقد ألمعت الآية الى محاولة اليهود إخفاء بعض الآيات الدّالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو التي تصوّر عيوبهم وآثامهم التي يرتكبونها (وَالْهُدى) عطف على البينات (مِنْ بَعْدِ) الجار والمجرور متعلقان بيكتمون (ما بَيَّنَّاهُ) ما مصدرية وبيناه فعل وفاعل ومفعول. والمصدر المؤول في محل جر بالاضافة أي من بعد تبيانه (لِلنَّاسِ) الجار والمجرور متعلقان ببيناه (فِي الْكِتابِ) الجار والمجرور متعلقان ببيناه أيضا. وتعلق جار بفعل واحد عند اختلاف المعنى واللفظ جائز.
ولك أن تعلق «في الكتاب» بمحذوف حال من المفعول به أي كائنا في الكتاب (أُولئِكَ) اسم الاشارة مبتدأ (يَلْعَنُهُمُ) فعل مضارع والهاء مفعوله (اللَّهُ) فاعله والجملة الفعلية خبر اسم الاشارة (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) عطف على الجملة السابقة، وجملة الاشارة الاسمية في محل رفع خبر إن (إِلَّا) أداة استثناء (الَّذِينَ) مستثنى من المفعول به أي الهاء في يلعنهم (تابُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة (وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) عطف على تابوا (فَأُولئِكَ) الفاء رابطة، لأن في الموصول رائحة الشرط، واسم الاشارة مبتدأ (أَتُوبُ) فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا، وجملة أتوب خبر اسم الاشارة وجملة الاشارة استئنافية (عَلَيْهِمْ) متعلقان بأتوب (وَأَنَا) الواو عاطفة وأنا مبتدأ (التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) خبر ان لأنا والجملة معطوفة.
البلاغة:
1- التكرير في ذكر اللعن، والغاية منه التأكيد في الذم.
2- الالتفات في قوله «يلعنهم الله» وكان السياق يقتضي بأن(1/220)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
يقول نلعنهم، ولكنه التفت الى الغائب للدلالة على إظهار السخط عليهم، وليكون الكلام أوغل في إنزال اللعن عليهم، وإلحاق الطرد بهم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 161 الى 163]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163)
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ) إن واسمها (كَفَرُوا) فعل وفاعل والجملة صلة الموصول لا محل لها (وَماتُوا) الواو عاطفة، وجملة ماتوا عطف على جملة كفروا (وَهُمْ) الواو حالية وهم مبتدأ (كُفَّارٌ) خبر «هم» والجملة في محل نصب على الحال (أُولئِكَ) اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ (عَلَيْهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم (لَعْنَةُ اللَّهِ) مبتدأ مؤخر (وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ) عطف على الله، والجملة الاسمية خبر أولئك وجملة أولئك وما في حيزها خبر إن وجملة ان وما في حيزها مستأنفة مسوقة لبيان مصير القسم الثاني من الكاتبين، وقد بيّن مصير من تاب في الاستثناء (أَجْمَعِينَ) تأكيد (خالِدِينَ) حال من الضمير في عليهم (فِيها) الجار والمجرور متعلقان بخالدين، والضمير يعود على النار التي أضمرت للتخويف والتهويل. ويجوز أن يعود على اللعنة مجازا، والعلاقة المحلية (لا يُخَفَّفُ) لا نافية ويخفف فعل مضارع مبني للمجهول (عَنْهُمُ) جار ومجرور متعلقان(1/221)
بيخفف (الْعَذابُ) نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل نصب حال ثانية للذين كفروا من الضمير المستكنّ في خالدين فهي حال متداخلة (وَلا) الواو عاطفة ولا نافية (هُمْ) مبتدأ (يُنْظَرُونَ) فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل، أي لا يمهلون ولا يؤجلون، والجملة الفعلية خبر «هم» والجملة الاسمية عطف على جملة لا يخفف (وَإِلهُكُمْ) الواو استئنافية وما بعدها جملة مستأنفة لا محل لها مسوقة للرد على كفار قريش الذين قالوا: يا محمد صف لنا ربك، وإلهكم مبتدأ (إِلهٌ) خبر (واحِدٌ) صفة لإله (لا) نافية للجنس (إِلهٌ) اسمها مبني على الفتح في محل نصب (إِلَّا) أداة حصر (هُوَ) بدل من محل لا واسمها لأن محلها الرفع على الابتداء، أو بدل من الضمير المستكنّ في الخبر المحذوف. وسيأتي مزيد من أقوال النحاة والمفسرين في إعراب كلمة الشهادة ترويضا للذهن (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) خبر ان لمبتدأ محذوف تقديره هو.
الفوائد:
خاض علماء النحو والمفسرون كثيرا في اعراب «لا إله إلا الله» وهي كلمة الشهادة واتفقوا على أن خبر لا محذوف أي لنا، أو في الوجود، أو نحو ذلك. وسنورد لك خلاصة مفيدة لما قالوه لأهميته:
الزمخشري:
صنف جزءا لطيفا في إعراب كلمة الشهادة، فبعد أن أورد ما اتفقوا عليه من حذف خبر لا قال: «هكذا قالوا، والصواب أنه كلام تام ولا حذف، وأن الأصل: الله إله مبتدأ وخبر، كما تقول: زيد(1/222)
منطلق، ثم جيء بأداة الحصر وقدّم الخبر على الاسم وركب مع لا كما ركب المبتدأ معها في نحو لا رجل في الدار، ويكون «الله» مبتدأ مؤخرا و «وإله» خبرا مقدما، وعلى هذا تخريج نظائره نحو:
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا عليّ» .
الزمخشري أيضا:
وقال الزمخشري في المفصّل بصدد كلامه عن خبر لا النافية للجنس: «وقد يحذفه الحجازيون كثيرا فيقولون: لا أهل ولا مال ولا بأس ولا فتى إلا عليّ ولا سيف إلا ذو الفقار، ومنه كلمة الشهادة، ومعناها: لا إله في الوجود إلا الله، وبنو تميم لا يثبتونه في كلامهم أصلا» .
ابن يعيش:
وقال شارح المفصّل موفق الدين بن يعيش: «اعلم أنهم يحذفون خبر لا من: لا رجل ولا غلام ولا حول ولا قوة وفي كلمة الشهادة نحو: لا إله إلا الله، والمعنى: لا رجل ولا غلام ولا حول ولا قوة لنا، وكذلك لا إله في الوجود إلّا الله، ولا أهل لك ولا مال لك ولا بأس عليك، ولا فتى في الوجود إلا عليّ ولا سيف في الوجود إلا ذو الفقار، فالخبر الجار مع المجرور وهو محذوف، ولا يصح أن يكون الخبر «الله» في قولك لا إله إلا الله، وذلك لأمرين:
آ- انه معرفة و «لا» لا تعمل في معرفة.
ب- أن اسم «لا» هنا عام وقولك إلا الله خاص، والخاص لا يكون خبرا عن العام.(1/223)
ونظيره: الحيوان انسان، فانه ممتنع لأن في الحيوان ما ليس بانسان، وقولك: الإنسان حيوان، جائز لأن الإنسان حيوان حقيقة وليس في الإنسان ما ليس بحيوان، ويجوز اظهار الخبر نحو:
لا رجل أفضل منك ولا أحد خير منك، هذا مذهب أهل الحجاز وأما بنو تميم فلا يجيزون تقديم خبر «لا» البتة ويقولون: هو من الأصول المرفوضة، ويتأوّلون ما ورد من ذلك، فيقولون في قولهم:
لا رجل أفضل منك: ان «أفضل» نعت لرجل على الموضع، وكذلك «خير منك» نعت لأحد على الموضع.
البدر الدماميني:
وتعقّب البدر الدّماميني الزّمخشريّ في حاشيته على المغني فقال: «ولا يخفى ضعف هذا القول، يعني قول الزمخشري، وانه يلزم منه ان الخبر يبنى مع لا، ولا يبنى معها إلا المبتدأ. ثم لو كان كذلك لم يجز نصب الاسم العظيم وقد جوزوه» .
الصلاح الصفدي:
وأورد الصلاح الصفديّ في الغيث المسجم بحثا طريفا قال فيه: «ومن حذف الخبر قولك: لا إله إلا الله، «فإله» اسمها والخبر محذوف قدّره النحاة في الوجود أو لنا، هكذا أعربوه» .
الرازي:
وأورد الامام فخر الدين الرازي إشكالا على إعراب الصفدي فقال: هذا النفي عام متفرّق وتقييده بالوجود تخصيص له، ولنا أكثر(1/224)
تخصيصا. وإذا كان كذلك لم يبق النفي عاما، وحينئذ لا يكون هذا القول إقرارا بالوحدانية على الإطلاق.
الصلاح الصفدي أيضا:
وأجاب الصلاح الصفدي بقوله: «إنّا لا نسلّم تقييده بالوجود إذا كان تخصيصا لا يبقى على العموم المراد من النفي، لأن المراد نفي الآلهة في الخارج إلا الله تعالى، على معنى أن نفي وجودها مستلزم لنفي ذاتها، كأنه قال: لا إله يوجد إلا الله. وعلى هذا يبقى النفي عاما بالمعنى المراد منه» .
السّمين:
وقال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين: «قوله: إلا هو رفع على أنه بدل من اسم لا على المحل، إذ محله الرفع على الابتداء أو هو بدل من لا وما عملت فيه، لأنها وما بعدها في محل رفع بالابتداء» .
أبو حيّان:
ومضى السمين يقول: واستشكل أبو حيّان كونه بدلا من إله، لأنه لا يمكن تكرير العامل، لا تقول: لا رجل إلا زيد والذي يظهر لي أنه ليس بدلا من إله، ولا من رجل في قولك لا رجل إلا زيد، إنما هو بدل من الضمير المستكنّ في الخبر المحذوف. فإذا قلنا:
لا رجل إلا زيد، والتقدير لا رجل كائن أو موجود إلا زيد. فزيد بدل من الضمير المستكن في الخبر لا من رجل، وليس بدلا من موضع(1/225)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
اسم لا، وإنما هو بدل مرفوع من ضمير مرفوع، تقدير ذلك الضمير هو عائد على اسم لا.
ابن هشام:
وقال ابن هشام: «وقول بعضهم في «لا إله إلا الله» : إن اسم الله سبحانه خبر لا التبرئة أي النافية للجنس يردّه أنها لا تعمل إلا في نكرة منفية، واسم الله تعالى معرفة موجبة، نعم يصح أن يقال: إنه خبر ل «لا» مع اسمها فانهما في موضع رفع بالابتداء عند سيبويه» .
ثم أطال ابن هشام في الرد على الزمخشري مما لا يتسع له صدر هذا الكتاب.
الشيخ مصطفى الغلاييني:
وقال الشيخ مصطفى الغلاييني من أدباء بيروت المحدثين:
«قوله تعالى: لا إله إلا الله، أي: لا إله موجود، والله إما بدل من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، وإما بدل من محل لا واسمها.
ويجوز في غير الآية نصبه على الاستثناء» .
[سورة البقرة (2) : آية 164]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)(1/226)
اللغة:
(الْفُلْكِ) : السفن. ويكون واحدا كقوله تعالى: «في الفلك المشحون» ، وهو حينئذ مذكر. ويكون جمعا كما في الآية بدليل قوله:
«التي تجري في البحر» ، وكل ذلك بلفظ واحد. وقد خبط فيه صاحب المنجد خبطا عجيبا، فجعله يذكّر ويؤنّث. وعبارته: «الفلك:
السفينة تؤنث وتذكر» . ومنشأ الخبط أنه لم يتأمل- وهو ينقل عبارة القاموس نقلا عشوائيا- أن التذكير خاص بالمفرد، أما التأنيث فطارىء عليه لجمعه جمع تكسير. ونصّ عبارة القاموس: «والفلك بالضم السفينة، ويذكّر، وهو للواحد والجميع، أو الفلك التي هي جمع تكسير للفلك التي هي واحد، وليست كجنب التي هي واحد وجمع، وأمثاله، لأن فعلا وفعلا يشتركان في الشيء الواحد كالعرب والعرب» . فإن قيل: ان جمع التكسير لا بد فيه من تغيّر، فالجواب أن تغيّره مقدّر، فالضمة في حال كونه جمعا كالضمة في حمر وبدن، وفي حال كونه مفردا كالضمة في قفل. على أن ابن برّي استدرك فقال: «إنك إذا جعلت الفلك واحدا فهو مذكر لا غير، وإن جعلته جمعا فهو مؤنث لا غير» فتأمل هذا الفصل، فله على كل الفصول الفضل.
(الرِّياحِ) : جمع ريح. وياء الريح والرياح من واو، والأصل روح ورواح، وانما قلبت ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، وهو ابدال مطّرد ولذلك لما زال موجب قلبها رجعت الى أصلها، فقيل: أرواح.
قالت ميسون بنت بحدل:
لبيت تخفق الأرواح فيه ... أحبّ إليّ من قصر منيف(1/227)
ويغلب عليها الخير في الجمع، والشرّ في المفرد.
وقد لحن في هذه اللفظة عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، فاستعمل الأرياح في شعره، وقال أبو حاتم له: إن الأرياح لا يجوز.
فقال عمارة: ألا تسمع قولهم: رياح؟ فقال له أبو حاتم: هذا خلاف ذلك. فقال له: صدقت ورجع. قلنا: ولكن ورد جمع الأرياح في القاموس للفيروزباديّ ونصّ عبارته: «والريح مؤنثة وجمعها أرياح وأرواح ورياح وريح كعنب وجمع الجمع أرواح وأراييح» . ونقل صاحب المنجد عبارته بنصها تقريبا.
الإعراب:
(إِنَّ) حرف مشبه بالفعل (فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر إن المقدم (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) عطف على خلق السموات (وَالْفُلْكِ) عطف أيضا (الَّتِي) صفة للفلك (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول (بِما) الباء حرف جر وما اسم موصول في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، ولك أن تجعل ما مصدرية، فتتعلق مع المصدر المؤوّل المجرور بها بتجري بأسباب نفع الناس (يَنْفَعُ النَّاسَ) الجملة الفعلية لا محل لها لانها صلة ما على كل حال (وَما) عطف على ما الاولى (أَنْزَلَ اللَّهُ) الجملة صلة ما (مِنَ السَّماءِ) الجار والمجرور متعلقان بأنزل (مِنْ ماءٍ) الجار والمجرور بدل من قوله من السماء بدل اشتمال ولا يرد عليه تعليق حرفين متحدين بعامل واحد فإن الممنوع من ذلك أن يتحدا معا من غير عطف ولا ابدال (فَأَحْيا) عطف على فأنزل (بِهِ) الجار والمجرور متعلقان بأحيا (الْأَرْضِ) مفعول به (بَعْدَ مَوْتِها) الظرف متعلق بمحذوف حال (وَبَثَّ) عطف على أنزل(1/228)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
أو أحيا (فِيها) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) الجار والمجرور متعلقان ببث (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) عطف على «خلق» (وَالسَّحابِ) عطف أيضا (الْمُسَخَّرِ) صفة للسحاب (بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) الظرف متعلق بمسخر لأنه اسم مفعول (لَآياتٍ) اللام هي المزحلقة وآيات اسم ان المؤخر (لِقَوْمٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لآيات (يَعْقِلُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة الفعلية صفة لقوم. وهذه الآية حثّ صريح على وجوب التأمل والتدبر وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها» أي لم يعتبر بها.
فالآية جملة مستأنفة مسوقة للحث على النظر والاعتبار بباهر الحكمة.
[سورة البقرة (2) : آية 165]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165)
اللغة:
(أَنْداداً) النّدّ: المثل، والمراد هنا الأصنام أو كل ما سولت لهم أنفسهم عبادته.(1/229)
الإعراب:
(وَمِنَ النَّاسِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان أن بعض الناس لم يعتقد الوحدانية بعد أن ثبت بالدليل القاطع، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (مِنَ) اسم موصول في محل رفع مبتدأ مؤخر أو نكرة موصوفة في محل رفع مبتدأ مؤخر (يَتَّخِذُ) الجملة الفعلية لا محل لها لانها صلة الموصول أو صفة ل «من» وفاعل يتخذ ضمير مستتر تقديره هو يعود على لفظ من (مِنْ دُونِ اللَّهِ) جار ومجرور متعلقان بيتخذ (أَنْداداً) مفعول به (يُحِبُّونَهُمْ) فعل مضارع مرفوع وفاعل ومفعول به والجملة الفعلية صفة لأندادا أو حال من الضمير المستكن في يتخذ (كَحُبِّ اللَّهِ) الكاف ومجرورها في موضع نصب صفة لمصدر محذوف فهو مفعول مطلق، ويجوز إعرابه حالا وقد رجحه سيبويه والمصدر مضاف الى مفعوله (وَالَّذِينَ) الواو استئنافية أو حالية واسم الموصول مبتدأ (آمَنُوا) فعل وفاعله. والجملة صلة الموصول (أَشَدُّ) خبر الموصول (حُبًّا) تمييز (لِلَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بحبا (وَلَوْ) الواو استئنافية ولو شرطية غير جازمة (يَرَى) فعل مضارع (الَّذِينَ) فاعل (ظَلَمُوا) الجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها (إِذْ) ظرف لما مضى من الزمن متعلق بيرى (يَرَوْنَ) الجملة الفعلية في محل جر باضافة الظرف اليه والواو فاعل (الْعَذابَ) مفعول به أول والمفعول الثاني محذوف تقديره نازلا بهم وقت رؤيتهم (أَنَّ الْقُوَّةَ) ان واسمها (لِلَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر. وان وما بعدها سدت مسد مفعولي يرى (جَمِيعاً) حال (وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) عطف على ما تقدم، وجواب لو محذوف أي لرأيت عجبا ولكان منهم مالا يدخل تحت الوصف من الندامة والحسرة.(1/230)
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
البلاغة:
الإيجاز في الآية وذلك بحذف جواب لو كما تقدم وهو كثير شائع في كلامهم وورد في القرآن كثيرا، وقد تعلّق بأهداب هذه البلاغة أبو تمام الطائي حين قال في قصيدته «فتح عمورية» :
لو يعلم الكفر كم من أعصر كمنت ... له المنيّة بين السّمر والقضب
وتقديره لو يعلم الكفر ذلك لأخذ أهبته واحتاط لنفسه وهيهات.
الفوائد:
(دُونِ) ظرف للمكان وهو نقيض فوق، نحو هو دونه أي أحط منه رتبة أو منزلة، ويأتي بمعنى أمام نحو: الشيء دونك أي أمامك، وبمعنى وراء نحو: قعد دون الصف، أي وراءه، وقد يأتي بمعنى رديء وخسيس فلا يكون ظرفا، نحو: هذا شيء دون، وهو حينئذ يتصرف في وجوه الإعراب. ويأتي بمعنى غير كما في الآية، وأكثر ما يستعمل حينئذ مجرورا بمن.
[سورة البقرة (2) : الآيات 166 الى 167]
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)(1/231)
الإعراب:
(إِذْ) ظرف لما مضى من الزمن وهي مع مدخولها بدل من إذ المتقدمة في الآية السابقة (تَبَرَّأَ الَّذِينَ) فعل ماض وفاعل (اتُّبِعُوا) فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل، والجملة صلة الموصول، وجملة تبرأ في محل جر باضافة الظرف إليها وهم الرؤساء (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) الجار والمجرور متعلقان بتبرأ واتبعوا فعل ماض مبني للمعلوم والواو فاعل وهم الاتباع والجملة صلة (وَرَأَوُا) الواو حالية أو عاطفة ورأوا فعل وفاعل (الْعَذابَ) مفعول به والجملة حالية بتقدير قد، أي تبرءوا منهم في حال رؤيتهم العذاب، أو معطوفة على جملة تبرأ (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) عطف على ما تقدم (وَقالَ) الواو عاطفة وقال فعل ماض (الَّذِينَ) فاعل (اتَّبَعُوا) الجملة صلة الموصول واتبعوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل (لَوْ) شرطية غير جازمة متضمنة معنى التمني (أَنَّ لَنا كَرَّةً) ان وخبرها المقدم واسمها المؤخر وان وما في حيزها مقول القول (فَنَتَبَرَّأَ) الفاء هي السببية ونتبرأ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية المسبوقة بالتمني الذي تضمنته لو وفاعله ضمير مستتر تقديره نحن (مِنْهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بنتبرأ (كَما) الكاف مع مجرورها في موضع نصب مفعول مطلق وما مصدرية (تَبَرَّؤُا) فعل ماض وفاعل (مِنَّا) جار ومجرور متعلقان بتبرءوا (كَذلِكَ) الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف أي اراءة مثل تلك الإراءة. واختار سيبويه النصب على الحال وهو صحيح (يُرِيهِمُ) فعل مضارع والرؤية هنا تحتمل أن تكون بصرية فتتعدى(1/232)
لمفعولين أولهما الضمير والثاني أعمالهم وتحتمل أن تكون قلبية ولعله أرجح فتتعدى لثلاثة (اللَّهُ) فاعل (أَعْمالَهُمْ) مفعول به ثان (حَسَراتٍ) مفعول به ثالث أو حال (عَلَيْهِمْ) متعلقان بمحذوف صفة لحسرات (وَما) الواو عاطفة وما حجازية (هُمْ) اسم ما الحجازية (بِخارِجِينَ) الباء حرف جر زائد وخارجين مجرور لفظا منصوب خبر ما محلا (مِنَ النَّارِ) الجار والمجرور متعلقان بخارجين.
البلاغة:
1- في الآية فن اللفّ والنشر المشوش، وهو ذكر متعدد على وجه التفصيل أو الإجمال، ثم ذكر ما لكل واحد وردّه الى ما هو له، فتبرؤ بعضهم من بعض راجع لقوله: إذ تبرأ، وإراءتهم شدة العذاب راجع لقوله: ورأوا العذاب، والمراد أنه أراهم هذين الامرين عقوبة لهم على اتخاذهم الأنداد لله، فكما عاقبهم على عقائدهم عاقبهم على أعمالهم. ولهذا الفن فروع متعددة مبسوطة في كتب البلاغة، ومنه في الشعر قول أبي فراس الحمداني:
وشادن قال لي لمّا رأى سقمي ... وضعف جسمي والدّمع الذي انسجما
أخذت دمعك من خدّي وجسمك من ... خصري وسقمك من طرفي الذي سقما
2- في قوله: إذ تبرأ الذين اتبعوا.. الآية، فنّ يقال له فنّ الترصيع، وهو أن يكون الكلام مسجوعا، وهو في الآية في موضعين، وقد كثر في القرآن، وأما في الشعر فمنه قول أبي الطيب المتنبي:(1/233)
في تاجه قمر في ثوبه بشر ... في درعه أسد تدمى أظافره
وقال أبو تمام:
تدبير معتصم بالله منتقم ... لله مرتغب في الله مرتقب
3- في قوله: «وتقطعت بهم الأسباب» مجاز مرسل علاقته السببية، فان السبب في الأصل الحبل الذي يرتقى به الى ما هو عال ثم أطلق على كل ما يتوصل به الى شيء، مادة كان أم معنى. ولك أن تجعله من باب الاستعارة التصريحية، فقد شبه الأعمال التي كانوا يمارسونها في الدنيا بالأسباب التي يتشبّث بها الإنسان للنجاة. ثم حذف المشبّه وأبقى المشبّه به. قال زهير بن أبي سلمى:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... وإن يرق أسباب السماء بسلم
4- فن الحذف، فقد حذف جواب لو الشرطية وهو مقدر في الآية تقديره- لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف.
الفوائد:
كل اسم كان واحده على وزن «فعلة» مفتوح الاول ساكن الثاني، فإن جمعه على فعلات بفتح الفاء والعين، مثل شهوة وتمرة وجمعهما شهوات وتمرات، متحركة الثواني من حروفها. فأما إذا كان وصفا فإنك تدع ثانيه ساكنا مثل ضخمة وعبلة، فتجمعها على ضخمات وعبلات، بإسكان الثواني.(1/234)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
[سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 169]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169)
اللغة:
(الخطوات) بضمتين: جمع خطوة، وهي ما بين يدي الخاطي.
ومن غريب أمر الخاء والطاء أنهما إذا وقعتا فاء وعينا للكلمة دلّ ذلك على الأثر، فأثر الخطوة معروف، ولهذا قالوا: اتبع خطواته، كأنما أثّر عليه فتبعه. والخطأ في الرأي والمسألة واضح الأثر، ومن أمثالهم: «مع الخواطئ سهم صائب» . والخطب: المصاب وهو بيّن الأثر، وقل مثل هذا في الخطل أي السفاهة، وهو استرخاء الأذنين أو السفاهة، وسمي الشاعر الأموي الأخطل. وهذا كله اكتشفناه بعد التقصي والتمعن فتدبره.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا النَّاسُ) يا حرف نداء للمتوسط، وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه، والناس بدل من أي (كُلُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (مِمَّا) الجار والمجرور متعلقان بكلوا (فِي الْأَرْضِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول (حَلالًا) مفعول به لكلوا أو حال من «ما» (طَيِّباً) صفة. وسيأتي بحث طريف عنها (وَلا) الواو عاطفة ولا ناهية (تَتَّبِعُوا) فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل (خُطُواتِ) مفعول به وعلامة نصبه الكسرة لأنه جمع مؤنث سالم (الشَّيْطانِ) مضاف(1/235)
اليه (إِنَّهُ) إن واسمها (لَكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، لأنه في الأصل صفة لعدو وقد تقدمت (عَدُوٌّ) خبر إن المرفوع (مُبِينٌ) صفة لعدو وجملة النداء وما تلاه مستأنفة مسوقة لبيان مواطن الحل والحرمة، وان ذلك منوط بالله تعالى. وجملة إنه وما تلاها لا محل لها لأنها تعليل للنهي عن اتباع خطوات الشيطان في ذلك (إِنَّما) كافة ومكفوفة ملغاة (يَأْمُرُكُمْ) فعل وفاعل مستتر يعود على الشيطان ومفعول به (بِالسُّوءِ) الجار والمجرور متعلقان بيأمركم والجملة مستأنفة مسوقة لبيان عداوة الشيطان وفضح أهدافها (وَالْفَحْشاءِ) عطف على قوله بالسوء (وَأَنْ تَقُولُوا) المصدر المنسبك من أن وما في حيزها معطوف على السوء أيضا (عَلَى اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بتقولوا (ما) اسم موصول مفعول تقولوا (لا) نافية (تَعْلَمُونَ) فعل مضارع مرفوع وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة ما.
البلاغة:
الاستعارة التبعية في أمر الشيطان ردا على سؤال قد يرد على الخاطر، وهو: كيف يكون الشيطان آمرا والله تعالى يقول: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان؟ فقد شبه تزيين الشيطان لهم وتحريضه إياهم على الشر، وتأريث نار الشهوات في النفوس بأمر الآمر فهي استعارة تصريحية تبعية، والواقع أن أمر الشيطان هو عبارة عن الخوالج التي تساورنا وتحدونا الى اجتراح السيئات.
الفوائد:
اختلف المعربون والفقهاء في معنى هذه الصفة أي طيبا فقال:(1/236)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
بعضهم هي صفة مؤكدة، لأن معنى طيبا وحلالا واحد، وأخذ مالك به وقال آخرون هي صفة مخصصة، لأن معناه مغاير لمعنى الحلال، وهو المستلذ، وبه أخذ الشافعي. ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر وكل ما هو خبيث.
[سورة البقرة (2) : آية 170]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170)
الإعراب:
(وَإِذا) الواو استئنافية وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق بقالوا (قِيلَ) فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو والجملة مستأنفة مسوقة لبيان رسوخهم في الغي وإمعانهم في الضلال (لَهُمُ) الجار والمجرور متعلقان بقيل (اتَّبِعُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة الفعلية مقول القول (ما) اسم موصول في محل نصب مفعول به (أَنْزَلَ اللَّهُ) الجملة لا محل لها لأنها صلة ما (قالُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (بَلْ) حرف إضراب وعطف وكل إضراب في القرآن يراد به الانتقال من قصة الى قصة إلا في هذه الآية وفي آية أخرى ستأتي (نَتَّبِعُ) فعل مضارع وفاعله نحن، والجملة معطوفة على جملة مقدرة أي لا نتبع ما أنزل الله بل نتبع (ما) اسم موصول مفعول به (أَلْفَيْنا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (عَلَيْهِ) جار ومجرور في موضع نصب مفعول ألفينا الثاني (آباءَنا) مفعول(1/237)
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
ألفينا الأول. ومعنى ألفينا وجدنا (أَوَلَوْ) الهمزة للاستفهام الانكاري، والواو حالية والجملة حالية مسوقة لاستنكار اتباع آبائهم في كل حالة حتى في الحالة التي لا مساغ للعاقل أن يتعها ويجنح إليها وهي عدم تلبسهم بعدم العقول وانتفاء الهداية. ولو شرطية لا تحتاج الى جواب في مثل هذا التركيب لأن القصد منها تعميم الأحوال، ولذلك لا يجوز حذف الواو الداخلة عليها تنبيها على أن ما بعدها ليس مناسبا لما قبلها (كانَ آباؤُهُمْ) كان واسمها (لا) نافية (يَعْقِلُونَ) فعل مضارع وفاعله والجملة المنفية خبر كان (شَيْئاً) مفعول به أو مفعول مطلق (وَلا يَهْتَدُونَ) الجملة معطوفة على جملة لا يعقلون.
البلاغة:
الالتفات في قوله: لهم.. من الخطاب الى الغيبة تسجيلا للنداء على ضلالهم، لأنه ليس ثمة أضلّ من المقلد تقليدا أعمى، يتبع غيره في المواطن التي توبقه وترديه، وينساق من غير تفكير ولا روية.
[سورة البقرة (2) : آية 171]
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)
اللغة:
(يَنْعِقُ) النّعيق: هو التصويت مطلقا. قال الأخطل:
فانعق بضأنك يا جرير فإنّما ... منّتك أمّك في الخلاء ضلالا(1/238)
ويقال: نعق المؤذن وسمعت نعقة المؤذن، وأما صوت الغراب فهو النغيق بالغين المعجمة.
الإعراب:
(وَمَثَلُ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لضرب المثل للكافرين في عبادتهم للأصنام، وقد شغلت هذه الآية المعربين والمفسرين، واختلفوا فيها اختلافا كثيرا وتبلغ الأوجه التي أوردوها أربعة نختار منها واحدا ونورد في باب البلاغة تفصيلها لأنها تكاد تكون متساوية الرجحان، ومثل مبتدأ (الَّذِينَ) مضاف اليه (كَفَرُوا) فعل وفاعل والجملة صلة الموصول، ولا بد من تقدير مضاف قبل الموصول أي مثل داعيهم الى الايمان أي مثل داعي الذين كفروا، بمعنى ان من يحاول هدايتهم بمثابة من يخاطب مالا يسمع، وإن سمع فهو لا يعقل شيئا مما يسمعه (كَمَثَلِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر (الَّذِي) اسم موصول مضاف اليه (يَنْعِقُ) فعل مضارع وفاعله هو، والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (بِما) الجار والمجرور متعلقان بينعق (لا يَسْمَعُ) لا نافية ويسمع فعل مضارع والجملة الفعلية صلة ما (إِلَّا) أداة حصر (دُعاءً) مفعول به (وَنِداءً) عطف على دعاء (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) أخبار ثلاثة لمبتدأ محذوف أي هم (فَهُمْ) الفاء عاطفة وهم مبتدأ (لا يَعْقِلُونَ) الجملة الفعلية المنفية خبرهم.
البلاغة:
في هذه الآية فنون عديدة منها:
1- التشبيه التمثيلي فقد شبه من يدعو الكافرين الى الايمان(1/239)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
رغم لجاجتهم ومكابرتهم بمن ينعق بالبهائم التي لا تسمع إلا التصويت بها والزجر لها، فهو تشبيه صورة بصورة أو تشبيه متعدّد بمتعدّد، ويمكن اختصار الاوجه التي أوردها علماء البيان والنحو بما يلي:
أ- ان المثل مضروب لتشبيه الداعي والكافر بالناعق والمنعوق به.
ب- إن المثل مضروب لتشبيه الكافر في دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له بالغنم المنعوق بها.
ج- ان المثل مضروب لتشبيه الكافر في دعائه الأصنام بالناعق على الغنم.
2- الاستعارة التصريحية في تشبيه الكافرين بالصم البكم العمي وحذف المشبه وإبقاء المشبه به.
3- الإيجاز في حذف مضاف تقديره: مثل داعي الذين كفروا، ولم يصرح بالداعي وهو الرسول تمشيا مع الأدب الرفيع في حسن التلطف بالخطاب، والتهذيب الذي يجب أن يتسم به الشعراء والكتّاب.
[سورة البقرة (2) : الآيات 172 الى 173]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)(1/240)
اللغة:
(الاهلال) : سبق القول إنه رفع الصوت عند مباشرة أمر من الأمور، وقد كان دينهم في جاهليتهم أن يرفعوا أصواتهم عند مباشرتهم هذه الأمور كالذبح وغيره فيقولون: باسم اللات والعزّى.
(باغٍ) : ظالم.
(عادٍ) : معتد على غيره.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها فجدّد به عهدا، وجملة النداء وما بعده مستأنفة تمهيدا للشروع في بيان أنواع من المحرمات بعد ما أمر سبحانه بأكل الطيبات (كُلُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (مِنْ طَيِّباتِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة للمفعول المحذوف ليذهب السامع في تقديره أيّ مذهب تصبو اليه نفسه ومعنى من الجارّة هنا التبعيض أي كلوا بعضها فما أكثر الطيبات المتاحة لنا (ما) اسم موصول في محل جر بالاضافة (رَزَقْناكُمْ) فعل وفاعل ومفعول به والجملة صلة الموصول (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) معطوف على كلوا، ولله جار ومجرور متعلقان باشكروا، وسيأتي بحث عنه في باب الفوائد (إِنْ) شرطية تجزم فعلين (كُنْتُمْ) فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها (إِيَّاهُ) ضمير منفصل مفعول(1/241)
مقدم لتعبدون (تَعْبُدُونَ) الجملة الفعلية في محل نصب خبر كنتم وجملة جواب الشرط محذوفة دل عليها ما قبلها أي فاشكروا (إِنَّما) كافة ومكفوفة (حَرَّمَ) فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى (عَلَيْكُمُ) الجار والمجرور متعلقان بحرم (الْمَيْتَةَ) مفعول به (وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) معطوفان على الميتة (وَما) الواو حرف عطف وما اسم موصول منصوب عطفا على ما تقدم (أُهِلَّ) فعل ماض مبني للمجهول (بِهِ) جار ومجرور قام مقام نائب الفاعل (لِغَيْرِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال والجملة صلة الموصول (فَمَنِ) الفاء الفصيحة أي إذا كانت هناك حالات اضطرار ألجأته الى أكل شيء مما حرم، والجملة بعدها لا محل لها لأنها جواب شرط مقدر غير جازم، ومن اسم شرط جازم مبتدأ (اضْطُرَّ) فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط ونائب الفاعل مستتر تقديره هو يعود على المضطر (غَيْرَ) حال من «من» فكأنه قيل: اضطرّ لا باغيا ولا عاديا فهو له حلال (باغٍ) مضاف اليه وعلامة جره الكسرة المقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين (وَلا عادٍ) عطف على غير باغ (فَلا) الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية ولا نافية للجنس (إِثْمَ) اسمها المبني على الفتح (عَلَيْهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبرها، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر من على الأصح (إِنَّ اللَّهَ) إن واسمها (غَفُورٌ رَحِيمٌ) خبران لإن وجملة إن وما في حيزها لا محل لها لأنها تعليلية.
البلاغة:
1- اشتملت هاتان الآيتان على ايجازين جميلين بالحذف، وهما(1/242)
حذف مفعول كلوا كما تقدم، وحذف جواب إن الشرطية أي فاشكروه وحذف جواب الشرط شائع في كلام العرب.
2- التقديم في تقديم إياه لإفادة الاختصاص، لأنه سبحانه مختص بأن يعبدوه.
3- الالتفات من ضمير المتكلم الى الغيبة، وسياق الكلام يقتضي أن يقول: واشكرونا، ولكنه التفت الى الغيبة لعظم الاهتمام به سبحانه. وفيه تلميح الى الحديث النبوي وهو: «يقول الله تعالى:
إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري» . وقد درج علماء البلاغة على تعريف الالتفات بأنه إنما يستعمل في الكلام للتفنن والانتقال من أسلوب الى أسلوب تطرية لنشاط السامع، وهو تعريف جميل، لأن النفس تسأم الكلام الجاري على نسق رتيب. ولكن يرد على هذا التعريف أن التطرية لا تكون إلا بعد حدوث الملل، ولا ملل في تلاوة القرآن، فلا بد أن يكون هناك أمر وراء الانتقال من أسلوب الى أسلوب، بيد أن ذلك لا يمكن تحديده، لأن الفنّ جمال، وسر الجمال في عدم تحديده، لأنه بعيد المنال، وقد أريناك عند الكلام على الفاتحة أسرارا تكمن وراء السطور، وهنا عدل عن التكلم الى الغيبة كما تقدم، وليصرح باسم الله، وفي ذلك من حوافز الشكر ما فيه.
نموذج شعري:
وما دمنا في صدد أسرار الالتفات يحسن بنا أن نورد للقارىء مثالا شعريا لأبي تمام الطائي ليقيس طلابنا ومتأدبونا على منواله، قال يمدح أبا دلف العجليّ ويصف فيها ركبا يسيرون في المهامة البعيد(1/243)
ليتخلص الى التنويه بجود الممدوح، ولا يفوتك ما فيها من تشخيص وتجسيد:
وركب يساقون الركاب زجاجة ... من السّير لم تقصد لها كفّ قاطب
ففد أكلوا منها الغوارب بالسّرى ... وصارت لهم أشباحهم كالغوارب
يصرّف مسراها جذيل مشارق ... إذا آبه هم عذيق مغارب
يرى بالكعاب الزّود طلعة ثائر ... وبالعرمس الوجناء غرةّ آئب
كأنّ بها ضغنا على كلّ جانب ... من الأرض أو شوقا الى كلّ جانب
إذا العيس لاقت بي أبا دلف فقد ... تقطّع ما بيني وبين النوائب
فقال في الأول: يصرف مسراها، مخاطبة للغائب جريا على الأسلوب المتقدم في وصف الركب، ثم قال بعد ذلك: إذا العيس لاقت بي، فعدل الى خطاب نفسه لأنه لما صار الى مشافهة الممدوح(1/244)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
والتصريح باسمه خاطب عند ذلك نفسه مبشرا لها بالبعد عن المكاره والقرب من الرغائب، وهذا من السحر الحلال وان من البيان لسحرا..
الفوائد:
(شكر) فعل متعد ولكنه قد يستعمل كاللازم فيكتفي بالفاعل إذا أريد به مجرّد حدوث الفعل، ويستعمل متعديا مباشرة الى مفعول به واحد، قال تعالى: «ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك» ، ويتعدى الى مفعولين كقول عبد الله بن الزبير:
سأشكر عمرا ما تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
والمفعولان هما: عمرا وأيادي، جمع يد وهي النعمة. وقد يتعدى باللام الى مفعول به واحد كما في الآية هنا.
[سورة البقرة (2) : الآيات 174 الى 176]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176)(1/245)
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ) إن واسمها، والجملة مستأنفة مسوقة لسرد قصة رؤساء اليهود وأحبارهم الذين كانوا يصيبون من عامتهم الهدايا والمآكل، وكانوا يمنون أنفسهم بأن يكون النبي المنتظر الموصوف عندهم في التوراة منهم، أشفقوا على ذهاب ما كان يترادف عليهم من نعماء، مما يؤدي بالتالي الى زوال رئاستهم فعمدوا الى كتمان أمره (يَكْتُمُونَ)
فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول (ما) اسم موصول مفعول به ليكتمون (أَنْزَلَ اللَّهُ) فعل وفاعل والجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة ما (مِنَ الْكِتابِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف العائد على الموصول تقديره: ما أنزله الله حال كونه من الكتاب (وَيَشْتَرُونَ) الواو عاطفة ويشترون جملة معطوفة على جملة أنزل الله (بِهِ) الجار والمجرور متعلقان بيشترون (ثَمَناً) مفعول به (قَلِيلًا) صفة (أُولئِكَ) اسم الاشارة مبتدأ (ما) نافية (يَأْكُلُونَ) فعل مضارع مرفوع والجملة خبر اسم الاشارة (فِي بُطُونِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بيأكلون لأنها ظروف للأكل (إِلَّا) أداة حصر (النَّارَ) مفعول به. وجملة أولئك ما يأكلون خبر إن (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ) الواو عاطفة والجملة معطوفة على جملة ما يأكلون (يَوْمَ الْقِيامَةِ) الظرف متعلق بيكلمهم (وَلا يُزَكِّيهِمْ) الجملة عطف على جملة لا يكلمهم الله (وَلَهُمْ) الواو حرف عطف والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (عَذابٌ) مبتدأ مؤخر (أَلِيمٌ) صفة (أُولئِكَ) اسم الاشارة مبتدأ (الَّذِينَ) اسم موصول خبر (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول، وقد تقدمت بحروفها (وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ) عطف على الضلالة بالهدى، والمتروك ما دخلت(1/246)
عليه الباء (فَما) الفاء الفصيحة كأنها أفصحت عن مصيرهم العجيب، وما نكرة تامة بمعنى شيء للتعجب في محل رفع مبتدأ على الأصح، وإنما قلنا على الأصح دفعا لما تخبط به النحاة من أوجه لا طائل تحتها إلا التكلف، (أَصْبَرَهُمْ) فعل ماض جامد لإنشاء التعجب وفاعله ضمير مستتر وجوبا هنا خاصة والهاء مفعول به، والجملة الفعلية خبر ما (عَلَى النَّارِ) الجار والمجرور متعلقان بأصبرهم (ذلِكَ) اسم الاشارة مبتدأ (بِأَنَّ اللَّهَ) الباء حرف جر، وأن وما في حيزها في محل جر بالباء والجار ومجروره خبر اسم الاشارة، ومعنى الباء السببية، وأن واسمها (نَزَّلَ الْكِتابَ) فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله تعالى والكتاب مفعول به والجملة الفعلية خبر أن، أي ذلك العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب (بِالْحَقِّ) الجار والمجرور متعلقان بنزل أو بمحذوف حال (وَإِنَّ الَّذِينَ) الواو عاطفة أو حالية وإن واسمها (اخْتَلَفُوا) الجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الموصول (فِي الْكِتابِ) الجار والمجرور متعلقان باختلفوا (لَفِي شِقاقٍ) اللام هي المزحلقة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر إن (بَعِيدٍ) صفة.
البلاغة:
1- الاستعارة التصريحية في اشتراء الضلالة بالهدى، وقد تقدمت الآية بحروفها.
2- المجاز المرسل في أكل النار، والعلاقة هي السببية، فقد جعل ما هو سبب للنار نارا.
3- التعريض: في عدم تكليم الله إياهم بحرمانهم حال أهل الجنة وتزكيتهم بكلامه تعالى. والتعريض ضرب من الكناية، لأن(1/247)
الكناية إذا كانت عرضية مسوقة لأجل موصوف غير مذكور كان المناسب أن يطلق عليها اسم التعريض. ومن طريف هذا الفنّ قول أبي الطيب المتنبي وهو يرمق سماء القرآن العالية:
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله ... فإني أغني منذ حين وتشرب
يخاطب كافورا الاخشيديّ فيقول: مديحي إياك يطربك كما يطرب الغناء الشارب، فقد حان أن تسقيني من فضل كأسك.
4- المقابلة في المطابقة بين الضلالة والهدى وبين العذاب والمغفرة.
والمقابلة فن دقيق المسلك لا يسلكه إلا خبير بأساليب الكلام، وإلا كان تكلفا ممقوتا. وقد بلغ أبو الطيب فيه الغاية بقوله:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي
فقد طابق بين أزور وأنثني وبين سواد وبياض وبين الليل والصبح وبين يشفع ويغري وبين لي وبي. ومنه قول ابن زيدون:
سرّان في خاطر الظلماء يكتمنا ... حتى يكاد لسان الصبح يفشينا(1/248)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
[سورة البقرة (2) : آية 177]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
اللغة:
(ابْنَ السَّبِيلِ) : المسافر وإنما قيل له: ابن السبيل لملازمته الطريق. كما يقال لطبر الماء ابن الماء لملازمته إياه، وللرجل الذي أتت عليه الدهور ابن الأيام والليالي.
الإعراب:
(لَيْسَ) فعل ماض جامد ناقص، وإنما جمّدت لأن لفظها لفظ المضيّ، ومعناها نفي الحال، فلم يتكلف لها بناء آخر، فاستعملت على لفظ واحد، ولأنها خالفت بقية الافعال في أنها وضعت سالبة للمعنى.
والافعال ليس من أصلها أن توضع لسلب المعنى، وإنما توضع لإيجابه، فتنزّلت منزلة الحرف فجمدت ولم تتصرّف. والدليل على أنها فعل اتصال الضمائر المرفوعة بها كاتصالها ببقية الافعال.
وأصلها في الوزن ليس على وزن فعل بكسر العين، ولولا إلزام ياء ليس السكون حتى صارت في حكم ياء ليت لوجب في حكم التصريف قلبها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فيكون اللفظ بها(1/249)
يصير «لاس» كما تقول هاب في الماضي من لفظ الهيبة (الْبِرَّ) خبر ليس المقدم (أَنْ تُوَلُّوا) أن حرف مصدري ونصب، وتولوا فعل مضارع منصوب بأن والمصدر المنسبك من أن وما في حيّزها اسم ليس المؤخر، وقرىء برفع البر على أنه اسم ليس وان تولوا خبرها (وُجُوهَكُمْ) مفعول به (قِبَلَ) ظرف مكان متعلق بتولوا (الْمَشْرِقِ) مضاف اليه (وَالْمَغْرِبِ) عطف على المشرق (وَلكِنَّ) الواو حرف عطف ولكن حرف مشبه بالفعل (الْبِرَّ) اسمها (مَنْ آمَنَ) من اسم موصول خبر لكن، ولا بد من تأويل حذف المضاف، أي بر من آمن، ويسكن أن يقال: لا حذف وإنما جعل البر نفس من آمن للمبالغة، وجملة آمن صلة لا محل لها (بِاللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بآمن (وَالْيَوْمِ) عطف على الله (الْآخِرِ) صفة (وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) عطف أيضا على الله (وَآتَى) فعل ماض معطوف على آمن داخل في حيّز الصلة وفاعله ضمير مستتر تقديره هو (الْمالَ) مفعول به (عَلى حُبِّهِ) الجار والمجرور في موضع نصب على الحال، والمصدر مضاف الى مفعوله، أي مع حبه (ذَوِي الْقُرْبى) مفعول آتى وعلامة نصبه الياء لأنه جمع ذي بمعنى صاحب. والقربى مضاف إليه، (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ) كلها معطوفة على ذوي (وَفِي الرِّقابِ) الجار والمجرور معطوف أيضا، أي وآتى المال في فكّها من الأسر أو إعتاقها (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) عطف على آتى المال (وَالْمُوفُونَ) عطف على «من آمن» ولك أن تعربه خبرا لمبتدأ محذوف لبعده، أي هم الموفون (بِعَهْدِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بالموفون لأنه جمع مو في وهو اسم فاعل من أوفى (إِذا) ظرف متعلق بالموفون (عاهَدُوا) فعل وفاعل والجملة الفعلية في محل جر بالاضافة لوقوعها بعد الظرف (وَالصَّابِرِينَ) كان سياق الكلام أن يكون منسوفا على ما تقدم، ولكنه قطعه عن العطف ونصبه على المدح بفعل محذوف تقديره أمدح(1/250)
إشعارا بفضل الصبر وتنويها بذلك الفضل (فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) الجار والمجرور متعلقان بالصابرين وهما مصدران جاءا على وزن فعلاء وليس لهما أفعل، أو هما اسمان للمصدر بمعنى البؤس والضرّ، يقعان على المذكر والمؤنث، ومثلهما أشأم من قول زهير بن أبي سلمى يصف الحرب:
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
يعني: فتنتج لكم غلمان شؤم (وَحِينَ الْبَأْسِ) ظرف زمان متعلق بالصابرين والبأس مضاف إليه، وهو شدة القتال في سبيل الله (أُولئِكَ) اسم إشارة مبتدأ (الَّذِينَ) اسم موصول خبر (صَدَقُوا) الجملة من الفعل والفاعل لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَأُولئِكَ) الواو استئنافية أو عاطفة وأولئك مبتدأ (هُمُ) ضمير فصل أو عماد لا محل له أو مبتدأ نان (الْمُتَّقُونَ) خبر أولئك، أو هم، والجملة الاسمية خبر أولئك.
البلاغة:
في هذه الآية فنون شتى من البلاغة منها:
1- فنّ الإيجاز بحذف المضاف في قوله:
ولكن البر من آمن، أو فن المبالغة إذا جعلناه نفس البر.
2- المجاز المرسل في قوله:
«وفي الرقاب» والعلاقة الجزئية بذكر الجزء وإرادة الكل.
3- قطع التابع عن المتبوع وضابطه أنه إذا ذكرت صفات(1/251)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
للمدح أو الذم خولف في الإعراب تفننا في الكلام واجتلابا للانتباه بأن ما وصف به الموصوف أو ما أسند إليه من صفات جدير بأن يستوجب الاهتمام، لأن تغيير المألوف المعتاد يدل على زيادة ترغيب في استماع المذكور ومزيد اهتمام بشأنه. والآية مثال لقطع التابع عن المتبوع في حال المدح، وأما مثاله في حال الذم فهو قوله تعالى في سورة تبّت (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) فقد نصب حمالة على الذم وهي في الحقيقة وصف لامرأته وسيأتي.
[سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 179]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
اللغة:
(كُتِبَ) : فرض، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جرّ الذّيول
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها (كُتِبَ) فعل ماض مبني(1/252)
للمجهول (عَلَيْكُمُ) الجار والمجرور متعلقان بكتب (الْقِصاصُ) نائب فاعل (فِي الْقَتْلى) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال. ولك أن تعلقهما بالقصاص. وجملة النداء وما تلاه مستأنفة مسوقة لبيان حكم القصاص في عرف الشرع (الْحُرُّ) مبتدأ (بِالْحُرِّ) متعلقان بمحذوف خبر (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) عطف على ما تقدم والجملة الاسمية لا محل لها لأنها مفسرة (وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) عطف أيضا (فَمَنْ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن بعض التفاصيل التي تخطر على البال، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ (عُفِيَ) فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط (لَهُ) الجار والمجرور متعلقان بعفي (مِنْ أَخِيهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي حالة كونه من دم أخيه (شَيْءٌ) نائب فاعل عفي (فَاتِّباعٌ) الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية، واتباع مبتدأ خبره محذوف مقدم عليه، أي فعليه اتباع. والجملة في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر من (بِالْمَعْرُوفِ) الجار والمجرور متعلقان باتباع (وَأَداءٌ) عطف على اتباع (إِلَيْهِ) متعلقان بأداء (بِإِحْسانٍ) متعلقان بمحذوف حال (ذلِكَ) اسم الاشارة مبتدأ (تَخْفِيفٌ) خبر (مِنْ رَبِّكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة والجملة مستأنفة (وَرَحْمَةٌ) عطف على تخفيف (فَمَنْ) الفاء الفصيحة ومن شرطية مبتدأ (اعْتَدى) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط (بَعْدَ ذلِكَ) الظرف متعلق باعتدى (فَلَهُ) الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (عَذابٌ) مبتدأ مؤخر (أَلِيمٌ) صفة لعذاب، والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر من (وَلَكُمْ) الواو استئنافية وما بعدها جملة مستأنفة مسوقة لبيان الحكمة في مشروعية القصاص، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (فِي الْقِصاصِ) الجار والمجرور(1/253)
متعلقان بمحذوف حال (حَياةٌ) مبتدأ مؤخر (يا) حرف نداء (أُولِي الْأَلْبابِ) منادى مضاف منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والألباب مضاف إليه (لَعَلَّكُمْ) لعل واسمها (تَتَّقُونَ) فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة في محل رفع خبر لعل وجملة الرجاء حال.
البلاغة:
في آية القصاص سموّ بياني منقطع النظير لأنها تنطوي على فنون عديدة ندرجها فيما يلي:
1- الإيجاز: فقد كان العرب يتباهون بقولهم: «القتل أنفى للقتل» فجاءت آية القرآن وهي «في القصاص حياة» أكثر إيجازا وأرشق تعبيرا لأنها أربع كلمات وهي «في، ال، قصاص، حياة» وقول العرب ست وهي «ال، قتل، أنفى، وضميره لأنه اسم مشتق، اللام، قتل» ولأن حروفها الملفوظة الثابتة وقفا ووصلا أحد عشر حرفا وحروف قول العرب أربعة عشر حرفا.
2- المجاز المرسل في قوله: «في القصاص حياة» فقد جعل ما هو تفويت للحياة وذهاب بها ظرفا لها إذ القصاص مزجرة قوية عن إقدام الناس على القتل، فارتفع بسببه القتل عن الناس، وارتفاع سبب الموت ديمومة للحياة السابقة.
3- تعريف القصاص وتنكير الحياة، أي انه كان لكم في هذا الجنس من القصاص حياة عظيمة لا تدركون كنهها، لأن القاتل يرتدع عن القتل فتصان بذلك حياة الابرياء، ويزدجر البغاة، ومن ركزت في نفوسهم طبيعة الاجرام.(1/254)
4- تعجيل الترغيب والتشويق بذكر الحياة وبها يتنسم السامع رائحة الحياة وطيبها وحلاوتها لأنها أتت نتيجة حتمية للقصاص بعكس كلمة العرب التي تبتدئ بذكر الموت وقد رمق أبو الطيب سماء هذا المعنى ببيته الخالد:
إلف هذا الهواء أوقع في الأنفس أنّ الحمام مرّ المذاق 5- الطباق بين الحياة والموت للمفارقة بين الضّدّين ولا يظهر حسن الضدّ إلا الضد على حد قول صاحب اليتيمة متغزلا:
فالوجه مثل الصّبح مبيضّ ... والفرع مثل الليل مسودّ
ضدّان لما استجمعا حسنا ... والضّدّ يظهر حسنه الضدّ
وقد جاء القصاص في الآية، وهو في الأصل تعبير عن الموت محلا لضده وهو الحياة.
6- التنكير في الحياة يدل على أن في هذا الجنس البشري نوعا من الحياة يتميّز عن غيره ولا يستطيع الوصف أن يبلغه، لأنهم كانوا يقتلون الجماعة بالواحد فتهيج الفتنة وتستشري بينهم، ففي شرع القصاص سلامة ومنجاة من هذا كله.
7- التعميم الذي يتجاوز التخصيص، فليس القتل وحده سبب القصاص ولكن ينتظم فيه جميع الجروح والشّجاج، لأن الجارح إذا علم أنه إذا جرح جرح صار ذلك سببا لبقاء الجارح والمجروح، وربما أفضت الجراحة الى الموت، فيقتصّ من الجارح.(1/255)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
8- ليس في قول العرب كلمة يجتمع فيها حرفان متحركان إلا في موضع واحد، بل كلها أسباب خفيفة أكثرها متوالية، وذلك ينقص من سلامة الكلمة وجريانها على اللسان، بخلاف آية القرآن
9- المقصود الاصلي الذي هو الحياة مصرّح به في الآية، ومدلول عليه بالالتزام في كلمة العرب.
10- الاطراد في الآية دون قولهم إذ يوجد قتل لا ينفي القتل بل يكون أدعى له، كالقتل ظلما. وإنما يطرد إذا كان على وجه القصاص وهو مشتق من اطرد الماء وهو جريه من غير توقف.
11- خلو الآية مما يكره من لفظ القتل وما يجسده من سيل الدماء وتمزّق الاشلاء.
12- خلوّ الآية من التكرار مع التقارب واتحاد المعنى والتئامه.
13- خلوّ الآية من تكرار قلقلة القاف.
14- شمول الآية لحكم الجرح في الأطراف.
15- المبالغة في القصاص ظرف للحياة، ففيه جعل نقيض الشيء منبعا له، فكأنه يحيط به تفاديا لفواته.
[سورة البقرة (2) : الآيات 180 الى 182]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)(1/256)
اللغة:
(الجنف) بفتحتين: مصدر جنف كفرح أي مال عن الحقّ وانحرف به.
الإعراب:
(كُتِبَ) : فعل ماض مبني للمجهول (عَلَيْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بكتب والجملة مستأنفة لا محل لها (إِذا) ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب المحذوف أي فليوص (حَضَرَ) فعل ماض مبني على الفتح (أَحَدَكُمُ) مفعول به مقدم (الْمَوْتُ) فاعل مؤخر والجملة الفعلية في محل جر بالاضافة (إِنْ) حرف شرط جازم يجزم فعلين (تَرَكَ) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله ضمير مستتر تقديره هو (خَيْراً) مفعول به أي مالا، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب إذا المحذوف أي فليوص (الْوَصِيَّةُ) نائب فاعل لكتب وجاز تذكير الفعل لأن الوصية مؤنث مجازي ولوجود الفاصل بينهما (لِلْوالِدَيْنِ) جار ومجرور متعلقان بالوصية (وَالْأَقْرَبِينَ) عطف على قوله للوالدين (بِالْمَعْرُوفِ) أي بالعدل والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، أي عادلا غير جائر فلا يوصي للغني ويدع الفقير (حَقًّا) مصدر مفعول مطلق مؤكد لمضمون الجملة قبله، وهي كتب عليكم الوصية. وقيل: هو مصدر مبين للنوع بدليل قوله(1/257)
(عَلَى الْمُتَّقِينَ) الجار والمجرور متعلقان بحقا والمصدر المؤكد لا يعمل ولا يزيد على ما قبله معنى (فَمَنْ) الفاء استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لذكر حكم يتعلق بالأوصياء والشهود، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ (بَدَّلَهُ) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) بعد ظرف زمان، وما مصدرية منسبكة مع الفعل بعدها بمصدر مضاف إليه أي بعد سماعه إياه وتحققه منه، والضمير يعود على الحكم (فَإِنَّما) الفاء رابطة لجواب الشرط وانما كافة ومكفوفة (إِثْمُهُ) مبتدأ (عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر وجملة يبدلونه لا محل لها لأنها صلة الموصول، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر من (إِنَّ اللَّهَ) ان واسمها (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) خبران لإن، والجملة مستأنفة مسوقة لوعيد المبدّل (فَمَنْ) الفاء استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لوعيد المنحرف عن الحق، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ (خافَ) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله هو يعود على من، ومعنى الخوف هنا التوقع، كقولك: أخاف أن ترسل السماء مطرها، تريد التوقع والظن الذي يقوم مقام العلم (مِنْ مُوصٍ) الجار والمجرور متعلقان بقوله: جنفا لأنه مصدر (جَنَفاً) مفعول به (أَوْ) حرف عطف (إِثْماً) عطف على قوله جنفا (فَأَصْلَحَ) الفاء حرف عطف وأصلح فعل ماض معطوف على خاف، وفاعله ضمير مستتر تقديره هو (بَيْنَهُمْ) ظرف مكان متعلق بأصلح أي بين الموصي والموصى إليهم (فَلا) الفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية للجنس (إِثْمَ) اسم لا المبني على الفتح (عَلَيْهِ) الجار والمجرور متعلقا بمحذوف خبر لا، والجملة المرتبطة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر من (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ان واسمها وخبراها، والجملة تعليل لرفع الإثم لا محل لها.(1/258)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
البلاغة:
1- إقامة الظاهر مقام المضمر لزيادة الاهتمام بشأنه، ولو جرى على نسق الكلام السابق لقال: فإنما إثمه عليه وعلى من يبدله.
وذلك للتشهير والمناداة بفضائح المبدلين.
2- المجاز المرسل في قوله: خاف. فقد جاءت بمعنى الظن والتوقع، والعلاقة في هذا المجاز السببية، لأنه تعبير عن السبب بالمسبب.
[سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 185]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)(1/259)
اللغة:
(الصِّيامُ) في اللغة الإمساك عن الطعام والشراب والكلام والنكاح والسير، وله مصدران: صوم وصيام، وصامت الريح:
ركدت، وصامت الشمس: كبدت أي كانت في كبد السماء، وصامت الدّابّة: أمسكت عن الجري، قال النابغة الذبياني:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
أي ممسكة عن الجري ثم خصّصه الإسلام بالمعنى المعروف له.
(رمضان) : في الأصل مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء، فأضيف إليه وجعل علما ومنع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون، والمناسبة بين معناه وعبادة الصائم واضحة والعرب يضيفون لفظ شهر الى كل من أسماء الشهر المبتدئة براء كربيع ورمضان ولم يستثن من ذلك سوى رجب فلا يضيفون اليه لفظ شهر وقد نظم بعضهم ذلك فقال:
ولا تضف شهرا الى اسم شهر ... إلّا لما أوّله الرّا فادر
واستثن منه رجبا فيمتنع ... لأنه فيما رووه قد سمع
والمسألة على كل حال خلافية فعليك بالأحوط.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها (كُتِبَ) فعل ماض مبني على الفتح وهو مبني للمجهول أي فرض (عَلَيْكُمُ) الجار والمجرور(1/260)
متعلقان بكتب (الصِّيامُ) نائب فاعل كتب (كَما كُتِبَ) تقدم إعرابها، والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف أو حال كما اختاره سيبويه (عَلَى الَّذِينَ) الجار والمجرور متعلقان بكتب (مِنْ قَبْلِكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول وجملة النداء وما تلاها مستأنفة مسوقة لبيان مشروعية الصيام (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) جملة الرجاء حالية وجملة تتقون خبر لعل (أَيَّاماً) ظرف متعلق بالصيام في الظاهر ولكن فيه فصلا بين المصدر وصلته، وقد منع النحاة ذلك، ولهذا نرجح نصبه بفعل محذوف يدل عليه ما قبله والتقدير صوموا أياما (مَعْدُوداتٍ) صفة للأيام وعلامة نصبه الكسرة لأنه جمع مؤنث سالم، والتنوين يفيد القلة تسهيلا على المكلفين (فَمَنْ) الفاء الفصيحة ومن اسم شرط جازم مبتدأ (كانَ) فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط واسمها ضمير مستتر تقديره هو (مِنْكُمْ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (مَرِيضاً) خبر كان (أَوْ) حرف عطف (عَلى سَفَرٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف معطوف على «مريضا» والاستعلاء جميل هنا أي مستعليا على السفر مليا به، فهو حال أيضا (فَعِدَّةٌ) الفاء رابطة لجواب الشرط وعدة مبتدأ خبره محذوف أي فعليه عدة، أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره فالحكم عدة، والجملة الاسمية المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر من (مِنْ أَيَّامٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لعدة (أُخَرَ) صفة لايام وعلامة جره الفتحة لانه ممنوع من الصرف، وسيأتي حكمه في باب الفوائد (وَعَلَى الَّذِينَ) الواو عاطفة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (يُطِيقُونَهُ) فعل مضارع والواو فاعل والهاء مفعول به والجملة لا محل لها لانها صلة الموصول أي يتكلفونه بجهد ومشقة (فِدْيَةٌ) مبتدأ مؤخر (طَعامُ مِسْكِينٍ) بدل مطابق من فدية ومسكين مضاف اليه (فَمَنْ)(1/261)
الفاء استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ (تَطَوَّعَ) فعل ماض وهو فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره هو (خَيْراً) منصوب بنزع الخافض أي بالزيادة على القدر المذكور في الفدية، ولك أن تعربه صفة لمصدر محذوف فهو مفعول مطلق نابت عنه صفته أي تطوعا خيرا (فَهُوَ) الفاء رابطة لجواب الشرط لانه جملة اسمية، وهو مبتدأ (خَيْرٌ) خبر (لَهُ) الجار والمجرور متعلقان بخير لانه اسم تفضيل ورد على غير القياس، والجملة الاسمية المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَأَنْ تَصُومُوا) الواو استئنافية مسوقة لتقرير الافضلية، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مبتدأ (خَيْرٌ) خبره (لَكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بخير (أَنْ) شرطية (كُنْتُمْ) فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها (تَعْلَمُونَ) الجملة الفعلية في محل نصب خبر كنتم، وجواب الشرط محذوف، وقد تقدمت نماذج له، والجملة الشرطية تفسيرية للخبرية كأنه قال: شرع لكم هذه الاحكام جميعها إيثارا لخيركم، فإن شئتم الخير فافعلوها ولا تخلوا بها (شَهْرُ رَمَضانَ) خبر لمبتدأ محذوف ورمضان مضاف اليه (الَّذِي) صفة لشهر (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) الجملة الفعلية لا محل لها لانها صلة الموصول، والقرآن نائب فاعل (هُدىً)
حال أي هاديا (لِلنَّاسِ) الجار والمجرور متعلقان بهدى أو صفة لهدى (وَبَيِّناتٍ) عطف على هدى فهو حال أيضا (مِنَ الْهُدى) صفة لبينات (وَالْفُرْقانِ) عطف على الهدى، أي الفارق بين الحق والباطل (فَمَنْ) الفاء الفصيحة أي إذا شئتم معرفة حكم التشريع فيه، ومن اسم شرط جازم مبتدأ (شَهِدَ) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله مستتر يعود على من (مِنْكُمُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (الشَّهْرَ) منصوب على الظرفية ولا يكون مفعولا به لانه المقيم والمسافر كلاهما شاهد للشهر (فَلْيَصُمْهُ) الفاء رابطة لجواب الشرط لان الجملة طلبية واللام لام الأمر ويصم فعل(1/262)
مضارع مجزوم باللام والهاء ضمير الظرف ولا ينصب على الظرفية ولا يجوز أن يكون مفعولا به فهو منصوب بنزع الخافض أي فليصم فيه والجملة الطلبية في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَمَنْ) الواو عاطفة من اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ (كانَ) فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط واسمها ضمير مستتر تقديره هو (مَرِيضاً) خبر كان (أَوْ عَلى سَفَرٍ) عطف على «مريضا» وقد تقدم القول به فجدد به عهدا (فَعِدَّةٌ) الفاء رابطة لجواب الشرط وعدة
مبتدأ خبره محذوف أي فعليه عدة، والجملة في محل جزم جواب الشرط (مِنْ أَيَّامٍ) متعلقان بمحذوف صفة لعدة (أُخَرَ) صفة لايام مجرور بالفتح لانه ممنوع من الصرف وسيأتي حكمه (يُرِيدُ اللَّهُ) فعل مضارع وفاعله والجملة لا محل لها لانها تعليل كما سيأتي في باب البلاغة (بِكُمُ) الجار والمجرور متعلقان بيريد (الْيُسْرَ) مفعول به (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) الجملة عطف على سابقتها (وَلِتُكْمِلُوا) الواو عاطفة واللام لام التعليل، تكلموا فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعدها واللام ومجرورها متعلقان بفعل محذوف أي شرع (الْعِدَّةَ) مفعول به (وَلِتُكَبِّرُوا) عطف على قوله لتكملوا (اللَّهُ) نصب لفظ الجلالة على نزع الخافض أي لله ولك أن تعربه مفعولا به على تضمين تكبروا معنى تحمدوا والدليل عليه قوله (عَلى ما هَداكُمْ) فالتعدي بالاستعلاء لا يكون إلا للحمد وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بعلى، والجار والمجرور متعلقان بتكبروا أي على هدايته إياكم (وَلَعَلَّكُمْ) عطف على ما تقدم ولعل واسمها (تَشْكُرُونَ) الجملة خبر لعل.
البلاغة:
اللف والنشر، في قوله تعالى «يريد الله بكم اليسر» إلخ..(1/263)
وهو يبدو هنا كأخذة السحر لا يملك معه البليغ أن يأخذ أو يدع وقلّ من ينتبه له، فقوله: «لتكملوا العدة» علة للأمر بمراعاة العدة، وقوله: «ولتكبروا الله» علة للأمر بالقضاء، وقوله: «ولعلكم تشكرون» علة للترخيص والتيسير، وقد تقدم القول فيه، ونزيده بسطا فنقول:
انه ضربان: أولهما أن يكون النشر على ترتيب اللف، وثانيهما أن يكون على غير ترتيب اللف، ويعتمد فيه على ذكاء السامع وذوقه، وسيأتي منه ما يخلب العقول.
الفوائد:
(أُخَرَ) تكون على نوعين:
- جمع أخرى تأنيث آخر وهي اسم تفضيل لا ينصرف لعلتين هما الوصفية والعدل، ومعنى العدل أنه عدل عن الالف واللام، وذلك أنها اسم تفضيل ولاسم التفضيل ثلاث حالات:
آ- مقترن بأل.
ب- مقترن بمن الجارة.
ج- مضاف.
ولما كانت أخر لم تقترن بشيء وليست مضافة قدر عدلها عن الالف واللام.
- جمع أخرى بمعنى آخرة وهي منصرفة لفقدان علة العدل.(1/264)
مناقشة لا بد منها:
اختلف المفسرون في تأويل قوله تعالى: «وعلى الذين يطيقونه» إلخ اختلافا شديدا لا يتسع المجال للاسهاب فيه، فنقتبس ما قالوه بطريق الإلماع، ثم ندلي بما عنّ لنا والله الملهم الى السّداد.
القول بالنسخ:
فمنهم من قال: ان الحكم فيها منسوخ بالآية بعدها «فمن شهد منكم الشهر فليصمه» والرخصة فيها للمريض والمسافر، وهو ما اختاره الامام الطّبري في تفسيره الكبير ونقله الزمخشري في كشافه وأبو حيان في البحر، مع التصريح بأن هذا قول أكثر المفسرين، على أن الامام الطّبري نقل كذلك قول من قالوا، لم ينسخ ذلك وهو حكم مثبت من لدن نزلت هذه الاية الى قيام الساعة.
رأي ابن كثير:
واحترز ابن كثير فقال بعد تلخيص أقوال المفسرين قبله: فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بايجاب الصيام عليه، وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام فله أن يفطر ولاقضاء عليه لأنه ليست له حال يصير إليها ويتمكن من القضاء.
الزمخشري متردّد:
وتردد الزمخشري بين القول بالنسخ وبين أن يكون تأويل الاية على تقدير: «ومن يتكلفونه على جهد منهم وعسر، وهم الشيوخ(1/265)
والعجائز، وحكم هؤلاء الإفطار والفدية» وهو على هذا الوجه غير منسوخ.
ومشكلة زيادة لا:
على أن القائلين بعدم النسخ ذهبوا في تأويل الآية مذاهب شتى، فمنهم من صرح بأنها على تقدير حذف «لا» النافية، وهي مرادة، ونقلوا عن ابن عباس قوله: «لا رخصة الا للذي لا يطيق الصوم» ، وعن عطاء: «هو الكبير الذي لا يستطيع بجهد ولا بشيء من الجهد، وأما من استطاع بجهد فليصم ولا عذر له في تركه» ، وقال ابو حيان في البحر: «وجوز بعضهم أن تكون «لا» محذوفة فيكون الفعل منفيا وتقديره: «وعلى الذين لا يطيقونه» حذف «لا» وهي مرادة.
أبو حيان يخطّىء القائلين بالحذف:
واستطرد أبو حيان معقبا فقال: «وتقدير «لا» خطأ. لانه مكان اليأس، وعلى ذلك درج الجلال» .
الفقهاء لا يختلفون في جواز الفطر للشيخ والمريض:
ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في جواز الفطر والفدية للشيخ الهرم والمريض الذي لا يرجى برؤه، لكنهم اختلفوا في المرضع والحامل قياسا على الشيخ الهرم فالإمام الشافعي قال بالفدية قياسا على الشيخ الهرم، وأوجب عليهما القضاء مع الفدية أما الامام أبو حنيفة فأوجب على الحامل والمرضع- إذا خافتا على الوليد- القضاء لا الفدية، وأبطل القياس على الشيخ الهرم لانه لا يجب عليه القضاء.(1/266)
نستبعد حذف لا:
على أننا نستبعد أن تكون لا محذوفة هنا وهي مرادة، فالآية من آيات التشريع والأحكام، والفعل فيها مثبت، وتأويلها على تقدير «لا» محذوفة ينقض الإثبات بالنفي ولو كانت الفدية على من لا يطيقونه لأخذ حرف النفي مكانه في نص الحكم الشرعي، ولم يدع لنا مجالا للاختلاف على تأويله بين النقيضين من اثبات ونفي أما الطاقة فهي في العربية أقصى الجهد ونهاية الاحتمال واستعمال القرآن الطاقة اسما وفعلا يؤذن بأنها مما يستنفد الجهد وطاقة الاحتمال، كما تشهد بذلك آياتها الثلاث، وكلها من سورة البقرة.
1- «قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده» .
2- «ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به» .
3- «وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين» .
فندرك أن الأمر في احتمال الصوم إذا جاوز الطاقة، وخرج الى ما لا يطاق سقط التكليف لانه لا تكليف شرعا بما لا يطاق، والله سبحانه لا يكلف نفسا الا وسعها.
3- قد يشرب العرب لفظا معنى لفظ، فيعطى حكمه ويسمى ذلك تضمينا، كما ضمن «لتكبدوا» معنى «تحمدوا» ومنه قول الفرزدق:
كيف تراني قالبا مجني؟ ... قد قتل الله زيادا عنّي
فضمن «قتل» معنى «صرف» «الصرف» وذلك كثير في كلامهم.(1/267)
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
[سورة البقرة (2) : الآيات 186 الى 187]
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
اللغة:
(الرفث) بفتحتين: كلام يقع وقت الجماع بين الرجال والنساء، يستقبح ذكره في وقت آخر، وأطلق على الجماع للزومه له غالبا، وفي المصباح: «رفث في منطقه رفثا من باب طلب، ويرفث بالكسر لغة. والرفث: النكاح لقوله تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث الى نسائكم» . وفي الأساس واللسان: وقيل: الرفث بالفرج الجماع، وباللسان المواعدة للجماع، وبالعين الغمز للجماع. والأصل في تعدية الرفث بالباء، وانما جاءت تعدية في الآية بإلى لتضمينه معنى الإفضاء.(1/268)
(تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) : تخونون أنفسكم وتنقصونها حظها من الخير، واشتقاق الاختيان من الخيانة كالاكتساب من الكسب وفيه زيادة وشدّة.
الإعراب:
(وَإِذا) الواو استئنافية والجملة استئنافية مسوقة لبيان أنه سبحانه يجيب كل من دعاه (سَأَلَكَ) فعل ماض والكاف مفعوله (عِبادِي) فاعل والجملة في محل جر بالاضافة (عَنِّي) الجار والمجرور متعلقان بسألك (فَإِنِّي) الفاء رابطة لجواب وان واسمها (قَرِيبٌ) خبرها والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (أُجِيبُ) فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره أنا والجملة الفعلية خبر ثان (دَعْوَةَ) مفعول به (الدَّاعِ) مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة المقدرة على الياء المحذوفة، وقد جرت عادة القراء على إسقاط الياء من الداع ودعاني لأنها لم تثبت لها صورة عندهم في المصحف، فمن القراء من أسقطها تبعا للرسم وقفا ووصلا، ومنهم من أثبتها في الحين ومنهم من أثبتها وصلا وحذفها وقفا (إِذا) الظرف متعلق بأجيب (دَعانِ) الجملة في محل جر بالاضافة (فَلْيَسْتَجِيبُوا) الفاء الفصيحة واللام لام الأمر ويستجيبوا فعل مضارع مجزوم بلام الأمر أي فليطلبوا إجابتي لأن السين والتاء في استفعل للطلب، والمعنى فليستجيبوا إلي بالطاعة، يقال منه: استجبت له واستجبته بمعنى أجبته قال:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب(1/269)
(لِي) الجار والمجرور متعلقان بيستجيبوا (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) عطف على قوله فليستجيبوا لي (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) لعلّ واسمها، وجملة الرجاء حالية (أُحِلَّ) فعل ماض مبني للمجهول (لَكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بأحل (لَيْلَةَ الصِّيامِ) الظرف ظاهر الكلام أنه متعلق بأحل، وقد أعربه الكثيرون كذلك، وفيه أن الإحلال ثابت قبل ذلك الوقت، فالأولى تقديره بمحذوف مدلول عليه بلفظ الرفث، أي أن ترفثوا، ولم نعلقه بالرفث لأن فيه تقديم معمول الصلة المفهومة من ال على الموصول (الرَّفَثُ) نائب فاعل لأحل (إِلى نِسائِكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بالرفث وجملة أحل وما تلاها مستأنفة مسوقة لإزالة اللبس. وإيضاح ذلك أنه كان في مستهل الأمر إذا أفطر الرجل حلّ له الطعام والشراب والجماع الى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد قلبها. فإذا صلاها أو رقد حرم عليه ذلك الى الليلة القابلة. ثم إن عمر بن الخطاب واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال:
يا رسول الله إني أعتذر الى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة، وأخبره بما فعل، فقال عليه الصلاة والسلام: ما كنت جديرا بذلك يا عمر.
فنزلت (هُنَّ) ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ (لِباسٌ) خبر (لَكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لباس والجملة مفسرة لا محل لها لبيان سبب الإحلال (وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ) عطف على سابقتها (عَلِمَ اللَّهُ) الجملة تعليل لسبب نزول الآية (أَنَّكُمْ) أن واسمها (كُنْتُمْ) فعل ماض ناقص والتاء اسمها (تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) الجملة الفعلية خبر كنتم.
وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي علم (وَعَفا عَنْكُمْ) عطف على جملة علم الله (فَالْآنَ) عطف على محذوف مقدر أي فتبتم فتاب عليكم والآن ظرف زمان متعلق بباشروهنّ (بَاشِرُوهُنَّ) فعل أمر وفاعل ومفعول به (وَابْتَغُوا) عطف على باشروهن (ما) اسم موصول في محل نصب(1/270)
مفعول به (كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة ما (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) الواو استئنافية مسوقة لتعميم الحكم، نزلت في صرمة بن قبس، وذلك أنه كان يعمل في أرض له وهو صائم، فلما أمسى رجع الى أهله فقال: هل عندك من طعام؟ فقالت: لا، وأخذت تصنع له طعاما، فأخذه النوم من التعب، فكره أن يأكل خوفا من الله، فأصبح صائما مجهودا في عمله مكدودا، فلم يكد ينتصف النهار حتى غشي عليه، فلما أفاق أتى الى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما وقع، فنزلت الآية (حَتَّى) حرف غاية وجر (يَتَبَيَّنَ) فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى، والمصدر المنسبك من أن والفعل متعلقان بكلوا (لَكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بيتبين (الْخَيْطُ) فاعل (الْأَبْيَضُ) صفة، وهو أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود (مِنَ الْخَيْطِ) الجار والمجرور متعلقان بيتبين، وجاز تعليق الحرفين بفعل واحد وإن اتحد لفظاهما لاختلاف معنييهما (الْأَسْوَدِ) صفة (مِنَ الْفَجْرِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، أي حال كون الأبيض هو الفجر. روى البخاري ومسلم عن عدي ابن حاتم قال: لما نزلت عمدت الى عقال أسود وعقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي، وجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فقال: إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار. وسيأتي مزيد بيان لذلك في باب البلاغة.
(ثُمَّ أَتِمُّوا) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي، وأتموا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (الصِّيامِ) مفعول به (إِلَى اللَّيْلِ) الجار والمجرور متعلقان بأتموا (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ) الواو عاطفة، ولا ناهية، وتباشروهن فعل مضارع مجزوم بلا (وَأَنْتُمْ) الواو للحال، وأنتم مبتدأ (عاكِفُونَ) خبر (فِي الْمَساجِدِ) جار ومجرور متعلقان(1/271)
بعاكفون والجملة الاسمية حالية (تِلْكَ) اسم إشارة مبتدأ (حُدُودُ اللَّهِ) خبر ومضاف إليه وجملة تلك استئنافية (فَلا تَقْرَبُوها) الفاء الفصيحة، ولا ناهية، وتقربوها فعل مضارع مجزوم بلا، أي إذا شئتم السلامة بأنفسكم فانتهوا ولا تقربوها، فقد كان بعضهم يخرج وهو معتكف ويجامع امرأته ويعود والجملة استئنافية (كَذلِكَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف مفعول مطلق أو حال (يُبَيِّنُ اللَّهُ) فعل مضارع وفاعله (آياتِهِ) مفعول به والجملة استئنافية (لِلنَّاسِ) الجار والمجرور متعلقان بيبين (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) لعل واسمها، وجملة يتقون خبرها، وجملة الرجاء حالية.
البلاغة:
1- الكناية في قوله: «هن لباس لكم وأنتم لباس لهن» لأن اللباس ما يكون بجسم الإنسان، والرجل والمرأة إذ يشتمل كل واحد منهما على الآخر ويعتنقان يشبهان اللباس المشتمل عليهما. قال النابغة الجعدي:
إذا ما الضجيع ثنى عطفها ... تثنت عليه فكانت لباسا
نماذج من الكناية:
وقد تقدم ذكر الكناية ونزيد هنا الموضوع بسطا فنقول: إن الغرض من الكناية تنزيه اللسان عما لا يليق ذكره، والكناية عنه بأرشق لفظ، ولكل كناية غرض، والأغراض لا عداد لها، ولهذا كان غور الكناية لا يسبر فمن أمتعها قول الشريف الرضيّ:
برد السّوار لها فأحميت القلائد بالعناق(1/272)
أي أنه لما برد سوارها، آخر الليل، علمت أن نسمة الفجر طلعت، فأحميت قلائدها بالعناق كي تصير القلائد مكذبة لما أشار إليه السوار من طلوع الفجر المؤذن بالفراق، فعدل عن التصريح بذلك الى برد السوار لينقل الذهن الى هبوب نسمة الفجر المؤذنة بالفراق والداعية له، وقد اشتهرت الكناية في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام تصوّنا منه وترفعا، فمما جاء من هذا الديباج قوله:
«إن امرأة كانت فيمن كان قبلنا، وكان لها ابن عمّ يحبها فراودها عن نفسها، فامتنعت عليه، حتى إذا أصابتها شدة فجاءت إليه تسأله فراودها، فمكنته من نفسها، فلما قعد منها مقعد الرجل من المرأة قالت له: لا يحلّ لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فقام عنها وتركها» وهذه كناية واقعة موقعها. ومن ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «رويدك سوقك بالقوارير» يريد بذلك النساء فكنّى عنهن بالقوارير، وذلك أنه كان في بعض أسفاره، وغلام أسود اسمه أنجشة يحدو فقال له: يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير.
ومن الكناية أيضا في هذه الآية قوله: «فالآن باشروهن» والمباشرة في قول الجمهور الجماع، وقيل الجماع فما دونه. وهو مشتقّ من تلاصق البشرتين، فيدخل فيه المعانقة والملامسة.
2- التشبيه البليغ فقد شبه أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق بالخيط الأبيض الممدود، وما يمتدّ من غبش الليل بالخيط الأسود الممدود، وهو تشبيه مألوف كثيرا. ولو لم يذكر من الفجر لكان استعارة تصريحية، ولكن ذكر المشبّه أعاده الى التشبيه البليغ المحذوف الأداة.(1/273)
3- الطباق لأنه طابق بين الأبيض والأسود، أما ذكر بقية الألوان فيسمى تدبيجا كقول أبي تمام:
تردّى ثياب الموت حمرا فما دجا ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر
الفوائد:
«حتّى» في الكلام على ثلاثة أنواع:
1- تكون لانتهاء الغاية، فتجر الأسماء على معنى، كقوله تعالى:
سلام هي حتى مطلع الفجر» وتنصب الافعال بأن مضمرة بعدها كالآية.
2- وتكون عاطفة.
3- وتكون حرف ابتداء يبتدأ بها الكلام كقول المتنبي:
هو الجد حتى تفضل العين أختها ... وحتى يكون اليوم لليوم سيد
فرفع الفعلين بعدها لأنها ابتدائية. وسيأتي مزيد من أبحاث (حَتَّى) التي لا تنتهي، فقد كان الفراء يقول عند احتضاره: أموت وفي قلبي شيء من حتى.(1/274)
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
[سورة البقرة (2) : آية 188]
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
اللغة:
(تُدْلُوا بِها) تلقوا بها، وأدلى الدلو أرسلها في البئر، وسقى أرضه بالدّالية وبالدوالي وهي النواعير، ودلّى شيئا في مهواة وتدلّى هو بنفسه ودلّى برجليه من السرير ودلّاه بحبل من سطح أو جبل. قال الفرزدق:
هما دلّتاني من ثمانين قامة ... كما انقضّ باز أقتم الرّيش كاسره
والدوالي: عنب أسود غير حالك، ولا أدري علام استند صاحب المنجد في زعمه: إنها مولّدة. هذا وقد تقصيت كل ما فاؤه دال وعينه لام فاذا به يفيد معنى التّدلّي والانملاس، ومنه الدلج وهو السّرى بالليل، ولا يخفى ما فيه من الانملاس، ودلف الشيخ مشى فوق الدّبيب كأنه يتدلى من مكان عال. وهذا من العجب بمكان.
الإعراب:
(وَلا تَأْكُلُوا) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير حكم آخر يتعلق بالأموال وطرق اكتسابها، ولا ناهية، وتأكلوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل (أَمْوالَكُمْ) مفعول به (بَيْنَكُمْ) ظرف متعلق بمحذوف حال من أموالكم، أي لا تأكلوها كائنة بينكم(1/275)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
(بِالْباطِلِ) الجار والمجرور متعلقان بتأكلوا أي لا تتناولوها بسبب باطل (وَتُدْلُوا) الواو عاطفة، وتدلوا فعل مضارع معطوف على تأكلوا داخل في حيز النهي، ولك أن تجعلها للمغية، وتدلوا منصوب بأن مضمرة بعدها (بِها) الجار والمجرور متعلقان بتدلوا (إِلَى الْحُكَّامِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي لاجئين متحاكمين (لِتَأْكُلُوا) اللام للتعليل، وتأكلوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، والواو فاعل والجار والمجرور في محل نصب مفعول لأجله (فَرِيقاً) مفعول به (مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة (بِالْإِثْمِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، أي متشبثين بما يستوجب الإثم من شهادة الزور واليمين الكاذبة (وَأَنْتُمْ) الواو حالية، وأنتم ضمير منفصل مبتدأ (تَعْلَمُونَ) فعل مضارع مرفوع، وفاعل، والجملة خبر، والجملة بعد واو الحال حالية.
[سورة البقرة (2) : آية 189]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
اللغة:
(مَواقِيتُ) : جمع ميقات، وأصله موقات قلبت الواو ياء لكسر ما قبلها، وهي معالم يوقّت الناس بها شئون معايشهم.(1/276)
الإعراب:
(يَسْئَلُونَكَ) فعل مضارع مرفوع، وفاعل، ومفعول به، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان الحكمة في اختلاف الأهلة، بعد أن ألحفوا في السؤال عن ذلك. روي أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاريّ قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يمتلىء ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، لا يكون على حال واحدة؟ فجاءت الآية بالحكم الشامل الحاسم. والحكمة المنوخاة من تطور الهلال لتوقيت المعايش واتساقها على نمط واحد باهر، والهلال مفرد وجمع، باختلاف زمانه، ويجمع قياسا على أهلّة، وهو مقيس في فعال المضعّف، نحو: عنان وأعنّة، وزمام وأزمّة، وسنان وأسنّة. (عَنِ الْأَهِلَّةِ) الجار والمجرور متعلقان بيسألونك (قُلْ) فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة استئنافية (هِيَ مَواقِيتُ) جملة اسمية من مبتدأ وخبر في محل نصب مقول القول (لِلنَّاسِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمواقيت (وَالْحَجِّ) عطف على الناس (وَلَيْسَ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة للاستطراد، وسيأتي ذكره، أو كأنه تعكيس في سؤالهم، وإن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره، وليس فعل ماض ناقص (الْبِرُّ) اسم ليس (بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ) الباء حرف جر زائد في خبر ليس، وأن وما بعدها في تأويل مصدر خبر ليس، والبيوت مفعول به (مِنْ ظُهُورِها) الجار والمجرور متعلقان بتأتوا (وَلكِنَّ) الواو عاطفة، ولكن حرف للاستدراك مشبه بالفعل (الْبِرُّ) اسمها المنصوب، ولا بد من تقدير محذوف ليتسق الكلام، كأنه قيل:
إن ما تفعلونه من استقصاء في السؤال ليس برا، ولكن البر (مِنْ) اسم موصول خبر لكن، ولا من حذف مضاف، أي برّ من (اتَّقى)(1/277)
الجملة صلة الموصول لا محل لها (وَأْتُوا) الواو عاطفة، وعطف الإنشاء على الخبر جائز، فقد تقدمت جملتان خبريتان وهما: ليس البر، ولكن البر من اتقى، وعطف عليها جملتان إنشائيتان وهما:
وأتوا البيوت، واتقوا الله (الْبُيُوتَ) مفعول به (مِنْ أَبْوابِها) الجار والمجرور متعلقان بأتوا (وَاتَّقُوا اللَّهَ) الجملة عطف على الجملة الأمرية (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لعل واسمها، وجملة تفلحون خبرها، وجملة الرجاء حالية.
البلاغة:
«الاستطراد» وهو فن دقيق متشعب، يجنح اليه المتكلم في غرض من أغراض القول يخيل إليك انه مستمر فيه، ثم يخرج منه الى غيره لمناسبة بينهما، ثم يرجع الى الاول، فقد ذكر عن الأهلة واختلافها أنها مواقيت للحج، وأن مثلهم في السؤال كمثل من يترك باب البيت ويدخل من ظهره، فقد كان ناس من الأنصار إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطا- أي بستانا- ولا دارا ولا فسطاطا من باب، فاذا كان من أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته، منه يدخل ويخرج، أو يتخذ سلما فيه يصعد، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء، فقيل لهم ذلك. ومن جميل هذا الفن قول عبد المطلب:
لنا نفوس لنيل المجد عاشقة ... فان تسلّت أسلناها على الأسل
لا ينزل المجد إلا في منازلنا ... كالنوم ليس له مأوى سوى المقل
الفوائد:
اختلف علماء البلاغة في السؤال: أهو سؤال عن السبب أم عن(1/278)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)
الحكمة؟ واختار الزمخشري والراغب والقاضي البيضاوي أنه سؤال عن الحكمة كما يدل عليه الجواب إخراجا للكلام على مقتضى الظاهر لأنه الأصل، واختار السّكّاكيّ أنه سؤال عن السبب، لأن الحكمة ظاهرة لا تستحق السؤال عنها، والجواب من الأسلوب الحكيم.
وقد أطال كل فريق في الاحتجاج لما يدعيه، وانتهى بهم الأمر الى التراشق بقوارص الكلام، مما لا يتسع له المقام فلله درّ رجال التراث عندنا، ما أشدّ تقصّيهم وأكثر تنقيبهم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 190 الى 192]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)
اللغة:
«ثقفتموهم» : وجدتموهم، وثقف الشيء: أخذه أو ظفر به أو أدركه، وثقفت العلم والصناعة في أوحى مدة إذا أسرعت أخذه، وغلام ثقف لقف، وقد ثقف ثقافة بفتح الثاء، والثاء والقاف تدلان على معنى الأخذ على وجه الغلبة إذا اجتمعتا في أول الكلمة، فالثقل(1/279)
معروف ينوء به صاحبه لأنه يغلبه وينوءه، وأثقله المرض غلبه، والثقال بفتح الثاء: المرأة العظيمة الكفل، الثقيلة التصرف.
قال الراعي:
ثقال إذا راد النساء فريدة ... صناع فقد صادت لدى الغوانيا
وثقب الشيء بالمثقب، وثقب اللّآل الدرة وثقبن البراقع لعيونهن.
قال المثقب العبدي:
أرين محاسنا وكننّ أخرى ... وثقّبن الوصاوص للعيون
الإعراب:
(وَقاتِلُوا) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان أحكام القتال، وهي أول آية نزلت في المقاتلة في المدينة لإعلاء كلمة الله. وقاتلوا فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بقاتلوا (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) اسم الموصول مفعول به، وجملة يقاتلونكم صلة (وَلا تَعْتَدُوا) الواو عاطفة، ولا ناهية، وتعتدوا فعل مضارع مجزوم بلا، والواو فاعل (إِنَّ اللَّهَ) إن واسمها (لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) لا نافية، ويحب فعل مضارع مرفوع، والفاعل مستتر يعود على الله، والمعتدين مفعول به، وجملة لا يحب المعتدين خبر إن، وجملة إن وماتلاها تعليلية (وَاقْتُلُوهُمْ) عطف أيضا، وكرر الأمر بقتلهم للتأكيد (حَيْثُ) ظرف مكان مبني على الضم متعلق باقتلوهم (ثَقِفْتُمُوهُمْ) فعل وفاعل ومفعول به، والميم علامة جمع الذكور وقد أشبعت بالواو الزائدة، والجملة الفعلية في محل جر بالاضافة (وَأَخْرِجُوهُمْ) عطف على اقتلوهم (مِنْ حَيْثُ) أدخل(1/280)
حرف الجر على حيث، ولا يجر إلا بها وبالباء، والجار والمجرور متعلقان بأخرجوهم (أَخْرَجُوكُمْ) فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل جر بالإضافة (وَالْفِتْنَةُ) الواو اعتراضية والفتنة مبتدأ (أَشَدُّ) خبر (مِنَ الْقَتْلِ) الجار والمجرور متعلقان بأشدّ، والجملة اعتراضية لا محل لها جارية مجرى المثل كما سيأتي (فَإِنْ) الفاء استئنافية، وإن شرطية (قاتَلُوكُمْ) فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعل، والكاف مفعول به، والفعل في محل جزم فعل الشرط (فَاقْتُلُوهُمْ) الفاء رابطة لجواب الشرط، واقتلوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به، وجملة فاقتلوهم في محل جزم جواب الشرط (كَذلِكَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (جَزاءُ الْكافِرِينَ) مبتدأ مؤخر والجملة استئنافية (فَإِنِ) الفاء استئنافية، وان شرطية (انْتَهَوْا) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط (فَإِنِ) الفاء رابطة لجواب الشرط، وانّ حرف مشبه بالفعل (اللَّهَ) اسم إن (غَفُورٌ رَحِيمٌ) خبران لإن.
البلاغة:
في قوله تعالى: «والفتنة أشد من القتل» فن إرسال المثل، فهي جملة مسوقة مساق المثل، لأن الإخراج من الوطن هو الفتنة التي ما بعدها فتنة، وقيل لبعضهم: ما أشدّ من الموت؟ قال: الذي يتمنّى معه الموت، والإخراج من الوطن بمثابة إخراج الروح من الجسم. قال ابن الرومي:
فقد ألفته النفس حتى كأنه ... لها جسد إن بان غودر هالكا
ولعل زعيم الشعراء المبدعين فيه أبو الطيب المتنبي.(1/281)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
ولو أردنا الاقتباس لضاق بنا المجال وحسبك أن ترجع الى ديوانه لتجد ما يستهويك.
[سورة البقرة (2) : الآيات 193 الى 194]
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
الإعراب:
(وَقاتِلُوهُمْ) الواو حرف عطف، وقاتلوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به. أمرهم بالقتال تفاديا لطروء الفتنة، وهي الإخراج من الوطن (حَتَّى) حرف غاية وجر، والمراد به هنا التعليل (لا) نافية (تَكُونَ) فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى، وهي هنا تامة، والجار والمجرور متعلقان بقاتلوهم، و (فِتْنَةٌ) فاعل تكون (وَيَكُونَ) عطف على تكون وهي هنا ناقصة (الدِّينُ) اسمها (لِلَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبرها، ولا يبعد أن تكون تامة أيضا، فيكون الدين فاعلا والجار والمجرور متعلقين بمحذوف حال، أي خالصا لله (فَإِنِ) الفاء استئنافية، وإن شرطية (انْتَهَوْا) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط (فَلا) الفاء رابطة لجواب الشرط، ولا نافية للجنس (عُدْوانَ) اسمها المبنى على الفتح (إِلَّا) أداة حصر (عَلَى الظَّالِمِينَ)(1/282)
الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لا والجملة في محل جزم جواب الشرط (الشَّهْرُ الْحَرامُ) الشهر مبتدأ، والحرام صفة (بِالشَّهْرِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر، ولا بد من حذف مضاف، أي هتك حرمة الشهر الحرام، وهو ذو القعدة من السنة السابعة للهجرة وبهتك حرمة الشهر الحرام وهو ذو القعدة من السنة السادسة فقد قاتلوكم عام الحديبية، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء في ذي القعدة من السنة السابعة وكراهيتهم القتال فيه: هذا الشهر مقابل بهذا الشهر وهتكه بهتكه وجزاء كل شرّ شرّ مثله (الْحَرامُ) صفة والجملة استئنافية (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) الواو عاطفة، والحرمات مبتدأ، وقصاص خبر (فَمَنِ) الفاء الفصيحة، ومن شرطية مبتدأ (اعْتَدى) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط (عَلَيْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان باعتدى (فَاعْتَدُوا) الفاء رابطة لجواب الشرط واعتدوا فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة في محل جزم جواب الشرط، والجملة الواقعة بعد الفاء الفصيحة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (عَلَيْهِ) الجار والمجرور متعلقان بقوله فاعتدوا (بِمِثْلِ) الجار والمجرور متعلقان باعتدوا أو بمحذوف حال (مَا) مصدرية (اعْتَدى) فعل ماض، والمصدر المنسبك من ما واعتدى مضاف إليه أي بمثل اعتدائه (عَلَيْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان باعتدى (وَاتَّقُوا اللَّهَ) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة للتحذير من المبالغة في الانتقام، لأن النفس مفطورة على حب المبالغة في الانتقام، واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل، ولفظ الجلالة مفعول به (وَاعْلَمُوا) عطف على اتقوا (أَنَّ اللَّهَ) ان واسمها (مَعَ الْمُتَّقِينَ) مع ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر،(1/283)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
والمتقين مضاف إليه، وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي اعلموا.
[سورة البقرة (2) : آية 195]
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
اللغة:
(التهلكة) : من نوادر المصادر وليس فيما يجري على القياس، وفي القاموس: إنه مثلث اللام.
واقتصر الجوهري في صحاحه والرازي في مختاره على تثليث لام مهلك، وأما التهلكة فهي بضم اللام.
الإعراب:
(وَأَنْفِقُوا) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة للأمر بالجهاد بالمال بعد الأمر به بالنفس، وأنفقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بأنفقوا (وَلا تُلْقُوا) الواو عاطفة، ولا ناهية، وتلقوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل (بِأَيْدِيكُمْ) الباء مزيدة، مثلها في أعطى بيده للمنقاد، لأن ألقى فعل يتعدّى بنفسه، وقيل ضمّن تلقوا معنى فعل يتعدّى بالباء، أي لا تفضوا بأيديكم، وقيل: المفعول الثاني محذوف تقديره ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم (إِلَى التَّهْلُكَةِ) الجار والمجرور متعلقان بتلقوا (وَأَحْسِنُوا) الواو عاطفة، وأحسنوا فعل أمر وفاعل (إِنَّ اللَّهَ) إن واسمها (يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به،(1/284)
وجملة يحب المحسنين خبر إن، وجملة إن وما في حيزها تعليلية لا محل لها.
البلاغة:
المجاز المرسل في الأيدي، والمراد بها الأنفس، لأن البطش والحركة يكون بها، فهي مجاز مرسل علاقته الجزئية، من إطلاق الجزء وإرادة الكل، أو السببية، لأن اليد سبب الحركة كما تقدم.
لمحة تاريخية:
اختلف المفسرون في معنى إلقاء الأيدي الى التهلكة، وأقرب ما يقال فيها: إن رجلا من المهاجرين حمل على صف العدوّ فصاح به الناس: ألقى بيده الى التهلكة. فقال أبو أيوب الأنصاري: نحن أعلم بهذه الآية، إنما أنزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصرناه، وشهدنا معه المشاهد، وآثرناه على أهلينا وأموالنا وأولادنا، فلما وضعت الحرب أوزارها رجعنا الى أهلينا وأولادنا وأموالنا نصلحها ونقيم فيها، فكانت التهلكة، الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد. وقال آخرون في تفسير هذه الآية: ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة، بالإسراف وتضييع وجه المعاش، أو بالكفّ عن الغزو والإنفاق فيه، فإن ذلك مما يقوي العدوّ ويسلطهم عليكم. وعن أسلم أبي عمران قال: غزونا المدينة- يريد القسطنطينية- وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد قال: فصففنا صفيّن لم أر صفيّن قط أعرض ولا أطول منهما، والروم ملصقون ظهورهم بحائط المدينة،(1/285)
قال: فحمل رجل منا على العدوّ فقال الناس: مه، لا إله إلا الله، يلقي بيده الى التهلكة. قال أبو أيوب الأنصاري: إنما تتأولون هذه الآية هكذا، إن حمل رجل يقاتل يلتمس الشهادة، إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنّا لما نصر الله نبيه وأظهر الإسلام قلنا بيننا:
إنا قد تركنا أهلنا وأموالنا أن نقيم فيها ونصلحها، فأنزل الله الخبر من السماء، قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى استشهد ودفن بالقسطنطينية، قلت: وهذه الغزوة غير الغزوة المشهورة التي مات فيها أبو أيوب، وقد غزاها يزيد بن معاوية بعد ذلك سنة تسع وأربعين للهجرة، ومعه جماعة من سادات الصحابة.
ثمّ غزاها يزيد سنة اثنين وخمسين، وهي التي مات فيها أبو أيوب، وقبره هناك الى الآن وقد شيد عليه مسجد شهير. وإنما أطلنا في هذا الصّدد لأنه يناسب حالتنا الراهنة، وحالة كل أمة تتخلف عن الجهاد، وتهمل تعبئة الإمكانيات، وحشد الطاقات.(1/286)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
[سورة البقرة (2) : آية 196]
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196)
اللغة:
(الْعُمْرَةَ) في الحج معروفة، وقد اعتمر، وأصله من الزيارة.
قال الزجاج: معنى العمرة في العمل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة فقط، والفرق بين الحج والعمرة أن العمرة تكون للانسان في السنة كلها، والحج وقت واحد في السنة، وأحكامها في علم الفقه، والجمع: عمر وعمرات.
(أُحْصِرْتُمْ) منعتم، يقال: أحصر فلان إذا منعه أمر من خوف أو مرض أو عجز. قال ابن ميادة:
وما هجر ليلى أن تكون تباعدت ... عليك ولا أن أحصرتك شغول
(اسْتَيْسَرَ) تيسّر، يقال: يسر الأمر واستيسر.
(الْهَدْيِ) : يطلق على الحيوان الذي يسوقه الحاجّ أو المعتمر هدية لأهل الحرم. وفي المختار: قرىء «حتى يبلغ الهدي محلّه» مخفّفا ومشدّدا. والواحدة هدية وهديّة، ويقال: ما أحسن هديته أي سيرته، وكانوا يقسمون بها في أيمانهم. قال العلاء ابن حذيفة الغنوي:(1/287)
يقولون من هذا الغريب بأرضنا ... أما والهدايا إنني لغريب
(مَحِلَّهُ) : اسم مكان من حل يحل، أي صار ذبحه حلالا.
وكسرت الحاء لأن عين مضارعه مكسورة.
الإعراب:
(وَأَتِمُّوا) الواو عاطفة، وأتموا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (الْحَجَّ) مفعول به (وَالْعُمْرَةَ) معطوف على الحج (لِلَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، أي خالصا لوجهه، ولك أن تعلقهما بأتموا فتكون اللام هي لام المفعول لأجله، وقد اقتبس الشعراء هذا التعبير الجميل وصرفوه الى مناحي التغزل، فقال ذو الرمّة وأبدع:
تمام الحجّ أن تقف المطايا ... على خرقاء واضعة اللثام
جعل الوقوف على خرقاء، وهي محبوبته من بني عامر، كبعض مناسك الحج التي لا ندحة عن إتمامها (فَإِنْ) الفاء الفصيحة، وإن شرطية (أُحْصِرْتُمْ) فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط (فَمَا) الفاء رابطة، وما اسم موصول في محل رفع مبتدأ خبره محذوف، أي فعليكم ما استيسر والجملة جزم جواب الشرط (اسْتَيْسَرَ) فعل ماض، وفاعله مستتر، والجملة لا محل لها لأنها صلة ما (مِنَ الْهَدْيِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، أي كائنا من الهدي (وَلا) الواو حرف عطف، ولا ناهية (تَحْلِقُوا) فعل(1/288)
مضارع مجزوم بلا والواو فاعل (رُؤُسَكُمْ) مفعول به (حَتَّى يَبْلُغَ) حتى حرف غاية وجر والجار والمجرور متعلقان بتحلقوا ويبلغ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة (الْهَدْيِ) فاعل (مَحِلَّهُ) مفعول به (فَمَنْ) الفاء استئنافية، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ (كانَ) فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط، واسمها ضمير مستتر يعود على من (مِنْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (مَرِيضاً) خبر كان (أَوْ) حرف عطف (بِهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (أَذىً) مبتدأ مؤخر وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين (مِنْ رَأْسِهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لأذى (فَفِدْيَةٌ) الفاء رابطة لجواب الشرط، وفدية مبتدأ محذوف الخبر أي فعليه فدية والجملة جواب الشرط (مِنْ صِيامٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لفدية (أَوْ) حرف عطف (صَدَقَةٍ) عطف على صيام (أَوْ) حرف عطف (نُسُكٍ) معطوف على صيام وفعل الشرط وجوابه خبر من (فَإِذا) الفاء استئنافية وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن (أَمِنْتُمْ) الجملة الفعلية في محل جر بالإضافة. (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) الفاء جواب إذا ومن اسم شرط جازم مبتدأ وتمتع فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، وبالعمرة متعلقان بتمتع، والى الحج متعلقان بمحذوف، أي واستمر تمتعه وانتفاعه بالمحظورات الى الحج (فَمَا) الفاء رابطة لجواب الشرط وما اسم موصول مبتدأ خبره محذوف، أي فعليه ما (اسْتَيْسَرَ) فعل في محل جزم جواب الشرط (مِنَ الْهَدْيِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (فَمَنْ) الفاء استئنافية ومن شرطية مبتدأ (لَمْ يَجِدْ) لم حرف نفي وقلب وجزم، ويجد فعل مضارع مجزوم بلم، والفعل(1/289)
المجزوم هو فعل الشرط، وفاعله ضمير مستتر يعود على من، ومفعوله محذوف لظهور المعنى، والتقدير فمن لم يجد ما استيسر من الهدي (فَصِيامُ) الفاء رابطة لجواب الشرط، وصيام مبتدأ محذوف الخبر، أي فعليه فصيام، والجملة في محل جزم جواب الشرط (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) مضاف إليه (فِي الْحَجِّ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (وَسَبْعَةٍ) عطف على ثلاثة (إِذا رَجَعْتُمْ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن، وجملة رجعتم في محل جر بالإضافة (تِلْكَ) اسم الإشارة مبتدأ (عَشَرَةٌ) خبر (كامِلَةٌ) صفة (ذلِكَ) اسم الإشارة مبتدأ (لِمَنْ) اللام حرف جر، ومن اسم موصول في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر (لَمْ يَكُنْ) لم حرف نفي وقلب وجزم، ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم (أَهْلُهُ) اسمها، وجملة لم يكن لا محل لها لأنها صلة اسم الموصول (حاضِرِي) خبر يكن (الْمَسْجِدِ) مضاف إليه (الْحَرامِ) صفة (وَاتَّقُوا اللَّهَ) الواو استئنافية، واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل، ولفظ الجلالة مفعول به (وَاعْلَمُوا) عطف على اتقوا (أَنَّ اللَّهَ) ان واسمها (شَدِيدُ الْعِقابِ) خبر أنّ، وأنّ وما في حيزها سدت مسد مفعولي اعلموا.
البلاغة:
في هذه الآية فنّ بياني رفيع دقيق المأخذ، ويسميه علماء البلاغة التكرير، وحدّه هو أن يدل اللفظ على المعنى مرددا، وهو في الآية بقوله تعالى: «تلك عشرة كاملة» بعد ثلاثة وسبعة تنوب مناب قوله ثلاثة وسبعة مرتين، ثم قال كاملة، وذلك توكيد ثالث، والأمر إذا صدر من الآمر على المأمور بلفظ التكرير ولم يكن موقتا بوقت معيّن كان في ذلك إهابة الى المبادرة لامتثال الأمر والانصياع للحكم على الفور من غير ريث(1/290)
ولا إبطاء، ومن ثم وجب صوم الأيام السبعة عند الرجوع فورا، فتفطّن لها فإنها من الأسرار. وسترد للتكرير أمثلة في القرآن الكريم توضحه تمام الإيضاح وقد رمق الشعراء سماء القرآن فقال أبو تمام مادحا:
نهوض بثقل العبء مضطلع به ... وإن عظمت فيه الخطوب وجلّت
والثقل هو العبء، وإنما كره للمبالغة. وقال البحتري متغزلا:
ويوم تثنّت للوداع وسلّمت ... بعينين موصول بلحظهما السحر
توهمتها ألوى بأجفانها الكرى ... كرى النوم أو مالت بأعطافها الخمر
فقد أراد تشبيه طرفها لفتوره بالنائم، فكرر المعنى فيه على طريق المضاف والمضاف إليه، وهو قوله «كرى النوم» تأكيدا له وزيادة في بيانه، أو ليزيل كل وهم قد يساور السامع.
قال المبرّد وأحسن: «ذكر ذلك ليدل على انقضاء العدد لئلا يتوهم متوهّم أنه قد بقي بعد ذكر السبعة شيء آخر» .(1/291)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
[سورة البقرة (2) : آية 197]
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197)
اللغة:
(الفسوق) : يقال فسق عن أمر الله أي خرج، وفسقت الرّطبة عن قشرها، والفأرة عن جحرها، ومن غريب الفاء والسين أن اجتماعهما فاء وعينا للكلمة يدلّ على استكراه في معنى الكلمة، وهذا أمر عجيب تميّزت به لغتنا على سائر اللغات. فمن ذلك فسأ الثّوب أي شقّه، وأنت تكره أن يفسأ لك أحد ثوبك، وفسىء بكسر السين خرج صدره ودخل ظهره، وتلك صورة مستكرهة منبوّة، وفسخ العقد نقضه، وما أحسب أحدا يرضى أن يفسخ له عقد، والفسل المسترذل المستوخم، قال الفرزدق:
فلا تقبلوا منهم أباعر تشترى ... بوكس ولا سودا تصحّ فسولها
الإعراب:
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) مبتدأ وخبر، ومعلومات صفة لأشهر، والأشهر المعلومات: شوّال وذو القعدة وعشر ذي الحجة عند أبي حنيفة، وعند الشافعي: تسع ذي الحجة وليلة يوم النحر، وعند مالك: ذو الحجة كله في أحد أقواله، نزّل بعض الشهر منزلة الشهر كله، تقول: رأيتك سنة كذا وإنما وقعت الرؤية في ساعة من السنة لا كلها، والجملة مستأنفة لا محل لها (فَمَنْ) الفاء الفصيحة لأنها جاءت بمثابة إجابة بالتفصيل لمن استوضح عن المجمل، ومن اسم(1/292)
شرط جازم مبتدأ (فَرَضَ) فعل الشرط، وفاعله هو (فِيهِنَّ) الجار والمجرور متعلقان بفرض (الْحَجُّ) مفعول به، أي على نفسه (فَلا رَفَثَ) الفاء رابطة لجواب، ولا نافية للجنس، ورفث اسمها، وقد تقدم معنى الرفث (وَلا فُسُوقَ) عطف على قوله فلا رفث (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) عطف أيضا، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لا، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَما) الواو استئنافية، وما اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدم لتفعلوا (تَفْعَلُوا) فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون (مِنْ خَيْرٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (يَعْلَمْهُ اللَّهُ) جواب الشرط، والهاء مفعول به، والله فاعل (وَتَزَوَّدُوا) الواو استئنافية، وتزودوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (فَإِنَّ) الفاء تعليلية، وإن حرف مشبه بالفعل (خَيْرَ الزَّادِ) اسم ان ومضاف إليه (التَّقْوى) خبرها، والجملة لا محل لها (وَاتَّقُونِ) الواو عاطفة، واتقون فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة والمدلول عليها بالكسرة مفعول به (يا أُولِي الْأَلْبابِ) يا أداة نداء، وأولي الألباب منادى مضاف وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والألباب مضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة تزودوا.
البلاغة:
1- في هذه الآية ضرب من النهي عجيب، وذلك أن المنهيّ عنه يتوقف مقياسه على حسب موقعه، بحيث يعتبر غير مستحقّ للنهي فيما لو وقع في غير ذلك الموقع، وتخصيص الحجّ بالنهي عن(1/293)
الرفث والفسوق والجدال فيه يشعر بأن هذه الأعمال في غير الحجّ، وإن كانت منهيا عنها وقبيحة، إلا أن ذلك القبح الثابت لها في غير الحج كلا قبح بالنسبة لوقوعها في الحجّ، فاجتنابها متحتّم على كل حال، ولكن اجتنابها في الحجّ أمر فوق الاجتناب. وللنهي في لغتنا العربية فروع وشعاب لا يكاد يسبر لها غور، ومن ذلك أن تنهى عن أمر هو في الحقيقة ممدوح ومحمود، ولكنه يوبق صاحبه إذا بلغه، وقد فطن شاعر الخلود المتنبي الى هذه الأسرار عند ما نهى صاحبيه أن يبلغا سيف الدولة مديحه فيه فيزداد اندفاعا ويرمي بنفسه في المخاطر الموبقة، قال وقد سما ما شاء:
فلا تبلغاه ما أقول فإنّه ... شجاع متى بذكر له الطعن يشتق
فهو لم يقصد من التماسه من صاحبيه أن يكتما عن سيف الدولة ما سمعاه من صفات أعماله، وطعان فرسانه، رفقا به وحذرا أن يدفعه الشوق الى التطويح بنفسه في المخاطر. ويشبهه الى حدّ ما قول كثيّر صاحب عزة:
فلا تذكراه الحاجبيّة إنّه ... متى تذكراه الحاجبيّة يحزن
2- التشبيه البليغ، فقد شبه التقوى بالزاد بجامع التقوية وشدّ الأسر والامتناع.
3- الإطناب في قوله: «يا أولي الألباب» فإن الأمر بالتقوى ليس خاصا بأولي الألباب وحدهم، ولا يتوجّه الكلام إليهم دون غيرهم بصدد الحث عليها، لأن كل إنسان مأمور بالتقوى، ويسمى(1/294)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
هذا ذكر الخاص بعد العام للتنبيه على فضل الخاص على العام وأرجحيته، وإنما يتفاضل الناس بالألباب التي هي العقول، وقد رمق المتنبي سماء هذا المعنى فقال:
لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان
4- استعمل القرآن الألباب مجموعة فلم يأت بها مفردة لأنها من الألفاظ التي يسمج مفردها ويعذوذب جمعها، وهذا خاصة كامنة في لغتنا.
[سورة البقرة (2) : الآيات 198 الى 199]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
اللغة:
(أَفَضْتُمْ) : دفعتم أنفسكم وسرتم للخروج منها، والإفاضة دفع بكثرة من أفضت الماء إذا صببته بكثرة، وفي المصباح: «وأفاض الناس من عرفات دفعوا منها، وكل دفعة إفاضة. وأفاضوا من منى الى مكة يوم النحر رجعوا إليها، ومنه طواف الإفاضة أي طواف الرجوع من منى الى مكة» .(1/295)
(عَرَفاتٍ) : علم للموقف واستدل سيبويه على علميته بقوله:
«هذه عرفات مباركا فيها» بنصب «مباركا» على الحال ولو كان نكرة لجرى عليه صفة، وبأنه لو كان نكرة لدخلت عليه الألف واللام، وهي لا تدخل. وسيأتي حكم إعرابه في الفوائد.
(الْمَشْعَرِ) : جبل في آخر المزدلفة يقال له قزح وسمي مشعرا من الشعار وهو العلامة.
الإعراب:
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) ليس فعل ماض ناقص وعليكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها المقدم وجناح اسم ليس المؤخر (أَنْ) حرف مصدري ونصب (تَبْتَغُوا) فعل مضارع منصوب بأن وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل وان وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي: في أن تبتغوا، والجار والمجرور صفة لجناح (فَضْلًا) مفعول به (مِنْ رَبِّكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بتبتغوا أو بمحذوف صفة لفضلا (فَإِذا) الفاء استئنافية، وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق بالجواب (أَفَضْتُمْ) فعل وفاعل والجملة في محل جر بالإضافة (مِنْ عَرَفاتٍ) الجار والمجرور متعلقان بأفضتم (فَاذْكُرُوا) الفاء رابطة لجواب الشرط واذكروا فعل أمر وفاعل، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (اللَّهَ) مفعول به (عِنْدَ الْمَشْعَرِ) الظرف متعلق باذكروا (الْحَرامِ) صفة للمشعر، ولك أن تعلق الظرف بمحذوف حال أي: كائنين عند المشعر الحرام (وَاذْكُرُوهُ) الواو عاطفة وكررها للتوكيد. واذكروه فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به (كَما هَداكُمْ) الكاف(1/296)
حرف جر وما مصدرية، وهي مع مجرورها في محل نصب مفعول مطلق أو حال، أي: اذكروه ذكرا حسنا، أو اذكروه مثل هدايته إياكم وجملة هداكم لا محل لها لأنها واقعة بعد موصول حرفي (وَإِنْ) الواو حالية وإن مخففة من الثقيلة وقد تقدم حكمها إذا خففت، وإن الأكثر إهمالها (كُنْتُمْ) كان الناقصة واسمها (مِنْ قَبْلِهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (لَمِنَ الضَّالِّينَ) اللام هي الفارقة، ومن الضالين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كنتم. (ثُمَّ) حرف عطف للترتيب مع التراخي (أَفِيضُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (مِنْ حَيْثُ) الجار والمجرور متعلقان بأفيضوا وقد تقدم القول في حيث (أَفاضَ النَّاسُ) فعل وفاعل والجملة في محل جر بالإضافة (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) الواو عاطفة واستغفروا الله فعل وفاعل ومفعول به (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ان واسمها وخبراها، والجملة تعليلية لا محل لها.
الفوائد:
يعرب عرفات إعراب الجمع المؤنث السالم، ومثله جميع ما سمّي به كأذرعات، وهذا هو الفصيح فيها. وأجاز بعضهم أن تعرب إعراب مالا ينصرف، وقيل: يعرب إعراب الجمع المؤنث السالم غير أنه لا ينون. وقد روي قول امرئ القيس بالأوجه الثلاثة:
تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال(1/297)
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
[سورة البقرة (2) : الآيات 200 الى 202]
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202)
اللغة:
(المناسك) : جمع منسك، بفتح السين وكسرها، وهو مصدر ميمي أو اسم مكان، والأول أرجح، أي عبادات حجكم.
الإعراب:
(فَإِذا) الفاء استئنافية وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه (قَضَيْتُمْ) فعل وفاعل والجملة في محل جر بالاضافة (مَناسِكَكُمْ) مفعول به والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة (فَاذْكُرُوا اللَّهَ) الفاء رابطة لجواب الشرط واذكروا الله:
فعل أمر وفاعل ومفعول، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (كَذِكْرِكُمْ) الكاف مع مجرورها في محل نصب مفعول مطلق أي: اذكروا الله ذكرا مماثلا لذكركم آباءكم، أو حال (آباءَكُمْ) مفعول به للمصدر المضاف لفاعله (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) هذا العطف مما يشكل على المعرب، وفيه أقوال يضيع الطالب في متاهاتها. ولما كانت الأقوال التي أوردها النحاة والمفسرون متساوية الرجحان رأينا تلخيصها على وجه مبسط قريب:(1/298)
1- «أشدّ» معطوفة على الكاف، أي كذكركم أو ذكر قوم أشد منهم ذكرا.
2- أشدّ معطوفة على آبائكم فهي منصوبة بمعنى أو أشد من ذكر آبائكم.
3- أشدّ معطوفة على نفس الذكر، ولا بد من حمل الكلام عندئذ على المجاز العقلي من باب قولهم: شعر شاعر، وجن جنونه، ونحوهما. ويبقى على هذه الأوجه أمر أكثر إشكالا، وهو أن اسم التفضيل يضاف الى ما بعده إذا كان من جنس ما قبله، كقولك:
ذكرك أشدّ ذكر ووجهك أحسن وجه، وإذا نصب ما بعده على التمييز كان ما بعده غير الذي قبله، كقولك: عليّ أجمل وجها، فالجمال للوجه لا لعلي ولو قلت: زيد أكرم أبا لكان زيد من الأبناء، ولو قلت:
زيد أكرم أب لكان زيد من الآباء.
4- وأخيرا وجه لجأ إليه أبو البقاء العكبري بعد أن أعيته الحيل فقال: وعندي أن الكلام محمول على المعنى، والتقدير: أو كونوا أشد ذكرا لله منكم لآبائكم. ودل على هذا المعنى قوله تعالى:
«فاذكروا الله» . أي كونوا ذاكريه.
وبعد أن أورد أبو حيّان هذه الوجوه وصفها كلها بالضعف وقال: «وقد ساغ لنا حمل الآية على معنى أنهم أمروا بأن يذكروا الله ذكرا يماثل ذكر آبائهم أو أشد، وذلك بتوضيح واضح ذهلوا عنه، وهو أن يكون «أشدّ» منصوبا على الحال وهو نعت لقوله: «ذكرا» لو تأخر، فلما تقدم انتصب على الحال، كقولهم:(1/299)
لمية موحشا طلل ... يلوح كأنه خلل
فلو تأخر لكان: لميّة طلل موحش، وكذلك لو تأخر هذا لكان «أو ذكرا أشد» يعني من ذكركم آباءكم، ويكون إذ ذاك «أو ذكرا أشد» معطوفا على محل الكاف من كذكركم» .
قلنا: ولعله أقرب الى المنطق وأدناه الى الفهم، وقد اكتفى به بعض المفسرين المتأخرين في حواشيهم المطوّلة. (فَمِنَ النَّاسِ) الفاء استئنافية والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (مَنْ) اسم موصول مبتدأ مؤخّر (يَقُولُ) فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على من، وقد روعي لفظ «من» وهو مفرد، ولو روعي معناه لقال: يقولون، والجملة المستأنفة لا محل لها وهي مسوقة لبيان حال الكافرين وحال المؤمنين والفرق بين المطلبين وجملة «يقول» صلة من. (رَبَّنا) منادى مضاف منصوب وقد حذف حرف النداء (آتِنا) فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، والفاعل مستتر تقديره أنت، وضمير المتكلم المجموع مفعول آت الأول والمفعول الثاني محذوف أي نصيبنا و (فِي الدُّنْيا) جار ومجرور متعلقان بآتنا (وَما) الواو حالية وما نافية (لَهُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم (فِي الْآخِرَةِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (مِنْ خَلاقٍ) من حرف جر زائد وخلاق مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه مبتدأ مؤخر (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) عطف على الجملة السابقة، وقد تقدم إعرابها، وصرح هنا بالمفعول الثاني ترغيبا وتعليما (وَقِنا) الواو عاطفة و «ق» فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت(1/300)
وضمير الجمع مفعول «ق» الأول (عَذابَ النَّارِ) مفعول «ق» الثاني (أُولئِكَ) اسم الإشارة مبتدأ (لَهُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم (نَصِيبٌ) مبتدأ مؤخر والجملة خبر اسم الإشارة، والجملة مستأنفة لبيان حال الفريق الثاني، لأن حال الفريق الأول تقدم ذكره بقوله «وما له في الآخرة من خلاق» (مِمَّا) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لنصيب (كَسَبُوا) فعل ماض وفاعل والجملة صلة الموصول «ما» (وَاللَّهُ) الواو مستأنفة والله مبتدأ (سَرِيعُ الْحِسابِ) خبره. والجملة المستأنفة مسوقة لبيان قدرته تعالى على محاسبة جميع الخلائق في أقل من لمح البصر.
البلاغة:
وردت في أحد الأعاريب لقوله: «أشد ذكرا» إشارة الى المجاز العقلي، وقد سبق بحثه، ونزيد هذا المجاز بسطا فنقول: إسناد الذكر الى الذكر مستحيل ولكنه ملابسة له أصبح كأنه شخص عاقل أجنبيّ عنه يقوم به، وجميل قول أبي تمام:
تكاد عطاياه يجنّ جنونها ... إذا لم يعوّذها بنغمة طالب
فقد أسند الجنون الى مصدره، والسرّ فيه ما أوضحناه من الملابسة الشديدة التي تجعل غير العاقل عاقلا لشدة وقوعه منه، ويكاد الطلاب يلتبس عليهم الفرق بينه وبين الاستعارة المكنية مع أنه ليس فيه مشابهة مقصودة. وقال أبو فراس:(1/301)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
سيذكرني قومي إذا جدّ جدهم ... وفي الليلة الظّلماء يفتقد البدر
ولأبي الطيب مقطوعة وردت على نمط المجاز العقلي، وهي من جيد الشعر:
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا ... وعناهم من أمره ما عنانا
وتولوا بغصّة كلّهم منه وإن سرّ بعضهم أحيانا ربما تحسن الصّنيع لياليه ولكن تكدّر الإحسانا
كلما أنبت الزمان قناة ... ركب المرء في القناة سنانا
الفوائد:
تزاد «من» الجارة في الفاعل والمفعول به والمبتدأ بشرط أن تسبق بنفي أو نهي أو استفهام وأن يكون مجرورها نكرة وعندئذ تطرد الزيادة، وسيأتي المزيد من أمثلتها.
[سورة البقرة (2) : آية 203]
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)(1/302)
اللغة:
(تُحْشَرُونَ) : تجمعون، والحاء والشين إذا وقعتا فاء وعينا للكلمة دلّتا على معنى الجمع والامتلاء والحشد، وهذا ما تقصيناه وحشدنا له كل ما وصلت إليه أيدينا من مظانّ اللغة ومراجعها المطولة، ومنه الحشّاش أي جامع الحشيش أو شاري الحشيشة، وهي نبات تستخرج منه مادة مسكرة، والحشمة: الحياء، وهي تدل على أن المرء جمع نفسه كيلا تبدر منه بادرة. ومنه الحشم أي الخدم المجتمعون.
الإعراب:
(وَاذْكُرُوا اللَّهَ) الواو عاطفة واذكروا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ومفعول به (فِي أَيَّامٍ) الجار والمجرور متعلقان باذكروا (مَعْدُوداتٍ) صفة لأيام، وهي أيام التشريق الثلاثة، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر وهو مذهب الشافعي، أو يوم النحر ويومان بعده وهو مذهب أبي حنيفة (فَمَنْ) الفاء استئنافية ومن شرطية مبتدأ (تَعَجَّلَ) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط (فِي يَوْمَيْنِ) الجار والمجرور متعلقان بتعجل (فَلا إِثْمَ) الفاء رابطة ولا نافية للجنس وإثم اسمها المبني على الفتح (عَلَيْهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لا والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) تقدم إعرابها والجملة معطوفة (لِمَنِ اتَّقى) اللام حرف جر ومن اسم موصول في محل جرّ باللام والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، أي ذلك التّخيير. ونفي الإثم عن المتعجّل والمتأخر كائن لمن اتقى(1/303)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
(وَاتَّقُوا اللَّهَ) الواو عاطفة واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ولفظ الجلالة مفعول به (وَاعْلَمُوا) عطف على اتقوا (أَنَّكُمْ) ان واسمها (إِلَيْهِ) الجار والمجرور متعلقان بتحشرون (تُحْشَرُونَ) فعل مضارع وفاعل والجملة الفعلية خبر أن، وأن وما بعدها في تأويل مصدر سدت مسد مفعولي اعلموا.
[سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 206]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206)
اللغة:
(أَلَدُّ الْخِصامِ) الألدّ: صفة مشبّهة، والّلدد: شدة الجدال، وتركت فلانا يتلدّد أي يتلفّت يمينا وشمالا من حيرته فما يستقرّ على حال، فهي كلمة متحرّكة تمثّل صورة مركبّة، والخصام:
مصدر خاصم، قاله الخليل، وقال الزجاج: الخصام: جمع خصم كصعب وصعاب، وضخم وضخام.(1/304)
الإعراب:
(وَمِنَ النَّاسِ) الواو عاطفة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم والجملة منسوقة على جملة فمن الناس إلخ (مِنَ) اسم موصول مبتدأ مؤخر (يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) فعل مضارع ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (فِي الْحَياةِ) الجار والمجرور متعلقان «بقوله» أو يعجبك، فعلى الأول يكون القول صادرا في الحياة، وعلى الثاني يكون الإعجاب صادرا فيها (الدُّنْيا) صفة للحياة (وَيُشْهِدُ) الواو استئنافية أو عاطفة ويشهد فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو (اللَّهَ) لفظ الجلالة مفعول به (عَلى ما) الجار والمجرور متعلقان بيشهد (فِي قَلْبِهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول أي من مدلول القول (وَهُوَ) الواو حالية وهو مبتدأ (أَلَدُّ الْخِصامِ) خبر (وَإِذا) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق بالجواب (تَوَلَّى) فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو والجملة في محل جر بالإضافة (سَعى) فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (فِي الْأَرْضِ) الجار والمجرور متعلقان بسعى (لِيُفْسِدَ فِيها) اللام للتعليل ويفسد فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بيفسد (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) عطف على ليفسد (وَاللَّهُ) الواو استئنافية والله مبتدأ (لا) نافية (يُحِبُّ الْفَسادَ) فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو أي الله تعالى والفساد مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر الله (وَإِذا قِيلَ) الواو عاطفة على قوله يعجبك، ولك أن تجعلها استئنافية، وإذا ظرف لما يستقبل من(1/305)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
الزمن وجملة قيل في محل جر بالإضافة (لَهُ) الجار والمجرور متعلقان بقيل (اتَّقِ اللَّهَ) اتق فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت ولفظ الجلالة مفعول به، والجملة مقول القول (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ) فعل ماض وتاء التأنيث الساكنة والهاء مفعول به والعزة فاعله والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (بِالْإِثْمِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي ملتبسة، وتكون الباء للمصاحبة.
ويجوز أن يتعلقان بأخذته، فتكون الباء لمجرد التعدية (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) الفاء الفصيحة كأنه أجاب عن مصيره وحسبه خبر مقدم وجهنم مبتدأ مؤخر (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) الواو واو القسم واللام واقعة في جواب القسم أي والله، وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والمهاد فاعله والمخصوص بالذم محذوف أي هي، والجملة جواب قسم لا محل لها.
[سورة البقرة (2) : الآيات 207 الى 209]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
اللغة:
(يَشْرِي) : يبيع.(1/306)
(السلم) : الاستسلام وهو بكسر السين وفتحها.
(كَافَّةً) : من الكفّ كأنهم كفّوا عن أن يشذ واحد منهم.
الإعراب:
(وَمِنَ النَّاسِ) الواو عاطفة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (مِنَ) مبتدأ مؤخر والجملة معطوفة على قوله: «فمن الناس» لاستيفاء أقسامهم (يَشْرِي نَفْسَهُ) فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به والجملة صلة الموصول (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ) مفعول لأجله وما بعده مضاف اليه (وَاللَّهُ) الواو استئنافية والله مبتدأ (رَؤُفٌ) خبر (بِالْعِبادِ) الجار والمجرور متعلقان برءوف (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعراب نظائرها (ادْخُلُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (فِي السِّلْمِ) الجار والمجرور متعلقان بادخلوا والجملة استئنافية (كَافَّةً) حال من الواو في ادخلوا ومن السلم لأنه يذكر ويؤنث (وَلا) الواو عاطفة ولا ناهية (تَتَّبِعُوا) فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل (خُطُواتِ الشَّيْطانِ) مفعول به ومضاف إليه (إِنَّهُ) ان واسمها (لَكُمْ) جار ومجرور متعلقان بعدو (عَدُوٌّ) خبر (مُبِينٌ) صفة والجملة تعليلية لا محل لها. (فَإِنْ زَلَلْتُمْ) الفاء استئنافية، وإن شرطية، وزللتم فعل ماض وفاعله وهو في محل جزم فعل الشرط (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) الجار والمجرور متعلقان بزللتم وما مصدرية مؤولة مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالإضافة وجاءتكم البينات فعل ومفعول به وفاعل (فَاعْلَمُوا) الفاء رابطة لجواب الشرط واعلموا فعل أمر مبني على حذف النون والواو(1/307)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
فاعل والجملة في محل جزم جواب الشرط (أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أن واسمها وخبراها سدت مسد مفعولي اعلموا.
[سورة البقرة (2) : الآيات 210 الى 211]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211)
اللغة:
(الظّلل) : جمع ظلّة بضم الظاء، وهي كل ما أظلّك، مثل ظلال جمع ظلّ.
(الْغَمامِ) : السحاب الأبيض الرقيق، وهو مظنّة الرحمة، ويغطي السماء ويغيّر لونها. ومن عجيب أمر الغين والميم أنهما إذا وقعتا فاء وعينا للكلمة دلتا على معنى التغطية وحجب الشيء وإخفائه، ومنه غمد السيف أي قرابه الذي يخفيه، وتغمّد الله فلانا برحمته ستره، وغمره الماء غطاه، وأرض غمقة تغمرها الأنداء، وعن عمر بن الخطاب: «إن الأردنّ أرض غمقة وإن الجابية أرض نزهة» ، وغم الهلال اختفى. وهذا من الأعاجيب.
الإعراب:
(هَلْ) حرف استفهام معناه الإنكار والتوبيخ (يَنْظُرُونَ) فعل(1/308)
مضارع مرفوع والواو فاعل ومعناه ينتظرون، أو ينظرون من النظر (إِلَّا) أداة حصر (أَنْ يَأْتِيَهُمُ) أن حرف مصدري ونصب وهي وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول ينظرون، والجملة مستأنفة مسوقة لتوبيخ المحجمين عن الإسلام أو الزّالون المخطئون (اللَّهُ) فاعل يأتيهم (فِي ظُلَلٍ) الجار والمجرور متعلقان بيأتيهم (مِنَ الْغَمامِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لظلل (وَالْمَلائِكَةُ) الواو عاطفة والملائكة عطف على الله (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) عطف على يأتيهم داخل في حيز الانتظار، ولك أن تجعلها جملة مستأنفة (وَإِلَى اللَّهِ) الواو عاطفة والجار والمجرور متعلقان بترجع (تُرْجَعُ) فعل مضارع مبني للمجهول (الْأُمُورُ) نائب فاعل (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) سل فعل أمر مبني على السكون وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وبني مفعول به منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم وإسرائيل مضاف إليه وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف والجملة استئنافية (كَمْ آتَيْناهُمْ) كم اسم استفهام في محل نصب مفعول به ثان لآتيناهم وآتيناهم فعل وفاعل ومفعول به أول وجملة آتيناهم في موضع المفعول الثاني لسل لأنها معلقة عن العمل عاملة في المعنى. وإنما علقت «سل» وليست من أفعال القلوب لأن السؤال سبب العلم فأجري السبب مجرى المسبب في ذلك. وأجاز بعضهم أن تكون كم خبرية وفي ذلك اقتطاع للجملة التي هي فيها (مِنْ آيَةٍ) تمييز كم الاستفهامية وإذا فصل بينها وبين مميزها فالأحسن أن يؤتى ب «من» . واختلف في «من» فقيل: هي زائدة، واختاروا في حواشي المغني أن تكون بيانية والتمييز محذوف. ومن آية: متعلقان بالفعل. وسيرد المزيد من هذا البحث في باب الفوائد (بَيِّنَةٍ) صفة(1/309)
وجملة «سل بني إسرائيل» مستأنفة للتنديد ببني إسرائيل الذين يكفرون بنعمة الله ويبدلونها (وَمَنْ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لزيادة التقريع وإقامة الحجة عليهم، ومن شرطية في محل رفع مبتدأ (يُبَدِّلْ) فعل الشرط (نِعْمَةَ اللَّهِ) مفعول به (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالاضافة، وجاءته فعل ماض ومفعول به، وفاعله ضمير مستتر تقديره هي (فَإِنَّ اللَّهَ) الفاء رابطة لجواب الشرط وإن واسمها (شَدِيدُ الْعِقابِ) خبرها وجملة ان وما بعدها في محل جزم جواب الشرط الجازم.
البلاغة:
في قوله تعالى «في ظلل من الغمام» مجاز مرسل علاقته السببية، لأن الغمام مظنّة الرحمة أو العذاب وسببهما، فمنه تهطل الأمطار، وقد تنشأ السيول المتلفة الجارفة، وتنزل الصواعق المهلكة.
الفوائد:
أورد ابن هشام فصلا في إعراب هذه الآية فلخصه فيهما يلي لأهميته:
«قوله تعالى: «سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية» إن قدرت «من» زائدة ف «كم» مبتدأ أو مفعول ل «آتينا» مقدرا بعده، وإن قدرتها بيانا ل «كم» كما هي بيان ل «ما» في «ما ننسخ من آية» لم يجز واحد من الوجهين لعدم الراجع حينئذ الى كم، وإنما هي مفعول ثان مقدم مثل: «أعشرين درهما أعطيتك» وجوز(1/310)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
الزمخشري في: كم أن تكون خبرية، أي أن ما سبق كله بناء على أن «كم» اسم استفهام. وهذا مقابله ثم قال: «ولم يذكر النحويون أن كم الخبرية تعلق العامل عن العمل، وجوز بعضهم زيادة «من» وإنما تزاد بعد الاستفهام ب «هل» خاصة، وقد يكون تجويزه ذلك على قول من لا يشترط كون الكلام غير موجب مطلقا، أو على قول من يشترطه في غير باب التمييز، ويرى أنها في: «رطل من زيت» و «خاتم من حديد» زائدة لا مثبتة «اه» .
هذا وتأتي كم على قسمين: استفهامية وخبرية، وسيرد الكثير من أبحاثهما في هذا الكتاب.
[سورة البقرة (2) : آية 212]
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212)
الإعراب:
(زُيِّنَ) فعل ماض مبني للمجهول (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) الجار والمجرور متعلقان بزين، وجملة كفروا صلة الموصول لا محل لها (الْحَياةُ) نائب فاعل (الدُّنْيا) صفة للحياة والجملة مستأنفة مسوقة للتنديد بمن جعلوا الدنيا وما فيها من متع خلوب هدفهم فيها (وَيَسْخَرُونَ) معطوفة على جملة زين، ويحتمل أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف، أي وهم يسخرون فيكون من عطف الاسمية على الفعلية، للإشعار(1/311)
بأنه أتى بالأولى فعلية دلالة على التجدد والحدوث (مِنَ الَّذِينَ) الجار والمجرور متعلقان بيسخرون (آمَنُوا) فعل وفاعل والجملة الفعلية لا محل لها لأنها صلة الذين (وَالَّذِينَ) الواو عاطفة والذين مبتدأ (اتَّقَوْا) الجملة صلة الموصول (فَوْقَهُمْ) ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر الذين (يَوْمَ الْقِيامَةِ) متعلق بما تعلق به الظرف (وَاللَّهُ) الواو استئنافية والله مبتدأ (يَرْزُقُ) فعل مضارع وفاعله مستتر يعود على الله لفظ الجلالة والجملة خبر لفظ الجلالة الله (مِنَ) اسم موصول مفعول به (يَشاءُ) فعل مضارع والجملة صلة من (بِغَيْرِ حِسابٍ) الجار والمجرور متعلقان بيرزق.
البلاغة:
في هذه الآية مفارقة في الجمل، فقد عبر عن زينة الحياة الدنيا في نظر الذين كفروا وعن سخريتهم من المؤمنين بالفعلية إشارة الى الحدوث، وإن ذلك أمر طارئ لا يلبث أن يزول بصوارف متعددة.
أما استعلاء الذين اتقوا عليهم فهو أمر ثابت الدّيمومة لا يطرأ عليه أي تبديل.(1/312)
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
[سورة البقرة (2) : آية 213]
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
الإعراب:
(كانَ النَّاسُ أُمَّةً) كان واسمها وخبرها (واحِدَةً) صفة (فَبَعَثَ) الفاء عاطفة على جملة مقدرة اختصارا وإيجازا، أي كان الناس متفقين على الحق فاختلفوا فبعث. والكلام مستأنف مسوق للدلالة على كيفية الاختلاف السائد بين الناس والزيغ المؤدي الى التفريق بينهم، وذلك بدلالة ما بعده وبعث فعل ماض (اللَّهُ) فاعل (النَّبِيِّينَ) مفعول به (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) حالان والثاني معطوف على الأول (وَأَنْزَلَ) عطف على فبعث (مَعَهُمُ) ظرف زمان متعلق بمحذوف حال من «الكتاب» أي وأنزل الكتاب مصاحبا لهم وقت الإنزال (الْكِتابَ) مفعول به (بِالْحَقِّ) جار ومجرور متعلقان بأنزل والباء للملابسة، أي أي أنزله إنزالا ملتبسا بالحق (لِيَحْكُمَ) اللام للتعليل ويحكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ولام التعليل ومجرورها المؤول متعلقان بأنزل أيضا (بَيْنَ النَّاسِ) الظرف المكاني متعلق بيحكم، والناس مضاف إليه (فِيمَا) الجار والمجرور متعلقان بيحكم (اخْتَلَفُوا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة «ما» الموصولية (فِيهِ) الجار والمجرور متعلقان باختلفوا (وَمَا) الواو عاطفة وما نافية (اخْتَلَفَ) فعل ماض (فِيهِ) الجار والمجرور متعلقان باختلف (إِلَّا) أداة حصر (الَّذِينَ) فاعل اختلف (أُوتُوهُ) فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل هو المفعول الاول والهاء مفعول به ثان (مِنْ بَعْدِ) الجار(1/313)
والمجرور متعلقان باختلف (مَا) مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مضاف إليه، أي من بعد مجيء البينات (جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) فعل ومفعول به مقدم والبينات فاعل مؤخر (بَغْياً) مفعول لأجله، أي حسدا منهم، وقيل: حال مؤولة، وليس ببعيد (بَيْنَهُمْ) الظرف المكاني متعلق بمحذوف صفة لبغيا (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) الفاء عاطفة وهدى فعل ماض والله فاعل والذين وصلتها مفعول به (لِمَا) الجار والمجرور متعلقان بهدى وما موصولية (اخْتَلَفُوا) فعل وفاعل والجملة صلة ما (فِيهِ) الجار والمجرور متعلقان باختلفوا (مِنَ الْحَقِّ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من «ما» (بِإِذْنِهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من الذين آمنوا، أي: مأذونا لهم فهو حال من المفعول به (وَاللَّهُ) الواو استئنافية والله مبتدأ (يَهْدِي) فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى، والجملة في محل رفع خبر الله (مِنْ) اسم موصول مفعول به (يَشاءُ) الجملة صلة الموصول لا محل لها (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الجار والمجرور متعلقان بيهدي ومستقيم صفة.
البلاغة:
في هذه الآية الكريمة فن القلب، وهو شائع في كلامهم، ومثل له السّكاكي والزمخشري والجوهري بقوله تعالى: «ويوم يعرض الذين كفروا على النار» والأصل فيه: ويوم تعرض النار على الذين كفروا. كما مثلوا في الشعر بقول عروة بن الورد:
فديت بنفسه نفسي وما لي ... وما آلوك إلا ما أطيق(1/314)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
والأصل فديت نفسه بنفسي، فالمفدي نفس المحبوب، والمفدي به نفس الشاعر، لا العكس كما هو ظاهر البيت، وبقول المتنبي:
وعذلت أهل العشق حتى ذقته ... فعجبت كيف يموت من لا يعشق
لأن أصله كيف لا يموت من يعشق، والصواب خلافه. وأن المراد أنه صار يرى أن لا سبب للموت سوى العشق. وفي الآية التي نحن بصددها قال أبو جعفر الطبري: «وإنما معنى ذلك: فهدى الله الذين آمنوا للحق فيما اختلف فيه من كتاب الله الذين أوتوه، والله تبارك وتعالى إنما خاطبهم بمنطق العرب، ومثل له أبو جعفر بقول النابغة الجعدي:
كانت فريضة ما تقول كما ... كان الزّناء فريضة الرجم
وإنما الرجم فريضة الزنا.
[سورة البقرة (2) : آية 214]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
اللغة:
(زُلْزِلُوا) أزعجوا إزعاجا شديدا شبيها بالزلزلة بما أصابهم(1/315)
من الهول والفزع. وتكرير الزاي واللام إشعار بتكرير الإزعاج مرّة بعد مرة. وقد ألمع ابن جنّي في كتاب الخصائص الى هذا الباب وسماه قوة اللفظ لقوة المعنى، كما ذكره ابن الأثير في كتاب المثل السائر.
وخلاصة ما قرراه أن اللفظ إذا كان على وزن ثم نقل الى وزن آخر أكثر منه فلا بد من أن يتضمن من المعنى أكثر من الذي تضمنه، فاخشوشن تدل على زيادة الخشونة أكثر من خشن، واعذوذب الماء تدل على زيادة العذوبة أكثر من عذب، وسيأتي الكثير من الأمثلة في هذا الكتاب.
(حَسِبْتُمْ) حسبت زيدا قائما أحسبه من باب تعب، أي بكسر السين في الماضي وفتحها في المضارع، في لغة جميع العرب، إلا بني كنانة، فانهم يكسرون سين المضارع مع كسر سين الماضي أيضا على غير قياس، حسبانا بالكسر، بمعنى ظننته. وحسبت المال حسبا من باب قتل، أي بفتح السين في الماضي وضمها في المضارع، أحصيته عددا وفي المصدر أيضا، وحسبانا بالضم.
الإعراب:
(أَمْ) عاطفة منقطعة مقدرة ببل، وهمزة الاستفهام محذوفة، والمعنى: بل أحسبتم، والاستفهام للتوبيخ والإنكار (حَسِبْتُمْ) فعل وفاعل (أَنْ تَدْخُلُوا) أن حرف مصدري ونصب وتدخلوا فعل مضارع منصوب بأن وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل (الْجَنَّةَ) مفعول به على السعة، وأن وما بعدها في تأويل مصدر سد مسد مفعولي حسبتم (وَلَمَّا) الواو حالية ولما حرف نفي جازم (يَأْتِكُمْ) فعل مضارع مجزوم بلما وعلامة جزمه حذف حرف العلة والكاف مفعول(1/316)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
يأتكم (مَثَلُ) فاعل يأتكم (الَّذِينَ) مضاف إليه (خَلَوْا) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الذين (مِنْ قَبْلِكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بخلوا (مَسَّتْهُمُ) مسّ فعل ماض والتاء تاء التأنيث الساكنة والهاء مفعول به (الْبَأْساءُ) فاعل (وَالضَّرَّاءُ) عطف على البأساء، والجملة مستأنفة لا محل لها، كأن قائلا قال: كيف كان ذلك المثل وما هي ما هيته؟ فقيل: مستهم البأساء، ولك أن تجعلها تفسيرية، وعلى كل حال لا محل لها من الإعراب (وَزُلْزِلُوا) الواو عاطفة وزلزلوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل والجملة معطوفة على مستهم (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) حتى حرف غاية وجر ويقول فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والرسول فاعل (وَالَّذِينَ) عطف على الرسول (آمَنُوا) الجملة لا محل لها لأنها صلة الذين (مَعَهُ) الظرف المكاني متعلق بآمنوا (مَتى نَصْرُ اللَّهِ) متى اسم استفهام في محل نصب ظرف على الظرفية الزمانية والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم ونصر الله مبتدأ مؤخر والجملة في محل نصب مقول القول (أَلا) أداة استفتاح وتنبيه (إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) ان واسمها وخبرها والجملة مستأنفة.
[سورة البقرة (2) : آية 215]
يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)(1/317)
الإعراب:
(يَسْئَلُونَكَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والكاف مفعول به (ماذا) تقدّم القول في ماذا فيجوز أن نعربها اسم استفهام في محل نصب مفعول به مقدم لينفقون، ويجوز إعراب ما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وذا اسم موصول في محل رفع خبر والجملة في محل نصب مفعول مقدم لينفقون، وجملة يسألونك مستأنفة مسوقة للاستفهام عن المال المنفق ومصرفه.
قالوا: والسائل عمرو بن الجموح، وكان شيخا ذا مال، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ماذا ينفق؟ وعلى من ينفق؟ وهذا كله في صدقة التطوع (يُنْفِقُونَ) فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والجملة في محل نصب مفعول ثان ليسألونك (قُلْ) فعل أمر وفاعله والجملة مستأنفة مسوقة لبيان الجواب عن السؤال، (ما أَنْفَقْتُمْ) ما شرطية في محل نصب مفعول به مقدم لأنفقتم وأنفقتم فعل في محل جزم فعل الشرط وفاعل، والجملة مقول القول (مِنْ خَيْرٍ) الجار والمجرور في محل نصب حال (فَلِلْوالِدَيْنِ) الفاء رابطة لجواب الشرط والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي فهو للوالدين، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط (وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) كلها معطوفة على الوالدين (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) تقدم إعرابها في الآية السابقة.
الفوائد:
قاعدة عامة لإعراب أدوات الشرط:(1/318)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
«من، ما، مهما» : إن كان فعل الشرط يطلب مفعولا به فهي منصوبة محلا على المفعولية، وإن كان لازما أو متعديا استوفى مفعوله فهي مرفوعة محلا على الابتداء.
«حيثما» في محل نصب ظرف زمان.
«متى، أيان، أين، أنى» في محل نصب ظرف زمان.
«كيفما» في محل نصب حال من فاعل الشرط.
«أي» بحسب ما تضاف إليه.
[سورة البقرة (2) : آية 216]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)
الإعراب:
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) كتب فعل مبني للمجهول وعليكم متعلقان بكتب، والقتال نائب فاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان مشروعية القتال. ومعنى كتب فرض، والفرض إما عين إذا دخل العدو البلاد، وإما فرض كفاية إذا كان العدو ببلاده (وَهُوَ) الواو حالية وهو مبتدأ (كُرْهٌ) خبر (لَكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بكره، والجملة الاسمية بعد واو الحال في محل نصب على الحال (وَعَسى) الواو(1/319)
استئنافية وعسى فعل ماض جامد لانشاء التّرجّي وهي هنا تامة، وذلك مطرد في عسى واخلولق وأوشك إذا وليتها أن (أَنْ تَكْرَهُوا) أن وما في حيزها في تأويل مصدر فاعل عسى (شَيْئاً) مفعول به (وَهُوَ) الواو حالية وهو مبتدأ (خَيْرٌ) خبر (لَكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بخير والجملة الاسمية بعد الواو في محل نصب حال. وهنا مشكلة نعرض لها في باب الفوائد (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) تقدم إعرابها (وَاللَّهُ) الواو استئنافية والله مبتدأ (يَعْلَمُ) فعل مضارع وفاعل مستتر والجملة خبر المبتدأ (وَأَنْتُمْ) الواو عاطفة وأنتم مبتدأ (لا تَعْلَمُونَ) لا نافية وتعلمون فعل مضارع والواو فاعل والجملة خبر أنتم.
البلاغة:
في الآية الطباق بين الحب والكره وبين كره وشرّ، ويسمى حينئذ مقابلة وقد تقدم بحثها.
الفوائد:
يشكل في الآية مجيء الحال من النكرة بغير شرط من شروطها المعروفة، ولذلك جنح بعض المعربين الى إعراب الجملة وهي «وهو خير لكم» صفة لشيئا، وإنما دخلت الواو على الجملة الواقعة صفة لأن صورتها صورة الحال، فكما تدخل الواو عليها حالية تدخل عليها صفة، وذلك ما أجازه الزمخشري في قوله تعالى: «وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم» وسترد في مكانها.(1/320)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
[سورة البقرة (2) : الآيات 217 الى 218]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
اعراب:
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مسوقة لبيان حكم القتال في الشهر الحرام، وهو رجب، ويسألونك فعل وفاعل ومفعول به، والجار والمجرور متعلقان بيسألونك، والحرام صفة (قِتالٍ) بدل اشتمال من الشهر (فِيهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لقتال، ووجهه أن السؤال عن الشهر لم يكن إلا باعتبار ما وقع فيه من القتال، والمعنى يسألونك عن القتال في الشهر الحرام. وأنشد سيبويه:(1/321)
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدّما
(قُلْ) فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت يا محمد والجملة مستأنفة (قِتالٍ) مبتدأ، وساغ الابتداء به وهو نكرة لأنه وصف (فِيهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر (كَبِيرٌ) صفة للقتال (وَصَدٌّ) عطف على قتال فهو مبتدأ وساغ الابتداء به لأنه مندرج لما عطف عليه من معارف (عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بصد (وَكُفْرٌ بِهِ) عطف على صد، والجار والمجرور متعلقان بكفر (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) عطف على سبيل الله أي وعن المسجد الحرام (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ) عطف على صد (أَكْبَرُ) خبر ما تقدم جميعه وجملتها أربعة وأخبر عنها بأكبر لأنه اسم تفضيل يستوي فيه الواحد والأكثر إذا كان مجردا من الألف واللام ومن الإضافة (عِنْدَ اللَّهِ) الظرف المكاني متعلق بأكبر (وَالْفِتْنَةُ) الواو استئنافية والفتنة مبتدأ (أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) خبر والجملة لا محل لها، ويمكن إعراب الواو حالية فتكون الجملة نصبا على الحال، ومن القتل الجار والمجرور متعلقان بأكبر (وَلا يَزالُونَ) الواو عاطفة ولا يزالون فعل مضارع ناقص من أخوات كان والواو اسمها (يُقاتِلُونَكُمْ) فعل مضارع وفاعل ومفعول به والجملة خبر يزالون (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ) حتى حرف غاية وجر أو للتعليل، ويردوكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى (عَنْ دِينِكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بيردوكم (إِنِ) شرطية (اسْتَطاعُوا) فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والواو فاعل وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله، أي يردّوكم (وَمَنْ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ (يَرْتَدِدْ) فعل الشرط (مِنْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (عَنْ دِينِهِ) الجار والمجرور متعلقان بيرتدد (فَيَمُتْ) الفاء عاطفة ويمت فعل مضارع مجزوم عطفا(1/322)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
على يرتدد (وَهُوَ) الواو حالية وهو مبتدأ (كافِرٌ) خبر والجملة الاسمية في محل نصب حال (فَأُولئِكَ) الفاء رابطة لجواب الشرط وأولئك اسم إشارة مبتدأ (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) فعل وفاعل والجملة خبر أولئك، وجملة الاشارة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (فِي الدُّنْيا) الجار والمجرور متعلقان بحبطت (وَالْآخِرَةِ) عطف على الدنيا (وَأُولئِكَ) الواو عاطفة وأولئك مبتدأ (أَصْحابُ النَّارِ) خبر (هُمْ) ضمير منفصل مبتدأ (فِيها) الجار والمجرور متعلقان بقوله خالدون (خالِدُونَ) خبر وجملة هم فيها خالدون في محل نصب حال (إِنَّ الَّذِينَ) ان واسمها (آمَنُوا) الجملة لا محل لها لأنها صلة الذين (وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) عطف على ما تقدم (أُولئِكَ) اسم الاشارة مبتدأ (يَرْجُونَ) فعل مضارع وفاعل والجملة خبر أولئك (رَحْمَتَ اللَّهِ) مفعول به، وجملة الاشارة جملة اسمية في محل رفع خبر إن (وَاللَّهُ) الواو استئنافية والله مبتدأ (غَفُورٌ رَحِيمٌ) خبر ان لله.
[سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 220]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)(1/323)
اللغة:
(الْخَمْرِ) : سمّيت الخمر بالمصدر من خمره خمرا إذا ستره للمبالغة في تضييعها للعقول وسترها وإخفائها. وقيل: إنما سميت الخمر خمرا لأنها تركت حتى أدركت، يقال: اختمر العجين أي بلغ إدراكه، وقيل: إنما سميت الخمر خمرا لأنها تخالط العقل، من المخامرة وهي المخالطة، وهذه المعاني الثلاثة متقاربة موجودة في الخمر، وهذا موجز لبعض أسماء الخمر التي هي صفات:
الشمول: لأنها تشمل القوم بريحها.
المشمولة: التي أبرزت للشمال.
الرحيق: صفوة الخمر التي ليس فيها غش.
الخندريس: القديمة منها.
الحمّيا: الشديدة منها.
العقار: بضم العين لأنها عاقرت الدّزّ.
الراح: لأن شاربها يرتاح لها أو التي يستطيب ريحها، ويقال:
بل التي يجد بها روحا. وقد جمع ابن الرومي معاني الراح بقوله:
والله ما أدري لأية علّة ... يدعونها في الراح باسم الراح
ألريحها أم روحها تحت الحشا ... أم لارتياح نديمها المرتاح
المدامة: التي أديمت في مكانها حتى سكنت حركتها.
المعتقة: التي أديمت في مكانها حتى عتقت.(1/324)
القهوة: هي التي تقهي صاحبها، أي تذهب بشهوة طعامه.
السلاف: التي تحلب عصيرها من غير عصر.
الصهباء: لأنها تترجح بين الحمرة والشقرة.
الكميت: بضم الكاف لما فيها من سواد وحمرة.
القرقف: لبرودتها. وغير ذلك.
(الْمَيْسِرِ) : مصدر ميمي من يسر كالموعد والمرجع، يقال:
يسرته: إذا قمرته، وقمره: غلبه بالقمار. قال الشاعر:
قالت: أنا قمرته ... قلت: اسكتي فهو قمر
واشتقاق الميسر إما من اليسر لأن فيه أخذ المال بيسر من غير كدّ وتعب، وإما من اليسار أي الغنى لأنه سبب له. وقد تفنّن البشر، الى اليوم، في ألعاب الميسر المحرمة عقلا وشرعا لأنها مفسدة ما بعدها مفسدة. قال أديب إسحق من شعراء العصر الحديث:
لكل نقيصة في الناس عار ... وشرّ معايب المرء القمار
(الْعَفْوَ) : الزيادة عن الحاجة.
الإعراب:
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) فعل وفاعل ومفعول به والجار والمجرور متعلقان بيسألونك والميسر معطوف على الخمر والجملة مستأنفة مسوقة لبيان تحريم الخمر والميسر لما فيهما من مفاسد اجتماعية(1/325)
ضارة (قُلْ) فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والجملة مستأنفة أيضا (فِيهِما) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم (إِثْمٌ) مبتدأ مؤخر (كَبِيرٌ) صفة لإثم، والجملة الاسمية مقول القول (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) عطف على إثم، وللناس جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (وَإِثْمُهُما) الواو عاطفة وإثم مبتدأ والهاء مضاف إليه، والميم والألف حرفان دالّان على التثنية (أَكْبَرُ) خبر (مِنْ نَفْعِهِما) الجار والمجرور متعلقان بأكبر (وَيَسْئَلُونَكَ) عطف على يسألونك (ماذا يُنْفِقُونَ) تكرّر إعرابها فجدّد به عهدا (قُلْ) فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة مستأنفة (الْعَفْوَ) مفعول به لفعل محذوف تقديره أنفقوا والجملة مقول القول (كَذلِكَ يُبَيِّنُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف مفعول مطلق أو حال، ويبين فعل مضارع مرفوع (اللَّهُ) فاعل يبين (لَكُمُ) الجار والمجرور متعلقان بيبين (الْآياتِ) مفعول به (لَعَلَّكُمْ) لعل واسمها (تَتَفَكَّرُونَ) فعل مضارع وفاعل والجملة خبر لعل وجملة الرجاء حالية وجملة كذلك يبين إلخ مستأنفة (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الجار والمجرور متعلقان بتتفكرون أو بيبين فالمعنى على الأول: فيما هو صلاحكم في الدارين وعلى الثاني يبين لكم الآيات فيما ينفعكم في الدارين (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) تقدم إعرابها (قُلْ) فعل أمر وفاعل مستتر والجملة مستأنفة (إِصْلاحٌ) مبتدأ وسوغ الابتداء به وصفه بالجار والمجرور (لَهُمْ) الجار والمجرور صفة لإصلاح (خَيْرٌ) خبر إصلاح والجملة الاسمية مقول القول (وَإِنْ) الواو استئنافية وإن شرطية (تُخالِطُوهُمْ) فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به أي تحسنوا معاشرتهم بالمخالطة والمعاشرة الطيبة (فَإِخْوانُكُمْ) الفاء رابطة لجواب الشرط وإخوانكم خبر لمبتدأ محذوف أي فهم إخوانكم، والجملة الاسمية في محل جزم جواب(1/326)
الشرط. ولا بد من تقدير محذوف أي فلكم ذلك ثم علل ذلك بقوله:
فهم إخوانكم (وَاللَّهُ) الواو استئنافية والواو مبتدأ (يَعْلَمُ) الجملة خبر المبتدأ وفاعل يعلم ضمير مستتر يعود على الله تعالى (الْمُفْسِدَ) مفعول به (مِنَ الْمُصْلِحِ) الجار والمجرور متعلقان بيعلم لتضمنه معنى يميز (وَلَوْ) الواو استئنافية ولو شرطية (شاءَ اللَّهُ) فعل وفاعل، ومفعول المشيئة محذوف تقديره إعناتكم (لَأَعْنَتَكُمْ) اللام واقعة في جواب لو وأعنتكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وجملة لأعنتكم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (إِنَّ اللَّهَ) إن واسمها (عَزِيزٌ حَكِيمٌ) خبر إن، والجملة لا محل لها لأنها بمثابة التعليل.
الفوائد:
لمحة تاريخية أدبية: نزلت في الخمر أربع آيات:
1- الأولى نزلت في مكة وهي: «ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا» فكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم.
2- والثانية نزلت في المدينة فقد أتى عمر بن الخطاب ومعاذ ابن جبل وجماعة من الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
يا رسول الله أفتنا في الخمر فانها مذهبة للعقل مسلبة للمال؟ فتركها قوم لقوله: «قل فيهما إثم كبير» .
3- والثالثة أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما ودعا إليه ناسا فشربوا وسكروا، وحضرت صلاة المغرب، فقدموا أحدهم ليصلي بهم، فقرأ: «قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون» بحذف «لا»(1/327)
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
النافية، فأنزل الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون» فقلّ من يشربها.
4- والرابعة أن عتبان بن مالك دعا قوما فيهم سعد بن أبي وقاص الى طعام وشراب، فأكلوا وشربوا الخمر حتى أخذت منهم، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا الأشعار، حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار، فضربه أنصاري بلحي بعير فشجه، فانطلق سعد الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الأنصاري، فقال عمر:
اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فأنزل الله تعالى: «إنما الخمر والميسر» الى قوله «فهل أنتم منتهون» فقال عمر: انتهينا يا رب.
[سورة البقرة (2) : آية 221]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
الإعراب:
(وَلا) الواو استئنافية ولا ناهية (تَنْكِحُوا) بفتح التاء مضارع نكح مجزوم بلا والواو فاعل (الْمُشْرِكاتِ) مفعول به وعلامة نصبه الكسرة لأنه جمع مؤنث سالم (حَتَّى يُؤْمِنَّ) حتى حرف غاية وجر(1/328)
ويؤمن فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة وهو في محل نصب بأن مضمرة بعد حتى ونون النسوة فاعل والجار والمجرور من حتى والمصدر المؤول متعلقان بتنكحوا (وَلَأَمَةٌ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان الفرق بين المؤمنة والمشركة واللام للابتداء وأمة مبتدأ، وساغ الابتداء بالنكرة لوصفها (مُؤْمِنَةٌ) صفة لأمة (خَيْرٌ) خبر (مِنْ مُشْرِكَةٍ) الجار والمجرور متعلقان بخير (وَلَوْ) الواو للحال ولو شرطية بمعنى إن (أَعْجَبَتْكُمْ) فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هي يعود على الأمة والكاف مفعول به، وجملة أعجبتكم خبر لكان المحذوفة هي واسمها بعد لو، وجملة لو أعجبتكم حالية والمعنى ولأمة مؤمنة خير من مشركة حال كونها قد أعجبتكم لجمالها ومالها، وسيأتي مزيد بيان لذلك في باب الفوائد (وَلا) الواو عاطفة ولا ناهية (تَنْكِحُوا) بضم التاء مضارع أنكح مجزوم بلا والواو فاعل (الْمُشْرِكِينَ) مفعول به (حَتَّى يُؤْمِنُوا) حتى حرف غاية وجر ويؤمنوا فعل مضارع مجزوم بأن مضمرة بعد حتى (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) تقدم إعراب مثيلتها (أُولئِكَ) اسم الإشارة مبتدأ (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) الجملة خبر اسم الاشارة والجملة مستأنفة مسوقة لبيان الحكمة في ذلك، ولك أن تجعلها مفسرة. وعلى كل حال لا محل لها (وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ) عطف على ما تقدم (وَالْمَغْفِرَةِ) عطف على الجنة (بِإِذْنِهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي آذنا بذلك (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ) عطف على يدعو وآياته مفعول به وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة (لِلنَّاسِ) الجار والمجرور متعلقان بيبين (لَعَلَّهُمْ) لعل واسمها (يَتَذَكَّرُونَ) الجملة الفعلية خبر لعل، وجملة الرجاء حالية.(1/329)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
الفوائد:
يطرد حذف كان واسمها وبقاء خبرها بعد إن ولو الشرطيتين، وسيرد تفصيل ذلك في مواضعه.
لمحة تاريخية: في هذه الآية تهذيب رفيع وتعاليم إنسانية رائعة وشجب للتمييز العنصري واللوني، قيل: نزلت هذه الآية في عبد الله ابن رواحة، وقد كانت عنده أمة سوداء فغضب عليها يوما فلطها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال له النبي: وما هي يا عبد الله؟ قال: هي تشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وتصوم رمضان وتحسن الوضوء وتصلّي قال: هذه مؤمنة قال عبد الله:
فوالذي بعثك بالحقّ لأعتقنّها ولأتزوّجنّها ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا: أتنكح أمة وعرضوا عليه حرّة مشركة فنزلت.
[سورة البقرة (2) : الآيات 222 الى 223]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)(1/330)
اللغة:
(الْمَحِيضِ) مصدر ميمي أو اسم زمان، والحيض: سيلان الدم.
والتفصيل فيه مبسوط في كتب الفقه.
الإعراب:
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) كلام معطوف على الأحكام المتقدمة ويلاحظ أنه صدر السؤال بالواو ثلاث مرات وجاء مجردا منها أربع مرات، لأن ما جاء مقترنا بالواو حدث السؤال عنه في وقت واحد فحسن عطفه بالواو، أما حيث تختلف الأزمنة في السؤال فقد جاء الكلام مجردا من الواو تنبيها على انقطاع المدد وتفاوتها. وهذا من أسرار القرآن ومعاجزة البديعة. وعن المحيض متعلقان بيسألونك (قُلْ) فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة مستأنفة (هُوَ) مبتدأ (أَذىً) خبر والجملة الاسمية مقول القول (فَاعْتَزِلُوا) الفاء الفصيحة أي إذا شئتم معرفة حكمه فاعتزلوا، والجملة بعدها لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم (النِّساءَ) مفعول به (فِي الْمَحِيضِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي متلبّسات بالمحيض (فَإِذا) الفاء عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه (تَطَهَّرْنَ) فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة والنون ضمير متصل في محل رفع فاعل وجملة تطهرن في محل جر بالإضافة (فَأْتُوهُنَّ) الفاء رابطة لجواب إذا وأتوهن فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (مِنْ حَيْثُ) من حرف(1/331)
جر وحيث ظرف مكان مبني على الضم في محل جر بمن والجار والمجرور متعلقان بأتوهن (أَمَرَكُمُ اللَّهُ) فعل ماض ومفعول به وفاعل والجملة في محل جر بالاضافة (إِنَّ اللَّهَ) إن واسمها (يُحِبُّ) فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى والجملة في محل رفع خبر إن (التَّوَّابِينَ) مفعول به وجملة إن وما تلاها تعليلية لا محل لها (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) عطف على جملة يحب التوابين (نِساؤُكُمْ) مبتدأ (حَرْثٌ) خبر (لَكُمْ) الجار والمجرور صفة لحرث (فَأْتُوا) الفاء استئنافية وأتوا: فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل (حَرْثَكُمْ) مفعول به. والجملتان الاسمية والفعلية مستأنفتان مسوقتان لبيان الحكم في هذه المسألة الاجتماعية، فقد اعتزل المسلمون نساءهم عملا بظاهر آية المحيض، فأخرجوهن من البيوت، فقال ناس من الأعراب: يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة، فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت، وإن استأثرنا بها هلكت الحيّض! فقال: إنما أمرتكم أن تعتزلوا مجامعتهنّ، ولم تؤمروا بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم. ثم إن اليهود جريا على عادتهم في المكابرة واللجاج وإحداث التفرقة والبلبلة أخذوا يروّجون أقوالا لا حقيقة لها. منها قولهم: من أتى امرأته في قبلها من جهة دبرها جاء الولد أحول، فنزلت الآية الثانية والثالثة تسهيلا على العباد وتوفيرا للذتهم، كما سيأتي في باب البلاغة (أَنَّى شِئْتُمْ) مفعول فيه ظرف مكان متعلق بأتوا، وجملة شئتم في محل جر بالإضافة (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) عطف على ما تقدم (وَاتَّقُوا اللَّهَ) عطف أيضا (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) عطف آخر، وأن وما في حيزها سدّت مسد مفعولي اعلموا، وملاقوه خبر أن وعلامة رفعه الواو لأنه جمع مذكر سالم (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) عطف آخر على ما تقدم.(1/332)
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
البلاغة:
1- التشبيه البليغ: فقد شبّه النساء بالحرث أولا لما بين ما يلقى في أرحامهن من النّطف وبين البذور من المشابهة، ووجه الشبه أن كلا منهما مادة ما يحصل منه.
2- الكناية، فقد كنّى بإتيان الحرث في أية كيفية عن إتيان المرأة في الكيفية التي يشاؤها المرء من غير حظر ولا حرج ما دام المأتى واحدا وهو موضع الحرث.
[سورة البقرة (2) : الآيات 224 الى 225]
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
اللغة:
(عُرْضَةً) العرضة بالضم: الشيء الذي ينصب ويعرض، ويقال: هو عرضة لكذا، أي قوي عليه، وهو عرضة للناس، أي:
لا يزالون يقعون فيه، وجعلته عرضة كذا، أي نصبته. أي لا تجعلوا الله كالغرض المنصوب للرماة، فكلما أردتم الامتناع من شيء- ولو كان خيرا- تتوصلون الى ذلك بالحلف (اللغو) الساقط الذي لا يؤبه له ولا يعتدّ به من كلام وغيره، والمراد به هنا ما يسيق اليه اللسان من غير قصد الحلف.(1/333)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
الإعراب:
(وَلا تَجْعَلُوا) الواو استئنافية مسوقة لمعالجة مشكلة اجتماعية خطيرة، وهي جعل اسم الله معرضا لايمانكم تبتذلونه بكثرة الحلف به. أو لا تجعلوه برزخا حاجزا بأن تحلفوا به، فذلك لأن العرضة إما بمعنى فاعل وإما بمعنى مفعول، ولا ناهية وتجعلوا فعل مضارع مجزوم بها (اللَّهَ) مفعول به أول لتجعلوا (عُرْضَةً) مفعول به ثان (لِأَيْمانِكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بعرضة (أَنْ تَبَرُّوا) أن وما في حيزها مصدر مؤول مفعول لأجله أو بدل (وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) عطف على أن تبروا وبين ظرف متعلق بتصلحوا (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، والله مبتدأ وسميع عليم خبراه (لا) نافية (يُؤاخِذُكُمُ) فعل مضارع ومفعول به (اللَّهُ) فاعله والجملة مستأنفة (بِاللَّغْوِ) الجار والمجرور متعلقان بيؤاخذكم (فِي أَيْمانِكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (وَلكِنْ) الواو عاطفة ولكن مهملة للاستدراك (يُؤاخِذُكُمُ) فعل مضارع ومفعول به (بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بيؤاخذكم وما مصدرية أو اسم موصول وقلوبكم فاعل (وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وغفور حليم خبراه.
[سورة البقرة (2) : الآيات 226 الى 228]
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)(1/334)
اللغة:
(يُؤْلُونَ) : يقسمون، والإيلاء من المرأة أن يقول: والله لا أقربك أربعة أشهر فصاعدا وفي هذا الفعل مباحث تتعلق بعلم الفقه يرجع إليها في مظانّها.
(فاؤُ) رجعوا.
(التربص) الانتظار والتأنّي، قال:
تربّص بها ريب المنون لعلها ... تطلّق يوما أو يموت حليلها
(قروء) جمع قرء، وهو الطهر، كما ذهب إليه الشافعي. أو الحيض كما ذهب إليه أبو حنيفة. وخلاف الفقهاء عند الاحتمال اللغوي جميل جدا. فمن إطلاقه على الطهر قول الأعشى:
أفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشدّ لأقصاها عظيم عزائكا
مورثة مالا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا(1/335)
أي أطهارهن. ومن إطلاقه على الحيض قول النبي صلى الله عليه وسلم: «دعي الصلاة أيام أقرائك» .
الإعراب:
(لِلَّذِينَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم (يُؤْلُونَ) فعل مضارع والواو فاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (مِنْ نِسائِهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بيؤلون، وحق تعدية فعل الإيلاء ب «على» ولكنه ضمنه معنى البعد لأن المقسمين يبعدون عن نسائهم نسائهم (تَرَبُّصُ) مبتدأ مؤخر و (أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) أربعة أشهر مضاف إليه، والكلام مستأنف لإتمام التشريع (فَإِنْ فاؤُ) الفاء استئنافية وإن شرطية وفاءوا فعل ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الفاء رابطة لجواب الشرط وإن واسمها وخبراها وجملة إنّ وما تلاها في محل جزم جواب الشرط (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) الواو عاطفة وإن شرطية وعزموا فعل ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط والطلاق منصوب بنزع الخافض لأن عزم يتعدى ب «على» وجواب الشرط محذوف تقديره فليوقعوه (فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الفاء عاطفة على الجواب المحذوف بمثابة التعليل، وان واسمها وخبراها (وَالْمُطَلَّقاتُ) الواو استئنافية والمطلقات مبتدأ (يَتَرَبَّصْنَ) فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة والنون فاعل، وجملة يتربصن خبر المطلقات، والجملة المستأنفة لا محل لها مسوقة لبيان أحكام الطلاق (بِأَنْفُسِهِنَّ) الجار والمجرور متعلقان بيتربصن، ومعنى الباء السببية أي من أجل أنفسهن، لأن نفوس النساء طوامح الى الرجال فهن أدرى بقمع شرّتها (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) قال المعربون مفعول به ليتربصن، وأرى أن النصب على الظرفية الزمانية أرجح(1/336)
ويتعلق الظرف بيتربصن أي: مدة ثلاثة قروء (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ) الواو عاطفة ولا نافية ويحل فعل مضارع معطوف على يتربصن (أَنْ يَكْتُمْنَ) أن حرف مصدري ونصب ويكتمن فعل مضارع مبني على السكون في محل نصب بأن ونون النسوة فاعل وأن وما في حيزها في تأويل مصدر فاعل يحل (ما) اسم موصول في محل نصب مفعول به (خَلَقَ اللَّهُ) فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (فِي أَرْحامِهِنَّ) الجار والمجرور متعلقان بخلق (أَنْ) شرطية (كُنَّ) فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط ونون النسوة ضمير متصل في محل رفع اسم كان (يُؤْمِنَّ) خبر كن وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله أي فلا يجرؤن على ذلك (بِاللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بيؤمن (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) عطف على الله لفظ الجلالة (وَبُعُولَتُهُنَّ) الواو عاطفة وبعولتهن مبتدأ (أَحَقُّ) خبر (بِرَدِّهِنَّ) الجار والمجرور متعلقان بأحق (فِي ذلِكَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي حالة كون الرّدّ في مدة ذلك التربّص (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) أن حرف شرط جازم، أرادوا فعل ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف تقديره: فبعولتهن أحق بردهن، والواو فاعل، إصلاحا مفعول به (وَلَهُنَّ) الواو عاطفة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) مثل مبتدأ مؤخر واسم الموصول مضاف اليه وعليهن صلة الموصول وبالمعروف جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي كائنا في الوجه الذي لا ينكر في الشرع والعادة. وتفصيل هذه الأحكام في كتب الفقه (وَلِلرِّجالِ) الواو عاطفة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (عَلَيْهِنَّ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه تقدم على موصوفه (دَرَجَةٌ) مبتدأ مؤخر (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وعزيز حكيم خبراه.(1/337)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
الفوائد:
لوحظ أنه أضاف الثلاثة الى قروء، وهي من جموع الكثرة، لأنه لما جمع المطلقات وكان الواجب على كل منهن ثلاثة أقراء جمع القروء جمع كثرة ليتناسق الكلام، أو أنه من باب الاتساع، ووضع أحد الجمعين في موضع الآخر، للنكتة المشار إليها آنفا.
[سورة البقرة (2) : آية 229]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
الإعراب:
(الطَّلاقُ مَرَّتانِ) مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة لبيان عدد الطلاق الجائز (فَإِمْساكٌ) الفاء الفصيحة كأنه قيل: إذا علمتم كيفية التطليق فعليكم أحد الأمرين. وإمساك مبتدأ خبره محذوف أي فعليكم إمساكهن. وإنما قدرنا الخبر قبله لتسويغ الابتداء بالنكرة (بِمَعْرُوفٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لإمساك (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أو حرف عطف وتسريح عطف على إمساك والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لتسريح. والمراد بالإحسان(1/338)
استمرار إيصال المعروف أو تأدية جميع حقوقها المالية لرأب الصدع الذي أحدثه الطلاق (وَلا) الواو استئنافية أو عاطفة ولا نافية (يَحِلُّ) فعل مضارع مرفوع (لَكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بيحل (أَنْ تَأْخُذُوا) أن وما بعدها في تأويل مصدر فاعل يحل (مِمَّا) الجار والمجرور متعلقان بتأخذوا أو بمحذوف حال (آتَيْتُمُوهُنَّ) الجملة صلة الموصولة والواو بعد الميم التي هي لجمع الذكور لإشباع ضمة الميم (شَيْئاً) مفعول به (إِلَّا أَنْ يَخافا) إلا أداة حصر لتقدم النفي أو استثناء، وأن والفعل بعدها في تأويل مصدر، وقد اختلف في إعراب هذا المصدر اختلافا شديدا، فالظاهر أنه نصب على الحال، أي إلا خائفين، ويشكل عليه أن سيبويه منع في كتابه وقوع أن والفعل حالا، نصّ على ذلك في آخر باب «هذا باب ما يختار فيه الرفع» . وعلى هذا لا مندوحة عن الرجوع الى الوجه الثاني من أوجه الاستثناء وهو أن يكون الكلام تاما منفيا فننصبه على الاستثناء من المفعول به، وهو «شيئا» . كأنه قيل: ولا يحل لكم أن تأخذوا بسبب من الأسباب إلا بسبب خوف عدم إقامة حدود الله، فذلك هو الذي يبيح لكم الأخذ. ويكون حرف العلة قد حذف مع «أن» وهو جائز في العربية، فتأمل وتدبّر (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ) أن وما في حيزها في موضع نصب مفعول يخافا، وحدود الله مفعول به ولا نافية (فَإِنْ خِفْتُمْ) الفاء استئنافية وإن شرطية وخفتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والتاء فاعل (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ) أن وما بعدها في موضع نصب مفعول به لخفتم (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) الفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية للجنس وجناح اسمها وعليهما جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لا (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الجار والمجرور موضع نصب على الحال وجملة افتدت صلة الموصول والجار والمجرور متعلقان بافتدت(1/339)
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
وجملة فلا جناح في محل جزم جواب الشرط (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) تلك اسم الاشارة مبتدأ وحدود الله خبره (فَلا تَعْتَدُوها) الفاء الفصيحة أي إذا عرفتم هذه الأحكام فلا تتجاوزوها، والجملة بعدها لا محل لها من الإعراب. وجملة «تلك حدود الله» مستأنفة ولا ناهية وتعتدوها فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والهاء مفعول به (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لذكر الوعيد بعد النهي عن تعديها، ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويتعد فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وحدود الله مفعول به (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الفاء رابطة لجواب الشرط وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ ثان والظالمون خبره، والمبتدأ الثاني وخبره خبر الأول أو هم ضمير فصل لا محل لها والظالمون خبر أولئك. والجملة في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر «من» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 230 الى 231]
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)(1/340)
اللغة:
(ضِراراً) مصدر بمعنى الإضرار، كان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى يقرب انقضاء عدتها ثم يراجعها لا لرغبة فيها بل ليطوّل عليها العدة فنهي عنه والتفاصيل في كتب الفقه.
الإعراب:
(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ) الفاء استئنافية أو عاطفة وإن شرطية وطلقها فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والهاء مفعول به والفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية وتحل فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره هي أي المطلقة والجار والمجرور متعلقان بتحل والجملة في محل جزم جواب الشرط (مِنْ بَعْدُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي كائنة بعد الطلقتين الاثنتين (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) حتى حرف غاية وجر وتنكح فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والجار والمجرور متعلقان بتحل وزوجا مفعول به وغيره صفة (فَإِنْ طَلَّقَها) الجملة مستأنفة وقد تقدمت والفاعل مستتر يعود على الزوج الثاني (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) الفاء رابطة ولا نافية للجنس وجناح اسمها المبني على الفتح وعليهما الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبرها وجملة فلا جناح جواب شرط وأن وما في حيزها مصدر منصوب(1/341)
بنزع الخافض أي في التراجع والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، والضمير يعود على الزوجة والزوج الأول (إِنْ ظَنَّا) إن شرطية وظنا فعل ماض مبني على الفتح والألف فاعل وهو فعل الشرط وجوابه محذوف دل عليه ما قبله (أَنْ يُقِيما) أن وما في حيزها مصدر منصوب مفعوليّ ظنّا والألف فاعل (حُدُودَ اللَّهِ) مفعول به (وَتِلْكَ) الواو استئنافية وتلك مبتدأ (حُدُودَ اللَّهِ) خبر (يُبَيِّنُها) فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله تعالى والهاء مفعول به والجملة في محل رفع خبر ثان أو حال (لِقَوْمٍ) الجار والمجرور متعلقان بنبينها (يَعْلَمُونَ) الجملة صفة لقوم (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتتمة بيان أحكام الطلاق.
وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب وجملة طلقتم النساء في محل جر بالاضافة والنساء مفعول طلقتم (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) الفاء عاطفة وبلغن فعل ماض مبني على السكون ونون النسوة فاعل وأجلهن مفعول به (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) الفاء رابطة لجواب الشرط وأمسكوهن فعل أمر وفاعل ومفعول به والجار والمجرور متعلقان بأمسكوهن (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) الجملة معطوفة على سابقتها (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) الواو عاطفة ولا ناهية وتمسكوهن فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به والنون علامة التأنيث، وضرارا مفعول لأجله أو مفعول مطلق أو مصدر في موضع الحال، والأوجه الثلاثة متساوية الرجحان (لِتَعْتَدُوا) اللام للتعليل وتعتدوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان ب «ضرارا» فيكون بمثابة علة للعلة كما تقول: «ضربت ابني تأديبا لينتفع» ولا يسوغ جعله علة ثانية لئلا يتعدد المفعول لأجله، ومعنى الاعتداء الظلم بمجاوزة الحدود(1/342)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
المبينة (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ ويفعل فعل الشرط والفاعل هو وذلك مفعول به (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) الفاء رابطة لجواب الشرط، وقد حرف تحقيق وظلم فعل ماض وفاعله هو ونفسه مفعول به والجملة في محل جزم جواب الشرط. وفعل الشرط وجوابه خبر «من» (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً) الواو حرف عطف أو استئناف ولا ناهية وتتخذوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وآيات الله مفعول به أول وهزوا مفعول به ثان للتتخذوا أي مهزوءا بها (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) الواو حرف عطف واذكروا فعل أمر وفاعل ونعمة الله مفعول به وعليكم متعلقان بنعمة (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) الواو عاطفة وما اسم موصول معطوف على نعمة وجملة أنزل صلة «ما» وعليكم متعلقان بأنزل، ومن الكتاب الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، والحكمة عطف على الكتاب (يَعِظُكُمْ بِهِ) فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره هو والكاف مفعول به والجملة حال، والجار والمجرور متعلقان بيعظكم (وَاتَّقُوا اللَّهَ) الواو حرف عطف، اتقوا عطف على اذكروا (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) عطف على ما تقدم وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي اعلموا.
[سورة البقرة (2) : آية 232]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)(1/343)
اللغة:
(تَعْضُلُوهُنَّ) العضل هو الحبس والتضييق، ومنه عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج. وقد رمق ابن هرمة سماء القرآن فأخذ اللفظة أخذا رشيقا بقوله:
وإن قصائدي لك فاصطنعني ... عقائل قد عضلن عن النكاح
شبه القصائد بالنساء ورشح ذلك بالعضل وهو المنع من النكاح.
وللعين مع الضاد إذا وقعنا فاء وعينا للكلمة سر غريب، فهما تفيدان عندئذ معنى الحبس والشدة، ومنه سيف عضب: أي شديد قاطع، والعضد معروف وهو أشد عضو في الإنسان. وهذا من أغرب ما تميزت به لغتنا العربية.
الإعراب:
(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) الواو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متعلق بالجواب وجملة طلقتم النساء: في محل جر بإضافة الظرف إليها.
والنساء مفعول به (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) الفاء عاطفة وبلغن فعل ماض مبني على السكون والنون فاعل وأجلهنّ أي عدتهنّ مفعول به والجملة عطف على جملة طلقتم (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) الفاء رابطة ولا ناهية وتعضلوهن فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والهاء مفعول به والجملة لا محل لها لأنها جواب إذا (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ) أن وما بعدها مصدر منصوب بنزع الخافض أي من النكاح. وارتأى أبو حيان أن يكون المصدر في موضع نصب على البدل من الضمير، بدل اشتمال، ولا بأس بما ارتآه. وأزواجهن مفعول به (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) إذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق(1/344)
بتعضلوهن أو بينكحن. وجملة تراضوا في محل جر بالإضافة، وبينهم ظرف متعلق بتراضوا وبالمعروف متعلقان بمحذوف حال من فاعل تراضوا أو صفة لمصدر محذوف، أي تراضيا كائنا بالمعروف، ولا مانع من تعليقهما بتراضوا أي تراضوا بما يحسن في الدين والمروءة (ذلِكَ) اسم الاشارة مبتدأ والإشارة لجميع ما فصله من الأحكام (يُوعَظُ بِهِ) فعل مضارع مبني للمجهول والجار والمجرور متعلقان بيوعظ وجملة يوعظ به خبر لاسم الاشارة وجملة الاشارة مستأنفة (مَنْ كانَ) من اسم موصول في محل رفع نائب فاعل يوعظ وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره هو والجملة صلة (مِنْكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الجملة الفعلية في محل نصب خبر كان (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) ذلكم: مبتدأ وأزكى خبره ولكم جار ومجرور متعلقان بأزكى أو أظهر والجملة استئنافية (وَاللَّهُ يَعْلَمُ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة يعلم خبر (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الواو حرف عطف وأنتم مبتدأ ولا نافية وجملة لا تعلمون خبر أنتم.
البلاغة:
في الآية مجاز مرسل طريف وهو قوله تعالى: (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ) فتسمية المطلقين لهن بالأزواج مجاز مرسل علاقته اعتبار ما كان.(1/345)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
[سورة البقرة (2) : آية 233]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
اللغة:
(الحول) السنة لأنها تحول أي تمضي والجمع حئول بضم الحاء وأحوال، وهذه امرأة لا تضع إلا تحاويل ولا تلد إلا تحاويل، أي تلد سنة وسنة لا تلد، وحوليات زهير أي قصائده المطوّلة التي يستغرق في نظمها حولا كاملا.
(تُضَارَّ) مضارع ضارّ بتشديد الراء ولذلك فتح آخره كما سيأتي.
(الفصال) بكسر الفاء: الفطام قبل الحولين، وفصلت الأم رضيعها فطمته، وهذا زمن فصاله كما يقال زمن فطامه.
الإعراب:
(وَالْوالِداتُ) الواو عاطفة أو استئنافية والجملة معطوفة أو(1/346)
مستأنفة مسوقة لإتمام هذه الأحكام والوالدات مبتدأ (يُرْضِعْنَ) فعل مضارع مبني على السكون والنون فاعل (أَوْلادَهُنَّ) مفعول به والجملة خبر للوالدات (حَوْلَيْنِ) ظرف زمان متعلق بيرضعن (كامِلَيْنِ) صفة لأنه ما يتسامح به، تقول: أقمت عند فلان حولين ولم تستكملهما (لِمَنْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف تقديره ذلك الحكم لمن والجملة مستأنفة (أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) جملة أراد لا محل لها لأنها صلة من، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول به فتكون «من» واقعة على الأم. كأنه قيل: لمن أراد أن يتم الرضاعة من الوالدات. ويجوز أن يعلق الجار والمجرور بيرضعن، فتكون واقعة على الأب، كأنه قيل: لأجل من أراد أن يتم الرضاعة من الآباء (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) الواو عاطفة وعلى المولود متعلقان بمحذوف خبر مقدم وله جار ومجرور في محل رفع على أنه نائب فاعل للمولود لأنه اسم مفعول.
ورزقهن مبتدأ مؤخر وكسوتهن عطف عليه. وبالمعروف متعلقان بمحذوف حال (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) الجملة تفسيرية لا محل لها ولا نافية وتكلف فعل مضارع مبني للمجهول ونفس نائب فاعل وإلا أداة حصر ووسعها مفعول به ثان. وكلّف بتشديد اللام فعل يتعدى لاثنين، قال عروة:
يكلفني عمي ثلاثين ناقة ... ومالي يا عفراء غير ثمان
فالياء مفعول أول وثلاثين مفعول ثان (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) لا ناهية وتضار فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه السكون، ونابت الفتحة لخفتها في المضعف، والفعل مبني للمجهول، وقرىء في السبع برفع تضارّ، على أن «لا» نافية. ووالدة نائب فاعل(1/347)
والجار والمجرور متعلقان بتضار والجملة حالية (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) عطف على ما تقدم والباء فيهما للسببية، أي وأضيف الولد إليها تارة وإليه تارة أخرى، بمثابة استعطاف لكل من الوالدين ومناشدتما بأن يتعهداه ويعملا على استصلاحه، فلا يكون سببا لإلحاق الضر بهما، ولذلك جعلها بعض الحذاق من معربي القرآن زائدة ولا داعي لدعوى الزيادة. (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) الواو عاطفة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومثل ذلك مبتدأ مؤخر (فَإِنْ أَرادا فِصالًا) الفاء استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لاستقصاء الحكم في هذه المسألة الاجتماعية. وإن شرطية وأرادا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والألف فاعل وفصالا مفعول به (عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لفصالا ومنهما صفة لتراض وتشاور عطف على تراض (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) الفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية للجنس وجناح اسمها وعليهما خبرها والجملة جواب الشرط (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) الواو عاطفة وإن شرطية وأردتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والتاء فاعل وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول به لأردتم وأولادكم مفعول به ثان لتسترضعوا والمفعول الأول محذوف والمعنى أن تسترضعوا المراضع أولادكم، نصّ على هذا الإعراب سيبويه وعلق الشهاب على البيضاوي بأن أرضع يتعدى الى مفعول واحد، فإن زيدت فيه السين والتاء صار متعديا لاثنين، وجرى الزمخشري أيضا على ذلك. وقيل إنما يتعدى للثاني بحرف جر، فيكون أولادكم منصوبا بنزع الخافض، ويكون الجار والمجرور موضع المفعول الثاني، قال الزجاج والتقدير:
أن تسترضعوا لأولادكم غير الوالدة. (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) تقدم إعرابها (إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن(1/348)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
خافض لشرطه منصوب بجوابه المحذوف وجملة سلمتم في محل جر بالإضافة، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة آتيتم لا محل لها لأنها صلة الموصول، وبالمعروف الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (وَاتَّقُوا اللَّهَ) الواو استئنافية. وجملة «اتقوا الله» من الفعل والفاعل والمفعول به مستأنفة مسوقة للمبالغة في المحافظة على ما شرع في أمر الأطفال والمراضع وعدم التفريط بحقوقهم (وَاعْلَمُوا) عطف على واتقوا (أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أن وما بعدها سدت مسد مفعولي اعلموا وجملة تعملون صلة ما، وبصير خبر أن.
الفوائد:
الفعل المضعف إذا جزم أو بني على السكون جاز فيه ثلاث لغات:
1- الفتح مطلقا، وعندنا أنه الأولى لخفته على اللسان.
2- الكسر مطلقا، كأنهم شبهوه بالتقاء الساكنين.
3- الاتباع لحركة الفاء وروي قول جرير باللغات الثلاث:
فغضّ الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
[سورة البقرة (2) : الآيات 234 الى 237]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)(1/349)
اللغة:
(يُتَوَفَّوْنَ) بالبناء للمجهول أي تقبض أرواحهم بالموت، وهو مأخوذ من توفّيت الدّين إذا قبضته. والمتوفّي هو الله، والمتوفّى(1/350)
بالفتح هو العبد. ويحكى أن أبا الأسود الدّؤليّ كان يمشي خلف جنازة فقال له رجل: من المتوفي؟ بكسر الفاء. فقال: الله تعالى.
وكان أحد الأسباب الباعثة لعلي بن أبي طالب على وضع النحو.
(المقتر) الضّيّق الرزق.
الإعراب:
(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) اضطرب كلام المفسرين والمعربين وأئمة اللغة في إعراب هذا التركيب البليغ، وأدلى كل واحد منهم بحجة، وحشد كل ما لديه، لإثبات ما ارتآه. ولهذا تعذّر على المعرب المفاضلة والترجيح، وسنلخص ما رأيناه أقرب الى الصواب منها:
رأي سيبويه: وهو إعراب «الذين» مبتدأ خبره محذوف، أي فيما يتلى عليكم حكمهم. وسيرد مثله في القرآن الكريم، ومنه «والسارق والسارقة» . وجملة «يتربصن» تفسيرية للحكم المتلوّ لا محل لها.
رأي الزمخشري: وهو «الذين» مبتدأ على تقدير حذف المضاف، أراد: وأزواج الذين يتوفون منكم، وخبره جملة يتربصن.
رأي المبرّد: وهو جعل جملة «يتربصن» خبرا لمبتدأ محذوف والتقدير: أزواجهم يتربصن، والجملة الاسمية خبر «الذين» ، والرابط هو الضمير، أي النون في «يتربصن» ، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حكم آخر.
منكم: الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (وَيَذَرُونَ)(1/351)
عطف على يتوفون (أَزْواجاً) مفعول به (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) فعل مضارع مبني على السكون وقد مر إعراب الجملة فيما تقدم (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) ظرف زمان متعلق بيتربصن (وَعَشْراً) عطف على أربعة.
وذكر العدد لأنه أراد عشر ليال، والأيام داخلة معها، ولا تراهم أبدا يستعملون التذكير تقول: صمت عشرا وسرت عشرا، قال:
أشوقا ولمّا يمض لي غير ليلة ... فكيف إذا جدّ المطيّ بنا عشرا
(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) الفاء استئنافية، وإذا ظرف مستقبل متعلق بالجواب، وبلغن فعل وفاعل، وأجلهن مفعول به، وللجملة الفعلية في محل جر بالإضافة (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) الفاء رابطة للجواب، ولا نافية للجنس وجناح اسمها، وعليكم متعلقان بمحذوف خبرها والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال وجملة فعلن صلة الموصول، وفي أنفسهن جار ومجرور متعلقان بفعلن وبالمعروف الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي متلبسات بالمعروف (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ والجار والمجرور متعلقان بخبير وجملة تعملون صلة الموصول وخبير خبر لفظ الجلالة (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ) تقدم إعرابها والواو عاطفة (مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) أو حرف عطف وجملة أكننتم عطف على عرّضتم وفي أنفسكم متعلقان بأكننتم (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) الجملة بمثابة التعليل لا محل لها وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي علم، وجملة ستذكرونهن خبر أن (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) الواو عاطفة على محذوف وقع عليه(1/352)
الاستدراك، أي فاذكروهن. و «لكن» مخففة مهملة ولا ناهية وتواعدوهن فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والهاء مفعول أول وسرا مفعوله الثاني، لأن السر معناه هنا النكاح. ويجوز أن يعرب حالا مؤولة أي مستخفين عن الناس، أو منصوبا بنزع الخافض أي في السر، ويجوز أيضا أن يعرب مفعولا مطلقا أي مواعدة سرا. والوجه هو الأول، وإنما ألمعنا الى هذه الوجوه لأن بعضهم قال: إن فعل المواعدة لا يتعدى الى مفعولين، والعرب كثيرا ما يستعملون السر بمعنى النكاح قال الأعشى:
ولا تقربن من جارة إنّ سرها ... عليك حرام فانكحن أو تأبدا
وتأبدا فعل أمر وألفه منقلبة عن نون التوكيد أي: انفر من الأنيس أيها المخاطب (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً) إلا أداة استثناء وأن مصدرية وتقولوا فعل مضارع منصوب بأن وأن وما بعدها مصدر في محل نصب على الاستثناء من «سرا» وقولا مفعول مطلق ومعروفا صفة (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) الواو حرف عطف ولا ناهية وتعزموا فعل مضارع مجزوم بلا وعقدة النكاح منصوب بنزع الخافض أي: على عقدة النكاح (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) حرف غاية وجر ويبلغ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والكتاب فاعل وأجله مفعول به والجار والمجرور متعلقان بتعزموا (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) الواو عاطفة واعلموا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وأن واسمها وجملة يعلم خبر أن، وأن وما دخلت عليه سدت مسد مفعولي اعلموا، وما اسم موصول مفعول به، وفي أنفسكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة ما أي استقر في أنفسكم (فَاحْذَرُوهُ) الفاء الفصيحة أي إذا علمتم ذلك فاحذروه (وَاعْلَمُوا(1/353)
أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)
الواو عاطفة واعلموا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وأن واسمها وخبراها سدت مسد مفعولي اعلموا (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) الجملة استئنافية (إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) إن شرطية وطلقتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وجواب الشرط محذوف أي فلا تعطوهن المهر والجملة استئنافية (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) ما مصدرية ظرفية زمانية أو شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتمسوهن فعل مضارع مجزوم بلم (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) الظاهر أنها عاطفة وتفرضوا عطف على تمسوهن، ولكن يشكل على ذلك أمران، أولهما أن المعنى يصير: لا جناح عليكم فيما يتعلق بمهور النساء إن طلقتموهن في مدة انتفاء أحد هذين الأمرين، مع أنه إذا انتفى الفرض دون المسيس لزم مهر المثل، وإذا انتفى المسيس دون الفرض لزم نصف المسمّى، فكيف يصح نفي الجناح عند انتفاء أحد الأمرين؟ وثانيهما أن المطلقات المفروض لهن قد ذكرن ثانيا بقوله تعالى: «وإن طلقتموهن» الآية، وترك ذكر الممسوسات لما تقدّم من المفهوم، ولو كان تفرضوا مجزوما لكانت المسوسات والمفروض لهن مستويات في الذكر، وقد تولى ابن الحاجب الجواب على الإشكال الأول بمنع كون المعنى مدة انتفاء أحدهما، بل مدة لم يكن واحد منهما وذلك بنفيهما جميعا، لأنه نكرة في سياق النفي الصريح بخلاف الأول فإنه لا ينفي إلا أحدهما. وأجاب بعضهم عن الثاني بأن ذكر المفروض لهن إنما كان لتعيين النصف لهن لا لبيان أن لهن شيئا في الجملة. وعلى كل حال فالأولى جعل أو بمعنى إلى وتفرضوا منصوب بأن التي بمعنى إلّا أو إلى فتأمل هذا الفصل، وحاصل ما تقدم أن الجزم عطفا على تمسّوهن يؤدي لاختلاف الآيتين نسقا، وعدم التخالف أولى، والجملة معطوفة على جواب أن المحذوف. والمعنى إن طلقتم النساء زمان عدم المس(1/354)
وفرض الفريضة فلا تعطوهن المهر (وَمَتِّعُوهُنَّ) عطف على فلا تعطوهن المهر أي أعطوهن ما يتمتعن به (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وقدره مبتدأ مؤخر والجملة حالية (وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) عطف على ما تقدم (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ) متاعا:
مفعول مطلق ومتاعا اسم مصدر بمعنى المصدر أي تمتيعا وبالمعروف جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) مفعول مطلق لفعل محذوف، وعلى المحسنين الجار والمجرور متعلقان بالمصدر (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ) عطف على ما تقدم وقد مر إعرابه (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) الجار والمجرور متعلقان بطلقتموهم وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مجرور بالإضافة أي من قبل المسيس (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) الواو حالية وقد حرف تحقيق وفرضتم فعل وفاعل ولهن الجار والمجرور متعلقان بفرضتم وفريضة إما مفعول به وهي بمعنى المفعول أي شيئا مفروضا وإما مفعول مطلق بمعنى فرضا (فَنِصْفُ) الفاء رابطة لجواب الشرط ونصف مبتدأ والخبر محذوف أي فعليكم نصف، أو خبر لمبتدأ محذوف أي فالواجب نصف (ما فَرَضْتُمْ) ما اسم موصول في محل جر بالاضافة وجملة فرضتم صلة الموصول والجملة بعد الفاء في محل جزم جواب الشرط (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) إلا أداة استثناء وأن وما في حيزها مصدر مؤول في محل نصب على الاستثناء المنقطع، لأن عفوهن عن النصف وسقوطه ليس من جنس استحقاقهن، وفي هذا الحكم مباحث فقهية طريفة تؤخذ من مظانها. ويعفون فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة ولا أثر للعامل في لفظه وهو في محل نصب فالنون ضمير وليست علامة إعراب كما في قولك: الرجال يعفون (أَوْ يَعْفُوَا) عطف على يعفون وعلامة نصبه الفتحة (الَّذِي) فاعل يعفو (بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ)(1/355)
بيده الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وعقدة النكاح مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صلة الموصول (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) الواو استئنافية وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مؤوّل في محل رفع مبتدأ وأقرب خبر وللتقوى متعلقان بأقرب (وَلا تَنْسَوُا) الواو عاطفة ولا ناهية وتنسوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل (الْفَضْلَ) مفعول به (بَيْنَكُمْ) الظرف متعلق بمحذوف حال (إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) إن واسمها، والجار والمجرور متعلقان ببصير وجملة تعملون صلة ما، وبصير خبر إن، والجملة تعليل لما تقدم.
البلاغة:
1- في هذه الآية فن طريف وهو فن التعريض، وبعضهم يدخله في باب الكناية، ونرى أنه فن قائم بنفسه، وهو هنا في قوله تعالى: «فيما عرضتم به من خطبة النساء» كأنه يقول لمن يريد خطبتها: إنك جملة، أو من يجد مثلك؟ أو نحو ذلك. ومن بديع التعريض في الشعر قول أبي الطيب المتنبي معرضا بكافور:
ومن ركب الثور بعد الجوا ... د أنكر أظلافه والغبب
يريد أن من ركب الثور وكان من عادته أن يركب الجواد ينكر أظلاف الثور وغببه أي اللحم المتدلي تحت حنك الثور، وأما من كان مثل كافور سبق له ركوب الثور فلا ينكر ذلك منه إن ركبه بعد الجواد. وله أيضا فيه يستزيده من الجوائز:
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله ... فإني أغني منذ حين وتشرب(1/356)
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
يقول مديحي إياك يطربك كما يطرب الغناء الشارب فقد حان أن تسقيني من فضل كأسك.
[سورة البقرة (2) : الآيات 238 الى 240]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
اللغة:
(الْوُسْطى) : الفضلى من قولهم للأفضل: الأوسط، وليست من الوسط الذي معناه التوسط بين شيئين، لأن فعلى معناها التفضيل، ولا يبنى للتفضيل إلا ما يقبل التفاوت أي الزيادة والنقص، والوسط بمعنى الخيار يقبلهما بخلاف التوسط بين الشيئين فإنه لا يقبلهما، ولذلك لا يجوز أن يبنى منه أفعل التفضيل.
(قانِتِينَ) : طائعين أو ساكتين.
(رجالا) : جمع راجل أي مشاة.(1/357)
الإعراب:
(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام صلاة الخوف. وحافظوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وعلى الصلاة جار ومجرور متعلقان بحافظوا (وَالصَّلاةِ) عطف على الصلوات (الْوُسْطى) صفة (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) الواو حرف عطف وقوموا عطف على حافظوا ولله جار ومجرور متعلقان بقانتين وقانتين حال من فاعل قوموا (فَإِنْ خِفْتُمْ) الفاء استئنافية وإن شرطية وخفتم فعل ماض وفاعله وهو في محل جزم فعل الشرط (فَرِجالًا) الفاء رابطة لجواب الشرط ورجالا حال والعامل محذوف تقديره فصلوا أو فحافظوا عليها رجالا والجملة في محل جزم جواب الشرط (أَوْ رُكْباناً) عطف على «رجالا» (فَإِذا أَمِنْتُمْ) الفاء استئنافية وإذا ظرف مستقبل متعلق بالجواب وجملة أمنتم في محل جر بالإضافة (فَاذْكُرُوا اللَّهَ) الفاء رابطة لجواب إذا واذكروا الله فعل وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (كَما عَلَّمَكُمْ) الكاف ومدخولها في محل نصب على المفعولية المطلقة أو على الحال وما مصدرية وجملة علمكم لا محل لها لأنها جواب موصول حرفي (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) ما اسم موصول مفعول ثان لعلمكم وجملة لم تكونوا صلة وجملة تعلمون خبر نكونوا، والمراد ما لم تكونوا تعلمونه من صلاة الخوف وهي مبسوطة في كتب الفقه (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) الواو استئنافية والذين مبتدأ وجملة يتوفون صلة والواو نائب فاعل ومنكم متعلقان بمحذوف حال (وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) عطف على يتوفون وأزواجا مفعول به (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) وصية مفعول مطلق لفعل محذوف أي يوصون وصية(1/358)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
وهذه الجملة الفعلية خبر الذين والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لوصية (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) يجوز أن تنصب متاعا على المفعولية المطلقة لفعل محذوف، أي يمتعوهن متاعا أو على أنها بدل من وصية أو على الحال. وقيل منصوب بوصية، وقيل بفعل محذوف، أي متعوهن متاعا. والى الحول جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمتاعا أي ممتدا الى الحول (غَيْرَ إِخْراجٍ) غير حال، أي حالة كونهن عير مخرجات من مسكنهن. وقال الأخفش هي صفة لقوله متاعا، كأنه قال: لا إخراجا. واختاره ابن جرير الطبري، ولا مانع منه. وقيل:
منصوب بنزع الخافض. وإنما أوردنا هذه الأوجه لأنها متساوية الرجحان (فَإِنْ خَرَجْنَ) الفاء استئنافية وإن شرطية وخرجن فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) الفاء رابطة لجواب الشرط والجملة في محل جزم جواب الشرط (فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال وجملة فعلن صلة الموصول وفي أنفسهن متعلقان بقوله فعلن، ومن معروف جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الجملة استئنافية والله مبتدأ وعزيز حكيم خبراه.
[سورة البقرة (2) : الآيات 241 الى 242]
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
الإعراب:
(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) الواو استئنافية والجار والمجرور(1/359)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومتاع مبتدأ مؤخر وبالمعروف جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمتاع (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) حقا مفعول مطلق لفعل محذوف وعلى المتقين جار ومجرور متعلقان ب «حقا» (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ) كذلك في محل نصب مفعول مطلق أو حال، والله فاعل يبين، ولكم متعلقان يبيّن، وآياته مفعول به (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لعل واسمها وجملة تعقلون خبرها وجملة الرجاء حالية.
[سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 244]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
الإعراب:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) الهمزة للاستفهام التقريري، ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر تقديره أنت والجار والمجرور متعلقان ب «تر» وجملة خرجوا صلة الموصول، والرؤية هنا قلبية ولكنها تضمنت معنى الانتهاء فعدّيت بإلى، والمعنى ألم ينته الى علمك، والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير حال أولئك القوم. ومن ديارهم متعلقان بخرجوا (وَهُمْ أُلُوفٌ) الواو حالية وهم مبتدأ ألوف خبر والجملة في محل(1/360)
نصب على الحال (حَذَرَ الْمَوْتِ) مفعول لأجله وهم قوم من بني إسرائيل هريوا من الطاعون الذي اجتاح أرضهم (فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا) الفاء عاطفة وقال فعل ماض ولهم متعلقان بقال والله فاعل وجملة موتوا في محل نصب مقول القول (ثُمَّ أَحْياهُمْ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وأحياهم معطوف على محذوف أي فماتوا ثم أحياهم وعطف بثم لإفادة معنى تراخى المدّة بين الإماتة والإحياء (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) الجملة مستأنفة مسوقة للمفارقة بين فضل الله تعالى على الناس وجحودهم لهذا الفضل بعدم الشكر وإن واسمها واللام المزحلقة وذو فضل خبر إن وعلى الناس متعلقان بمحذوف صفة لفضل (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) الواو حالية ولكن حرف استدراك ونصب واكثر الناس اسمها وجملة لا يشكرون خبرها (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الواو عاطفة على مقدر يفهم من سياق الكلام أي لا تفروا أيها المؤمنون كما فر بنو إسرائيل وقاتلوا أعداءكم وفي سبيل الله متعلقان بقاتلوا (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) عطف أيضا وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي اعلموا وسميع عليم خبر ان لأن.
البلاغة:
1- المراد بالاستفهام التقرير مشوبا بالعجب والتشويق الى معرفة فحوى القصة واكتناه مغزاها.
2- المجاز المرسل في قوله: «حذر الموت» والمراد مرض الطاعون الذي اجتاحهم، والعلاقة هي اعتبار ما يئول اليه هذا المرض.(1/361)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
3- الطباق بين الإماتة والإحياء.
4- الإيجاز بالحذف في قوله: «موتوا» وقوله «ثم أحياهم» فقد حذف فماتوا للاستغناء عن ذكره للتنبيه على أن كل شيء لا يتخلف عن إرادته تعالى.
[سورة البقرة (2) : آية 245]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
اللغة:
(القرض) : اسم مصدر، لأن المصدر إقراض، والقرض هنا بمعنى الشيء المقرض، ويظهر أثر ذلك في الإعراب، كما سيأتي.
(الأضعاف) : جمع ضعف، ويجوز أن يكون الضعف اسم مصدر، ويظهر أثر ذلك في الإعراب أيضا.
الإعراب:
(مَنْ ذَا الَّذِي) من استفهامية مبتدأ وذا اسم إشارة خبر والذي بدل من اسم الإشارة أو نعت له والجملة استئنافية (يُقْرِضُ اللَّهَ) الجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (قَرْضاً حَسَناً)
مفعول مطلق، ومجوز أن يكون بمعنى الشيء المقرض فيكون مفعولا به ثانيا، وحسنا صفة (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) الفاء للسببية ويضاعفه فعل(1/362)
مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية الواقعة جوابا للاستفهام، والجار والمجرور متعلقان بيضاعفه، وأضعافا حال مبينة من الهاء، وأجاز أبو البقاء إعرابها مفعولا به ثانيا، وإذا اعتبرناه اسم مصدر فيجوز أن يكون مفعولا مطلقا. ومن أمثلة أسماء المصدر: العطاء بمعنى الإعطاء، قال القطاميّ:
أكفرا بعد ردّ الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا
وكثيرة: صفة لأضعاف، ووجود هذه الصفة يرجح إعرابه حالا (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة يقبض خبر، ويَبْصُطُ عطف على يَقْبِضُ (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الواو عاطفة وإليه جار ومجرور متعلقان بترجعون، والجملة عطف على سابقتها.
البلاغة:
1- الاستعارة التصريحية في يقرض، فقد حذف المشبّه وهو العمل الصالح وأبقى المشبه به وهو ما يقترض من مال وغيره، ورشح للاستعارة بمضاعفتها، كما يحصل في القروض والفوائد المترتبة عليها.
2- الطباق بين يقبض ويبسط.
الفوائد:
رجح ابن جرير قراءة الرفع في «فيضاعفه» بإثبات الألف ورفع(1/363)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
يضاعفه. وعلل ترجيحه بأن الجزاء إذا دخل في جوابه الفاء لم يكن جوابه بالفاء إلا رفعا.
[سورة البقرة (2) : آية 246]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
(الْمَلَإِ) : من القوم: وجوههم وأشرافهم، وهو اسم للجماعة، لا واحد له من لفظه. سموا بذلك لأنهم يملئون القلوب والعيون حسنا وبهاء، والجمع أملاء، مثل سبب وأسباب، قال:
وقال لها الأملاء من كل معشر ... وخير أقاويل الرّجال سديدها
ويقال: هو مليء ومليّ: أي غنيّ مقتدر.
الإعراب:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) الهمزة للاستفهام التقريري، والكلام مستأنف مسوق لتقرير قصة حافلة بالعبر كما سيأتي، ولم(1/364)
حرف نفي وقلب وجزم، و «تر» فعل مضارع مجزوم بلم والرؤية هنا قلبية مضمنة معنى العلم والانتهاء لتصح التعدية بإلى، وقد تقدم نظيرها. والفاعل مستتر تقديره أنت والى الملأ متعلقان ب «تر» ، ومن بني إسرائيل متعلقان بمحذوف حال والجملة الفعلية استئنافية (مِنْ بَعْدِ مُوسى) متعلقان بمحذوف حال أي من بعد موته أيضا (إِذْ قالُوا) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بالقصة المقدرة، أي الى قصة ملأ بني إسرائيل. ولما كانت الذوات لا يتعجب منها صار المعنى: ألم تر الى ما جرى للملأ من بني إسرائيل من بعد موت موسى، وجملة قالوا في محل جر بالإضافة (لِنَبِيٍّ) الجار والمجرور متعلقان بقالوا (لَهُمُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة.
وهو يوشع صاحب قصة وقوف الشمس التي كانت مصدرا رائعا لافتنان الشعراء وسنوردها قريبا (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) الجملة مؤلفة من فعل الأمر والفاعل في محل نصب مقول القول، ولنا متعلقان بابعث، وملكا مفعول به أي قائدا (نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب، وفي سبيل الله متعلقان بنقاتل وجملة نقاتل عطف على ابعث (قالَ) فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو، والجملة مستأنفة (هَلْ عَسَيْتُمْ) هل حرف استفهام للتقرير وعسيتم فعل ماض من أفعال الرجاء والتاء اسمها (إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) إن شرطية وكتب فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط وعليكم متعلقان بكتب، والقتال نائب فاعل. وجواب الشرط محذوف تقديره:
فلا تبادرون الى القتال، وفعل الشرط وجوابه جملة اعتراضية بين اسم عسى وخبرها وهو قوله (أَلَّا تُقاتِلُوا) وأن حرف مصدري ونصب ولا نافية وتقاتلوا فعل مضارع منصوب بأن وجملة هل عسيتم مقول(1/365)
القول (قالُوا) الجملة مستأنفة وقالوا فعل وفاعل (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الواو عاطفة لمجرد ربط الكلام بما قبله، وما اسم استفهام مبتدأ ولنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر وأن لا نقاتل في سبيل الله: المصدر المنسبك من أن وما في حيزها في موضع نصب بنزع الخافض والتقدير: وما لنا في ترك القتال؟ (وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا)
الواو حالية وقد حرف تحقيق وأخرجنا فعل ماض مبني للمجهول والضمير نائب فاعل ومن ديارنا متعلقان بأخرجنا (وَأَبْنائِنا) عطف على «ديارنا» ، ولا بد من تضمين فعل الإخراج معنى البعد ليصح العطف. والجملة في موضع نصب على الحال (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) الفاء استئنافية و «لما» حينية أو رابطة، وكتب فعل ماض مبني للمجهول وعليهم جار ومجرور متعلقان بكتب، والقتال نائب فاعل (تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) جملة تولوا لا محل لها لأنها جواب «لما» وهي شرطية غير جازمة، وتولوا فعل وفاعل وإلا أداة استثناء وقليلا مستثنى متصل لأنهم من جنس القوم ومنهم متعلقان بمحذوف صفة ل «قليلا» . (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) الواو استئنافية والله مبتدأ وعليم خبر وبالظالمين الجار والمجرور متعلقان بعليم.(1/366)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
[سورة البقرة (2) : الآيات 247 الى 248]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
اللغة:
(طالُوتَ) ومثله جالوت، اسمان أعجميان ولذلك امتنعا من الصرف للعلمية والعجمة فلا عبرة بمن يقول: إنهما اسمان عربيان.
(التَّابُوتُ) : من التّوب وهو الرجوع والإنابة لأنه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه، وتاؤه مزيدة لغير التأنيث كملكوت وجبروت، وقد نسجت حوله أساطير يلعب فيها الخيال دوره.
الإعراب:
(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) الواو عاطفة وقال فعل ماض ولهم متعلقان ب «قال» ونبيهم فاعل (إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) إن واسمها وجملة قد بعث خبرها وطالوت مفعول به وملكا حال من طالوت وإن وما بعدها جملة اسمية في محل نصب مقول القول، (قالُوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) الجملة مستأنفة وأنى اسم استفهام بمعنى كيف في محل نصب على الحال، ويكون: فعل(1/367)
مضارع ناقص، وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر «يكون» المقدم. والملك اسم يكون المؤخر وعلينا جار ومجرور متعلقان بالملك، لأن مادة «ملك» تتعدى ب «على» . تقول ملك على القوم أمرهم وجملة الاستفهام وما في حيزه في محل نصب مقول قالوا. أي كيف يكون وهو ليس من سبط الملكة! فقد كان أبوه عاملا بسيطا.
وهكذا تتأصل في اليهود العنصرية والطبقية منذ أبعد الآماد (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) الواو حالية ونحن مبتدأ وأحق خبره وبالملك جار ومجرور متعلقان بأحق، ومنه متعلقان بأحق أيضا، والجملة التالية للواو في محل نصب على الحال (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) الواو عاطفة فقد أضافوا الى العنصرية والطبقية حبّ المال والتعويل عليه في الأرجحية، ولم حرف نفي وقلب وجزم ويؤت فعل مضارع مبني للمجهول مجزوم بلم، ونائب الفاعل مستتر تقديره هو، وسعة مفعول به ثان. وأصل سعة وسعة، فحذفت الواو حملا على المضارع. ومن المال جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لسعة (قالَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ) قال: فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على النبي، وإن واسمها، واصطفاه فعل وفاعل مستتر ومفعول به والجملة خبر إن وجملة إن وما في حيزها في محل نصب مقول القول وعليكم جار ومجرور متعلقان باصطفاه (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) الواو عاطفة وزاده فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول وبسطة مفعول به ثان ويجوز إعراب بسطة تمييزا إن قلنا إنه يتعدى لواحد. وفي العلم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبسطة،(1/368)
والجسم عطف على العلم (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) الواو عاطفة:
الله مبتدأ، وجملة يؤتي خبر، ملكه: مفعول به أول، من اسم موصول في محل نصب مفعول به ثان، وجملة يشاء صفة (وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وواسع عليم خبراه (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) الواو عاطفة أو استئنافية مسوقة للتدليل على صحة كلامه، وقال فعل ماض ولهم متعلقان ب «قال» ونبيهم فاعل (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) إن واسمها وملكه مضاف إليه، وأن يأتيكم مصدر مؤول في محل رفع خبر إن، وإن وما في حيزها في محل نصب مقول القول، والتابوت فاعل يأتيكم والكاف مفعول به مقدم (فِيهِ سَكِينَةٌ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وسكينة مبتدأ مؤخر والجملة في محل نصب حال من التابوت (مِنْ رَبِّكُمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لسكينة (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) بقية معطوف على سكينة ومما جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبقية وترك آل موسى: الجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول وآل موسى فاعل ترك وآل هارون عطف على آل موسى (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) فعل مضارع والهاء مفعول به والملائكة فاعله والجملة حال ثانية من التابوت (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ) إن حرف مشبه بالفعل والجملة بمثابة التعليل لا محل لها، وفي ذلك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم واللام المزحلقة وآية اسم إن المؤخر ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لآية والجملة تعليلية لا محل لها. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسم كان، ومؤمنين خبرها.
وجواب الشرط محذوف تقديره فتدبروا الأمر واعتبروا وامتثلوا أمر ربكم وآياته. والجملة الشرطية استئنافية.(1/369)
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
[سورة البقرة (2) : الآيات 249 الى 252]
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
اللغة:
(فَصَلَ) بمعنى انفصل، فهو لازم ويكون متعديا، فيكون(1/370)
مفعوله محذوفا. وفصل العسكر عن البلد فصولا.
(غُرْفَةً) بضم الغين بمعنى مفعول، ويجوز فتح الغين على أنه مصدر مرة، وقد قرىء بها أيضا.
الإعراب:
(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) الفاء عاطفة على جمل محذوفة تقدر بحسب ما يقتضيه سياق الكلام، والتقدير فأقروا بملكه وتنادوا إلى الجهاد، فلما.....، ولما ظرفية حينية فهي اسم أو رابطة، فهي حرف متضمنة معنى الشرط على كل حال، وجملة فصل طالوت بالجنود في محل جر بالإضافة إن كانت ظرفا، وبالجنود متعلقان بفصل أو بمحذوف حال أي والجنود مصاحبوه (قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وإن واسمها ومبتليكم خبرها والجار والمجرور متعلقان بمبتليكم والجملة الاسمية مقول القول (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) الفاء الفصيحة ومن اسم شرط جازم مبتدأ وشرب فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره هو، ومنه جار ومجرور متعلقان بشرب والفاء رابطة لجواب الشرط وليس فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره هو ومني جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها والجملة بعد الفاء في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) الواو عاطفة ومن شرطية مبتدأ ولم حرف نفي وقلب وجزم ويطعمه فعل مضارع مجزوم بلم والفاء رابطة وان واسمها ومني جار(1/371)
ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها والجملة بعد الفاء في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) إلا أداة استثناء ومن اسم موصول في محل نصب على الاستثناء من قوله: فمن شرب منه، وفصل بينهما بالجملة الثانية للعناية بمحتواها، وجملة اغترف لا محل لها لأنها صلة وغرفة مفعول به أو مفعول مطلق إذا اعتبرنا غرفة مصدر مرة، وبيده متعلقان بمحذوف صفة لغرفة (فَشَرِبُوا مِنْهُ) الفاء الفصيحة وشربوا فعل وفاعل ومنه متعلقان بشربوا (إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) إلا أداة استثناء وقليلا مستثنى من قوله: فشربوا منه، ومنهم متعلقان بمحذوف صفة ل «قليلا» (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) الفاء عاطفة أو استئنافية ولما ظرفية حينية أو رابطة حرفية متضمنة معنى الشرط على كل حال، وجملة جاوزه في محل جر بالإضافة إذا اعتبرنا «لما» ظرفية أو لا محل لها من الإعراب، وهو ضمير منفصل تأكيد للضمير المستكنّ في «جاوزه» والذين عطف على «هو» وجملة آمنوا صلة الموصول ومعه ظرف مكان متعلق بجاوزه، والمعنى: فلما جاوزه وجاوز معه الذين آمنوا وهم الذين اقتصروا على الغرفة، أو الذين لم يذوقوا الماء أصلا للإشارة الى الحكمة من الابتلاء، وهي أن يرجع المتزلزل منهم قبل لقاء العدو، لأن المتزلزلين إذا ظلوا فيهم ثم هربوا لكان ذلك سببا لتخاذل الجنود، وما أعجب أساليب القرآن!! (قالُوا) فعل وفاعل (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) الجملة في محل نصب مقول القول، ولا نافية للجنس، وطاقة اسمها، ولنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها، واليوم ظرف متعلق بما تعلق به الخبر، وهو «لنا» وكذلك(1/372)
قوله بجالوت. ولا يجوز تعليق واحد من هذه الظروف ب «طاقة» لئلا يلزم تنوينه، إذ يصبح شبيها بالمضاف، ولم يقرأ به أحد. على أنه يجوز تفاديا لتعليق الثلاثة بمتعلق واحد أن يعلق واحد منها بمحذوف حال، فيكون بمثابة التبيين لانتفاء الطاقة (قالَ الَّذِينَ) فعل وفاعل والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم (يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ) جملة يظنون لا محل لها لأنها صلة الذين والواو فاعل، وأن واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي يظنون، والله مضاف لقوله «ملاقوا» (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ) كم خبرية في محل رفع مبتدأ ومن فئة تميز كم الخبرية، وقد تقدم القول فيها وقليلة صفة لفئة وجملة (غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) خبر ل «كم» وجملة كم وما في حيزها في محل نصب مقول القول (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) الواو استئنافية والله مبتدأ ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر والصابرين مضاف إليه (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) الواو استئنافية ولما حينية أو رابطة متضمنة معنى الشرط وقد تقدم إعرابها، والجار والمجرور متعلقان ببرزوا، وجنوده عطف على جالوت (قالُوا) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) ربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وأفرغ فعل أمر معناه هنا الدعاء، وعلينا جار ومجرور متعلقان بأفرغ
وصبرا مفعول به والجملة مقول القول (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) عطف على جملة أفرغ، (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) عطف أيضا (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ) لك أن تجعل الفاء عاطفة على جمل محذوفة يقتضيها سياق الكلام،(1/373)
أي فنشبت المعركة والتحم الجيشان فهزموهم. ولك أن تجعلها فصيحة أي إذا شئت أن تعرف ماذا أسفرت عنه المعركة فقد هزموهم وهزموهم فعل وفاعل ومفعول به (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) الواو عاطفة وفعل وفاعل ومفعول به (وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) الواو عاطفة وآتاه فعل ماض والهاء مفعول به أول والله فاعل والملك مفعول به ثان والحكمة عطف على الملك (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) عطف على «آتاه» ومما متعلقان بعلمه وجملة يشاء صلة والمفعول به محذوف، لأن الصناعات التي تعلمها داود كثيرة منها صناعة الحديد، وقد لان في يده وفهم منطق الطير والبهائم (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ) الواو استئنافية ولولا حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط ودفع مبتدأ محذوف الخبر تقديره موجود ولفظ الجلالة مضاف إليه والناس مفعول به للمصدر (بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) بعضهم بدل من الناس والجار والمجرور متعلقان بدفع (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) اللام واقعة في جواب لولا وجملة فسدت الأرض لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، والمعنى امتنع فساد الأرض لوجود دفع الله الناس بعضهم ببعض. وهذا مشاهد معاين (وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) الواو استئنافية ولكن واسمها وذو فضل خبرها والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لفضل (تِلْكَ آياتُ اللَّهِ) مبتدأ وخبر والجملة مفسرة (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) والجملة في محل نصب حال، ولك أن تجعل آيات الله بدلا من اسم الإشارة، وجملة نتلوها هي الخبر والأول أمكن. وعليك جار ومجرور متعلقان بنتلوها وبالحق متعلقان بمحذوف حال أي مؤيدة بالحق مدعومة باليقين الذي(1/374)
لا يتسرب إليه الشك (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) الواو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر إنك.
لمحة تاريخية أدبية:
قلنا في مستهل هذه الآيات: إننا سنشير الى حادثة أدبية تاريخية تتعلق بيوشع خليفة موسى عليهما السلام، وبرا بالوعد نقول: لما قاتل يوشع الجبارين كان اليوم يوم الجمعة، فلما جنحت الشمس إلى المغيب خاف أن تغيب عنهم قبل أن يفرغ منهم ويدخل السبت فلا يحلّ له قتالهم، فدعا الله تعالى فردّ له الشمس حتى فرغ من قتالهم، وقد انتهز أبو تمّام الطائي هذه الرواية الشعرية المجنّحة فصاغ منها معنى مبتكرا في الشعر يسمى التلميح، وهو أن يشير الشاعر في بيته أو الناثر في كتابته الى قصة معلومة على جهة التمثيل، وأحسنه فقال:
لحقنا بأخراهم وقد حوّم الهوى ... قلوبا عهدنا طيرها وهي وقّع
فردّت علينا الشّمس والليل راغم ... بشمس لها من جانب الخدر مطلع
نضا ضوءها صبغ الدّجنّة وانطوى ... لبهجتها ثوب السماء المجزّع(1/375)
فو الله ما أدري أأحلام نائم ... ألمّت بنا أم كان في الرّكب يوشع
وقد رمق شوقي في العصر الحديث هذه السماء العالية، وقال في مطلع قصيدة رثى بها الزعيم المصري سعد زغلول:
شيّعوا الشمس ومالوا بضحاها ... وانحنى الركب عليها فبكاها
ليتني في الرّكب لمّا أفلت ... يوشع همّت فنادى فثناها
ولكن التكلف ظاهر في مقام الرثاء، وذلك لا يتلاءم مع حرارة العاطفة المحتدمة.
لمحة تاريخية ثانية:
كانت هذه القصة مصدرا خصبا للإنتاج والتصوير، فقد طلب جالوت زعيم الجبارين قوم يوشع للمبارزة فهابوه وامتنعوا، لأنه كان جبارا عظيما كبير الجسم جدا، ولكن داود وكان صغيرا لم يبلغ الحلم يرعى الغنم برز له بمقلاعه الشهير فرماه بحجر، في قصة شائقة، فقتله ثم استقل بالملك. وهكذا تبرز العنصرية في بني إسرائيل منذ فجر التاريخ حتى اليوم.(1/376)
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
[سورة البقرة (2) : آية 253]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253)
الإعراب:
(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) جملة اسمية مستأنفة مسوقة لتقرير حال جماعة الرسل المذكورة قصصها في السورة واسم الاشارة مبتدأ والرسل خبر، فضلنا فعل ماض مبني على السكون، و «نا» فاعل وجملة فضلنا حالية، ويجوز إعراب الرسل بدلا من اسم الاشارة وجملة فضلنا خبر وبعضهم مفعول به وعلى بعض جار ومجرور متعلقان بفضلنا (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومن اسم موصول مبتدأ مؤخر وكلم الله فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول والعائد محذوف هو المفعول به والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. ويجوز إعرابها بدلا من جملة فضلنا على الحالين المتقدمين أو خبرا ثانيا لاسم الإشارة (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) الواو حرف عطف ورفع فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى وبعضهم مفعول به ودرجات منصوب بنزع الخافض أي في درجات، وأعربها أبو البقاء حالا مؤولة من «بعضهم» أي: ذا درجات وكلاهما صحيح (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ(1/377)
مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ)
الواو عاطفة وآتينا فعل وفاعل وعيسى مفعول به وابن بدل من «عيسى» أو صفة له ومريم مضاف اليه والبينات مفعول به ثان وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) الواو حرف عطف وأيدناه فعل وفاعل ومفعول به والجار والمجرور متعلقان بأيدناه والقدس مضاف اليه (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ) الواو استئنافية ولو شرطية، شاء الله فعل وفاعل، ومفعول المشيئة محذوف تقديره: عدم اقتتالهم (مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ما نافية واقتتل الذين فعل وفاعل، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) الجار والمجرور متعلقان باقتتل أو بدل من قوله:
«من بعدهم» بإعادة الجارّ وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالإضافة، أي: من بعد مجيء البينات (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة لاستدراك ما قبلها، ولكن حرف استدراك مهمل، واختلفوا فعل وفاعل (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) الفاء تفريعية والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومن اسم موصول مبتدأ مؤخر وآمن فعل ماض وفاعله هو والجملة صلة (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) عطف على الجملة السابقة (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) تقدم إعرابها وتكررت لتأكيد الكلام (وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) الواو استئنافية ولكن حرف مشبه بالفعل، واسمها الله، وجملة يفعل خبرها وما اسم موصول مفعول به، وجملة بريد صلة الموصول.
البلاغة:
في قوله: «ورفع بعضهم درجات» فن الإبهام وفيه من التفخيم والتنويه بالمنزلة ما لو نطق به لم يعدل إبهامه لما ينطوي عليه من شهادة(1/378)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
بأنه العلم الذي لا يشتبه به، والمتميز على غيره، فهو يريد محمدا صلى الله عليه وسلم، وحسبه القرآن الذي أنزل عليه، فهو المعجزة الباقية على وجه الدهر، فعدم الذكر أبلغ من الذكر، والإبهام أبلغ من الإيضاح. سئل الحطيئة: من أشعر الناس؟ فذكر زهيرا والنابغة، ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث، أراد نفسه. ولو صرح بذلك لم يكن بهذه المثابة من الفخمية.
[سورة البقرة (2) : آية 254]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
اللغة:
(الخلة) بضم الخاء: المودة والصداقة، سمّيت بذلك لأنها تتخلل الأعضاء، أي تدخل خلالها. والخليل: الصديق لمداخلته إياك، وتخلّل مودته جوانحك. ويحتمل أن يكون الخليل بمعنى فاعل أو مفعول.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يا: حرف نداء، أي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب، والهاء للتنبيه، الذين بدل من أيها، آمنوا: فعل وفاعل وجملة آمنوا صلة (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) فعل أمر والواو فاعل ومما جار ومجرور متعلقان بأنفقوا، ورزقناكم فعل(1/379)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
وفاعل ومفعول، والجملة لا محل لها لأنها صلة ما، والجملة كلها مستأنفة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) الجار والمجرور متعلقان بأنفقوا أيضا، ولا مانع من تعليق حرفين بلفظ واحد لاختلافهما معنى، ف «من» الأولى للتبعيض والثانية للابتداء، وأن وما بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالإضافة، أي: من قبل إتيان، ويوم فاعل يأتي (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ) لا النافية للجنس أهملت لتكررها، وستأتي أحكامها في مكان آخر. وبيع مبتدأ ساغ الابتداء به لتقدم النفي عليه. وفيه جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبره ولا خلة عطف على «لا بيع» (وَلا شَفاعَةٌ) عطف أيضا (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الواو استئنافية والكافرون مبتدأ وهم مبتدأ ثان والظالمون خبره والجملة الاسمية خبر «الكافرون» أو «هم» ضمير فصل أو عماد، و «الظالمون» خبر «الكافرون» .
[سورة البقرة (2) : آية 255]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
اللغة:
(الْقَيُّومُ) فيعول: من قام بالأمر إذا دبّره أحسن تدبير،(1/380)
وأصله «قيووم» اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء فيها فصار «قيوما» . قال أميّة ابن أبي الصلت:
لم تخلق السماء والنجوم ... والشمس معها قمر يعوم
قدّره المهيمن القيوم ... والحشر والجنة والجحيم
إلّا لأمر شأنه عظيم (السنة) بكسر السين: ما يتقدم النوم من الفتور والاسترخاء مع بقاء الشعور. وهو المسمى بالنعاس، قال عدي بن الرقاع وأبدع:
وسنان أقصده النعاس فرنّقت ... في عينه سنة وليس بنائم
فلذلك نفى النوم لأنه سلب للحواس وأثبت السّنة في البيت.
(الكرسي) معروف. والياء ليست للنسبة ولو كانت للنسبة لخرج إلى حيز الصفة وأصله من تركب الشيء بعضه على بعض ومنه الكرّاسة. سميت بذلك لتركب بعض أوراقها على بعض.
وفي العرف الدارج ما يجلس عليه. وتكرس فلان الحطب وغيره إذا جمعه. وكرّس البناء إذا أسسه.
(يَؤُدُهُ) يثقله ويشق عليه.
الإعراب:
(اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) كلام مستأنف فخم مسوق لجمع أحكام الألوهية وصفات الإله الثبوتية والسلبية. والله مبتدأ(1/381)
ولا نافية للجنس وإله اسمها المبني على الفتح وإلا أداة حصر و «هو» بدل من محل لا واسمها. وقد تقدم إعراب الشهادة مفصلا. والجملة الاسمية «لا إله إلا هو» خبر الله والحي خبر ثان والقيوم خبر ثالث.
ولك أن تعربهما صفتين لله (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) الجملة خبر رابع للمبتدأ ولا نافية وتأخذه فعل مضارع ومفعول به وسنة فاعل تأخذه ولا نوم عطف على سنة (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الجملة خبر خامس وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وما اسم موصول في محل رفع مبتدأ مؤخر وفي السموات الجار والمجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول، وما في الأرض: معطوف على ما في السموات (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ) الجملة مستأنفة مسوقة للرد على المشركين الذين زعموا أن الأصنام تشفع لهم.
ومن اسم استفهام معناه النفي في محل رفع مبتدأ وذا اسم إشارة في محل رفع خبر «من» . والذي اسم موصول بدل أو «من ذا» كلها اسم استفهام مبتدأ «والذي» هو الخبر. واعلم أن «ذا» الواقعة بعد «ما» الاستفهامية يجوز جعلها اسم موصول اتفاقا، وأما الواقعة بعد «ما» الاستفهامية يجوز جعلها اسم موصول اتفاقا، وأما الواقعة بعد «ما» الاستفهامية يجوز يجعلها اسم موصول اتفاقا، وأما الواقعة بعد «من» فالأكثر أنها اسم إشارة. ويشفع فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو، والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) الظرف متعلق بيشفع أو بمحذوف حال من الضمير في يشفع، وإلا أداة حصر وبإذنه الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) الجملة خبر سادس ويعلم فعل مضارع وفاعله مستتر يعود على الله تعالى وما اسم موصول مفعول به وبين ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول، وأيديهم مضاف إليه والواو حرف عطف وما عطف على «ما» الأولى والظرف متعلق بالصلة المحذوفة (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) الجملة معطوفة على ما تقدم(1/382)
ولا نافية ويحيطون فعل مضارع والواو فاعل وبشيء جار ومجرور متعلقان بيحيطون، من علمه: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لشيء (إِلَّا بِما شاءَ) إلا أداة حصر، بما: الجار والمجرور متعلقان بمحذوف بدل من شيء بإعادة الجار، وجملة شاء لا محل لها لأنها صلة ما ومفعول المشيئة محذوف تقديره: أن يعلمهم به (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الجملة خبر سابع ولك أن تنصبها على الحال ووسع كرسيه فعل ماض وفاعل والسموات مفعول به، والأرض عطف على السموات (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) الواو عاطفة ولا نافية ويئوده فعل مضارع ومفعول به حفظهما: فاعل والهاء مضاف إليه، والميم والألف حرفان دالّان على التثنية (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) الواو عاطفة وهو مبتدأ والعليّ خبره والعظيم خبر ثان.
البلاغة:
انطوت هذه الآية على أهم المسائل المتعلقة بالذات الإلهية.
روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة. وفيها آية هي سيدة آي القرآن وهي آية الكرسي.
ونلخص فيما يلي فنون البلاغة المنطوية فيها:
1- الاستعارة التصريحية في قوله: «وسع كرسيه السموات والأرض» فالكلمة مجاز عن علمه تعالى أو ملكه وتصوير صحيح لعظمته، حذف المشبه وهو العلم والقدرة والعظمة وما يترتب على الجلوس فوق كرسي الملك من معاني الأبهة والإحاطة الجامعة.(1/383)
ملاحظة ابن قتيبة:
على أن ابن قتيبة لاحظ في كتابه «مشكل القرآن» أن هذا يخالف نصوص اللغة. ورد على المعتزلة في آرائهم، قال ما نصه:
«وفسروا القرآن بأعجب تفسير يريدون أن يردّوه الى مذاهبهم، ويحملوا التأويل على نحلهم، فقال فريق منهم في «وسع كرسيه السموات والأرض» أي علمه. وجاءوا على ذلك بشاهد لا يعرف وهو قول الشاعر: «ولا يكرسىء علم الله مخلوق» كأنه عندهم:
ولا يعلم علم الله مخلوق. والكرسي غير مهموز، ويكرسىء مهموز، يستوحشون أن يجعلوا لله كرسيا» ولكننا لا نوافق ابن قتيبة على رأيه فإن كثيرين من أهل السنة ذهبوا الى ذلك.
رأي التّفتازانيّ:
قال التفتازاني: إنه من باب إطلاق المركّب الحسيّ المتوهم على المعنى العقلي المحقق.
رأي القرطبيّ:
وفي تفسير القرطبي: «وقال ابن عباس: كرسيّه: علمه، ورجحه الطبري. وقيل كرسيه قدرته التي يمسك بها السموات والأرض، كما تقول: اجعل لهذا الحائط كرسيا، أي ما يعمده» .
وهذا قريب من قول ابن عباس. وهذا بحث طويل يتشعب فيه الجدال، بين أهل السنة والاعتزال، فليرجع فيه الى المطولات.(1/384)
2- الإيجاز: فقد تضمنت آية الكرسي من الإيجاز ما لا مطمح فيه لتقليد أو محاكاة ويمكن القول: إن البيان اتحد بالمبين في تصوير الملك الحقيقي الذي لا ينازع فيه بأرشق عبارة وأدق وصف، وفيها ما يسمى بالفصل في علم المعاني، وهو حذف العاطف للدلالة على أن كل صفة من صفات هذا الملك العظيم مستقلة بنفسها، وذلك على النحو التالي:
آ- الجملة الأولى: «الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم» وقد بيّن فيها قيامه سبحانه بتدبير الخلق وتنسيق شئونهم، وإحكام معايشتهم وهمينته عليه دون أن يكون ساهيا عنه طرفة عين.
ب- الجملة الثانية: «له ما في السموات وما في الأرض» وقد بيّن فيها أنه مالك لما يدبره غير منازع في ملكه.
ج- الجملة الثالثة: «من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه» وقد بين فيها كبرياء شأنه وتضاؤل الجميع أمام قدرته التي لا تحدّ.
د- الجملة الرابعة: «ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء» وقد صور فيها إحاطته بأمور الخلق وأحوالهم بحيث لا يغرب عنه شيء.
هـ- الجملة الخامسة: «وسع كرسيه السموات والأرض» الى آخر الآية، وقد نوّه فيها بتعلقه بالمعلومات كلها وكل شيء عنده بمقدار.
3- إيجاز الإيجاز: فقد اشتملت آية الكرسي على ما لم تشتمل(1/385)
عليه آية من آيات الله سبحانه، وذلك أنها مشتملة على سبعة عشر موضعا فيها اسم الله تعالى ظاهرا في بعضها ومستكنّا في بعضها الآخر، وذلك على الترتيب التالي:
1- الله، 2- هو، 3- الحي، 4- القيوم، 5- ضمير لا تأخذه، 6- ضمير له، 7- ضمير عنده، 8- ضمير بإذنه، 9- ضمير يعلم، 10- ضمير علمه، 11- ضمير شاء، 12- ضمير كرسيه، 13- ضمير يئوده، 14- وهو، 15- العلي، 16- العظيم، 17- الضمير المستكنّ الذي اشتمل عليه المصدر وهو «حفظهما» فإنه مصدر مضاف الى المفعول وهو الضمير البارز ولا بد له من فاعل وهو الله، ويظهر ذلك عند فكّ المصدر فيقول:
ولا يئوده أن يحفظهما هو. وقد حاول أحد الأعلام أن يوصلها الى واحد وعشرين موضعا، ويعتبر الأسماء المشتقة الواردة فيها تحتاج الى ضمير كالحي والقيوم والعلي والعظيم، فيكون كل واحد باثنين وبذلك تضاف أربعة مواضع الى المواضع السبعة عشر، فيكون المجموع واحدا وعشرين موضعا. وقد نازعه علم آخر فقال: هذا لطيف جدا ولكن المشتق لا يقع على موصوفه إلا باعتباره محتملا لضمير، فلا يمكن أن يتميز بحكم الانفراد عن الضمير، ولهذا فالاسم المشتق لا يحتمّل الضمير بعد صيرورته بالتسمية علما، ألا تراك إذا قلت:
زيد كريم فإن «كريم» لم يقع على زيد إلا لأنه يتحمل ضميره، حتى إذا جرّدت النظر اليه لم تجده مختصا بزيد بل لك أن توقعه على كل موصوف بالكرم من الناس. وهذا من أدق مباحث علم المعاني، فتدبره والله يعصمك.(1/386)
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
[سورة البقرة (2) : الآيات 256 الى 257]
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)
اللغة:
(الطَّاغُوتُ) : كل معبود من دون الله، والجمع طواغ وطواغيت والخلاف حول هذا اللفظ كثير، وهو يكون واحدا وجمعا، ومذكرا ومؤنثا، قال تعالى في الزمر: «والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها» .
وسيأتي مزيد من البحث عنه.
(العروة الوثقى) العروة في الأصل: موضع شد اليد، وأصل المادة تدل على التعلق. والعروة من الدلو والكوز: المقبض، ومن الثوب: أخت زرّه، واعتراه الهمّ: تعلق به، قال:
وإني لتعروني لذكراك هزّة ... كما انتفض العصفور بلّله القطر
(الْوُثْقى) : فعلى للتفضيل، مؤنث الأوثق، كفضلى تأنيث الأفضل. وجمعها على وثق، وهي ما يوثق به ويستعصم.
(انْفِصامَ) انقطاع، وأصل الفصم الكسر.(1/387)
الإعراب:
(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان أن العاقل لا يحتاج للإكراه على الدين، بل يختار تلقائية الدين الحق. ولا نافية للجنس وإكراه اسمها وفي الدين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) الجملة تعليلية لا محل لها وقد حرف تحقيق وتبين فعل ماض والرشد فاعله ومن الغي جار ومجرور متعلقان بتبين (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) الفاء الفصيحة ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويكفر فعل الشرط المجزوم وفاعله ضمير مستتر يعود على «من» وبالطاغوت جار ومجرور متعلقان بيكفر (وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ) الواو عاطفة ويؤمن عطف على يكفر والجار والمجرور متعلقان بيؤمن (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه مقترن بقد، واستمسك فعل ماض وفاعله مستتر يعود على من، وبالعروة متعلقان باستمسك والوثقى صفة للعروة. والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من، وجملة من يكفر لا محل لها لأنها جواب شرط غير حازم (لَا انْفِصامَ لَها) الجملة في محل نصب حال من العروة ولا نافية للجنس وانفصام اسمها المبني على الفتح ولها جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لا (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الجملة إما أن تكون مستأنفة مسوقة لحمل الناس على الإيمان والردع عن الكفر، وإما أن تكون اعتراضا تذييليا للغاية نفسها والله مبتدأ وسميع عليم خبراه (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) الجملة مستأنفة لبيان ما في الإخراج من فضل، والله مبتدأ وولي خبر والذين مضاف اليه وجملة آمنوا صلة الموصول (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) الجملة إما حال من الضمير المستكن في «ولي» أو خبر ثان للمبتدأ «الله» ومن الظلمات(1/388)
متعلقان بيخرجهم والى النور متعلقان بيخرجهم لاختلاف المعنيين، أي بدءا من الظلمات وانتهاء الى النور أو حال من الموصول (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة الموصول (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) مبتدأ وخبر والجملة الاسمية خبر الذين والرابط الضمير (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) تقدم إعراب شبيهها (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) مبتدأ وخبر والنار مضاف اليه والجملة حالية (هُمْ فِيها خالِدُونَ) مبتدأ وخبر وفيها متعلقان بخالدون والجملة حال ثانية.
البلاغة:
1- العروة الوثقى: استعارة تصريحية تمثيلية، فقد شبّه من يسلك سبيل الله بمن أخذ بحبل وثيق مأمون لا ينقطع، فهو آمن من الانزلاق، والتردّي في مهاوي الخطل والضلال.
2- الاستعارة التصريحية في استعارة الظلمات والنور للضلال والهدى.
3- في قوله تعالى: «يخرجونهم من النور الى الظلمات» فن نفي الشيء بايجابه وهو فن عجيب فحواه أن المتكلم يثبت شيئا في كلامه وينفي ما هو من سببه مجازا، والمنفي في باطن الكلام حقيقة هو الذي أثبته. وحاصل ما ذكرناه أن الذين كفروا لم يسبق لهم نور حتى يخرجوا منه، فقد يوهم ظاهر الكلام أنه كان لهم نور في الأصل، ثم أخرجوا منه، والمراد نفي النور عنهم أصلا. ومثله قول مسلم بن الوليد المعروف بصريع الغواني:(1/389)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه ... ولا يمسح عينيه من الكحل
ومثله قول أبي الطيب المتنبي:
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمّام ماثلة ... أوراكهنّ صقيلات العراقيب
فظاهر الكلام عدم بروزهن من الحمام على تلك الحالة، والمراد في باطنه عدم الحمام مطلقا، وسيأتي المزيد من بحثه في هذا الكتاب.
وقد يجوز أن يكون من باب المشاكلة، وقد تقدمت. وحاصلها أن ذكر الإخراج الثاني مشاكله للأول على حد قوله: «قلت اطبخوا لي جبة وقميصا» مع التسليم بأن المراد بالذين كفروا الذين لم يسبق لهم إيمان أصلا، فتأمل.
4- جمع الظلمات وأفرد النور لسر بلاغي عجيب. وهو ينطوي على الإشارة إلى وحدة الحق وتعدد أنواع الظلمات التي هي الضلالات وما أكثرها، ولأن طريق الحق واضحة المعالم لا لبس فيها، ولا تشعّب في مسالكها أما طريق الضلال فهي ملتبسة على من يسلكها.
[سورة البقرة (2) : الآيات 258 الى 259]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)(1/390)
اللغة:
(حَاجَّ) غالب خصمه بالحجة ومن أقوالهم: كانت بينهما محاجّة وملاجّة.
(خاوِيَةٌ) : ساقطة أو خالية من أهلها.
(يَتَسَنَّهْ) : الهاء أصلية أو للسكت. أي لم تمرّ السنة عليها، والشيء عادة يتغير بمرور الزمان. فلام السنة واو أو هاء. وقيل:
أصلها يتسنّن، من الحمأ المسنون. وسيرد في الإعراب تفصيل واف عن هذه اللفظة.
(نُنْشِزُها) نحركها ونرفع بعضها الى بعض للتركيب.(1/391)
الإعراب:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) كلام مستأنف مسوق للتعجب من قصة أحد الطواغيت، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد العموم. فالهمزة للاستفهام التعجبي ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والى الذي جار ومجرور متعلقان ب «تر» ولا بد من حذف مضاف، أي الى قصة الذي حاجّ، وحاجّ فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وابراهيم مفعول به وفي ربّه جار ومجرور متعلقان بحاجّ (أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) أن حرف مصدري ونصب، آتاه فعل ماض في محل نصب بأن والهاء مفعول به والمصدر المنسبك من أن والفعل بعدها في محل نصب مفعول لأجله بتقدير اللام، لأن شرطا من شروط المفعول لأجله قد فقد وهو اتحاد الفاعل وحذف اللام قياسي قبل أن وأنّ. والمراد أقدم على محاجّة إبراهيم وملاحاته لبطره وصلفه، وكان الأجدر به أن يشكر على النعمة، ويتواضع عند الرفعة. وهذا أولى من جملة ظرفا بمعنى وقت إيتاء النعمة. والمصادر قد تقع ظروفا مثل خفوق النجم ومقدم الحاجّ (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بحاج وأجاز الزمخشري والجلال أن يكون بدلا من «أن آتاه» إذا جعل بمعنى الوقت، ولكن النحاة نصّوا على أنه لا يقوم مقام ظرف الزمان إلا المصدر المصرح بلفظه، فلا يجوز: أجيء أن يصيح الديك، ولا: جئت أن صاح الديك، وقال ابراهيم فعل وفاعل والجملة في محل جر بالاضافة (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) ربي مبتدأ والذي خبره وجملة يحيي صلة الموصول لا محل لها ويميت عطف على يحيي وجملة ربي إلخ مقول القول(1/392)
(قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) الجملة مستأنفة وقال فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وأنا مبتدأ وأحيي فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا والجملة خبر أنا وجملة أنا أحيي جملة اسمية في محل نصب مقول القول، وأميت عطف على أحيي (قالَ إِبْراهِيمُ) فعل وفاعل والجملة مستأنفة مسوقة للانتقال من حجة الى حجة أظهر (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ) الفاء الفصيحة وهي الواقعة في جواب شرط مقدر. أي إذا كنت قادرا كما تدعي كذبا وافتئاتا. فإن الله يأتي بالشمس من المشرق ... ، وإن واسمها، وجملة يأتي خبرها والجملة بعد الفاء لا محل لها لأنها جواب شرط مقدر غير جازم والجار والمجرور «بالشمس» متعلقان بيأتي ومن المشرق جار ومجرور متعلقان بيأتي أيضا (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) كرر الفاء الفصيحة للتأكيد وإرهاصا بالحجة وأت فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والفاعل أنت، بها متعلقان بأت، من المغرب متعلقان به أيضا (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) الفاء عاطفة وبهت من الأفعال التي أتت مبنية للمجهول والذي نائب فاعل أي على اللفظ ويجوز أن يكون فاعلا باعتبار المعنى، ولعله أولى.
وكفر فعل ماض وفاعل مستتر والجملة صلة الذي (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الواو استئنافية، الله مبتدأ وجملة لا يهدي خبره والقوم مفعول به الظالمين صفة (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) تقدير الكلام: أو أرأيت مثل الذي، فأو حرف عطف والكاف اسم بمعنى مثل، فحذف لدلالة «ألم تر» عليه، ومثل هذا النظم يحذف منه فعل الرؤية كثيرا، والغرض من ذلك التعجب، فيقال: ألم تر الى الذي صنع كذا، بمعنى انظر اليه. وعلى كل حال فالكاف الاسمية معطوفة على «الذي حاج ابراهيم» والذي مضاف اليه وجملة «مر على قرية» صلة الموصول، والقرية قيل:(1/393)
أراد بها بيت المقدس حين خربها بختنصّر (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) الواو للحال وهي مبتدأ وخاوية خبر وعلى عروشها جار ومجرور متعلقان بخاوية. والمعنى سقطت السقوف أولا ثم تلتها الأبنية.
وهذا التصوير تجسيد شعري لفناء المحدثات، يبدأ الفناء بالعوالم والكائنات الحية ثم تتلوها الجمادات، وقد رمق من طرف خفي أبو الطيب المتنبي سماء هذا المعنى البديع فنقله نقلا دقيقا أسرع من تنقّل الطيوف في الأجفان فقال يرثي:
أين الذي الهرمان من بنيانه؟ ... ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع
والبيت الثاني هو المقصود، ومعناه أن الآثار وهي المباني تبقى بعد أربابها لتدلّ على تمكنهم وقوتهم، ثم ينالها بعدهم ما نالهم من الفناء، وسيدركها الخراب فتسقط متداعية ثم تسقط فوقها العروش، والسقوف المشيدة، فتذهب الآثار، وقد ذهب المفسرون في قصة هذا المارّ مذاهب طريفة يحلو الرجوع إليها في المطولات، وهل قال ما قال بمعرض الإنكار للبعث؟ وهل كان كافرا؟ هذه كلها حدوس تتألف منها قصة مجنحة، فمن لنا بالكاتب المبدع؟ (قالَ: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها) قال: فعل وفاعله هو، وأنى فيها وجهان: أحدهما أن تكون بمعنى متى فتكون ظرفا متعلقا بيحيي. وثانيهما أن تكون بمعنى كيف فتكون حالا من هذه، والعامل فيها يحيي. وجملة يحيي في محل جر بالاضافة إذا كانت «أنى» ظرفا. أو مقولا للقول إذا كانت بمعنى كيف. ويحيي فعل مضارع وهذه مفعول مقدم والله فاعل مؤخر وبعد موتها ظرف زمان متعلق بيحيي أيضا. وجملة قال مستأنفة مسوقة للتّلهّف عليها، والتشوق الى عمارتها مع استشعار اليأس منها(1/394)
(فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ) الفاء عاطفة وأماته الله فعل ومفعول به وفاعل ومائة ظرف زمان متعلق بأماته وعام مضاف اليه (ثُمَّ بَعَثَهُ) عطف على أماته، وعطف بثم للإشعار بالتراخي وطول المدة (قالَ: كَمْ لَبِثْتَ) الجملة مستأنفة مسوقة للرد على سؤال قد يساور الخاطر كأنه قيل:
فماذا قال الله تعالى له حين بعثه بعد الموت؟ وكم اسم استفهام في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق بلبثت ومميزها محذوف كأنه قيل:
كم وقتا لبثت؟ ولبثت فعل وفاعل والجملة في محل نصب مقول القول (قالَ: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) جملة القول مستأنفة لتكون بمثابة الرد على السؤال وجملة لبثت في محل نصب مقول القول ويوما ظرف زمان متعلق بلبثت وأو حرف عطف وبعض يوم عطف على يوما، منتظم في سلك الظرف الزمني (قالَ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) جملة قال استئنافية، بل حرف عطف عاطفة على جملة محذوفة، لا بد من تقديرها، والتقدير:
ما لبثت؟ يوما أو بعض يوم؟ بل لبثت مائة عام ومائة عام ظرف.
والجملة مقول القول (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) الفاء الفصيحة، وهي هنا جواب لشرط مقدر تقديره: إذا حصل لك ارتياب وعدم طمأنينة في أمر البعث فانظر. وانظر فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والى طعامك جار ومجرور متعلقان بانظر وشرابك عطف على طعامك ولم حرف نفي وقلب وجزم ويتسنه فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون إذا كانت الهاء أصلية، وإذا كانت الهاء للسكت كان الفعل مجزوما بحذف حرف العلة، وعندئذ تثبت هاء السكت في الوقف لا في الوصل وسيأتي حكمها. وإذا كان الفعل من التّسنّن الذي هو التغير كان مجزوما بالسكون المقدر على حرف العلة المحذوف الذي أبدلت النون الثانية منه وجملة لم يتسنه حال.
(وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) عطف على ما تقدم، وإنما خصه بالذكر لأن المارّ(1/395)
كان يركبه، ولأن العبرة بالكائنات الحية أشد تأثيرا وقد تقدم إعراب مثلها (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) الواو عاطفة واللام للتعليل ونجعلك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، واللام والمصدر المجرور بها متعلقان بفعل محذوف، أي: فعلنا ذلك كله لنجعلك آية والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به أول، وآية مفعول به ثان وللناس جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لآية (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) الواو عاطفة وانظر فعل أمر والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت والى العظام جار ومجرور متعلقان بانظر، وكيف اسم استفهام في محل نصب حال وصاحب الحال الضمير المنصوب في ننشزها والجملة بدل من العظام وهي في محل جر أو نصب لأن نظر البصرية تتعدى بإلى وهي معلقة عن العمل بسبب الاستفهام فتكون في محل نصب، أي الى حال العظام وننشزها فعل مضارع مرفوع والهاء مفعول به والفاعل مستتر تقديره نحن (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ونكسوها فعل مضارع ينصب مفعولين أولهما الهاء ولحما وهو المفعول الثاني (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) الفاء عاطفة على مقدر يستوجبه السياق كأنه قال: فأنشزها الله وكساها لحما، فنظر إليها فتبين له كيف يتم الإحياء والبعث. ولما ظرفية غير جازمة متعلقة بالجواب، وتبين فعل ماض مبني على الفتح الظاهر، وفاعل تبين ضمير مستكن يعود على كيفية الإحياء، وقدّره الزمخشري تقديرا طريفا، قال: «فلما تبين له ما أشكل عليه» وقدره الجلال: فلما تبين له ذلك بالمشاهدة. والجار والمجرور متعلقان بتبين وجملة تبين في محل جر بالإضافة (قالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قال فعل وفاعله مستتر، وجملة أعلم مقول القول وجملة القول لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وأن واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي أعلم.(1/396)
الفوائد:
1- ينوب عن الظرف المصدر إذا كان مضافا اليه وأن يكون معينا لوقت أو مقدار نحو جئتك صلاة العصر ومقدم الحاج.
2- هاء السكت: سميت بذلك لأنه يسكت عليها دون آخر الكلمة، ولها ثلاثة مواضع:
آ- الفعل المعتلّ بحذف آخره لجزم أو سكون مثل: لم يتسنه ولم يغزه ولم يخشه ولم يرمه واغزه واخشه وارمه ومنه قوله تعالى: «فبهداهم اقتده» وهي في كل هذا جائزة لا واجبة، إلا في مسألة واحدة، وهي أن يكون الفعل قد دخله الحذف وبقي على حرف واحد، كالأمر من وعى يعي، فإنك تقول: عه، بحذف فائه ولامه.
ب- ما الاستفهامية المجرورة بالحرف، وذلك أنه يجب حذف ألفها إذا جرت، نحو عمّ ومم وبم وفيم. فإذا وقفت عليها ألحقتها الهاء حفظا للفتحة الدالة على الألف.
ج- كل مبني على حركة بناء ولم يشبه المعرب، وذلك كياء المتكلم وهو وهي، فإنك تقف عليها بهاء السكت محافظة على الفتحة، وفي القرآن: «ماهيه» و «ماليه» و «سلطانيه» ، وقال حسان:
إذا ما ترعرع منا الغلام ... فما إن يقال له: ما هوه؟
وحق هاء السكت أن تكون ساكنة وتحريكها لحن عند البصريين. وكان أبو الطيب المتنبي يراغم النحاة فقال:(1/397)
وأحرّ قلباه ممن قلبه شبم ... ومن بجسمي وحالي عنده سقم
وهو- كما تعلم- كوفي، والكوفيون يجيزون ذلك، والواقع أن علماء النحو اضطربوا كثيرا في هذه المسألة، ووفقوا حائرين أمام قول عروة في حبيبته عفراء:
يا مرحباه بحمار عفرا ... ويا مرحباه بحمار ناجيه
وقد دافع أبو البقاء العكبري عن أبي الطيب المتنبي في شرحه لديوانه في بحث شيق حبذا لو رجعت اليه.
3- الاستفهام في هذه الآية خرج عن معناه الأصلي، فالأول «ألم تر» معناه التعجب، أي: أعجب يا محمد من هذه القصة، والاستفهام الثاني للاستعظام، وهو «أنى يحيي هذه الله بعد موتها» .
لمحة تاريخية لا بدّ منها:
كان عزيز بن شرخيا من سكان بيت المقدس، وقد كان في جملة من سباهم بختنصّر، فلما خلص من السبي وجاء ورآها على تلك الحالة، وكان راكبا على حمار، دخلها وطاف فيها، فلم ير أحدا فيها.
وكان أغلب أشجارها حاملا، فأكل من الفاكهة، واعتصر من العنب، ثم ربط حماره بحبل، وجعل فضل الفاكهة في سلة، وفضل العصير في زق أو ركوة، ثم ألقى الله عليه النوم فنام، ولما نام نزع الله منه الروح، وأمات حماره، وبقي عصيره وتينه عنده، فلما مضى من وقت موته سبعون سنة سلط الله ملكا من ملوك فارس، فسار بجنوده حتى أتى بيت المقدس فعمره، وصار أحسن مما كان، وعاد أهلها إليها(1/398)
وأعمى الله العيون عن عزير هذه المدة. فلما مضت المائة أحياه الله ثم أخذ ينظر الى حماره تدب فيه الروح وتتلملم الأوصال، الى آخر تلك القصة التي نتمنى أن يعمد إليها كاتب قصصي بارع فيجعل منها قصة فنية. وهي تشجب أقوال اليهود في عزير أنه ابن الله، تعالى الله عن ذلك.
ملاحظات هامة:
1- تحدثنا عن قوله تعالى: «ألم تر» في باب الإعراب، وقد عثرنا على تقرير هام للتفتازاني خلاصته: تقرير هذا أن كلا من لفظ «ألم تر» و «أرأيت» مستعمل لقصد التعجب، إلا أن الأول تعلق با لمتعجّب منه فيقال: ألم تر الى الذي صنع كذا بمعنى انظر اليه، فتعجب من حاله. والثاني تعلق بمثل المتعجب منه فيقال: أرأيت مثل الذي صنع كذا؟ بمعنى أنه من الغرابة بحيث لا يرى له مثل. ولا يصح:
ألم تر الى مثله، إذ يصير التقدير: انظر الى المثل وتعجب من الذي صنع. فلذا لم يستقم عطف «كالذي مرّ» على «الذي حاج» واحتيج الى التأويل في المعطوف بجعله متعلقا بمحذوف، أي أرأيت الى، أو في المعطوف عليه، نظرا الى أنه في معنى: أرأيت كالذي حاج، فيصح العطف عليه حينئذ.
قلت: وهذه دقة نظر وبعد غور لا حدّ لهما، واستقصاء علمي منقطع النظير، ولم نصحح إعرابنا كما ارتآه، واكتفينا بإثبات هذه الملاحظة.
2- قال أبو السعود العماري مفتي التخت العثماني الذي تقلد(1/399)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
الإفتاء الإسلامي مدة ثلاثين سنة، وصاحب التفسير المسمى «إرشاد السليم الى مزايا الكتاب الكريم» والمتوفى سنة ألف وخمسمائة وأربع وسبعين للميلاد في صدد بحثه عن الكاف في قوله «أو كالذي» :
والكاف إما اسمية كما اختاره قوم، جيء بها للتنبيه على تعدد الشواهد وعدم انحصارها فيما ذكر، كقولك: الفعل الماضي مثل نصر، وإما زائدة كما ارتضاه آخرون والمعنى: أولم تر الى الذي مر على قرية كيف هداه الله وأخرجه من ظلمة الاشتباه الى نور العيان والشهود، أي قد رأيت ذلك وشاهدته.
3- قال ابن هشام في المغني: «ومن الوهم في هذا الباب قول بعضهم في قوله تعالى «وانظر الى العظام كيف ننشزها» أن جملة الاستفهام حالية، والصواب أن «كيف» وحدها حال من مفعول ننشزها، وأن الجملة بدل من العظام» .
وأورد الدسوقي في حاشيته على ابن هشام أن هذه الجملة لا تحلّ محل المبدل منه، وهو شرط في صحة البدل. وفات الدسوقي أن الالتفات للمعنى أي الى العظام وكيفية نشوزها، على أن هذه القاعدة أغلبية.
[سورة البقرة (2) : آية 260]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)(1/400)
اللغة:
(فَصُرْهُنَّ) : بضم الصاد ويجوز كسرها، فعل أمر من صار يصور أو من صار يصير بمعنى ضمّ أو مال، قال:
وفرع يصير الجيد وحف كأنه ... على الليت قنوان الكروم الدّوالح
يصف شعر محبوبته بأنه يميل عنقها لنقله عليه ويشبهه بعناقيد الكروم المثقلات بالحمل. وقال في مختار الصحاح: «وصاره أماله، من باب قال وباع، وقرىء فصرهن إليك بضم الصاد وكسرها، وصار الشيء أيضا من البابين قطعه وفصله، فمن فسره بهذا جعل في الآية تقديما وتأخيرا، أي فخذ إليك أربعة من الطير فصرهن» .
الإعراب:
(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لإيراد دليل آخر على رعاية الله للمؤمنين، وفيه تنويه بأن الرؤية والعيان لا بد منهما لتدعيم الاعتقاد وترسيخه، إذ لم يكن إبراهيم شاكا في إحياء الله للموتى، وإذ ظرف متعلق بما ذكر مقدرا وقال ابراهيم فعل وفاعل والجملة في محل جر بالإضافة (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) رب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة، والجملة في محل نصب مقول القول. وأرني فعل أمر من الإراءة البصرية المتعدية لواحد، وبدخول الهمزة صارت متعدية لاثنين. وأصل أرني أرئيني، فحذفت الياء الأولى فصار أرئني، ثم نقلت حركة الهمزة الى الراء وحذفت الهمزة،(1/401)
وأرني فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والنون للوقاية وياء المتكلم مفعول به أول، وكيف استفهام حال وتحيي فعل مضارع وفاعله مستتر والموتى مفعول به وجملة كيف تحيي الموتى في محل نصب مفعول أرني الثاني (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) قال فعل ماض والفاعل هو والجملة مستأنفة بمثابة التقرير للواقع، أي: أتسأل ولم تؤمن، والهمزة للاستفهام التقريري، لأن الاستفهام إنما هو عن أمر متقرر الوجود عند السائل والمسئول على السواء. والواو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم وتؤمن فعل مضارع مجزوم بلم والجملة الاستفهامية في محل نصب مقول القول (قالَ بَلى) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير الإيمان، وأتى ب «بلى» التي هي حرف جواب لتثبت الإيمان المنفي، ولو كان الجواب بنعم لكان كفرا (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) الواو عاطفة على جملة محذوفة تقديرها: «سألتك» ، ولكن حرف استدراك مهمل وليطمئن اللام للتعليل ويطمئن فعل مضارع منصوب بأن مضمرة ولا بد من تقدير محذوف ليصح تعليق اللام، أي ولكن سألتك كيفية الإحياء ليطمئن قلبي، وقلبي فاعل مرفوع بالضمة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم، والياء مضاف اليه (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) جملة مستأنفة مسوفة للتدليل على ولاية الله تعالى للمؤمنين والسير بهم في آماد الطريق المستقيم، والفاء هي الفصيحة أي إذا أردت معرفة ذلك عيانا فخذ، وخذ فعل أمر والفاعل أنت وأربعة مفعول به ومن الطير جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأربعة (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) الفاء عاطفة وصرهنّ فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به والنون علامة النسوة لا محل لها من الإعراب وإليك جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي مضمومات إليك (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً)(1/402)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
ثم حرف عطف للترتيب والتراخي واجعل فعل أمر والفاعل أنت وعلى كل جار ومجرور متعلقان باجعل على أنه مفعول ثان ل «اجعل» وجبل مضاف اليه ومنهن جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة ل «جزءا» فلما تقدمت على الموصوف أعربت حالا وجزءا هو المفعول الأول (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) عطف أيضا وادعهن فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والفاعل أنت والهاء مفعول به والنون علامة التأنيث لا محل لها ويأتينك فعل مضارع مبني على السكون في محل جزم جواب الطلب والنون فاعل والكاف مفعول به والجملة جواب الطلب لا محل لها وسعيا مفعول مطلق أي مشيا سريعا. ولك أن تعربها حالا، أي مسرعات (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الواو عاطفة واعلم فعل أمر والفاعل أنت وان واسمها وخبراها سدت مسد مفعولي اعلم.
البلاغة:
في هذه الآية إيجاز بالحذف وقد حذف تتمة القصة، إذ حكى سبحانه أوامره، ولم يتعرض لامتثال إبراهيم عليه السلام لها، لأن ذلك مدرك بالبداهة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 262]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)(1/403)
اللغة:
(السنبلة) معروفة، وزنها فنعلة، فالنون زائدة، يقال:
أسبل الزرع: أرسل ما فيه. وحكى بعض اللغويين: سنبل الزرع، فتكون النون أصلية، ووزنه فعلل. وقد روى الأساس واللسان:
«وأسبل الزرع وسنبل: خرج سبله وسنبله» .
(المن) أن يعتدّ على من أحسن اليه بإحسانه.
الإعراب:
(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لضرب المثل لإنفاق الأموال في سبيل الله، ولا بد من حذف مضاف، أي: مثل نفقتهم. ومثل مبتدأ والذين مضاف اليه وجملة ينفقون لا محل لها لأنها صلة الموصول وأموالهم مفعول به وفي سبيل الله جار ومجرور متعلقان بينفقون (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر، ولا بد من حذف مضاف أيضا، أي كمثل باذر حبة. وأنبتت فعل ماض والفاعل هي وسبع مفعول به وسنابل مضاف اليه وعلامة جره الفتحة لأنه ممنوع من الصرف لأنه على صيغة منتهى الجموع وجملة أنبتت صفة لحبة (فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) في كل الجار والمجرور متعلقان بمحذوف(1/404)
خبر مقدم وسنبلة مضاف اليه، ومائة حبة مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صفة لسنابل فتكون في محل جر، أو صفة لسبع فتكون في محل نصب (وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) الواو استئنافية والله مبتدأ ويضاعف فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى وجملة يضاعف في محل رفع خبر للمبتدأ «الله» ولمن الجار والمجرور متعلقان بيضاعف وجملة يشاء لا محل لها لأنها صلة من (وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) الواو عاطفة والله مبتدأ وواسع خبر أول وعليم خبر ثان (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لك أن تجعلها تابعة للجمل السابقة على أنها مبدلة منها، ولك أن تجعلها مستأنفة مسوقة لذكر الإنفاق غير المشوب بالمن. والذين مبتدأ أو بدل من الذين الأولى وجملة ينفقون أموالهم لا محل لها لأنها صلة وفي سبيل الله متعلقان بينفقون (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً) ثم حرف عطف للترتيب والتراخي في الزمان والرتبة، ولا نافية ويتبعون فعل مضارع معطوف على ينفقون وما اسم موصول مفعول به أول وجملة أنفقوا صلة ما ومنا مفعول به ثان ولا أذى عطف على «منا» (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الجار والمجرور خبر مقدم وأجرهم مبتدأ مؤخر والظرف متعلق بمحذوف حال وربهم مضاف اليه والجملة الاسمية في محل رفع خبر الذين إذا كانت مبتدأ، أما إذا كانت بدلا فالجملة استئنافية (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) تقدم إعراب هذه الآية بحروفها.
البلاغة:
1- التشبيه التمثيلي: فقد شبه نفقة المنفقين في سبيل الله بالحبة في مضاعفة الأجر، فهي عند ما يغرسها الغارس تنبت ساقا(1/405)
يتشعّب منه سبع شعب، لكل واحد سنبلة. وفيه تجسيد بديع بعقد المماثلة بين المشبّه والمشبه به. والغرض من التشبيه هنا توضيح المعنى وتقريبه للأذهان أولا، ثم تأييده بالدليل المحسوس الذي لا يكابر فيه المكابر، ولا يتعنّت فيه المتعنّت ثانيا، ثم تزيين المشبه وتجميله، وإلهاب الرغبة فيه، بحيث لا يتردد أحد في الإنفاق بعد أن رأى بعينه سلفا ما أعد له من جزاء ثالثا.
2- «ثم» في أصل وضعها تشير الى أن ثمة تراخيا بين المعطوف بها والمعطوف عليه، وهذا التراخي قد اختلف فيه، فبعضهم يقول:
إنه تراخي الزمن وبعد ما بينهما. والزمخشري يرحمه الله يحمله على التفاوت في الرتبة، فإلى أيهما يعتزي في هذه الآية؟
لقد أفاض علماء البيان في هذا الباب، فقال قوم: المراد التراخي في الزمن نظرا للغالب من أن وقوع المنّ والأذى يكون يعد الإنفاق حتما، بل هما مترتبان عليه، ولا يمكن تصورهما قبل وقوعه، وهذا حسن جميل، وذهب الزمخشري الى أن التراخي هنا محمول على التفاوت في المراتب والتباعد بينهما، حيث لا يمكن حملها على الزمان لسياق يأبى ذلك في الآية. وحاصله أنها استعيرت من تباعد الأزمنة لتباعد المرتبة، وهذا من أبدع ما يصل اليه الفكر الراجح والذكاء البعيد الغور، فإن است خراج هذه الاستعارة على هذا الشكل لا يدركه قصار النظر والابتدائيون، وعلى هذا يقال: معناها الأصلي تراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه، ومعناها المستعارة اليه دوام وجود الفعل وتراخي زمان بقائه.(1/406)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
[سورة البقرة (2) : الآيات 263 الى 265]
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
اللغة:
(رِئاءَ) مصدر راءى مراءاة ورئاء، والأصل: ريايا، فالهمزة الأولى بدل من ياء هي عين الكلمة. والثانية بدل من ياء هي لام الكلمة لأنها وقعت طرفا بعد ألف زائدة. والمفاعلة على بابها من المشاركة، لأن المرائي يري الناس أعماله حتى يروه الثناء عليه والاحترام له.
(صَفْوانٍ) : حجر كبير أملس.(1/407)
(الوابل) : المطر الكثير. قال الأصمعي: أخف المطر وأضعفه الطلّ، ثم الرذاذ أقوى منه، ثم البغش والدّث، ومثله الرّكّ والرهمة. وقال النضر بن شميل: أول المطر رش وطش، ثم طل ورذاذ، ثم نضح ونضخ، ثم هطل وتهتان، ثم وابل وجود.
(صلد) : صلب أملس أو أجرد نقي من التراب الذي كان عليه.
الإعراب:
(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) قول مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة لأنها وصفت، معروف: صفة لقول ومغفرة عطف على قول، خير خبر، من صدقة جار ومجرور متعلقان بخير، يتبعها فعل مضارع والهاء مفعول به والجملة صفة لصدقة، أذى فاعل، (وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وغني حليم خبراه. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها كثيرا (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) كلام مستأنف مسوق لبيان حكم هذه المسألة، وهي إبطال الصدقات بالمن والأذى. ولا ناهية وتبطلوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وصدقاتكم مفعول به منصوب بالكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم، والكاف مضاف اليه وبالمن جار ومجرور متعلقان بتبطلوا والأذى عطف على المن (كَالَّذِي) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف نعت لمصدر محذوف، فهو مفعول مطلق أي لا تبطلوها إبطالا كإبطال الذي ... أو حال من ضمير المصدر المقدر، كما نص عليه سيبويه، أو من فاعل تبطلوا. أي لا تبطلوا صدقاتكم مشبهين الذي ينفق ماله رئاء الناس والوجهان(1/408)
جيدان. (يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) جملة ينفق ماله صلة الموصول لا محل لها ورئاء الناس مفعول لأجله وقد استكمل شروط النصب فلا يعدل عنه الى وجه آخر كما زعم بعض المعربين (وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الواو حرف عطف، لا نافية، يؤمن فعل مضارع وفاعله هو، وبالله متعلقان بيؤمن، واليوم الآخر معطوف على الله (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ) الفاء استئنافية جيء بها لمجرد الربط بين الجمل، ومثله مبتدأ وكمثل الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر، أو الكاف اسم بمعنى مثل خبر وهو مضاف ومثل مضاف اليه وصفوان مضاف الى مثل (عَلَيْهِ تُرابٌ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وتراب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية في محل جر صفة لصفوان (فَأَصابَهُ وابِلٌ) الفاء عاطفة عطفت أصابه على متعلق عليه، أي: استقر عليه فأصابه، والهاء مفعول به ووابل فاعل (فَتَرَكَهُ صَلْداً) الفاء عاطفة وترك فعل ماض ينصب مفعولين أولهما الهاء والثاني صلدا (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ) الجملة مستأنفة مسوقة للرد على سؤال، كأنه قيل فماذا كان مآلهم؟
فقيل: لا يقدرون، ولا نافية ويقدرون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل وعلى شيء جار ومجرور متعلقان بيقدرون، وأعاد الضمير مجموعا وهو في الظاهر مفرد، لأن «الذي» يراد به الفريق الذي ينفق والجنس الذي ينفق (مِمَّا كَسَبُوا) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لشيء وجملة كسبوا لا محل لها لأنها صلة الموصول ما (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للتعريض بأن المن والأذى من صفات الكفار والله مبتدأ وجملة لا يهدي خبر والقوم مفعول به والكافرين صفة للقوم (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ) الواو عاطفة على «فمثله» ومثل مبتدأ ولا بد من تقدير مضاف تقديره نفقات، والذين مضاف(1/409)
اليه وجملة ينفقون أموالهم لا محل لها لأنها صلة الموصول (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ) مفعول لأجله وشروط النصب متوفرة فيه ومرضاة الله مضاف اليه (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) عطف على ابتغاء، ومن أنفسهم متعلقان ب «تثبيتا» أي منطلقا من أصل أنفسهم، وقال ابن عطية:
«ولا يصح أن يكون ابتغاء مفعولا من أجله لعطف «تثبيتا» عليه، ولا يصح «تثبيتا» أنه مفعول من أجله لأن الانفاق ليس من أصل التثبيت» ، ولهذا رجّح أبو حيان أن يكون «ابتغاء» مصدرا في موضع الحال، أي: متغين، وكذلك «وتثبيتا» . وفي كلامهما شيء غير قليل من بعد الغور وحسن التقدير. ولكن يمكن القول أن التثبيت من أفعال القلوب، لأنه صادر عنها، وهو يحدو صاحب القلب الى التثبيت، ولهذا نرجح ما أعربناه (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر للمبتدأ «مثل الذين» وبربوة جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لجنة (أَصابَها وابِلٌ) فعل ومفعول به وفاعل والجملة صفة لجنة أيضا (فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ) الفاء عاطفة وآتت فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هي يعود على جنة وأكلها مفعول به والهاء مضاف اليه وضعفين حال (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ) الفاء استئنافية وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم ويصبها فعل مضارع مجزوم ب «لم» في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة للجواب وطل خبر لمبتدأ محذوف أي فالذي يصيبها طلّ والجملة في محل جزم جواب الشرط (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ والجار والمجرور متعلقان ببصير وجملة تعملون صلة الموصول وبصير خبر الله.(1/410)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
البلاغة:
1- التشبيه التمثيلي الأول: فقد شبه إنفاق الأموال رئاء الناس ثم إتباع ذلك بالمنّ والتطاول بالإحسان بالتراب الذي يوضع على الصخر الأملس يأتي عليه الوابل من المطر فيذروه ويذهب به ولا يترك له أثرا.
2- التشبيه التمثيلي الثاني: فقد شبه إنفاق الأموال الخالص من الرياء في سبيل الله وابتغاء مرضاته بالبستان الوريف الظلال فوق ربوة عالية يكفيها القليل من المطر لتربو وتهتز وتمرع وتخصب.
[سورة البقرة (2) : آية 266]
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
اللغة:
(نَخِيلٍ) النخيل: قيل: هو اسم جمع، واحدته نخلة. وقيل:
هو جمع نخل، ونخل اسم جنس.
(الأعناب) : جمع عنب، أو هو اسم جنس، واحدته عنبة (إِعْصارٌ) : ريح شديدة مرتفعة، وقيل: هو الريح السموم.
سميت بذلك لأنها تلتف كما يلتف الثوب المعصور، وقيل لأنها تعصر السحاب. ويجمع الإعصار على أعاصير.(1/411)
الإعراب:
(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) جملة مستأنفة مسوقة لضرب مثل آخر لنفقة المرائين والمانّين. والهمزة للاستفهام ويود فعل مضارع وأحدكم فاعله والكاف مضاف اليه (أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ) أن وما بعدها مصدر في محل نصب مفعول يود وله الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم وجنة اسمها المؤخر. (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لجنة وأعناب عطف على نخيل (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) تجري فعل مضارع ومن تحتها جار ومجرور متعلقان بتجري والهاء مضاف اليه والأنهار فاعل والجملة صفة ثانية لجنة (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وفيها جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ومن كل الثمرات الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة للمبتدأ المؤخر والمحذوف أي له رزق كائن من كل الثمرات حالة كونه فيها، والجملة صفة ثالثة لجنة (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) الواو حالية وجملة أصابه الكبر في محل نصب حال ولا بد من تقدير «قد» (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) الواو حالية وله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وذرية مبتدأ مؤخر وضعفاء صفة لذرية والجملة في محل نصب على الحال من الهاء في «أصابه» (فَأَصابَها إِعْصارٌ) الفاء حرف عطف وأصاب فعل ماض والهاء مفعول به وإعصار فاعل والجملة معطوفة على صفة الجنة (فِيهِ نارٌ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ونار مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صفة لإعصار (فَاحْتَرَقَتْ) عطف على أصابها (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ) الجار والمجرور «كذلك» متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف أو في محل نصب حال ويبين فعل مضارع مرفوع والله فاعل يبين ولكم متعلقان بيبين والآيات مفعول به منصوب(1/412)
بالكسرة وجملة يبين استئنافية (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) لعل واسمها وجملة تتفكرون خبرها وجملة الرجاء في محل نصب على الحال.
البلاغة:
في هذه الآية يسمو البيان القرآني الى أعلى ذروة يتصورها العقل البشري، وجميع آي القرآن من البيان الرفيع السامي. ولكن هذه هذه الآية وآيات كثيرة وردت وسترد في مواطنها استوفت من الناحية البيانية الغاية، وأربت على النهاية، وهي بمثابة المثل لنفقة المرائي الذي ينفق للتبجح وإعلان حب النفس، وإيهام الناس بأنه بالغ أقصى الغايات، بينما تذهب أعماله سدى. وسنبسط القول فيها بسطا يتفق مع مراميها البعيدة، وفيما يلي ما أدركناه منها:
1- الاستفهام في قوله: أيود؟ للإنكار والنفي. أما مصب النفي فهو في قوله: «فأصابها إعصار» لأنه مناطه ومثابته. وجميل قول ابن عباس فيها: «هو مثل لرجل عمل بالطاعات ثم زين له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله وطاح بها» .
2- وفي هذه الآية فن التتميم وقد تقدمت الاشارة اليه.
ونزيده هنا بسطا، فنقول: هو أن يأتي الشاعر أو الكاتب في كلامه بكلمات لو طرحت لنقص معناه أو صوره مع بقاء الكلام سليما.
وإليك الصور التي اندرجت فيها:
آ- لما ذكر سبحانه الجنة لم يكتف بذكرها مجردة من كل قيد، لأن الجنة في اللغة لفظ يصدق على كل شجر متكاثف ملتف، يستر من يتفيأ بظلاله الوريفة. ومن هذا الشجر ما هو محدود النفع كالأثل والخمط وغيرهما من الأشجار التي لا تصلح إلا للحطب، ومنها(1/413)
ما يتضاعف نفعه فيؤكل ثمره وتستخرج منه مواد أخرى نافعة ثم يكون حطبه صالحا للوقود، فتمم ذلك النقص بقوله: «من نخيل وأعناب» ، وفهم بالبداهة أن هذه الجنة تميزت بأن أشجارها من الصنف الثاني المتضاعف النفع أي أن احتراق تلك الجنة- ولو كانت تضم الأثل والخمط ونحوهما مما هو محدود النفع- يشجي صاحبها، فكيف إذا كانت من نخيل وأعناب؟ ألا يكون الأسف عليها أشد؟
والشجا باحتراقها أعظم؟
ب- ثم تمم ذلك بذكر الأنهار الجارية للدلالة على ديمومة الخصب. إذ ما الفائدة منها إذا نضبت فيها الأمواه؟ ألا يكون مآلها الى اليبس والذبول؟
ج- ولدفع الإيهام الذي يخيل الى السامعين أن هذه الجنة قد تكون مقتصرة على هذين الضربين من الثمرات، وهما: النخيل والأعناب تمم بقوله «له فيها من كل الثمرات» ، أي أنها تجمع جميع أفانين الثمر، فالحسرة إذن على احتراقها أشد، والأسف على فنائها أعمّ.
د- ولما فرغ من وصف الجنة شرع في وصف الحادث المهلك الذي أدى الى فناء الجنة بقوله: «فأصابها إعصار» يجتاح الأخضر واليابس ويهلك الحرث والنسل.
هـ- على أن الإعصار مهما يبلغ تأثيره فانه ربما كان مؤجل الإهلاك، فدفع هذا الإيهام بقوله: «فيه نار» فأحرقها بعد أن أودى بأشجارها. ولم يكتف بذكر النار لأنها قد تأتي على شيء مما تحرقه ويبقى بعد ذلك شيء آخر منها فدفع هذا الإيهام مرة أخرى بذكر الاحتراق.(1/414)
البحتريّ والتّتميم:
ومن التتميم في الشعر قول البحتري في وصف الإبل التي براها السير والسّرى:
كالقسيّ المعطّفات بل الأسهم مبريّة بل الأوتار فقد شبه الإبل بالقسي المعطفات، وهو تشبيه جميل لما فيه من تنويه بالنحول، ولما في خلق الإبل من الحدب والانحناء. ثم جعلها مبرية على طريق الإضراب الذي يلمح الى الغلط، ثم ترقى في ذلك فجعلها كالأوتار. وهذا كله من أوابد البحتري التي أطلق عليها اسم «سلاسل الذهب» كما كان يسميها النقاد القدامى، على أني وقفت بعد ذلك على حديث للرسول العربي محمد صلى الله عليه وسلم فعلمت أن البحتري لم يبتكر هذه المعاني العميقة المصوغة في أجمل بيان، وأنه رمق سماء الحديث النبوي، وأنه أخذه أخذا يسبق أسهمه المبرية، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لو صليتم لله حتى تعودوا كالقسيّ، وصمتم حتى تعودوا كالأوتار» . وهذا مما أخذ بنصه وفصه.
3- وفي هذه الآية أيضا فنّ «الطاعة والعصيان» وقد أطلق هذه التسمية شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري عند ما نظر في شعر أبي الطيب المتنبي، وتحدث عنه في كتابه «معجز أحمد» ، يعني أحمد المتنبي فأتى على قوله:
يردّ يدا عن ثوبها وهو قادر ... ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد
وقال: «أراد المتنبي الطّباق فعصاه وأطاعه الجناس فانه أراد أن يقول: يرد يدا عن ثوبها وهو مستيقظ، فعصاه ذلك لامتناع(1/415)
دخوله في الوزن فقال وهو قادر لأن القادر مستيقظ وزيادة، ليكون بينها وبين القافية تجانس، فأطاعه الجناس المقلوب بين قادر وراقد، وعصته المطابقة بين راقد ومستيقظ» .
أقول: هذا ما ذكره أبو العلاء المعري، وليس في بيت المتنبي شيء من ذلك، ولو أراد أن يقول: «يردّ يدا عن ثوبها وهو ساهر» أو «متنبها» بحذف لفظة «وهو» لحصل له غرضه من الطباق ولم يعصه الوزن، وإنما مراده بيان العفاف من القادر لا من غيره، أي أنه مع قدرته عليها لا يبيح لنفسه مدّ يده الى إزارها، كما أنه إذا رأى خيالها في المنام امتنع عنه كما يمتنع عنه في اليقظة. يصف نفسه ببعد الهمة عن مغازلة النساء، إذن ففن الطاعة والعصيان الذي ابتدعه المعري ولم يوفق في التمثيل له أثبته علماء البيان ومثلوا له بقول ابن النبيه:
بيضاء حجّبها الواشون حين سرت ... عني فلو لمحت صبغ الدجى لمحت
أراد أن يقول: فلو لمحت سواد الدجى، ليأتي نوع التدبيج بقوله بيضاء وسواد، فعصاه الوزن فقال: «صبغ الدجى» وهو مرادف للسواد، فصدق عليه أنه عصاه التدبيج وأطاعه فن الإرداف.
ومثله قول الأرّجانيّ:
كم رعت هذا الحي إما زائرا ... فردا وإما سائرا في جحفل
أراد أن يقول: وإما محاربا، لتكون المقابلة بين زائر ومحارب، ولا شك أن الزائر يكون مسالما بين قوله «فردا» وقوله «في جحفل» فعصاه الوزن وأعطاه لجناس اللاحق بين زائر وسائر. أما في الآية(1/416)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
الكريمة التي نحن بصددها فإنها وقع فيها التتميم، وقد تحدثنا عنه قبل قليل فيها. ولما كان المتكلم في الأصل يقصد المساواة في كل ما يتكلم به فإذا عصته المساواة للأغراض الآنفة الذكر أطاعه التتميم فتنبه لهذا فإنه من دقائق الفنون.
[سورة البقرة (2) : آية 267]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
اللغة:
(تُغْمِضُوا) الإغماض: غضّ البصر، وأغمضت العين إغماضا وغمّضتها تغميضا: أطبقت الأجفان. والمراد به هنا التجاوز والتسامح والمساهلة.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها، وجملة النداء وما يليه مستأنفة مسوقة لبيان ما ينفق منه، أي أنفقوا من حلال ما كسبتم وجيده (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) أنفقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ومن طيبات الجار والمجرور متعلقان بأنفقوا وما اسم موصول في محل جر بالاضافة وجملة كسبتم صلة الموصول (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) ومما عطف على من طيبات وجملة أخرجنا لا محل لها لأنها صلة الموصول ولكم جار ومجرور متعلقان بأخرجنا ومن الأرض متعلقان بأخرجنا. ولك أن تعلقهما بمحذوف(1/417)
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)
حال، أي: ناجما من الأرض. ويرحم الله الفقهاء ما أثقب أذهانهم فأبو حنيفة أبقاه على عمومه في الزكاة، والشافعي خصه بما يزرعه الآدميون وكلاهما صحيح (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ) الواو عاطفة ولا ناهية وتيمموا فعل مضارع مجزوم بلا وأصل تيمموا: تتيّمموا بتاءين حذفت إحداهما تخفيفا والواو فاعل والخبيث مفعول به ومنه متعلقان بمحذوف حال من الخبيث (تُنْفِقُونَ) الجملة حالية ومفعول تنفقون محذوف أي تنفقونه (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) الواو حالية وليس واسمها والباء حرف جر زائد وآخذيه مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس وحذفت النون للإضافة والهاء مضاف اليه، والجملة حال من فاعل تنفقون أي الواو (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) أداة حصر وأن وما في حيزها مصدر منصوب بنزع الخافض أي بأن تغمضوا، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال، فهو استثناء من أعم الأحوال، ولك أن تعلقهما بآخذيه، وهو أسهل (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) الواو استئنافية واعلموا فعل أمر والواو فاعل وأن واسمها وخبراها سدت مسد مفعولي اعلموا.
البلاغة:
في هذه الآية استعارة تصريحية وذلك في قوله: «إلا أن تغمضوا فيه» شبه التجاوز عن الشيء الجدير بالمؤاخذة بغض العين عما يتفادى المرء رؤبته مما يكره.
[سورة البقرة (2) : الآيات 268 الى 270]
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270)(1/418)
اللغة:
(الفحشاء) : المراد بها هنا البخل، والفاحش البخيل. قال طرفة بن العبد:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدّد
قال الكلبي: «كل فحشاء في القرآن فالمراد بها الزنى، الا هذا الموضع» .
الإعراب:
(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) كلام مستأنف مسوق للتحذير من الإصاخة للشيطان ووساوسه. والشيطان مبتدأ وجملة يعدكم خبر والفقر مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) عطف على: «يعدكم الفقر» والجار والمجرور متعلقان بيأمركم (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) عطف على الجملة المستأنفة، ومغفرة مفعول به ثان ومنه: جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمغفرة، وفضلا: عطف على مغفرة (وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وواسع عليم خبران لله (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) الجملة خبر ثالث لله أو جملة مستأنفة ويؤتي فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره هو والحكمة مفعول به أول ومن اسم موصول في محل(1/419)
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
نصب مفعول به ثان وجملة يشاء صلة الموصول (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويؤت فعل الشرط مبني للمجهول وعلامة جزمه حذف حرف العلة ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هو والحكمة مفعول به ثان (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) الفاء رابطة لجواب الشرط وقد حرف تحقيق وأوتي فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هو وخيرا مفعول به ثان وكثيرا صفة والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) الواو عاطفة وما نافية ويذكر فعل مضارع مرفوع وإلا أداة حصر وأولو فاعل مرفوع وعلامة رفعه الواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والألباب مضاف اليه (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) الواو عاطفة وما اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدم لأنفقتم ومن نفقة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وجعلها كثيرون زائدة، وهو أسهل، ولكنه غير مقيس (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) عطف على ما تقدم (فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ) الفاء رابطة لجواب الشرط وإن واسمها وجملة يعلمه خبرها والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) الواو استئنافية وما نافية وللظالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومن حرف جر زائد وأنصار مبتدأ مؤخر.
[سورة البقرة (2) : الآيات 271 الى 272]
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272)(1/420)
الإعراب:
(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) كلام مستأنف مسوق لتفصيل ما أجمل في الجملة الشرطية السابقة ولذلك ترك العاطف، وإن حرف شرط جازم وتبدوا فعل مضارع فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والصدقات مفعول به، فنعما: الفاء رابطة لأن الجواب فعل جامد قال بعضهم في مواضع ربط الجواب بالفاء:
اسمية طلبية وبجامد ... وبما ولن وبقد وبالتنفيس
ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح وما نكرة تامة بمعنى شيء في محل نصب على التمييز وفاعل نعم ضمير مستتر مفسر ب «ما» هي: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ خبره جملة نعما لأنه المخصوص بالمدح وجملة نعما هي جملة اسمية في محل جزم جواب الشرط (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) الواو عاطفة وإن شرطية وتخفوها فعل مضارع فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به وتؤتوها عطف عليه والهاء مفعول به أول والفقراء مفعول به ثان (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) الفاء رابطة للجواب وهو ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ وخير خبر ولكم جار ومجرور متعلقان بخير والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) الواو استئنافية ويكفّر فعل مضارع مرفوع والجملة خبر لمبتدأ محذوف أي والله يكفر عنكم وعنكم جار ومجرور متعلقان بيكفر وقرىء بالجزم عطفا على موضع الفاء في قوله(1/421)
«فهو خير لكم» لأنه جواب الشرط ومن سيئاتكم متعلقان بمحذوف صفة لمفعول به محذوف أي: شيئا من سيئاتكم، نص على ذلك سيبويه، وهو أولى من جعلها زائدة في الكلام الموجب، كما صنع المعربون كأبي البقاء وغيره (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وخبير خبره والجار والمجرور متعلقان بخبير وجملة تعملون لا محل لها لأنها صلة (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) كلام مستأنف مسوق للتشدد في العقيدة والنهي عن التساهل مع أعداء الله وأعداء دينه، ومعلوم أنه كانت هنا قرابات ومصاهرات في اليهود، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التصدق عليهم لحملهم على الانضواء الى الدين القويم. وليس فعل ماض ناقص وعليك خبرها المقدم وهداهم اسمها المؤخر وهو مصدر مضاف لمفعوله (وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) الواو اعتراضية لا محل لها والجملة لا محل لها ولكن واسمها وجملة يهدي خبرها ومن اسم موصول مفعول يهدي وجملة يشاء لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) الواو عاطفة على ما قبلها وما شرطية جازمة في محل نصب مفعول به مقدم لتنفقوا وتنفقوا فعل الشرط ومن خير في محل نصب حال والفاء رابطة لجواب الشرط ولأنفسكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: فهو لأنفسكم، والجملة في محل جزم جواب الشرط (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ) الواو عاطفة وما نافية وتنفقون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعله وإلا اداة حصر وابتغاء مفعول لأجله فالاستثناء من أعم العلل ووجه الله مضاف اليه (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) تقدم إعرابها (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) جواب الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وإليكم جار ومجرور(1/422)
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
متعلقان بيوفّ (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) الواو حالية وأنتم مبتدأ وجملة لا تظلمون خبر أنتم، والجملة الاسمية في محل نصب حال. ولك أن تجعل الواو استئنافية فتكون الجملة مستأنفة لا محل لها.
[سورة البقرة (2) : الآيات 273 الى 274]
لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
اللغة:
(أُحْصِرُوا) أحصرهم الجهاد وأرصدهم للمناضلة في سبيل الله، وصرف نفوسهم عن الاشتغال بأي شيء سواه. وأرصد الشيء أعدّه لأمر من الأمور، وفي الحديث: «إلا أن أرصده لدين عليّ» ويستعملونها اليوم خطأ، فيكتبون: «رصد المبلغ لكذا» والصواب:
«أرصد» فتنبّه.
(سيماهم) السيما: بالقصر العلامة، ويجوز مدها: السيماء.
وبعض بني أسد وثقيف يقولون: بسيميائهم. ومن ذلك قول ابن عنقاء الفزاري:(1/423)
غلام رماه الله بالحسن يافعا ... له سيمياء لا تشق على البصر
(الإلحاف) شدة الإلحاح في المسألة وفي الحديث: «من سأل وله أربعون درهما فقد ألحف» .
الإعراب:
(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، أي: صدقاتكم للفقراء، والذين صفة للفقراء وجملة أحصروا في سبيل الله لا محل لها لأنها صلة الموصول والجار والمجرور متعلقان بأحصروا (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) الجملة في موضع نصب على الحال، وجملة للفقراء مستأنفة مسوقة لتكون جوابا عن سؤال نشأ مما سبق كأنهم سألوا لما أمروا بالصدقات: لمن هي؟ فقيل: إنها لهؤلاء. ولا نافية ويستطيعون فعل مضارع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل وضربا مفعول به وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بضربا (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) الجملة حال ثانية للفقراء ويحسبهم فعل مضارع والهاء مفعول يحسب الأول، والجاهل فاعل وأغنياء مفعول به ثان ومن التعفف جار ومجرور في موضع نصب على أنه مفعول لأجله، وجرّ ب «من» لأنه فقد شرطا من أهم شروطه وهو اتحاد الفاعل، ففاعل الحسبان هو الجاهل وفاعل التعفف هم الفقراء (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) الجملة حال ثالثة للفقراء وبسيماهم جار ومجرور متعلقان بتعرفهم (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) الجملة حال رابعة ولا نافية ويسألون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والناس مفعول به وإلحافا يجوز فيه أن يعرب مفعولا مطلقا لفعل محذوف، أي:
يلحفون إلحافا، أو مصدرا مؤولا في موضع الحال، أي لا يسألون(1/424)
حالة كونهم ملحفين، أو مفعولا من أجله وقد استوفى شروطه (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) تقدم إعرابه قريبا (فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) الفاء رابطة وان واسمها والجملة خبرها، والجملة اسمية في محل جزم جوان الشرط وبه جار ومجرور متعلقان بالخبر «عليم» (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) جملة مستأنفة مسوقة للشروع في بيان صفة الصدقة ووقتها. ونزول الآية في أبي بكر أو علي بن أبي طالب لا ينزع عنها صفة شمول الحكم وعمومه. والذين مبتدأ وينفقون فعل مضارع والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول والواو فاعل وأموالهم مفعول به بالليل جار ومجرور متعلقان بتنفقون، والنهار معطوف على الليل، وسرا وعلانية مصدران منصوبان على الحالية أو بنزع الخافض (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الفاء رابطة للدلالة على سببية ما قبلها لما بعدها ولما في الموصول من رائحة الشرط والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وأجرهم مبتدأ مؤخر والظرف عند متعلق بمحذوف حال وربهم مضاف اليه والجملة خبر للموصول «الذين» (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) تقدم إعرابها بحروفها كثيرا.
البلاغة:
في قوله تعالى: «لا يسألون الناس إلحافا» فن من أبدع الفنون البيانية ويسمونه «نفي الشيء بإيجابه» وحدّه أن يثبت الشاعر أو الكاتب شيئا في ظاهر كلامه ثم ينفي ما هو من سببه. وهو كثير في القرآن الكريم. أما في هذه الآية فالمنفيّ في ظاهر الكلام هو الإلحاف في السؤال، لا نفس السؤال مجازا، والمنفي في باطن الكلام حقيقة نفس السؤال، إلحافا كان أو غير إلحاف. وهذا الذي يقتضيه المديح،(1/425)
وهو، كما ترى، من طرائف علم البيان ومن بارعة قول علي بن أبي طالب في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه:
«لا تثنى فلتاته» ، أي: لا تذاع سقطاته. فظاهر هذا اللفظ أنه كان ثمّ فلتات، غير أنها لا تذاع. وليس المراد ذلك، ولكن المراد أنه لم يكن ثم فلتات للنبي فتثنى. وهذا من أغرب ما توسعت فيه لغتنا العربية. وزعم ابن الأثير في كتابه «المثل السائر» أنه قليل في الشعر، وأنه لم يسمع منه غير بيت واحد لامرىء القيس، وهو قوله:
على لاحب لا يهتدي بمناره ... إذا ساقه العود الدّيافيّ جرجرا
فقوله: «لا يهتدي بمنارة» يوهم أن له منارا، إلا أنه لا يهتدى به. وليس المراد ذلك بل المراد أن لا منارا له يهتدى به. وقد نسي ابن الأثير قول مسلم بن الوليد الملقب بصريع الغواني:
تراه في الأمن في درع مضاعفة ... لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه ... ولا يمسح عينيه من الكحل
فإن ظاهر الكلام نفي عبق الطيب ومسح الكحل. والمراد نفي الطيب والكحل مطلقا، لانهماكه في قيادة الجيوش وحفظ الثغور والحراسة على خطوط القتال.
2- وفي الآية فن المقابلة، فقد تكرر الطباق بين الليل والنهار، وبين السر والعلانية.(1/426)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
[سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 276]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
اللغة:
(الرِّبا) الإرباء. الزيادة على الشيء، يقال منه: أربى فلان على فلان إذا زاد عليه. وإنما قيل للرابية رابية لزيادتها في العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها.
(الْمَسِّ) : الجنون.
الإعراب:
(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) كلام مستأنف مسوق لذكر حكم الربا وهي الزيادة في المعاملة بالنقود. والذين مبتدأ وجملة يأكلون الربا لا محل لها لأنها صلة الموصول (لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ) لا نافية ويقومون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والجملة الفعلية في محل رفع خبر الذين وإلا أداة حصر وكما يقوم الكاف حرف جر وما مصدرية وهي مع مدخولها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول مطلق أو حال وجملة يقوم لا محل لها(1/427)
لأنها واقعة بعد موصول حرفي والذي فاعل وجملة يتخبطه الشيطان لا محل لها لأنها صلة الموصول ومن المس جار ومجرور متعلقان بيقومون أي لا يقومون من جراء المس إلا كما يقوم المصروع، ولك أن تعلقهما بيقوم أي كما يقوم المصروع من جنونه. واختار أبو حيّان تعليقهما بيتخبطه على سبيل التأكيد ورفع ما يتحمله «يتخبطه» من المجاز، وهو وارد، وما اخترناه أولى (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا) اسم الإشارة مبتدأ والإشارة الى العذاب النازل بهم، والباء حرف جر وان واسمها وخبرها في تأويل مصدر مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر «ذلك» أي: بسبب قولهم وجملة الإشارة استئنافية وقالوا فعل ماض مبني على الضم والواو فاعل (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) إنما كافة ومكفوفة مهملة والبيع مبتدأ ومثل خبر البيع والربا مضاف إليه علامة جره الكسرة المقدرة والجملة في محل نصب مقول القول (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) الواو حالية بتقدير قد بعدها، وفيه دلالة على أن القياس يهدمه النص، لأنه قد يكون فاسدا، وليس ثمة أفسد من قياسهم لتحليل ما حرم الله. وأحل فعل ماض والله فاعله والبيع مفعول به وحرم الربا عطف والجملة بعد الواو حالية (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) الفاء استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ وجاءه فعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط وموعظة فاعل ومن ربه جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لموعظة (فَانْتَهى) الفاء عاطفة، انتهى عطف على جاءه وفاعله هو (فَلَهُ ما سَلَفَ) الفاء رابطة لجواب الشرط والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وجملة سلف صلة الموصول (وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ) الواو عاطفة أو حالية وأمره مبتدأ والى الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر وجملة فله ما سلف في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ(1/428)
النَّارِ)
الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ وعاد فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة واسم الإشارة مبتدأ وأصحاب النار خبر والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (هُمْ فِيها خالِدُونَ) هم مبتدأ والجار والمجرور متعلقان بخالدون وخالدون خبر «هم» والجملة الاسمية في محل نصب على الحال (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان مصير الربا ويمحق فعل مضارع والله فاعله والربا مفعوله (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) عطف على يمحق الله الربا (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة لا يحب خبر وكل مفعول به وكفار مضاف إليه وأثيم صفة لكفار.
البلاغة:
1- التشبيه التمثيلي في تشبيه آكلي الربا عند خروجهم من أجداثهم بمن أصابه مسّ فاختل طبعه، وانتكست حاله، وصار يتهافت في مشيته ويتكاوس في خطوته، ويترنح ترنح الشارب السكران ثم يهوي مكبا على وجهه من سوء الطالع وقبح المنقلب، وشناعة المصير، والجزاء عادة وعقلا من جنس العمل.
2- التشبيه المقلوب: في قولهم: «إنما البيع مثل الربا» وهم يريدون القول بأن الربا مثل البيع ليصلوا الى غرضهم، وهو تحليل ما حرّمه الله، فعكسوا الكلام للمبالغة، وهو في البلاغة مرتبة عليا يصبح المشبّه به قائما بالمشيّه وتابعا له. ومنه في الشعر قول البحتري يصف بركة بناها المتوكل على الله:
كأنّها حين لجّت في تدفّقها ... يد الخليفة لمّا سال واديها(1/429)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
والأصل تشبيه يد الخليفة بالبركة، فقلب الكلام للمبالغة.
وقول الآخر:
وبدا الصباح كأن غرته ... وجه الخليفة حين يمتدح
[سورة البقرة (2) : الآيات 277 الى 279]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279)
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) كلام مستأنف مسوق لبيان حال المؤمنين العاملين إن واسمها، وجملة آمنوا لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ)
الجمل الثلاث معطوفة على الصلة داخلة في حيزها (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وأجرهم مبتدأ مؤخر والظرف متعلق بمحذوف حال والجملة الاسمية في محل رفع خبر إن (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) تقدم إعرابها بحروفها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم اعرابها أيضا (اتَّقُوا اللَّهَ) فعل أمر وفاعله ومفعوله والجملة مستأنفة (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) الواو عاطفة وذروا فعل أمر والواو فاعل وما اسم موصول مفعول به وجملة بقي لا محل لها لأنها صلة(1/430)
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
الموصول والجار والمجرور متعلقان ببقي أو بمحذوف حال من فاعل بقي (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها ومؤمنين خبرها وجواب الشرط محذوف أي فذروا والجملة استئنافية (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) الفاء استئنافية وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتفعلوا فعل مضارع مجزوم بلم وهو فعل الشرط (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) الفاء رابطة لجواب الشرط وأذنوا فعل أمر وفاعله والجار والمجرور بحرب متعلقان بأذنوا ومن الله متعلقان بمحذوف صفة لحرب ورسوله عطف على الله والجملة في محل جزم جواب الشرط (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) الواو عاطفة وإن شرطية وتبتم فعل ماض وفاعله وهو في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة للجواب ولكم متعلقان بمحذوف خبر مقدم ورؤوس أموالكم مبتدأ مؤخر والجملة في محل جزم جواب الشرط.
(لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) جملة لا تظلمون في محل نصب على الحال وهي بالبناء للفاعل وجملة ولا تظلمون عطف عليها وهي بالبناء للمفعول.
[سورة البقرة (2) : الآيات 280 الى 281]
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)
اللغة:
(نظرة) بكسر الظاء: مصدر بمعنى التأخير.(1/431)
(مَيْسَرَةٍ) : مصدر ميمي بمعنى اليسار والسعة، أو اسم زمان، أي وقت اليسار.
الإعراب:
(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة لتقرير وجوب الإنظار والإمهال للمدين المعسر. وفي ذلك صلاح للعباد وتأليف بين القلوب. وإن شرطية وكان فعل ماض تام بمعنى حدث ووجد، وهي تكتفي بفاعلها كسائر الأفعال. أي وإن حدث ذو عسرة، وذو فاعلها وعلامة رفعه الواو لأنه من الأسماء الخمسة وعسرة مضاف إليه (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) الفاء رابطة لجواب الشرط ونظرة خبر لمبتدأ محذوف أي فالحكم نظرة والجار والمجرور متعلقان بنظرة أو بمحذوف صفة لها والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) الواو استئنافية وأن وما في حيزها مصدر مؤوّل في محل رفع مبتدأ وخير خبر والجار والمجرور متعلقان بخير لأنه اسم تفضيل على غير القياس (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص والتاء اسمها وجملة تعلمون في محل رفع خبرها وجواب الشرط محذوف وجملة الشرط استئنافية (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) الواو عاطفة واتقوا فعل أمر والواو فاعل ويوما مفعول وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل والجملة في محل نصب صفة ليوما وفيه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وإلى الله جار ومجرور متعلقان بترجعون (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وتوفى فعل مضارع مبني للمجهول وكل نفس نائب فاعل وما اسم موصول في محل نصب مفعول به ثان وجملة كسبت لا محل لها لأنها صلة (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يظلمون في محل رفع خبر وجملة وهم لا يظلمون في محل نصب حال.(1/432)
الفوائد:
تختص كان بأمور تشاركها فيها أخواتها، وبأمور تنفرد بها.
وتؤخذ هذه الأمور من كتب النحو. وهي هنا مختصة بالتمام وتشاركها فيها أخواتها إلا ثلاثة أفعال لزمت النقصان، وهي ما فتيء وما زال وليس. ومن مسائلها الهامة في التمام المثال المشهور: «كائنا ما كان» . ونستعمله في كتاباتنا كثيرا، ولذلك نرى إعرابه تسهيلا للطالبين، وقد اختلف النحاة في إعرابه فقال الفارسي: هما تامان في الموضعين، وما مصدرية وهي وما بعدها مصدر مؤول في محل رفع فاعل كائنا، أي كونه. وقيل: هما ناقصان في الموضعين، وفي «كائنا» ضمير هو اسمها والخبر ما الموصولية وجملة كان صلة ما واسم كان ضمير مستتر فيها وخبرها محذوف تقديره إياه، واسم «كائنا» المستتر وخبر كان عائدان على الشخص المضروب في قولك:
لأضربنه كائنا الذي كان إياه، وكائنا حال من مفعول لأضربنه.(1/433)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
[سورة البقرة (2) : آية 282]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
اللغة:
(تَدايَنْتُمْ) : دان بعضكم بعضا ويقال: داينت الرجل. أي عاملته. قال رؤية:
داينت أروى والدّيون تقضى ... فمطلت بعضا وأدّت بعضا
ويقولون: أبعت بدين أم بعين؟ وهي النقد. ودنت وأدّنت وتديّنت واستدنت: أي استقرضت، قال كثيّر:
قضى كلّ ذي دين فوفّى غزيمه ... وعزّة ممطول معنّى غريمها(1/434)
(وَلْيُمْلِلِ) من الإملال والاملاء بمعنى واحد، هذا وقد أبدلت الياء من حروف صالحة العدة على سبيل الشذوذ، ولا يقاس عليه. ومن ذلك قولهم: أمليت الكتاب، قال تعالى: «فهي تملى عليه بكرة وأصيلا» .
والأصل: أمللت، وقال تعالى: «وليملل الذي عليه الحقّ» . والوجه أنهما لغتان، لأن تصرفهما واحد، تقول: أملى الكتاب يمليه إملاء، وأملّه يملّه إملالا، فليس جعل أحدهما أصلا والآخر فرعا بأولى من العكس. وقالوا: قصّيت أظفاري، حكاه ابن السّكّيت في قصّصت، أبدلوا من الصاد الثالثة ياء لثقل التضعيف. ويجوز أن يكون المراد تقصّيت أظفاري أي أتيت على أقاصيها، لأن المأخوذ أطرافها، وطرف كل شيء أقصاه. وهذا بحث يطول فيه القول، فنجتزىء بما تقدّم، وستقع على أمثلة صالحة أخرى في هذا الكتاب.
(فَرِهانٌ) بكسر الراء: مصدر أو جمع رهن. والرهن ما يوضع تأمينا للدين، وحبس الشيء مطلقا، والشيء المرهون. وقرىء فرهن بضمتين: جمع رهن أيضا.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها وجملة النداء وما يليها مستأنفة مسوقة للشروع في بيان أحكام الدين والتعامل مع الناس على وجه يكفل المصلحة الاجتماعية العامة (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب وجملة تداينتم في محل جر بالاضافة وبدين متعلقان بتداينتم وإلى أجل متعلقان بمحذوف صفة لدين ومسمى صفة لأجل والفاء رابطة لجواب إذا واكتبوه فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة(1/435)
المقترنة بالفاء لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) الواو عاطفة واللام لام الأمر ويكتب فعل مضارع مجزوم باللام وبينكم ظرف مكان متعلق بيكتب وكاتب فاعل وبالعدل متعلقان بكاتب بمثابة الصفة له أي بكاتب مأمون على ما يكتب بالسوية والتحوّط، لا يزيد على ما يجب أن يكتب، ولا ينقص. ولا داعي لما ذكره ابن عطية من أن الباء متعلقة بقوله تعالى «وليكتب» وليست متعلقة بكاتب، لأنه كان يلتزم أن لا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه، وقد يكتبها الصبيّ والعبد المتحوط إذا أقاما فقهها (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ) الواو عاطفة ولا ناهية ويأب فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة وكاتب فاعل وأن وما في حيزها مصدر مؤول في محل نصب بنزع الخافض، لأن أبى بمعنى امتنع، وكما علمه الله: الجار والمجرور متعلقان بمحذوف مفعول مطلق أو نصب على الحال وجملة علمه لا محل لها لأنها صلة الموصول الحرفي (فَلْيَكْتُبْ) الفاء الفصيحة أي إذا علمتم هذا الحكم فليكتب واللام لام الأمر، يكتب فعل مضارع مجزوم باللام والفاعل هو (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) الواو عاطفة والذي فاعل يكتب وعليه متعلقان بمحذوف خبر مقدم والحق مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صلة الموصول (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) الواو عاطفة واللام لام لأمر ويتق فعل مضارع مجزوم باللام وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل ضمير مستتر تقديره هو ولفظ الجلالة مفعول به وربه بدل (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) الواو عاطفة ولا ناهية ويبخس فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل هو، منه جار ومجرور متعلقان بيبخس أو بمحذوف حال لأنه كان صفة لقوله «شيئا» وتقدمت عليه. وشيئا مفعول مطلق أو مفعول به أي(1/436)
لا ينقص منه شيئا (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً) الفاء استئنافية وإن شرطية وكان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والذي اسم كان وعليه جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم والحق مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية لا محل لها لأنها صلة، وسفيها خبر كان وأو حرف عطف وضعيفا عطف على سفيها (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) أو حرف عطف ولا نافية ويستطيع فعل مضارع وأن وما في حيزها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول يستطيع وهو فاعل أو تأكيد للفاعل المستتر (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) الفاء رابطة لجواب الشرط واللام لام الأمر ويملل فعل مضارع مجزوم باللام ووليه فاعل وبالعدل متعلقان بمحذوف حال أي عادلا ولك أن تعلقهما بقوله فليملل والجملة في محل جزم جواب الشرط (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) الواو عاطفة واستشهدوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وشهيدين مفعول به ومن رجالكم متعلقان بمحذوف صفة أو بقوله واستشهدوا (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ) الفاء استئنافية وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكونا فعل مضارع مجزوم بلم وهو فعل الشرط والألف اسمها ورجلين خبرها (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) الفاء رابطة لجواب الشرط ورجل خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ والخبر محذوف وامرأتان عطف على رجل والتقدير فالشهود رجل وامرأتان أو فرجل وامرأتان يشهدون والجملة في محل جزم جواب الشرط (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة وجملة ترضون لا محل لها لأنها صلة ومن الشهداء جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) أن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب على أنه مفعول من أجله، لأن الضلال سبب(1/437)
للتذكير، فكأنه قيل: إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى، وسيأتي المزيد من هذا الإعراب في باب الفوائد وإحداهما فاعل تضل (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) الفاء
حرف عطف وتذكر عطف على أن تضلّ وإحداهما فاعل والأخرى مفعول به (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) الواو عاطفة ولا ناهية ويأب فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف حرف العلة والشهداء فاعل وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب وما زائدة ودعوا فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل والجملة في محل جر بالاضافة (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) الواو عاطفة ولا ناهية وتسأموا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وأن وما في حيزها مفعول به لتسأموا، وصغيرا حال والواو حرف عطف و «كبيرا» عطف على «صغيرا» وإلى أجله متعلقان بمحذوف حال أي مستقرا في الذمة الى حلوله، ولا يجوز تعليقه بتكتبوه لعدم استمرار الكتابة الى أجله (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) الجملة لا محل لها لأنها مفسرة، وذلكم مبتدأ وأقسط خبره. ويلاحظ أنه ورد اسم التفضيل من الرباعي والقياس أن يأتي من الثلاثي، لأن الفعل أقسط أي عدل، أما قسط الثلاثي فهو بمعنى جار، قال تعالى: «وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا» . وعند ظرف مكان متعلق بأقسط ولفظ الجلالة مضاف إليه وأقوم عطف على أقسط وللشهادة متعلقان بأقوم، والمعنى أصح وأثبت (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) الواو عاطفة وأدنى عطف على أقوم وأن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، أي أقرب من انتفاء الريبة والجار والمجرور متعلقان بأدنى (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً) إلا أداة استثناء وأن وما في حيزها مصدر منصوب على الاستثناء المنقطع،(1/438)
لأنها تجارة حاضرة لا تحتاج الى استشهاد أو كتابة، على أنه يصح اعتباره استثناء متصلا، كأنه استثناء من التجارة، فالأمر بالكتابة ساري المفعول، واستثنى الكتابة بالتجارة الحاضرة. وتكون فعل مضارع واسمها مستتر تقديره هي أي التجارة، وتجارة خبر. ويصح اعتبار «تكون» تامة، وتجارة فاعل، وقد قرىء بما جميعا.
وحاضرة نعت لتجارة (تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) الجملة صفة ثانية لتجارة وبينكم ظرف مكان متعلق بتديرونها (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) الفاء عاطفة عطفت هذه الجملة على جملة «إلا أن تكون تجارة» أي تسبب عن ذلك رفع الجناح في عدم الكتابة. وليس فعل ماض ناقص وعليكم متعلقان بمحذوف خبر مقدم وجناح اسمها المؤخر وأن وما في حيزها مصدر مؤوّل منصوب بنزع الخافض، أي في أن لا تكتبوها والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لجناح (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) الواو عاطفة وأشهدوا فعل أمر والواو فاعل وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب وجملة تبايعتم في محل جر بالإضافة والجواب محذوف تقديره فأشهدوا، ولك أن تجرد إذا عن الشرطية وتجعلها لمجرد الظرفية الزمانية، أي افعلوا الشهادة وقت التبايع (وَلا يُضَارَّ) الواو عاطفة ولا ناهية ويضار فعل مضارع يحتمل أنه مبني للمعلوم فأصله يضارر بكسر الراء الأولى، ويحتمل أنه مبني للمجهول فأصله يضارر بفتحها، وهو مجزوم على كل حال، وحرك بالفتح لخفته لأنه مضعف (كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) كاتب فاعل أو نائب فاعل والواو حرف عطف ولا نافية وشهيد عطف على كاتب (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) الواو عاطفة وإن شرطية وتفعلوا فعل مضارع فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون والفاء رابطة لجواب الشرط(1/439)
وإن واسمها، وفسوق خبرها وبكم متعلقان بمحذوف صفة لفسوق، أي لاحق. والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط (وَاتَّقُوا اللَّهَ) الواو عاطفة واتقوا فعل أمر والواو فاعل ولفظ الجلالة مفعول به (وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) الواو استئنافية ولا مكان لجعلها حالية، كما قرر الجلال وتابعه كثيرون من المفسرين والمعربين، لأن المضارع المثبت لا تباشره واو الحال، وإن حاول بعضهم تقدير مبتدأ محذوف لتكون الجملة اسمية أي وهو يعلمكم لما فيه من تكلف، وفي جعلها عاطفة خلاف للأولى، لأن فيه ارتكاب عطف الخبر على الإنشاء، وذلك موضع خلاف سيرد في مكانه من هذا الكتاب والله فاعل يعلمكم والكاف مفعول يعلمكم (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وبكل شيء متعلقان بعليم وعليم خبر الله.
البلاغة:
لعل هذه الآية من أحفل الآيات بذكر شئون المعايش التي تنتظم بها أمور العباد، وتضمن لمتبعها حسن المعاد، وقد شدد الله سبحانه فيها على حسن المعاملة التي هي جماع أمر الدين وعموده، وبالغ في التوصية بحفظ المال الحلال، وإحاطته بما يصونه من الهلاك، ولذلك اشتملت على ضروب من التوكيدات نوجزها فيما يلي، تاركين للقارىء الرجوع الى المظان المعروفة.
1- أمر بالكتابة بقوله: «فاكتبوه» حذرا من الاستهداف للخطأ أو النسيان.
2- وذكر «بدين» مع أنه مفهوم من قوله: «تداينتم» للتأكيد وليرجع إليه الضمير بقوله: «فليكتبوه» إذ لو لم يذكر(1/440)
لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين، وفي ذلك إخلال بحسن النظم، وليدلّ على العموم، أي: أيّ دين قليلا كان أم كثيرا.
3- وذكر «الى أجل مسمى» على سبيل التأكيد، وليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما بالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام.
ولو قال الى الحصاد مثلا لم يجز لعدم التسمية.
4- وأناط الكتابة بكاتب بالعدل متّسم به.
5- ونهى عن أن يأبى من يطلب إليه الكتابة ما كلّف به.
6- وكرر الأمر بالكتابة بصيغة أخرى تشددا في الكتابة فقال:
«فليكتب» .
7- وأمر الذي عليه أن يملي على الكاتب بالعدل، لئلا تبقى له حجة.
8- وتحوّط للأمر بأن أمره باتقاء الله بقوله: «وليتق الله ربه» .
9- وعقب على الاتقاء بما يحتمه من عدم البخس، واستعمل هذه اللفظة التي هي في الأصل اللغوي للعين العوراء، يقال: بخست عينه، أي عورت. ولا يخفى ما في هذا من التصوير المجسد الحاكي.
10- واحتاط بما قد يطرأ على الأناسيّ من السأم والملالة، وما يترتب عليهما من تفريط، فتعم حينئذ الفوضى، ويطرأ الخلل، لأنهم لم يستوفوا كتابة ما شهدوا عليه، سواء أكان كبيرا أم صغيرا.
11- وبعد أن أوصى بما أوصى، نبّه الى أن ذلك هو السبيل الأقوم، والطريق الأعدل، صرح باسمه تعالى فقال: «عند الله» تبيانا للمصير المعلوم، وتحذيرا من تفريط المفرط وافتئات المفتئت.(1/441)
12- وختم الآية بذكر الله ثلاث مرات متعاقبة، لإدخال الروع في القلوب، وإحداث المهابة في النفوس، وترسيخ الحكم في الأذهان، والإشعار بأنه تعالى مطلع على السرائر، لا تغرب عنه همسات القلوب، وخلجات الضمائر.
الفوائد:
مثّل الزمخشري لقوله تعالى: «أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى» بقولهم: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، وأعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه. فكأنه قيل: إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى. وتساءل التفتازاني في حواشيه على الكشاف فقال: «ومما ينبغي أن يتعرض له وجه تكرّر «إحداهما» ولا خفاء في أنه ليس من وضع المظهر موضع المضمر، إذ ليست المذكورة هي المناسبة إلا أن يجعل «إحداهما» الثانية في موقع المفعول، ولا يجوز تقدم المفعول على الفاعل في موضع الإلباس. نعم يصح أن يقول: «فتذكر الأخرى» فلا بد للعدول من نكتة» . ولم يتعرض التفتازاني للنكتة، وترك قارئه في حيرة من أمره. على أن الدماميني ذكر في شرح المغني أن المقصود هو كون التذكير من إحداهما للأخرى كيفما قدّر لا يستقيم إلا كذلك، ألا ترى أنه لو قيل: أن تضلّ إحداهما فتذكرها الأخرى، وجب أن يكون ضمير المفعول عائدا على الضالة، فيتعيّن لها، وذلك مخل بالمعنى المقصود، لأن الضالة الآن في الشهادة قد تكون هي الذاكرة لها في زمان آخر، فالمذكرة حينئذ هي الضالة، فإذا قيل: فتذكرها الأخرى لم يفد ذلك لتعيّن عود الضمير الى الضالة. وإذا قيل: فتذكر إحداهما الأخرى، كان مبهما في واحدة(1/442)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
منهما. فلو ضلت إحداهما فذكّرتها الأخرى فذكرت كان داخلا، ثم لو انعكس الأمر والشهادة بعينها في وقت آخر اندرج أيضا تحته لوقوع قوله «فتذكر إحداهما الأخرى» غير معيّن، فظهر الوجه الذي لأجله عدل عن «فتذكرها» الى «فتذكر إحداهما الأخرى» .
وفي النفس من هذا التقرير ما لا يحتمله هذا الكتاب.
[سورة البقرة (2) : آية 283]
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
الإعراب:
(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) الواو استئنافية وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وعلى سفر جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كنتم (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) الواو حالية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتجدوا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وكاتبا مفعول به والجملة حالية ويجوز لك أن تجعل الواو عاطفة فتكون الجملة معطوفة على فعل الشرط فهي في محل جزم (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) الفاء رابطة لجواب الشرط ورهان مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة لأنها وصفت، ومقبوضة صفة والخبر محذوف تقديره تستوثقون بها، ولك أن تعربها خبرا لمبتدأ محذوف تقديره: فالمعتمد عليه رهان، لأن السفر مظنة لإعواز الكتب.(1/443)
وتفاصيل المسألة مبسوطة في كتب الفقه والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) الفاء عاطفة وإن شرطية وأمن فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وبعضكم فاعل وبعضا مفعول به (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) الفاء رابطة لجواب الشرط واللام لام الأمر ويؤد فعل مضارع مجزوم باللام وعلامة جزمه حذف حرف العلة والجملة في محل جزم فعل الشرط والذي اسم موصول فاعل واؤتمن فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو والجملة صلة وأمانته مفعول به ليؤد (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) تقدم إعرابه بحروفه (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتكتموا فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والشهادة مفعول به (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويكتمها فعل الشرط والهاء مفعوله والفاء رابطة لجواب الشرط وان واسمها، وآثم خبرها وقلبه فاعل آثم لأنه اسم فاعل. ويصح في مثل هذا التركيب أن يكون الضمير في فإنه للشأن وآثم خبر مقدم وقلبه مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر إن. والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وبما متعلقان بعليم وجملة تعملون لا محل لها لأنها صلة الموصول وعليم خبر «الله» .
البلاغة:
1- الاستعارة التصريحية التبعية في قوله تعالى: «على سفر» فقد شبه تمكنهم من السفر وارتياضهم عليه وتمرسهم به بتمكن الراكب من ركوبه.(1/444)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
2- المجاز العقلي في قوله: «آثم قلبه» فقد أسند الإثم الى القلب، والمقصود الإنسان كله لا قلبه وحده لسر عجيب، وهو أن القلب بمثابة الرأس للأعضاء، وهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وقد تعلق الشعراء بأذيال هذه البلاغة وحسبنا أن نذكر تلفت القلب في قول الشريف الرضي البديع:
ولقد وفقت على ديارهم ... وطلولها بيد البلى نهب
وبكيت حتى ضجّ من لغب ... نضوي ولج بعذلي الركب
وتلفتت عيني فمذ خفيت ... عني الطلول تلفت القلب
وصرح دعبل الخزاعي بجناية القلب والطرف بقوله:
أين الشباب وأية سلكا ... لا أين يطلب ضلّ بل هلكا
لا تأخذا بظلامتي أحدا ... قلبي وطرفي في دمي اشتركا
لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى
[سورة البقرة (2) : الآيات 284 الى 286]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)(1/445)
اللغة:
(الوسع) : ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه.
(الطاقة) : المجهود والقدرة. وهي مصدر جاء على حذف الزوائد، والأصل الإطاقة.
(الإصر) : العب، وأصره حبسه، وبابه ضرب. والمراد به التكاليف الشاقة التي ينوء بها الجسم، وتعيا عنها النفس.
الإعراب:
(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف لا محل له من الإعراب مسوق للاستدلال على قوله: «والله بما تعلمون عليم» وغلب غير العقلاء على غيرهم من العقلاء باستعمال «ما» لأنهم أكثر.
والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وفي السموات جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له من الإعراب لأنه صلة الموصول، وما في الأرض عطف على «ما في السموات» (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان التكليف. والمؤاخذة تكون بالخواطر التي(1/446)
لا ندحة للمرء عنها. وقد نظم بعضهم مراتب القصد بقوله:
مراتب القصد خمس: هاجس ذكروا ... وخاطر فحديث النفس فاستمعا
يليه همّ فعزم كلها رفعت ... سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا
وتفصيل ذلك مبسوط في المطوّلات فليرجع إليها من يشاء.
وإن شرطية وتبدوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والجملة لا محل لها وما اسم موصول مفعول به وفي أنفسكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول (أَوْ تُخْفُوهُ) عطف على تبدوا والهاء مفعول به (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) جواب الشرط مجزوم والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به والجار والمجرور متعلقان بيحاسبكم، والله فاعل والجملة لا محل لها (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) الفاء استئنافية ويغفر فعل مضارع مرفوع، أي فهو يغفر، ويجوز أن تكون الفاء عاطفة ويغفر فعل مضارع مجزوم بالعطف على يغفر، وكلتا القراءتين من السبع، وقرىء أيضا بالنصب على إضمار «أن» فينسبك من ذلك مصدر مرفوع معطوف على متوهم، أي تكن محاسبة فغفران. ويتخرّج على ذلك بيت النابغة الذبيانيّ:
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والشهر الحرام
ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجب الظهر ليس له سنام
يروى بجزم نأخذ ورفعه ونصبه، على أن سيبويه استضعف النصب لأن القارئ الزعفراني ليس من السبعة، ولأنه موجب. ونص(1/447)
عبارة سيبويه «وقد يجوز النصب في الواجب في ضرورة الشعر وهو ضعيف في الكلام» . ولمن جار ومجرور متعلقان بيغفر وجملة يشاء صلة (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) عطف على ما تقدم (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بقدير، وقدير خبر «الله» (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) جملة مستأنفة مسوقة للإخبار بأن الرسول صلى الله عليه وسلم آمن بكل ما فرض الله على العباد، من الصلاة والزكاة والصوم والحج والطلاق والإيلاء والحيض والجهاد، وما ورد ذكره في السورة من قصص الأنبياء. وآمن الرسول فعل وفاعل وبما جار ومجرور متعلقان بآمن وجملة أنزل لا محل لها لأنها صلة الموصول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وإليه جار ومجرور متعلقان بأنزل ومن ربه جار ومجرور متعلقان بأنزل أيضا، ولك أن تعلقهما بمحذوف حال أي حالة كونه نازلا من ربه لأنه يضمن السعادة للمجتمع البشري (وَالْمُؤْمِنُونَ) يجوز أن تكون الواو عاطفة والمؤمنون عطف على الرسول، فيكون الوقف هنا. ويشهد لهذا الإعراب ما قرأه علي بن أبي طالب: «وآمن المؤمنون» فأظهر الفعل، ويجوز أن تكون الواو استئنافية والمؤمنون مبتدأ أول (كُلٌّ آمَنَ) كل مبتدأ ثان وجملة آمن خبره والجملة الاسمية خبر المبتدأ الأول وهو المؤمنون والرابط محذوف على الوجه الثاني. وعلى الوجه الأول تكون جملة «كل آمن» مستأنفة. وساغ الابتداء بكل وهو نكرة لأنه بنية الإضافة أي كل واحد منهم والتنوين عوض عن الكلمة المحذوفة (بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) الجار والمجرور متعلقان بآمن وما بعده عطف عليه (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) هذه الجملة مقول قول محذوف وجملة القول في محل نصب على الحال أي قائلين لا نفرق، ولا نافية ونفرق فعل مضارع مرفوع وبين ظرف مكان متعلق بنفرق(1/448)
وأحد مضاف إليه ومن رسله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأحد، ولم يقل: بين آحاد، لأن الأحد يتناول الواحد والجمع كما في قوله تعالى «فما منكم من أحد عنه حاجزين» فوصفه بالجمع لكونه في معناه ولذلك دخل عليه بين وسيرد في هذا الكتاب تفصيل ممتع عن أحد (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) الواو استئنافية وقالوا فعل ماض والواو فاعل وجملتا سمعنا وأطعنا مقول القول (غُفْرانَكَ رَبَّنا) مفعول مطلق بإضمار عامله، ومنه قولهم: غفرانك لا كفرانك، أي نستغفرك ولا نكفرك. وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) الواو عاطفة والمعطوف عليه محذوف داخل في حيز القول أي:
قائلين منك المبدأ وإليك المصير. وإليك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم والمصير مبتدأ مؤخر (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) جملة مستأنفة مسوقة لإزالة الحرج عن النفوس ولبيان أن المؤاخذة قاصرة على ما في الوسع والطاقة فما عداه من خواطر النفس وهواجسها لا محاسبة عليه وبذلك يزول الإشكال الذي ساور بعض المفسرين فقد قالوا: إن الخطأ والنسيان مغفوران غير مؤاخذ بهما، فما معنى الدعاء بذلك وهو يكاد يكون من تحصيل الحاصل؟ ولا نافية ويكلف فعل مضارع مرفوع والله فاعله ونفسا مفعول به أول وإلا أداة حصر ووسعها مفعول به ثان (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) الجملة مفسرة لما أجمله في قوله «وسعها» وسيأتي بيان ذلك في باب البلاغة.
ولها جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وجملة كسبت لا محل لها لأنها صلة الموصول، وعليها ما اكتسبت: عطف على ما تقدم وقد ذكر إعرابه (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) ربنا منادى مضاف ولا ناهية معناها هنا الدعاء وتؤاخذنا فعل مضارع(1/449)
مجزوم بلا ونا مفعول به والفاعل أنت والجملة داخلة في حيز القول المتقدم وجملة النداء استئنافية (إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) إن شرطية ونسينا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ونا فاعل أو أخطأنا عطف عليه والجواب محذوف أي فلا تؤاخذنا وجملة الشرط وجوابه في محل نصب على الحال (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) تقدم إعرابه وتوسيط النداء بين المتعاطفين لإظهار مدى الضراعة والاسترحام والمبالغة في التذلل والاعتراف لله سبحانه بربوبيته (كَما حَمَلْتَهُ) تقدم في مثل هذا التركيب أنه مفعول مطلق أو حال وما مصدرية على كل حال (عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) على الذين متعلقان بجملة ومن قبلنا متعلقان بمحذوف صلة الذين أي كانوا من الأمم السالفة (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) عطف على ما تقدم وما مفعول به ثان لتحملنا ولا نافية للجنس وطاقة اسمها المبني على الفتح في محل نصب ولنا جار ومجرور متعلقان بطاقة وبه جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لا (وَاعْفُ عَنَّا) دعاء معطوف على ما تقدم وعنا متعلقان بأعف (وَاغْفِرْ لَنا) عطف آخر (وَارْحَمْنا) عطف آخر (أَنْتَ مَوْلانا) أنت ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ ومولانا خبر والجملة مستأنفة بمثابة الاعتراف لله تعالى بأنه المولى، لأن المولى مصدر ميمي من ولي يلي، والمعنى أنت مولانا بك نلوذ، وإليك نلتجىء، وعليك نتكل، ومن حق المولى أن ينصر من يليه ويجيره إذا خاف ويحوطه بعنايته ويكلأه برعايته. (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) الفاء للتعليل والجملة مسوقة لتعليل ما تقدم، فإن كونه مولانا سبب سبب لطلب النصرة منه، وعلى القوم متعلقان بانصرنا وذكر لفظ القوم للتعميم لأن النصر على الأفراد لا يستلزم النصر على المجموع فدفع ذلك الإيهام بذكر لفظ القوم والكافرين صفة.(1/450)
البلاغة:
في هذه الأبيات طائفة من فنون البلاغة نجملها بما يلي:
1- حسن الختام: وقد تقدّم بحثه، ومن حق سورة البقرة وقد اشتملت على العديد من الأحكام، وانطوت على التشريع البيان- أن يتناول ختامها شكر المنعم الذي منّ على الإنسان بالعقل ليفكّر، ومن حق المنعم عليه أن يعترف لمن أسدى إليه الآلاء أن يشكرها ولمن نصب أمامه محاريب الفكر ومجالي الإبداع أن يفكر فيها ويتدبرها، ويشهد لمن أبدعها بالحول والطّول والانفراد بالوحدانية المتجلية على قلوب المؤمنين. فبالفكر وحده يحيا الإنسان وبالفكر استدل على وجوده وما أجمل قوله صلى الله عليه وسلم: «السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها، فإن تعلمها بركة، وتركها حسرة، ولن تستطيعها البطلة» قيل: وما البطلة؟ قال: السحرة. ومعنى كونها فسطاط القرآن أنها اشتملت على معظم أمور الدين أصولا وفروعا، والإرشاد الى ما فيه حسن المعايش في الدنيا والفوز في الآخرة.
2- المقابلة: في قوله: «لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» فقد طابق بين لها وعليها، وبين كسبت واكتسبت. فالفعل الأول يختص بالخير، والفعل الثاني يختص بالشر فإن في الاكتساب اعتمالا، والشر تتشهّاه النفس وتجنح إليه بالطبع بخلاف الخير فإنه يهبط على النفس كما يهبط الفيض من آلاء الله، وكما يشرق اليقين في النفس.
إشراقا جعل من فلاسفة الإشراق مؤمنين، ومن الغزالي وديكارت أوّابين متبتّلين ...(1/451)
الفوائد:
1- (بَيْنَ) ظرف للمكان أو الزمان لا يضاف إلا لمتعدّد، وقد أضيف في الآية الى «أحد» لأنه اسم لمن يصلح أن يخاطب، يستوي فيه الواحد والاثنين والجمع كما يستوي فيه المذكر والمؤنث. فمعنى لا نفرّق بين أحد من الرسل: لا نفرق بين جمع من الرسل. وقد اختلف علماء اللغة: هل تعاد بين بعد ورودها بين المتعاطفين أم لا؟
نحو: جلست بين زيد وعمرو. هل يقال: جلست بين زيد وبين عمرو؟
أجاز ذلك قوم على أن تكون بين للتأكيد.
ومن روائع النكت أنه لا يعطف بعدها إلا بالواو فلا يقال:
جلست بين زيد فعمرو. وقد اعترض على ذلك بقول امرئ القيس في مطلع معلقته:
فقا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدّخول فحومل
قال الأصمعي: الصواب أن يقال: بين الدخول وحومل، لأن البينية لا يعطف عليها بالفاء لأنها تدل على الترتيب، وقال يعقوب بن السكيت في الدفاع عن امرئ القيس: إنه على حذف مضاف وأن التقدير: بين أهل الدخول فحومل. وقال المرادي: إنه على اعتبار المتعدّد حكما لأن الدخول مكان لا يجوز أن يشتمل على أمكنة متعددة، كما تقول قعدت بين الكوفة، تريد بين دورها وأماكنها.
هذا وتشبع حركة النون فتصير «بينا» و «بينما» . وتضاف عندئذ الى الجمل، قال أبو ذؤيب:
بينا تعنقه الكماة وروغه ... يوما أتيح له جريء سلفع(1/452)
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
(3) سورة آل عمران مدنية وآياتها مائتان
[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
(الم) تقدم الكلام على فواتح السّور في أول البقرة.
(التوراة والإنجيل) : اسمان أعجميان، وقيل عربيان. وعلى القول بعربيتهما فالتوراة مشتقة من قولهم: ورى الزّند إذا قدح فظهر منه نار. فلما كانت التوراة فيها ضياء يخرج به من الضلال الى الهدى كما يخرج بالنور من الظلام الى النور سمي هذا الكتاب بالتوراة.
وقيل: هي مشتقة من وريت في كلامي من التورية. وسميت التوراة لأن فيها تلويحات وإيحاءات ومعاريض. أما الإنجيل فهو على رأي القائلين بعربيته مشتق من النجل وهو التوسعة. ومنه قولهم: عين نجلاء أي واسعة. وسمي الإنجيل بذلك لأن فيه توسعة لم تكن في التوراة.(1/453)
الإعراب:
(الم) خبر لمبتدأ محذوف وقد تقدم القول فيه مفصّلا (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الله مبتدأ ولا نافية للجنس وإله اسمها وإلا أداة حصر وهو بدل من محل لا واسمها على الصحيح أو من الخير المحذوف أي لا إله موجود إلا هو، والجملة خبر «الله» وقد تقدّم الكلام مفصلا في إعراب كلمة الشهادة (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) خبر ثان وثالث ل «الله» أو خبران لمبتدأ محذوف أي هو الحيّ القيوم (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) الجملة خبر رابع ل «الله» أو خبر ثان إن جعلنا الحي القيوم خبرين لمبتدأ محذوف. ونزل فعل ماض مبني على الفتح وعليك متعلقان بنزل والكتاب مفعول به وبالحق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الكتاب أي متلبسا بالحق (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) مصدقا: حال مؤكدة واللام حرف جر وما اسم موصول في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بقوله مصدقا وبين ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول ويديه مضاف إليه مجرور بالياء لأنه مثنى وحذفت النون للإضافة والهاء مضاف إليه (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) عطف على ما تقدم (مِنْ قَبْلُ) جار ومجرور متعلقان بأنزل (هُدىً لِلنَّاسِ) حال من التوراة والإنجيل ولم يثنّ لأنه مصدر أي هادين.
ويجوز إعراب هدى مفعولا من أجله أي أنزل هذين الكتابين لأجل هداية الناس. وللناس متعلقان يهدى (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) الواو حرف عطف وجملة أنزل الفرقان عطف على جملة أنزل التوراة والإنجيل.
من قبيل عطف العام على الخاص أي الكتب التي تفرق بين الحق والباطل (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ) جملة مستأنفة للتحدث عن وفد نجران والتفاصيل مبسوطة في المطوّلات. وإن واسمها. وجملة(1/454)
كفروا صلة الموصول وبآيات الله متعلقان بكفروا (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وشديد صفة والجملة الاسمية في محل رفع خبر إن (وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) الواو استئنافية والله مبتدأ وعزيز خبر أول وذو انتقام خبر ثان (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) إن واسمها، وجملة لا يخفى عليه شيء خبرها وفي الأرض متعلقان بمحذوف صفة لشيء ولا في السماء عطف على ما تقدم (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ) جملة مستأنفة أيضا مسوقة لبيان علمه سبحانه واطلاعه على ما لا يدخل تحت الوجود وهو تصوير عباده في أرحام أمهاتهم وهو مبتدأ والذي خبره وجملة يصوركم صلة الموصول وفي الأرحام متعلقان بيصوركم (كَيْفَ يَشاءُ) كيف هنا أداة شرط في محل نصب على الحال ولم تجزم لعدم اتصال «ما» بها. ومفعول يشاء محذوف تقديره تصويركم والجملة حالية (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تقدم إعرابه وكرره لتأكيد الكلام و (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) خبران لمبتدأ محذوف تقديره هو.
البلاغة:
1- المجاز في قوله: «لما بين يديه» والمراد ما أمامه.
2- الطباق بين «الأرض» و «السماء» .
3- الإيجاز بالحذف، فقد حذف مفعول «يشاء» للغرابة وإظهار قدرة الله تعالى.(1/455)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
[سورة آل عمران (3) : آية 7]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7)
اللغة:
(مُحْكَماتٌ) : أحكمت عباراتها، ووضحت دلالاتها، وحفظت من الاحتمال والاشتباه.
(مُتَشابِهاتٌ) فيها احتمال للتأويل. وفي هذه الكلمة إيهام، فإن مفردها متشابه، وكيف يتشابه الشيء مع نفسه؟ وإنما يقع التشابه بين الاثنين. ومثله يقتتلان، والمفرد لا يقتتل، فكيف يقتتل الواحد مع نفسه؟ وقد وجه هذا الاعتراض الى تقي الدين بن تيمية الإمام المشهور فقال لمن سأله: «هذا ذهن جيد» . ثم عدل عن الجواب. والذي يبدو للخاطر أن العرب نطقت بألفاظ من هذه الصيغة ولم ترد بها المفاعلة كقولهم: طابقت النّعل، وعاقبت اللص، وخامرت الحبّ، وعاقرت الخمر. ولو فرضنا أن الصيغة على أصل المفاعلة كان الجواب أن التشابه لا يكون إلا بين اثنين فما فوقهما، وإذا اجتمعت الأشياء المتشابهة كان كل واحد متشابها للآخر، فلما لم يصح التشابه إلا في حالة الاجتماع وصف بالجمع لأن كل واحد من مفرداته يشابه الآخر.
الحكمة في المتشابه:
فإذا خطر لك أن تسأل عن السر في الجنوح الى ذكر المتشابه به في القرآن، والعدول عن تعميم الحكم؟ قيل إن القرآن في الأصل نزل على أسلوب العرب وبألفاظهم ووفقا لكلامهم، وهو على ضربين:(1/456)
منه المحكم الذي لا يخطئه السامع، ولا يغرب عن الفهم، ومنه ما حفل بضروب المجازات، وأنواع الكنايات والإشارات والتلويحات.
وقد كان هذا الضرب الثاني، أفعل في نفوسهم، وأكثر استهواء لهم، فأنزل القرآن مفرغا في الأسلوبين، حاويا للنوعين، ليكون التحدي أعم وأشمل، ولو نزل كله محكما لما ترددوا في التماس المطاعن، ولما أحجموا عن المكابرة واللجاج والاعتراض، ولقالوا: هلّا نزل بالضرب الذي نستحسنه، ونميل إليه؟ هذا من جهة، ومن جهة ثانية لما يتميّز به المتشابه من كدّ القرائح في استخراج المغالق واكتناه المرامي، وحسر الستار عن الطرائف التي تتعالى على النظرة السطحية البدائية، حتى إذا فتح الله عليه وتمكن من سبر أغوار المتشابه، كان إيمانه أرسخ ويقينه أقوى من أن تعصف به الشبهات.
(الزيغ) الميل عن الحق والجنوح الى الباطل. والزاي والياء إذا وقعتا فاء وعينا للكلمة أفادتا هذا المعنى وسمي الزيت زيتا لأنه سائل يميل بسرعة، وزاغت الشمس تزيغ مالت، وقس على ذلك.
الإعراب:
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) كلام مستأنف مسوق لتفصيل آيات الكتاب وأنها قسمان: قسم يفهمه الناس، وقسم لا يفهمونه لقصورهم وعجزهم. وهو مبتدأ والذي خبره وجملة أنزل عليك الكتاب لا محل لها لأنها صلة الموصول وعليك متعلقان بأنزل والكتاب مفعول به (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) الجملة حال من الكتاب والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وآيات مبتدأ مؤخر ومحكمات صفة لآيات (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) الجملة صفة ثانية لآيات وهن ضمير منفصل في محل(1/457)
رفع مبتدأ وأم الكتاب خبره، وأخبر عن الجمع بالواحد لأن كل واحدة بمثابة أم واحدة (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) عطف على آيات محكمات (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) الفاء استئنافية مسوقة لتفضيل موقف الناس منه، وأما حرف شرط وتفصيل والذين مبتدأ وفي قلوبهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وزيغ مبتدأ مؤخر والجملة صلة الموصول (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) الفاء رابطة لجواب أما وجملة يتبعون خبر الذين واستغنى عن الجواب اكتفاء بالفاء وما اسم موصول مفعول به وجملة تشابه صلة الموصول ومنه متعلقان بتشابه وابتغاء مفعول لأجله والفتنة مضاف إليه (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) عطف على ابتغاء الفتنة (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) الواو حالية وما نافية ويعلم فعل مضارع مرفوع وتأويله مفعول به مقدم والجملة في محل نصب على الحال (إِلَّا اللَّهُ) إلا أداة حصر والله فاعل يعلم مؤخر (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ) تكلم المعربون والمفسرون كثيرا وأطالوا حول هذه الآية، والقول الفصل فيها أنه يجوز أن تكون الواو عاطفة والراسخون معطوفة على «الله» والمعنى:
لا يهتدي الى تأويله إلا الله وعباده الذين رسخوا في العلم وتمكنوا منه، ويجوز أن يتم الوقوف على قوله: «إلا الله» وتكون الواو استئنافية والراسخون مبتدأ خبره جملة يقولون. وعلى القول الاول تكون جملة يقولون: حالية أي قائلين، وقد نشأ عن هذا الاختلاف في التفسير انقسام العلماء الى فريقين: أصحاب تأويل وأصحاب ظاهر، ولستا في صدد الترجيح والمفاضلة بين الآراء المتضاربة ولكننا سنورد لمحة عنه في باب الفوائد (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) الجملتان مقول القول وآمنا فعل وفاعل وبه متعلقان بآمنا وكل مبتدأ ساغ الابتداء به لما في «كل» من معنى العموم والتنوين عوض عن كلمة، ومن عند ربنا الجار والمجرور(1/458)
متعلقان بمحذوف خبر (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) الواو حالية أو مستأنفة وما نافية ويذكر فعل مضارع مرفوع وإلا أداة حصر وأولو فاعل يذكر مرفوع بالواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والألباب مضاف إليه.
الفوائد:
1- أفرد بعضهم هذه المسألة بكتاب خاص لسعة الكلام فيها، وقد استدل القاضي البيضاوي والزمخشري قبله على اختيارهما الوقوف على «العلم» لأن في ذلك حفزا للعقول على التفكير والإبداع، وقال الحشويّة ما خلاصته: الوقف على قوله تعالى:
«وما يعلم تأويله إلا الله» واجب حتى يكون قوله: «والراسخون» كلاما مستأنفا، فاذا لم يقف عليه بل وقف على قوله «والراسخون في العلم» ليكون عطفا على قوله: «إلا الله» كان لا بد أن يبتدىء بقوله:
«يقولون آمنا به» أراد به: قائلين، وهو حال، وهو باطل، لأنه لا يخلو إما أن يكون حالا عن «الله» أو عن الراسخين في العلم، كان كان الله سبحانه والراسخين في العلم قالوا: آمنا به كل من عند ربنا.
وذلك في حقه تعالى محال، أو يكون حالا عن الراسخين في العلم فقط، وعندئذ يتخصص المعطوف بالحال دون المعطوف عليه، وهو أيضا غير جائز، لأنه مناف للقاعدة المقررة في العربية، وهي أن المعطوف في حكم المعطوف عليه، فثبت أن الوقف على قوله: «إلا الله» واجب. وإذا كان الوقف عليه واجبا فقد خاطبنا الله بما لا نفهمه وهو المهمل. قلت:
لا يخفى ما في حذلقة الحشويين من براعة مبنية على المغالطة فهم يجيزون الخطاب بالمهمل، فإنه يجوز تخصيص المعطوف بالحال حيث لا لبس،(1/459)
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)
وهو كثير في القرآن. ومنه: «ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة» فإن «نافلة» حال من المعطوف فقط، وهو «يعقوب» لأن النافلة هو ولد الولد وإنما هو يعقوب دون إسحق.
ما يقوله الرازي:
واستدل الامام فخر الدين الرازي في مفاتيح الغيب على أن الوقف الصحيح على قوله «إلا الله» بستة أوجه، ملخص الثاني منها أن الآية دلت على أن طلب التأويل مذموم لقوله تعالى: «فأما الذين في قلوبهم زيغ» الى آخر الآية، ولو كان التأويل جائزا لما ذمّه الله. وملخص الرابع: أنه لو كانت الواو في قوله: «والراسخون» عاطفة لصار قوله:
«يقولون آمنا به» ابتداء، وهو بعيد عند ذوي الفصاحة، بل كان الأولى أن يقولوا: وهم يقولون آمنا به، أو يقال: ويقولون: آمنا به، ولهذا كله أسغنا الوجهين.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 8 الى 10]
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)
الإعراب:
(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) الجملة مقول قول محذوف وربنا منادى مضاف ولا ناهية وهي هنا بمعنى الدعاء وتزغ فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل أنت وقلوبنا مفعول به والظرف الزماني متعلق بتزغ(1/460)
وهو مضاف الى الظرف الذي هو إذ وإذ ظرف لما مضى من الزمن وجملة هديتنا في محل جر بالإضافة وقيل خرجت إذ عن الظرفية فهي بمعنى «أن» ولكن حكمها لم يتغير فهي ملازمة للإضافة إليها، وهو قول جميل (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) الواو عاطفة وهب فعل أمر ولنا جار ومجرور متعلقان بهب ومن لدنك جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ولدن ظرف مبني على السكون في محل جر بمن والكاف مضاف إليه ورحمة مفعول به (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) الجملة تعليل للدعاء لا محل لها وإن واسمها، وأنت ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ والوهاب خبر أنت والجملة الاسمية في محل رفع خبر إن ويجوز أن تعرب أنت ضمير فصل لا محل له والوهاب خبر إن (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ) ربنا منادى مضاف، وإن واسمها، وجامع الناس خبرها والجملة داخلة في حيز مقول القول (لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) الجار والمجرور متعلقان بجامع ولا نافية للجنس وريب اسمها والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبرها. وجملة لا ريب فيه في محل جر صفة ليوم (إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) الجملة تعليلية للحكم فإنه في مقام التماس الإنعام وإن واسمها، وجملة لا يخلف الميعاد مفعول به بمعنى المصدر وهو الوعد، وقد قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) الجملة مستأنفة وإن واسمها، وجملة كفروا صلة الموصول ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتغني فعل مضارع منصوب بلن والجملة خبر إن وعنهم متعلقان بتغني وأموالهم فاعل تغني ولا أولادهم عطف على أموالهم، ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة ل «شيئا» فلما تقدم أعرب حالا على القاعدة المشهورة، والتقدير لن تدفع عنهم الأموال(1/461)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
والأولاد شيئا من عذاب الله وشيئا مفعول به أو في موضع المصدر تقديره غنى، فيكون مفعولا مطلقا (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير عدم الإغناء، ولك أن تجعل الواو عاطفة والجملة معطوفة على خبر إن وأولئك اسم إشارة في محل رفع مبتدأ وهم مبتدأ ثان ووقود النار خبر «هم» والجملة الاسمية خبر اسم الإشارة، ويجوز أن يكون هم ضمير فصل ووقود النار خبر أولئك وقد تقدم تقريره كثيرا.
الفوائد:
(لدن ولدى) ظرفان للمكان والزّمان مبنيّان على السكون، والغالب في لدن أن تجر بمن كما في الآية، وإذا أضيفت إلى ياء المتكلم لزمتها نون الوقاية نحو لدني، وقد تترك هذه النون فيقال لدني.
وتضاف إلى المفرد وإلى الجملة. وتقع بعد لدن «غدوة» فيجوز جر غدوة بالإضافة، ويجوز نصبها على التمييز، أو على أنها خبر كان المقدرة مع اسمها، أي: لدن كان الوقت غدوة. والفرق بين لدن ولدى أن لدن لا تقع عمدة في الكلام ولدي تقع، فلا يقال: لدنه علم، ولكن يقال لديه علم.
[سورة آل عمران (3) : آية 11]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11)
اللغة:
(الدأب) مصدر دأب في العمل من باب قطع إذا كدح فيه، غلب استعماله في العادة والشأن، ومنه قول امرئ القيس:(1/462)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
كدأبك من أم الحويرث قبلها ... وجارتها أمّ الرباب بمأسل
الإعراب:
(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) الكاف اسم بمعنى مثل في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير دأب هؤلاء كدأب من قبلهم. ولك أن تجعل الكاف حرف جر فيكون الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لذلك المبتدأ المحذوف. ويجوز نصب محل الكاف ومدخولها على المفعولية المطلقة أو الحال وقد تقدم كثيرا. وآل مضاف إليه وفرعون مضاف إليه أيضا مجرور وعلامة جره الفتحة لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الواو حرف عطف على آل فرعون والجار والمجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول (كَذَّبُوا بِآياتِنا) فعل وفاعل وبآياتنا جار ومجرور متعلقان بكذبوا والجملة تفسيرية لا محل لها. ولك أن تعرب الواو استئنافية فيكون الذين مبتدأ خبره جملة كذبوا (فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ) الفاء عاطفة وأخذهم الله فعل ومفعول به وفاعل والجار والمجرور متعلقان بأخذهم فتكون الباء للسببية أو بمحذوف حال فتكون الباء للملابسة أي متلبسين بذنوبهم (وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير العقاب والواو استئنافية والله مبتدأ وشديد العقاب خبره.
[سورة آل عمران (3) : آية 12]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12)
الإعراب:
(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) جملة مستأنفة مسوقة للرد على اليهود الذين(1/463)
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
ركبوا رؤوسهم بعد موقعة بدر وقالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي حاول حقنا لدمائهم أن يحذرهم من عواقب الغرور والطيش: لا تحسب أنّا أغما رأي غير مجربين على القتال. وقل فعل أمر وفاعله ضمير مستتر يعود على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي أنت. وللذين جار ومجرور متعلقان بقل وجملة كفروا لا محل لها لأنها صلة الموصول (سَتُغْلَبُونَ) السين حرف استقبال وتغلبون فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو نائب فاعل والجملة في محل نصب مقول القول (وَتُحْشَرُونَ) الواو حرف عطف وجملة تحشرون معطوفة على ستغلبون داخلة في حيز القول (إِلى جَهَنَّمَ) الجار والمجرور متعلقان بيحشرون وجرت جهنم بالفتحة لأنها ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث وسيأتي القول عنها في مكان آخر (وَبِئْسَ الْمِهادُ) الواو عاطفة والجملة معطوفة على ما قبلها داخلة في حيز القول ويجوز أن تكون الواو استئنافية والجملة مسوقة لردعهم وتهويل جهنم لهم وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والمهاد فاعل بئس والمخصوص بالذّم محذوف تقديره جهنم وإنما حذف لفهم المعنى. وفيه تأييد لمذهب سيبويه وهو إعراب المخصوص بالذّم أو المدح مبتدأ خبره الجملة قبله، ومذهب غيره أنه خبر لمبتدأ محذوف، ويرد عليه أنه يلزم من ذلك حذف الجملة برأسها من غير أن يبقى ما يدل عليها، وذلك لا يجوز حتما لأن حذف المفرد أهون من حذف الجملة.
[سورة آل عمران (3) : آية 13]
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)(1/464)
اللغة:
الفئة: الجماعة ولا واحد لها من لفظها وجمعها فئات وقد تجمع بالواو والنون جبرا لما نقص، وإنما سميت الجماعة فئة لأنه يفاء إليها، أي يرجع في وقت الشدة. وقال الزّجاج: الفئة: الفرقة، مأخوذ من قولهم: فأوت رأسه بالسيف أي قطعته.
(العبرة) : الاتعاظ، يقال منه: اعتبر، وهو الاستدلال بشيء على شيء يشبهه، واشتقاقها من العبور وهو مجاوزة الشيء إلى الشيء، ومنه عبر النهر بفتح العين: وهو شطه، والمعبر السفينة، والعبارة يعبر بها إلى المخاطب بالمعاني، وعبرت الرؤيا مخففا ومثقلا نقلت ما عندك من علمها إلى الرّائي أو غيره ممن يجهل، وكان الاعتبار انتقالا من منزلة الجهل إلى منزلة العلم، ومنه العبرة بفتح العين وهي الدمع لأنها تجاوز العين.
الإعراب:
(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) الجملة داخلة في حيز القول السابق أي قل لليهود: ستغلبون وقل لهم: قد كان وقيل: هي عامة وإن الخطاب لجميع الكفار فتكون مستأنفة أو لجميع المؤمنين، والعبرة لا تختص بأحد، وقد حرف تحقيق وكان فعل ماض ناقص ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كان المقدم وآية اسمها المؤخر (فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لآية وجملة التقتا صفة للفئتين والتاء تاء التأنيث الساكنة وحركت بالفتحة لمناسبة ألف الاثنين التي هي فاعل وقد كان ذلك اللقاء يوم بدر (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فئة خبر لمبتدأ(1/465)
محذوف أي إحداهما فئة ويجوز جر فئة على البدلية من فئتين وهي إحدى القراءات وجملة تقاتل صفة لفئة وفي سبيل الله متعلقان بتقاتل (وَأُخْرى كافِرَةٌ) الواو عاطفة وأخرى عطف على فئة وكافرة صفة فمن رفع الأول رفعه ومن جر الأول جرّه (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) جملة يرونهم نعت للفئة التي تقاتل في سبيل الله وهم النبي وصحابته، ويرونهم فعل وفاعل ومفعول به والرؤية بصرية أو بمثابتها لشدة الالتحام ومثليهم حال ورأي العين مفعول مطلق مؤكد لعامله (وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة يؤيد خبر وبنصره متعلقان بيؤيد ومن اسم موصول مفعول به وجملة يشاء لا محل لها لأنها صلة الموصول (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) الجملة مستأنفة مسوقة للحث على الاعتبار وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم واللام المزحلقة وعبرة اسم إن المؤخر ولأولي جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لعبرة وعلامة جره الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والأبصار مضاف اليه.
البلاغة:
انطوت هذه الآية على أرفع الخصائص البيانية فمنها:
1- الاحتباك وهو الحذف من كلامين متقابلين وكل منهما يدل على المحذوف من الآخر ففي قوله تعالى: «فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة» حذف من الكلامين، وتقديره: فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله وفئة أخرى كافرة تقاتل في سبيل الشيطان. فحذف من الأول ما يفهم من الثاني، وحذف من الثاني ما يفهم من الأول.(1/466)
2- الكلام الموجه لأن المعنى إما أن يفهم منه شيء واحد لا يحتمل غيره وإما أن يحتمل منه الشيء وغيره، وتلك الغيرية إما أن تكون ضدا أو لا، وهذه الآية احتملت معنيين متغايرين، وتلك الغيرية ضد إذا احتملت رؤية الكثرة أن تكون للمسلمين أو للمشركين في وقت واحد، وليس هناك ما يرجح واحدا على الآخر لأن كلا منهما يصح إطلاقه في الآية. وقد ورد في الحديث من التوجيه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذا لم تستح فاصنع ما شئت» وهذا يشتمل على معنيين متضادين أحدهما إن المراد به إذا لم تفعل فعلا تستحي منه فاصنع ما شئت، والآخر: أن المراد به إذا لم يكن لك حياء يزعك عن فعل ما يستحيا منه فافعل ما شئت. وهذان معنيان ضدان، أحدهما مدح والآخر ذمّ.
المتنبي والكلام الموجه
وقد رمق أبو الطيب المتنبي هذه السماء العالية واستغلها في مدائحه لكافور، حاكم الأخشيد في مصر، فقد كان مضطرا إلى مجاملته لتفادي المكروه إن جابهه بما يكنه من احتقار، فجنح إليه في أماديح ليكون ظاهرها المديح وباطنها الهجاء، فمن ذلك قوله فيه:
وأظلم أهل الظلم من بات حاسدا ... لمن في نعمائه يتقلب
وهذا البيت يحتمل معنيين ضدين أحدهما أن المنعم عليه يحسد المنعم، فيكون مدحا. وكذلك أورده ليوهم كافورا أنه يريد ذلك.
وثانيهما أن المنعم يحسد المنعم عليه ليقرر حقيقة رسخت في هذا المخلوق الذي قذفت به المقادير ليكون ملكا فهو ينعم على الآخرين ثم ما يلبث أن يحسدهم على ما نالوه من نعمائه. وهذا من أعجب ما اتفق(1/467)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
في الشعر، وهو من خصائص هذا الشاعر العجيب. وكثيرا ما كان يجنح أبو الطيب إلى هذا اللون من الشعر في أماديحه لكافور، ومن ذلك قوله فيه من قصيدة مطلعها:
عدوّك مذموم بكل لسان ... ولو كان من أعدائك القمران
ثم قال فيه:
ولله سر في علاك وإنما ... كلام العدا ضرب من الهذيان
فما لك تعنى بالأسنة والقنا ... وجدك طعان بغير سنان
أي دع أعداءك يقولوا ما أرادوا ويحدسوا في الأسباب التي جعلت منك ملكا فإن ذلك من أسرار الله في خلقه، يرفع الوضيع ويغني البليد ويرزق الفدم الغبي، ثم يقول له مخاطبا: إنك لم تبلغ ما بلغته بسعيك واهتمامك بل بحظك وسعدك، وهذا مما لا فضل فيه، ويستوي فيه الفدم وغير الفدم.
[سورة آل عمران (3) : آية 14]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
اللغة:
(القناطير) جمع قنطار، مأخوذ من قنطر الشيء إذا أحكه وهو هنا يعني المال الكثير. والقنطار يختلف مع الأيام والبلاد، وقد اختلف علماء اللغة في نونه فقال فريق: إنها أصلية، وإن وزنه(1/468)
فعلال كقرطاس، وقيل: إنها زائدة وإن وزنه على فنعال. وقد خبط فيه صاحب المنجد خبطا عجيبا. (الْمُسَوَّمَةِ) وصف للخيل أي المعلمة بعلامة تعرف بها، والخيل فيه قولان: أحدهما أنه جمع لا واحد له من لفظه بل مفرده فرس، والثاني أن واحده خائل فهو نظير راكب وركب وتاجر وتجر وطائر وطير، وسيبويه يدرجه مع قوم ورهط ونساء، ويجعله اسم جمع، وغيره يجعله جمع تكسير. واشتقاق الخيل إما من الاختيال وهو العجب، سميت بذلك لاختيالها في مشيتها، والثاني من التخيل، لأنها تتخيل في صورة هي أعظم منها.
(الْأَنْعامِ) جمع نعم بفتحتين، والنعم اسم جمع لا واحد له من لفظه، وهو يذكر ويؤنث، ويطلق على الإبل والبقر والغنم. وسيرد المزيد من بحثه في سورة الأنعام.
(الْمَآبِ) يصح أن يكون مصدرا صحيحا أو اسما للمكان أو الزمان، وهو على كل حال مفعل بفتح العين من آب يئوب أي رجع، وأصله مأوب، فنقلت حركة الواو إلى الهمزة الساكنة قبلها فقلبت الواو ألفا.
الإعراب:
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) كلام مستأنف لا محل له مسوق لبيان حقارة أعراض الدنيا. زين فعل ماض مبني للمجهول وللناس جار ومجرور متعلقان ب «زين» وحب الشهوات نائب فاعل (مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) من بيانية وهي مع مجرورها متعلقان بمحذوف حال والبنين: الواو عاطفة والبنين معطوف على النساء مجرور وعلامة جره الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والمقنطرة صفة للقناطير(1/469)
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
(مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ) من بيانية أيضا وهي ومجرورها متعلقان بمحذوف حال وما بعده عطف عليه (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) اسم الإشارة مبتدأ ومتاع الحياة خبر والدنيا صفة والجملة مستأنفة أيضا مسوقة لبيان حقارة ذلك كله لأنه فان لا يبقى (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) الواو استئنافية وما بعدها كلام مستأنف مسوق للدلالة على أنه ليس فيما عدد من ظواهر النعمة خير ولا ينفع، والله مبتدأ والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وحسن المآب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر «الله» .
البلاغة:
في الآية فن مراعاة النظير، وهو أن يجمع الشاعر أو الناثر بين أمر وما يناسبه مع إلغاء ذكر التضاد لتخرج المقابلة والمطابقة، وقد جمع سبحانه في هذه الآية معظم وسائل النعيم الآيلة بالمرء إلى الانهماك في الفتنة والانسياق مع دواعي النفوس الجموح، وقد زينت للناس واستهوتهم بالتعاجيب والمفاتن، ابتلاء لهم. وللمتكلمين مناظرات وجولات حول تزيين هذه الشهوات، والمزين لها، ويشتجر الخلاف بين أهل السنة وأهل الاعتزال، مما لا سبيل إلى ذكره لأنه خارج عن نطاق كتابنا، ولكننا نجتزي بالإلماع إليه، ليرجع من يشاء إلى المظان المعروفة.
[سورة آل عمران (3) : آية 15]
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15)(1/470)
الإعراب:
(قُلْ) : فعل أمر وفاعله أنت، أي: يا محمد، والكلام مستأنف مسوق لتقرير وتحقيق الخير لما عند الله وأفضليته على شهوات الدنيا (أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) الهمزة للاستفهام التقريري وأنبئ فعل مضارع مرفوع والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وبخير جار ومجرور متعلقان بأنبئكم على أنه ناب مناب المفعول الثاني كما سيأتي في باب الفوائد، ومن ذلك جار ومجرور متعلقان بخير والإشارة إلى أنواع الشهوات الآنفة الذكر. وجملة الاستفهام في محل نصب مقول القول (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وجملة اتقوا لا محل لها لأنها صلة الموصول وعند ربهم ظرف متعلق بمحذوف حال من جنات لأنه كان في الأصل صفة لها فلما تقدم عليها أعرب حالا. وجنات مبتدأ مؤخر. ولك أن تعلق الظرف بما تعلق به «للذين» من الاستقرار لأنه من جملة الخير، ولك أن تجعل الكلام موصولا فلا تقف عند ذلكم وعندئذ يكون للذين نعتا للخير وجنات خبر لمبتدأ محذوف (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الجملة صفة لجنات والأنهار فاعل تجري ومن تحتها متعلقان بتجري (خالِدِينَ فِيها) حال من الذين اتقوا وفيها جار ومجرور متعلقان بخالدين (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أزواج عطف على جنات ومطهرة نعت لأزواج (وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ) عطف على جنات أيضا (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) الواو استئنافية والله مبتدأ وبصير خبر وبالعباد متعلقان ببصير.
الفوائد:
(أنبأ ونبأ) فعلان يتعديان إلى ثلاثة مفاعيل إذا كانا بمعنى العلم.(1/471)
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
وأما في الآية فهو بمعنى الاخبار، فيتعديان لاثنين فقط. والحقيقة أن الذي يتعدى لثلاثة مفاعيل فعلان، وهما أرى وأعلم، أما الخمسة الباقية وهي أخبر وخبّر وأنبأ ونبأ وحدث فقد ألحقت في بعض استعمالاتها بأعلم المتعدية إلى ثلاثة مفاعيل، ومنه قول الحارث بن حلزة اليشكريّ:
إن منعتم ما تسألون فمن حدّ ... ثتموه له علينا العلاء
فهو شاهد على أنه متعد لثلاثة مفاعيل، فالتاء هي المفعول الأول والميم علامة جمع الذكور والواو لإشباع ضمة الميم والهاء هي المفعول الثاني وجملة له علينا العلاء جملة اسمية في موضع المفعول الثالث فافهم ذلك جيدا لأنه عزيز المنال. هذا وتستعمل هذه الأفعال الخمسة متعدية لواحد بأنفسها وإلى مضمون الثاني والثالث بالباء نحو حدثتك بأمر.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 16 الى 18]
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
اللغة:
(الأسحار) جمع سحر كفرس وأفراس: أواخر الليل، وسميت بذلك لما فيها من الخفاء. والسّحر: وقت إدبار الليل وإقبال النهار فهو متنفّس الصبح. واختلف أهل اللغة في تحديده بالضبط فقال الزّجاج وجماعته: إنه الوقت قبل طلوع الفجر، وقال الرّاغب في مفرداته:(1/472)
السحر اختلاط ظلام آخر الليل بضياء النهار، ثم جعل اسما لذلك الوقت. وأما السّحر بسكونه فهو منتهى قصبة الحلقوم. ومنه قول عائشة رضي الله عنها: «قبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين سحري ونحري» . ومن مجاز العرب قولهم: انتفخت مساحره، إذا ملّ وجبن.
(القسط) : العدل. يقال أقسط أي عدل، وقسط أي جار، فهو مدح في الرباعي وذم في الثلاثي.
الإعراب:
(الَّذِينَ يَقُولُونَ) اسم الموصول يجوز فيه الرفع على إنه خبر لمبتدأ محذوف أي: هم الذين، والنصب على المدح بفعل محذوف أي أمدح الذين، والجرّ على أنه بدل من اسم الموصول في الآية السابقة أو نعت له يقولون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة صلة (رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) الجملة مقول القول وربنا منادى محذوف منه حرف النداء، وإن واسمها وجملة آمنا خبرها (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) الفاء للتعليل، لأن الإيمان علة الغفران واغفر فعل أمر للدعاء ولنا متعلقان به وذنوبنا مفعول به (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) الواو حرف عطف وق فعل أمر للدعاء مبني على حذف حرف العلة وحذفت واو المثال كما هي القاعدة، والفاعل أنت ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول وعذاب النار مفعول به ثان (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) الصابرين منصوب على المدح بفعل محذوف وما بعده عطف عليه، وهي في الأصل صفات قطعت عن الوصفية بتوسط واو العطف بينها للدلالة على انفرادهم بأنواع الكمالات كما سيأتي في باب البلاغة والجملة استئنافية (شَهِدَ اللَّهُ) فعل وفاعل والجملة مستأنفة(1/473)
مسوقة لتعداد أصول الدين وفضائله وقد وردت فيها أحاديث كثيرة (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أن وما بعدها في موضع نصب بنزع الخافض أي بأنه، والجار وما بعده متعلقان بشهد وقد تقدم إعراب كلمة الشهادة فجدد به عهدا (وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) الواو حرف عطف والملائكة عطف على الله وأولو العلم عطف أيضا. ورفع بالواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم (قائِماً بِالْقِسْطِ) حال لازمة من الله أو من الضمير المنفصل الواقع بعد إلا، ولعله أولى. وجاز مجيء الحال بعد معطوفين لأمن الالتباس، فلو لم يؤمن الالتباس لم يجز مجيء الحال، نحو جاء عليّ وخالد ضاحكا لعدم العلم بمن هو الضاحك. وواضح أن القيام بالقسط من خصائص الله تعالى فيكون بمثابة التتمة لكمال الأفعال بعد كمال الذات. وهنا بحث هام سيأتي في باب الفوائد (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تقدم إعرابها (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) خبران لمبتدأ محذوف تقديره هو ولك أن تعربهما بدلين من «هو» .
البلاغة:
1- في دخول الواو على الصفات مع أن الموصوف واحد تفخيم للموصوف لأنه إيذان بأن كل صفة مستقلة بمدح الموصوف ثم إن الموصوف ليس واحدا كما يبدو للنظرة العجلى.
2- وفي الآية الأخيرة رد العجز على الصدر، فقد رد «العزيز» إلى تفرده بالوحدانية التي تقتضي العزة، ورد «الحكيم» إلى العدل الذي هو القسط، فهو تعالى حكيم لا يتحيفه جور أو انحراف.
الفوائد:
1- المثال الذي فاؤه حرف علة إذا بني منه فعل أمر حذفت واوه(1/474)
أو ياؤه، فتقول في وعد: عد فإذا كان لفيفا مفروقا أي إذا كانت فاؤه ولامه حرفي علة أصبح على حرف واحد لأن الحرفين يحذفان، فتقول في وعي: ع، وفي وقى ق وفي وفى ف وفي وأى إ وعلى هذا يتخرج اللغز المشهور الذي يتندر به صغار المعربين وهو:
إن هند المليحة الحسناء ... وأي من أضمرت لخل وفاء
وإيضاحه كما يلي: إن: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والنون نون التوكيد الثقيلة، ومعنى إ: عد، وفعله وأى، أي عدي يا هند وعد امرأة أضمرت الوفاء لخلها. وهند منادى مفرد علم محذوف منه حرف النداء مبني على الضم والمليحة نعت على اللفظ والحسناء نعت ثان لهند على المعنى ووأي مفعول مطلق. وإنما نبهنا إلى إعرابه لنبين أنّ للنحاة المتأخرين أمورا متكلفة يجدر بنا اجتنابها لأنها تفسد الذوق وتعطل الملكة الفنية وهي أشبه بالأعيب.
3- الأصل في الحال أن تكون متنقلة لا ثابته، وتقع وصفا ثابتا في ثلاث مسائل:
آ- أن تكون مؤكدة لمضمون جملة قبلها، نحو: زيد أبوك عطوفا، فإن الأبوة من شأنها العطف، وذلك مستفاد من مضمون الجملة. أو لعاملها نحو «ويوم أبعث حيا» فإن البعث من لازمه الحياة فمعناها مستفاد من دون ذكرها.
ب- أن يدل عاملها على تجديد ذات صاحبها وحدوثه أو تجدد صفة له، فالأول نحو قولهم: «خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها» فيديها بدل من الزرافة بدل بعض من كل، وأطول حال ملازمة من يديها ومن رجليها متعلقان بأطول لأنه اسم تفضيل، وعامل الحال خلق،(1/475)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
والثاني نحو قوله تعالى «وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا» فالكتاب قديم والإنزال حادث، أي محدث النزول لا الوجود.
ج- أن يكون مرجعها إلى السماع نحو «قائما بالقسط» . على أن بعضهم أعرب «قائما» بأنه نصب على المدح كما في قول امرئ القيس:
إذا قلت: هاتي نوليني تمايلت ... عليّ هضيم الكشح ريا المخلخل
فهضيم نصب بتقدير أمدح لا حال، لأنها صفة لازمة. بقي الاعتذار عن جهة تأخيره عن المعطوفين فقال التفتازاني كأنها للدلالة على علو مرتبتهما، أي الملائكة وأولي العلم حيث قرنا به تعالى من غير فاصل، فتنبه لهذا الفصل، فله على الفصول الفضل.
[سورة آل عمران (3) : آية 19]
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19)
الإعراب:
(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ) الجملة مستأنفة مؤكدة للأولى وإن واسمها، وعند الله ظرف مكان متعلق بمحذوف حال والإسلام خبر إن. وقد اعترض أبو البقاء على مجيء الحال بعد إن، وهو اعتراض مردود، لأنهم جوزوا في «ليت» وفي «كأن» وفي هاء التنبيه أن تعمل في الحال، لما تضمنت هذه الأحرف من معاني التمني والتشبيه والتنبيه، وإن للتأكيد فلتعمل في الحال أيضا فلا تتقاعد عن «ها»(1/476)
التي للتنبيه، بل هي أولى منها، وذلك أنها عاملة، و «ها» التي للتنبيه ليست عاملة فهي أقرب لشبه الفعل من «ها» ، ولك أن تجعلها حالا من الدين أي كائنا وثابتا عند الله. والإسلام خبر إن (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان سبب الاختلاف وما نافية واختلف الذين فعل وفاعل وجملة أوتوا صلة الموصول وأوتوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل وهو المفعول الأول والكتاب مفعول به ثان (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) إلا أداة حصر ومن بعد جار ومجرور متعلقان باختلف وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالإضافة أي من بعد مجيء العلم لهم وجاءهم فعل ومفعول به والعلم فاعله (بَغْياً بَيْنَهُمْ) مفعول لأجله وبينهم ظرف مكان متعلق بمحذوف صفة (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويكفر فعل الشرط وبآيات الله جار ومجرور متعلقان بيكفر (فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) الفاء رابطة لجواب الشرط وإن واسمها، وسريع الحساب خبرها والجملة الاسمية المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر «من» .
البلاغة:
اشتملت هذه الآية على ضروب من المبالغات في ذم اليهود، وذلك على النحو التالي:
آ- وصفهم بأنهم أهل الكتاب، والاختلاف بحد ذاته قبيح، ولكنه بعد إتيان الكتاب والعلم بنواجمه أقبح.
ب- ثم ترقى في المبالغة فوصفهم بأنهم بعد أن أوتوا كتابا(1/477)
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
جاءهم علم آخر يوضح لهم طريق الصواب، ولكن طبيعة اللجاج المركوزة في نفوسهم أبت إلا التمادي في الضلال وركوب متن الشطط فكان القبح أزيد.
ج- ثم ترقى مرة أخرى في المبالغة فجعل الاختلاف بعد ظهور العلم لديهم مرتين متتاليتين لم يكن إلا بغيا منهم وهذا ما تعالمه الناس منهم واشتهروا به إلى اليوم، وبذلك استوفت المبالغة غايتها فسبحان المتفرّد بالبيان.
[سورة آل عمران (3) : آية 20]
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)
اللغة:
(حَاجُّوكَ) : خاصموك يقال: حاجّه حجاجا ومحاجّة أي خاصمه وجادله.
الإعراب:
(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ) الفاء استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتضيق الخناق على اليهود الذين أخذوا يحرجون النبي فيكيدون له وإن شرطية وحاجوك فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والواو فاعل والكاف مفعول به والفاء رابطة وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ(1/478)
لِلَّهِ)
الجملة في محل نصب مقول القول وأسلمت فعل وفاعل ووجهي مفعول به والجار والمجرور متعلقان بأسلمت (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) الواو للعطف أو للمعية ومن اسم موصول معطوف على التاء في أسلمت أو مفعول معه وجملة اتبعن صلة الموصول، والنون للوقاية وقد حذفت ياء المتكلم وقفا ووصلا موافقة للرسم. والذي حسن ذلك أنها فاصلة ورأس آية. وسيرد أمثالها مثل أكرمن وأهانن. وقال بعض النحاة: حذفت مع نون الوقاية خاصة، فإن لم تكن هناك نون فالكثير إثباتها.
على أن هذه الياء أثبتت في بعض القراءات السبع.
(وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الواو عاطفة وقل فعل أمر وللذين جار ومجرور متعلقان بقل وجملة أوتوا الكتاب صلة والواو نائب فاعل والكتاب مفعول به ثان (وَالْأُمِّيِّينَ) عطف على الذين أوتوا الكتاب وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم، والمراد بهم مشركو العرب، وإن كانوا يكتبون ويقرؤون، لأنه لم ينزل عليهم كتاب بعد (أَأَسْلَمْتُمْ) الجملة الاستفهامية في محل نصب مقول القول ومعنى الاستفهام التنديد والتعبير كما سيأتي في البلاغة (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) الفاء استئنافية وإن شرطية وأسلموا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة للجواب وقد حرف تحقيق واهتدوا فعل ماض مبني على الضم المقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والواو فاعل والجملة المقترنة في محل جزم جواب الشرط (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) الجملة معطوفة على الجملة الأولى وإنما كافة ومكفوفة وعليك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم والبلاغ مبتدأ مؤخر والجملة في محل جزم جواب(1/479)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
الشرط (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) الواو استئنافية والله مبتدأ بصير خبر وبالعباد متعلقان ببصير.
البلاغة:
1- المجاز المرسل في قوله: أسلمت وجهي تعبيرا عن الكل بأشرف أعضائه وهو الوجه، والعلاقة هنا الكلية.
2- الاستفهام في قوله: «أأسلمتم» معناه التنديد والتعبير، كأنما قد أفرغ جهده في مناصحتهم، ولم يترك وسيلة إلا تشبث بها لإفهامهم، ولكنهم لم يفهموا. وفي هذا الضرب من الاستفهام استركاك لعقولهم وامتهان لأفهامهم، فكأنما أصبحت الحجج عندهم كلا حجج.
وأصبحت البراهين أضيع ما يكون لديهم، فلم يبق أمامه سوى أن يسألهم منددا: أأسلمتم بعد هذا كله؟ أم لا يجدي الضرب على الحديد البارد؟
[سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22)
اللغة:
(حَبِطَتْ) : ذهبت سدى وفسدت، وهو من مجاز اللغة.
والأصل في الحبوط أو الحبط بالسكون أن تأكل الماشية خضرة فتستوبلها وتهلك. ومنه حبط دم القتيل بكسر الباء أي هدر وبطل.(1/480)
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق للحديث عن اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قتل آباؤهم الأنبياء من قبل، وهم اليوم يحاولون التشبه بآبائهم الأولين، ويرضون بفعلهم، فيتحينون الفرص لقتل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن الله أحبط أعمالهم. وإن واسمها، وجملة يكفرون صلة الموصول والجار والمجرور متعلقان بيكفرون (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) الواو عاطفة ويقتلون فعل مضارع معطوف على يكفرون والنبيين مفعول به منصوب بالياء وبغير حق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي ظالمين، وإنما قيد القتل. وقتل النبيين لا يكون إلا كذلك، زيادة في التشنيع عليهم (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) عطف على ما تقدم ومن الناس جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي كائنين منهم (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) الفاء واقعة في جواب الموصول لما فيه من رائحة الشرط، ودخول إن على الموصول لا يؤثر في خبريته فالجملة خبر إن لأن المعنى لم يتغير بل ازداد تأكيدا وذلك شائع في القرآن وفي الشعر العربي، قال:
فو الله ما فارقتكم قاليا لكم ... ولكن ما يقضى فسوف يكون
ولكن إذا دخلت ليت أو لعل على «الذي» امتنع دخول الفاء لنسخ الخبرية، وتحول الكلام إلى إنشاء لا يحتمل الصدق والكذب كما هو مقرر في علم المعاني، وسيأتي في باب الفوائد بحث هام في أسرار الحروف. وبشرهم فعل أمر والهاء مفعول به والفاعل أنت وبعذاب متعلقان ببشرهم وأليم صفة والجملة المقترنة بالفاء في محل رفع خبر إن(1/481)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
(أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الجملة مفسرة للذين يقتلون لا محل لها وأولئك مبتدأ والذين خبر وجملة حبطت أعمالهم صلة الموصول والجار والمجرور متعلقان بحبطت (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) الواو عاطفة وما نافية ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومن حرف جر زائد لفظا وناصرين مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه مبتدأ مؤخر.
الفوائد:
جرى النحاة والمعربون على القول بزيادة بعض الحروف، ولا يعنون بزيادتها أنها جاءت لغوا أو عبثا وإنما هي عندهم زائدة للتأكيد ولكننا نريد أن نميط اللثام عن شيء غفل عنه هؤلاء جميعا، ورددوه وهم لا يكتنهون فحواه حتى صار من المقولات البديهية، وقد مر بك حتى الآن وسيمر معك الكثير من الأحرف التي قالوا بزيادتها، ومع ذلك قصروا عملها على الشكل دون المعنى، فقوله: «وما لهم من ناصرين» لا غنى عن إيراد «من» الزائدة لفظا فالخبر بطبيعته وفي أصل وضعه اللغوي يحتمل الصدق والكذب، و «من» هي التي نقلته من أصل وضعه الأول إلى دلالة النفي الباتّ والإنكار الحاسم، وسيطالع القارئ في كتابنا ما يذهله من أسرار هذه الحروف التي يمر النحاة بها مرورا سريعا، فهم يقولون بزيادتها ويتركون الطالب في مهامة الحيرة، لأن كتاب الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 24]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)(1/482)
الإعراب:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) كلام مستأنف مسوق للتعجب من حالهم وسوء صنيعهم والهمزة للاستفهام التعجبيّ ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل أنت وإلى الذين متعلقان ب «تر» والرؤية هنا بصرية، وجملة أوتوا صلة الموصول والواو نائب فاعل ونصيبا مفعول به ثان ومن الكتاب متعلقان بمحذوف صفة لنصيبا (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) جملة يدعون حاليّة ويدعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وإلى كتاب الله جار ومجرور متعلقان بيدعون وليحكم اللام للتعليل ويحكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بيدعون وبينهم ظرف مكان متعلق بيحكم (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ويتولى فعل مضارع مرفوع والفريق فاعل والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) الواو حالية وهم مبتدأ ومعرضون خبر والجملة في محل نصب على الحال (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا) ذلك مبتدأ والجملة استئنافية والإشارة إلى التولي عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وبأنهم الباء حرف جر وإن مع مدخولها في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر أي ذلك التولّي بسبب قولهم وجملة قالوا خبر إن (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ)(1/483)
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
الجملة في محل نصب مقول قولهم ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتمسنا فعل مضارع منصوب بلن ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به والنار فاعل تمسنا وإلا أداة حصر وأياما ظرف متعلق بتمسنا ومعدودات صفة وعلامة نصبه الكسرة لأنه جمع مؤنث سالم (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) الواو عاطفة وغرهم فعل ومفعول به وفي دينهم متعلقان بغرهم وما اسم موصول في محل رفع فاعل وجملة كانوا يفترون صلة الموصول وكان واسمها وجملة يفترون خبرها.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 25 الى 27]
فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)
اللغة:
(تُولِجُ) تدخل، من أولج الشيء أدخله. وولج يلج من باب وعد ولوجا، ولجة: دخل.
الإعراب:
(فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ) هذا التركيب من المشكلات ويتلخّص من الأوجه التي أوردها المعربون، وجهان جديران بالاعتبار:(1/484)
1- كيف اسم استفهام في محل رفع خبر مقدم والمبتدأ محذوف تقديره حالهم، وتكون جملة قائمة بذاتها، وكيف عندئذ لا يستغنى عنها، كما مر في قاعدة كيف.
2- كيف اسم استفهام في محل نصب حال من فعل محذوف هو جراب إذا، أي استقرت. وإذا على الوجه الأول متعلقة بالاستقرار الذي تعلقت به «كيف» و «إذا» غير متضمنة معنى الشرط، بل هي للظرفية المحضة، وعلى الوجه الثاني هي ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلقة بالجواب المحذوف وهو استقرت. وعلى هذا الوجه يتخرج البيت المشهور:
أشوقا ولمّا يمض لي غير ليلة ... فكيف إذا جد المطي بنا عشرا
وقد رجح ابن هشام وأبو البقاء الحالية. ونحن نرى الوجه الأول أبعد عن التكلف، لأننا لا نرى أثرا للشرطية في «إذا» بهذا التركيب العجيب، فتأمل. وجملة جمعناهم في جر بالإضافة والفاء الداخلة على كيف استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لإبطال ما غرهم ولتهويل ما سيحيق بهم من الأهوال (لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) الجار والمجرور متعلقان بجمعناهم ولا نافية للجنس وريب اسمها مبني على الفتح في محل نصب وفيه متعلقان بمحذوف خبرها وجملة لا ريب فيه في محل جر صفة ليوم (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) الواو عاطفة ووفيت فعل ماض مبني للمجهول وكل نفس نائب فاعل وما اسم موصول مفعول به وجملة كسبت صلة الموصول (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الواو حالية وهم مبتدأ ولا نافية ويظلمون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وجملة لا يظلمون في محل رفع خبرهم والجملة الاسمية المقترنة بالواو في محل نصب على الحال (قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) كلام مستأنف مسوق للرد(1/485)
على المنافقين الذين لم يصدقوا قوله: إن أمتي ظاهرة. وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت واللهم: منادى مفرد علم والميم المشددة عوض عن «يا» لا محل لها ومالك الملك منادى ثان حذف منه حرف النداء أي يا مالك الملك، وإنما لم يجعل نعتا لأن الميم المشددة تمنع التبعية كما قرر سيبويه إذ قال: «إن الميم أخرجت هذه اللفظة عن نظائرها من الأسماء» . قال ابن يعيش: «واعلم أن سيبويه لا يرى نعت «اللهم» لأنه لفظ لا يقع إلا في النداء، فهو لا ينعت» . وخالفه أبو العباس المبرد واستدل بقوله تعالى: «اللهم فاطر السموات والأرض» . سيبويه يحمل فاطر السموات على أنه نداء ثان لا نعت، وقال المبرد: إن الميم بدل من «يا» والمنادى مع «يا» لا يمتنع وصفه، فكذا مع ما هو عوض عنها (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) لك أن تجعل هذه الجملة حالية من المنادى لأنه بمثابة المفعول به وتؤتي فعل مضارع فاعله مستتر تقديره أنت والملك مفعول به أول ومن اسم موصول مفعول به ثان وجملة تشاء صلة الموصول (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) عطف على ما تقدم (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) عطف أيضا (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم والخير مبتدأ مؤخر والجملة حالية أيضا (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) جملة مستأنفة بمثابة التعليل لما تقدم (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) الجملة حالية أيضا (وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) عطف على الجملة الآنفة (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) عطف أيضا (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) عطف أيضا ومن اسم موصول في محل نصب مفعول به وجملة تشاء صلة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل ترزق.
البلاغة:
1- الاستعارة التصريحية إذ أراد بالحي والميت المسلم والكافر،(1/486)
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
فقد حذف المشبه وأبقى المشبه به. وإذا أراد النطفة والبيضة كان الكلام جاريا على جانب الحقيقة، لا على جانب المجاز.
2- الاكتفاء في قوله: «بيدك الخير» فاقتصر على الخير من باب الاكتفاء بالمقابل أي والشر، كقوله تعالى: «سرابيل تقيكم الحر» أي والبرد، ولأن الخير هو المرغوب فيه.
3- المقابلة فقد طابق بين «تؤتي وتنزع» وبين «تغر وتذل» وبين «الليل والنهار» وبين «الحي والميت» .
4- وخرج بالاستفهام عن معناه الحقيقي بقوله: «فكيف» إلى معنى التهويل واستفظاع ما أعد الله لهم في يوم عصيب تحار فيه الأبصار والبصائر، وتشخص فيه القلوب والضمائر.
الفوائد:
(اللَّهُمَّ) قد تخرج عند النداء المحض فيكون لها معنيان:
آ- أن يذكرها المجيب تمكينا للجواب في نفس السامع، فإذا حدثك أحد بشيء قلت: اللهم نعم.
ب- أن تستعمل للدلالة على الندرة وقلة وقوع المذكور معها، كقولك لمن كان متكاسلا: إنك ناجح اللهم، إن بذلت مجهودا أكبر، وقد علمت أنه غير باذل أي مجهود، أو إن ذلك مستبعد منه، وعلى هذا يخطىء كتابنا في استعمالها قبل إلا.
[سورة آل عمران (3) : آية 28]
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)(1/487)
اللغة:
(تُقاةً) أصلها وقية بضم الواو، فأبدلت الواو تاء والياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فهي مصدر تقية كرمية.
الإعراب:
(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) كلام مستأنف مسوق للنهي عن موالاتهم، كما نشاهد اليوم. ولا ناهية يتخذ فعل مضارع مجزوم بلا، المؤمنون فاعل والكافرين مفعول به أول وأولياء مفعول به ثان ومن دون المؤمنين متعلقان بمحذوف حال من الفاعل، أي: حال كون المؤمنين متجاوزين موالاة المؤمنين، أو من المفعول أي حال كون الكافرين ناصرين من دون المؤمنين (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) الواو اعتراضية والجملة كلها اعتراضية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويفعل فعل الشرط مجزوم وذلك اسم اشارة في محل نصب مفعول به الفاء رابطة لجواب الشرط وليس فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر يعود على «من» . ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة الشيء فلما تقدم أعرب حالا، وفي شيء: متعلقان بمحذوف خبر ليس (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) إلا أداة حصر وأن وما في حيزها مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور في موضع نصب مفعول لأجله، والمعنى لا يتخذ المؤمن الكافر وليا لأمر من الأمور إلا للتقية، ومنهم متعلقان بتتقوا، وتقاة منصوب على المفعولية المطلقة والمعنى تتقوا اتقاء، والمصادر يتناوب بعضها بعضا، ويجوز أن يكون مفعولا به على تضمين «تتقوا» معنى الخوف أي إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) الواو(1/488)
استئنافية ويحذركم فعل مضارع والكاف مفعول به والله فاعل ونفسه مفعول به ثان ليحذركم لأنه في الأصل يتعدى لواحد فازداد بالتضعيف آخر (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) الواو استئنافية والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم والمصير مبتدأ مؤخر.
البلاغة:
أ- في هذه الآية التفات بديع من الغيبة إلى الخطاب، ولو جرى على سنن الكلام لقال: إلا أن يتقوا. ولكنه عدل عن الغيبة والخطاب لسر كأنه أخذة السحر. فإن موالاة الكفار والأعداء وكل من يتآمر على سلامة الأوطان أمر مستسمج مستقبح. ينكره الطبع ولا يليق أن يواجه به الأصفياء والأولياء، فجاء به غائبا كأنه يرسم لهم خطا بيانيا.
على أن هذا إنما يكون فيما لا ضرر فيه، ولكن التآمر على الكيان، وسلامة أرواح المؤمنين، ولكن التقية لا تجوز مع الأعداء الذين لا هم لهم سوى اغتصاب الأرض وامتصاص الطاقات فهؤلاء لا تسوغ معهم مهادنة، ولا يجوز بحال عقد أي عهد معهم، لأنهم لا يعتمون أن ينقضوه. وقد يستغلونه للانقضاض على من اطمأنوا إليهم وركنوا إلى عهودهم، على حد قولي:
أيّ شأن العهود قطعت ... ثم أضحت ترهات بعد حين
لا تغرنك قصاصات غدت ... شركا ينصب للمستضعفين
حذار من العدو- لمحة تاريخية:
وهنا يجدر بنا أن نأتي على ما يرويه التاريخ بصدد نزول هذه(1/489)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
الآية، فقد روي أن جماعة من المسلمين كانوا يوادّون اليهود، فأنزل الله هذه الآية، ناهيا عن الاسترسال في ذلك. وقيل: إنّ عبادة بن الصامت كان له حلفاء من اليهود، فقال يوم الأحزاب: يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو.
فنزلت هذه الآية، إذ لا تتفق موالاة الوليّ وموالاة العدو في وقت واحد قال:
تود عدوي ثم تزعم أنني ... صديقك ليس النّوك عنك بعازب
2- المشاكلة في قوله تعالى: «ويحذركم الله نفسه» . وإطلاق ذلك عليه سبحانه وتعالى جائز في المشاكلة كقوله أيضا: «تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك» . وقيل: الكلام مجاز مرسل معناه:
ويحذركم الله عقابه، مثل «واسأل القرية» مجاز مرسل، فجعلت النفس في موضع الإضمار، وفي ذلك تهديد شديد وتخويف عظيم لعباده أن يتعرضوا لعقابه بموالاة أعدائه.
[سورة آل عمران (3) : آية 29]
قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
الإعراب:
(قُلْ: إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ) كلام مستأنف مسوق ليكون بيانا لقوله: «ويحذركم الله نفسه» وقل فعل أمر فاعله ضمير مستتر تقديره أنت وإن شرطية وتخفوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وما اسم موصول في محل نصب مفعول به وفي صدوركم: جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة ما،(1/490)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
وأو حرف عطف وتبدوه معطوف على تخفوا وجملة الشرط وجوابه الآتي في محل نصب مقول القول (يَعْلَمْهُ اللَّهُ) جواب الشرط والهاء مفعول به والله فاعل (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الواو استئنافية ويعلم فعل مضارع مرفوع وفاعله هو يعود على الله، وإنما جيء به مستأنفا لا معطوفا لأن علم الله تعالى غير متوقف على شرط، فهو من باب ذكر العام بعد الخاص. والأحسن أن يقدر مبتدأ محذوف فتكون جملة «يعلم» خبره والتقدير: وهو يعلم، والجملة بعد الواو مستأنفة لا محل لها، وما مفعول به وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة ما، وما في الأرض عطف على «ما في السموات» (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بمحذوف بقدير وقدير خبر الله.
[سورة آل عمران (3) : آية 30]
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30)
اللغة:
(الأمد) : الغاية والمنتهى، والفرق بينه وبين الأبد أن الأمد مدة من الزمن محدودة، وإن يكن الحدّ مجهولا، أما الأبد فهو مدة من الزمن غير محدودة.
الإعراب:
(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) يوم ظرف متعلق تقديره:(1/491)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
«اذكر» وجملة تجد في محل جر بالإضافة، «وتجد» يجوز أن تكون بمعنى تصادف وتصيب فتتعدى لواحد ويجوز أن تكون بمعنى تعلم فتتعدى لاثنين، وكل نفس فاعل تجد وما اسم موصول مفعول به وجملة عملت صلة والعائد محذوف أي عملته ومن خير متعلقان بمحذوف حال ومحضرا حال على الأول ومفعول به ثان على الثاني، والجملة كلها مستأنفة لا محل لها (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) الواو استئنافية وما اسم موصول مبتدأ وجملة عملت صلة ومن سوء متعلقان بمحذوف حال (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) جملة تود خبر ما ولو الواقعة بعد تود مصدرية، ولكن يشكل هنا دخول الحرف على مثله، فالأولى أن تبقى شرطية وأن حرف مشبه بالفعل مصدري وبينها ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم لأنّ وبينه عطف على الظرف. ويكون جواب «لو» محذوفا تقديره: لفرحت واطمأنت، وأن وما بعدها في محل رفع مبتدأ والخبر محذوف تقديره ثابت، أو فاعل لفعل محذوف تقديره ثبت. ويلاحظ عندئذ أن المحذوفات كثرت، فقد حذف مفعول تود وجواب لو وخبر أن أو فعل الفاعل، ولذلك كان اعتبارها مصدرية أسهل لولا المانع الفني وهو دخول الحرف المصدري على حرف مصدري مماثل (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) تقدم إعرابها قريبا وكررها ليكون الخوف من الله نصب أعينهم (وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) الواو استئنافية والله مبتدأ ورؤوف خبره وبالعباد جار ومجرور متعلقان برؤوف.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 31 الى 32]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)(1/492)
الإعراب:
(قُلْ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي) كلام مستأنف مسوق لبيان معنى محبة الله، وقل فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وإن شرطية وكان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وجملة تحبون الله خبرها والفاء رابطة لجواب الشرط واتبعوني فعل أمر والواو فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به والجملة في محل جزم جواب الشرط وجملة إن كنتم مقول القول (يُحْبِبْكُمُ) جواب الطلب مجزوم والكاف مفعول به (اللَّهَ) فاعل (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) عطف على يحببكم (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وغفور رحيم خبران للمبتدأ (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) كلام مستأنف أيضا وجملة أطيعوا في محل نصب مقول القول (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) الفاء استئنافية وإن شرطية وتولوا فعل مضارع حذفت منه إحدى التاءين وهو فعل الشرط والجملة لا محل لها. ويجوز أن يكون فعلا ماضيا مسندا لضمير الغيبة، فيكون من باب الالتفات من المخاطب إلى الغائب والجملة في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة لجواب الشرط وإن واسمها، وجملة لا يحب الكافرين خبرها وجملة فإن الله في محل جزم جواب الشرط.
البلاغة:
المجاز المرسل في حب العباد لله تعالى وحبه لهم والعلاقة ما يكون.
فأما حبهم له فالمراد ما تئول إليه المحبة من اختصاصه بالعبادة دون غيره، وأما حبه لهم فالمراد منه ما يئول إليه من الرضا عنهم والغفران لذنوبهم. وهذه لمحة لا مندوحة عن إيرادها عن الحب:(1/493)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
الحب عند الفلاسفة: أما الفلاسفة فيقررون كما يتحدث عنهم سويد نبرغ السويدي أن الحب هو حياة الإنسان، وأن الله وحده هو عين الحب، لأنه هو عين الحياة، فالمحبة لغة- ميل المتصف بها إلى أمر ملذّ واللذات الباعثة على المحبة منقسمة إلى مدرك بالحس كلذة الذوق في الطّعوم ولذة النظر واللمس في الصور المستحسنة ولذة الشم في الروائح العطرية ولذة السمع في النغمات الحسنة وإلى لذة تدرك بالعقل كلذة الجاه والرياسة والعلوم وما يجري مجراها. وإذا تفاوتت البواعث، فليس معلوم أكمل ولا أجمل من المعبود الحق، وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات.
الحب عند المتصوفة: أما المتصوفة فهم يقولون: إن الحب هو سكر المشاهدة وشجاعة الباذل وإيمان الولي والأصل الأصيل للتحقق الخلقي والإدراك الروحي. قال الثوري لرابعة العدوية: ما حقيقة إيمانك؟ قالت: ما عبدته خوفا من ناره ولا حبا لجنته فأكون كالأجير السوء، بل عبدته حبا له وشوقا إليه. وأنشدت:
أحبك حبين: حب الهوى ... وحبا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى ... فشغلي بذكرك عما سواكا
وأما الذي أنت أهل له ... فكشفك لي الحجب حتى أراكا
والكلام يطول فحسبنا ما تقدم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 34]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)(1/494)
اللغة:
(نوح) علم أعجمي لا اشتقاق له، وقيل: إنه مشتق من النوح وهو منصرف على كل حال، لأنه علم أعجمي ثلاثي ساكن الوسط (عمران) علم أعجمي أيضا ممنوع من الصرف وإن قيل إنه عبري مشتق من العمر فهو ممنوع للعلمية وزيادة الألف والنون.
الإعراب:
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) إن واسمها، وجملة اصطفى آدم ونوحا خبر (وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ) عطف على آدم (عَلَى الْعالَمِينَ) الجار والمجرور متعلقان باصطفى والجملة استئنافية (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) ذرية: بدل من آدم ومن عطف عليه، أو من الآلين أي أن الآلين ذرية واحدة، ويجوز نصبها على الحال والعامل فيه «اصطفى» .
وبعضها مبتدأ ومن بعض جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر والجملة صفة لذرية (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وسميع عليم خبران له.
البلاغة:
1- في الآية فن التوشيح، وهو كما يقول قدامة في نقد الشعر:
أن يكون في أول الكلام معنى إذا علم علمت منه القافية، إن كان شعرا أو السجع إن كان نثرا. فإن معنى اصطفاء المذكورين في الآية يعلم منه الفاصلة، لأن المذكورين صنف مندرج في العالمين.
وفي هذه الآية أيضا فن براعة التخلص، فإنه سبحانه وتعالى وطّأ(1/495)
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
بهذه الآية إلى سياق خبر ميلاد المسيح عليه السلام، فقد خلص إلى ذكر امرأة عمران ليسوق قصة حملها بمريم وكفالة زكريا لها، وذكر ولده يحيى، وقصة حمل مريم بالمسيح، وما تخلل ذلك من آيات باهرات، وعبر بالغات.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 35 الى 36]
إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36)
اللغة:
(مُحَرَّراً) معتقا خالصا لخدمة بيت المقدس. روي أن حنة- وهو اسمها- كانت عاقرا لم تلد إلى أن عجزت، فبينما هي في ظل شجرة وريف بصرت بطائر يطعم فرخا له فتحركت نفسها للولد وتمنته، فقالت:
اللهم إن لك علي نذرا إن رزقتني ولدا لأتصدقن به على بيت المقدس فيكون من سدنته. فحملت بمريم وهلك عمران وهي حامل بمريم.
الإعراب:
(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق باذكر محذوفا وتكون الجملة مستأنفا مسوقة لتقرير اصطفاء آل عمران، وجملة قالت امرأة عمران في محل جر بإضافة الظرف إليها وعلقه بعضهم بقوله:(1/496)
سميع عليم وليس ثمة ما يمنع ذلك (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) رب منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة بدليل الكسرة عليها، وإن واسمها، وجملة نذرت خبرها وجملة إني نذرت مقول القول ولك متعلقان بنذرت وما اسم موصول مفعول به وفي بطني متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة ما ومحررا حال من «ما» (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) الفاء استئنافية وتقبل فعل أمر وفاعله أنت ومني متعلقان بتقبل (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) إن واسمها، وأنت مبتدأ أو ضمير فصل لا محل له والسميع العليم خبر ان لأنت والجملة الاسمية خبر لإن، أو خبران لان وجملة إن وما في حيزها تعليلية لا محل لها (فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) الفاء استئنافية ولما ظرفية حينيه أو حرف للربط ووضعتها فعل وفاعل مستتر ومفعول به وجملة قالت لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ورب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وإن واسمها، وجملة وضعتها خبر إن وأنثى حال مؤكدة أو مبنية وسيأتي الفرق بينهما وجملة النداء مقول القول (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) الواو اعتراضية والله مبتدأ وأعلم خبر وبما جار ومجرور متعلقان بأعلم وجملة وضعت لا محل لها لأنها صلة ما (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) الواو عاطفة وليس فعل ماض ناقص والذكر اسمها والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر، أو الكاف اسمية وهي الخبر والأنثى مضاف إليه (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) الواو عاطفة والجملة معطوفة على جملة «اني وضعتها» ، وإن واسمها، وجملة سميتها خبرها، والهاء مفعول سميت الأول ومريم مفعوله الثاني (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) الواو عاطفة أيضا والجملة معطوفة على جملة «إني سميتها» وإن واسمها، وجملة أعيذها خبر إن والهاء مفعول به وبك متعلقان بأعيذها وذريتها عطف على الهاء أو مفعول معه ومن الشيطان متعلقان بأعيذها والرجيم صفة للشيطان.(1/497)
البلاغة:
1- فائدة الخبر في قوله: «إني وضعتها» للتحسر، وليس مرادها الإخبار بمفهومه، لأن الله عالم بما وضعت بل المراد إظهار الحسرة لما فاتها من تحقيق وعدها والوفاء بما التزمت به والاعتذار حيث أتت بمولود لا يصلح للقيام بما نذرته.
2- تكررت إن أربع مرات، وفي الثلاث الأولى كان خبرها فعلا ماضيا، وفي المرة الرابعة عدلت عن الماضي إلى المضارع، فقالت:
أعيذها، لنكتة بلاغية، وهي ديمومة الاستعاذة وتجددها دون انقطاع بخلاف الأخبار السابقة فإنها انقطعت.
3- المراد بالخبر في قوله تعالى حكاية عن نفسه: «والله أعلم بما وضعت» لازم الفائدة، والقصد منه إفادتها دون التصريح بما سيكون من شأن المولود الذي لم تأبه له بادىء الأمر، وهي جاهلة مآل أمر هذه المولودة التي ستلد رسول الرأفة والسلام.
4- المراد بالخبر في قوله: «وليس الذكر كالأنثى» نفي الاعتقاد السائد بين الناس بوجود تفاوت بين الأولاد، وإن هذا التفاوت الذي يبدو للوهلة الأولى، إنما هو أمر ظاهري لا يثبت عند الابتلاء والتجربة، فإن الغيب أعمق غورا من أن يسبروه، وأبعد منالا من أن يدركوه، وكم من النساء من فاقت الرجال وأربت عليهم في الدرجات وقد تعلق أبو الطيب المتنبي بأذيال هذا المعنى البديع بقوله:
ولو كان النساء كمن فقدنا ... لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال
5- الإطناب في قوله تعالى: «وإني سميتها مريم» والغرض من التصريح بالتسمية التقرب إلى الله والازدلاف إليه بخدمة بيت المقدس(1/498)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
أولا، ورجاء عصمتها ثانيا، فإن مريم في لغتهم العابدة، وإظهارا لعزمها على الوفاء بوعدها ثالثا أي: إنها وإن لم تكن خليقة بالسدانة فأرجو أن تكون من العابدات المطيعات. وقد أهمل صاحب المنجد الإشارة إلى ذلك في كتابة «المنجد» .
الفوائد:
تنقسم الحال إلى مبينة أو مؤسسة، وهي التي لا يستفاد معناها من دون ذكرها، كجاء علي راكبا إذ لا يستفاد معنى الركوب إلا بذكر راكبا.
ومؤكدة وهي التي يستفاد معناها من دون ذكرها، وهي إما مؤكدة لعاملها لفظا ومعنى نحو «وأرسلناك للناس رسولا» و «فتبسم ضاحكا» وإما مؤكدة لصاحبها نحو «لآمن من في الأرض كلهم جميعا» فجميعا حال من فاعل آمن، وهو «من» الموصولة، مؤكدة لها، وإما مؤكدة لمضمون جملة قبلها معقودة من اسمين معرفتين جامدين نحو: «هو الحق بينا» ، وقول الشاعر:
أنا ابن دارة معروفا بها نسبي ... وهل بدارة يا للناس من عار
فإن جعلت «أنثى» حالا من الضمير كانت مؤكدة، وإن جعلتها حالا من «النسمة والنفس» المفهومة من سياق الكلام كانت مبينة.
[سورة آل عمران (3) : آية 37]
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)(1/499)
اللغة:
(كَفَّلَها) بتشديد الفاء أي ضمنه إياها وضمها إليه وجعلها كافلا لها وضامنا لمصالحها. ويؤيد هذا المعنى قراءة «وأكفلها» بوصفه زوج خالتها وذلك عن طريق الاقتراع.
(الْمِحْرابَ) والمحرب آلة الحرب، وهذا هو القياس الصّرفي.
ولكن المحراب له معان مستقلة ليست داخلة في القياس الاشتقاقي، فمن معانيه صدر البيت وأكرم مواضعه، وصدر المجلس، ومأوى الأسد، ومحراب المسجد. ويرى علماء اللغة أن محراب المسجد سمي بذلك لأن المتعبد فيه يحارب الشيطان، ولذلك يقال: لكل محل من محال العبادة محراب، والباحث يحار ويدهش في أمر هذه اللغة الشريفة كيف تطورت؟ ما هي تفاعلات الزمن التي أسهمت في هذا التطور؟ إن المتتبع لموادها اللغوية يعجب كيف تهيأ لها هذا التطور الحركي الذي يحتاج إلى ما لا يحصى من الزمن، فالحاء والراء حرفان يدلان في الأصل على الحر والحرق، ولو تتبعنا جميع الجذور الأخرى لرأينا أنّ كل كلمة تبتدئ بهما تدل على معنى يكاد يكون منتزعا من هذا المعنى، أو متفرعا عنه.
فلنستعرض الآن مادة الحرب، إنها احتراق بكل معنى لاهب، والحرب بفتحتين الهلاك، وهو مقتفيات الحرق ومستلزماته، قال أبو تمام:
لما رأى الحرب رأي العين توفلس ... والحرب مشتقة المعنى من الحرب
وحرث الأرض: شقها بالسكة، وهذا يمت إلى المعنى الأصلي، بأوثق الأسباب، والحرج الضيق، وحرد الرجل بكسر الراء: غضب،(1/500)
فهو حارد وحردان، وهي عاميه فصيحة. وهكذا إلى آخر المادة حيث تنتهي إلى هذا التقرير العجيب.
الإعراب:
(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) الفاء عاطفة وتقبل فعل ماض والهاء مفعول به وربها فاعل والجار والمجرور متعلقان بتقبلها وحسن صفة (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) الواو عاطفة وأنبتها فعل وفاعل مستتر ومفعول به ونباتا مفعول مطلق وحسنا صفة (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) الواو عاطفة وكفل فعل ماض والهاء مفعول به أول وزكريا مفعول به ثان، أي جعل زكريا كافلا لها وضامنا لمصالحها وفي قراءة تخفيف الفاء يكون زكريا هو الفاعل. وقد نسجت أساطير حول هذه الكفالة، يرجع فيها إلى المطولات (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) كلما ظرف زمان تقدم إعرابه مرارا وهو متعلق بوجد لأنه جواب الشرط. وجملة دخل عليها في محل جر بإضافة الظرف إليها والمحراب مفعول به على السعة أو منصوب بنزع الخافض (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعندها ظرف متعلق بوجد ورزقا مفعول به وجملة الشرط استئنافية (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) الجملة مستأنفة، وهذا أصلح ما قيل فيها رغم الاختلاف الشديد الذي لا طائل تحته. وقال فعل ماض والفاعل هو ويا حرف نداء ومريم منادى مفرد علم مبني على الضم وأنى اسم استفهام بمعنى كيف، كأنه سؤال عن الكيفية، أي: كيف تهيأ لك وصول هذا الرزق إليك؟ قال الكميت:
أنى ومن أين آبك الطرب ... من حيث لا صبوة ولا طرب
وقيل معناه هنا:: من أين. وعلى الحالين هو منصوب على الظرفية(1/501)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
متعلق بمحذوف خبر مقدم، ولك جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وهذا مبتدأ مؤخر (قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الجملة مستأنفة وهو مبتدأ ومن عند الله متعلقان بمحذوف خبر (إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) إن واسمها، وجملة يرزق خبر ومن اسم موصول مفعول به وجملة يشاء لا محل لها لأنها صلة الموصول وبغير حساب جار ومجرور متعلقان بيرزق وجملة إن الله مقول القول أيضا إذا كان من كلامها أو مستأنفة.
البلاغة:
في هذه الآية فنون نشير إليها بما يلي:
1- الجناس المغاير في قوله «فتقبلها ربها بقبول حسن» وفي قوله «فأنبتها نباتا حسنا» وفي قوله «رزقا» و «يرزق» .
2- الإشارة، وهو التعبير باللفظ الظاهر عن المعنى الخفي في قوله «هو من عند الله» أي هو رزق لا يأتي به في ذلك الوقت إلا الله.
3- التنكير في قوله: «رزقا» لإفادة الشيوع والكثرة، وأنه ليس من جنس واحد بل من أجناس كثيرة.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 38 الى 41]
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41)(1/502)
(العاقر) من لا يولد له، رجلا كان أو امرأة. مشتق من العقر وهو القطع، لقطعة النسل.
(الحصور) بفتح الحاء فعول محول عن فاعل للمبالغة، وهو الذي لا يأتي النساء، وهو قادر على ذلك والممنوع منهن أو من لا يشتهيهنّ ولا يقربهن. ثم استعمل لكل من لا يشارك في لعب ولهو ومجانة، قال الأخطل:
وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسآر
(العشي) من حين تزول الشمس إلى أن تغيب، وهو اسم مفرد لا جمع كما توهم الجلال وأبو حيان.
(الإبكار) بكسر الهمزة مصدر لأبكر بمعنى بكر ثم استعمل اسما، وهو طلوع الشمس إلى وقت الضحى.
الإعراب:
(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) هنالك اسم إشارة للمكان في محل نصب على الظرفية المكانية وقد يتجوز به للزمان واللام للبعد والكاف للخطاب والظرف متعلق بدعا وزكريا فاعل دعا وربه مفعوله، والجملة مستأنفة مسوقة للإشارة إلى تحول زكريا عن اعتقاده بشأن الولادة والعقم،(1/503)
أي: لما رأى زكريا ذلك وعلم أن القادر على الإتيان بالشيء في غير أوانه قادر على الإتيان بالولد في حال الكبر (قالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) جملة مستأنفة مسوقة لتحقيق ما خطر له من سوانح بعد التحول الفكري الطارئ عليه، وقال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على زكريا ورب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وهب فعل أمر ولي متعلقان بهب ومن لدنك جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وذرية مفعول به وطيبة صفة، وأنثت الصفة لتأنيث الموصوف لأنه لم يقصد به معين، أما إذا قصد به ذلك امتنع اعتبار اللفظ، نحو طلحة وحمزة وجملة النداء في محل نصب مقول القول (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) إن واسمها وخبرها والجملة تعليلية لا محل لها (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) الفاء عاطفة ونادته الملائكة فعل ومفعول به وفاعل (وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) الواو حالية وهو مبتدأ وقائم خبره والجملة نصب على الحال من مفعول النداء وجملة يصلي في المحراب لك أن تجعلها خبرا ثانيا لهو أو تنصبها على الحال من القيام وفي المحراب متعلقان بيصلي (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) أن وما في خبرها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بنادته وقرىء بكسر همزة «إن» بتقدير قول محذوف، فالجملة مقول القول وجملة القول حال، أي: حال كون الملائكة قائلين. وجملة يبشرك خبرها والجار والمجرور متعلقان بيبشرك ويحيى ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة إن كان أعجميا، وإن كان عربيا فللعلمية ووزن الفعل (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) مصدقا حال وبكلمة متعلقان بمصدقا والمراد بالكلمة عيسى بن مريم وإنما سمي كلمة لأن الله تعالى قال له: كن فكان من غير أب. وهناك أقوال أخرى يرجع(1/504)
فيها إلى المطولات (وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) الكلمات الثلاث عطف على «مصدقا» ومن الصالحين صفة لنبيا (قالَ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) قال فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو يعود على زكريا ورب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وأنّى اسم استفهام في محل نصب على الظرفية والظرف متعلق بمحذوف خبر يكون إذا اعتبرت ناقصة أو حال إذا اعتبرت تامة، ولي متعلقان بمحذوف حال وغلام اسم يكون أو فاعلها وجملة قال استئنافية وجملة النداء مقول القول (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) الواو حالية وقد حرف تحقيق وبلغني فعل ماض والنون للوقاية والياء مفعول به والكبر فاعل والجملة في محل نصب حال (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) الواو حالية أيضا وامرأتي مبتدأ وعاقر خبر والجملة حالية من الياء في «لي» فتكون حالا متعددة، ولك أن تجعلها حالا من الياء في «بلغني» (قالَ: كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) اضطرب كلام المعربين والمفسرين في هذه الآية، وأقرب ما تراءى لنا وجهان متساويا الرجحان، أولهما أن الجملة كلها مستأنفة، والقائل هو الله تعالى، و «كذلك» جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب مفعول مطلق، أي يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة مثل ذلك الفعل، وهو خلق الولد من الشيخ الفاني والعجوز العاقر، أو على أنهما في موضع الحال من ضمير المصدر المحذوف من «يفعل» وذلك على مذهب سيبويه في هذه المسألة، وقد تقدم بحثها. والله مبتدأ وجملة يفعل خبر وما اسم موصول في محل نصب مفعول به والجملة مقول القول. والوجه الثاني أن يتعلق كذلك بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك، وجملة يفعل ما يشاء في محل رفع خبر الله وجملة يشاء لا محل لها لأنها صلة (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) قال: فعل ماض والفاعل زكريا ورب(1/505)
منادى تقدم إعرابه، واجعل فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت، ولي متعلقان باجعل وآية مفعول به وجملة النداء وما تلاه مقول القول وجملة القول مستأنفة (قالَ: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) الجملة مستأنفة وآيتك مبتدأ وأن وما في حيزها في تأويل مصدر خبر وتكلم فعل مضارع
منصوب بأن والناس مفعول به والجملة مقول القول (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) ثلاثة أيام: ظرف زمان متعلق بتكلم وإلا أداة استثناء منقطع واجب النصب لأن الرمز ليس من جنس الكلام، ولك أن تعتبره من جنس الكلام فتكون «رمزا» استثناء من أعم الأحوال أو من أعم المصادر، أي حالا أو مفعولا مطلقا، وهذه الأوجه متساوية الرجحان في هذا التركيب العجيب (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) الواو استئنافية واذكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وربك مفعول به وكثيرا مفعول مطلق أو ظرف زمان، أي ذكرا كثيرا أو وقتا كثيرا (وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) الواو عاطفة وسبح عطف على اذكر وبالعشي جار ومجرور متعلقان بسبح والإبكار عطف عليه.
البلاغة:
في قوله «رمزا» فن الإشارة، وقد تقدم بحثه قريبا، لأنه دل على ما في نفس البشر من خلجات ومعان. وقد تشبث الشعراء بأذيال هذه البلاغة، قال أبو تمام:
توحي بأسرارنا حواجبنا ... وأعين بالوصال ترتشق
وقال أيضا:
كلمته بجفون غير ناطقة ... فكان من ردّه ما قال حاجبه(1/506)
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
وقال آخر:
إذا كلمتني بالعيون الفواتر ... رددت عليها بالدموع البوارد
[سورة آل عمران (3) : الآيات 42 الى 43]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
اللغة:
(اصْطَفاكِ) : اختارك.
(اقْنُتِي) : أخلصي العبادة وأديمي الطاعة.
الإعراب:
(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) الواو عاطفة والجملة معطوفة، فقد عطف قصة البنت على قصة أمها لما بينهما من كمال المناسبة. ولك أن تعطف «إذ» على الظرف السابق وأن تعلقه باذكر محذوفا، وقالت الملائكة:
فعل وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ) يا حرف نداء ومريم منادى مفرد علم وإن واسمها، وجملة اصطفاك خبر إن والجملة كلها مقول القول (وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) الفعلان معطوفان على اصطفاك وعلى نساء متعلقان باصطفاك والعالمين مضاف إليه (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) يا حرف نداء ومريم منادى مفرد علم واقنتي فعل أمر مبني على حذف النون والياء(1/507)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
فاعل والجار والمجرور متعلقان باقنتي (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) فعلا الأمر منسوقان على اقنتي ومع ظرف مكان متعلق باركعي والراكعين مضاف إليه.
البلاغة:
1- في هاتين الآيتين التقديم، فقد قدم السجود وهو متأخر في حكم الصلاة للاهتمام به، ولكونه أدل على التذلل والعبادة. وهذا ديدنهم تقديم الأهم على المهم.
2- وفيهما أيضا التكرير، فقد كرر النداء للإيذان بأن كل واحد منهما مسوق لمعنى، فالأول تذكير بالنعمة، وهو بمثابة تمهيد للثاني الذي هو للتكليف والترغيب في العمل.
3- وفيهما أيضا إطلاق الجزء وادارة الكل، وقدم السجود لأنه أفضل أركان الصلاة كما تقدم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 44 الى 46]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
اللغة:
(أَقْلامَهُمْ) الأقلام: جمع قلم وهو فعل بمعنى مفعول، أي(1/508)
مقلوم. والقلم: القطع ومثله القبض والنقض بمعنى المقبوض والمنقوض.
(الْمَسِيحُ) : لقب من الألقاب الشريفة التي تشعر بالرفعة كالصديق والفاروق وهو بالعبرية المشيح ومعناه المبارك وسمي المسيح قيل: لكثرة سياحته، وقيل: لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص لهما، وقيل: لأنه كان إذا مسح أحدا من ذوي العاهات برىء.
(عِيسَى) : معرب من ايشوع، وقيل: مشتق من العيس، وهو بياض تعلوه حمرة.
الإعراب:
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) ذلك اسم إشارة مبتدأ ومن أنباء الغيب خبره والجملة مستأنفة مسوقة للإخبار بأن ذلك كله من نبأ زكريا ويحيى ومريم وعيسى عليهم السلام (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) فعل مضارع وفاعله نحن والهاء مفعول به والجار والمجرور متعلقان بنوحيه والجملة حالية أو استئنافية أيضا (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) الواو حالية أو استئنافية وما نافية وكان واسمها، ولديهم ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر كنت أي:
موجودا لديهم (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) إذ ظرف لما مضى ودخوله على المضارع لحكاية الحال الماضية، وهو متعلق بما تعلق به «لديهم» أي بالاستقرار المحذوف.
وقد قال أبو علي الفارسي: العامل في «إذ» هو «كنت» .
وقد اعترض عليه بما قرره هو نفسه إذ قال: إن «كان» الناقصة سلبت الدلالة على الحدث وتجردت للزمان فلا يتعلق بها الظرف ولا الجار والمجرور. وجملة يلقون في محل جر بالإضافة وأقلامهم: مفعول(1/509)
به (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) الجملة في محل نصب حال بتقدير فعل، أي يتساءلون، ويبعد جعلها فاعلا لفعل محذوف، لما في ذلك من التكلف، كما فعل الجلال وأي مبتدأ والهاء مضاف إليه والميم علامة جمع الذكور وجملة يكفل مريم خبر المبتدأ. (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) الواو عاطفة وما نافية وكان واسمها، ولديهم ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر كنت وإذ ظرف لما مضى متعلق بالاستقرار المحذوف وجملة يختصمون في محل جر بالإضافة (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) الظرف متعلق بمحذوف، أي: اذكر، وقالت الملائكة فعل وفاعل والجملة في محل جر بالإضافة وجملة الظرف ومتعلقة مستأنفة مسوقة للشروع في قصة عيسى عليه السلام (يا مَرْيَمُ) يا أداة نداء ومريم منادى مفرد علم (إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ) الجملة مقول القول وإن واسمها وجملة يبشرك خبرها (بِكَلِمَةٍ) متعلقان بيبشرك (مِنْهُ) صفة لكلمة (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) اسمه مبتدأ والمسيح خبر والجملة صفة ثانية لكلمة وعيسى بدل من المسيح وابن مريم بدل أو نعت. وذكرت مريم مع أنها هي المخاطبة للإيذان باختصاص عيسى عليه السلام بأنه ولد من غير أب كما جرت العادة (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) وجيها حال من كلمة وان كانت نكرة لأنها موصوفة والجار والمجرور متعلقان بوجيها فهما في موضع نصب على الحال (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) الواو عاطفة ويكلم فعل مضارع والفاعل هو والجملة معطوفة على «وجيها» فهي حال أيضا وعدل إلى الفعلية للتجدد والناس مفعول به وفي المهد متعلقان بمحذوف حال من فاعل «يكلم» (وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ) عطف على قوله «في المهد» أي: صبيا وكهلا، ومن الصالحين عطف على وجيها فاستتم بذلك الأوصاف الأربعة ل «كلمة» .(1/510)
البلاغة:
الكناية في قوله: «يلقون أقلامهم» عن القرعة.
الفوائد:
(إِذْ) تكون على ثلاثة أوجه:
2- تكون للتعليل وهذه حرف بمنزلة لام التعليل، كقول الفرزدق:
بعدها فعل مضارع فهي لحكاية الحال الماضية.
2- تكون للتعليل وهذه حرف بمنزلة لام التعليل، كقول الفرزدق:
فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم ... إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر
فالظرفية هنا منسلخة ولا تصح بحال، لأن المعنى يفسد، أي أعاد الله نعمتهم وقت كونهم قريشا، فيفيد أن كونهم من قريش أمر طارئ عليهم.
3- أن تكون للمفاجأة، وهي الواقعة بعد «بينا» و «بينما» كقوله:
استقدر الله خيرا وارضين به ... فبينما العسر إذ دارت مياسير
والأولى عندئذ أن تكون حرفا.
(أي) تأتي على خمسة أوجه:
1- اسم شرط جازم وتعرب بحسب موقعها.
2- اسم موصول وتعرب بحسب موقعها إلا إذا أضيفت وحذف صدر صلتها فتبنى على الضم: «ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا» .(1/511)
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)
3- اسم استفهام كما في الآية المتقدمة، وحكمها حكم الموصولية.
4- أن تقع صفة للنكرة أو حالا بعد المعرفة للدلالة على معنى التمام والكمال، كقول أبي العتاهية:
إن الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للمرء أيّ مفسدة
5- تكون وصلة لنداء ما فيه أل: يا أيها الناس.
(العلم) ينقسم العلم إلى اسم وكنية ولقب، وإذا اجتمع الاسم واللقب يؤخر اللقب عن الاسم، وربما قدم عليه كما في الآية. ويطرد هذا إذا كان اللقب أشهر من الاسم ولا ترتيب في الكنية، ويعرب الثاني بدلا من الأول، ويجوز أن تضيف اللقب إلى الاسم إذا كانا مفردين كهرون الرشيد ومحمد المهديّ
[سورة آل عمران (3) : الآيات 47 الى 50]
قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)(1/512)
اللغة:
(الأكمه) : الذي ولد أعمى يقال: كمه كمها، من باب تعب، فهو أكمه والمرأة كمهاء، مثل أحمر وحمراء وهو العمى يولد عليه الإنسان وربما كان عارضا.
(الأبرص) : المصاب بالبرص بفتحتين وهو داء معروف يعتري الإنسان، ولم تكن العرب تنفر من شيء نفرتها منه، فكانوا يصفون العظيم إذا أصيب به بالوضّاح فقالوا: جذيمة الوضاح وهو من ملوك العرب المشهورين ويقال للقمر أبرص لشدة بياضه وللوزغ سام أبرص لبياضه.
الإعراب:
(قالَتْ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) تقدم إعرابها قبل قليل بحروفها فجدد بها عهدا (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) الواو للحال ولم حرف نفي وقلب وجزم ويمسسني فعل مضارع مجزوم بلم والنون للوقاية والياء مفعول به وبشر فاعل والجملة حالية (قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) الجملة مستأنفة لا محل لها والجار والمجرور متعلقان بمحذوف مفعول مطلق لفعل محذوف، أو حال وعلقهما بعضهم بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف والله مبتدأ وجملة يخلق خبر وما اسم موصول مفعول به وجملة يشاء لا محل لها لأنها صلة الموصول وجملة الله يخلق مقول القول (إِذا قَضى أَمْراً) إذا ظرف مستقبل وجملة قضى في محل جر بالإضافة وأمرا مفعول به (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) الفاء رابطة لجواب إذا وجملة إنما يقول لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وله متعلقان بيقول وكن فعل أمر تام والجملة مقول القول والفاء(1/513)
استئنافية ويكون فعل مضارع تام مرفوع بالضمة والفاعل هو والجملة خبر لمبتدأ محذوف أي فهو يكون والجملة مستأنفة، وهذا قول سيبويه وهو الصحيح وقرأ ابن عامر بالنصب «فيكون» على أن الفاء للسببية، ويشكل على هذه القراءة أن الاستقبال مسلوب عنه عندئذ بها. (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) الواو استئنافية ولك أن تعطفها على «وجيها» كأنه قال: وجيها ومعلما، وقرىء ونعلمه فتكون الجملة مقولا لقول محذوف لأنه يكون من كلام الله ويعلمه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول والكتاب مفعول به ثان وما بعده منسوق عليه (وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) الواو عاطفة ورسولا مفعول به لفعل محذوف أي ويجعله رسولا أي من باب الإخبار بالمغيبات، وأجاز الزمخشري وغيره أن يعرب رسولا حالا كأنه عطفه على يعلمه بالمعنى وإلى بني إسرائيل متعلقا بمحذوف صفة ل «رسولا» (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، أي بأني قد جئتكم، وقد سبق القول بأن هذا مطرد قبل أنّ وأن، والجار والمجرور متعلقان ب «رسولا» لأنه تضمن معنى النطق، أي ورسولا ناطقا بأني قد جئتكم. وقد كثرت التأويلات في هذه التعابير، ولذلك جعلها الزمخشري من المضائق المعجزة. وقيل الباء للملابسة وهي مع مدخولها في محل نصب على الحال، والمعنى أني رسول الله إليكم حال كوني متلبسا بمجيئي بالآيات وجملة قد جئتكم خبر أن وبآية متعلقان بجئتكم ومن ربكم متعلقان بمحذوف صفة لآية (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أن وما في حيزها في تأويل مصدر بدل من آية لأن ما يفعله لا يعدو أن يكون من دلائل آياته الباهرة، ولك أن نجعله(1/514)
خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هي والمعنى واحد وفي قراءة بكسر همزة إن فتكون إن وما بعدها مستأنفة وجملة أخلق خبر إن ولكم متعلقان بمحذوف في محل نصب على معنى التعليل أي لأجل هدايتكم، أو معنى الحال أي هاديا لكم، ومن الطين متعلقان بأخلق وكهيئة الكاف اسم بمعنى مثل فهي في محل نصب مفعول به أو حرف فتكون وما بعدها في محل نصب صفة لمفعول به محذوف أي شيئا مثل هيئة الطير وهيئة مضاف إليه إن كانت اسما والطير مضاف مضاف الى هيئة (فَأَنْفُخُ فِيهِ) الفاء عاطفة، أنفخ معطوف على أخلق، والجار والمجرور متعلقان بأنفخ (فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ) الفاء عاطفة ويكون فعل مضارع ناقص معطوف على أخلق وطيرا خبر يكون واسمها مستتر وبإذن الله متعلقان بيكون على رأي من يجيز تعلق الجار والمجرور والظرف بالأفعال الناقصة أو بمحذوف حال، والأول أقرب الى المعنى (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ) عطف على أخلق والأكمه مفعول به (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ) عطف على ما تقدم أيضا وبإذن الله متعلقان بأحيي (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ) عطف أيضا والجار والمجرور متعلقان بأنبئكم ناب عن المفعولين وجملة تأكلون لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) الواو عاطفة وما عطف على «ما» المتقدمة وجملة تدخرون لا محل لها وفي بيوتكم جار ومجرور متعلقان بتدخرون (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر إن
المقدم، واللام هي المزحلقة وآية اسمها المؤخر ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لآية وجملة إن وما في حيزها إما أن تكون من كلام عيسى عليه السلام فتكون داخلة في حيز القول، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى فتكون مستأنفة.
وإن شرطية وكنتم في محل جزم فعل الشرط وكان فعل ماض ناقص(1/515)
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
والتاء اسمها ومؤمنين خبرها وجواب الشرط محذوف والتقدير إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآية وجملة الشرط استئنافية (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) الواو عاطفة ومصدقا حال من فعل محذوف أي وجئتكم مصدقا، أو تعطفه على محل «بآية» ولما اللام حرف جر وما اسم موصول مجرور باللام والجار والمجرور متعلقان «بمصدقا» وبين ظرف متعلق بمحذوف لا محل له لأنه صلة ما ويديّ مضاف إليه وعلامة جره الياء لأنه مثنى والياء مضاف إليه ومن التوراة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) الواو حرف عطف واللام للتعليل وأحلّ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام التعليل واللام ومدخولها متعلقان بجئتكم مقدرة، ولا يجوز عطفه على «مصدقا» لأنه حال ولأحل تعليل، ولكم جار ومجرور متعلقان بأحل وبعض مفعول به والذي اسم موصول مضاف إليه، وجملة حرم عليكم لا محلّ لها لأنها صلة الموصول (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) الواو حرف عطف وجملة جئتكم عطف على جئتكم السابقة وتكررت للتوكيد وبآية جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال فالباء للملابسة، والمعنى أني رسول إليكم حال كوني ملتبسا بمجيئي. ولك أن تعلقها بجئتكم، ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لآية (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) الفاء الفصيحة، أي إذا علمتم أنه لا يسوغ لكم بعد هذه الآلاء الباهرة التي مننت بها عليكم أن تأخذكم هوادة في طاعة الله فاتقوا الله. واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وأطيعون عطف على اتقوا وحذفت ياء المتكلم لمراعاة الفواصل.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 51 الى 54]
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54)(1/516)
اللغة:
(الْحَوارِيُّونَ) : جمع حواري، وهو صفوة الرجل وخالصته، ومنه قيل للحضريات: حواريات، لخلوص ألوانهن وفتنتهن ونعومتهن قال:
فقل للحواريات يبكين غيرنا ... ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح
وتكاد هذه النسبة تكون مطّردة كالحوالي وهو الكثير الحيلة.
وزعم صاحب المنجد أنّ اللفظة حبشية ولكننا نرجح أنها عربية خالصة.
ففي أساس البلاغة: وامرأة حوارية ونساء حواريات: بيض قال الأخطل:
حوارية لا يدخل الذمّ بيتها ... مطهرة يأوي إليها مطهر
وقد نسجت أساطير جميلة حول الحواريين تحتاج إلى قصاص بارع يصوغ منها أروع القصص.
(المكر) في اللغة: الستر، يقال: مكر الليل أي أظلم وستر بظلمته ما فيه، واشتقاقه من المكر، وهو شجر ملتفّ، كأنهم تخيلوا أن المكر يلف الممكور به. وامرأة ممكورة البطن: أي ملتفة ثم خصصوه بالخبث والخداع.
الإعراب:
(إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) كلام مستأنف مسوق لتقدير أصل(1/517)
الديانة المترتبة على الإيمان بما أورده، وإن واسمها، وربي خبرها وربكم عطف على ربي. فاعبدوه: الفاء الفصيحة أي إذا شئتم حسن المصير فاعبدوه، واعبدوه فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به وجملة اعبدوه لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) يصح أن تكون الجملة مستأنفة أو مفسرة، وعلى الحالين لا محل لها. وهذا مبتدأ وصراط خبر ومستقيم صفة لصراط (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) الفاء عاطفة على محذوف تقديره فكذبوه، لأنه قول مرتب على هذا المحذوف. ويجوز أن تعرب استئنافية ولما ظرفية حينية أو رابطة وقد تقدم ذكرها كثيرا، وجملة أحس عيسى في محل جر بإضافة الظرف إليه أو لا محل لها إذا أعربناها رابطة. وأحس فعل ماض وعيسى فاعل ومنهم جار ومجرور متعلقان بأحس والكفر مفعول به ويجوز أن يتعلقا بمحذوف حال من الكفر أي حال كونه صادرا منهم (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ) جملة قال لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وهو لما ومن اسم استفهام مبتدأ وأنصاري خبره وإلى الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الياء في أنصاري، والمعنى من أنصاري حال كوني ماضيا إلى سبيل الله شارعا في المناضلة عنه ونصرته؟ وللزمخشري رأي طريف في هذا الجار والمجرور إذ جعلهما من صلة أنصاري مضمنا معنى الإضافة، كأنه قال: من الذين يضيفون أنفسهم إليّ ينصرونني كما ينصرني؟ (قالَ الْحَوارِيُّونَ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير الجواب على استفهامه. وقال الحواريون فعل وفاعل وجملة نحن أنصار الله من المبتدأ والخبر مقول القول (آمَنَّا بِاللَّهِ) آمنا فعل وفاعل وبالله جار ومجرور متعلقان بآمنا والجملة خبر ثان لنحن (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) الواو استئنافية واشهد(1/518)
فعل أمر وبأنا الباء حرف جر وأن واسمها، ومسلمون خبرها. وأن وما في حيزها مصدر في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان بأشهد، وهذا أحسن من جعلها عاطفة لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر، وهو مرجوح، وإنما طلبوا شهادته بإسلامهم تأكيدا لإيمانهم (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) ربنا منادى مضاف وجملة آمنا خبر ثالث لنحن وبما جار ومجرور متعلقان بآمنا وجملة أنزلت لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) عطف على جملة آمنا والرسول مفعول به (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) الفاء الفصيحة أي إذا كان الأمر كما تقدم فاكتبنا، ولك أن تجعلها استئنافية ومع ظرف مكان متعلق باكتبنا والشاهدين مضاف إليه (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) الواو استئنافية ومكروا فعل وفاعل ومكر الله عطف على مكروا والله الواو حالية والله مبتدأ وخير الماكرين خبره والجملة في محل نصب على الحال.
البلاغة:
1- الاستعارة التمثيلية في أحس، إذ لا يحس إلا ما كان متجسدا، والكفر ليس بمحسوس، وإنما يعلم ويدرك كعلم ما يدرك بالحواس.
2- فن المشاكلة وقد مرت الإشارة إلى هذا الفن، وحقيقة ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته، فكأنه قال: وأخذهم بمكرهم، لأن الله تعالى وتقدس لا تستعمل في حقه لفظة توهم الشناعة. وهو كثير شائع في القرآن، فاعلمه. ومنه في الشعر قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أي فنجازيه على جهله، فجعل لفظة فنجهل موضع فنجازيه للمشاكلة. ومن طريف المشاكلة قول أبي تمام الطائي:(1/519)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
والدهر ألأم من شرقت بلؤمه ... إلا إذا أشرقته بكريم
أي انتصرت عليه بكريم فقال: أشرقته، للمشاكلة.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 55 الى 57]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
الإعراب:
(إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق باذكر مقدرا أو متعلق بمكروا أو ظرف لخير الماكرين. وجملة قال الله في محل جر بالإضافة ويا حرف نداء وعيسى منادى مفرد علم مبني على الضم المقدر على الألف (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ) إن واسمها ومتوفيك خبرها والكاف مضاف اليه ورافعك عطف على متوفيك وإلي جار ومجرور متعلقان برافعك لأنه اسم فاعل (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ومطهرك عطف على ما تقدم ومن الذين جار ومجرور متعلقان بمطهرك وجملة كفروا صلة الموصول لا محل لها (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وجاعل عطف أيضا والذين اسم موصول في محل جر بالاضافة وجملة اتبعوك صلة الموصول لا محل لها وفوق(1/520)
ظرف مكان متعلق بمحذوف مفعول به ثان لجاعل والذين مضاف إليه وجملة كفروا صلة الموصول (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) الجار والمجرور متعلقان بجاعل، يعني أن هذا الجعل مستمر إلى يوم القيامة (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) ثم حرف عطف للتراخي وإلي جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومرجعكم مبتدأ مؤخر (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) الفاء حرف عطف للتعقيب وأحكم فعل مضارع مرفوع وبينكم ظرف مكان متعلق بأحكم (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) فيما جار ومجرور متعلقان بأحكم وجملة كنتم صلة الموصول وكان واسمها، وفيه جار ومجرور متعلقان بتختلفون وجملة تختلفون في محل نصب خبر كنتم، والجملة كلها في محل نصب مقول القول (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) الفاء استئنافية والجملة مستأنفه مسوقة لتكون تفسيرا للحكم بين الفريقين. وأما حرف شرط وتفصيل والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة الموصول لا محل لها (فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الفاء رابطة لجواب أما وأعذبهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به والجملة الفعلية خبر الذين وعذابا مفعول مطلق وشديدا صفة وفي الدنيا جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ثانية والآخرة عطف على الدنيا (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) الواو حالية أو استئنافية وما نافية ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومن حرف جر زائد وناصرين مجرور بمن لفظا مرفوع محلا لأنه مبتدأ مؤخر والجملة حالية أو استئنافية (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) عطف على الآية السابقة والصالحات مفعول به منصوب بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) الفاء رابطة لجواب أما ويوفيهم فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره هو والهاء مفعول به أول وأجورهم مفعول به ثان والجملة خبر الذين (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة لا يحب الظالمين خبر.(1/521)
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
البلاغة:
اختلف المفسرون في قوله: «إني متوفيك ورافعك إلي» ، قال قتادة وغيره: هذا من المقدم والمؤخر، والتقدير: إني رافعك إلي ومتوفيك. يعني بعد ذلك. قال علي بن طلحة عن ابن عباس: إني متوفيك أي مميتك. وجمهور المفسرين يقولون: المراد بالوفاة هنا النوم، كما قال تعالى: «وهو الذي يتوفاكم بالليل» الآية. وقد اقتبس هذا المعنى بلفظه بعض الشعراء فقال:
تبارك من توفاكم بليل ... ويعلم ما جرحتم في النهار
[سورة آل عمران (3) : الآيات 58 الى 60]
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
الإعراب:
(ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما تقدم من أمر عيسى وذلك مبتدأ وجملة نتلوه خبر وعليك جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ويجوز أن يكون اسم الإشارة مبتدأ وجملة نتلوه في موضع نصب على الحال ومن الآيات جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) عطف على الآيات والحكيم صفة (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ) كلام مستأنف سيق تمهيدا لذكر محاجة وفد نجران الذي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم يسأله في أمر عيسى عليه السلام. وإن واسمها، وعيسى مضاف إليه وعند الله ظرف متعلق(1/522)
بمحذوف حال (كَمَثَلِ آدَمَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر وآدم مضاف إليه مجرور بالفتحة لأنه لا ينصرف كما تقدم (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) الجملة مفسرة لشبه عيسى بآدم لا محل لها وخلقه فعل ومفعول به والفاعل هو يعود على الله ومن تراب جار ومجرور متعلقان بخلقه (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وقال فعل ماض وله جار ومجرور متعلقان بقال وجملة كن التامة في محل نصب مقول القول وقوله فيكون عطف، وهي حكاية حال ماضيه (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير أن الحق الثابت الذي لا يطرأ عليه التغيير هو من ربك فالحق مبتدأ، ومن ربك خبر، ويجوز أن يكون الحق خبرا لمبتدأ محذوف أي ما قصصنا عليك هو الحق، ومن ربك جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الفاء الفصيحة أي إذا علمت هذا وقد علمته فلا تكن والجملة جواب الشرط غير جازم لا محل لها ولا ناهية وتكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلا واسمها ضمير مستتر تقديره أنت ومن الممترين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر.
البلاغة:
المقصود بالنهي «لا تكن من الممترين» إما زيادة تهييجه صلى الله عليه وسلم على الثبات، والطمأنينة، وحاشاه أن يكون ممتريا، أو أن الخطاب لغيره لطفا بهم.(1/523)
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 61 الى 63]
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
اللغة:
(حَاجَّكَ) : خاصمك وجادلك، وقارعك الحجة. والمحاجّة هي مفاعلة، ولا تقع إلا من اثنين فصاعدا.
(تَعالَوْا) : تعال فعل أمر على الأصح ولامه مفتوحة دائما، وأصله طلب الإقبال من مكان مرتفع تفاؤلا بذلك، وإذنا للمدعوّ لأنه من العلو والرفعة. فإذا أمرت المفرد قلت: تعال، ثم توسع فيه فاستعمل في مجرد طلب المجيء. وقد لحنوا أبا فراس الحمداني لأنه كسر لامه مع ياء الخطاب بقوله:
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا ... تعالي أقاسمك الهموم تعالي
وقد يجاب عنه بأنه ضرورة شعرية.
(نَبْتَهِلْ) المباهلة والابتهال في الأصل: الملاعنة. وفعله الثلاثي بهلة بهلا من باب نصر لعنه. واسم الفاعل باهل، والأنثى باهلة، وبها سميت قبيلة عربية، ثم تطورت الكلمة وأطلقت على كل دعاء خيرا كان أم شرا، وإن لم يكن لعانا. وقد استعمل هذه الكلمة أبو العلاء المعري في رسالة الغفران إذ قال في صدد حديثه عن الخرمية، وهم فئة من الزنادقة: «فعلى معتقدي هذه المقالة بهلة المبتهلين» والبهلة بضم الباء وفتحها: اللعنة أي لعنة اللاعنين، وهذا المعنى هو المراد في الآية.(1/524)
الإعراب:
(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ) الفاء استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدا حاجك فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاعل ضمير مستتر تقديره هو والكاف مفعول به وفيه جار ومجرور متعلقان بحاجك والضمير يعود إلى عيسى أو الحق مطلقا والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حكم المباهلة وشروطها المستنبطه من الكتاب والسنة. وحاصل كلام الأئمة فيها أنها بعد النبي صلى الله عليه وسلم لا تجوز إلّا في أمر مهم شرعا، وقع فيه اشتباه وعناد، لا يتاح دفعهما إلا بالمباهلة (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) الجار والمجرور متعلقان بحاجك أي من ذلك الوقت وما اسم موصول مضاف إليه وجملة جاءك صلة الموصول ومن العلم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي كائنا من العلم (فَقُلْ: تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) الفاء رابطة وقل فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وتعالوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وجملة قل في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر «ما» وجملة تعالوا في محل نصب مقول القول وندع فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب وفاعله نحن وأبناءنا مفعول به وأبناءكم وما تلاه عطف على قوله «أبناءنا» وإنما أضافهم إليه صلى الله عليه وسلم والأمر مختص به وبمن يباهله لأن ذلك آكد في الدلالة على الثقة بالنفس والإيمان بانتصار حجته، وإلا ما كان عرض أفلاذ كبده وأهله للهلاك، ولكن المباهلة لم تتم ورجع الوفد بحجة استشارة قومه من دون الارتطام بها كما هو مبين في كتب التاريخ فارجع إليها. (ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) ثم حرف عطف للتراخي ونبتهل فعل مضارع معطوف على ندع مجزوم والفاء حرف عطف للتعقيب ونجعل عطف على نبتهل والفاعل بينهما نحن(1/525)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
ولعنت الله مفعول به وعلى الكاذبين جار ومجرور متعلقان بنجعل أو في محل نصب على أنهما بمثابة المفعول الثاني (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) كلام مستأنف مسوق لتقدير ما تقدم ذكره وإن واسمها، اللام المزحلقة وهو ضمير فصل لا محل له والقصص خبر أو «هو» مبتدأ والقصص خبره والجملة خبر إن والحق صفة للقصص (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ) الواو استئنافية وما نافية ومن حرف جر زائد وإله مجرور لفظا مبتدأ ويجوز أن يكون الخبر محذوفا أي لنا. وإلا أداة حصر والله بدل من محل إله وهو الرفع. ويجوز أن يكون الله خبر إله والجملة مستأنفة (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تقدم إعراب نظيرتها قريبا (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) الفاء استئنافية والجملة مستأنفة وإن شرطية وتولوا فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والواو فاعل والجملة في محل جزم فعل الشرط فإن الفاء رابطة وإن واسمها، وعليم خبرها وبالمفسدين جار ومجرور متعلقان بعليم والجملة في محل جزم جواب الشرط.
الفوائد:
نص العلماء على كتابة «لعنة» بالتاء المفتوحة هنا وفي سورة النور فقط وما عداها تكتب بالتاء المربوطة على الأصل المعروف.
[سورة آل عمران (3) : آية 64]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
الإعراب:
(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) كلام مستأنف مسوق للبحث في الجدل الذي ثار حول إبراهيم عليه السلام عند مقدم وفد نجران، وقل فعل أمر وفاعله(1/526)
أنت ويا حرف نداء وأهل الكتاب منادى مضاف (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) الجملة نصب على أنها مقول القول وتعالوا تقدم إعرابها قبل قليل وإلى كلمة جار ومجرور متعلقان بتعالوا وسواء صفة وبيننا ظرف مكان متعلق بسواء لأنها أجريت مجرى المصادر كما تقدم في أول البقرة وبينكم عطف على بيننا (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ) أن وما في حيزها مصدر مؤول بدل من «كلمة» ، أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره هي، وأن مصدرية ولا نافية ونعبد فعل مضارع منصوب بأن وفاعله مستتر تقديره نحن وإلا أداة حصر والله مفعول به. والكلمة تطلق في اللغة على الجملة المفيدة (وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) الواو عاطفة ولا نافية ونشرك عطف على نعبد وبه جار ومجرور متعلقان بنشرك وشيئا مفعول به أو مفعول مطلق وقد تقدم الكلام على هذا الإعراب (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) الواو عاطفة ولا نافية ويتخذ فعل مضارع معطوف على لا نعبد ولا نشرك وبعضنا فاعل وبعضا مفعوله الأول وأربابا مفعوله الثاني ومن دون الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ل «أربابا» (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) الفاء استئنافية وما بعدها كلام مستأنف لا محل له مسوق لتقرير جوابهم وإن شرطية وتولوا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط أي أعرضوا، فقولوا الفاء رابطة لجواب الشرط والجملة في محل جزم جواب الشرط واشهدوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة في محل نصب مقول القول وبأنا الباء حرف جر وأن حرف مشبه بالفعل ونا اسمها ومسلمون خبرها وأن وما بعدها في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان باشهدوا.(1/527)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 65 الى 66]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66)
الإعراب:
(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) كلام مستأنف لإتمام قصة الجدل في أمر إبراهيم عليه السلام، ويا حرف نداء وأهل الكتاب منادى مضاف ولم: اللام حرف جر وما اسم استفهام حذفت ألفها بعد حرف الجر كما سيأتي في باب الفوائد، والجار والمجرور متعلقان بتحاجون وتحاجون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وفي إبراهيم جار ومجرور متعلقان بتحاجون ولا بد من حذف مضاف أي في دين إبراهيم لأن المجادلة لا تكون في الذوات (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) الواو حالية وما نافية وأنزلت فعل ماض مبني للمجهول والتوراة نائب فاعل والإنجيل عطف على التوراة وإلا أداة حصر من بعده جار ومجرور متعلقان بأنزلت فهو استثناء مفرّغ (أَفَلا تَعْقِلُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التعجبي وهي داخلة على مقدر هو المعطوف عليه بهذا العاطف أي ألا تتفكرون فلا تعقلون بطلان قولكم؟ (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) الهاء للتنبيه وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبر والجملة مستأنفة مسوقة لبيان بطلان قولهم وجملة حاججتم مستأنفة مسوقة لبيان الجملة قبلها والمعنى أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى، وآية حمقكم أنكم أمعنتم في اللّجاج والمكابرة فيما لا طائل تحته، وفيما جار ومجرور متعلقان بحاججتم ولكم جار ومجرور(1/528)
متعلقان بمحذوف خبر مقدم وبه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لعلم فلما تقدم أعرب حالا وعلم مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية لا محل لها لأنها صلة ما الموصولة (فَلِمَ تُحَاجُّونَ) الفاء عاطفة ولم تحاجون تقدم إعرابها قريبا (فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) فيما جار ومجرور متعلقان بتحاجون وليس فعل ماض ناقص ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ليس المقدم وبه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وعلم اسم ليس المؤخر (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة يعلم خبر وأنتم الواو عاطفة وأنتم ضمير منفصل مبتدأ وجملة لا تعلمون خبر.
الفوائد:
1- أعلم أن الأصل وصل الهاء التنبيهية باسم الإشارة لأن تعريف أسماء الإشارة في أصل الوضع بما يضاف إليها من إشارة المتكلم الحسية من يد أو جارحة أخرى فجيء في أوائلها بحرف ينبه بها المتكلم المخاطب حتى يلتفت إليه وينظر إلى أي شيء يشير من الإشارة الحاضرة، ويفصل ب «أنا» وأخواته كثيرا نحو: ها أنا ذا وها أنتم أولاء وها هو ذا وبغيرها قليلا، وليس المراد بقولك: ها أنا أفعل، أن تعرف المخاطب نفسك وأن تعلمه أنك لست غيرك، لأن هذا محال، بل المعنى فيه وفي: ها أنت ذا تقول، وها هو ذا يفعل، استغراب وقوع مضمون الفعل المذكور بعد اسم الإشارة من المتكلم أو المخاطب أو الغائب. والجملة بعد اسم الإشارة لازمة لبيان الأمر المستغرب، ولا محل لها إذ هي مستأنفة، وقال أبو عمرو بن العلاء:
«الأصل في ها أنتم: أأنتم، أبدلت الهمزة الأولى هاء لأنها أختها» .(1/529)
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
قال النحاس: وهذا قول حسن. وقال بعضهم: هي حالية، أي ها أنت قائلا والحال هنا لازمة لأن الفائدة معقودة بها، والعامل في الحال حروف التنبيه أو اسم الإشارة. والذي نراه أن ما قررناه أولى، وأن الاستئناف هو الأرجح، إذ ليس المراد أنت المشار إليه في حال قولك.
وما أعجب هذه اللغة الشريفة.
2- إذا وصلوا «ما» في الاستفهام حذفوا ألفها لوجوه: الأول للتفرقة بينها وبين أن تكون حرفا. والثاني: لاتصالها بحرف الجر حتى صارت كأنها جزء منه لتنبئ عن شدة الاتصال. والثالث: للتخفيف، لأن «ما» تقع كثيرا في الكلام، وأبقوا الفتحة لتدل على أن المحذوف من جنسها، كما فعلوا في علام؟ وإلام؟ وحتام؟ وبم؟ وعم؟ وفيم؟
ومم؟ قيل: إن بعض العوام سأل أحد النحويين فقال له: بما توصيني؟
وأثبت الألف في «ما» ، فقال: بتقوى الله وإسقاط الألف من «ما» .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 67 الى 68]
ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
اللغة:
(الحنف) الميل، والمراد مائلا عن الأديان كلها إلى الدين القيم.
الإعراب:
(ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) كلام مستأنف أورده سبحانه نبرئة لإبراهيم مما حاولوا إلصاقه به. وما نافية وكان فعل ماض ناقص(1/530)
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
وإبراهيم اسمها ويهوديا خبرها والواو حرف عطف ولا نافية ونصرانيا معطوف على «يهوديا» (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) الواو عاطفة ولكن مخففة مهملة وكان فعل ماض ناقص واسمها هو وحنيفا خبرها الأول ومسلما خبر ثان. (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) عطف على ما تقدم ومن المشركين متعلقان بمحذوف خبر كان (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) إن واسمها، والناس مضاف إليه وبإبراهيم جار ومجرور متعلقان بأولى والجملة استئنافية (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) اللام المزحلقة والذين خبر إن واتبعوه فعل وفاعل ومفعول به والجملة صلة (وَهذَا النَّبِيُّ) الواو حرف عطف على الذين والنبي بدل من اسم الإشارة (وَالَّذِينَ آمَنُوا) الواو حرف عطف والذين اسم موصول معطوف على هذا النبي وجملة آمنوا صلة الموصول (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) الواو استئنافية والله مبتدأ وولي خبر والمؤمنين مضاف إليه.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 71]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
اللغة:
(تَلْبِسُونَ) بكسر الباء أي تخلطون.
الإعراب:
(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) ودت فعل ماض والتاء للتأنيث وطائفة فاعل ومن أهل الكتاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة(1/531)
لطائفة والجملة مستأنفة مسوقة للحديث عن اليهود الذين دعوا عددا من الصحابة منهم حذيفة ومعاذ وعمار إلى دينهم. وسيأتي بحث مهم عن معنى ودت في باب الفوائد (لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) لو مصدرية ويضلونكم فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والكاف مفعول به ولو مؤولة مع ما بعدها بمصدر منصوب لأنه مفعول ودت، والتقدير تمنّت إضلالكم (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) الواو حالية وما نافية ويضلون فعل وفاعل وإلا أداة حصر وأنفسهم مفعول به والجملة في محل نصب حال (وَما يَشْعُرُونَ) عطف على الجملة السابقة (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ) جملة مستأنفة مسوقة لتأكيد استركاك عقولهم ويا حرف نداء وأهل الكتاب منادى مضاف ولم اللام حرف جر وما اسم استفهام في محل جر باللام وحذفت ألف ما لوفوعها بعد حرف الجر كما تقدم قريبا، وتكفرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجار والمجرور المتقدم عليه متعلق به وبآيات الله جار ومجرور متعلقان بتكفرون (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) الواو حالية وأنتم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ وتشهدون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة خبر وجملة أنتم تشهدون في محل نصب حال (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) جملة مستأنفة ثالثة مسوقة لتأكيد استركاك عقولهم وقد تقدم إعراب نظيرتها (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ) الواو عاطفة وتكتمون فعل مضارع والواو فاعل والحق مفعول به (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تقدم إعرابها.
الفوائد:
تستعمل «ود» بمعنى تمنى فتستعمل معها لو أو أن وربما جمع(1/532)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
بينهما فيقال: وددت لو أن فعل «والمصدر» الودادة والاسم منه ود وقد يتداخلان في المصدر والاسم وقال الراغب: إذا كان ود بمعنى أحب لا يجوز إدخال «لو» فيه أبدا، وقال علي بن عيسى: إذا كان «ود» بمعنى تمنى صلح للماضي وللحال وللمستقبل، وإذا كان بمعنى المحبة والإرادة لم يصلح إلا للماضي لأن الإرادة كاستدعاء الفعل وإذا كان للحال والمستقبل جاز أن ولو وإذا كان للماضي لم يجز أن لأن أن للمستقبل.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 72 الى 74]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
اللغة:
(وَجْهَ النَّهارِ) أوله وسمي الوجه وجها لأنه أول ما يبدو من الإنسان لمن يشاهده قال:
من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
وقال:
وتضيء في وجه الظلام منيرة ... كجمانة البحري سلّ نظامها(1/533)
الإعراب:
(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للحديث عن نوع آخر من تلبيسات اليهود فقد توطأ اثنا عشر حبرا من يهود خيبر فقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان، دون اعتقاد بالجنان، ثم اكفروا اخر النهار لادخال التشكيك في صدور أصحاب محمد وربما أفضى ذلك إلى رجوعهم عن دينهم. وقالت فعل ماض وطائفة فاعل ومن أهل الكتاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لطائفة (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) الجملة في محل نصب مقول القول وآمنوا فعل أمر مبني على حذف النون وبالذي جار ومجرور متعلقان بآمنوا وجملة أنزل صلة وأنزل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هو وعلى الذين آمنوا جار ومجرور متعلقان بأنزل وجملة آمنوا صلة (وَجْهَ النَّهارِ) ظرف زمان متعلق بآمنوا (وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) الواو حرف عطف واكفروا فعل أمر مبني على حذف النون معطوف على آمنوا وآخره ظرف زمان متعلق باكفروا (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) جملة الرجاء في محل نصب على الحال أي راجين رجوعهم عن دينهم ولعل واسمها وجملة يرجعون خبرها ثم أردف بتتمة مقولهم فهو داخل في حيزه (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) الواو عاطفة ولا ناهية وتؤمنوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وإلا أداة استثناء ولمن اللام حرف جر ومن اسم موصول في محل جر باللام والجار والمجرور في محل نصب على الاستثناء من محذوف تقديره ولا تؤمنوا أي تعترفوا وتظهروا بأن يؤتى أحد بمثل ما أوتيتم لأحد من الناس إلا لأشياعكم دون غيرهم وتبع فعل ماض وفاعله هو والجملة الفعلية(1/534)
صلة ودينكم مفعول به (قُلْ: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ) الجملة من قل ومقولها وهو ان واسمها وخبرها لا محل لها لأنها اعتراضية (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) أن وما في حيزها في تأويل مصدر مجرور بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بتؤمنوا وأحد نائب فاعل يؤتى ومثل مفعول به ثان وما اسم موصول في محل جر بالإضافة وجملة أوتيتم صلة (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أو حرف عطف ويحاجوكم فعل مضارع معطوف على يؤتى وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل والكاف مفعول به وعند ظرف مكان متعلق بمحذوف حال وربكم مضاف إليه (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ) قل فعل أمر وفاعله أنت وإن واسمها، وبيد الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر وإن وما في حيزها جملة اسمية في محل نصب مقول القول (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) جملة يؤتيه في محل نصب حال ويؤتي فعل مضارع وفاعله هو والهاء مفعول يؤتي الأول ومن اسم موصول في محل نصب مفعول يؤتي الثاني وجملة يشاء صلة (وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وواسع خبر أول وعليم خبر ثان (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) الجملة خبر ثالث ويختص فعل مضارع مرفوع وفاعله هو أي الله تعالى وبرحمته جار ومجرور متعلقان بيختص ومن اسم موصول في محل نصب مفعول به وجملة يشاء لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الواو عاطفة والله مبتدأ وذو الفضل خبر مرفوع وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة لأنه من الأسماء الخمسة والفضل مضاف إليه والعظيم صفة للفضل.
الفوائد:
كثر الخوض في هذه الآية والاختلاف في إعرابها وتخريجها، وأوصل(1/535)
بعض المعربين أوجه الإعراب فيها إلى تسعة دون أن يصلوا إلى وجه حاسم يخلو من الاعتراضات.
ما يقوله الواحدي:
قال الواحديّ وهو من كبار المشتغلين بالمسائل الإعرابية: «وهذه الآية من مشكلات القرآن وأصعبه إعرابا وتفسيرا، ولقد تدبّرت أقوال أهل التفسير والمعاني في هذه الآية فلم أجد قولا يطّرد في الآية من أولها إلى آخرها مع بيان المعنى وصحة النّظم» .
ما يقوله الشهاب الحلبي:
وقال الشهاب الحلبي المعروف بالسّمين: «أعلم أنه قد اختلف الناس والمفسرون والمعربون في هذه الآية على أوجه» وذكر السمين الأوجه التسعة، ولما كان كتابنا يتوخى الأسهل والأقرب إلى المنطق والأبعد عن التكلف اكتفينا في باب الإعراب بما أوردناه فيه ورأينا أنه الأقرب إلى ما توخيناه وقد اختاره الزمخشري في كشافه، ولكننا نرى من المفيد أن نثبت ما قاله أبو حيان، ثم نعقب عليه بما قاله ابن هشام.
ما يقوله ابو حيان:
قال أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط بعد كلام طويل:
«يحتمل القول وجوها:
1- أن يكون المعنى: ولا تصدقوا تصديقا صحيحا وتؤمنوا إلا لمن جاء بمثل دينكم مخافة أن يؤتى أحد من النبوة والكرامة مثل ما أوتيتم ومخافة أن يحاجوكم بتصديقكم إياهم عند ربهم إذا لم يستمروا(1/536)
عليه، وهذا القول على هذا المعنى ثمرة الحسد والكفر مع المعرفة بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
2- أن يكون التقدير أن لا يؤتى فحذفت لا لدلالة الكلام، ويكون ذلك منتفيا داخلا في حيز إلا، لا مقدرا دخوله قبلها والمعنى:
ولا تؤمنوا لأحد بشيء إلا لمن تبع دينكم بانتفاء أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وانتفاء أن يحاجوكم عند ربكم أي إلا بانتفاء كذا.
3- أن يكون التقدير بأن يؤتى متعلقا بتؤمنوا، ولا يكون داخلا في حيز إلا والمعنى: ولا تؤمنوا بأن يؤتى أحد مثلما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم وجاء بمثله وعاضدا له فإن ذلك لا يؤتاه غيركم. ويكون معنى أو يحاجوكم عند ربكم بمعنى إلا أن يحاجوكم، كما تقول: أنا لا أتركك أو تقضيني حقي. وهذا القول على هذا المعنى ثمرة التكذيب لمحمد صلى الله عليه وسلم على اعتقاد منهم أن النبوة لا تكون إلا في بني إسرائيل.
4- أن يكون المعنى: لا تؤمنوا بمحمد وتقروا بنبوته إذ قد علمتم صحتها إلا لليهود الذين هم منكم، وأن يؤتى أحد مثلما أوتيتم صفة لحال محمد صلى الله عليه وسلم، فالمعنى تستروا بإقراركم أن قد أوتي أحد مثلما أوتيتم، أو فإنهم يعنون العرب يحاجونكم بالإقرار عند ربكم» .
ولعمري لقد أبدع أبو حيان ولكنه اكتفى بإيراد المعنى مجردا عن الإعراب.
ما يقوله ابن هشام:
وقال ابن هشام في معرض حديثه عن الجمل: «كثيرا ما تشتبه(1/537)
المعترضة بالحالية ويميزها منها أمور: أحدها أنها تكون غير خبرية كالأمرية في «ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل: إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثلما أوتيتم» ، كذا مثل ابن مالك وغيره بناء على أن «أن يؤتى أحد» متعلق بتؤمنوا وأنّ المعنى: ولا تظهروا تصديقكم بأن أحدا يؤتى من كتب الله مثل ما أوتيتم وبأن ذلك الأحد يحاجونكم عند الله تعالى يوم القيامة بالحق فيغلبونكم إلا لأهل دينكم لأن ذلك لا يغير اعتقادهم بخلاف المسلمين فإن ذلك يزيدهم ثباتا، وبخلاف المشركين فإن ذلك يدعوهم إلى الإسلام. ومعنى الاعتراض حينئذ أن الهدى بيد الله، فإذا قدره لأحد لم يضره مكرهم. والآية محتملة لغير ذلك، وهي أن يكون الكلام قد تم عند الاستثناء، والمراد: لا تظهروا والإيمان الكاذب الذي توقعونه وجه النهار وتنقضونه آخره إلا لمن كان منكم كعبد الله بن سلام ثم أسلم، وذلك لأن إسلامهم كان أغيظ لهم ورجوهم إلى الكفر كان عندهم أقرب، وعلى هذا ف «أن يؤتى» من كلام الله تعالى، وهو متعلق بمحذوف مؤخر، أي: الكراهية أن يؤتى أحد دبرتم هذا الكيد.
وهذا الوجه أرجح لوجهين: أحدهما أنه الموافق لقراءة ابن كثير:
أأن يؤتى بهمزتين، أي: الكراهية أن يؤتى قلتم ذلك، والثاني أن في الوجه الأول عمل ما قبل إلا فيما بعدها، مع أنه ليس من المسائل الثلاث المذكورة آنفا، والثاني مما يميزها الدّعائية كقول عوف بن محلم:
إن الثمانين، وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وكالتنزيهية في قوله تعالى: «ويجعلون لله البنات، سبحانه، ولهم ما يشتهون» وكالاستفهامية في قوله تعالى: «فاستغفروا لذنوبهم،(1/538)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا» إلى آخر هذا البحث الممتنع الذي عكره الأسلوب الجاف.
ما يقوله الزمخشري:
ولا مندوحة لنا عن ذكر عبارة الزّمخشري التي جاءت مؤيدة لما ذهبنا إليه في الإعراب، قال: «ولا تؤمنوا متعلق بقوله: أن يؤتى أحد، وما بينهما اعتراض، أي: ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثلما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم، أرادوا: أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا مثلما أوتيتم ولا تفشوه إلا لأشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتا، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام، أو يحاجوكم به عند ربكم: عطف على أن يؤتى والضمير في يحاجوكم لأحد لأنه في معنى الجمع، ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة» .
وقد كدنا نخرج عن شرط الكتاب في تلخيص الأقوال، فحسبنا ما أوردناه ولعل بعض العلماء كان على حق عند ما قرر أن هذه الآية أعظم آي هذه السور إشكالا، وكلام الله أكبر، وغور لغتنا العربية أبعد وأعمق من أن يسبر.
[سورة آل عمران (3) : آية 75]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
اللغة:
(دينار) : الدينار: ضرب من قديم النقود الذهبية، والجمع دنانير(1/539)
وأصله دنّار بنونين، فاستثقل توالي مثلين فأبدلوا أولهما حرف علة تخفيفا لكثرة دورانه في الاستعمال، ويدل على ذلك رده إلى النونين عند جمعه جمعا مكسرا أو عند تصغيره، فقالوا: دنانير ودنينير.
(الْأُمِّيِّينَ) جمع أمي والمراد به هنا: من ليس من أهل الكتاب. ومعلوم أن اليهود استباحوا دماء العرب وأموالهم وأعراضهم.
الإعراب:
(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) جملة مستأنفة مسوقة للشروع في بيان خيانتهم في الأموال بعد بيان خيانتهم في الدين، والواو استئنافية ومن أهل الكتاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) من اسم موصول مبتدأ مؤخر ولك أن تعربها نكرة موصوفة أيضا أي: ناس وهي مبتدأ مؤخر وإن شرطية وتأمنه فعل الشرط مجزوم والهاء مفعول به والفاعل أنت وبقنطار جار ومجرور متعلقان بتأمنه ويؤده جواب الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والهاء مفعول به وإليك جار ومجرور متعلقان بيؤده وجملة الشرط وجوابه إما صلة للموصول إذا كانت من موصولة. وإما صفة لها في محل رفع إذا كانت من نكرة موصوفة (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) عطف على الجملة السابقة وتقدم إعرابها بحروفها (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) إلا أداة حصر وما دمت فعل ماض ناقص والتاء اسمها وقائما خبرها وعليه جار ومجرور متعلقان ب «قائما» والاستثناء مفرغ من الظرف العام فهو ظرف (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا) جملة مستأنفة مسوقة لبيان استحلالهم أموال العرب واسم الإشارة في محل رفع مبتدأ والباء حرف جر وأن وما بعدها في محل(1/540)
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
جر بالباء والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر وجملة قالوا خبر إن (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) الجملة في محل نصب مقول قولهم وليس فعل ماض ناقص وعلينا جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب خبر ليس المقدم وفي الأميين جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وسبيل اسم ليس المؤخر (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) الواو استئنافية ويقولون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وعلى الله جار ومجرور متعلقان بيقولون والكذب مفعول به على التضمين فمعنى يقولون يفترون والأحسن أن يعرب صفة لمصدر محذوف وذلك المصدر مفعول مطلق أي القول المكذوب (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الواو حالية وهم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ وجملة يعلمون خبر.
الفوائد:
(ما دام) من أخوات كان وشرط إعمالها أن تتقدمها «ما» الظرفية والمصدرية، فإذا قلت: لا أكلمك ما دام زيد قاعدا، فالمراد زمن دوام قعوده، و «ما» من قولك: ما دام، تقع لازمة ولا بد منها ولا يكون معها الفعل إلا ماضيا، وليس كذلك ما زال، فإنه يجوز أن يقع موقع «ما» غيرها من حروف النفي، ويكون الفعل مع النافي ماضيا ومضارعا، نحو: ما زال ولم يزل ولا يزال، وأصل مادة «دام» السكون والثبوت يقال: دام الماء أي سكن، ودوّمت الشمس إذا وقفت في كبد السماء.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 76 الى 77]
بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77)(1/541)
الإعراب:
(بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى) كلام مستأنف مسوق ليكون إثباتا لما نفوه بقولهم: ليس علينا في الأميين سبيل، أي العرب. وبلى حرف جواب وتصديق مثل نعم وأكثر ما تقع بعد الاستفهام وتختص بالإيجاب وسيأتي المزيد عنها في موضعه من هذا الكتاب، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وأوفى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وبعهده جار ومجرور متعلقان بأوفى، واتقى عطف على أوفى (فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الفاء رابطة لجواب الشرط وإن واسمها، وجملة يحب خبرها والمتقين مفعول به وجملة فإن الله إلخ في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر «من» (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا) كلام مستأنف لا محل له من الإعراب مسوق لبيان كذب اليهود إذا حلفوا أو باعوا سلعة وحلفوا أنهم أعطوا فيها كذا وكذا، وإن واسمها، وجملة يشترون صلة وبعهد الله جار ومجرور متعلقان بيشترون والباء داخلة على المتروك وأيمانهم عطف على بعهد الله وثمنا مفعول به وقليلا صفة (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) اسم الإشارة مبتدأ ولا نافية للجنس وخلاق اسمها المبني على الفتح ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها وفي الآخرة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وجملة لا خلاق لهم خبر أولئك وجملة الإشارة وما تلاها في محل رفع خبر إن (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ) الواو عاطفة ولا نافية ويكلمهم فعل مضارع مرفوع والهاء مفعول به مقدم والله فاعل مؤخر والجملة عطف على جملة لا خلاق لهم (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) عطف أيضا (يَوْمَ الْقِيامَةِ) الظرف متعلق بينظر (وَلا يُزَكِّيهِمْ) عطف على «ولا(1/542)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
ينظر إليهم» (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الواو عاطفة ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم صفة والجملة معطوفة أيضا.
البلاغة:
1- الاستعارة المكنية في الاشتراء، أي أنهم يستبدلون بما عاهدوا عليه وبما حلفوا به من الأيمان متاع الدنيا، وأراد بذلك تحريفهم للتوراة وتبديل ما ورد فيها.
2- الكناية في قوله «ولا يكلمهم ولا ينظر إليهم» عن السخط وشدة الغضب، ومعنى «ولا يكلمهم الله» أي بما يسرهم «ولا ينظر إليهم» ولا يعطف عليهم بخير مقتا من الله لهم، كقول القائل: أنظر إلي نظر الله إليك، بمعنى تعطّفه عليّ تعطّف الله عليك بخير ورحمة، وكما يقال للرجل:
لا استجاب الله لك. والله لا تخفى عليه خافية على حد قول شمير بن الحارث الضّبيّ:
دعوت الله حتى خفت أن لا ... يكون الله يسمع ما أقول
[سورة آل عمران (3) : آية 78]
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
اللغة:
(يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ) يفتلونها ويديرونها عن الصحيح إلى المزيف،(1/543)
يقال: لويت عنقه: أي فتلته، والمصدر: اللّيّ واللّيّان، وأصل اللّي الفتل والقلب، من قول القائل: لوى فلان يد فلان، ومنه قول فرعان بن الأعرف السعدي في ابنه منازل:
تخون مالي ظالما ولوى يدي ... لوى يده الله الذي هو غالبه
وهذا البيت من أبيات جميلة، وقبله:
جزت رحم بيني وبين منازل ... جزاء كما يستنزل الدّين طالبه
وما كنت أخشى أن يكون منازل ... عدّوي وأدنى شانىء أنا راهبه
حملت على ظهري وفديت صاحبي ... صغيرا إلى أن أمكن الطّر شاربه
وأطعمته حتى إذا صار شيظما ... يكاد يساوي غارب الفحل غاربه
تخون مالي ظالما ... البيت.
الإعراب:
(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) كلام مستأنف مسوق لوصف فريق منهم ككعب بن الأشرف ومالك بن الصّيف وحيّي بن أخطب وأبي ياسر وشعبة بن عمرو الشاعر كانوا يلوون ألسنتهم ويتشدقون بها محرفين ما فيها من نعت النبي محمد صلى الله عليه وسلم وغيره، والواو استئنافية وإن حرف مشبه بالفعل ومنهم جار ومجرور(1/544)
متعلقان بمحذوف خبر إن المقدم واللام المزحلقة وفريقا اسم إن المؤخر وجملة يلوون صفة ل «فريقا» وجمع الضمير اعتبارا بالمعنى لأنه اسم جمع كالرهط والقوم، والواو فاعل وألسنتهم مفعول به وبالكتاب:
جار ومجرور متعلقان بيلوون (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ) اللام لام التعليل وتحسبوه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وحذفت النون لأنه من الأفعال الخمسة والهاء مفعول تحسبوه الأول ومن الكتاب جار ومجرور في موضع المفعول الثاني وأن المضمرة وما بعدها في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بيلوون (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) الواو حالية وما نافية حجازية تعمل عمل ليس وهو ضمير منفصل في محل رفع اسمها ومن الكتاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها (وَيَقُولُونَ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الواو حرف عطف ويقولون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون وهو معطوف على يلوون وهو مبتدأ ومن عند الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) تقدم إعرابها بحروفها. (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) عطف على ما سبق ويقولون فعل مضارع والواو فاعل وعلى الله جار ومجرور متعلقان بيقولون الكذب مفعول به أو مفعول مطلق وقد تقدم إعرابه قريبا، (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الواو حالية وهم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ وجملة يعلمون خبرها.
البلاغة:
التشبيه في قوله: «لتحسبوه» أي يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه من الكتاب.(1/545)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 79 الى 80]
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
اللغة:
(البشر) الإنسان ذكرا وأنثى، واحدا وجمعا، ولا واحد له من لفظه، مثل القوم والخلق.
(رَبَّانِيِّينَ) الربانيون: جمع ربّاني، وفيه أقوال أشهرها وأصحها ما ذكره سيبويه قال: الربّاني منسوب إلى الرب، والألف والنون فيه زائدتان في النسب دلالة على المبالغة، كرقباني ولحياني وشعراني للغليظ الرقبة والطويل اللحية والكثير الشعر ولا تفرد هذه الزيادة عن النسب، أما إذا نسبوا إلى الرقبة واللحية والشعر من غير مبالغة قالوا: رقبي ولحوي وشعري. وهذه فائدة جليلة نرى اطّرادها في كل نسبة قصد منها المبالغة، فيصح أن يقال: علماني نسبة للعلم.
الإعراب:
(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) كلام مستأنف مسوق لبيان افتراء اليهود على الأنبياء إثر افترائهم على الله، وما نافية وكان فعل ماض ناقص، لبشر جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وأن حرف مصدري ونصب ويؤتيه فعل مضارع منصوب بإن والهاء مفعول به أول وأن وما في حيزها في تأويل مصدر اسم(1/546)
كان المؤخر والله فاعل يؤتيه والكتاب مفعول به ثان والحكم والنبوة معطوفان (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ) ثم حرف عطف للتراخي وجملة يقول معطوف على يؤتيه وللناس جار ومجرور متعلقان بيقول (كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ) الجملة في محل نصب مقول القول وكان واسمها، وعبادا خبرها ولي جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ل «عبادا» ومن دون الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) الواو عاطفة ولكن مخففة من الثقيلة مهملة وكونوا فعل أمر ناقص مبني على حذف النون والواو اسمها وربانيين خبرها وجملة كونوا ربانيين في محل مقول قول محذوف أي ولكن يقول كونوا..
(بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ) الباء حرف جر وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بربانيين لما فيه من رائحة الفعل وكان واسمها، وجملة تعلمون الكتاب خبر كنتم والكتاب مفعول به. (وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) عطف على «بما كنتم» وجملة تدرسون خبر كنتم (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) الواو عاطفة ولا مزيدة لتأكيد النفي في قوله «ما كان لبشر أن يؤتيه» ، ويأمركم فعل مضارع معطوف على يؤتيه، أي: ما كان لبشر أن يؤتيه الله ما ذكر ثم يأمر الناس بعبادة نفسه أو باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا، وتوسيط الاستدراك بين المعطوف والمعطوف عليه للمسارعة الى تحقيق الحق. وقرىء برفع يأمركم على الاستئناف وابتداء الكلام.
وسيأتي مزيد من تفصيل إعرابه في باب الفوائد. أن تتخذوا الواو حرف عطف وتتخذوا فعل مضارع منصوب بأن وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل والمصدر المؤول منصوب بنزع الحافض والجار(1/547)
والمجرور متعلقان بيأمر والملائكة مفعول به أول والنبيين معطوف على الملائكة منصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم وأربابا مفعول به ثان (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) كلام مستأنف لخطاب المؤمنين عن طريق التعجب من حال غيرهم والهمزة للاستفهام الإنكاري ويأمركم فعل مضارع مرفوع وفاعله هو والكاف مفعول به وبالكفر جار ومجرور متعلقان بيأمركم وبعد ظرف زمان متعلق بيأمركم أيضا وإذ ظرف زمان مضاف ل «بعد» وقد مر أنه لا يضاف إليها إلا الزمان نحو حينئذ ويومئذ، وأنتم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ ومسلمون خبره والجملة الاسمية في محل جر بإضافة الظرف إليها.
الفوائد:
1- نفي الكون في قوله تعالى «ما كان لبشر» يراد به نفي خبره نحو: ما كان لك أن تفعل هذا، والمراد نفي الفعل لا نفي الكون، ويطرد هذا في نوعين:
آ- نوع يكون النفي من جهة العقل كالآية الآنفة الذكر لأن الله لا يعطي الكتاب لمن يقول مثل هذه المقالة الشنعاء.
ب- نوع يكون فيه النفي على سبيل الانبغاء والإمكان كقول أبي بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم فيصلي بين يدي رسول الله أي: ما ينبغي له ذلك ولا بإمكانه، والمدار في التمييز بينهما على الذوق والإلمام بسياق الكلام وفحواه.
2- إذا عطفت قوله: «ولا يأمركم» على «يؤتيه» فتكون «لا» زائدة مؤكدة لمعنى النفي السابق. وإذا عطفته على «يقول»(1/548)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
فيجوز فيه وجهان:
آ- الزيادة: فالمعنى، ما كان لبشر أن ينصبه الله للدعاء إلى عبادته وترك الأنداد ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا.
ب- أن تكون غير زائدة، ووجهه بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى قريشا عن عبادة الملائكة، وأهل الكتاب عن عبادة عيسى فلما قالوا له: أنتخذك ربا؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادته وينهاهم عن عبادة الملائكة والنبيين، وقيل هو معطوف على قوله «ثم يقول» ويكون التقدير: ولا له أن يقول، وقرىء بالرفع على الاستئناف وابتداء الكلام.
[سورة آل عمران (3) : آية 81]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
اللغة:
الإصر: المراد به هنا العهد وسمي العهد إصرا لأنه مما يؤصر أي: يعقد ويشد. والإصر كل ما يشد به.
الإعراب:
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) كلام مستأنف مسوق لبحث العهد الذي أخذه الله تعالى على النبيين وأممهم والواو استئنافية وإذ ظرف(1/549)
لما مضى من الزمن متعلق باذكر محذوفا وقد مر نظيره وجملة أخذ في محل جر بالإضافة والله فاعل وميثاق مفعول به والنبيين مضاف إليه (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) اللام المفتوحة موطئة للقسم لأن أخذ الميثاق فيه معنى الاستحلاف وقيل: هي للابتداء التي يتلقى بها القسم وما اسم موصول مبتدأ وجملة آتيتكم لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول ومن كتاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وحكمة عطف على كتاب (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وجاءكم فعل ماض والكاف مفعول به ورسول فاعل مؤخر مرفوع ومصدق صفة ولما اللام حرف جر وما اسم موصول في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بمصدق ومعكم ظرف مكان متعلق بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) الواو واقعة في جواب قسم مقدر وتؤمننّ فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والأصل لتؤمنوننّ ولما التقى ساكنان حذفت الواو أيضا وهي فاعل وبقيت الضمة دليلا عليها، والنون المشددة هي نون التوكيد الثقيلة لا محل لها، وبه متعلق بتؤمننّ، ولتنصرنه عطف على لتؤمنن وهو مثله في الإعراب والواو المحذوفة فاعل والهاء مفعول به وجملة القسم المقدر وجوابه خبر ما (قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) جملة مفسرة لا محل لها وقال فعل ماض وفاعله هو والهمزة للاستفهام التقريري والتوكيدي لأن الاستفهام بمعناه الحقيقي مستحيل في حقه وأقررتم فعل وفاعل والجملة في محل نصب مقول القول وأخذتم عطف على أقررتم وعلى ذلكم جار ومجرور متعلقان(1/550)
بأخذتم وإصري مفعول به والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة (قالُوا أَقْرَرْنا) الجملة مستأنفة لا محل لها وجملة أقررنا في محل نصب مقول القول (قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) الجملة مستأنفة مسوقة لتسجيل الشهادة على إقرارهم وقال فعل ماض والفاعل هو، فاشهدوا الفاء هي الفصيحة واشهدوا فعل أمر والواو فاعل والجملة لا محل لها، وأنا الواو حالية أو استئنافية وأنا مبتدأ ومعكم ظرف متعلق بمحذوف حال ومن الشاهدين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر وجملة أنا معكم في محل نصب على الحال أو استئنافية لا محل لها.
الفوائد:
1- شغلت هذه الآية المعربين كثيرا وسنورد خلاصة لأهم ما قيل فيها سالكين سبيل الاختصار.
ما يقوله سيبويه:
قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله: «وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم» فقال: «ما» بمعنى الذي، قال النحاس في شرحه لكتاب سيبويه: التقدير في قول الخليل: الذي آتيتكموه ثم حذفت الهاء لطول الاسم واللام لام الابتداء، وبهذا قال الأخفش، وتكون «ما» في محل رفع على الابتداء. وقوله: ثم جاءكم وما بعده جملة معطوفة على الصلة والعائد محذوف أي مصدق به.
ما يقوله المبرد والزّجاج والكسائي:
ما: شرطية دخلت عليها لام التحقيق كما تدخل على إن ولتؤمننّ جواب القسم الذي هو أخذ الميثاق، إذ هو بمنزلة الاستحلاف كما(1/551)
تقول: أخذت ميثاقك لتفعلنّ كذا، وهو سار مسد الجزاء. وقال الكسائي: إن الجزاء في قوله فمن تولى.
ابن هشام يرد على أبي البقاء:
وقال ابن هشام في الرد على أبي البقاء: «وأما أبو البقاء فإنه قال في «لما آتيتكم من كتاب وحكمة» الآية: من فتح اللام ففي «ما» وجهان أحدهما أنها موصولة مبتدأ والخبر إما من كتاب أي الذي آتيتكموه من الكتاب، أو لتؤمننّ به واللام جواب القسم لأن أخذ الميثاق قسم وجاءكم عطف على آتيتكم والأصل ثم جاءكم به فحذف عائد ما والأصل مصدق له، ثم ناب الظاهر عن المضمر، أو العائد ضمير استقر الذي تعلقت به «مع» والثاني أنها شرطية واللام موطئة وموضع ما نصب بآتيت والمفعول الثاني ضمير المخاطب و «من كتاب» مثل «من آية» في «ما ننسخ من آية» وفيه أمور:
آ- إن اجازته كون من كتاب خبرا فيه الإخبار عن الموصول قبل كمال الصلة لأن «ثم جاءكم» عطف على الصلة.
ب- إن تجويزه كون لتؤمننّ خبر مع تقديره إياه جوابا لأخذ الميثاق يقتضي أن له موضوعا وأنه لا موضع له من حيث جعله خبرا ومن حيث أنه جواب للقسم وهذا تناقض، وإنما كان حقه أن يقدره جوابا لقسم محذوف ويقدر الجملتين خبرا، وقد يقال: إنما أراد بقوله: اللام جواب القسم لأن أخذ الميثاق قسم، وأخذ الميثاق دال على جملة قسم مقدرة ومجموع الجملتين، وإنما سمى «لتؤمننّ» خبرا لأنه الدال على المقصود بالأصالة لأنه وحده هو الخبر بالحقيقة،(1/552)
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
وإنه لا قسم مقدر بل «بل أخذ الله ميثاق النبيين» هو جملة القسم، وقد يقال: لو أراد هذا لم يحصر الدليل فيما ذكر للاتفاق على وجود المضارع مفتتحا بلام مفتوحة مختتما بنون مؤكدة وهو دليل قاطع على القسم وإن لم يذكر معه أخذ الميثاق أو نحوه.
ج- إن تجويزه كون العائد ضمير استقر يقتضي عود ضمير مفرد إلى شيئين معا فإنه عائد إلى الموصول.
د- إنه جوّز حذف العائد المجرور مع أن الموصول غير مجرور، فإن قيل: اكتفى بكلمة به الثانية فيكون كقوله:
لو أنّ ما عالجت لين فؤادها ... فقسا استلين به للان الجندل
قلنا قد جوز على هذا الوجه عود «به» المذكورة إلى «الرسول» لا إلى «ما» .
هـ- إنه سمى ضمير آتيتكم مفعولا ثانيا وإنما هو مفعول أول.
2- اللام الموطئة للقسم: هي الداخلة على شرط وسميت موطئة لأنها توطئ ما يصلح أن يكون جوابا للشرط وللقسم فيصير جواب الشرط محذوفا إذ ذاك لدلالة جواب القسم عليه.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 82 الى 83]
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
الإعراب:
(فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ) كلام مستأنف للرد على أهل الكتاب الذين(1/553)
اختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم والفاء استئنافية ومن شرطية في محل رفع مبتدأ تولى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وبعد ظرف متعلق بتولي وذلك اسم إشارة في محل جر بالإضافة (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الفاء رابطة لجواب الشرط وأولئك اسم إشارة مبتدأ وهم ضمير فصل لا محل له والفاسقون خبر أو «هم الفاسقون» مبتدأ وخبر والجملة خبر أولئك وجملتا فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر «من» .
(أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري ودخلت على الفاء العاطفة جملة على جملة، والمعنى: فأولئك هم الفاسقون فغير دين الله يبغون، ثم توسطت الهمزة بينهما، ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره: أيتولون فغير دين الله يبغون، وقد تقدمت الإشارة إلى ويبغون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الافعال الخمسة والواو فاعل (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) الواو حالية وله جار ومجرور متعلقان بأسلم، وأسلم فعل ماض والجملة في محل نصب حال ومن اسم موصول فاعل أسلم وفي السموات جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة والأرض عطف على السموات وطوعا وكرها مصدران منصوبان على الحالية بمعنى طائعين أو كارهين أو على أنهما مفعولان مطلقان لفعلين محذوفين والأول أولى (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) الواو عاطفة وإليه جار ومجرور متعلقان بيرجعون ويرجعون قرىء بالتاء والياء وهو فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع بثبوت النون والواو نائب فاعل.(1/554)
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
[سورة آل عمران (3) : آية 84]
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
اللغة:
(الْأَسْباطِ) : جمع سبط بكسر السين، وهو ولد الولد. ويغلب على ولد البنت، مقابل الحفيد الذي هو ولد الابن. والأسباط من اليهود مقابل القبيلة من العرب.
الإعراب:
(قُلْ: آمَنَّا بِاللَّهِ) كلام مستأنف مسوق للطلب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول هو وأصحابه: آمنا بالله. ولذلك وحد الضمير في قوله: «قل» ، وجمعه في قوله: «آمنا» . وقل فعل أمر وفاعله أنت وآمنا فعل ماض وفاعل وجملة آمنا مقول القول وبالله جار ومجرور متعلقان بآمنا (وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا) الواو عاطفة وما اسم موصول معطوف على الله وجملة أنزل علينا صلة الموصول (وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) الواو حرف عطف وما اسم معطوف على ما الأولى وأنزل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هو وجملة أنزل صلة وعلى إبراهيم جار ومجرور متعلقان بأنزل والأسماء المتعاقبة عطف على إبراهيم (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) عطف على ما تقدم، وأوتي فعل ماض مبني للمجهول وموسى نائب فاعل وما بعده عطف عليه ومن ربهم جار ومجرور متعلقان بأوتي (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) لا نافية ونفرق فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره نحن وبين ظرف مكان متعلق بنفرق، وأحد مضاف إليه ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة(1/555)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
لأحد والجملة حالية (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) الواو حالية أو استئنافية ونحن مبتدأ وله جار ومجرور متعلقان ب «مسلمون» . ومسلمون خبر نحن والجملة إما نصب على الحال وإما مستأنفة لا محل لها.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 85 الى 89]
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
الإعراب:
(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) كلام مستأنف مسوق للشروع في الحديث عن المرتدين الذين لحقوا بالكفار، وكانوا اثني عشر رجلا ارتدوا وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفارا، منهم الحارث بن سويد الأنصاري. والواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويبتغ فعل الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وغير: لنا فيها وجهان إما أن تكون مفعولا به ليبتغ ودينا تمييز وإما أن تكون حالا لأنها كانت في الأصل صفة ل: دينا، ثم تقدمت عليه، ودينا على هذا الوجه مفعول به، فلن الفاء رابطة(1/556)
لجواب الشرط ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويقبل فعل مضارع مبني للمجهول منصوب بلن ومنه جار ومجرور متعلقان بيقبل وجملة لن يقبل منه في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) الواو للعطف وهو مبتدأ وفي الآخرة جار ومجرور متعلقان بالخاسرين ومن الخاسرين: جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر هو والجملة عطف على جواب الشرط، ويحتمل أن تكون الواو استئنافية والجملة مستأنفة بمثابة الإخبار عن حاله في الآخرة (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) كلام مستأنف مسوق للحديث عن المرتدين الآنفي الذكر وقيل: نزلت بشأن اليهود أو المراد هؤلاء وأولئك. وكيف اسم استفهام معناه الجحد والنفي، أي لا يهدي الله وهو في محل نصب حال ويهدي فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء والله فاعل وقوما مفعول به وجملة كفروا صفة ل: قوما وبعد ظرف زمان متعلق بكفروا وإيمانهم مضاف إليه (وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ) هذا العطف من الدقائق إذ لا يصح عطفه على كفروا كما يبدو لأول وهلة لفساد المعنى فالأصح أن يعطف على ما في «إيمانهم» من معنى الفعل لأن معناه: بعد أن آمنوا بالله، فهو من باب العطف على التوهم.
ويمكن أن يقال إن الواو لا تقتضي الترتيب فهي معطوفة على كفروا، ويجوز أن تكون الواو حالية بإضمار «قد» بعدها أي: وقد شهدوا، والأول أمكن في المعنى وأبعد عن الوهن. وأن واسمها وخبرها وهي وما في حيزها في محل نصب بنزع الخافض أي بأن الرسول حق فيكون الجار والمجرور متعلقين بشهدوا (وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) الواو عاطفة وجاءهم فعل ماض ومفعول به والبينات فاعل والجملة عطف على جملة شهدوا(1/557)
ويجوز أن تكون الواو للحال بتقدير قد أي وقد شهدوا فالجملة نصب على الحال (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة لا يهدي خبر والقوم مفعول به والظالمين صفة القوم (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان جزائهم ومصيرهم، وأولئك اسم إشارة في محل رفع مبتدأ أول وجزاؤهم مبتدأ ثان وأن وما في حيزها خبر جزاؤهم والجملة الاسمية خبر اسم الإشارة وعليهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر أن المقدم، ولعنة الله اسم أن المؤخر (وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) الواو حرف عطف والملائكة عطف على الله والناس عطف أيضا وأجمعين تأكيد مجرور وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم (خالِدِينَ فِيها) خالدين: حال وفيها جار ومجرور متعلقان بخالدين (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) الجملة حال ثانية ولا نافية ويخفف فعل مضارع مبني للمجهول وعنهم جار ومجرور متعلقان بيخفف والعذاب نائب فاعل (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) الواو عاطفة ولا نافية وهم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ وينظرون أي يمهلون فعل مضارع والواو نائب فاعل والجملة في محل رفع خبر «هم» والجملة عطف على جملة لا يخفف (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) إلا أداة استثناء والذين مستثنى وجملة تابوا لا محل لها لأنها صلة الموصول (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) جار ومجرور متعلقان بتابوا، وذلك اسم إشارة في محل جر بالإضافة (وَأَصْلَحُوا) الجملة معطوفة على جملة تابوا (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الفاء هي الفصيحة وإن واسمها، وغفور خبرها الأول ورحيم خبرها الثاني. هذا وقد اختلف في إعراب جملة الاستثناء وأكثر المعربين يعربونها حالا متداخلة أي حالا من حال، لأن خالدين حال من الضمير في «عليهم» وأعربها آخرون جملة مستأنفة وهي بذلك مسوقة لبيان خلودهم في النار،(1/558)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
وجدير بالذكر أن الذي تاب هو الحارث بن سويد بن الصامت الانصاري حين ندم على ردته وأرسل إلى قومه الأنصار يقول: سلوا هل لي من توبة؟ فأرسل إليه أخوه الجلاس الآية، فأقبل إلى المدينة فتاب وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نوبته.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 90 الى 91]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) كلام مستأنف مسوق للحديث عن اليهود الذين كفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وقيل هي عامة، وإن واسمها، وجملة كفروا لا محل لها لأنها صلة الموصول وبعد ظرف زمان متعلق بكفروا وإيمانهم مضاف إليه (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وازدادوا فعل ماض والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل وكفروا تمييز محول عن الفاعل أي: ازداد كفرهم، وزاد يتعدى لاثنين ومطاوعه يتعدى لواحد فقط (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) لن حرف نصب وتقبل فعل مضارع مبني للمجهول منصوب بلن وتوبتهم نائب فاعل والجملة خبر إن (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) الواو حرف عطف أو استئنافية لئلا نحتاج إلى تقدير في عطف الجملة(1/559)
الاسمية على الجملة الفعلية وقيل هي للحال، والمعنى لن تقبل توبتهم من الذنوب في حال أنهم ضالون وأولئك اسم إشارة. وهم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ ثان والضالون خبر «هم» والجملة الاسمية في محل رفع خبر اسم الإشارة أو «هم» ضمير منفصل لا محل له الضالون خبر أولئك (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) جملة مستأنفة مسوقة لتأكيد ما تقدم وإن واسمها، وجملة كفروا صلة الموصول وماتوا عطف على كفروا وهم الواو حالية وهم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ وكفار خبر والجملة نصب على الحال (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) الفاء رابطة للجواب لما في الموصول من رائحة الشرط وإنما دخلت الفاء هنا ولم تدخل في قوله «لن تقبل منهم» لأن الفاء مؤذنة بالاستحقاق بالوصف السابق، وهنا قال «وماتوا وهم كفار» ولم يصرح هناك بهذا القيد، ولن حرف نصب ويقبل فعل مضارع مبني للمجهول منصوب بلن والجملة خبر إن ومن أحدهم جار ومجرور متعلقان بيقبل وملء نائب فاعل والأرض مضاف إليه وذهبا تمييز وقد اختلف في ناصبه اختلافا حدا بالكسائي إلى ترجيح نصبه بنزع الخافض ولعله أرجح (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) الواو عاطفة على محذوف وسيأتي حكمها في باب الفوائد لو شرطية غير جازمة وافتدى فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف وفاعله هو وبه جار ومجرور متعلقان بافتدى (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الجملة برأسها خبر ثان لإن وأولئك اسم إشارة مبتدأ ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر اسم الإشارة وأليم صفة (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) الواو عاطفة وما نافية ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومن حرف جر(1/560)
زائد وناصرين مجرور بمن لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر.
الفوائد:
1- العطف على التوهم: جعل جمهور النحاة العطف على التوهم مطردا، وهو أن تتوهم أن الأمر جار على الأصل فتعطف عليه كقول زهير بن أبي سلمى:
بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
بعطف سابق على توهم زيادة الباء في خبر ليس أي لست بمدرك ولا سابق، وقول الآخر:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا ببين غرابها
أي ليسوا بمصلحين ولا ناعب.
2- زعم نحويو البصرة أنه نصب الذهب لاشتغال الملء بالأرض، ومجيء الذهب بعدهما، فصار نصبها نظير نصب الحال، وذلك أن الحال يجيء بعدها فعل قد شغل بفاعله فينصب كما ينصب المفعول الذي يأتي بعد الفاعل الذي قد شغل بفاعله. قالوا: ونظير قوله: ملء الأرض ذهبا، في نصب الذهب في الكلام: لي مثلك رجلا، بمعنى لي مثلك من الرجال. وزعموا أن نصب الرجل لاشتغال الإضافة بالاسم، فينصب كما ينصب المفعول به لاشتغال الفعل بالفاعل.
3- استشكل جماعة من المفسرين قوله تعالى: «فلن تقبل توبتهم»(1/561)
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)
مع كون التوبة مقبولة كما في الآية الأولى وكما في قوله تعالى: «وهو الذي يقبل التوبة عن عباده» وغير ذلك، فقيل: لن تقبل توبتهم عند الموت. قال النحاس: وهذا قول حسن، كما قال تعالى: «وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال:
إني تبت الآن» . وقيل: الأولى أن يحمل عدم قبول التوبة في هذه الآية على من مات كافرا غير تائب، فكأنه عبر عن الموت على الكفر بعدم قبول التوبة، أو تابوا في الآخرة عند معانية العذاب، كما أشير إليه بقوله تعالى: «ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا» إلخ وبقوله تعالى: «فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا» .
4- الواو المصاحبة للشرط تستدعي شرطا آخر يعطف عليه الشرط الذي اقترنت الواو به، والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق منبها على المسكوت عنه بطريق الأولى. مثاله قولك: أكرم فلانا ولو أساء، فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره: أكرم فلانا لو أحسن ولو أساء، إلا إنك نبهت بإيجاب إكرامه ان أساء، على أن إكرامه إن أحسن بطريق الأولى، والافتداء بملء الأرض ذهبا هو جدير بالقبول، فإن لم يقل فبطريق الأولى أن لا يقبل الافتداء بأقل من ذلك، وهذا من دقائق النكت وأسرار لغتنا التي لا تقف عند مدى.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 92 الى 94]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)(1/562)
اللغة:
(حِلًّا) الحلّ: بكسر الحاء مصدر حلّ، يقال: حل الشيء حلالا وحلا. ويستوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع.
الإعراب:
(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) : كلام مستأنف مسوق لبيان ما ينفع المؤمنين ويقبل منهم إثر بيان ما لا ينفع الكفار ولا يقبل منهم، ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتنالوا فعل مضارع منصوب بلن وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل والبر مفعول به وحتى حرف غاية وجر وتنفقوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد حتى والواو فاعل ومما جار ومجرور متعلقان بتنفقوا وجملة تحبون لا محل لها لأنها صلة «ما» الموصولية. واعلم أنّ هذه الآية وردت منظومة من غير قصد، فلا تعد شعرا، لأن الشعر عند العروضيين هو المنظوم بقصد، وهذه الآية بيت كامل من مجزوء الرّمل، ويأتي على الشكل التالي:
لن تنالوا البرّ حتى ... تنفقوا مما تحبّون
وسيرد الكثير من الآيات الموزونة بغير قصد الشعر.
(وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) الواو استئنافية وما اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدم لتنفقوا وتنفقوا فعل الشرط مجزوم والواو فاعل ومن شيء جار ومجرور متعلقان بتنفقوا فإن الفاء(1/563)
رابطة لجواب الشرط المحذوف بمثابة التعليل له، وقد وقعت موقعه والتقدير: فيجازيكم بحسبه ومقداره فإنه عليم بكل شيء، وإن واسمها، وعليم خبرها وبه: جار ومجرور متعلقان بعليم (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) كلام مستأنف مسوق لتفنيد تخرصات اليهود إذ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم، وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل ولا ألبانها، وأنت تأكل ذلك وتشربه، فلست على ملته. وكل مبتدأ وجملة كان حلا خبره وكان فعل ماض واسمها هو وحلا خبرها ولبني إسرائيل جار ومجرور متعلقان بقوله «حلا» وإسرائيل مضاف إليه مجرور بالفتحة لأنه ممنوع من الصرف والمانع له العلمية والعجمة (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) إلا أداة استثناء وما اسم موصول في محل نصب على الاستثناء من اسم كان المستتر وجملة حرم لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول وإسرائيل فاعل وعلى نفسه جار ومجرور متعلقان بحرم والمراد بإسرائيل يعقوب وجملة الاستثناء حالية (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) اختلف المعربون في تعليق من قبل والظاهر أنه متعلق ب «حلا» لمناسبة المعنى وأن وما في حيزها في تأويل مصدر مضاف لقبل والتوراة نائب فاعل (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الجملة مستأنفة مسوقة لقطع الطريق على جوابهم والفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدر أي إذا كنتم واثقين من أقوالكم وأصررتم عليها فأتوا بالتوراة، وأتوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وبالتوراة متعلقان بأتوا والجملة مقول القول، فاتلوها الفاء عاطفة واتلوها فعل أمر مبني على حذف النون(1/564)
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
والواو فاعل والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وصادقين خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه «فأتوا بالتوراة» (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)
جملة مستأنفة مسوقة لوصف المفترين بالظالمين والفاء استئنافية ومن اسم شرط غير جازم في محل رفع مبتدأ وافترى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله ضمير مستتر يعود على «من» ، وعلى الله جار ومجرور متعلقان بافترى والكذب مفعول به (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ)
الجار والمجرور متعلقان بافترى أو بمحذوف حال (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)
الفاء رابطة لجواب الشرط وأولئك اسم إشارة مبتدأ وهم مبتدأ ثان والظالمون خبر «هم» والجملة الاسمية خبر اسم الإشارة وهم ضمير فصل، والظالمون خبر أولئك وجملة الإشارة وما بعدها في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر «من» .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 95 الى 97]
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)
اللغة:
(بكة) لغة في مكة، وسميت مكة لأنها قليلة الماء تقول العرب:(1/565)
ملك الفصيل ضرع أمه وأمكه إذا امتص ما فيه من اللبن. وفي القاموس ما يدل على أنها سميت بذلك لأنها تمك الذنوب أي تمحوها وتزيلها. أما بكة فقد سميت بذلك لأنها تبك أعناق الجبابرة، أي تذلهم وتهلكهم. وقيل: من بكه إذا زحمه، سميت بذلك لازدحام الناس فيها. قال:
إذا الشريب أخذته الاكه ... فخله حتى يبك بكه
هذا وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة منها مكة وبكة والبيت العتيق والبيت الحرام والبلد الأمين والمأمون وأم رحيم وأم القرى وصلاح والعرش والقادس لأنها تطهر من الذنوب والمقدسة والناسة بالنون وبالباء أيضا والحاطمة والرأس وكوثاء والبلدة والبنية والكعبة.
الإعراب:
(قُلْ: صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) كلام مستأنف مسوق للتعريض بكذبهم أي ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون. وقل فعل أمر مبني على السكون وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وصدق الله فعل ماض وفاعل والجملة في محل نصب مقول القول فاتبعوا: الفاء هي الفصيحة أي إذا أردتم النجاة بعد أن ثبت لكم ذلك على الوجه الأكمل فاتبعوا، واتبعوا فعل أمر مبني على حذف النون لأن مضارعه من الأفعال الخمسة والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل وملة مفعول به وإبراهيم مضاف إليه وحنيفا حال (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الواو حالية وما نافية وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره هو يعود على إبراهيم(1/566)
ومن المشركين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كان (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) كلام مستأنف مسوق للدلالة على أن أول مسجد وضع للناس هو المسجد الحرام ثم بيت المقدس وأول من بناه إبراهيم عليه السلام، وإن واسمها وبيت مضاف إليه ووضع فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هو وللناس جار ومجرور متعلقان بوضع والجملة صفة لبيت والذي اللام المفتوحة هي المزحلقة والذي اسم موصول في محل رفع خبر إن وببكة جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول (مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) مباركا حال من اسم الموصول أو من الضمير المستكن في متعلق الجار والمجرور وهدى عطف على مباركا وللعالمين جار ومجرور متعلقان بهدى أي هاديا لهم (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم وآيات مبتدأ مؤخر وبينات صفة لآيات والجملة مستأنفة لبيان بركته وهداه، ومقام مبتدأ خبره محذوف أي منها مقام إبراهيم أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره أحدها أي أحد تلك الآيات البينات مقام ابراهيم والجملة استئنافية.
وسترى في باب الفوائد مناقشة طريفة وما أوردناه هو الأولى (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) الواو استئنافية ومن شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويجوز أن تكون موصولية ودخله فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاعل هو والهاء مفعول به على السعة أو منصوب بنزع الخافض وقد تقدم إعرابه وكان فعل ماض ناقص في محل جزم جواب الشرط واسمه هو وآمنا خبر كان وفعل الشرط وجوابه خبر من(1/567)
الشرطية والموصولة (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لفرض الحج والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وعلى الناس جار ومجرور متعلقان بما تعلق به الخبر وهو «لله» وحج مبتدأ مؤخر والبيت مضاف إليه ومن اسم موصول في محل جر بدل من الناس بدل بعض من كل أو اشتمال والضمير محذوف أي منهم وأعربها بعضهم فاعلا ب «حج» وفيه نظر يأتيك تفصيله الممتع في باب الفوائد، وجملة استطاع صلة الموصول وإليه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لسبيلا فلما تقدمت عليه أعربت حالا (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ أو اسم موصول وكفر فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله هو والفاء تعليل لجواب الشرط المقدر أي فلن يضر الله فان الله عنه غني، وعلى كل حال فالجملة لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول وفعل الشرط وجوابه خبر وإن حرف مشبه بالفعل والله اسمها وغني خبرها وعن العالمين جار ومجرور متعلقان بغني.
الفوائد:
1- للنحاة كلام طويل
اشتجر فيه الخلاف بينهم وشايعهم المفسرون فهاموا في كل واد، حتى كاد يفوتهم المراد، ولو أنهم جنحوا الى السهولة لاختاروا الوجه الذي اخترناه فأراحوا واستراحوا، ولكنهم خاضوا في القول واستغلوا طاقاتهم النحوية القوية، فأتوا في مناقشاتهم بالممتع المطرب، وسنعرض لك هنا خلاصة عن تلك المناقشات لتكون تسجيلا تاريخيا لاشتجار الآراء وشاهدا لموضوعية الفكر.(1/568)
قال الزمخشري: مقام: عطف بيان من آيات، ورد عليه النحاة فقالوا: إنه خرق لإجماع النحاة الذين قرروا أن النكرة لا تبين بالمعرفة وجمع المؤنث السالم لا يبين بالمفرد المذكر. وقالوا: لا يجوز أن يكون بدلا من آيات لأنهم نصوا على أن المبدل منه إذا كان متعددا وكان البدل غير واف بالعدة تعين القطع. ورد عليهم أنصار الزمخشري بأنه أي الزمخشري كان مجتهدا فلا يبالي بمخالفة الإجماع.
وابن جني أجاز خرق الإجماع:
وقال ابن جني: إنه يجوز خرق الإجماع في الفنون الأدبية.
ما يقوله جلال الدين السيوطي:
وقال الجلال السيوطي في حاشيته على البيضاوي ما نصه:
«قوله، مبتدأ محذوف خبره، أي أحد الوجوه في «مقام» قال الشهاب الحلبي: وهو المختار. وقال الزمخشري هو عطف بيان ورد عليه بأن «آيات» نكرة و «مقام إبراهيم» معرفة، ولا يجوز التخالف في عطف البيان بإجماع البصريين والكوفيين. وقال الصفاقسي: يحتمل أن يكون الزمخشري أطلق عطف البيان وأراد به البدل كالجماعة تسمحا، وكذلك قال ابن هشام في المغني: قد يكون عبر عن البدل بعطف البيان لتآخيهما. ويؤيده قوله في «أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم» أن «من وجدكم» عطف بيان لقوله:
«حيث سكنتم» وهذا سيبويه إمام الصنعة يسمي التوكيد صفة،(1/569)
وإنما نقلنا هذا الكلام وهو غيض من فيض- للاستمتاع وترويض الذهن، وقد أغنانا إعراب «مقام» مبتدأ خبره محذوف أو خبر لمبتدأ محذوف عن كل هذا التطويل.
2- المناقشة الثانية في «من استطاع» :
ما ارتئيناه من إعراب «من» بدلا من «الناس» هو المختار، وقال بعض النحاة: «من» فاعل حج لأنه مصدر يعمل عمل فعله، والمصدر مضاف إلى مفعوله. ورد النحاة عليه بأنه يجب على الناس أن يحج مستطيعهم، وذلك باطل. وأجاب التاج السبكي عن ابن السيد فقال: ولا مانع من أن يكون في الحج شيئان: فرض كفاية على كل الناس أن يحج مستطيعهم فإن لم يحج أثم الخلق كلهم، وفرض عين على المستطيع. ولا حاجة إلى كل هذا التكلف، والاخذ والرد. وذلك باعراب «من» بدلا من الناس، فتأمل والله يرشدك.
هذا وقد أعرب الكسائي «من» شرطية في محل رفع مبتدأ وجوابها محذوف والتقدير: من استطاع فليحج أو فعليه أن يباشر الحج بنفسه.(1/570)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
[المجلد الثاني]
[تتمة سورة آل عمران]
[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 99]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
اللغة:
(العوج) بكسر العين وفتحها، معروف، ولكن العرب فرقوا بينهما جريا على سلائقهم في التصرف بهذه اللغة الشريفة، فخصوا المكسور بالمعاني، والمفتوح بالأعيان. تقول: في كلامه عوج بالكسر.
وفي الجدار عوج بالفتح.
الإعراب:
(قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق للإنكار على الذين يكفرون بآيات الله. وقل فعل أمر وفاعله أنت ويا حرف نداء للمتوسط وأهل الكتاب منادى مضاف ولم اللام حرف جر وما اسم استفهام إنكاري في محل جر باللام وحذفت ألف ما الاستفهامية لدخول حرف الجر عليها والجار والمجرور متعلقان بتكفرون وبآيات الله جار ومجرور متعلقان بتكفرون أيضا وجملة النداء استئنافية (وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) الواو حالية والله مبتدأ وشهيد خبر والجار والمجرور متعلقان بشهيد وجملة تعملون صله وجملة والله شهيد حالية (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) كلام(2/5)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
مستأنف لتأكيد الإنكار والتوبيخ وقد تقدم إعراب مثيلها. (مَنْ آمَنَ) من اسم موصول مفعول به لتصدون وجملة آمن لا محل لها لأنها صلة «من» (تَبْغُونَها عِوَجاً) الجملة حالية، وتبغونها فعل مضارع وفاعل ومفعول به وعوجا حال وقع فيها المصدر موضع الاسم المشتق أي معوجة وفي هذا الإعراب من المبالغة أنهم يطلبون أن تكون الطريقة المستقيمة نفس العوج على طريق المبالغة في مثل رجل صوم، ويكون ذلك أبلغ في ذمهم وتوبيخهم. وقيل: الهاء في تبغونها ضمير منصوب بنزع الخافض. وعبارة ابن جرير الطبري: «ومعنى قوله «تبغونها عوجا» تبغون لها عوجا» ، وعليه قول سحيم عبد بني الحسحاس:
بغاك وما تبغيه حتى وجدته ... كأنك قد واعدته أمس موعدا
يعني طلبك وما تطلبه يقال: ابغني كذا، يراد ابتغه لي، فإذا أرادوا: أعنّي على طلبه وابتغه معي، قالوا: أبغني بفتح الهمزة، وهو قول سليم. (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) الواو حالية وأنتم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ وشهداء خبر والجملة الاسمية حالية (وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) الواو للحال أيضا وما نافية حجازية والله اسمها المرفوع والباء حرف جر زائد وغافل مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر «ما» وعما جار ومجرور متعلقان بغافل وجملة تعملون صلة ما الموصولية.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 100 الى 101]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)(2/6)
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) كلام مستأنف مسوق لإيراد خلة من خلال اليهود مستوحاة من العنصرية التي يتميزون بها، ويا حرف نداء للمنادى المتوسط وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه والذين بدل وجملة آمنوا صلة الموصول وإن شرطية وتطيعوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعل وفريقا مفعول به ومن الذين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لقوله فريقا وجملة أوتوا الكتاب صلة والكتاب مفعول به ثان لأوتوا المبني للمجهول (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) يردوكم جواب الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعل والكاف مفعول به أول ليردوكم وبعد ايمانكم ظرف متعلق بكافرين وكافرين مفعول به ثان (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لتوجيه الإنكار والاستبعاد إلى كيفية الكفر عن طريق المبالغة، وكيف اسم استفهام إنكاري مبني على الفتح في محل نصب على الحال وتكفرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وأنتم الواو حالية وأنتم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ وتتلى فعل مضارع مبنى للمجهول والجملة خبر وعليكم جار ومجرور متعلقان بتتلى وآيات الله نائب فاعل (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) الواو حالية أو عاطفة وفيكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ورسوله مبتدأ مؤخر (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويعتصم فعل الشرط وفاعله(2/7)
ضمير مستتر تقديره هو وبالله جار ومجرور متعلقان بيعتصم فقد:
الفاء رابطة للجواب وقد حرف تحقيق وهدي فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل هو والى صراط جار ومجرور متعلقان بهدي ومستقيم صفة وجملة فقد هدي في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من.
الفوائد:
لمحة تاريخية:
لليهود أصالة راسخة في إحداث التفرقة بين الأمم والشعوب ليضمنوا لأنفسهم السيادة والاستعلاء المزعومين، وهي خلة من خلال اليهود مستوحاة من العنصرية التي يتميزون بها، ويشتدون في الدعاية لها.
وفي معرض نزول هذه الآية يروي التاريخ أن شاسا بن قيس اليهودي، وكان شيخا طاعنا في السن، ممعنا في اللجاجة واللدد، يكره المسلمين ويتربص بهم الدوائر للإيقاع بهم وتفريق شملهم الملتئم، مرّ شأس هذا بنفر من الأوس والخزرج وهم في مجلس يتحدثون فيه فغاظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة والبغضاء في الجاهلية. فقال: والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار. فأمر شابا من اليهود وكان معه فقال له: اعمد إليهم واجلس معهم وذكرهم يوم بعاث وما كان فيه، وأنشدهم بعض ما كانوا يتناشدونه من أشعار تستهدف إثارة الحفائظ (وبعاث بضم الباء وهو يوم مشهور اقتتل فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس) ففعل الشاب اليهودي ما أمره به شاس، فتنازع عند ذلك القوم، وانبعثت أسباب الخصام من جديد، وتفاخروا وتغاضبوا وتبادلوا الشتائم، وتنادوا: السلاح السلاح، وكادوا يمتشقون السيوف: فبلغ ذلك(2/8)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار، فقال: يا معشر المسلمين! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام، وقطع عنكم إصر الجاهلية، وألف بين قلوبكم، ترجعون الى ما كنتم عليه كفارا؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم، وبكوا وعانق بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله سامعين مطيعين. فما كان يوم أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 102 الى 103]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
اللغة:
(وَاعْتَصِمُوا) الاعتصام: الالتجاء والتمسك، وأنا معتصم بفلان ومستعصم به ومعتصم بحبله، ونحن في عصمة الله، وكل ما عصم به الشيء- أي: حفظ وصين- فهو عصام. وللعين والصاد- إذا كانتا فاء وعينا للكلمة- خصائص لغوية رائعة، فهما تدلان على الشدة(2/9)
والمنعة وما هو بمعناهما من الحفظ والتأبي، فيقال: فلان لا تعصب سلماته، أي: لا يقهر، قال الكميت بن زيد:
ولا سمراتي يبتغيهن عاضد ... ولا سلماتي في بجيلة تعصب
وفلان معصوب الخلق: مطويه مكتنز اللحم. وكانوا إذا سودوا إنسانا عصبوه. وهذا يوم عصيب وعصبصب أي: شديد. وفلان يتعصب لقومه. وعصر معروف، ولا بد من استعمال شدة في العصر، وهذا أمر قد تعصرت الشبيبة به وبلغت الأشد عليه. والمعصرات:
السحب التي تمطر الماء. وعصفت الريح فهي عاصف ومعصفة، وهي أشد، وعصف بهم الدهر: أودى بهم وأبادهم، قال عدي بن زيد:
ثم أضحوا عصف الدهر بهم ... وكذاك الدهر حالا بعد حال
وجعلهم كعصف مأكول معروف، ويقال للجائع: صاحت عصافير بطنه، وهو تعبير عامي فصيح، أي: صوتت بشدة. وسمي العصفور لأنه لا ينفك عن الزقزقة. ووهب النعمان للنابغة مائة من عصافيره، وهي نجائب كانت له، انتهت في يوم دارة مأسل، قال ذو الرمة:
نجائب من ضرب العصافير ضربها ... أخذنا أباها يوم دارة مأسل
ولو شئنا الاستقصاء لأسمعناك العجب العجاب فحسبنا ما تقدم.
(شَفا) الشفا: طرف الحفرة، بالتذكير والتأنيث. وسيأتي المزيد من الكلام عنها في باب الفوائد.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ) كلام مستأنف مسوق(2/10)
لما فيه تكميل المؤمنين لأنفسهم، وقد تقدم إعراب النداء فجدد به عهدا. واتقوا فعل أمر والواو فاعل والله مفعول به وحق تقاته مفعول مطلق، والإضافة هنا من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، والأصل التقاة الحق، والتقاة مصدر تقدم تحقيقها (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) الواو حرف عطف ولا ناهية وتموتن فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين ضمير متصل في محل رفع فاعل والنون المشددة للتوكيد ولا محل لها وإلا أداة حصر والواو حالية وأنتم مبتدأ ومسلمون خبر والجملة الاسمية نصب على الحال (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) الواو عاطفة واعتصموا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وبحبل الله جار ومجرور متعلقان باعتصموا وجميعا حال ولا ناهية وتفرقوا فعل مضارع حذفت إحدى تاءيه جوازا، وأصله تتفرقوا مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) الواو حرف عطف واذكروا فعل أمر معطوف على اعتصموا ونعمة الله مفعول به وعليكم جار ومجرور متعلقان بنعمة (إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق باذكروا وجملة كنتم في محل جر بالإضافة إليها وكنتم فعل ماض ناقص واسمها، وأعداء خبرها والفاء عاطفة وألف فعل ماض وفاعله ضمير مستتر يعود على الله وبين ظرف متعلق بألف وقلوبكم مضاف إليه (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) الفاء عاطفة وأصبحتم فعل ماض ناقص والتاء اسمها وبنعمته جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وإخوانا خبر أصبحتم (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) عطف على ما تقدم وكان واسمها وعلى شفا حفرة جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها ومن النار جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لحفرة فأنقذكم عطف على كنتم ومنها(2/11)
جار ومجرور متعلقان بأنقذكم (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف مفعول مطلق أو حال، وقد تقدم كثيرا، ويبين الله فعل مضارع وفاعل وآياته مفعول به والجملة مستأنفة ولعل واسمها، وجملة تهتدون خبرها وجملة الرجاء حالية.
البلاغة:
1- الاستعارة التمثيلية في الاعتصام بحبل الله، فقد شبه الوثوق بالله والاعتماد على حمايته بحال من يمسك بحبل وثيق، وقد تدلى من مكان عال، فهو آمن من انقطاعه وانبتاته. وقد أراد بالحبل هنا القرآن الكريم، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «القرآن حبل الله المتين، لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد. من قال به صدق، ومن عمل به رشد، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم» .
2- الطباق بين أعداء وإخوان.
الفوائد:
1- الشفا في الأصل مذكر، وقد عاد الضمير عليه في الآية مؤنثا لأنه اكتسب التأنيث بإضافته الى الحفرة. والقاعدة المطردة هي أن المضاف المذكر قد يكتسب من المضاف إليه المؤنث تأنيثه وبالعكس، وشرط ذلك في الصورتين صلاحية المضاف للاستغناء عنه بالمضاف إليه مع صحة المعنى. فمن الأول قول الأغلب:
طول الليالي أسرعت في نقضي ... نقضن كلي ونقضن بعضي
فأنت «أسرعت» مع أنه خبر عن مذكر إلا أنه اكتسب التأنيث من «الليالي» . وعليه يفسر قول مجنون ليلى:(2/12)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا
ومن التصوير الثاني قول الآخر:
إنارة العقل مكسوف بطوع هوى ... وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا
فذكر «مكسوف» مع أنه خبر عن مؤنث وهو «إثارة» لأنها اكتسبت التذكير من إضافتها إلى العقل وهذا باب هام فتأمل.
2- (أصبح) تستعمل لاتصاف الموصوف بصفة وقت الصباح، وتستعمل بمعنى صار فلا يلحظ فيها وقت الصباح بل مطلق الانتقال والصيرورة من حال إلى حال، قال الربيع بن ضبع:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
[سورة آل عمران (3) : الآيات 104 الى 105]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105)
الإعراب:
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) كلام معطوف على ما قبله من عطف الخاص على العام مسوق لبيان رأس الخيرات. والواو حرف(2/13)
عطف ولك أن تجعلها استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما تقدم واللام لام الأمر وهي تسكن بعد الواو والفاء وثم، وتكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلام الأمر ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم لتكن وأمة اسمها المؤخر وجملة يدعون الى الخير في محل رفع صفة لأمة ويجوز أن تكون جملة يدعون هي الخبر ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة تقدمت على الموصوف فأعربت حالا وإلى الخير جار ومجرور متعلقان بيدعون (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) الجملتان معطوفتان على جملة يدعون إلى الخير (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) تقدم إعرابها كثيرا (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) الواو عاطفة ولا ناهية وتكونوا فعل مضارع ناقص مجزوم بلا والواو اسمها وكالذين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها ولك أن تجعل الكاف اسما بمعنى مثل فتكون هي الخبر والذين اسم موصول في محل جر بالإضافة وجملة تفرقوا صلة الموصول (وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) الواو عاطفة واختلفوا عطف على تفرقوا ومن بعد جار ومجرور متعلقان باختلفوا وما مصدرية مؤولة مع جاءهم البينات بمصدر مضاف لبعد والهاء مفعول به مقدم والبينات فاعل مؤخر (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) الواو استئنافية أو عاطفة واسم الإشارة مبتدأ ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وعظيم صفة والجملة الاسمية في محل رفع خبر اسم الإشارة.
البلاغة:
1- في الآية عطف الخاص وهو باب دقيق المسلك يبدو كأخذة السحر فهو يؤذن بمزيد العناية بالخاص، وتفصيل ذلك أن الدعوة(2/14)
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)
إلى الخير عامة وإردافها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مؤذن باختصاصهما بمزيد من العناية وإظهار فضلهما على سواهما من الخيرات.
2- المقابلة: فقد طابق بين الأمر والنهي وبين المعروف والمنكر.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 106 الى 107]
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107)
الإعراب:
(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) الظرف متعلق بمحذوف تقديره:
اذكر، فتكون الجملة مستأنفة مسوقة لبيان حال الفريقين. وجملة تبيض وجوه في محل جر باضافة الظرف إليها. ووجوه فاعل، وتسود وجوه عطف على تبيض وجوه (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) الفاء للتفريع وفيها معنى الاستئناف فتكون الجملة مستأنفة وأما حرف شرط وتفصيل والذين اسم موصول في محل رفع مبتدأ وجملة اسودت وجوههم صلة (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) الجملة مقول قول محذوف مع الفاء الرابطة لجواب أما، أي: فيقال لهم:
أكفرتم، وجملة «فيقال» خبر الذين وهي جواب «أما» وشرط «أما» لا يذكر صريحا بل التزموا حذفه. ويظهر عند حل المعنى والتعبير بما(2/15)
نابت عنه «أما» وهو مهما، والتقدير: مهما يكن من شيء فأما الذين اسودت يقال لهم كذا، فاحفظه وقس عليه، والهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي وكفرتم فعل وفاعل وبعد ظرف متعلق بكفرتم وإيمانكم مضاف إليه (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عما هو مقدر أي إذا عرفتم ذلك فذوقوا العذاب، وبما جار ومجرور متعلقان بذوقوا وما مصدرية وهي مع مدخولها في محل جر بالباء أي بسبب كفركم وجملة تكفرون في محل نصب خبر كنتم (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ) تقدم إعرابها (فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) الفاء رابطة لجواب أما والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر الذين وهم مبتدأ وفيها جار ومجرور متعلقان بخالدون وخالدون خبرهم وجملة هم فيها خالدون حالية.
البلاغة:
1- في هذه الآية فن التدبيج وهو فن دقيق المسلك، حلو المأخذ، رشيق الدلالة، وحده أن يذكر الشاعر أو الناثر لونين أو أكثر، يقصد بذلك الكناية أو التورية عما يريد من أغراض، وقد لا يقصد غير الوصف. فالبياض والسواد لونان متضادان، والتضاد يعني التطابق، ولكنه كنى بهما عن فريقين من الناس، فمن كان من أهل الحق وسم ببياض اللون ونصاعته، ومن كان من أهل الباطل وسم بسواد الليل وحلكته، ولا يخفى ما في ذلك من التهويل، وتباين المصير المحتوم لكل من الفريقين. ومن طريف التدبيج في الشعر وما ينطوي عليه من كناية قول أبي تمام في رثاء محمد بن حميد الطوسي شهيد الجهاد:(2/16)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
تردى ثياب الموت حمرا فما دجا ... لها الليل الا وهي من سندس خضر
والتدبيج تفعيل من الدبج وهو النقش والتزيين، وأصل الديباج فارسي معرب. ومن طريفه قول صفي الدين الحلي:
بيض صنائعنا سود وقائعنا ... خضر مرابعنا حمر مواضينا
2- الاستعارة في «ذوق العذاب» فقد شبهه بالمر مما يؤكل، ثم حذف المشبه به وأبقى شيئا من لوازمه وهو الذوق. ولا يخفى ما فيه من الشعور بالمرارة، وذلك على طريق الاستعارة التبعية المكنية.
3- المجاز المرسل في «رحمة الله» والعلاقة فيه الحالية، لأن الرحمة لا يحل فيها الإنسان وإنما يحل في مكانها، وهو الجنة.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 108 الى 109]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
الإعراب:
(تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما اشتمل على نعيم الأبرار وعذاب الكفار. واسم الإشارة مبتدأ وآيات الله خبره وجملة نتلوها عليك حالية أي متلبسة بالحق، فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أيضا (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) الواو استئنافية وما نافية حجازية والله اسمها وجملة يريد في محل نصب(2/17)
خبرها وظلما مفعول به وللعالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ل «ظلما» والعالمين مجرور بالياء نيابة عن الكسرة لأنه ملحق بجمع المذكر السالم (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)
الواو استئنافية ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وفي السموات جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة للموصول لا محل له من الإعراب وما في الأرض عطف على «ما في السموات» (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) الواو حرف عطف وإلى الله جار ومجرور متعلقان بترجع وترجع فعل مضارع مبني للمجهول والأمور نائب فاعل.
البلاغة:
(التكرير) في هذه الآية فن التكرير. وقد اختلف أهل العربية في وجه تكرير الله تعالى ذكره اسمه مع قوله «وإلى الله ترجع الأمور» ظاهرا وقد تقدم اسمه ظاهرا في قوله «ولله ما في السموات وما في الأرض» فقال بعض البصريين: ذلك نظير قول العرب: وأما زيد فذهب زيد وكما قال الشاعر:
ألا لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فأظهر في موضع الإضمار. وقال بعض نحويي الكوفة ليس ذلك نظير هذا البيت لأن موضع الموت في البيت موضع كناية، أي ضمير، وليس ذلك كذلك في الآية، لأن قوله: «ولله ما في السموات وما في الأرض» خبر، ليس من قوله «وإلى الله ترجع الأمور» في شيء، وذلك أن كل واحدة من القصتين مفارق معناها معنى الأخرى، مكتفية كل واحدة منهما بنفسها، غير محتاجة الى الأخرى، وما قال الشاعر(2/18)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
لا أرى الموت، محتاج إلى تمام الخبر عنه. وهذا القول الثاني عندنا أولى بالأرجحية، لأن كتاب الله عز وجل لا توجه معانيه، وما فيه من البيان، إلى الشواذ من الكلام والمعاني، وله في الفصيح من المنطق والظاهر من المعاني وجه صحيح موجود.
[سورة آل عمران (3) : آية 110]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110)
الإعراب:
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال هذه الأمة في الفضل على غيرها من الأمم ولتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الجنوح إلى الخير والصدوف عن المنكر، وكان واسمها وخير أمة خبرها وقيل: كان تامة، أي وجدتم وخلقتم خير أمة، والأول أرجح وأخرجت فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هي، وللناس جار ومجرور متعلقان بأخرجت والجملة في محل نصب خبر ثان لكنتم وقيل نصب على الحال وقيل نعت لأمة والأوجه متساوية الرجحان (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) الجملة خبر ثالث لكنتم أو نصب على الحال، واختار الزمخشري أن تكون مستأنفة مبينة كونهم خير أمة، كما تقول: زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم وأرى انها مفسرة لا محل لها، وتأمرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون(2/19)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
والواو فاعل وبالمعروف جار ومجرور متعلقان بتأمرون ومثلها وتنهون عن المنكر (وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) الجملة معطوفة (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتكون جوابا عن سؤال فحواه: كيف قال ذلك مع أن غير الإيمان لا خير فيه حتى يقال: إن الإيمان خير منه، ولو شرطية وآمن فعل ماض مبني على الفتح وأهل الكتاب فاعل واللام واقعة في جواب لو، وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره هو يعود على المصدر وهو الإيمان المدلول عليه بفعله وخيرا خبر كان ولهم جار ومجرور متعلقان ب «خيرا» والجملة واقعة في جواب الشرط (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة لتكون جوابا عما ينشأ من لو الشرطية الدالة على انتفاء الإيمان، ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم والمؤمنون مبتدأ مؤخر وأكثرهم مبتدأ والفاسقون خبره.
البلاغة:
(المقابلة) في الآية فن المقابلة، فقد تعدّد الطباق بين تأمرون وتنهون وبين المعروف والمنكر وبين «المؤمنون» و «الفاسقون» ، وقد تقدم الكلام عن المقابلة.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 111 الى 112]
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)(2/20)
اللغة:
(ثُقِفُوا) تقدم معناها فيما سبق وهي هنا بمعنى أدركوا وغلبوا وذلوا. ومن أقوالهم: طلبناه فثقفناه في مكان كذا، أي أدركناه.
وثقفت العلم في أوحى مدة إذا أسرعت في أخذه. وكان أبو تمام ثقفا لقفا (باؤُ) : رجعوا.
الإعراب:
(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) كلام مستأنف مسوق لبيان أن ضررهم منقطع يقع في فترات لا يؤبه لها. ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويضروكم فعل مضارع منصوب بحذف النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعل والكاف مفعول به وإلا أداة حصر وأذى مفعول مطلق أي ضررا مقتصرا على أذى مؤقت لا يلبث أن يزول فالاستثناء مفرغ، وقيل: الاستثناء هنا منقطع، وعليه اقتصر ابن جرير الطبري، قال:
وهذا من الاستثناء المنقطع الذي هو مخالف معنى ما قبله كما قيل: ما اشتكى شيئا إلا خيرا، وهذه كلمة محكية عن العرب سماعا (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) الواو عاطفة وإن شرطية ويقاتلوكم فعل الشرط مجزوم بحذف النون والواو فاعل والكاف مفعول به أول والأدبار مفعول ثان (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) ثم حرف عطف وتراخ وقد أتت هنا لمجرد الاستئناف ولا(2/21)
نافية وينصرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو نائب فاعل، وسيأتي في باب البلاغة سر العدول عن العطف على الفعل المجزوم كما يقتضيه سياق الكلام، كأنه قال: ثم أخبركم أنهم لا ينصرون (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا) الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير ضرب الذلة على اليهود وضربت فعل ماض مبني للمجهول والتاء للتأنيث وعليهم جار ومجرور متعلقان بضربت والذلة نائب فاعل وأينما اسم شرط جازم منصوب على الظرفية المكانية متعلق بضربت وثقفوا فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط والواو نائب فاعل والجواب محذوف دل عليه ما قبله أي فقد ضربت عليهم (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ) إلا أداة استثناء والجار والمجرور في محل نصب على الاستثناء من أعم الأحوال فيكون مستثنى بمعنى الحال أي ضربت عليهم الذلة في أعم أحوالهم إلا في هذه الحالة وهي اعتصامهم بحبل من الله ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة، وعلى هذا فهو استثناء متصل، وقال آخرون: هو منقطع. وسيأتي مزيد بيان لهذا الإعراب في باب الفوائد (وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) عطف على قوله بحبل من الله (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) الواو حرف عطف وباءوا فعل ماض معطوف والواو فاعل والجملة عطف على جملة ضربت وبغضب جار ومجرور متعلقان بباءوا ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لغضب (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) عطف على ما تقدم وعليهم جار ومجرور متعلقان بضربت والمسكنة نائب فاعل ضربت وكرر الجملة تأكيدا للذلة المضروبة على اليهود (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان سبب ضرب الذلة والمسكنة على اليهود واسم الاشارة مبتدأ والاشارة الى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة وغضب الله، وبأنهم الباء حرف جر، وأن واسمها والمصدر المؤول من أن وما في حيزها في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان(2/22)
بمحذوف خبر اسم الإشارة، وكان واسمها، والجملة خبر «أنهم» ، وجملة يكفرون في محل نصب خبر كانوا وبآيات الله جار ومجرور متعلقان بيكفرون (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) عطف على ما تقدم والأنبياء مفعول به وبغير حق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) كلام مستأنف سيق لبيان تعليل العلة، فعصيانهم سبب لكفرهم وقتلهم الأنبياء، وهما سبب الذلة والمسكنة والغضب، واسم الإشارة مبتدأ والباء حرف جر وما مصدرية أي:
بسبب عصيانهم، فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر «ذلك» ، وكان واسمها، وجملة يعتدون خبرها.
البلاغة:
اشتملت هاتان الآيتان على ضروب من البلاغة بلغت أسمى حدود الإعجاز ولئن أسهب علماء البلاغة، عليهم رضوان الله، في إظهار أسرارها، وسبر أغوارها واكتناه مخبآتها، فقد أتيح لنا أن نشهد بأم أعيننا مصير فلسطين بسبب اليهود، وبسبب ما نالوه من نجاح خالب مؤقت، وسنوجز القول فيما قاله علماء البلاغة أولا، ثم نعقب عليه بما استنتجناه بأنفسنا وحدسنا به من مآل اليهود الذي لا بد منه.
1- في الآية الأولى فن يقال له: «فن الإيضاح» ، وهو أن يذكر المتكلم كلاما في ظاهره لبس ثم يوضحه في بقية كلامه، والإشكال الذي يحله الإيضاح يكون في معاني البديع من الألفاظ وفي إعرابها، فإن في ظاهر هذه الآية إشكالين أحدهما من جهة الإعراب والآخر من جهة المعنى. فأما الذي من جهة الإعراب فعطف ما ليس بمجزوم على(2/23)
المجزوم، والذي من جهة المعنى أن صدر الآية يغني عن فاصاتها، لأن توليهم عند المقاتلة دليل على الخذلان، والخذلان والنصر لا يجتمعان والجواب أن الله سبحانه أخبر المؤمنين بأن عدوهم هذا إن قاتلهم انهزم ثم أراد تكميل العدة بإخبارهم أنه مع توليه الآن لا ينصر أبدا في الاستقبال فهو مخذول أبدا ما قاتلهم.
ولو وقع الاقتصار على دون الفاصلة لم يوف الكلام بهذا المعنى المراد، لأنه لا يعطي قوله: «وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار» أنهم متى قاتلوهم كان الأمر كذلك فإن قولك: «إذا جاء زيد أكرمته» لا يلزم منه متى جاء على الدوام والاستمرار كان عليك الإكرام، وإنما يعطي أنه إن جاءك أكرمته لتلك الجيئة، ولعلمه سبحانه أن الاقتصار على ما هو دون الفاصلة لا يفهم منه دوام هذه البشارة إلى آخر الأبد، والمقصود ديمومتها، قال: «ثم لا ينصرون» ومنع الفعل الجزم وإن عطف على مجزوم ليبقى على المعنى الذي وضعت له صيغة المضارع من الدلالة على الحال والاستقبال، ونوى في الفعل الاستئناف لا العطف على ما تقدم، والله سبحانه يريد إدخال الطمأنينة في روع المؤمنين الذين تعاهدوا على الموت، لأن الاستشهاد في معمعان الوغى وصحصحان الجهاد هو مستهل حياة قشيبة جديدة هي حياة المجد والخلود على حد قول الشاعر:
إن تسل أين قبور العظما ... فعلى الأفواه أو في الأنفس
نقول: أراد الله سبحانه أن يؤكد للمؤمنين المجاهدين أن النصر سيكون حليفهم فأعقب الكلام الذي تم بجملة توضح اليقين وهي قوله: «ثم لا ينصرون» ليفيد الديمومة والاستمرار في الجهاد، وعدم(2/24)
الاستسلام للعدو، ويبشرهم بأن عدوهم مخذول أبدا وأن عليهم أن يباشروا قتاله في كل وقت، وأن لا يهنوا إذا خيل إليهم أن عدوهم قد ظهر عليهم، فلا بد له أن يخذل في مستقبل الأيام، فإن تاريخ الأمة لا يحسب بحساب الزمن، ولا يعد بالسنين القليلة وإن حياة الأمم والشعوب ليست كحياة الافراد.
والإشكال الثاني أنه عطف الفعل المضارع المرفوع على المضارع المجزوم، وهو يبدو للوهلة الأولى أو لأصحاب النظر السطحي المجرد أنه خلاف الأولى، ولكنه عدل عن الجزم إلى الرفع ليعلم أن عدم النصر لهم هو عهد قطعه الله على نفسه، ومن أصدق من الله حديثا أو عهدا وإن انتفاء النصر عنهم مستمر إلى الأبد، ولا عبرة في الحالات الطارئة، والظروف الاستثنائية المؤقتة التي تسنح لهم في الفترات الطويلة المتعاقبة التي ينتصرون فيها فعدل عن الجزم الذي يقتضيه سياق الكلام، كأنه قال ثم أخبركم مبشرا بأنهم لا ينصرون في المستقبل أبدا. كما أشرنا إلى ذلك في باب الإعراب.
2- والفن الثاني في هذه الآية هو: «فن التعليق» . وهو أن يتعلق الكلام إلى حين، ولذلك اختير لفظ «ثم» دون حروف العطف، لأنه يدل على المهلة الملائمة لدلالة الفعل المضارع على الاستقبال، كأنه قال: ثم هاهنا ما هو أعلى في الامتنان، وأسمى في مراتب الإحسان، وهو أن هؤلاء اليهود قوم لا ينصرون البتة مهما وأتتهم الامكانيات، ومهما أغدقت عليهم المساعدات.
3- والفن الثالث في هذه الآية هو فن المطابقة المعنوية بين نصر المؤمنين وخذلان الكافرين.(2/25)
4- والفن الرابع في هذه الآية هو: «فن الاحتراس» . لأن الكلام لو عطف بالواو مثلا لظن قصار النظر أنهم إنما وعدوا بالنصر في تلك الحالة ليس غير، فدفع هذا الظن بكلمة «ثم» التي تقطع قطعا لا يرين عليه الشك، بأن النتيجة الحتمية هي النصر المؤزر للمؤمنين، خشية أن يظن بعض الذين لا يحبون المسارعة الى الموت بأن الوعد بالنصر في تلك الحالة فقط، وأن الحرب قد تكون سجالا، وأنه قد يأتي دورهم بالنصر، فنفى سبحانه هذا الاحتمال، وقطع على هؤلاء الظانين الطريق لالتماس المعاذير للتخلف عن الجهاد.
5- والفن الخامس: هو الإيغال أي عدم الوقوف عند تولية الأدبار مع تمام الكلام، فأتم بما يوافق بقية الفواصل مع ما يكمل به المعنى التام.
6- ثم جاءت الآية الثانية مكملة للفنون التي تضمنتها الآيتان وذلك على الوجه التالي:
آ- الكناية التي هي هنا عبارة عن نسبة، وقد تقدم ذكرها، وهي في ضرب الذلة والمسكنة عليهم كما يضرب البيت أو القبة على أهلهما على حد قول أبي الطيب المتنبي:
إن في ثوبك الذي المجد فيه ... لضياء يزري بكل ضياء
ب- الاستعارة التمثيلية في تشبيه التمسك بأسباب السلامة بالتمسك بالحبل الوثيق وقد تدلى من مكان عال، فهو آمن من مغبة السقوط والخذلان والارتطام.(2/26)
فإذا أضفنا إلى ما تقدم من فنون ما تميزت به الآيتان من «حسن الافتتان» و «جمال النسق» و «روعة العبارة» و «نصاعة البيان» تبين لك الى أي مدى وصلتا اليه من إعجاز وسمو تميز بهما كتاب الله العظيم.
الفوائد:
اختلف أهل العربية في المعنى الذي جلب الباء في قوله تعالى: «إلا بحبل من الله وحبل من الناس» فقال بعض نحويي الكوفة وعلى رأسهم الفراء في كتابه «معاني القرآن» : الذي جلب الباء في قوله: بحبل، فعل مضمر قد ترك ذكره. ومعنى الكلام: ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا أن يعتصموا بحبل من الله، فأضمر في ذلك. واستشهد الفراء بقول حميد بن ثور الهلالي:
رأتني بحبليها فصدت مخافة ... وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق
وقال: أراد أقبلت بحبليها. ويقول أبي الطمحان القيني:
حنتني حانيات الدهر حتى ... كأني خاتل أدنو لصيد
قريب الخطو يحسب من رآني ... ولست مقيدا أني بقيد
يريد مقيدا بقيد فأوجب إعمال فعل محذوف وإظهار صلته وهو متروك، وذلك في مذاهب العربية ضعيف، ومن كلام العرب بعيد.
إلى أن يقول: وقال بعض نحويي البصرة: قوله: «إلا نحبل من الله» استثناء خارج من أول الكلام، قال الفراء: وليس ذلك بأشد(2/27)
من قوله: «لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما» ، وقال آخرون من نحويي الكوفة: هو استثناء متصل، والمعنى ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا أي بكل مكان إلا بموضع حبل من الله، كما تقول ضربت عليهم الذلة في الأمكنة إلا في هذا المكان. وهذا أيضا طلب الحق فأخطأ المفصل، وذلك أنه زعم أنه استثناء متصل، ولو كان متصلا كما زعم لوجب أن يكون إذا ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس غير مضروبة عليهم المسكنة، وليس ذلك صفة اليهود لأنهم أينما ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس أو بغير حبل من الله عز وجل وغير حبل من الناس فالذلة مضروبة عليهم، على ما ذكرنا عن أهل التأويل قبل فلو كان قوله:
الا بحبل من الله وحبل من الناس، استثناء متصلا لوجب أن يكون القوم إذا ثقفوا بعهد وذمة أن لا تكون الذلة مضروبة عليهم، وذلك خلاف ما وصفهم الله به من صفتهم، وخلاف ما هم به من الصفة، فقد تبين بذلك فساد قول هذا القائل أيضا.
تعليق ابن جرير:
وقال أبو جعفر الطبري: ولكن القول عندنا أن الباء في قوله: إلا بحبل من الله، أدخلت لأن الكلام الذي قبل الاستثناء يقتضي في المعنى الباء، وذلك أن معنى قوله: ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا: ضربت عليهم الذلة بكل مكان ثقفوا فيه، ثم قال: إلا بحبل من الله وحبل من الناس، على غير وجه الاتصال بالأول، ولكنه على الانقطاع عنه، ومعناه: ولكن يثقفون بحبل من الله وحبل من الناس، كما قيل في:
«وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ» ف «خطأ» وإن كان منصوبا بما عمل فيما قبل الاستثناء فليس قوله باستثناء متصل بالأول، بمعنى(2/28)
إلا خطأ فإن له قتله كذلك، ولكن قد يقتله خطأ، فكذلك قوله: أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وإن كان الذي جلب الباء التي بعد إلا الفعل الذي يقتضيها قبل إلا فليس الاستثناء بالاستثناء المتصل بالذي قبله، بمعنى أن القوم إذا لقوا فالذلة زائلة عنهم بل الذلة ثابتة بكل حال، ولكن معناه ما بيناه آنفا.
وقد آن أن ننتهي من هذا البحث الذي طال بعض الطول ونحمد الله على أنه ألهمنا ما لم يلهم أحدا من قبل. ولعلهم لو امتد بهم العمر إلى أيامنا لأدركوه كما أدركناه، وسبروا غوره كما سبرناه. ولعل من خير حسن الختام أن ننبه إلى خطأ وقع فيه بعض الأئمة من المتقدمين وجل من تنزه عن الخطأ، فقد زعم بعض من لا تحصيل له أن المعطوف على جواب الشرط ب «ثم» لا يجوز جزمه البتة قال: لأن المعطوف على الجواب جواب، وجواب الشرط يقع بعده وعقبه، و «ثم» تقتضي التراخي فكيف يتصور وقوعه عقب الشرط؟ فلذلك لم يجزم مع «ثم» .
وهذا فاسد واضح البطلان، وليس لنا أن نستشهد على بطلانه إلا بقوله تعالى: «وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم» ف «لا يكونوا» مضارع مجزوم نسقا على «يستبدل» الواقع جوابا للشرط والعاطف ثم. وبهذا يكتمل عقد هذا البحث الذي نزفه إلى العالمين العربي والإسلامي ليستبشروا فالنصر آت، وزوال هذه الدويلة المسخ وعد تنزلت به الآيات. ونقتبس هذه العبارة للزمخشري فهي خير ما يقال: «وحين رفع كان نفي النصر وعدا مطلقا كأنه قال: ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها، وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون، منتف عنهم النصر والقوة لا ينهضون بعدها بنجاح ولا يستقيم لهم(2/29)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
أمر، وكان كما أخبر من حال بني قريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر» ، والله الموفق للصواب.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 115]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
اللغة:
(الآناء) الساعات، واحدها أنى بفتح الهمزة والنون، بوزن عصا، أو إنى بكسر الهمزة وفتح النون بوزن معى، أو أني بفتح الهمزة وسكون النون بوزن ظبي، أو إني بكسر الهمزة وسكون النون بوزن حمل.
الإعراب:
(لَيْسُوا سَواءً) كلام مستأنف مسوق لبيان التفاوت بين أهل الكتاب، وليس واسمها وخبرها، والوقف تام على سواء (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) الجملة مستأنفة أيضا مسوقة لبيان ما أجمله، ولتعداد محاسن مؤمنى أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وأسيد بن عبيد(2/30)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
وأمثالهم من اليهود الذين أسلموا، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وأمة مبتدأ مؤخر وقائمة صفة، واختار الفراء أن تكون أمة مرفوعة على أنها فاعل سواء، ولا أدري كيف استقام له ذلك مع ما فيه من توهين نظام الجملة (يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) جملة يتلون صفة ثانية لأمة والواو فاعل يتلون وآيات الله مفعوله وآناء الليل ظرف زمان متعلق بيتلون وهم الواو للحال وهم مبتدأ وجملة يسجدون في محل رفع خبر (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الجملة صفة ثالثة لأمة والجار والمجرور متعلقان بيؤمنون واليوم عطف على الله والآخر صفة لليوم (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) جمل ثلاث معطوفة على جملة يؤمنون بالله (وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) الواو استئنافية واسم الإشارة مبتدأ والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر اسم الإشارة (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) الواو استئنافية وما شرطية في محل نصب مفعول به مقدم ليفعلوا ويفعلوا فعل الشرط مجزوم والواو فاعل والجار والمجرور في محل نصب على الحال والفاء رابطة ولن حرف نصب ويكفروه فعل مضارع منصوب بلن والواو نائب فاعل والهاء مفعول به ثان وقد نصب فعل كفر مفعولين لأنه تضمن معنى الحرمان والمنع وجملة فلن يكفروه في محل جزم جواب الشرط (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) الواو استئنافية والله مبتدأ وعليم خبره والجار والمجرور متعلقان بعليم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 116 الى 117]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)(2/31)
اللغة:
(الصر) بكسر الصاد: الريح الباردة، كالصّرصر. قال حاتم الطائي:
أوقد فإن الليل ليل قرّ ... والريح يا غلام ريح صر
وسيأتي المزيد عنها في باب البلاغة.
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) كلام مستأنف مسوق لذكر خلة من خلال اليهود، وهي حبهم للمال وشراهتهم إليه، ومعاداتهم من أجله، على أن خصوص الحديث يفيد عمومه، فليس الحديث عن بني قريظة والنضير بمانع من شموله لكل من يجعل ديدنه حب المال والتطويح بكل خلق جميل في سبيله، وإن واسمها، وجملة كفروا صلة ولن حرف نصب وتغني فعل مضارع منصوب بلن وعنهم جار ومجرور متعلقان بتغني وأموالهم فاعل ولا أولادهم عطف على «أموالهم» ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، لأنه كان في الأصل نعت لقوله شيئا وتقدم عليه، وشيئا مفعول مطلق أو مفعول به وجملة لن تغني في محل رفع خبر إن(2/32)
(وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) الواو عاطفة وأولئك اسم إشارة مبتدأ وأصحاب النار خبره والجملة معطوفة على جملة لن تغني (هُمْ فِيها خالِدُونَ) هم مبتدأ وفيها جار ومجرور متعلقان بقوله خالدون وخالدون خبر «هم» والجملة خبر ثان لأولئك. َثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا)
جملة مستأنفة مسوقة لضرب المثل في بيان كيفية عدم إغناء أموالهم التي كانوا يعولون عليها في دفع المضار النازلة بهم، ومثل مبتدأ وما اسم موصول في محل جر بالإضافة وجملة ينفقون صلة وفي هذه جار ومجرور متعلقان بينفقون والحياة بدل من اسم الإشارة والدنيا صفة للحياةَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ)
الجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مثل وريح مضاف اليه وفيها جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم مبتدأ مؤخر والجملة صفة ريحَ صابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ)
جملة أصابت صفة ثانية لريح، وحرث قوم مفعول به لأصابت وجملة ظلموا في محل جر صفة لقوم وأنفسهم مفعول به لظلموا فأهلكته عطف على أصابتَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
الواو استئنافية وما نافية وظلمهم الله فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ولكن مخففة من الثقيلة مهملة لمجرد الاستدراك وأنفسهم مفعول به مقدم ليظلمون ويظلمون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل.
البلاغة:
1- التشبيه التمثيلي فقد شبه سبحانه ما أنفقوه في عدم جدواه وقلة غنائه بالحرث الذي عصفت به الريح الصر، وأصل الكلام: مثل(2/33)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم فأصابته ريح فيها صرّ، ولكن خولف النظم في المثل المذكور لفائدة جليلة وهي تقديم ما هو أهم لأن الريح التي هي مثل العذاب ذكرها في سياق الوعيد والتهديد أهم من ذكر الحرث، فقدمت عناية بذكرها، واعتمادا على أن الأذواق والفطر المستقيمة تستطيع رد الكلام إلى أصله على أيسر وجه.
وقد استدل الفقهاء بهذه الآية على أن صدقة الكفار لا تنفع أصحابها، لأن العقيدة هي الأصل، وعليها الاعتماد، وهذا أسمى ما يصل إليه البيان.
2- التتميم: وقد تقدم ذكره، وهو أن يأتي المتكلم بكلمة إذا طرحت من الكلام نقص معناه في ذاته أو صفاته، والتتميم هنا في كلمة «فيها صر» فإنها أفادت المبالغة كما أفادت التجسيد والتشخيص، كما تقول: برد بارد وليلة ليلاء ويوم أيوم، ثم قيد الصر بالظرفية، لأن الريح مطلقة ثم قيدها بالظرفية، وكل مقيد ظرف لمطلقه، لأن المطلق بعض المقيد، فحصل التجسيد والتشخيص. وهذه من عيون النكت البلاغية، فاحرص عليها والله يعصمك.
[سورة آل عمران (3) : آية 118]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)(2/34)
اللغة:
(بِطانَةً) بطانة الرجل بكسر الباء ووليجته من يطلعه على أسراره ثقة به وارتكانا على مودته. وهو مشبه ببطانة الثوب، وهي خلاف ظهارته. وفي مختار الصحاح: «وليجة الرجل خاصته وبطانته» ومنه قول الشاعر:
وهم خلصائي كلهم وبطانتي ... وهم عيبتي من دون كل قريب
(يَأْلُونَكُمْ) من ألا في الأمر أي قصر فيه. ويتعدى إلى مفعولين، لأنه يتضمن معنى المنع، يقال: لا آلوك نصحا، أي: لا أمنعك نصحا.
وقيل: هو لازم لا ينصب مفعولا. وسيأتي ذلك مفصلا في باب الإعراب.
(خَبالًا) الخبال بفتح الخاء: الفساد، وأصله ما يلحق الحيوان من مرض وفتور فيورثه فسادا واضطرابا، يقال: خبله بالتخفيف، وخبّله بالتشديد، فهو خابل ومخبّل، وذاك مجنون ومخبّل.
(عَنِتُّمْ) العنت بفتح العين والنون: شدة الضرر والمشقة.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) كلام مستأنف مسوق لتحذير المؤمنين من موالاة اليهود، لما بينهم من أواصر قرابة وصداقة، والمراد إطلاقه، فموالاة المستعمر الأثيم لا تجوز مطلقا.(2/35)
وقد تقدم إعراب النداء ولا ناهية وتتخذوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وبطانة مفعول به ومن دونكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبطانة أي كائنة من غيركم أو من غير أبناء جنسكم، ويجوز تعليقها بتتخذوا فيكون الجار والمجرور في موضع المفعول به الثاني لتتخذوا، وعلى الأول مفعول تتخذوا الثاني محذوف إيجازا، وتقديره أصفياء أو أولياء (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا) الجملة مستأنفة كأنها بمثابة البيان لحال البطانة الكافرة العدوة، وقيل هي صفة ثانية لبطانة، لا نافية ويألونكم فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والكاف مفعول به أول وخبالا مفعول به ثان. وإذا قلنا الفعل لازم فتكون الكاف في محل نصب بنزع الخافض أي: لا يألون لكم، وخبالا منصوب أيضا بنزع الخافض أي: في الخبال، ولك أن تنصبه على التمييز أو على أنه مصدر في موضع الحال (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) الجملة مستأنفة كسابقتها، وقيل:
هي صفة ثالثة لبطانة، وكلاهما صحيح، وودوا فعل وفاعل وما مصدرية مؤولة مع ما في حيزها بمصدر هو المفعول به أي ودوا عنتكم وضرركم وسوء ثقتكم (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) الجملة مستأنفة أيضا أو هي صفة رابعة لبطانة، وقد حرف تحقيق وبدت فعل ماض مبني على الفتح المقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والبغضاء فاعل ومن أفواههم جار ومجرور متعلقان ببدت وعلقهما أبو البقاء بمحذوف منصوب على الحال. ومعنى ظهور البغضاء من أفواههم أنهم ينسبون بما ينم على البغضاء المركوزة في سلائقهم وخلالهم (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) الواو للحال أو للاستئناف، فالجملة حالية أو مستأنفة وما اسم موصول مبتدأ وجملة تخفي صلة وصدورهم فاعل تخفي وأكبر خبر «ما» (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) الجملة مستأنفة تفيد(2/36)
التعليل مسوقة لتقرير أن الآيات المترادفة جديرة بحملكم على موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه، وقد حرف تحقيق وبينا فعل ماض وفاعل ولكم جار ومجرور متعلقان ببينا والآيات مفعول به وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسم كنتم وجملة تعقلون خبر كنتم، والجواب محذوف تقديره فلا توادوهم أبدا.
البلاغة:
1- الاستعارة التصريحية في قوله بطانة إذ هي في الأصل بطانة الثوب المعروفة ثم استعيرت لخصيص الرجل وصفيه الذي يفضي إليه بذات نفسه وخلجات صدره.
2- الانفصال: وهو أن يقول المتكلم ما يوهم أنه معلوم ظاهر، ولكنه ينطوي على أمر وراء ذلك، وهو أبعد غاية وأسمى متناولا، وذلك في قوله «من أفواههم» فإن المعلوم أن المرء يعبر عما يكنه بفمه، والانفصال في ذلك التسجيل عليهم بأنهم لا يتمالكون أن تند عن ألسنتهم ألفاظ تنم على الشعور بالبغضاء والموجدة.
3- الطباق بين بدت وتخفي.
الفوائد:
اختلف علماء النحو والبيان في إعراب الجمل الواقعة بعد بطانة، وقد أجزنا أن تكون مستأنفات على وجه التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة من دون جنسكم وأبناء قومكم. وعليه جرى الزمخشري فقال:(2/37)
«الأحسن والأبلغ أن تكون مستأنفات، ويجوز أن تكون صفات متعاقبة» . وقد منع الواحدي هذا الوجه لعدم وجود حرف العطف، وزعم أنه لا يقال: لا تتخذ صاحبا يؤذيك أحب مفارقتكم. على أنه يظهر لي أن الصفة تتعدد بغير عاطف كما يتعدد الخبر نحو «الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان» .
بين ابن هشام والرازي:
تعقب ابن هشام الإمام فخر الدين الرازي بصدد هذه الآية فقال مانصه: «وحصل للإمام فخر الدين في تفسير هذه الآية سهو، فإنه سأل:
ما الحكمة في تقديم «من دونكم» على «بطانة» ؟ وأجاب بأنّ محط النهي هو «من دونكم» لا «بطانة» فلذلك قدم الأهم وليست التلاوة كما ذكر.
وأبو حيان وهم وتبعه الصفاقسيّ والحلبيّ:
ومضى ابن هشام في تعقيبه قائلا: ونظير هذا أن أبا حيان فسر في سورة الأنبياء كلمة «زبرا» بعد قوله تعالى: «وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ» وإنما هي في سورة المؤمنون، وترك تفسيرها هناك، وتبعه على هذا السهو رجلان لخصا من تفسيره إعرابا.
قلت: أراد ابن هشام بالرجلين اللذين شاركا أبا حيان في سهوه هما الصفاقسي وشهاب الدين الحلبي المعروف بالسمين.(2/38)
هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
[سورة آل عمران (3) : آية 119]
ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119)
اللغة:
(العض) : تحامل الأسنان بعضها على بعض، وعضه بأسنانه:
تناوله، يقال: عضضت بكسر الضاد أعض عضا وعضيضا، والعض كله بالضاد إلا مع الزمان أو نحوه في قولهم: عظ الزمان أي اشتد، وعظت الحرب أي اشتدت، فإنهما يتبادلان. وللعين والضاد إذا كانتا فاء وعينا للكلمة خاصة غريبة خاصة، فهما تفيدان معنى الشدة والإيذاء وما يدخل في معناهما، قال الأخطل:
ضجوا من الحرب إذ عضت غواربهم ... وقيس عيلان من أخلاقها الضجر
والعضب الشتم والقطع، ولا يخفى ما فيهما من شدة ومن إيذاء وسيف عضب أي: قاطع، وشاة عضباء: مكسورة القرن، وعضده شد أزره وساعده، والمؤمن معضود بتوفيق الله، قال تعالى: «سنشد عضدك بأخيك» ، وداء معضل: صعب لا يحل، وبه مرض عضال، وقد أعيا الأطباء وأعضلهم، وأعضل الأمر، وتزوج ذو الإصبع فأتى حيه يسألهم مهرها فمنعوه فقال:(2/39)
واحدة أعضلكم أمرها ... فكيف لو درت على أربع
وفلان عضلة من العضل أي داهية من الدواهي. وهذا من أعجب ما يسمع عن هذه اللغة الشريفة.
(الْأَنامِلَ) : جمع أنملة وهي رأس الإصبع.
الإعراب:
(ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) جملة مستأنفة مسوقة لتنبيه المؤمنين على خطئهم بموالاة اليهود، وها للتنبيه وقرع العصا وأنتم مبتدأ وأولاء خبره، وقد تقدم أن اسم الإشارة لا بد من ذكره لوجود «ها» التي هي للتنبيه وجملة تحبونهم حالية أو مستأنفة كأنها بمثابة البيان لخطئهم وسوء اختيارهم لأصفيائهم وجملة ولا يحبونكم معطوفة على جملة تحبونهم وأعرب الجلال وغيره أولاء منادى أي يا هؤلاء فتكون جملة تحبونهم هي الخبر (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) يصح أن تكون الواو عاطفة فالجملة معطوفة على جملة تحبونهم، ويصح أن تكون الواو حالية فتكون الجملة نصبا على الحال، وبالكتاب جار ومجرور متعلقان بتؤمنون وكله تأكيد للكتاب، وفي هذا منتهى التنديد بهم، لأن مصافاة من لا يحبك أمر يستوجب اللوم والتنديد. هذا وقد منع أبو حيان أن تكون الواو حالية، لأن المضارع المثبت إذا وقع حالا لا تدخل عليه واو الحال، تقول: جاء زيد يضحك، ولا يجوز: ويضحك، وانتهى إلى القول: لكن الأولى ما ذكرناه من كونها للعطف (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) الواو استئنافية وإذا ظرف(2/40)
لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط وجملة لقوكم في محل جر بالإضافة وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة آمنا في محل نصب مقول القول (وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة خلوا في محل جر بالإضافة وخلا فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل وجملة عضوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعليكم جار ومجرور متعلقان بعضوا والأنامل مفعول به ومن الغيظ جار ومجرور في محل نصب تمييز أي غيظا ويجوز أن تكون بمعنى اللام فتفيد العلة فيكون الجار والمجرور في محل نصب مفعول لأجله أي من أجل الغيظ (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) الجملة مستأنفة وجملة موتوا في محل نصب مقول القول وبغيظكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف نصب على الحال أي متلبسين يغيظكم (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) الجملة مستأنفة تفيد التعليل للأمر بالموت، والأسهل أن تكون من جملة المقول فتكون في محل نصب بالقول، وإن واسمها وخبرها، وبذات الصدور: جار ومجرور متعلقان بعليم. ومعنى ذات الصدور: المضمرات وخلجات النفوس، فذات تأنيث ذي، بمعنى صاحبة الصدور، وجعلت صاحبة الصدور لأنها لا تنفك عنها.
البلاغة:
1- في هذه الآية فن الكناية، وعض الأنامل كناية عن صفة. وقد جرت عادة العرب على التعبير عن المغتاظ النادم على ما فعل بعضّ الأنامل والبنان، وقد طفحت أشعارهم بهذا التعبير، قال أبو طالب:(2/41)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
وقد صالحوا قوما علينا أشحة ... يعضون عضا خلفنا بالأباهم
2- وفي الآية خروج الأمر عن معناه الحقيقي الى معنى الدعاء عليهم بديمومة غيظهم.
الفوائد:
ذهب الكوفيون إلى أن أسماء الإشارة إذا أريد بها التقريب كانت من أخوات كان في احتياجها إلى اسم مرفوع وخبر منصوب، نحو:
كيف أخاف الظلم وهذا الخليفة قادما؟ وكيف أخاف البرد وهذه الشمس طالعة، وكذلك كل ما كان فيه الاسم الواقع بعد أسماء الإشارة لا ثاني له في الوجود نحو هذا ابن صياد أسقى الناس، فيعربون هذا للتقريب اسما ناقصا والمرفوع اسم التقريب والمنصوب خبر التقريب. وهو كلام منطقي، ولذلك أوردناه للاطلاع عليه.
[سورة آل عمران (3) : آية 120]
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
الإعراب:
(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) كلام مستأنف سيق لبيان تناهي عداوتهم وافتنانهم في أصناف العداوات، وإن شرطية وتمسسكم فعل الشرط مجزوم والكاف مفعول به مقدم وحسنة فاعل مؤخر وتسؤهم(2/42)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
جواب الشرط المجزوم والهاء مفعول به (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها) جملة معطوفة على الجملة السابقة مماثلة لها في الإعراب (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) الجملة معطوفة أيضا وإن شرطية وتصبروا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وتتقوا عطف على تصبروا ولا نافية ويضركم جواب الشرط، وحرك بالضم لاتباع ضمة الضاد. كما هي القاعدة في الفعل المضعف، وقد تقدمت.
ويجوز تحريكها بالفتح لخفتها كما في قراءة ثانية، وهناك قراءة ثالثة، وهي: يضركم بكسر الضاد وسكون الراء، من ضاره يضيره، أي:
يضرّه، والكاف مفعول به وكيدهم فاعل وشيئا مفعول مطلق أي شيئا من الضرر (إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) جملة مستأنفة تفيد التعليل وإن واسمها، ومحيط خبرها وبما جار ومجرور متعلقان بمحيط وجملة يعملون لا محل لها لأنها صلة الموصول.
البلاغة:
في الآية استعارة مكنية جميلة، فقد استعير المس للحسنة، وهي لا تمس الإنسان للدلالة على أنها أقل تمكنا من الإصابة، إشارة إلى أن الكافرين يستاءون مما يصيب المؤمنين من خير، وإن سنح لهم سنوحا أو مر بهم مرورا عارضا. أما إذا تمكنت السيئة منكم واجتاحتكم فلا تسل عن مدى فرحهم وسرورهم وهذا من بديع الكلام الذي تتقطع دونه الأعناق.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 122]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)(2/43)
اللغة:
(غَدَوْتَ) الغدو: الخروج أول النهار يقال: غدا يغدو أي خرج غدوة ويستعمل غدا بمعنى صار فيكون ناقصا يرفع الاسم وينصب الخبر ومثلها راح وعاد ورجع وآض وارتد وقعد وتحول واستحال وكلها بمعنى صار وملحقة بها في العمل. قال لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
فيحور هنا ناقصة بمعنى صار واسمها ضمير مستتر تقديره هو يعود على المرء ورمادا خبرها وفي الحديث الشريف: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» أي تذهب في الصباح جائعة وترجع في المساء وقد شبعت وامتلأت بطونها أما في الآية فهي محتملة للمعنيين كما سيأتي (تُبَوِّئُ) تنزل.
الإعراب:
(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) الواو استئنافية أو عاطفة على مقدم وعلى كل حال فالجملة مسوقة ليذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه بيوم أحد ليتذكروا ما وقع في هذا اليوم في هذه الحالات الشاذة من عدم الصبر وكيف غدا النبي إلى أحد من(2/44)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
حجرة عائشة كما سيأتي في باب الفوائد والظرف متعلق بمحذوف أي اذكر وجملة غدوت في محل جر بإضافة الظرف إليها والتاء إما فاعل غدوت وإما اسمها في رأي من أعملها عمل صار والجار والمجرور متعلقان بغدوت على الأول وبمحذوف حال على الثاني وجملة تبوىء حالية على الأول من فاعل غدوت أو خبر غدوت والمؤمنين مفعول به لتبوىء ومقاعد مفعول به ثان لتبوىء وللقتال جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمقاعد أي مقاعد مهيأة للقتال (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وسميع عليم خبراه (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) إذ ظرف لما مضى من الزمن بدل من إذ الأولى أي اذكر ذلك الوقت وهو يوم أحد وجملة همت في محل جر بالإضافة وطائفتان فاعل همت ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لقوله طائفتان وأن حرف مصدري ونصب وتفشلا فعل مضارع منصوب بأن وعلامة نصبه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة وألف الاثنين فاعل وأن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بهمت لأنه يتعدى بالباء والتقدير بأن تفشلا ولك في محلها وجهان النصب على نزع الخافض والجر، (وَاللَّهُ وَلِيُّهُما) لك في الواو أن تجعلها حالية فتكون الجملة في محل نصب على الحال ولك أن تجعلها مستأنفة والله مبتدأ ووليهما خبر (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) الواو عاطفة وعلى الله جار ومجرور متعلقان بيتوكل والفاء هي الفصيحة لأنها دخلت لمعنى الشرط والمعنى إذا حزب الأمر وصعب فتوكلوا والمؤمنون فاعل.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 123 الى 125]
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)(2/45)
اللغة:
(بدر) اسم ماء بين مكة والمدينة، وقد كان هذا الماء لرجل اسمه بدر، فسمي به. وعنده جرت الوقعة الموسومة بهذا الاسم، في السابع عشر من شهر رمضان، في السنة الثانية للهجرة.
(فَوْرِهِمْ) : الفور: العجلة والسرعة، وهو مصدر من فارت القدر إذا غلت فاستعير للسرعة، ثم سميت به الحالة التي لا ريث فيها ولا إبطاء ولا تعريج على شيء.
(مُسَوِّمِينَ) معلمين بعلامة واضحة. وقد قرئت بصيغة اسم الفاعل وبصيغة اسم المفعول.
الإعراب:
(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ) الواو استئنافية واللام واقعة في جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق ونصركم الله فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وببدر جار ومجرور متعلقان بنصركم. والجملة مستأنفة(2/46)
مسوقة لتسلية المؤمنين عما لحق بهم من ضرر في غزوة أحد، وتذكيرهم بنعمة الله، وللإشارة بأن هزيمتهم في أحد كانت بسبب مخالفة النبي في الصمود والثبات وأن الحلاوة قد تعتريها مرارة وأن الجنات حفت بالمكاره (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) الواو للحال وأنتم مبتدأ وأذلة خبر والجملة في محل نصب على الحال (فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الفاء الفصيحة واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والله مفعول به ولعل واسمها، وجملة تشكرون خبرها وجملة الرجاء في محل نصب حال (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بنصركم أو بدل من «إذ» الأولى، لأن الكلام هنا في صدد غزوة أحد. وجملة تقول في محل جر بالإضافة وللمؤمنين جار ومجرور متعلقان بتقول (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ) الجملة الاستفهامية في محل نصب مقول قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والهمزة للاستفهام الإنكاري كأنهم كانوا كالآيسين من النصر، ولن حرف ناصب ويكفيكم فعل مضارع منصوب بلن والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به وأن حرف مصدرية ونصب ويمدكم فعل مضارع منصوب بها وأن وما في حيزها في تأويل مصدر فاعل يكفيكم وربكم فاعل يمدكم (بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) بثلاثة الجار والمجرور متعلقان بيمدكم، وآلاف مضاف إليه، ومن الملائكة جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لثلاثة آلاف ومنزلين صفة ثانية (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) بلى حرف جواب لإيجاب النفي في قوله: ألن يكفيكم، والمعنى يكفيكم الإمداد بالملائكة. ولكن ذلك مرهون بشروط لا بد من تأديتها وهي الصبر والتقوى. وإن شرطية وتصبروا فعل الشرط مجزوم بحذف النون والواو فاعل وتتقوا عطف على تصبروا ويأتوكم عطف أيضا ومن فورهم جار ومجرور متعلقان بيأتوكم وهذا اسم إشارة في محل(2/47)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
جر صفة لفوركم أو بدل منه والجملة كلها مستأنفة مسوقة لتعيين شروط الإمداد (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) يمددكم جواب الشرط والكاف مفعول به وربكم فاعل ومن الملائكة جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لخمسة آلاف ومسومين صفة ثانية.
البلاغة:
الكناية في قوله تعالى: «وأنتم أذلة» عن ضعف حالتهم وضآلة عددهم وعددهم: ذكر التاريخ أنهم خرجوا يعتقب النّفر منهم على البعير الواحد، وما كان معهم إلا فرس واحد يوم بدر.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 126 الى 127]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127)
اللغة:
(طَرَفاً) : أراد به الجانب أو الطائفة منهم.
(يَكْبِتَهُمْ) : يخزيهم ويغيظهم من الكبت وهو الإصابة بالمكروه، وقيل: هو الصرع للوجه واليدين. وعلى هذين المعنيين تكون التاء أصلية، وليست بدلا من شيء بل هي مادة مستقلة بذاتها. وقيل التاء بدل من الدال، وأصله كبده إذا أصابه بمكروه أثر في كبده وجعا، كقولك رأسته إذا ضربت رأسه. ويدل على ذلك قراءة بعضهم: أو(2/48)
يكبدهم، بالدال. والعرب قد تبدل التاء من الدال، ولعل أبا الطيب المتنبي قد رمق هذا الإبدال فلاءم بين لفظين ملاءمة غريبة عند ما قال:
لأكبت حاسدا وأري عدوا ... كأنهما وداعك والرحيل
فقد لاحظ أبو الطيب إبدال التاء من الدال فتوهمها لأكبد، وناسب أن يأتي بأري من الوري، وهو إصابة الرئة يقال: وراه الحب ريا وتورية، وهو فساد الجوف من حزن أو صبابة، قال عبد بني الحسحاس:
وراهن ربي مثلما قد ورنيني ... وأحمي على أكبادهن المكاويا
ومنه الحديث الشريف «لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا حتى يريه» . وهذا من أوابد أبي الطيب التي لا تلحق.
الإعراب:
(وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) كلام مستأنف مسوق لشرح كيفية النصر والواو استئنافية وما نافية وجعله الله فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وإلا أداة حصر وبشرى مفعول به ثان إذا كان الجعل هنا بمعنى التصيير، ولك أن تعتبر الجعل هنا بمعنى الخلق فتكون متعدية لواحد، وبشرى منصوب على أنه استثناء من أعم العلل فهو مفعول لأجله وقد استوفى شروط النصب ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبشرى (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) الواو عاطفة واللام للتعليل وتطمئن فعل مضارع منصوب بأن المضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور في محل نصب عطف على(2/49)
بشرى وجر باللام لاختلال شرط من شروط النصب وهو عدم اتحاد الفاعل فإن فاعل الجعل هو الله تعالى وفاعل الاطمئنان القلوب، ولك أن تعلق الجار والمجرور بفعل محذوف تقديره: فعل هذا لتطمئن قلوبكم، وقلوبكم فاعل تطمئن وبه جار ومجرور متعلقان بتطمئن (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) الواو استئنافية وما نافية والنصر مبتدأ وإلا أداة حصر ومن عند الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر والعزيز الحكيم صفتان لله تعالى (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) اللام للتعليل ويقطع فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بنصركم في قوله «ولقد نصركم الله ببدر» ، وقيل بمحذوف تقديره أمدكم ونصركم، ورجح أبو حيان أن يكونا متعلقين بأقرب مذكور وهو العامل في قوله: «من عند الله» كأن التقدير: وما النصر إلا كائن من عند الله لا من عند غيره، لأحد أمرين: إما قطع جانب من الكفار بقتل وأسر، وإما بخزي وانقلاب بخيبة. وطرفا مفعول به ومن الذين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة وجملة كفروا لا محل لها لأنها صلة الموصول (أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) أو حرف عطف ويكبتهم فعل مضارع معطوف على يقطع والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به والفاء حرف عطف وبنقلبوا عطف على يكبتهم وخائبين حال وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مذكر سالم.
البلاغة:
الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: «ليقطع طرفا» فقد شبه من قتل منهم وتفرق بالشيء المقتطع الذي تفرقت أجزاؤه واختل نظامه.(2/50)
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 128 الى 129]
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
الإعراب:
(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) كلام مستأنف مسوق لتهوين الأمر على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ما أصيب به في غزوة أحد وليس فعل ماض ناقص ولك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ليس المقدم ومن الأمر جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وشيء اسم ليس المؤخر (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أو حرف عطف ويتوب فعل مضارع معطوف على اسم خالص من التقدير بالفعل فهو منصوب بأن مضمرة بعد العاطف وهو أو، وسيأتي في باب الفوائد، وعليهم جار ومجرور متعلقان بيتوب (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) عطف على يتوب (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) الفاء للتعليل وإن واسمها وخبرها والجملة التعليلية لا محل لها لأنها بمثابة الاستئنافية (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الواو استئنافية ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وما اسم موصول في محل رفع مبتدأ مؤخر وفي السموات جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة وما في الأرض عطف على ما في السموات (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) الجملة الفعلية في محل نصب حال لوقوعها بعد المعرفة ولمن جار ومجرور متعلقان بيغفر ويشاء فعل مضارع مرفوع وفاعله هو والجملة صلة الموصول وجملة يعذب من يشاء عطف عليها ومن اسم موصول في محل(2/51)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
نصب مفعول به (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وغفور خبره الأول ورحيم خبره الثاني.
الفوائد:
ينصب الفعل المضارع بأن مضمرة جوازا بعد عاطف مسبوق باسم خالص من التقدير بالفعل، وأحرف العطف المختصة بذلك أربعة وهي:
الواو والفاء وأو وثم. ومن ذلك قول ميسون بنت بحدل:
ولبس عباءة وتقر عيني ... أحب إلي من لبس الشفوف
هذا ويجوز أن تكون «أو» بمعنى «إلى» فيكون الفعل منصوبا بأن مضمرة وجوبا بعد أو.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 132]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) كلام مستأنف مسوق للنهي عن الربا والإمعان في تخويف المؤمنين، قال أبو حنيفة رحمه(2/52)
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
الله: هذه الآيات أخوف آيات القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين. ولا ناهية وتأكلوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل والربا مفعول به وأضعافا حال ومضاعفة صفة وجاءت الصفة لتنفي القلة التي يعبر عنها جمع القلة وهو وزن: أفعال، وقيل:
الصفة إشارة إلى تكرير التضعيف عاما بعد عام. والمبالغة في هذه العبارة تفيد التوبيخ (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الواو عاطفة واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والله مفعوله ولعل واسمها، وجملة تفلحون خبرها وجملة الرجاء حالية (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) واتقوا عطف على ما تقدم والنار مفعول به والتي اسم موصول في محل نصب صفة وجملة أعدت صلة الموصول وللكافرين جار ومجرور متعلقان بأعدت (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الواو عاطفة وأطيعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والله مفعول به والرسول عطف على الله ولعل واسمها، وترحمون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل والجملة خبر لعل، وجملة الرجاء حالية.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 133 الى 134]
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)(2/53)
اللغة:
(الْكاظِمِينَ) اسم فاعل من كظم الغيظ وهو أن ينطوي على نفسه ويمسك على ما فيها معتصما بالصبر، وأصله من كظم القربة إذا ملأها وسد فاها لئلا يندلق ما فيها.
الإعراب:
(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) الواو عاطفة وسارعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وإلى مغفرة جار ومجرور متعلقان بسارعوا ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمغفرة (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) وجنة عطف على مغفرة وعرضها مبتدأ والسموات خبر والأرض عطف على السموات والجملة الاسمية صفة لجنة (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) الجملة الفعلية صفة لجنة أيضا وأعدت فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل هي وللمتقين: جار ومجرور متعلقان بأعدت (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) اسم الموصول نعت للمتقين وجملة ينفقون صلة الموصول وفي السراء جار ومجرور متعلقان بينفقون والضراء عطف على السراء (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) عطف على المتقين والغيظ مفعول لاسم الفاعل الكاظمين، والعافين عطف أيضا وعن الناس جار ومجرور متعلقان بالعافين (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الواو استئنافية والله مبتدأ ويحب فعل مضارع والمحسنين مفعول به والجملة خبر.
البلاغة:
اشتملت هذه الآية على فن جليل القدر وهو التنكيت في التشبيه،(2/54)
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
وحده أن يقصد المتكلم إلى شيء بالذكر دون غيره مما يسد مسده لأجل نكتة، وإذا وقع في التشبيه فقد بلغ الغاية، وهو هنا في قوله تعالى: «عرضها السموات والأرض» ، فقد أراد وصفها بالسعة فخص عرضها بالذكر دون الطول، وإنما عدل عن ذكر الطول لأن المستقر في البداءة والأذهان أن الطول أدل على السعة فإذا كان عرضها مما يسع السموات والأرض فما بالك بطولها!
[سورة آل عمران (3) : الآيات 135 الى 136]
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136)
الإعراب:
(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) الواو عاطفة أو استئنافية والذين عطف على المتقين أي أعدت للمتقين والمنفقين وللتائبين. ويجوز أن يكون «الذين» مبتدأ خبره «أولئك» كما سيأتي، وإذا ظرف مستقبل وجملة فعلوا في محل جر بالإضافة وفاحشة مفعول به (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ) أو حرف عطف وظلموا عطف على فعلوا وأنفسهم مفعول به وجملة ذكروا الله لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) الفاء عاطفة واستغفروا عطف على ذكروا أي تابوا عنها،(2/55)
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
ولذنوبهم جار ومجرور متعلقان باستغفروا (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) الواو استئنافية ومن استفهامية ومعنى الاستفهام هنا النفي وهي في محل رفع مبتدأ وجملة يغفر خبر والذنوب مفعول به وإلا أداة حصر والله بدل من الضمير في يغفر أي من الفاعل المستتر (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) عطف على استغفروا، ولم حرف جازم، ويصروا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون، على ما فعلوا جار ومجرور متعلقان بيصروا، وجملة فعلوا صلة، وهم: الواو حالية وهم مبتدأ وجملة يعلمون خبر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من ضمير يصروا. (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أولئك اسم إشارة في محل رفع مبتدأ وجزاؤهم مبتدأ ثان ومغفرة خبر جزاؤهم والمبتدأ الثاني وخبره خبر اسم الإشارة. وإذا أعربنا الذين مبتدأ كانت الجملة خبرا للموصول. ومن ربهم صفة لمغفرة (وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) وجنات عطف على مغفرة وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لجنات وخالدين حال وفيها جار ومجرور متعلقان بخالدين (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) الواو استئنافية ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح وأجر العاملين فاعل نعم مضاف لمقترن بأل والمخصوص بالمدح محذوف تقديره نعم أجر العاملين ذلك، يعني المغفرة في الجنات.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 138]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
اللغة:
(سُنَنٌ) طرائق جمع سنة، وهي الطريقة والعادة. ومعنى خلوها(2/56)
مضيها وأصل الخلو في اللغة الانفراد، والمكان الخالي هو المنفرد عمن فيه، ويستعمل أيضا في الزمان بمعنى المضي، لأن ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه، وكذلك الأمم الخالية أي الماضية.
الإعراب:
(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) كلام مستأنف مسوق لتسلية المؤمنين عما أصابهم من الحزن والكآبة، وتتمة لتفصيل بقية قصة أحد، فإنه لا ينال أحد الخير حتى يمهره بالتضحية والصبر والجهاد. وقد حرف تحقيق وخلت فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين ومن قبلكم جار ومجرور متعلقان بخلت وسنن فاعل (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) الفاء الفصيحة وهي التي تقع جوابا لشرط مقدر لأن المعنى مترتب عليه، أي إذا شككتم فسيروا في الأرض لتعتبروا بما ترون من آثار هلاكهم، وسيروا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بسيروا والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط مقدر غير جازم (فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) الفاء حرف عطف وانظروا معطوف على سيروا وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وكان عاقبة كان واسمها، والمكذبين مضاف إليه والجملة الاستفهامية في محل نصب مفعول انظروا (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) كلام مستأنف والبيان هنا الدلالة التي تفيد إماطة الشبهة الحاصلة، وهذا مبتدأ وبيان خبره وللناس جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبيان وهدى معطوف على بيان وكذلك موعظة وهو من عطف الخاص على العام، وللمتقين جار ومجرور متعلقان بموعظة أو بمحذوف صفة لها.(2/57)
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
البلاغة:
المجاز في قوله: «فسيروا في الأرض» والعلاقة في هذا المجاز ما يؤول اليه أمر السير في الأرض، وتملّي الآثار المعروضة، واستجلاء ما تركه الأولون من مخلفات ينبغي الاستبصار بها. وقد رمق أبو الطيب سماء هذا المجاز الرفيع بقوله:
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع
ثم تساءل:
أين الذي الهرمان من بنيانه؟ ... ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع
[سورة آل عمران (3) : الآيات 139 الى 141]
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141)
اللغة:
(تَهِنُوا) تضعفوا، وأصله توهنوا، فحذفت الواو لوقوعها بين(2/58)
ياء وكسرة في الأصل. لأن الفعل وهن بالفتح في الماضي وبالكسر في المضارع.
(القرح) : بفتح القاف وتضم أيضا، وقيل: هو بالفتح الجراح وبالضم ألمها، وقد قرىء بهما.
(نُداوِلُها) نصرفها بين الناس نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، ودالت له الدول، ودالت الأيام، وأدال الله بني فلان من عدوهم جعل الكرة لهم عليه.
قال أبو البقاء الرندي يرثي الأندلس:
هي الأمور كما شاهدتها دول ... من سره زمن ساءته أزمان
(التمحيص) التصفية والتطهير. (يَمْحَقَ) يهلك.
الإعراب:
(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) الواو عاطفة والكلام معطوف على المفهوم من قوله: فسيروا، ولا ناهية وتهنوا فعل مضارع مجزوم بلا ولا تحزنوا عطف أيضا وأنتم الواو حالية وأنتم ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ والأعلون خبره مرفوع بالواو لأنه جمع مذكر سالم والجملة نصب على الحال (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن شرطية وكان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها ومؤمنين خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فلا تهنوا وجملة الشرط استئنافية (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) كلام مستأنف مسوق لتسلية المؤمنين أيضا، وإن شرطية ويمسسكم فعل الشرط والكاف مفعول به وقرح فاعل يمسسكم وجواب الشرط محذوف أي(2/59)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
فتأسوا وتسلوا. ومن أعرب فقد مس القوم هو الجواب غلط لأن الماضي معنى لا يكون جوابا، والتعليق لا يكون إلا في المستقبل.
فقد الفاء عاطفة وقد حرف تحقيق ومس القوم عطف على الجواب المحذوف ومس فعل ماض والقوم مفعول به مقدم وقرح فاعل مؤخر ومثله نعت. لقرح (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) الواو استئنافية واسم الإشارة مبتدأ والأيام بدل منه وجملة نداولها خبر والهاء مفعول به وبين الناس ظرف مكان متعلق بنداولها. ويجوز إعراب الأيام خبرا لاسم الإشارة وجملة نداولها حالية والعامل فيها معنى اسم الإشارة أي يشير إليها حالة كونها مداولة (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) الواو عاطفة على المعلل المحذوف، والتقدير فعلنا ذلك ليتعظوا، وليعلم اللام للتعليل ويعلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة والله فاعل والذين اسم موصول مفعول به وآمنوا فعل ماض مبني على الضم والجملة صلة (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) الواو عاطفة ويتخذ فعل مضارع معطوف على يعلم ومنكم جار ومجرور متعلقان بيتخذ أو بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لشهداء وشهداء مفعول به (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الواو اعتراضية والجملة معترضة بين هذه العلل المتعاقبة والله مبتدأ وجملة لا يحب الظالمين خبر (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) الجملة معطوفة على العلل المتقدمة والله فاعل والذين اسم موصول مفعول به وجملة آمنوا صلة (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) عطف على ما سبق من العلل.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 143]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)(2/60)
الإعراب:
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) أم عاطفة منقطعة بمعنى بل، وقد تقدم بحثها، والكلام معطوف على ما تقدم على طريق الإضراب عن التسلية الى طريق التوبيخ، والهمزة التي في ضمنها للإنكار، وحسب فعل ماض بمعنى ظن والتاء فاعل وأن وما بعدها سدت مسد مفعوليها، والمعنى: لا تحسبوا أو لا يدر بخلد أحد منكم أنكم تدخلون الجنة من دون جهاد وصبر، والجنة مفعول به على السعة أو منصوب بنزع الخافض (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) الواو حالية ولما جازمة ويعلم فعل مضارع مجزوم والله فاعل والذين اسم موصول مفعول به وجملة جاهدوا صلة لا محل لها ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال والجملة نصب على الحال (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) قرأ السبعة بفتح الميم، فالواو للمعية ويعلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد واو المعية والفاعل هو والصابرين مفعول به وقد تقدم النفي عليها ونفي العلم بالنسبة الى الله كناية عن نفي المعلوم وهما الجهاد والصبر.
ومن العجيب أن يتنطع بعض المعربين القدامى فيقول: إن الفتحة فتحة التقاء الساكنين والفعل مجزوم عطفا على «يعلم» الأولى، فلما وقع بعده ساكن آخر احتيج إلى تحريك آخره فكانت الفتحة أولى لأنها أخف، إذ لا يجوز حمل القرآن على الوجوه المرجوحة (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) الواو استئنافية واللام جواب لقسم محذوف وقد حرف تحقيق وكنتم كان الناقصة واسمها، وجملة تمنون خبرها وأصل تمنون تتمنون فحذفت إحدى التاءين والموت مفعول به من قبل جار ومجرور متعلقان بتمنون وأن تلقوه أن حرف مصدري ونصب وتلقوه فعل مضارع منصوب بأن وعلامة نصبه حذف النون(2/61)
والواو فاعل والهاء مفعول به والمصدر المؤول مضاف إليه (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) الفاء عاطفة وقد حرف تحقيق وأيتموه فعل وفاعل ومفعول به والواو لإشباع الضمة وأنتم الواو حالية وأنتم مبتدأ وجملة تنظرون خبر ولا بد من تقدير مضاف أي: سبب الموت.
الفوائد:
كان المسلمون في الصدر الأول يتمنون الموت لا ليخلو الجو لعدوهم ولكن لنيل كرامة الاستشهاد مع ضمان التفوق والغلبة، وهذا تنبيه لا بد منه لئلا يتساءل متنطع: كيف يجوز تمني الشهادة في تمنيها غلبة للكافر على المسلم، فقد كان ديدن الصحابة رضوان الله عليهم الاستشهاد في سبيل الله ولا ننسى بكاء خالد بن الوليد عند ما حضره الموت، لأنه مات على فراشه؟ وقال عبد الله بن رواحة حين نهد إلى حرب مؤتة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... أرشدك الله من غاز وقد رشدا
ومعنى قوله: ذات فرغ أي: ذات سعة، والفرغ الدلو، أي:
تحدث في جسمي ما يشبه الدلو الممتلئة بالماء. والحران: العطشان الظامئ إلى دمي.(2/62)
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
[سورة آل عمران (3) : آية 144]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
اللغة:
(الأعقاب) جمع عقب وهو مؤخر القدم، والانقلاب على الأعقاب:
الإدبار والفرار.
الإعراب:
(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان أن موت محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو قتله لا يوجب ضعفا أو تراخيا في دينه. وما نافية ومحمد مبتدأ وإلا أداة حصر ورسول خبر (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) الجملة صفة لرسول وقد حرف تحقيق وخلت فعل ماض مبني على الفتحة المقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين ومن قبله جار ومجرور متعلقان بخلت والرسل فاعل (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء للعطف وقد أتت متأخرة ورتبتها التقديم لأن الهمزة لها الصدارة، وقد ذكرنا سابقا أن الزمخشري ومن نحا نحوه يقدرون بينهما فعلا محذوفا تعطف عليه الفاء ما بعدها، والتقدير: أتؤمنون به في غضون حياته فإن مات ارتددتم، وكلاهما صحيح. وفائدة العطف تعلق الجملة الشرطية بما قبلها على معنى التسبب، وإن شرطية ومات فعل ماض في محل جزم فعل الشرط أو قتل عطف على مات وانقلبتم فعل ماض في محل جزم جواب الشرط وعلى أعقابكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف(2/63)
حال، وسيأتي المزيد من البحث في باب البلاغة عن هذا القصر (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً) الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ وينقلب فعل الشرط وعلى عقبيه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال والفاء رابطة لجواب الشرط ويضر فعل مضارع منصوب بلن والله مفعول به وشيئا مفعول مطلق وجملة فلن يضر في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر «من» (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) الواو استئنافية ويجزي فعل مضارع مرفوع والله فاعل والشاكرين مفعول به.
البلاغة:
في قوله: «وما محمد إلا رسول» فن القصر وهو في اللغة الحبس، وفي الاصطلاح تخصيص أحد الأمرين على الآخر ونفيه عما عداه وهو يقع للموصوف على الصفة وبالعكس، والآية من النوع الأول أي أن محمدا صلى الله عليه وسلم مقصور على الرسالة لا يتعداها الى البعد عن الهلاك بناء على استعظام الصحابة أن لا يبقى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم فكأنهم أثبتوا له وصفين: الرسالة وعدم الهلاك، فخصص بقصره على الرسالة، فهو من إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر، وهو قصر إفراد، ردا على من يدعي أمرين أو أحدهما بلا ترجيح، وهو على كل حال من باب القصر القلبي، لأنهم لما انقلبوا على أعقابهم فكأنهم اعتقدوا أنه رسول لا كسائر الرسل في أنه يموت كما ماتوا وأنه يجب عليهم التمسك بدينه بعده كما يجب التمسك بأديانهم بعدهم.(2/64)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
[سورة آل عمران (3) : آية 145]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
اللغة:
(مُؤَجَّلًا) مؤقتا لا يتقدم ولا يتأخر، من أجل الشيء أو أجله بالتشديد والتخفيف، أي ضرب له أجلا لا محيد عنه.
الإعراب:
(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لتحقيق ما تقدم وهو أن كل نفس لن تموت إلا بمشيئة الله وأن أحدا لا يموت قبل بلوغ أجله وإن طوح بنفسه وخاض المعارك. والواو استئنافية وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولنفس جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كان المقدم وأن تموت المصدر المنسبك من أن وما في حيزها اسمها المؤخر وإلا أداة حصر وبإذن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال والتقدير: وما كان لها أن تموت إلا مأذونا لها (كِتاباً مُؤَجَّلًا) كتابا مصدر منصوب على المفعولية المطلقة المفيدة لتأكيد مضمون الجملة التي قبله لأن المعنى كتب الموت كتابا ومؤجلا صفة واختار ابن عطية أن يكون منصوبا على التمييز، وقيل: هو منصوب على الإغراء ولا داعي لهذا التكلف(2/65)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
البعيد (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للحديث عن الذين تركوا مراكزهم وطلبوا الغنائم ومن شرطية في محل رفع مبتدأ ويرد فعل الشرط وثواب الدنيا مفعول به ونؤته جواب الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة والهاء مفعول به وجملة فعل الشرط وجوابه خبر من وقد تقدم تقرير ذلك وفيها جار ومجرور متعلقان بنؤته (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) تقدم إعراب هذه الآية (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) الواو استئنافية وسنجزي فعل مضارع مرفوع وفاعله نحن والشاكرين مفعول به والجملة استئنافية لا محل لها.
[سورة آل عمران (3) : آية 146]
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
اللغة:
(رِبِّيُّونَ) ربانيون نسبة الى الرب، وقد تقدم بحثها ووردت في اللغة بتثليث الراء والفتح هو القياس والضم والكسر من تغييرات النسب.
(اسْتَكانُوا) : ضعفوا وذلوا والاستكانة الانكسار والوهن وأصل هذا الفعل استكن من السكون لأن السكون الذل وأصله: (استكون) فنقلت الفتحة الى الكاف ثم قلبت الواو ألفا.
الإعراب:
(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) كأين خبرية بمعنى كم(2/66)
الخبرية وهي في محل رفع مبتدأ ومن نبي تمييز كأين وتنوينه للتكثير أي كثير من الأنبياء وجملة قاتل خبر كأين ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم وربيون مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية نصب على الحال (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الفاء عاطفة وما نافية ووهنوا فعل ماض مبني على الضم والواو فاعل ولما اللام حرف جر وما اسم موصول في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بوهنوا وجمله أصابهم صلة وفي سبيل الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ولك أن تجعل ما مصدرية والمصدر المنسبك من ما وما في حيزها مجرور باللام (وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا) عطف على «ما وهنوا» . (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة يحب الصابرين خبر.
الفوائد:
(كَأَيِّنْ) بمعنى كم في الاستفهام والخبر. وهي مركبة من كاف التشبيه ومن أي الاستفهامية وقد حدث فيها بعد التركيب معنى التكثير المفهوم من كم الخبرية، ولا تتعلقان بشيء لأنهما صارتا بمنزلة كلمة واحدة ولذلك رأى أبو حيان أن تكون «كأين» كلمة بسيطة غير مركبة، ولم أجد من يؤيده وإن كان رأيه جميلا سهلا وهي توافق كم الخبرية في خمسة أمور: 1- الإبهام 2- الافتقار إلى التمييز 3- البناء 4- لزوم التصدير 5- إفادة التكثير أو التكثير تارة والاستفهام تارة أخرى. قال أبي لابن مسعود كأين تقرأ سورة الأحزاب آية؟ قال:
ثلاثا وسبعين. وتخالف كم في خمسة أمور 1- أنها مركبة وكم بسيطة 2- أن مميزها مجرور بمن غالبا حتى زعم بعضهم لزومه وهو مردود بما رواه سيبويه ويونس أنهما سمعا من يقول كأي رجلا 3- أنها لا(2/67)
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
تقع استفهامية عند الجمهور 4- أنها لا تقع مجرورة فلا تقول بكأين تبيع هذا؟ وأجازه بعضهم 5- أن خبرها لا يقع مفردا، قال زهير:
وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم
وقال الخليل وسيبويه: هي «أي» دخلت عليها كاف التشبيه وثبتت معها فصارت بعد التركيب بمعنى كم وصورت في المصحف نونا لأنها كلمة نقلت عن أصلها فغير لفظها لتغير معناها، فتصرفت فيها العرب بالقلب والحذف فصار فيها أربع لغات قرىء بها: احداها «كائن» كقول زهير، والثانية كأي مثل كعيّن وهو الأصل، والثالثة كأين مثل كعين، والرابعة كيئن بياء ساكنة بعدها همزة مكسورة.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 147 الى 148]
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
الإعراب:
(وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) الواو عاطفة والكلام معطوف على ما تقدم لبيان محاسنهم القولية بعد أن أثبتوا محاسنهم الفعلية، وما نافية وكان فعل ماض ناقص وقولهم خبرها المقدم واسمها أن المصدرية وما في حيزها، وقرأ ابن كثير وعاصم برفع «قولهم» على أنه اسم كان(2/68)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
والخبر أن وما في حيزها، وإلا أداة حصر والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) ربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وجملة اغفر في محل نصب مقول القول ولنا جار ومجرور متعلقان باغفر وذنوبنا مفعول به وإسرافنا عطف عليه، في أمرنا جار ومجرور متعلقان باسرافنا وإنما نسبوا الإسراف الى أنفسهم هضما لها وقدموا طلب الغفران باعتباره أهم لديهم من كل شيء (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) الواو حرف عطف وثبت فعل دعاء وأقدامنا مفعول به وانصرنا عطف أيضا وعلى القوم جار ومجرور متعلقان بانصرنا والكافرين صفة (فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا) الفاء عاطفة أو استئنافية وآتاهم الله فعل ومفعول به وفاعل وثواب الدنيا مفعول به ثان (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) الواو حرف عطف وحسن عطف على ثواب، وإنما خص ثواب الآخرة بالحسن تنويها بفضله وأنه أولى ما يعتد به المرء وينشده (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة يحب المحسنين خبر.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 151]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)(2/69)
اللغة:
(الرعب) بضم الراء وسكون العين وضمها وقد قرىء بهما:
الخوف، يقال: رعبته فهو مرعوب، وأصله الامتلاء، يقال: رعبت الحوض أي ملأته، وسيل راعب أي: ملأ الوادي، ويتعدى بنفسه وبالهمزة.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها (إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) إن شرطية وتطيعوا فعل الشرط والواو فاعل والذين اسم موصول مفعول به وجملة كفروا صلة والجملة كلها مستأنفة مسوقة لتحذير المؤمنين من الاغترار بأقوال المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا الى دينكم وإخوانكم، ولو كان محمد نبيا لما قتل. وقيل: إن تستكينوا لأبي سفيان وجماعته يردوكم الى دينهم (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) يردوكم جواب الشرط مجزوم والواو فاعل والكاف مفعول به وعلى أعقابكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) الفاء عاطفة وتنقلبوا فعل مضارع معطوف على يردوكم وخاسرين حال (بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ) بل حرف إضراب وعطف والله مبتدأ ومولاكم خبر.
والكلام معطوف على ما هو من مضمون الشرط، كأنه قيل: فليسوا أنصارا لكم حتى تطيعوهم بل الله، وقرىء الله بالنصب على أنه مفعول به لفعل محذوف تقديره: بل أطيعوا الله، ومولاكم بدل منه (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) الواو عاطفة وهو مبتدأ وخير الناصرين خبره (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) كلام مستأنف مسوق على طريق الالتفات(2/70)
للتنبيه على هول ما سيلقيه تعالى في قلوبهم، والسين حرف استقبال ونلقي فعل مضارع مرفوع وفاعله نحن وفي قلوب جار ومجرور متعلقان بنلقي والذين اسم موصول في محل جر بالاضافة وجملة كفروا صلة لا محل لها والرعب مفعول به لنلقي (بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) بما الباء حرف جر وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بنلقي أي: بسبب اشراكهم أو ما اسم موصول والجملة صلة، وبالله جار ومجرور متعلقان بأشركوا وما اسم موصول مفعول أشركوا وجملة لم ينزل به سلطانا صلة الموصول وبه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة ل «سلطانا» وسلطانا مفعول ينزل (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان أحوالهم في الآخرة بعد بيان أحوالهم في الدنيا من الخذلان المبين، ومأواهم مبتدأ والنار خبره ويجوز العكس ولعله أولى (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) الواو استئنافية وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم ومثوى فاعل مضاف لمقترن ب «ال» والظالمين مضاف اليه والمخصوص بالذم محذوف تقديره: النار.
البلاغة:
1- الالتفات في قوله تعالى: «سنلقى» فقد التفت من الغيبة الى التكلم للاهتمام بما يلقيه تعالى في قلوبهم.
2- الاستعارة في قوله تعالى: «سنلقى» لأن الإلقاء لا يكون إلا في الإجرام فاستعير هنا للرعب تجسيدا وتشخيصا بتنزيل المعنوي منزلة المادي.(2/71)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 152 الى 153]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153)
اللغة:
(تَحُسُّونَهُمْ) تقتلونهم قتلا ذريعا وتستأصلونهم، من حسّه يحسّه، من باب نصر، إذا أبطل حسّه. قال جرير:
تحسهم السيوف كما تسامى ... عريق النار في الأجم الحصيد
(تُصْعِدُونَ) بضم التاء من أصعد أي ذهب بعيدا في الجبل وفي الأرض، ويقال: صعد في الجبل وأصعد في الأرض.
(تَلْوُونَ) تصرفون وجوهكم ولا تعرجون على أحد.(2/72)
الإعراب:
(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لتفصيل موقعة أحد كما ذكرتها المطولات واللام جواب القسم محذوف وقد حرف تحقيق وصدقكم الله فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ووعده منصوب بنزع الخافض لأن صدق يتعدى لاثنين أحدهما بنفسه والآخر بحرف الجر أي بوعده (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بصدقكم وجملة تحسونهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وبإذنه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حان من فاعل تحسونهم أي مأذونا لكم (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) يجوز في حتى هنا أن تكون حرف غاية وجر بمعنى الى، وتكون مع مدخولها متعلقة بتحسونهم أي: تقتلونهم الى هذا الوقت، وعلقها الزمخشري بصدقكم، أي: صدقكم الله وعده الى وقت فشلكم.
وكلاهما صحيح ويجوز أن تكون ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية إذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق بجوابه وجملة فشلتم في محل جر بالإضافة وجواب إذا محذوف على الصحيح والتقدير منعكم نصره أو انهزمتم أو بانت لكم الحقيقة جلية واضحة وتنازعتم الواو عاطفة وجملة تنازعتم عطف على جملة فشلتم وفي الأمر جار ومجرور متعلقان بتنازعتم (وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) عطف على ما تقدم ومن بعد جار ومجرور متعلقان بعصيتم وما مصدرية مؤولة مع الفعل بعدها بمصدر مضاف ل «بعد» وأراكم فعل ماض والفاعل هو والكاف مفعول به أول وما اسم موصول مفعول به ثان وجملة تحبون صلة لا محل لها (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) الجملة مفسرة لا محل لها والمعنى: حتى إذا كان ذلك كله وانقسمتم الى قسمين، ثم فسر القسمين. ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف(2/73)
خبر مقدم ومن اسم موصول مبتدأ مؤخر وجملة يريد صلة الموصول والدنيا مفعول به ومنكم من يريد الآخرة عطف على الجملة الأولى وفيها تفسير للقسم الثاني (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) ثم حرف عطف وتراخ وجملة وصرفكم عطف على جواب إذا المحذوف أي منعكم نصره ثم صرفكم عنهم أي ردكم عنهم ليمتحن صبركم وثباتكم، وعنهم جار ومجرور متعلقان بصرف ليبتليكم اللام للتعليل ويبتلي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بصرف أيضا (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) الواو استئنافية واللام جواب لقسم محذوف وقد حرف تحقيق وعفا فعل ماض وعنكم جار ومجرور متعلقان بعفا (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الواو استئنافية والله مبتدأ وذو فضل خبر وعلى المؤمنين جار ومجرور متعلقان بفضل أو بمحذوف صفة له (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بمحذوف تقديره: اذكر أو بصرفكم أو بعفا عنكم كأنه من باب التنازع، وجملة تصعدون في محل جر بالاضافة ولا تلوون عطف على تصعدون ولك أن تجعل الواو حالية فتكون الجملة منصوبة على الحال وعلى أحد جار ومجرور متعلقان بتلوون (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) الواو حالية والرسول مبتدأ وجملة يدعوكم خبر وفي أخراكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي: كائنا في ساقتكم أو في جماعتكم، وهو تصوير جميل لموقف القائد وثباته وهو يقول: إليّ إليّ عباد الله، أنا رسول الله من يكرّ فله الجنة (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) الفاء عاطفة وأثابكم فعل ماض ومفعول به وغما يجوز أن يكون مفعولا ثانيا بتضمين أثابكم معنى المجازاة والإعطاء، ويجوز أن يعرب تمييزا.
وبغم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة أي غما متصلا بغم (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ) اللام حرف جر وكي حرف تعليل ونصب واستقبال ولا زائدة وتحزنوا فعل مضارع منصوب(2/74)
بكي والجار والمجرور متعلقان بأثابكم وعلى ما فاتكم جار ومجرور متعلقان بتحزنوا وجملة فاتكم صلة الموصول ولا ما أصابكم عطف على «ما فاتكم» (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) الواو استئنافية والله مبتدأ وخبير خبر وبما جار ومجرور متعلقان بخبير وجملة تعملون صلة الموصول.
الفوائد:
(كي) : للعرب فيها مذهبان:
1- أحدهما أن تكون للفعل بنفسها بمنزلة «أن» وتكون مع ما بعدها بمنزلة اسم كما كانت «أن» كذلك.
2- وثانيهما أن تكون حرف جر بمنزلة اللام فينصب الفعل بعدها بإضمار «أن» كما ينتصب بعد اللام فاذا كانت بمنزلة «أن» جاز دخول اللام عليها كالآية الآنفة الذكر وإذا كانت حرف جر جاز دخولها على الأسماء كدخول حرف الجر، من ذلك قول العرب كيمه؟
فأدخل كي على «ما» في الاستفهام كما يدخل عليها حروف الجر نحو:
لم وبم وعمّ، فحذف الألف كما يحذفها مع حروف الجر وأدخل عليها هاء السكت في الوقف فقال: كيمه.(2/75)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
[سورة آل عمران (3) : آية 154]
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)
اللغة:
(النعاس) : بضم النون مقاربة النوم أو أوله، وفترة في الحواس.
الإعراب:
(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) ثم: حرف عطف للترتيب مع التراخي وأنزل فعل ماض والجملة عطف على فأثابكم وأثابكم عطف على صرفكم، وعليكم جار ومجرور متعلقان بأنزل ومن بعد الغم جار ومجرور متعلقان بأنزل أيضا وأمنة مفعول به ونعاسا بدل من أمنة، ويجوز أن يكون بدلا مطابقا بالنظر لمصدوقهما، وأن يكون بدل اشتمال لأن كلّا منهما مشتمل على الآخر والعائد محذوف للعلم به أي فيهما ولأن الكلام يرشد اليه كما سترى في باب الفوائد.
(يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) الجملة صفة لقوله «نعاسا» وطائفة مفعول به ليغشى ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لطائفة، وهم الذين صدقوا ربهم وثبت يقينهم (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) الواو استئنافية(2/76)
وطائفة مبتدأ، وساغ الابتداء به لوصفه بمحذوف دل عليه السياق أي من غيركم بدليل يغشى طائفة منكم وجملة قد أهمتهم أنفسهم هي الخبر والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حال المنافقين (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) جملة يظنون حالية من الهاء في أهمتهم، ويجوز جعل «قد أهمتهم أنفسهم» صفة وجملة يظنون هي الخبر، وبالله جار ومجرور متعلقان بيظنون وغير الحق صفة لمفعول مطلق محذوف والمعنى يظنون بالله غبر الظن الحق الذي يجب أن يساور النفوس، وظن الجاهلية بدل من «غير الحق» أو منصوب على المصدرية التشبيهية، أي ظنا مثل ظن الجاهلية أو منصوب بنزع الخافض، وعلى هذا لم يذكر ليظنون مفعولين وتكون الباء ظرفية كما تقول: ظننت بزيد، وإذا كان ذلك كذلك لم تتعد «ظننت» الى مفعولين، وقد نص النحاة على ذلك وعليه قول الشاعر:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في السابري المسرّد
(يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) جملة يقولون بدل من جملة يظنون وهل حرف استفهام إنكاري معناه النفي أي: ليس لنا، ولنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومن الأمر جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لشيء ثم تقدمت الصفة على الموصوف فأعربت حالا، ومن حرف جر زائد وشيء مجرور بمن لفظا في محل رفع مبتدأ مؤخر والجملة مقول القول (قُلْ: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) الجملة معترضة وان واسمها، وكله تأكيد ل «الأمر» لأنه يتجزأ ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر إن والجملة في محل نصب مقول القول (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) جملة يخفون حال من ضمير يقولون، أي: يقولون فيما بينهم متسارّين، وفي(2/77)
أنفسهم جار ومجرور متعلقان بيخفون وما اسم موصول مفعول به ولا نافية وجملة يبدون لا محل لها لأنها صلة ما ولك جار ومجرور متعلقان بيبدون (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) جملة يقولون مستأنفة مسوقة لبيان ما قبله، ولتكون بمثابة شروع في الحديث عنهم مجددا تطرية لنشاط السامع واسترعاء لانتباهه.
ولو شرطية وكان فعل ماض ناقص ولنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كان المقدم ومن الأمر جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وشيء اسم كان المؤخر وما نافية وقتلنا فعل ماض مبني للمجهول ونا نائب فاعل وجملة ما قتلنا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وهاهنا الهاء للتنبيه وهنا اسم اشارة في محل نصب ظرف مكان متعلق بقتلنا (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان أن الآجال مكتوبة وأنهم لو أقاموا في المدينة لحدثت لهم أسباب يخرجون فيها لملاقاة حتوفهم وأنهم إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
ولو شرطية وكنتم كان واسمها، وفي بيوتكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر والجملة في محل نصب مقول القول (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) اللام واقعة في الجواب وبرز الذين فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة كتب عليهم القتل صلة الذين والى مضاجعهم جار ومجرور متعلقان ببرز أي الى مصارعهم (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) الواو عاطفة على محذوف تقديره: وفعل ما فعله في أحد لمصالح جمة وليبتلي، اللام للتعليل ويبتلي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بالفعل المحذوف أي فعل ذلك. لمصالح تجهلونها وليبتلي ما في الصدور، وما اسم موصول مفعول به وفي صدوركم جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي(2/78)
قُلُوبِكُمْ)
عطف على ليبتلي ما في صدوركم (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة لتأكيد علمه تعالى بالسرائر والكوامن، والله مبتدأ وعليم خبر وبذات الصدور جار ومجرور متعلقان بعليم.
البلاغة:
لو شئنا الإسهاب في إظهار مواطن البلاغة المنطوية فيها لضاق بنا المجال، وحسبنا أن فلم بها إلماما سريعا يأتي على ما تطول فيه العبارة وتمتد، فمنها:
1- الإيجاز: ويبدو في كثير من المواطن فيها على الشكل التالي:
آ- في كلمة ثم الواقعة في مستهلها للدلالة على أن تراخيا من الزمن قد امتد بعد أن حل بهم ما حل في وقعة أحد في تلك الحادثة العجيبة، فبعد تصعيدهم في الجبل، وإشاحة وجوههم عن رؤية ما حدث لفرط ما نابهم من الدهشة واستولى عليهم من الفزع والهلع أتبعهم الله غما بعد غم أو على غم، أو بسببه حدث نزول الأمن فرنّق النعاس في الأجفان، وهوّمت الرؤوس، واسترخت المفاصل فكانوا يميدون تحت الحجف، وكانت السيوف تسقط من أيديهم.
والحجف بفتحتين جمع حجفة اسم الترس أو الدرقة.
ب- في كلمة «أمنة» وإبدال النعاس منها إيجاز كثير يدل على أن الأمن والهدوء استوليا عليهم فور ترنيق النعاس وأخذ دبيب الكرى بمعاقد أجفانهم، وإنما ينعس من أمن وزايله الخوف، والخائف لا ينام، بل يرى أعداءه في كل مكان. وقد رمق المتنبي هذه السماء العالية فقال:(2/79)
وضاقت الأرض حتى كاد خائفهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
ج- في كلمة «شيء» من قوله: «هل لنا من الأمر من شيء» التي احتوت على ما تضيق عنه الصحف كالنصر والظهور على العدو بعد أن اشتدت وطأته وضراوته.
د- في حذف خبر «طائفة» تنزيها لهم عن نسبة من اهتموا بأنفسهم ولم تبق لهم رغبة إلا في نجاتها دون النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه فانهم لم يناموا، أما تقدير الخبر فيمكن أن يقدر: «تعرفهم بسيماهم» .
2- الكناية فقد كنى بالمضاجع عن المصارع حيث لاقوا حتفهم وصافحوا مناياهم.
3- المخالفة في جواب لو، فقد جاء مرة بغير لام وجاء مرة مقترنا بها وفي هذا سر عجيب فقد قال: «لو كان لنا من الأمر من شيء ما قتلنا هاهنا» ثم قال: «لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل» والقاعدة المعروفة هي أن جواب لو إذا كان منفيا بما فالأكثر عدم اللام وفي الإيجاب بالعكس لأن الإيجاب أحوج الى التثبيت والترسيخ وهذا من الأسرار التي تميز كتاب الله بها ليكون المعجزة أبد الدهر.
الفوائد:
1- هذه الآية تجمع حروف المعجم ليس في القرآن غيرها وغير(2/80)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
آية الفتح وهي قوله تعالى: «محمد رسول الله» الى قوله: «وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما» .
2- لا بد في بدل الاشتمال من عائد يربطه بالأول فأما في قوله:
«نعاسا» فالمراد: نعاسا فيها، لأن المخاطب يعلم ذلك بسهولة كما تقدم. لأن كلا من الأمنة والنعاس مشتمل على الآخر.
[سورة آل عمران (3) : آية 155]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
اللغة:
(اسْتَزَلَّهُمُ) طلب منهم الزلل واستدرجهم اليه. والزلل هو الانحراف عن الحق والوقوع في المناكر.
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) كلام مستأنف مسوق لبيان سبب هزيمة المنهزمين واستزلال الشيطان إياهم، فحرموا قوة القلب وثبات الجنان، وهما عدة النصر. وإن واسمها، وجملة تولوا صلة الموصول ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ويوم ظرف زمان متعلق بتولوا وجملة التقى في محل جر بالاضافة(2/81)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
(إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) الجملة خبر إن وانما كافة ومكفوفة واستزلهم الشيطان فعل ومفعول به وفاعل وأعاد إن بطريق الحصر تنبيها على مصدر الغي وسببه، وهو ركونهم الى الشيطان وإنصاتهم لداعيه. وببعض جار ومجرور متعلقان باستزلهم وما اسم موصول في محل جر بالاضافة وجملة كسبوا صلة الموصول والعائد محذوف أي بتركهم المركز الذي أمرهم الرسول بالثبات فيه فجرهم ذلك الى الهزيمة (وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لاعلان العفو عنهم بعد ما تابوا واعتذروا واللام جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق وعفا الله فعل وفاعل وعنهم جار ومجرور متعلقان بعفا (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) ان واسمها، وغفور حليم خبران لإن والجملة تعليلية لقوله: عفا عنهم.
[سورة آل عمران (3) : آية 156]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
اللغة:
(ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) : سافروا فيها وأبعدوا في سفرهم للتجارة أو للغزو أو لغير ذلك من المقاصد.(2/82)
(غُزًّى) جمع غاز، والقياس غزاة كرام ورماة وساع وسعاة، ولكنهم حملوا المعتل على الصحيح.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم اعرابها (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) لا ناهية وتكونوا فعل مضارع ناقص مجزوم بلا والواو اسمها وكالذين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ولك أن تجعل الكاف اسما بمعنى مثل فتكون هي الخبر والذين اسم موصول مضاف اليه وجملة كفروا صلة، وجملة النهي مستأنفة مسوقة لتحذير المؤمنين من الاحتذاء بالمنافقين والنطق بمثل ما قالوه (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) عطف على الصلة والمراد بالاخوة اتفاق الجنس أو النسب. وإذا لمجرد الظرفية يراد بها حكاية الحال الماضية تجسيدا للصورة والظرف متعلق بقالوا وجملة ضربوا في الأرض في محل جر بالاضافة لوقوعها بعد الظرف (أَوْ كانُوا غُزًّى) عطف على جملة ضربوا في الأرض وغزّى خبر كانوا والواو اسمها (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) الجملة في محل نصب مقول القول ولو شرطية وكان واسمها، وعندنا ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر كانوا أي مقيمين عندنا وجملة ما ماتوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة وما قتلوا عطف على جملة ما ماتوا (لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) اللام لام العاقبة أو الصيرورة أي قالوا ذلك ليصيروا الى هذه العاقبة، ويجعل فعل مضارع بأن مضمرة جوازا بعد لام العاقبة وهي والمصدر المجرور بها متعلقان بفعل محذوف يفهم من السياق أي: قالوا ذلك واعتقدوه، والله فاعل وذلك مفعول به أول وحسرة مفعول به ثان وفي قلوبهم(2/83)
جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لحسرة. والمشار اليه هو الجهر بالقول والاعتقاد، وجعله الزجاج ظنهم بأنهم لو لم يحضروا لم يقتلوا (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة يحيي خبر وجملة يميت عطف على جملة يحيي (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ بما جار ومجرور متعلقان ببصير وجملة تعملون لا محل لها لأنها صلة الموصول وبصير خبر «الله» .
البلاغة:
1- في هذه الآية فن رائع من فنون البلاغة وهو حكاية الحال الماضية استحضارا للصورة في الذهن وتجسيدا للمعنى المراد وتشخيصا لما يريد المتكلم عرضه، فإذا ظرف للمستقبل وقد جاء متعلقا بقالوا، وهي فعل ماض، وكان ظاهر الكلام يقضي باستعمال «إذ» المفيدة للمضيّ، ولكنه عدل عنها الى «إذا» لحكاية الحال الماضية، واستحضارها في الذهن، وفائدتها استمرار الزمان المنتظم للحال الذي يدور عليه الحديث الى وقت التكلم، وقد فصل الزجّاج هذا المعنى تفصيلا بارعا بقوله: «إذا هنا تنوب عما مضى من الزمان وما يستقبل يعني أنها لمجرد الوقت أو يقصد بها الاستمرار» .
2- الطباق بين يحيي ويميت، وهو من أوجز الحديث وأصدقه وأبعده في الدلالة على المعنى المراد، فانه سبحانه قد يحيي المسافر والغازي مع اقتحامهما موارد الهلكة، ثم يميت المقيم والقاعد مع أخذهما بأسباب الحيطة والحذر. وقد رمق أبو الطيب المتنبي هذه السماء العالية من البلاغة بقوله:(2/84)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
يقتل العاجز الجبان وقد يعجز عن قطع بخنق المولود
ويوقّى الفتى المخشّ وقد خوّ ... ض في ماء لبة الصنديد
يقول: لا تجبن، ولا تحرص على الحياة، فالعجز والجبن ليسا من أسباب البقاء وليسا بمنجيين من الموت، ويرحم الله خالد بن الوليد أنه قال عند موته: «ما فيّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وها أنا ذا أموت كما يموت العير فلا نامت أعين الجبناء» .
الفوائد:
(لام العاقبة) أو الصيرورة هي التي تدل على مآل الشيء وعقباه وحكمها في العمل حكم لام التعليل في إضمار أن بعدها جوازا وستأتي أمثلة منها.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 157 الى 158]
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
الإعراب:
(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ) كلام مستأنف مسوق لتقرير أن ما تحذرون وقوعه ليس مما ينبغي أن يحذر منه بل يجب أن يكون حافزا لكم على القتال ومواصلة الجهاد. والواو استئنافية واللام(2/85)
موطئة للقسم المقدر وإن شرطية وقتلتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وهو مبني للمجهول والتاء نائب فاعل وفي سبيل الله جار ومجرور متعلقان بقتلتم أو متم عطف على قتلتم ومتم فعل ماض من مات يموت كقال يقول فهي بضم الميم ويجوز كسرها إذا كانت من مات يمات كخاف يخاف وقد قرىء بهما (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) اللام لام الابتداء ومغفرة مبتدأ ساغ الابتداء به مع انه نكرة لوصفه بالجار والمجرور ورحمة عطف على مغفرة وخير خبر ومما جار ومجرور متعلقان بخير وجملة يجمعون صلة ما، ولام الابتداء ومدخولها جملة لا محل لها لأنها جواب للقسم حسب القاعدة المقررة وهي أنه إذا اجتمع قسم وشرط فالجواب يعطى للمتقدم منهما (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ) تقدم اعرابها (لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) اللام ومدخولها جواب القسم، والى الله جار ومجرور متعلقان بتحشرون وتحشرون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل.
البلاغة:
في هذه الآية والتي قبلها فن منتظم في باب التقديم والتأخير، فقد ورد الموت والقتل فيهما ثلاث مرات، وتقدم الموت على القتل في الأول والأخير منها، وتقدم القتل على الموت في المتوسط، تبعا لتقديم الأهم والأشرف.(2/86)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
[سورة آل عمران (3) : آية 159]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
اللغة:
(فَظًّا) : جافيا والفظاظة: الجفوة في المعاشرة قولا وفعلا.
قال الراغب: «الفظّ: كريه الخلق، وذلك مستعار من الفظّ، وهو ماء الكرش، وذلك مكروه شربه إلا في ضرورة. والغلظة: ضد الرقة. ويقال: غلظ وغلظ بالكسر والضم، وعن الغلظة تنشأ الفظاظة وقدمت الفظاظة لسرّ وهو تقديم ما هو ظاهر للحسّ على ما هو خاف في القلب.
الإعراب:
(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما يجب سلوكه لتأليف الناس وترغيبهم في الخير، والفاء استئنافية وبما رحمة جار ومجرور متعلقان بلنت وما زائدة للتوكيد ومن الله:
جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرحمة ولنت فعل ماض مبني على السكون والتاء فاعل ولهم: جار ومجرور متعلقان بلنت (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) الواو عاطفة على محذوف مقدر، أي: لنت ولو لم تكن لينا. ولو شرطية وكنت كان الناقصة واسمها، وفظا خبرها ولانفضوا: اللام واقعة في جواب لو وانفضّوا فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومن حولك: جار ومجرور متعلقان بانفضوا (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الفاء هي الفصيحة أي: إذا شئت سلوك الطريق المثلى فاعف عنهم فيما(2/87)
يختص بك، واعف فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله أنت وعنهم: جار ومجرور متعلقان بأعف واستغفر عطف على اعف، اي:
فيما يختص بغيرك، ولهم: جار ومجرور متعلقان باستغفر (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) عطف أيضا وفي الأمر جار ومجرور متعلقان بشاورهم (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) الفاء عاطفة ولك أن تجعلها استئنافية فتكون الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما يجب عمله بعد المشاورة، وقدم المشاورة للإشارة الى أن التوكل ليس يعني إهمال التدبير، وبيان أن الشورى من أفضل الأمور، وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل وتفويض الأمور لله تعالى. وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة عزمت في محل جر بالاضافة وفتوكل: الفاء رابطة لجواب إذا وتوكل فعل أمر والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعلى الله جار ومجرور متعلقان بتوكل (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) الجملة تعليلية لا محل لها وإن واسمها، وجملة يحب المتوكلين خبرها.
الفوائد:
زيادة (ما) بين الباء وعن ومن والكاف ومجروراتها أمر معروف في اللسان العربي مقرر في علم العربية. وذهب بعض المعربين الى أن «ما» ليست زائدة بل هي نكرة تامة بمعنى شيء ورحمة بدل منها.
وكأن قائلي هذا يفرّون من أنها زائدة. وقيل: «ما» هنا استفهامية، قال الفخر الرازي ما نصه: «قال المحققون: دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين غير جائز، وهنا يجوز أن تكون «ما» استفهاما للتعجب تقديره: فبأي رحمة من الله لنت لهم! وذلك بأن جنايتهم لمّا كانت عظيمة، ثم إنه ما أظهر البتة تغليظا في القول(2/88)
ولا خشونة في الكلام علموا أن هذا لا يتأتى إلا بتأييد رباني قيل ذلك» .
وما قاله هؤلاء المحققون صحيح ولكن زيادة «ما» للتوكيد لا ينكره في مواطنه المقررة من له أدنى مسكة في الذوق والتعلق بالعربية، فضلا عمن يتعاطى تفسير كلام الله. وليس «ما» في هذا المكان ما يتوهمه أحد مهملا فلا يحتاج ذلك الى تأويلها بأن تكون استفهاما للتعجب، ثم إن تقديره ذلك: «فبأي رحمة» دليل على أنه جعل «ما» مضافة للرحمة، وما ذهب اليه خطأ من وجهين، أحدهما: أنه لا تضاف ما الاستفهامية ولا أسماء الاستفهام غير «أيّ» بلا خلاف، و «كم» على خلاف. والثاني أنه إذا لم تصح الاضافة فيكون إعرابه بدلا، وإذا كان بدلا من اسم الاستفهام فلا بد من إعادة همزة الاستفهام في البدل كما هو مقرر، وكان يغنيه عن هذا الارتباك والتسور عليه قول الزجاج في «ما» هذه: إنها صلة فيها معنى التوكيد بإجماع النحويين والبيانيين.
مناقشة طريفة بين الغزالي وابن الأثير:
وقد جرت مناقشة طريفة بين الغزالي وابن الأثير فقال الغزالي في حديثه عن أقسام المجاز: القسم الثاني عشر الزيادة في الكلام لغير فائدة كقوله تعالى: «فبما رحمة من الله لنت لهم» ف «ما» هنا زائدة لا معنى لها، أي فبرحمة من الله لنت لهم. ورد عليه ابن الأثير فقال وهذا القول لا أراه صوابا وفيه نظر من وجهين: أحدهما: أن هذا القسم ليس من المجاز، لأن المجاز هو دلالة اللفظ على غير ما وضع له في أصل اللغة، وهذا غير موجود في الآية، وانما هي دالة على الوضع اللغوي المنطوق به في أصل اللغة. والوجه الآخر: إني لو(2/89)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
سلمت أن ذلك من المجاز لأنكرت أن لفظة «ما» زائدة لا معنى لها، ولكنها وردت تضخيما لأمر النعمة التي لان بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم لهم، وهي محض الفصاحة، ولو عري الكلام منها لم تكن له تلك الفخامة الى أن يقول: «وأما الغزالي رحمه الله فانه عندي معذور في أن لا يعرف ذلك لأنه ليس فنه ومن ذهب الى أن في القرآن لفظا زائدا لا معنى فإما أن يكون جاهلا بهذا القول وإما أن يكون متسمحا في دينه واعتقاده، وقول النحاة: إن «ما» في هذه الآية زائدة، إنما يعنون به أنها لا تمنع ما قبلها عن العمل، كما يسمونها في موضع آخر كافة، أي أنها تكف الحرف العامل عن عمله كقولك:
إنما زيد قائم ف «ما» قد كفت «إن» عن العمل في «زيد» ، وفي الآية لم تمنع عن العمل، ألا ترى أنها لم تمنع الباء عن العمل في خفض الرحمة» ! فتأمل هذه المناقشة فانها من الحسن بمكان؟.
[سورة آل عمران (3) : آية 160]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
الإعراب:
(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) كلام مستأنف لإيجاب التوكل على الله تعالى والاعتماد عليه. وإن شرطية وينصركم فعل الشرط والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به والله فاعل، فلا الفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية للجنس تعمل عمل إن وغالب اسمها المبني على الفتح وجملة فلا غالب لكم في محل جزم جواب الشرط ولكم جار ومجرور(2/90)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
متعلقان بمحذوف خبرها (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) الواو عاطفة وإن شرطية ويخذلكم فعل الشرط فمن الفاء رابطة لجواب الشرط ومن اسم استفهام إنكاري في محل رفع مبتدأ وذا اسم اشارة في محل رفع خبر «من» والذي اسم موصول في محل رفع بدل من اسم الاشارة ومن بعده جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وجملة فمن الاسمية في محل جزم جواب الشرط وجملة ينصركم صلة لا محل لها (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) الواو عاطفة وعلى الله جار ومجرور متعلقان بيتوكل والفاء لتأكيد الاستئناف واللام لام الأمر ويتوكل فعل مضارع مجزوم باللام والمؤمنون فاعل وفي تأكيد الاستئناف بعد الإنكار والنفي حث مبالغ فيه على الاتكال بعد الاخذ بأسباب الحيطة والحذر.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 161 الى 163]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163)
اللغة:
(غَلَّ) : أخذ خفية واستغلالا وخيانة. والغلول صفة تتنافى مع النبوة. ومن طريف الجناس قولهم: «يد المؤمن لا تغلّ وقلب المؤمن لا يغلّ» الأولى بضم الغين من الغلول والثانية بكسرها من الغل أي الحقد.(2/91)
الإعراب:
(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) كلام مستأنف مسوق لنفي الغلول عن النبي صلّى الله عليه وسلم. وفي قراءة بالبناء للمجهول أي ينسب الى الغلول، وكلتا القراءتين تنفي هذه الصفة عن النبي لعصمته ولتحريم الغلول. والواو استئنافية وما نافية وكان فعل ماض ناقص مبني على الفتح ولنبي جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وأن يغل مصدر مؤول اسمها المؤخر (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق للرّدع عن الغلول. ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويغلل فعل الشرط ويأت جوابه وبما جار ومجرور متعلقان بيأت وجملة غل صلة الموصول ويوم القيامة ظرف زمان متعلق بيأت أيضا وجملة فعل الشرط وجوابه خبر من (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وتوفى فعل مضارع مبني للمجهول معطوف على الجملة الشرطية وكل نفس نائب فاعل وما اسم موصول في محل نصب مفعول به ثان وجملة كسبت صلة الموصول (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الواو استئنافية أو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يظلمون خبر «هم» والجملة استئنافية أو حالية، ونرى الاستئناف أرجح لأنها بمثابة إيضاح لتوفى كل نفس ما كسبت على طريق العدل فينال كل انسان جزاءه من غير حيف أو نقصان (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف والنية التقدم على الهمزة وقد تقدم البحث في هذا التركيب وإن تقدير المحذوف: أجعل لك ما تميز به بين الضال والمهتدي فمن اتبع رضوان الله واهتدى ليس كمن باء بسخطه، والاستفهام الانكاري معناه النفي، ومن اسم موصول مبتدأ وجملة اتبع صلة ورضوان الله مفعول به لاتبع(2/92)
والجملة معطوفة على المحذوف الذي هو مستأنف (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ) كمن الكاف حرف جر ومن اسم موصول في محل جر بالكاف والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر «من» أو الكاف اسم بمعنى مثل خبر ومن مضاف إليه وجملة باء صلة الموصول وبسخط جار ومجرور متعلقان بباء ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الواو حرف عطف ومأواه مبتدأ وجهنم خبره والجملة عطف على الصلة، أي: وكمن مأواه جهنم. ولك أن تجعل الواو استئنافية، وعلى كلا الوجهين لا محل لها من الإعراب وبئس الواو عاطفة أيضا وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والمصير فاعل والمخصوص بالذم محذوف، أي جهنم (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان التفاوت ما بين الفريقين كما سيأتي في باب البلاغة وهم مبتدأ ودرجات خبر وعند الله ظرف متعلق بمحذوف صفة لدرجات والله الواو استئنافية والله مبتدأ وبصير خبر وبما جار ومجرور متعلقان ببصير وجملة يعملون صلة.
البلاغة:
في هذه الآيات فنون شتى يضيق عنها العدّ ويمكن إيجازها على الوجه التالي:
1- المبالغة في النهي، وقد وردت المبالغة على هذه الصيغة كثيرا في القرآن، كقوله تعالى: «ما كان لنبي أن يكون له أسرى» ،
«ما كان للنبي والذين آمنوا ... أن يستغفروا للمشركين» .
2- والغلول أولى بأن يبالغ فيه، لأن تصور المبالغة على وجه(2/93)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
يبعث الخوف ويحجب الخاطر عن التفكير فيه، وتصويره، بله ارتكابه والخوض في مناحيه. ويحسن بنا أن نورد حديثا فيه تجسيد فني لصورة الغلول أو الاستغلال، أو اجتلاب المنافع الخاصة على حساب المجاهدين والضاريين في سبيل الله، حتى على حساب الحيوانات التي لا تعقل، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره، حتى قال: «لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبة فرس له حمحمة فيقول: يا رسول الله أغثني! فأقول لا أملك لك من الله شيئا فقد أبلغتك» والحديث طويل اجتزأنا منه بما تقدم.
3- التشبيه البليغ في قوله «هم درجات» فقد جعلهم الدرجات نفسها، للمبالغة في إظهار التفاوت، لما بينهم في الثواب والعقاب.
4- الالتفات وهو هنا العدول عن ذكر الخاص، وهو النبي، الى ذكر العام، وهو كل نفس، ليشمل كل كاسب بغير حق، وليتلطف ويتعطف في تقرير الغلول ونتائجه بالنسبة للنبي. ألا ترى الى قوله تعالى: «عفا الله عنك لم أذنت لهم» فقد بدأ المصطفى بالعفو، ولو لم يبدأ به لتفطر قلبه.
5- الطباق بين الرضوان والسخط.
[سورة آل عمران (3) : آية 164]
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)(2/94)
الإعراب:
(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) اللام جواب لقسم محذوف وقد حرف تحقيق ومنّ الله فعل وفاعل وعلى المؤمنين جار ومجرور متعلقان بمنّ والكلام مستأنف مسوق لتأكيد نزاهة النبي صلى الله عليه وسلم وبيان خطأ الذين نسبوا إليه الغلول (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بمنّ وجملة بعث في محل جر بالإضافة وفيهم جار ومجرور متعلقان ببعث ورسولا مفعول به ومن أنفسهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة ل «رسولا» (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) الجملة صفة ثانية ل «رسولا» وعليهم جار ومجرور متعلقان بيتلو (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) الجملتان معطوفتان على يتلو، والكتاب مفعول به ثان ليعلمهم والحكمة عطف على الكتاب (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الواو حالية وإن مخففة من الثقيلة مهملة لا عمل لها وكان واسمها، ومن قبل جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وقبل ظرف مبني على الضم في محل جر بمن ولفي اللام هي الفارقة وفي ضلال جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كانوا ومبين نعت.
البلاغة:
في الآية فن رفيع من فنون البلاغة يعرف بفن التجريد، وهو أن ينتزع المتكلم من أمر ذي صفة أمرا آخر بمثاله فيها مبالغة لكسالها فيه، كأنه أبلغ من الاتصاف بتلك الصفة. وهو أقسام كثيرة يسكن الرجوع إليها في كتب البلاغة، ولكننا نشير الى أهمها:(2/95)
1- أن يكون ب «من» الجارّة، ومن أوابده في النثر خطبة أبي طالب في تزويج خديجة بالنبي صلى الله عليه وسلم ومنها: «الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضي معد» .
2- ويكون بالباء الجارة التجريدية كقول أبي تمام:
هتك الظلام أبو الوليد بعزة ... فتحت لنا باب الرجاء المقفل
بأتمّ من قمر السماء إذا بدا ... بدرا وأحسن في العيون وأجمل
بأجلّ من قيس إذا استنطقته ... رأيا وألطف في الأمور وأجزل
3- ويكون يفي الجارّة التجريدية، قال تعالى: «لهم فيها دار الخلد» أي في جهنم فانتزع منها دارا أخرى مبالغة. وقد رمقها أبو الطيب فقال:
تمضي المواكب والأبصار شاخصة ... منها الى الملك الميمون طائره
قد حرن في بشر في تاجه قمر ... في درعه أسد تدمى أظافره
فإن الأسد هو الممدوح نفسه لكنه انتزع منه أسدا آخر تهويلا لأمره ومبالغة في اتصافه بالشجاعة والإقدام.
4- ومن أقسام التجريد أن ينتزع الإنسان من نفسه شخصا آخر مثله في الصفة التي سيق لها الكلام، ثم يخاطبه كقول المتنبي:(2/96)
لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
وأجز الأمير الذي نعماه فاجئة ... بغير قول ونعمى القوم أقوال
وجميل قول أبي نواس:
يا كثير النّوح في الدمن ... لا عليها بل على السكن
سنة العشاق واحدة ... فإذا أحببت فاستنن
ومراده الخطاب مع نفسه، ولذلك قال بعدهما:
ظنّ بي من قد كلفت به ... فهو يجفوني على الظّنن
بات لا يعنيه ما لقيت ... عين ممنوع من الوسن
رشأ لولا ملاحته ... خلت الدنيا من الفتن
وقال شوقي في العصر الحديث:
قم ناج جلّق وانشد رسم من بانوا ... مشت على الرسم أحداث وأزمان
فقد انتزع من نفسه شخصا آخر يمثّله في الشاعرية والقدرة على مناجاة دمشق الخالدة التي صمدت للاستعمار دائما. ويكثر هذا القسم في مطالع القصائد ولكن سبيله صعبة محفوفة بالخطر لأنه قد(2/97)
يخاطب مسدوحه أو معشوقه أو أي مخاطب كان بما يكره ويتطيّر به كما فعل جرير عند ما استهل قصيدة مدح بها عبد الملك بن مروان:
أتصحو أم فؤادك غير صاح ... عشيّة هم صحبك بالرّواح
فقال له عبد الملك: ويلك! ما لك ولهذا السؤال يا ابن الفاعلة! وكما تورط أبو الطيب المتنبي نفسه متعمدا في مديح كافور:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا
ومن القصائد البديعة التي تغلغل التجريد الى أبياتها قصيدة الصمة بن عبد الله في صاحبته ريا، ونوردها كاملة ففيها لعشاق الأدب سلوى وتأساء:
حننت إلى ريا ونفسك باعدت ... مزارك من ريا وشعباكما معا
فما حسن أن تأتي الأمر طائعا ... وتجزع أن داعي الصبابة أسمعا
فقا ودعا نجدا ومن حلّ بالحمى ... وقل لنجد عندنا أن يودّعا
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربا ... وما أحسن المصطاف والمتربّعا(2/98)
وليست عشيّات الحمى برواجع ... إليك ولكن خلّ عينيك ت
دمعا ولما رأيت البشر أعرض دوننا ... وحالت بنات الشوق يحننّ ن
زّعا بكت عيني اليسرى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا
معا تلفّت نحو الحي حتى حسبتني ... وجعت من الإصغاء ليتا وأ
خدعا وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تصدّعا
الفوائد:
تخفف «إنّ» المكسورة الهمزة المشبهة بالفعل فتهمل لزوال اختصاصها، وتدخل على الخبر لام تسمى اللام الفارقة، مثل: إن خالد لمسافر، فرقا بينها وبين إن النافية، وإذا وليها فعل كانت مهملة حتما، ويكون هذا الفعل من النواسخ أي كان وظن وأخواتهما، ولا بد من دخول هذه اللام على هذه الأفعال. وقد أعملها بعض العرب في القسم الأول على قلة فقالوا يجوز أن نقول: إن خالدا لمسافر، ولهذا أخطأ الزمخشري وخالف كتابه المفصل عند ما أعملها في قولها(2/99)
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
تعالى: «وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين» عند ما قدر اسمها اسما ظاهرا أي إن الشأن والحديث. وقد تبع الزمخشري في الخطأ الجلال وأبو السعود، وجلّ من لا يسهو.
[سورة آل عمران (3) : آية 165]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
الإعراب:
(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) الهمزة للاستفهام الانكاري والتقريع والواو عاطفة على ما تقدم من قصة أحد والمعنى لا ينبغي لكم أن تتعجبوا من فشلكم فإنكم تعلمون السبب وإذا عرف السبب بطل العجب، ولما ظرفية حينية متعلقة بقلتم أو رابطة فهي حرف، وسيأتي حكمها في باب الفوائد. وأصابتكم فعل ماض ومفعول به ومصيبة فاعل (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) الجملة صفة لمصيبة وقد حرف تحقيق وأصبتم فعل وفاعل ومثليها مفعول به (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) جملة قلتم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وأنى اسم استفهام خبر مقدّم وهذا مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول والمعنى: من أين أصابنا هذا الانهزام والقتل ونحن نقاتل في سبيل الله ومعنا رسول الله وقد وعدنا الله بالنصر عليهم؟ (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) جملة القول مقول للقول وهو مبتدأ ومن عند أنفسكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ان واسمها وخبرها وعلى كل شيء جار ومجرور متعلقان بقدير والجملة تعليلية لا محل لها.(2/100)
الفوائد:
1- أورد ابن هشام في المغني هذه الآية شاهدا على أن الهمزة تدخل على النفي كما تدخل على الإثبات وهذا وهم منه لم نكن نتوقع صدوره عن رجل ذكي مثله لأن لما هنا حينية لا نافية فلا يصلح هذا مثالا لدخولها على النفي ولا يقال: إن الهمزة للانكار وهو بمثابة النفي فالكلام الذي دخلت عليه منفيّ أيضا فصح التمثيل لأنّا نقول: الإنكار هنا توبيخي فمدخوله ثابت كقولك لضارب أبيه: أتضربه وهو أبوك فالأولى الاعتراف بأن ابن هشام اشتبه عليه لفظ لما لعلّ المراد أنه أراد لما النافية وقد انتبه السيوطي لهذه الغلطة وقال: والاولى التمثيل بقول الشاعر: فقلت: الما أصح والشيب وازع، وهذه من هنات ابن هشام اليسيرة التي سجلناها عليه وجلّ من لا يسهو، وقال الدماميني في شرحه للمغني: «والأولى أن يجعل مدخولها محذوفا هو المعطوف عليه أي ألم تجزعوا أو قلتم لمّا أصابتكم مصيبة ويكون المصنف مثل للنفي المذكور والمحذوف قال: فإن قلت هذا لا يراه المصنف كما يأتي وانما يرى الهمزة الداخلة على مدخول الواو قدمت تنبيها على اصالتها في التصدير كما يأتي فكيف يحمل كلامه على ما ذكرت؟ قلت:
المصنف لم يذكر هذا في الهمزة التي للانكار نحو: «أفأمن أهل القرى» «أفلم يسيروا» أو مثل على قول الزمخشري ومن تبعه.
2- (لَمَّا) على ثلاثة أوجه:
آ- تختص بالمضارع فتجزمه وتقلبه ماضيا كلم ولكن نفيها مستمر الى الحال بعكس لم.
ب- أن تختص بالماضي وقد اختلف فيها علماء النحو فقال(2/101)
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
جماعة هي ظرف بمعنى حين وقال جماعة هي حرف لربط جملتين لا بد منهما نحو لما جاءني أكرمته.
ج- أن تكون حرف استثناء فتدخل على الجملة الاسمية نحو «إن كل نفس لما عليها حافظ» وسيأتي الكلام عنها في مكانها.
3- قد: حرف توقّع لاقترانه بالافعال المتوقعة والمسئول عنها ولذلك يقال: إذا دخلت على الماضي حرف تحقيق وإذا دخلت على المضارع حرف تقليل ومعنى تقليلها تقريبها من الحال ومنه قوله تعالى:
«قد يعلم الله المعوقين منكم» وقد تخرج عن موقعها وتجيء من قبيل الأسماء بمعنى حسب، تقول: قدك أي حسبك. قال أبو تمام:
قدك اتّئب أربيت في الغلواء ... كم تعذلون وأنتم سجرائي
[سورة آل عمران (3) : الآيات 166 الى 167]
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167)
الإعراب:
(وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) الكلام مستأنف(2/102)
مسوق لتتمة قصة أحد والواو استئنافية وما اسم موصول مبتدأ وجملة أصابكم صلة ويوم ظرف منعلق بأصابكم وجملة التقى الجمعان في محل جر بالإضافة (فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) الفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وبإذن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف تقديره فهو بإذن الله والجملة الاسمية في محل رفع خبر اسم الموصول وليعلم الواو عاطفة واللام للتعليل ويعلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة والجار والمجرور متعلقان بما تعلق به بإذن والعطف هو من باب عطف السبب على السبب ولك أن تعلقهما بفعل محذوف تقديره فعل ذلك ليعلم والمؤمنين مفعول به (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) عطف على ليعلم والذين اسم موصول مفعول به وجملة نافقوا صلة الموصول (وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا) كلام مستأنف مسوق للاخبار بأنهم مأمورون إما بالقتال وإما بالدفع ولك أن تجعله معطوفا على نافقوا داخلا في حيّز الموصول أي وليعلم الذين حصل منهم النفاق والقول المذكور وقيل فعل ماض مبني للمجهول ولهم جار ومجرور متعلقان بقيل وجملة تعالوا مقول القول وكذلك جملة قاتلوا وكلتا الجملتين نائب فاعل قيل ولم يأت بحرف العطف بينهما لأن كلا من الجملتين مقصودة بالذكر لذاتها وفي سبيل الله جار ومجرور متعلقان بقاتلوا أو حرف عطف وادفعوا معطوف على قاتلوا وحذف مفعول ادفعوا للعلم به لأنه العدو ودفعه انما يكون بتكثير سواد المسلمين وسواد المسلمين جماعتهم (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ) الجملة لا محل لها لأنها مستأنفة مسوقة لتعبر عن تمحلهم وامعانهم في اللجاج وركوب متن الغي والضلال ولو شرطية وسماها سيبويه حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره جملة لو نعلم قتالا مقول قولهم لأن رأي عبد الله بن أبي كان في الاقامة بالمدينة. واللام واقعة(2/103)
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
في جواب لو واتبعناكم فعل ماض وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) الجملة مستأنفة مسوقة للقطع بأمرهم وهم مبتدأ وللكفر جار ومجرور متعلقان بأقرب ويوم ظرف زمان مضاف لظرف آخر وهو متعلق بمحذوف حال وأقرب خبرهم ومنهم جار ومجرور متعلقان بأقرب وللايمان جار ومجرور متعلقان بأقرب أيضا وهذا من خصائص اسم التفضيل يتعلق به حرفا جر متحدان لفظا ومعنى وحرف آخر غير متحد بعامل واحد لأنه في قوة عاملين فهو يدل على أمرين وهما أصل الفعل والزيادة فيه فيعمل كل منهما بواحد (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) الجملة مستأنفة لا محل لها أو حالية من الضمير في أقرب فيكون المعنى قربوا للكفر في حالة كونهم قائلين هذه المقالة وبأفواههم جار ومجرور متعلقان بيقولون وانما صرح بالجار والمجرور والقول لا يكون إلا بالأفواه لأن القول يطلق على اللساني والجسماني فتقييده بأفواههم تقييد لأحد محتمليه وقيل لمجرد التأكيد وما اسم موصول مفعول به وجملة ليس في قلوبهم صلة ما وفي قلوبهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ليس (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير انه تعالى عليم بما يكتمونه من نفاق أو بما كانوا يبيتونه في الخفاء ولك أن تجعلها حالية والله مبتدأ وأعلم خبر وبما جار ومجرور متعلقان بأعلم وجملة يكتمون صلة ما.
[سورة آل عمران (3) : آية 168]
الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)(2/104)
الإعراب:
(الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا) الذين اسم موصول لك في إعرابه وجوه متساوية منها أن تعربه بدلا من اسم الموصول في الآية المتقدمة أي الذين نافقوا أو من الواو في نافقوا أو تنصبه على الذّمّ بفعل محذوف تقديره أذمّ وهو شائع في كلامهم ويدل على تجسيد وتصوير ولك أن ترفعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف فتكون الجملة مستأنفة وجملة قالوا صلة ولاخوانهم جار ومجرور متعلقان بقالوا والواو يجوز فيها أن تكون حالية أو عاطفة والجملة اما حالية من الواو في قالوا وقد مقدرة واما معطوفة على جملة قالوا (لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) لو شرطية وأطاعونا فعل ماض وفاعل ومفعول به وما نافية وقتلوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل وجملة ما قتلوا لا محل لها لانها جواب شرط غير جازم وجملة لو أطاعونا في محل نصب مقول القول (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الجملة مستأنفة وقل فعل أمر والفاء هي الفصيحة أي إذا صحّت دعواكم فادرءوا عن أنفسكم أي ادفعوا وعن أنفسكم جار ومجرور متعلقان بادرءوا والموت مفعول به وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وصادقين خبر كنتم وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فادرءوا الموت إن كنتم صادقين في دعواكم ان القعود ينجي صاحبه ولا يقال إن الإنسان يدفع عن نفسه العارض قبل حلول الاجل إذا أخذ بأسباب التوقي فذلك إرجاف لا ينفق مع قوله تعالى «فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون» .(2/105)
الفوائد:
(لَوْ) في الكلام ضربان: مصدرية وشرطبة.
آ- المصدرية هي التي يحسن في موضعها ان المصدرية وأكثر ما تقع بعد ودّ أو ما في معناه كقوله تعالى «يود أحدهم لو يعمر ألف سنة» .
ب- الشرطية هي للتعليق في الماضي كما أن إن في المستقبل ومن ضرورة كون التعليق في الماضي أن يكون شرطها منفيّ الوقوع لأنه لو كان ثابتا لكان الجواب كذلك واما جوابها فان كان مساويا للشرط في العموم كما في قولك: لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا فلا بد من انتفائه أيضا وإن كان أعم من الشرط كما في قولك: لو كانت الشمس طالعة لكان الضوء موجودا فلا بد من انتفاء القدر المادي منه للشرط ولذلك تسمع النحاة يقولون: لو حرف امتناع لامتناع أي يدل على امتناع الجواب لامتناع الشرط ولا يرون انها تدل على امتناع الجواب مطلقا لتخلفه في نحو: لو ترك العبد سؤال ربه لأعطاه. وإنما يريدون انها تدل على انتفاء المساوي من جوابها للشرط والأولى أن يقال: لو حرف شرط يقتضي نفي ما يلزم من ثبوته ثبوت غيره فينبه على انها تقتضي لزوم شيء لشيء وكون الملزوم منفيا ولا يتعرض لنفي اللازم مطلقا ولا لثبوته لأنه غير لازم من معناها وسيرد بحث ممتع عند قوله تعالى: «ولو ان ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله» فانتظر واقرأ العجيب من هذه اللغة الشريفة.(2/106)
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 170]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
الإعراب:
(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً) كلام مستأنف مسوق لاخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأمته بمصائر الشهداء ولئن كان الكلام خاصا بشهداء أحد فلا ينتفي عنه العموم وقد سبق القول في شهداء بدر وما نزل فيهم وهو قوله تعالى «ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله» الآية والواو استئنافية ولا ناهية وتحسبنّ فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في محل جزم بلا الناهية وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والذين اسم موصول مفعول به أول وأمواتا مفعول به ثان (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) بل حرف عطف يعطف جملة على جملة وأحياء خبر لمبتدأ محذوف أي هم أحياء وليست بل التي تعطف مفردا على مفرد لأن المعنى يختل إذ يصير لا تحسبنهم أحياء بل الغرض الإعلام بحياتهم ترغيبا في الجهاد وحثّا عليه وعند ربهم ظرف متعلق بيرزقون ويجوز أن تعلقه بمحذوف خبر ثان ويجوز أن تعلقه بمحذوف صفة وهذه الوجوه متساوية الرجحان وجملة يرزقون في محل رفع خبر ثالث أو ثان (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) فرحين حال من الضمير في يرزقون وبما جار ومجرور(2/107)
متعلقان بفرحين وجملة آتاهم الله صلة ما الموصولية ومن فضله جار ومجرور متعلقان بآتاهم ولك أن تعتبر من تبضيعية فتعلقها مع مجرورها بمحذوف حال (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) الجملة معطوفة على فرحين من جهة المعنى فهي حال لأن الصفة المشبهة تشبه المضارع وبالذين جار ومجرور متعلقان بيستبشرون وجملة لم يلحقوا بهم صلة الذين ومن خلفهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الواو في لم يلحقوا (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن المحذوف والمصدر المؤول من ان وما في حيزها منصوب بنزع الخافض أي بأن لا خوف عليهم والجار والمجرور متعلقان بمحذوف بدل اشتمال من الذين أي ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوهم خلفهم أحياء في الدنيا من المؤمنين ولا يخفى ما في هذا الاستبشار من إلهاب للرغبة في الجهاد ولا نافية للجنس مهملة وخوف مبتدأ وعليهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ولا هم يحزنون عطف عليه وقد تقدم اعراب نظائره فلذلك اجتزأنا بما تقدم.
البلاغة:
1- الطباق بين أموات وأحياء وهي مطابقة بلغت الغاية في تصوير شهداء معركة أحد والشهداء الذين يستشهدون في معمعان الجهاد وقد خولف الإعراب بين المتعاطفين في الظاهر للدلالة على أنّ الموت أمر طارئ يعقبه الهمود والاندثار وعدم تجدد الذكر أما الرفع وجعله جملة اسمية فهو أبلغ في الدلالة على الديمومة وطروء الذكر وتجدده كل يوم وقد وردت أحاديث تجسد الموقف البديع.(2/108)
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
2- مراعاة النظير وهو فن بديع جميل تفنن علماء البلاغة في تسميته فسماه بعضهم التناسب والتوفيق وسماه آخرون الائتلاف والمؤاخاة وحده أن يجمع الناظم والناثر بين أمر وما يناسبه سواء أكانت المناسبة لفظا أم معنى فقد ناسب سبحانه بين فرحين ويستبشرون وبين عدم الخوف وعدم الحزن وبين النعمة والفضل.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 171 الى 172]
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
الإعراب:
(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ) كرر الفعل للتأكيد والجملة استئنافية مسوقة للتأكيد ولك أن تجعلها تأكيدا لسابقتها أو بدلا منها وبنعمة جار ومجرور متعلقان بيستبشرون ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لنعمة وفضل عطف على نعمة (وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة وان واسمها وجملة لا يضيع خبرها (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) اسم الموصول مبتدأ ولك أن تنصبه بفعل محذوف على المدح أو تجره على انه صفة للمؤمنين وجملة استجابوا صلة الموصول ولله جار ومجرور متعلقان باستجابوا والرسول عطف على الله (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) من بعد جار ومجرور متعلقان(2/109)
بمحذوف حال وما مصدرية وأصابهم القرح فعل ومفعول به وفاعل وما المصدرية وما في حيزها في تأويل مصدر مضاف لبعد (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) للذين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وجملة أحسنوا صلة ومنهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال واتقوا عطف على أحسنوا وأجر مبتدأ مؤخر وعظيم صفة وجملة للذين خبر الذين في قوله: الذين استجابوا، إذا أعربت الذين مبتدأ، أو حالية.
غزوة حمراء الأسد:
الذين استجابوا لله والرسول هم الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم المؤمنون الذين ساهموا في الحرب بمعركة أحد ويقول التاريخ: حمراء الأسد هي على ثمانية أميال من المدينة على يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة وكانت هذه الغزوة صبيحة يوم الأحد لست عشرة مضت أو ثمان خلون من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة لطلب عدوهم بالأمس ونادى مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يخرج معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس أي من شهد معركة أحد فخرج معه جميع من شهدها من المؤمنين الخلّص، وكانوا ستمائة وثلاثين وأقام بها صلى الله عليه وسلم الاثنين والثلاثاء والأربعاء وكان قد أصابهم القرح بسبب ما نالهم في أحد فتسارعوا يحفزهم حبّ الثأر فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الاجر ويحققوا الهدف المرجوّ وساور المشركين الرعب فلم ينهدوا لقتال ولم يبرزوا الى ميدان بل قبعوا في مكة لائذين بأذيال الخوف والنجاة ثم رجع النبي وصحابته الى المدينة يوم الجمعة ولم يستغرق نهوده للمشركين إلا خمسا.(2/110)
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 173 الى 175]
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
الإعراب:
(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) الذين بدل أو صفة ثانية ل: الذين استجابوا ولكن يشكل على هذا الإعراب أن الذين استجابوا لله والرسول هم الذين حضروا معركة أحد وهؤلاء الذين وقع لهم هذا القول المذكور هم مطلق المؤمنين فتتعذر البدلية أو الوصفية وتفاديا لهذا الاشكال نرى من الأولى أن نعرب الموصول منصوبا بفعل محذوف على المدح والتقدير امدح وجملة قال صلة الموصول ولهم جار ومجرور متعلقان بقال والناس فاعل (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) الجملة مقول القول وإن واسمها وقد حرف تحقيق وجملة جمعوا خبر إنّ ولكم جار ومجرور متعلقان بجمعوا والفاء الفصيحة واخشوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به (فَزادَهُمْ إِيماناً) الفاء عاطفة وزاد عطف على قال والفاعل ضمير مستتر مفهوم من قال لهم أي زادهم القول وايمانا مفعول به ثان ويجوز إعرابه تمييزا (وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) وقالوا عطف على زادهم وحسبنا خبر مقدم ونا مضاف اليه والله مبتدأ مؤخر ونعم الواو(2/111)
حالية ولك أن تجعلها استئنافية ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح والوكيل فاعل والمخصوص بالمدح هو الله تعالى (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ) الفاء عاطفة وجملة انقلبوا معطوفة على مقدر مفهوم من سياق الكلام أي وخرجوا مع النبي فانقلبوا وبنعمة جار ومجرور متعلقان بانقلبوا أو بمحذوف حال ومن الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة وفضل عطف على نعمة (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) الجملة حالية ويمسسهم فعل مضارع مجزوم بلم والهاء مفعول به وسوء فاعل (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ)
الجملة عطف على جملة انقلبوا (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) الواو استئنافية والله مبتدأ وذو فضل خبر وعظيم صفة (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) كلام مستأنف مسوق لبيان القائل وانما كافة ومكفوفة وذلكم مبتدأ والشيطان مبتدأ ثان وجملة يخوف خبر الشيطان والمبتدأ الثاني وخبره خبر اسم الاشارة ويجوز أن نعرب ذلكم مبتدأ والشيطان بدلا من ذلكم وجملة يخوف خبر ذلكم ويجوز أيضا أن نعرب ذلكم مبتدأ والشيطان خبره وجملة يخوف أولياءه مستأنفة أو حالا. (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الفاء هي الفصيحة أي إذا وثقتم بهذا فلا تخافوهم وخافون عطف على لا تخافوهم والواو فاعل والنون للوقاية وحذفت ياء المتكلم جوازا باتفاق القراء السبعة في الرسم، وإن شرطية، كنتم كان واسمها وفعل الشرط في محل جزم بإن، والجواب محذوف دل عليه ما قبله، ومؤمنين خبر كنتم.
البلاغة:
1- العموم والخصوص في ذكر الناس عامة بعد ذكر الخاصة وهم الذين استهموا في غزوة أحد من اطلاق العام وإرادة الخاص.(2/112)
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
2- اللف والنشر المرتب في قوله: بنعمة من الله وفضل مع طي ذكر الملفوف والمنشور وهما السلامة بالأجسام التي تعود الى النعمة والربح بالتجارة الذي يعود الى الفضل.
[سورة آل عمران (3) : آية 176]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176)
اللغة:
(يَحْزُنْكَ) بفتح الياء وضم الزاي لغة في أحزنه وبهما قرئ ومثله فتنه وأفتنه فهما لغتان فاشيتان لثبوتهما بطريق التواتر.
الإعراب:
(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) كلام مستأنف مسوق للمبالغة في تسليته صلى الله عليه وسلم والواو استئنافية ولا ناهية ويحزنك فعل مضارع مجزوم بلا والكاف مفعول به والذين فاعل وجملة يسارعون صلة الموصول وفي الكفر جار ومجرور متعلقان بيسارعون لتضمينها معنى يقعون (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً) الجملة تعليلية لا محل لها للايذان بأن مضارتهم للنبي صلى الله عليه وسلم بمثابة مضارّته سبحانه وفي ذلك مسلاة له ومدعاة له الى اطراح الحزن جملة. ومن حق الرسول أن يحزن لنفاق من نافق وارتداد من ارتد وهذه عظة بالغة للاعتداد بالنفس والثقة والاحتفاظ بالشخصية ورباطة الجأش عند نزول المصيبة وإن واسمها وجملة لن يضروا الله خبرها(2/113)
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
وشيئا مفعول مطلق أي شيئا من الضرر (يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) الجملة مستأنفة ويريد الله فعل وفاعل وان وما في حيزها مصدر مؤول مفعول به ليريد وحظا مفعول يجعل الاول ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف مفعول به ثان وفي الآخرة جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) الجملة مستأنفة أيضا للمبالغة في امتهانهم ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وعظيم صفة لعذاب.
البلاغة:
التنكير في قوله شيئا فإن التنوين يزيد النكرة شياعا وتنكيرا وقلة وحقارة وذلك لتأكيد ما هم عليه من القلة والحقارة وضآلة الشأن.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 177 الى 178]
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)
اللغة:
(نُمْلِي لَهُمْ) نتركهم وشأنهم وأمليت له في الأمر أخّرت وأمليت للبعير في القيد: أرخيت له ووسعت.(2/114)
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) كلام مستأنف لتعميم الحكم على الكفار والمرتدين بعد أن كان خاصا بالمنافقين وإن واسمها وجملة اشتروا صلة الموصول والكفر مفعول به وبالايمان جار ومجرور متعلقان باشتروا (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً) تقدم اعرابها بحروفها والجملة خبر إن (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تقدم اعرابها (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الواو عاطفة على قوله ولا يحزنك أو استئنافية ولعلها أولى لتعميم الحكم ولا ناهية ويحسبن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم بلا والذين فاعل وجملة كفروا صلة (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) ان حرف مشبه بالفعل وما مصدرية مؤولة مع الفعل بعدها بمصدر هو اسم ان أي ان املاءنا ويجوز أن تكون موصولة فتكون اسمها وكان من حقها أن تكتب مفصولة من ان ولكن طريقة المصحف كتابتها موصولة بها ولهم جار ومجرور متعلقان بنملي وخير خبر ان ولأنفسهم جار ومجرور متعلقان بخير وان وما بعدها سدت مسد مفعولي يحسبن (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) الجملة مستأنفة بمثابة التعليل للجملة التي قبلها فهي علة الاملاء ونملي فعل مضارع ولهم جار ومجرور متعلقان بنملي واللام لام التعليل ويزدادوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والواو فاعل واثما تمييز والجار والمجرور «لام التعليل والمصدر المؤول» متعلقان بنملي (وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) تقدم اعرابها.
البلاغة:
1- الاستعارة المكنية في اشتراء الكفر بالايمان وقد تقدم القول في هذا.(2/115)
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
2- الاستعارة التصريحية في الاملاء فقد شبه إمهالهم وترك الحبل لهم على غواربهم بالفرس الذي يملى له الحبل ليجري على سجيته ويرتقي كيف يشاء فحذف المشبه وهو الامهال والترك وأبقى المشبه به وهو الاملاء.
[سورة آل عمران (3) : آية 179]
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
اللغة:
(يذر) و (يدع) فعلان مضارعان أمات العرب ماضيهما فلم يأت منهما إلا المضارع والأمر ومعناهما الترك وقال علماء العربية:
أن كلمتي ذر ودع في معنى الترك إلا أن دع أمر للمخاطب بترك الشيء قبل العلم به وذر أمر له بتركه بعد ما علمه، روي أن بعض الأئمة سأل الامام الرازي عن قوله تعالى: «أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين» لم لم يقل وتدعون أحسن الخالقين وهو أقرب من الفصاحة للمجانسة بينهما فقال الامام: لأنهم اتخذوا الأصنام آلهة وتركوا الله بعد ما علموا أن الله ربهم وربّ آبائهم الأولين، استكبارا فلذلك قيل لهم: وتذرون ولم يقل وتدعون، هذا وقد ورد في الحديث الشريف مصدر يدع قال: «لتنهين أقوام من ودعهم الجمعات» أي عن تركها.(2/116)
(يَمِيزَ) مضارع ماز أي عزل هذا عن ذاك.
(يَجْتَبِي) يختار ويصطفي.
الإعراب:
(ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) كلام مستأنف لبيان أن الله سبحانه عالم بكل شيء وهو لا يترك عباده على ما هم عليه من اختلاط في الأمر والتباس فيما يعانونه من شئون، وما نافية وكان فعل ماض ناقص والله اسمها وليذر اللام لام الجحود وهي المسبوقة بكون منفي وقد تقدّم ذكرها ويذر فعل مضارع منصوب بأن مقدرة وجوبا بعد لام الجحود الجارة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر كان والتقدير لم يكن الله مريدا تركهم على حالة من الاختلاط والالتباس، والمؤمنين مفعول به (عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) والجار والمجرور متعلقان بيذر وأنتم مبتدأ وعليه خبره وجملة أنتم عليه صلة ما الموصولية (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) حتى حرف غاية وجر ويميز فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والجار والمجرور متعلقان بالخبر المحذوف أي مريدا تركهم والخبيث مفعول به ومن الطيب جار ومجرور متعلقان بيميز (وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) تقدم اعرابها (وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) الواو عاطفة ولكن حرف مشبه بالفعل بمعنى الاستدراك والله اسمها وجملة يجتبي خبرها ومن رسله جار ومجرور متعلقان بيجتبي ومن اسم موصول مفعول به وجملة يشاء صلة الموصول (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) الفاء الفصيحة وآمنوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وبالله جار ومجرور متعلقان بآمنوا ورسله معطوف على الله والجملة لا محل لها لانها جواب شرط غير جازم وهو الذي(2/117)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
وقعت الفاء في جوابه (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) الواو استئنافية وإن شرطية وتؤمنوا فعل الشرط وتتقوا عطف على تؤمنوا، فلكم الفاء رابطة لجواب الشرط ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وأجر مبتدأ مؤخر وعظيم صفة والجملة في محل جزم جواب الشرط.
[سورة آل عمران (3) : آية 180]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
الإعراب:
(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) كلام مستأنف مسوق للشروع في ذم البخل وتقرير جزاء الباخلين ولك أن تجعل الواو عاطفة فيكون الكلام منسوقا على ما تقدم ولا ناهية ويحسبن فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا والذين اسم موصول فاعل وجملة يبخلون صلة الموصول (بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) بما جار ومجرور متعلقان بيبخلون وجملة آتاهم الله صلة ما الموصولية ومن فضله جار ومجرور متعلقان بآتاهم والمفعول الاول ليحسبن محذوف دلّ عليه سياق الكلام أي البخل وهو ضمير متصل لا محل له وخيرا مفعول يحسبن الثاني ولهم جار ومجرور متعلقان بخير وسيرد بحث شيق عن قراءة تحسبن في باب الفوائد (بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ)
بل حرف إضراب وعطف وهو مبتدأ وشر خبر ولهم جار ومجرور متعلقان بشر (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الجملة تفسيرية لقوله هو شر(2/118)
لهم ولك أن تجعلها مستأنفة بمثابة التعليل والسين حرف استقبال يفيد التوكيد ويطوقون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وما اسم موصول منصوب بنزع الخافض أي بما بخلوا به. وبه جار ومجرور متعلقان ببخلوا ويوم القيامة ظرف زمان متعلق بيطوقون ولك أن تعلقه بمحذوف حال (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الواو استئنافية ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وميراث السموات مبتدأ مؤخر والأرض عطف على السموات (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وبما جار ومجرور متعلقان بخبير وجملة تعملون صلة الموصول وخبير خبر.
البلاغة:
في هذه الآية:
1- الطباق بين خير وشر وبين السموات والأرض فالكلام مقابلة.
2- الالتفات: فقد انتقل من الغيبة الى الخطاب بقوله تعملون زيادة في النكال وتأكيدا للوعيد والانذار.
الفوائد:
1- قرئ ولا تحسبن بالتاء فلا حذف في الكلام لأن الذين هو المفعول الاول وخيرا هو المفعول الثاني ويرد على هذا إشكال وهو أن أصل مفعولي حسب وأخواتها المبتدأ والخبر ولا يظهر ذلك في الآية لعدم صحة الحمل، والجواب عن هذا الاشكال أن في الاية إيجازا(2/119)
والتقدير ولا تحسبن بخل الذين يبخلون بإظهار ما آتاهم الله هو خيرا لهم فيتم تقدير الكلام.
2- حذف أحد مفعولي القلوب يكون للاختصار إذا كان هناك دليل عليه وقد أجازه الجمهور واستدلوا عليه بالآية وبقول عنترة العبسي:
ولقد نزلت فلا تظنّي غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم
والتقدير: فلا تظني غيره مني واقعا فحذف المفعول الثاني ومنعه بعضهم وقالوا: ان المفعول به الثاني هو قوله مني تنازعه نزلت وتظنّي وفي الباب الخامس من مغني اللبيب بحث ممتع نلخصه بما يلي: جرت عادة النحويين أن يقولوا: يحذف المفعول به اختصارا واقتصارا ويريدون بالاختصار الحذف لدليل وبالاقتصار الحذف لغير دليل ويمثلونه بنحو كلوا واشربوا أي أوقعوا هذين الفعلين وقول العرب:
«من يسمع يخل» أي تكن منه خيلة والتحقيق أن يقال: انه تارة يتعلق الغرض بالاعلام بمجرد وقوع الفعل من غير تعيين من أوقعه أو من أوقع عليه فيجاء بمصدره مسندا الى فعل كون عام فيقال: حصل حريق أو نهب وتارة يتعلق بالاعلام بمجرد إيقاع الفاعل للفعل فيقتصر عليهما ولا يذكر المفعول ولا ينوى إذ المنويّ كالثابت ولا يسمى محذوفا لأن الفعل ينزل لهذا القصد منزلة ما لا مفعول له ومنه «ربي الذي يحيي ويميت» «وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون» و «كلوا واشربوا ولا تسرفوا» الى آخر هذا البحث فارجع اليه.(2/120)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 182]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182)
الإعراب:
(لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا) كلام مستأنف مسوق لبيان نماذج من أراجيف اليهود وكذبهم وافتئاتهم على الله واللام جواب لقسم محذوف وقد حرف تحقيق وسمع فعل ماض والله فاعله وقول مفعوله والذين اسم موصول مضاف اليه وجملة قالوا صلة الموصول (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) الجملة مقول القول وان واسمها وخبرها ونحن الواو عاطفة ونحن مبتدأ وأغنياء خبر والجملة معطوفة على ما قبلها (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) الكلام مستأنف والسين حرف استقبال وما اسم موصول مفعول به لنكتب وجملة قالوا صلة لا محل لها ويجوز أن تكون مصدرية أي قولهم ولعله أولى والجملة صلة للموصول الحرفي (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) الواو عاطفة وقتل معطوف على ما أو على المصدر المؤول والهاء ضمير في محل جر بالاضافة والأنبياء مفعول به للمصدر الذي هو القتل وبغير حق جار ومجرور متعلقان بمحذوف في موضع نصب على الحال (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) الواو عاطفة وجملة ذوقوا في محل نصب مقول القول وعذاب الحريق مفعول ذوقوا (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) الجملة مستأنفة لا محل لها واسم الاشارة مبتدأ وبما جار ومجرور متعلقان(2/121)
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
بمحذوف خبر وجملة قدمت صلة الموصول وأيديكم فاعل قدمت (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) الواو حرف عطف وان ما في حيزها في محل رفع عطفا على الخبر وان واسمها وجملة ليس في محل رفع خبر أن واسم ليس ضمير مستتر وبظلام الباء حرف جر زائد وظلام مجرور لفظا في محل نصب خبر ليس ولك أن تجعل الواو استئنافية وجملة أن وما بعدها في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أي والأمر أن الله إلخ وهو جيد.
البلاغة:
1- الاستعارة المكنية في قوله ذوقوا عذاب الحريق وقد تقدمت الاشارة إليها بحروفها.
2- الطباق بين فقير وأغنياء.
3- المجاز المرسل في أيديكم إذ المراد سيئاتكم والعلاقة هي السببية لأن اليد هي السبب فيما يقترفه الإنسان من أعمال.
[سورة آل عمران (3) : آية 183]
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183)
الإعراب:
(الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا) الذين بدل من الموصول السابق(2/122)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
في قوله: لقد سمع الله قول الذين أو نعت له أو خبر لمبتدأ محذوف فتكون الجملة مستأنفة وجملة قالوا صلة الموصول وجملة إن الله إلخ في محل نصب مقول القول وان واسمها وجملة عهد خبرها وإلينا جار ومجرور متعلقان بعهد (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ) أن المصدرية وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي أمرة في التوراة بأن لا تؤمن لرسول والرسول جار ومجرور متعلقان بنؤمن (حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) حتى حرف غاية وجر ويأتينا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به وبقربان جار ومجرور متعلقان يأتينا وجملة تأكله النار صفة لقربان وال في النار للعهد أي المعهودة لديهم بأنها تنزل من السماء والتفاصيل يرجع إليها في المطولات (قُلْ: قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي) الكلام مستأنف مسوق لتوبيخهم على الكذب والافتئات وقل فعل أمر وفاعله أنت وجملة قد جاءكم في محل نصب مقول القول ورسل فاعل ومن قبلي جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرسل (بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) الجار والمجرور متعلقان بجاءكم وبالذي عطف على قوله بالبينات وجملة قلتم صلة الموصول (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الفاء عاطفة واللام حرف جر وما الاستفهامية المحذوفة الألف في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بقتلتموهم وقتلتموهم فعل وفاعل ومفعول به والواو لاشباع حركة الميم وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسم كان وصادقين خبرها وجواب الشرط محذوف تقديره فلم قتلتموهم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 184 الى 185]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)(2/123)
اللغة:
(مَتاعُ الْغُرُورِ) المتاع: كل ما استمتع به الإنسان من مال وغيره والغرور: مصدر غرّ أي خدع، والغرور الباطل.
الإعراب:
(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) كلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم، والفاء استئنافية وإن شرطية وكذبوك فعل وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط، فقد: الفاء رابطة للجواب وقد حرف تحقيق وكذب فعل ماض مبني للمجهول ورسل نائب فاعل ومن قبلك جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لرسل (جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) الجملة صفة لرسل وبالبينات جار ومجرور متعلقان بجاءوا وما بعده عطف عليه والمنير صفة للكتاب (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) كلام مستأنف مسوق ليكون تتمة لتسليته صلى الله عليه وسلم، وكل نفس مبتدأ وذائقة الموت خبره (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الواو حالية أو استئنافية وإنما كافة ومكفوفة وتوفون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل(2/124)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
وأجوركم مفعول به ثان ويوم القيامة ظرف زمان متعلق بتوفون (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) الفاء استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وزحزح فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وهو مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وعن النار جار ومجرور متعلقان بزحزح وأدخل عطف على زحزح ونائب الفاعل مستتر والجنة منصوب بنزع الخافض والفاء رابطة لجواب الشرط وقد حرف تحقيق وفاز فعل ماض والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر «من» (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) الواو استئنافية وما نافية والحياة مبتدأ والدنيا صفة وإلا أداة حصر ومتاع الغرور خبر.
البلاغة:
في الآية تشبيه بليغ، فقد شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به بائعه على طالبه حتى ينخدع ويشتريه. وقد أخرج سبحانه الكلام بهذا التشبيه مخرج الإنكار على من جعل ديدنه الاغترار بالدنيا وتلمّظ أفاويقها، وهي في الواقع لا نفع فيها ولا طائل تحتها، وأية فائدة ترجى من الشيء الذي يعتوره الفناء؟!
[سورة آل عمران (3) : آية 186]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)(2/125)
اللغة:
(عَزْمِ الْأُمُورِ) : أي معزوماتها فجعل المصدر بمعنى اسم المفعول
الإعراب:
(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) اللام موطئة للقسم وتبلونّ فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النّون المحذوفة لتوالي الأمثال وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين ضمير متصل في محل رفع فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة وفي أموالكم جار ومجرور متعلقان بتبلون وأنفسكم عطف على أموالكم والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب قسم مقدر وجملة القسم مستأنفة مسوقة للشروع في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين عما سيستهدفون له من المكاره، وفائدة التسلية توطين النفس على احتمال المكاره عند وقوعها والاستعداد للنتائج مهما تكن (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الواو عاطفة واللام جواب قسم مقدر أيضا وتسمعن تعرب مثل تبلون ومن الذين جار ومجرور متعلقان بتسمعنّ وجملة أوتوا صلة الموصول والواو في أوتوا نائب فاعل والكتاب مفعول به ثان ومن قبلكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) ومن الذين جار ومجرور معطوفان على «من الذين أوتوا الكتاب» وهما متعلقان بتسمعن وأذى مفعول به لتسمعن وكثيرا صفة (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) الواو عاطفة وإن شرطية وتصبروا فعل الشرط وتتقوا عطف على تصبروا فإن الفاء رابطة لجواب الشرط وإن حرف مشبه(2/126)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
بالفعل وذلك اسمها ومن عزم الأمور جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها والجملة المقترنة بالفاء لا محل لها من الإعراب لأنها بمثابة تعليل لجواب الشرط المحذوف واقع موقعه والتقدير: وإن تصبروا وتتقوا فهو خير لكم أو فقد أحسنتم أو أصبتم شاكلة الصواب، ولك أن تجعلها هي الجواب وتكون الإشارة الى صبر المخاطبين.
[سورة آل عمران (3) : آية 187]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187)
اللغة:
(النّبذ) الطّرح وراء الظهر. مثل في ترك الاعتداد بالشيء والإعراض عنه بالكلية. وقد تقدم مستوفى في سورة البقرة، كما تقدم القول في أن بعض العلماء جعله من أفعال التحويل كما سيأتي.
الإعراب:
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) كلام مستأنف مسوق لبيان كتمانهم شواهد نبوّته ومخايل صدقه. والواو استئنافية وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بمحذوف أي: اذكر وقت أخذ الله الميثاق. وأخذ فعل ماض والله فاعل وميثاق الذين مفعول به والجملة في محل جر بالاضافة وجملة: أوتوا الكتاب صلة الموصول والواو(2/127)
نائب فاعل والكتاب مفعول به ثان (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) اللام جواب للقسم الذي يدل عليه أخذ الميثاق، كأنه قال لهم: بالله لتبيننه. وقرىء بالياء. وتبيننه فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وقد تقدمت له نظائر وما بالعهد من قدم. وللناس جار ومجرور متعلقان ب «تبينّنه» ولا تكتمونه الواو عاطفة وتكتمونه جملة معطوفة على تبيننه، ولك أن تجعل الواو حالية فتكون الجملة نصبا على الحال (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) الفاء عاطفة ونبذوه فعل وفاعل ومفعول به ووراء ظهورهم نصب على المفعولية الثانية كما تقدم في سورة البقرة، وأعربه الكثيرون ظرفا، ولم يشترطوا كون الفاعل مستقرا مع الظرف (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا) الواو عاطفة واشتروا عطف على نبذوه وبه جار ومجرور متعلقان باشتروا وثمنا مفعول به وقليلا صفة (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) الفاء استئنافية وبئس فعل ماض جامد لانشاء الذم وما نكرة تامة منصوبة على التمييز وقد ميزت فاعل بئس. ويجوز أن تكون مصدرية مؤولة مع الفعل بمصدر هو الفاعل أي: شراؤهم، وقد تقدمت.
والمخصوص بالذم محذوف أي: هذا.
البلاغة:
1- الالتفات، فقد انتقل من الغيبة في قوله «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب» الى الخطاب في قوله: «لتبيننه» ثم عاد الى الغيبة، والفائدة من ذلك زيادة التسجيل المباشر عليهم.
2- الاستعارة المكنية في اشتروا به، وقد تقدمت.(2/128)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
[سورة آل عمران (3) : آية 188]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188)
اللغة:
(المفازة) مكان الفوز والنجاة، ويجوز أن تكون مصدرا ميميا. وسميت الصحراء مفازة تفاؤلا بالسلامة والفوز.
الإعراب:
(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) كلام مستأنف مسوق لبيان غفلتهم وانسياقهم مع أوهامهم. ولا ناهية وتحسبن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت والذين مفعول به وجملة يفرحون صلة الموصول وبما جار ومجرور متعلقان بيفرحون وجملة أتوا لا محل لها لأنها صلة الموصول (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) ويحبون معطوف على يفرحون وأن وما في حيزها مصدر مؤول في محل نصب مفعول به وبما جار ومجرور متعلقان بيحمدوا ولم حرف نفي وقلب وجزم ويفعلوا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والجملة صلة الموصول (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) الفاء زائدة لتحسين اللفظ وقد أنشدوا على زيادة الفاء في مثل هذا التركيب قول الشاعر:
وحتى تركت العائدات يعدنه ... يقلن فلا تبعد وقلت له ابعد(2/129)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
أي: لا تبعد، هكذا أعربها المعربون، وتبعهم المفسرون.
وأرى أنها الفصيحة، وهي تسبق عادة جملة التطرية لنشاط القارئ بعد حذف المفعول الثاني لتحسبن الأولى، أي لا تحسبنهم ناجين.
وإذا شئت أن تتأكد مصيرهم تماما فلا تحسبنهم. وبمفازة جار ومجرور في موضع المفعول الثاني لتحسبنهم ومن العذاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفازة إن اعتبرت اسم مكان وبمفازة إن اعتبرت مصدرا ميميا (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الواو استئنافية ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم نعت.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 189 الى 191]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191)
الإعراب:
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الواو عاطفة ولله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ملك مبتدأ مؤخر والسموات مضاف إليه والأرض عطف على السموات (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الواو عاطفة والله مبتدأ وعلى كل شيء جار ومجرور متعلقان يقدير وقدير خبر (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لبيان(2/130)
قدرته سبحانه ووجوده وعلمه. وإن حرف مشبه بالفعل وفي خلق السموات والأرض جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر إن المقدم (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) عطف على خلق (لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) اللام المزحلقة وآيات اسم إن المؤخر ولأولي الألباب جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لآيات (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) الذين صفة لأولي الألباب وجملة يذكرون الله صلة وقياما وقعودا حالان وعلى جنوبهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي:
مضطجعين، والمعنى يذكرونه في جميع الأحوال قياما وقعودا ومضطجعين. وللفقهاء استدلالات وإيماءات بارعة، ومن طريف حجج الشافعي أنه استدل بها على إضجاع المريض على جنبه في الصلاة (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لك أن تجعل الواو عاطفة فتكون الجملة معطوفة على سابقتها فتكون داخلة في حيز الصلة، ولك أن تجعل الواو حالية فتكون الجملة نصبا على الحال (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا) ربنا منادى مضاف ولا بد من تقدير قول. أي:
يقولون ربنا، فالجملة نصب على الحال وما نافية وخلقت فعل وفاعل وهذا مفعول به وباطلا منصوب بنزع الخافض أي بالباطل أو نعت لمصدر محذوف أي خلقا باطلا، أو حالا من هذا، ورجح أبو حيان هذا الوجه على غيره. وعندنا أنها متساوية الرجحان (سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) سبحانك مفعول مطلق وهو مع فعله المحذوف جملة معترضة لا محل لها. فقنا الفاء عاطفة للترتيب أي: نزهناك فقنا.
ولك أن تجعلها الفصيحة لمعنى الجزاء المقدر أي: إذا شئت جزاءنا فقنا. وق فعل أمر ونا مفعول به أول وعذاب النار مفعول به ثان.(2/131)
البلاغة:
1- الطباق: الذي جمع حالات الإنسان الثلاث في الصلاة، وهي القيام والقعود والاضطجاع على الجنب، كما يقول الشافعي، أو الاستلقاء، لأنه أخف، كما يقول أبو حنيفة.
2- المجاز المرسل بعلاقته المحلية، فقد ذكر السموات والأرض، ومراده ما فيهما من أجرام عظيمة بديعة الصنع صالحة للاستغلال في سبيل النفع الانساني الشامل.
3- الإيجاز في قوله: ويتفكرون في خلق السموات والأرض، حيث انطوى تحت هذا الإيجاز كل ما تمخض عنه العلم من روائع المكتشفات وبدائع المستنبطات. وفي الحديث: لا عبادة كالتفكر.
فلسفة الافكار لديكارت:
ولا مندوحة لنا هنا عن الاشارة الى أن فلسفة ديكارت الفرنسي عرفت في العصر الحديث بأنها فلسفة الافكار الواضحة المتميزة، كما كانوا يسمونها في القرن السابع عشر. فقد أرادت تلك الفلسفة أن تخلص الفكر من وطأة السلطات أيّا كانت، فلم تقبل دليلا على الحق إلا البداهة العقلية، أي بداهة العقل الذي يراه الفيلسوف أعدل الأشياء قسمة بين الناس، وحظوظ الناس منه متساوية، فلا فرق بين شعب وشعب، ولا تفاضل بين جنس وجنس. وقد كان لديكارت فضل في بناء صرح المذهب العقلي الحديث حين وضع قاعدته المشهورة:
يجب أن لا أقبل شيئا أبدا على أنه حق ما لم يتبين لي ببداهة العقل أنه كذلك، ويجب أن لا أحكم على الأشياء إلا بما يتمثله ذهني بوضوح وتمييز ينتفي معهما كل سبيل الى الشكّ.(2/132)
بين ديكارت ومحمد عبده:
وقد تجلى أثر هذه الفلسفة عند الأستاذ الامام محمد عبده في السنوات الاولى من هذا القرن العشرين إذ لا يخفى أن الدعوة التي نهض بها الامام محمد عبده لإصلاح المجتمع الاسلامي عموما إنما تقوم على اصطناع منهج ديكارت في «الافكار الواضحة المتميزة» وفي تغليبه حكم العقل على أحكام الهوى والعاطفة وفي اصطناعه اليقين والبداهة معيارا لصحة الروايات أو تلفيقها.
تأملات ديكارت:
ومن المفيد أن نلخص تأملات ديكارت الستة وهي:
1- بداهة العقل عند الفيلسوف معيار اليقين، أي العلامة المميزة للمعرفة الصحيحة.
2- فناء الجسم الانساني أمر ممكن ميسور، أما الذهن فباق بطبيعته.
3- فكرة موجود كامل فينا تشمل قدرا من الحقيقة الموضوعية أي تشارك بالتصور في قدر من درجات الوجود والكمال بحيث يلزم أن تصدر عن علة كاملة على الإطلاق.
4- جميع الأشياء التي تتصوّرها تصورا واضحا جدا ومتميزا جدا هي كلها صحيحة، وتتصل بالحقائق العقلية التي يمكن معرفتها بمعونة النور الطبيعي وحده.(2/133)
5- وفي التأمل الخامس يتحدث عن ماهية الأشياء المادية، ثم يعود الى الحديث عن الله ووجوده، وهو يستند الى معيار البداهة.
ولما كان ديكارت عالما رياضيا، وكان المثل الاول للبداهة عنده هو مثل البداهة الرياضية، فهو ينظر الى الفكرة الواضحة التي تكون في أذهاننا عن الله فيجد أن شأنها كشأن المثلّث، وينتهي الى القول:
إن القضيتين مجموع زوايا المثلث يساوي قائمتين، والله موجود هما قضيتان متعادلتان في اليقين.
6- وانتهى ديكارت في التأمل السادس بتمييز فعل الفهم من فعل المخيلة فقال: وأصف علامات التمييز، وفيه أبيّن أن نفس الإنسان متميزة عن الحسم حقا، وأنها مع ذلك ملتئمة معه التئاما ومتحدة به اتحادا يجعلها وإياه شيئا واحدا، وفيه أبسط جميع ضروب الخطأ الناشئة من الحواس، مبينا الوسائل لاجتنابها. وأورد أخيرا جميع الأدلة التي يمكن أن يستنتج منها وجود المادية، لا لأنني أرى لها فائدة كبيرة في إثبات ما نشبته- أعني أن العالم موجود وأن للناس أجساما وما شابه ذلك من أشياء لم يشك فيها قط انسان ذو عقل سليم- بل لأن إنعام النظر فيها يطلعنا على أنها لم تبلغ من المتانة والبداهة مرتبة الأدلة التي توصلنا الى معرفة الله ومعرفة النفس، وبهذا الاعتبار تكون الأدلة الأخيرة أوثق وأبين ما يمكن أن يقع للذهن الانساني من معرفة.
4- المطابقة المتعددة حتى تسمى مقابلة فقد طابق بين السموات والأرض، وبين الليل والنهار، والقيام والقعود.(2/134)
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 192 الى 193]
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193)
الإعراب:
(رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) كلام مستأنف مسوق لتتمة الابتهالات الرقيقة الرائعة التي شرع فيها في خاتمة سورة آل عمران. وربنا منادى مضاف وإنك: إن واسمها، ومن اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدم وتدخل فعل الشرط والنار منصوب بنزع الخافض أو مفعول به ثان على السعة، فقد الفاء رابطة لجواب الشرط لاقتران الجواب بقد وأخزيته فعل وفاعل ومفعول به والجملة المقرونة بالفاء في محل جزم جواب الشرط والجملة في محل رفع خبر إن (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)
الواو استئنافية أو حالية وما نافية وللظالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومن حرف جر زائد وأنصار مجرور لفظا بمن مرفوع بالابتداء محلا، ولك أن تجعل ما حجازية عاملة عمل ليس لأنهم أجازوا تقديم الخبر إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) ربنا منادى مضاف وإن واسمها، وجملة سمعنا خبرها ومناديا مفعول سمعنا وجملة ينادي صفة وللإيمان جار ومجرور متعلقان بينادي. [ويلاحظ أن ضمير المتكلم وهو «نا» استعمل في حالاته الثلاث الجر بالاضافة ل «ربّ» والنصب لأنه اسم إن والرفع على الفاعلية] والجملة كلها مستأنفة مسوقة لتتمة الابتهالات (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) أن(2/135)
مصدرية وآمنوا فعل أمر وأن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض ويكون الجار والمجرور متعلقين بينادي، ويجوز أن تكون أن هي المفسرة، وهي الواقعة بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه، فتكون الجملة لا محل لها. وبربكم جار ومجرور متعلقان بآمنوا فآمنا الفاء حرف عطف للترتيب والتعقيب، مؤذن بتعجيل الانصياع للنداء والايمان من غير مهلة، لأن المنادي هو محمد أو القرآن، وكلاهما حافز الى الامتثال والايمان (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) أعاد النداء استعذابا للترتيب وزيادة في الاستعطاف والابتهال، والفاء في قوله «فاغفر» عاطفة مؤذنة بالإشعار بترتّب المغفرة على الايمان به تعالى والإقرار بربوبيته، وليس هناك أدعى الى المغفرة من ذلك. ولنا جار ومجرور متعلقان باغفر، وذنوبنا مفعول به وكفّر عطف على اغفر، وعنا جار ومجرور متعلقان بكفر، وسيئاتنا مفعول به (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) عطف على ما تقدم وتوف فعل أمر مبني على حذف حرف العلة ونا مفعوله ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف حال والأبرار مضاف اليه.
البلاغة:
في الآية الإطناب، وهو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة بأمور منها:
آ- ذكر الخاص بعد العام للتنبيه على فضل الخاص، ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى «إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها» فذكر الجبال بعد الأرض وهي جزء منها، إطناب يراد به التفخيم والتهويل، باعتبار أن الجبال تروعنا بشموخها ورسوخها، ومع ذلك جبنت عن حمل الامانة.(2/136)
ب- ذكر العام بعد الخاص ومن أمثلته قوله تعالى: «رب اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات» وهما لفظان عامّان يدخل في عمومهما من ذكر قبل ذلك. والغرض من ذلك إفادة الشمول مع العناية بالخاص الذي ذكره مرتين، مرة وحده ومرة مندرجا تحت العام.
ج- الإيضاح بعد الإيهام، ومن أمثلته قوله تعالى: «وقضينا إليه ذلك الأمر: أنّ دابر هؤلاء مقطوع» فقوله: «أن دابر هؤلاء مقطوع» إيضاح للابهام الذي تضمنه لفظ الأمر.
د- التكرير وقد سبقت الاشارة اليه كقول الحسين بن مطير يرثي معن بن زائدة:
فيا قبر معن أنت أول حفرة ... من الأرض خطّت للسماحة موضعا
ويا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البرّ والبحر مترعا
والغاية منه تقرير المعنى في النفس، وهو الأصل. وقد يكون للإنذار كما يرد في خطب الخطباء، أو التحسر كما يصنع الراثون، أو الاستلذاذ كما يفعل الغزلون.
هـ- الاعتراض: وهو أن يؤتى خلال الكلام أو بين كلامين متصلين في المعنى بجملة لا محل لها من الإعراب لفائدة ثانوية كالجملة الدعائية في قول عوف بن محلم الخزاعي:(2/137)
إن الثمانين، وبلغتها ... قد أحوجت سمعي الى ترجمان
فقوله: وبلغتها، جملة دعائية تعطف قلب الممدوح وتتلطف في ذكر المراد، وهو أنه أصمّ لا يسمع كلامه ليرفع صوته. وقد مرت الاشارة اليه.
والاحتراس وهو كل زيادة تجيء لدفع ما يوهمه الكلام مما ليس مقصودا كقول أبي الطيب المتنبي:
إني أصاحب حلمي وهو بي كرم ... ولا أصاحب حلمي وهو بي جبن
ففي البيت إطناب بالاحتراس في موضعين: أولهما في الشطر الاول بذكر «وهو بي كرم» ، وثانيهما في الشطر الثاني بذكر «وهو بي جبن» لدفع ما قد يوهمه الحلم مجردا. وهناك أغراض أخرى ترد الاشارة إليها في مضامين هذا الكتاب. وفي الآية إطناب بالتكرار، وهو الجمع بين «مناديا» و «ينادي» وذلك أنه ذكر النداء في الاول مطلقا ثم ذكره في الثاني مقيدا بالايمان، تفخيما لشأن المنادى، لأنه لا منادي أعظم من مناد يدعو الى الايمان، وهو محمد صلى الله عليه وسلم أو القرآن الذي أنزل عليه. ورجح ابن جرير الطبري أن يكون المنادي هو القرآن، واحتج لذلك بأن كثيرين ممن وصفهم الله بهذه الصفة في هذه الآيات ليسوا ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم فسمعوا دعاءه الى الله تبارك وتعالى ونداءه، ولكنه القرآن.
2- وفي الآية فنّ وضع الظاهر موضع المضمر. فقد كان(2/138)
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
مقتضى الظاهر أن يقال: وما لهم من أنصار أو وماله من أنصار، مراعاة لمعنى «من» أو لفظها، ولكنه أظهر إشعارا بتخصيص الخزي بهم.
الفوائد:
قال أبو حيان: «سمع» إن دخل على مسموع تعدّى لواحد نحو: سمعت كلام زيد، كغيره من أفعال. وإن دخل على ذات وجاء بعده فعل أو اسم في معناه، نحو: سمعت زيدا يتكلم، وسمعت زيدا يقول كذا، ففي هذه المسألة خلاف، منهم من ذهب الى أن ذلك الفعل أو الاسم إن كان قبله نكرة كان صفة لها، أو معرفة كان حالا منها. ومنهم من ذهب الى أن ذلك الفعل أو الاسم هو في موضع المفعول الثاني ل «سمع» وجعل «سمع» مما يتعدى الى واحد إن دخل على مسموع والى اثنين إن دخل على ذات» .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 194 الى 195]
رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)(2/139)
الإعراب:
(رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) كلام معطوف على ما تقدم من ابتهالات وربنا منادى مضاف وآتنا عطف على أفعال الدعاء المتقدمة ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول وما اسم موصول مفعول به ثان وجملة وعدتنا صلة الموصول وعلى رسلك جار ومجرور متعلقان بوعدتنا، ولا بد من حذف مضاف أي: على ألسنة رسلك، أو على تصديق رسلك، ولك أن تعلقهما بمحذوف حال أي:
منزلا على رسلك أو محمولا على رسلك، لأن الرسل محملون ذلك (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) الواو عاطفة ولا ناهية وتخزنا فعل مضارع مجزوم بلا ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به ويوم القيامة ظرف زمان متعلق بتخزنا (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) الجملة تعليلية لا محل لها لتعليل السؤال منهم، وهو باب من أبواب اللجوء الى الله، وإلا فإن الله لا يخلف الميعاد. وإن واسمها، وجملة «لا يخلف الميعاد» خبر إنّ (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) الفاء استئنافية واستجاب فعل ماض ولهم جار ومجرور متعلقان باستجاب وربهم فاعل وأني: ان واسمها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان باستجاب لتبيان السبب كأنه قال: فاستجاب لهم ربهم بسبب أني لا أضيع، وجملة لا أضيع خبر أنّ وعمل عامل مفعول به ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لعامل (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من عامل بعد وصفه أي استقر منكم حاله كونه من ذكر أو أنثى، أو صفة ثانية لعامل. وأعربه أبو البقاء بدلا مطابقا من منكم، وهو سائغ أيضا، وبعضكم مبتدأ ومن بعض جار ومجرور متعلقان(2/140)
بمحذوف خبر، والجملة مستأنفة مسوقة لتبيين شركة النساء مع الرجال في الثواب، وجعلها بعضهم معترضة، وما أحسبها بعيدة، لأنها وقعت بين قوله «عمل عامل» وبين ما فصل به عمل العاملين فصح كونها واقعة بين كلامين متصلين ورجحها الزمخشري (فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) الفاء استئنافية للتفريع وذلك للدلالة على أن الجزاء لا يكون إلا لمن جمع هذه الصفات متعددة، فالجملة مستأنفة لا محل لها والذين مبتدأ وجملة هاجروا صلة الموصول وأخرجوا عطف على هاجروا ومن ديارهم جار ومجرور متعلقان بأخرجوا (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) الجملة كلها معطوفة داخلة في حيز الصلة (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) اللام جواب قسم محذوف وأكفرن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والجملة القسمية خبر الذين، وهنا لا بد من دفع اعتراض معترض يقول: إن الجملة الواقعة جوابا للقسم لا محل لها فكيف ساغ أن تكون هنا خبرا ويتلخص الدفع بأن المقصود مجموع القسم وجوابه.
وعنهم جار ومجرور متعلقان بأكفرن وسيئاتهم مفعول به (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الواو عاطفة ولأدخلنهم عطف على لأكفرن والهاء مفعول به وجنات منصوب بنزع الخافض أو مفعول به ثان على السعة وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لجنات (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ثوابا مفعول مطلق لفعل محذوف يفيد التأكيد، وأجازوا إعرابها حالا من جنات أي: مثابا بها، أو من الضمير الواقع مفعولا به أي حال كونهم مثابين، وهو جائز. ومن عند الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لثوابا (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) الواو استئنافية والله مبتدأ وعنده ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وحسن الثواب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر «الله» .(2/141)
البلاغة:
1- في هذه الآية فن منقطع النظير يمكن تسميته «الاسجال» وحدّه أن يقصد المتكلم غرضا من الأغراض فيأتي بألفاظ تقرر ذلك الغرض: فقد سجل المولى سبحانه على ألسنة عباده تحقيق موعوده على لسان رسوله، وتأمل كلمة «ما وعدتنا» تجد أن هذا الوعد قد أصبح مبرما لا انفكاك لإبرامه. ومن طريف ما ورد منه شعرا قول ابن نباتة السعديّ:
جاء الشتاء وما عندي له عدد ... إلا ارتعادي وتصفيقي بأسناني
فإن هلكت فمولانا يكفنني ... هبني هلكت فهبني بعض أكفاني
والأسجال واضح في تقريره هبني هلكت، وما أجمل الجناس بين هبني بمعنى احسبني وهبني بمعنى أعطني هبة.
2- الالتفات في قوله «فاستجاب لهم ربهم» فقد التفت من الغيبة الى التكلم لاظهار كمال الاعتناء بصدد الاستجابة وتشريف الداعين وتسوية الرجال والنساء وشركة النساء مع الرجال في العمل والجزاء عليه بعد أن كانت المرأة مغموطة الحق في الجاهلية.
روي أن أم سلمة قالت: يا رسول الله، إني أسمع الله تعالى يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت.(2/142)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 200]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
اللغة:
(النزل) بضمتين وبضمّ فسكون: ما يقام للنازل أو طعام الضيف، قال أبو الشعواء الضبيّ:
وكنّا إذا الجبار بالجيش ضافنا ... جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
(رابِطُوا) أقاموا في الثغر، والأصل أن يربط هؤلاء وهؤلاء خيلهم مترصدين مستعدين للغزو.(2/143)
ورباط الخيل حبسها. قال:
فينا رباط جياد الخيل معلمه ... وفي كليب رباط الذلّ والعار
الإعراب:
(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) جملة مستأنفة مسوقة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاغترار، وهو في الحقيقة نهي لأصحابه وأتباعه عن الاغترار بما يرونه من تبسّط الكافرين والظالمين العتاة في الأرض، واستبحارهم في القوة والعمران، على نحو ما هو مشاهد اليوم. ولا الناهية ويغرنك فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا والكاف مفعول به وتقلب فاعل والذين اسم موصول مضاف اليه وجملة كفروا صلة وفي البلاد جار ومجرور متعلقان بتقلب لأنه مصدر (مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) متاع خبر لمبتدأ محذوف وقليل صفة أي: هو متاع ضئيل لا يؤبه له، وهو مهما تطاول آيل الى الزوال والجملة مستأنفة. ثم حرف عطف للتراخي ومأواهم مبتدأ وجهنم خبر (وَبِئْسَ الْمِهادُ) الواو حالية وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والمهاد فاعل بئس والمخصوص بالذم محذوف أي: جهنم، والجملة نصب على الحال. (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ) لكن مخففة مهملة لمجرد الاستدراك والذين مبتدأ وجملة اتقوا ربهم صلة الموصول ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وجنات مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر الذين وجملة لكن مستأنفة (تَجْرِي(2/144)
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها)
الجملة صفة لجنات ومن تحتها جار ومجرور متعلقان بتجري والأنهار فاعل وخالدين حال وفيها جار ومجرور متعلقان بخالدين (نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) نزلا حال من جنات، وإن جعلته مصدرا فهو مفعول مطلق لفعل محذوف، ومن عند الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة «نزلا» (وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) الواو استئنافية أو حالية وما اسم موصول مبتدأ وعند الله ظرف متعلق بمحذوف صلة ما وخير خبر وللابرار جار ومجرور متعلقان بخير والجملة مستأنفة أو حالية (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) الواو استئنافية وإن حرف مشبه بالفعل ومن أهل الكتاب جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر إن المقدم ولمن اللام المزحلقة ومن اسم موصول اسم إن المؤخر وجملة يؤمن بالله صلة الموصول وبالله جار ومجرور متعلقان بيؤمن (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ) الواو حرف عطف وما اسم موصول معطوف على الله وجملة أنزل إليكم صلة وما أنزل إليهم عطف أيضا وخاشعين حال من الضمير في يؤمن ولله جار ومجرور متعلقان بخاشعين (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا) جملة لا يشترون حالية وبآيات الله جار ومجرور متعلقان بيشترون وثمنا مفعول به وقليلا صفة (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الجملة مستأنفة واسم الاشارة مبتدأ ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وأجرهم مبتدأ مؤخر وعند ربهم ظرف متعلق بمحذوف حال أي مستقرا عند ربهم والجملة خبر «أولئك» (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) جملة مستأنفة وإن واسمها وخبرها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها كثيرا (اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا) أفعال دعاء (وَاتَّقُوا اللَّهَ) عطف أيضا (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لعل واسمها، والجملة خبرها وجملة الرجاء حالية.
م 10- اعراب القرآن(2/145)
البلاغة:
جاء ختام سورة آل عمران حسنا جدا، وكما جاء ختام سورة البقرة مشتملا على الدعاء جاء ختام سورة آل عمران مشتملا على عدد من الوصايا النافعة، وهذا هو حسن الختام، ليبقى راسخا في الاسماع، وهذا هو حسن البيان.(2/146)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
(4) سورة النساء مدنيّة وآياتها ستّ وسبعون ومائة
[سورة النساء (4) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)
اللغة:
(تَسائَلُونَ) فعل مضارع، وأصله تتساءلون، فحذفت احدى التاءين، أي يسأل بعضكم بعضا.
(الْأَرْحامَ) جمع رحم وهي القرابة.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) يا أيها: تقدم اعرابها كثيرا، والناس بدل من «أي» واتقوا ربكم فعل وفاعل ومفعول به (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) الذي صفة ل «ربكم» وجملة خلقكم صلة(2/147)
الموصول ومن نفس جار ومجرور متعلقان بخلقكم وواحدة صفة والجملة مستأنفة مسوقة لبحث بدء الخلق والتكوين (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) الواو حرف عطف وخلق فعل ماض ومنها جار ومجرور متعلقان بخلق وزوجها مفعول به (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً) الواو عاطفة وبث فعل ماض ومنهما جار ومجرور متعلقان ببث ورجالا مفعول به وكثيرا صفة ونساء عطف على «رجالا» (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) الواو عاطفة واتقوا الله فعل أمر والذي صفة وجملة تساءلون صلة وبه جار ومجرور متعلقان بتساءلون والأرحام عطف على الله وفي هذا العطف تنويه بمنزلة القرابة ووجوب البرّ بها ومراعاتها (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) الجملة تعليلية لا محل لها وإن واسمها، وجملة كان وما في حيزها خبر ان وكان فعل ماض ناقص وعليكم جار ومجرور متعلقان ب «رقيبا» واسم كان مستتر ورقيبا خبرها.
البلاغة:
في الآية الآنفة فن براعة الاستهلال فقد استهل السورة بالاشارة الى بدء الخلق والتكوين، وألمع الى دور المرأة المهم، وأوصى بصلة الرحم. وقد حفل الشعر العربي بذكر صلة الرحم ومنزلتها عند الله، وحسبنا أن نشير الى قصيدة معن بن أوس التي مطلعها:
وذي رحم قلمت أظفار ضغنه ... بحلمي وهو ليس له حلم
وهي قصيدة رائعة يكاد لا يخلو منها كتاب أدبي فليرجع إليها من يشاء.(2/148)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
[سورة النساء (4) : آية 2]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2)
اللغة:
(الْيَتامى) الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم، واليتم الانفراد.
ومنه الرملة اليتيمة والدرة اليتيمة، وقيل: اليتيم في الأناسي من قبل الآباء، وفي البهائم من قبل الأمهات. واليتامى جمع الجمع، فقد جمع اليتيم على يتمى كأسرى، ثم جمع يتمى على يتامى كأسرى على أسارى. ويجوز أن يجمع على فعائل لجري اليتيم مجرى الأسماء نحو صاحب وفارس فيقال: يتائم ثم يتامى على القلب.
(الحوب) يضم الحاء وفتحها: الذنب العظيم، وهو مصدر حاب حوبا وحابا.
الإعراب:
(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) الواو يصح أن تكون استئنافية، فتكون الجملة مستأنفة مسوقة للشروع في كيفية الاتقاء وطرقه، وقدم اليتامى لكمال العناية بأمرهم. ويصح أن تكون عاطفة على ما تقدم، فيكون السرد متلاحقا. وآتوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل واليتامى مفعول به أول وأموالهم مفعول به ثان (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) عطف على ما تقدم ولا ناهية وتتبدلوا فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والخبيث مفعول به والباء حرف جر والطيب وهو المتروك مجرور بها وهما متعلقان(2/149)
بتتبدلوا (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) الواو عاطفة ولا ناهية ونأكلوا فعل مضارع مجزوم بلا وأموالهم مفعول به والى أموالكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي مضمومة الى أموالكم (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) ان واسمها، وجملة كان واسمها وخبرها خبر إن وجملة إن وما في حيزها تعليلية لا محل لها ولهذا كسرت همزة إن.
البلاغة:
في هذه الآية مواطن من البلاغة بالغة حدّ الإعجاز نلخصها فيما يلي:
1- المجاز المرسل في قوله تعالى: «وآتوا اليتامى أموالهم» لأن الله سبحانه لا يأمر بإعطاء اليتامى الصغار أموالهم، فهذا غير معقول بل الواقع أن الله يأمر بإعطاء الأموال من بلغوا سن الرشد، بعد أن كانوا يتامى: فكلمة اليتامى هنا مجاز مرسل، لأنها استعملت في الراشدين. والعلاقة اعتبار ما كانوا عليه.
2- الاستعارة المكنية بأكل أموال اليتامى. فقد شبه أموالهم بطعام يؤكل، ثم استعار لها ما هو من أبرز خصائص الطعام وهو الأكل، وفي هذه الاستعارة سرّان من أدق الأسرار:
آ- إن طريق البلاغة النهي عن الأدنى تنبيها على الأعلى إذا كان المنهي عنه درجات، فكان مقتضى القانون المذكور أن ينهى عن أكل مال اليتيم من هو فقبر اليه حتى يلزم نهي الغني عنه عن طريق الأولى، فلا بد من سر يوضح فائدة تخصيص الأعلى بالنهي، في هذه الآية،(2/150)
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
وذلك ما يفهم من كلمه «الى أموالكم» ، والسر في ذلك أن أكل مال اليتيم مع الغنى عنه أقبح صور الأكل فخصص بالنهي تشنيعا على من يقع فيه.
ب- والسر الثاني في تخصيص الأكل لأن العرب كانت تتذمم بالإكثار من الأكل، وتعدّ من البطنة المساوية للبهيمية، فكأن آكل مال اليتيم- في حال استغنائه عنه وكثرة المال لدية- شر من أكله وهو مملق شديد الحاجة اليه، وإن اشتركا في أكل ما هو محرم، وكانا منتظمين في قرن واحد، ومعلوم أن المنهي عنه كلما كان أوغل في القبح وأفرط في الدمامة كانت النفس بطبيعة الحال أنفر عنه.
3- الطباق بين الخبيث وهو الحرام من المال والطيب وهو الحلال المستساغ.
[سورة النساء (4) : الآيات 3 الى 4]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)
اللغة:
(تُقْسِطُوا) مضارع أقسط الرباعي، ومعناه عدل، والثلاثي معناه جار.(2/151)
(تَعُولُوا) من قولهم: عال الميزان إذا مال، وميزان فلان عائل، وعال الحاكم في حكمه إذا جار. وذكر أبو بكر بن العربي أن عال تأتي لسبعة معان:
الأول: عال أي مال.
والثاني: زاد، والثالث: جار، والرابع: افتقر. والخامس:
أثقل، والسادس: قام بمئونة العيال، ومنه قوله: وابدأ بمن تعول.
والسابع: عال: أي غلب، ومنه عيل صبري. وقد وردت عال لمعان غير السبعة غير التي ذكرها ابن العربي منها: عال: اشتد وتفاقم، حكاه الجوهري، وعال الرجل في الأرض إذا ضرب فيها، حكاه الهروي. وعال إذا أعجز، حكاه الأحمر. فهذه ثلاثة معان غير السبعة. والرابعة عال: أي كثر عياله. فجملة معاني عال أحد عشر معنى، وسيأتي مزيد من بحث هذه المادة في باب الفوائد.
(الصدقات) المهور، مفردها صدقة: بفتح الصاد وضم الدال.
والمهر له أسماء كثيرة أيضا، منها صدقة بفتحتين، وبفتح فسكون، وصداق: بكسر الصاد وفتحها.
(نِحْلَةً) مصدر نحله كذا أي أعطاه إياه هبة له عن طيب نفس.
(هَنِيئاً مَرِيئاً) صفتان من هنؤ الطعام أو الشراب إذا كان سائغا لا تنغيص فيه. وقيل: الهنيء ما يلذه الآكل، والمريء: ما يحمد عاقبته. وقيل لمدخل الطعام من الحلقوم الى فم المعدة: المريء لمروء الطعام فيه، أي انسياغه.(2/152)
الإعراب:
(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) الواو استئنافية وإن شرطية وخفتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وأن حرف مصدري ونصب ولا نافية وتقسطوا فعل مضارع منصوب بأن والمصدر المؤوّل من أن وما في حيزها مفعول به وفي اليتامى جار ومجرور متعلقان بتقسطوا وسيأتي في باب الفوائد المراد بذلك (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) الفاء رابطة للجواب وأنكحوا فعل أمر والواو فاعل والجملة في محل جزم فعل الشرط وما اسم موصول في محل نصب مفعول به وجملة طاب لا محل لها لأنها صلة ولكم جار ومجرور متعلقان بطاب ومن النساء جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من ضمير الفاعل ومثنى وثلاث ورباع أحوال. وأعربها أبو علي الفارسي بدلا من «ما» وسيأتي مزيد من القول فيها في باب الفوائد (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) الفاء استئنافية وإن شرطية وخفتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وأن لا تعدلوا: المصدر المؤول مفعول به، فواحدة الفاء رابطة لجواب الشرط وواحدة مفعول به لفعل محذوف أي: فالزموا واحدة، والجملة في محل جزم جواب الشرط (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أو حرف عطف وهي للتخيير أي من الإماء اللواتي في حوزتكم، لما في ذلك من اليسر والسهولة. وما اسم موصول معطوف على «واحدة» وجملة ملكت أيمانكم لا محل لها (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) اسم الاشارة مبتدأ وأدنى خبره والجملة استئنافية وأن لا تعولوا: المصدر المؤول منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بأدنى، أي: أقرب من العدل وعدم الجور. وللفقهاء تعليلات طريفة في الجمع بين الإماء(2/153)
والحرائر في السهولة واليسر، تجد منها شيئا في باب الفوائد (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) الواو عاطفة وآتوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنساء مفعول به وصدقاتهن مفعول به ثان ونحلة نصب على المصدر، لأن النحلة والإيتاء مترادفان بمعنى الإعطاء، فكأنه قيل: وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة، أي أعطوهن مهورهن عن طيبة نفس. ويجوز نصبها على الحال من المخاطبين بعد تأويلها بالمشتق، أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء، أو على الحال من «صدقاتهن» أي: منحولة معطاة عن طيبة نفس.
وقيل: نحلة من الله أي عطية من عنده وتفضلا منه عليهن. وقيل النحلة: الملة والدين. والمعنى: آتوهن مهورهن ديانة، فتعرب عندئذ مفعولا لأجله. وإنما أوردنا هذه الاوجه لأنها متعادلة الرجحان (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) الفاء استئنافية وإن شرطية وطبن فعل ماض مبني على السكون ونون النسوة فاعل وهو في محل جزم فعل الشرط ولكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وعن شيء جار ومجرور متعلقان بطبن ومنه جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لشيء ونفسا تمييز (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) الفاء رابطة لجواب الشرط وكلوه فعل أمر ومفعول به وهنيئا مريئا صفتان لمصدر محذوف أي: أكلا هنيئا مريئا، أو حال من الضمير أي: كلوه وهو هنيء ومريء.
البلاغة:
في هذه الآية فن التغليب، فقد قال: فانكحوا ما طاب لكم، ولم يقل «من» كما هو المتبادر في استعمال «من» للعاقل و «ما»(2/154)
لغير العاقل تغليبا، لأن «ما» تأتي لصفات من يعقل، وقد وصفهن بالطيب، فصح استعمال «ما» ، وهذا سر بديع تقيس عليه ما يرد منه، فتدبره والله يعصمك.
الفوائد:
1- يحدث التاريخ في تعليل نزول هذه الآية أنه كان الرجل يجد اليتيمة الموسومة بالجمال والمال ويكون وليها فيتزوجها ضنا بها عن غيره، فريما اجتمعت عنده عشر منهن، فيخاف لضعفهن وفقد من يغضب لهن أن يظلمهن حقوقهن ويفرط فيما يجب لهن، فقيل لهم:
إن خفتم أن لا تقسطوا- أي تعدلوا- في يتامى النساء فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم. فجاءت الآية محذرة من التورط، وأمرا بالاحتياط، وفي غيرهن مندوحة الى الأربع.
2- (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) صفات معدولة عن أعداد مكررة، ولذلك منعت من الصرف، أي: اثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا. ومن طريف ما تمسك به بعض الذين ضلت عنهم أسرار العربية الشريفة من جواز التزوّج بتسعة: أنهم قالوا لأن اثنتين وثلاثة وأربعة جملتها تسعة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسعة. وهذا كما ترى ناشىء عن جهل بأسرار العربية المبينة، لأنك إذا قلت: جاء القوم مثنى وثلاث ورباع، معناه أنهم جاءوا اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، فتنصب ذلك كله على الحال. والحال هي التي تبيّن هيئة الفاعل أو المفعول به. فأنت تريد أن تبين كيف كان مجيئهم، أي: لم يجيئوا جماعة ولا فرادى فالله سبحانه أبان ما أباحه من(2/155)
النكاح وأما النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك من خواصه التي تفرد بها.
هذا وقد كثر كلام أهل العربية حول العدد المعدول هل هو من الواحد الى العشرة؟ أو هو ما نطق به القرآن الكريم فقط! قال قوم:
إنه ينتهي الى رباع، وقال آخرون: الى سداس، وقيل: الى عشار.
وقد جاء لأبي الطيب المتنبي قوله:
أحاد أم سداس في أحاد ... لييلتنا المنوطة بالتّناد؟
قالوا: إن أبا الطيب لحن في هذا البيت عدة لحنات، فقال:
أحاد وسداس، ولم يسمع في الفصيح إلا مثنى وثلاث ورباع، والخلاف في خماس وسداس الى عشار. ومنها أنه صغّر ليلة على «لييلة» ، وإنما تصغر على «لييلية» . ومنها أنه صغرها، والتصغير دليل القلة، فكأنها قصيرة، ثم قال: «المنوطة بالتناد» ولا شيء يكون أطول منها حينئذ، فناقض آخر كلامه أوله. ولنا أن ندافع عن أبي الطيب في زعمهم عليه التناقض، لأن التصغير يأتي في كلامهم أحيانا للتعظيم كقول لبيد:
وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهة تصغّر منها الأنامل
فأبو الطيب قد صغّر الليل هنا للتعظيم، لأنه استطالها حتى جعلها منوطة بالتّناد. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة:
يا «حميراء» ويحتمل أنها صغّرت لدقتها وخفائها. ومستعظم الأمور من مستصغر الشرر. وأما قوله: أحاد وسداس، فإنه استعمل الجزء وهو واحد وست مفردين أي أنه لم يردها «أحاد» مكررة ولا ستا(2/156)
مكررة كما هو مدلول العدد المعدول، بل أراد الإفراد واستعمل فيه المعدول الدال على التكثير تجوّزا من اسم إطلاق الكل وهو أحاد وسداس في الجزء وهو واحدة واحدة وست ست. وهذا الاستعمال مجاز، والتجوّز ليس بلحن. هذا وقد ورد عشار في شعر الكميت ابن زيد وهو حجة:
فلم يستريثوك حتى رميت فوق الرجال خصالا عشارا
لماذا منعت من الصرف؟
أما المذاهب المنقولة في علة منع الصرف فهي أربعة:
1- قول سيبويه والخليل وأبي عمرو، وهو العدل والوصف.
2- قول الفراء وهو أنها منعت للعدل والتعريف بنية الألف واللام، ومنع ظهور الألف واللام كونها في نية الاضافة.
3- قول الزجاج وهو أنها معدولة عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، وأنه عدل عن التأنيث.
4- ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويين، وهو أن العلة المانعة من الصرف هي تكرار العدل فيه، لأنه عدل عن لفظ اثنين، وعدل عن معناه، وذلك أنه لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد غير المعدولة، تقول: جاءني اثنان وثلاثة، ولا يجوز: جاءني مثنى وثلاث، حتى يتقدم قبله جمع، لأن هذا الباب جعل بيانا لترتيب الفعل.
فاذا قال: جاءني القوم مثنى أفاد أن ترتيب مجبئهم وقع اثنين اثنين.(2/157)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
فأما الاعداد غير المعدولة فإنما الغرض منها الإخبار عن مقدار المعدود دون غيره. ولابن هشام فصل رائع في مغني اللبيب كتبه حول هذه الآية في الباب السادس من كتابه: «في التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين والصواب خلافها» فارجع اليه إن شئت.
(هَنِيئاً مَرِيئاً) يعربان وصفا للمصدر وحال.
فأما قول أبي الطيب المتنبي:
هنيئا لك العيد الذي أنت عيده ... وعيد لمن سمى وضّحى وعيّدا
فيتحتم إعرابهما حالا، لأنه ليس هناك ما يدل على المصدر الذي يصح أن يوصف بهما. والعيد فاعل هنيئا لأنها صفة مشبهة.
[سورة النساء (4) : الآيات 5 الى 6]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)(2/158)
اللغة:
(السُّفَهاءَ) المبذّرون الذين ينفقون أموالهم فيما لا ينبغي إنفاقه، أو فيما لا طائل تحته.
(قِياماً) مصدر قام، أي تقومون بها وتنتعشون. ولو ضيّعتموها لضعتم، فكأنها قيامكم وانتعاشكم.
(آنَسْتُمْ) أبصرتم واستوضحتم.
الإعراب:
(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً) كلام مستأنف مسوق لبيان بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى. ولا ناهية وتؤتوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والسفهاء مفعول به وأموالكم مفعول به ثان والتي اسم موصول في محل نصب صفة لأموالكم وجملة جعل الله لكم صلة الموصول وقياما مفعول به ثان لجعل التي بمعنى صيّر والمفعول الاول محذوف والتقدير التي صيّرها لكم قياما، ولكم جار ومجرور متعلقان ب «قياما» ، وإن كانت جعل بمعنى خلق فقياما حال من العائد المحذوف أي: جعلها في حال كونها قياما (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً) وارزقوهم الواو حرف عطف وارزقوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به وفيها جار ومجرور متعلقان بارزقوهم واكسوهم عطف على ارزقوهم وقولوا عطف على وارزقوهم أيضا ولهم جار ومجرور متعلقان بقولوا وقولا مفعول مطلق ومعروفا صفة (وَابْتَلُوا الْيَتامى(2/159)
حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ)
الواو عاطفة والكلام معطوف وفيه تعيين وقت تسليم أموال اليتامى إليهم واليتامى مفعول به للفعل ابتلوا وحتى حرف غاية وجر، جعل البلوغ وإيناس الرشد غاية للايتاء. وقيل:
حتى ابتدائية، ولكنها تفيد الغاية، وهي حتى التي تقع بعدها الجمل كقوله:
فما زالت القتلى تمجّ دماءها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة بلغوا النكاح في محل جر بالإضافة (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) الفاء رابطة لجواب الشرط وإن شرطية وآنستم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وجملة فإن آنستم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومنهم جار ومجرور متعلقان بآنستم ورشدا مفعول به (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) الفاء رابطة وادفعوا فعل أمر والواو فاعل وإليهم جار ومجرور متعلقان بادفعوا وأموالهم مفعول به، والجملة في محل جزم جواب الشرط (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) الواو استئنافية ولا ناهية وتأكلوها فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والهاء مفعول وإسرافا وبدارا مصدران في موضع الحال أي مسرفين ومبادرين أو هما في موضع المفعول لأجله أي لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم، وأن يكبروا مصدر مؤول مفعول به للمصدر أو مفعول لأجله والمفعول به محذوف، ولا بد من تقدير مضاف عندئذ أي: مخافة أن يكبروا، والجملة مستأنفة. وإنما جعلنا الواو استئنافية وظاهر الكلام يوحي أنها معطوفة لأن المعنى يصبح ادفعوا ولا تأكلوها، وهذا فاسد لأن الشرط وجوابه مترتبان على بلوغ النكاح فيلزم منه ترتبه على ما ترتب عليه وذلك ممتنع (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) الواو استئنافية ومن اسم(2/160)
شرط جازم مبتدأ وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هو وغنيا خبرها وجملة فعل الشرط وجوابه خبر للمبتدأ من فليستعفف الفاء رابطة لجواب الشرط واللام لام الأمر، ويستعفف مجزوم بها (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) عطف على ما تقدم وقد سبق إعرابها وبالمعروف جار ومجرور متعلقان بيأكل والآية تقسيم لحال الوصي بين أن يكون غنيا وبين أن يكون فقيرا، فالغني يقتنع بما أفاء الله عليه والفقير يأكل بالمعروف محتاطا جهده حرصا على مال اليتيم وجملة فليأكل في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر من (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) الفاء استئنافية وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة دفعتم إليهم أموالهم في محل جر بالإضافة والفاء رابطة لجواب الشرط وأشهدوا فعل أمر وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعليهم جار ومجرور متعلقان بأشهدوا (وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً) الواو استئنافية وكفى فعل ماض وبالله الباء حرف جر زائد والله فاعل كفى مجرور لفظا بالباء وحسيبا تمييز.
البلاغة:
في هذه الآية نوع طريف من أنواع البيان يطلق عليه اسم «قوة اللفظ لقوة المعنى» ، وذلك في قوله «فليستعفف» فإن «استعفّ» أبلغ من «عف» كأنه يطلب زيادة العفة من نفسه هضما لها وحملا على النزاهة التي يجب أن تكون رائد أبناء المجتمع. ومن المعلوم أن اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان، ثم نقل الى وزن آخر أكثر منه، فلا بد من أن يتضمن من المعنى أكثر مما تضمنه أولا،(2/161)
لأن الألفاظ دالة على المعاني، فاذا زيد في الألفاظ أوجبت الزيادة زيادة في المعاني، وهذا النوع لا يستعمل إلا في المبالغة. فمن ذلك قولهم:
أعشب المكان، فاذا رأوا كثرة العشب قالوا: اعشوشب. ومنه:
قدر واقتدر، فمعنى اقتدر أقوى من معنى قدر، فلذلك قال تعالى:
«فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر» . وقد تطلّع أبو نواس الى هذه النكتة فقال:
فعفوت عني عفو مقتدر ... حلت له نقم فألغاها
أي: عفوت عني عفو متمكّن من القدرة لا يرده شيء عن إمضاء قدرته.
الفوائد:
(كَفى) فعل ماض على الأصح تزاد الباء في فاعله، كما في هذه الآية. وقد تزاد في المفعول به كقول أبي الطيب المتنبي:
كفى بجسمي نحولا أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني
وقلّ أن يجيء فاعل كفى مجردا من الباء كقول سحيم:
عميرة ودّع ان تجهّزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
ولا تزاد الباء في فاعل كفى أو مفعولها إذا كانت بمعنى أجزأ أو أغنى كقوله:(2/162)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
قليل منك يكفيني ولكن ... قليلك لا يقال له قليل
ولا كفى التي بمعنى وقى من الوقاية، كقوله تعالى: «وكفى الله المؤمنين القتال» . هذا وقد انتقدوا على أبي الطيب زيادتها في فاعل كفى بمعنى أجزأ أو أغنى إذ قال:
كفى ثعلا فخرا بأنك منهم ... ودهر لأن أمسيت من أهله أهل
وقد أفاض النقاد في شرح هذا البيت، فارجع إليه في ديوانه.
التشدد في أمر اليتيم:
وقد تشددت الشريعة الاسلامية في أمر اليتيم ومعاملته بما هو معروف، على أنها جعلت للوصي حقا لقيامه على أمواله، فعن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلا قال له: إن في حجري يتيما أفآكل من ماله؟ قال: بالمعروف، غير متأثّل مالا ولا واق مالك بماله. فقال:
أفأضربه؟ قال: مما كنت ضاربا منه ولدك.
[سورة النساء (4) : آية 7]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7)
الإعراب:
(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) كلام مستأنف(2/163)
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
مسوق لتفنيد ما كانت عليه الجاهلية من عدم توريث النساء والصغار.
وللرجال جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ونصيب مبتدأ مؤخر ومما جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لنصيب وجملة ترك الوالدان صلة الموصول والأقربون عطف على الوالدان (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) عطف على ما تقدم (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) الجار والمجرور بدل من «مما» السابقة والجملة صلة الموصول ومنه جار ومجرور متعلقان بقل، أو كثر عطف على قلّ ونصيبا مفروضا يجوز أن يعرب مفعولا مطلقا لأنه واقع موقعه إذ التقدير عطاء، ويجوز أن يعرب حالا من فاعل «قلّ» أي:
مما تركه قليلا أو كثيرا. واختار الزمخشري نصبه على الاختصاص بفعل محذوف بمعنى أعني نصيبا، ولا داعي لذلك.
[سورة النساء (4) : الآيات 8 الى 9]
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9)
الإعراب:
(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ) الواو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة حضر القسمة في محل جر بالاضافة والقسمة مفعول به وأولو القربى فاعل(2/164)
مرفوع وعلامة رفعه الواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم واليتامى والمساكين عطف على أولو القربى (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً) الفاء رابطة لجواب إذا وارزقوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومنه جار ومجرور متعلقان بقولوا وقولا مفعول مطلق ومعروفا صفة (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً) الواو حرف عطف واللام لام الأمر ويخش فعل مضارع مجزوم باللام والذين اسم موصول فاعل ولو شرطية وتركوا فعل وفاعل ومن خلفهم جار ومجرور متعلقان بتركوا وذرية مفعول به وضعافا صفة (خافُوا عَلَيْهِمْ) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعليهم جار ومجرور متعلقان بخافوا ومفعول خافوا محذوف تقديره الضياع والهيام، وسيأتي مزيد منه في باب البلاغة (فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ) الفاء تعليلية لأن التقوى مسببة عن الخوف الذي هو الخشية واللام لام الأمر ويتقوا فعل مضارع مجزوم باللام والواو فاعل والله مفعول به (وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً) الجملة عطف على فليتقوا وقولا مفعول مطلق وسديدا صفة.
البلاغة:
في الآية فن الإيجاز بالحذف، وهو هنا في حذف مفعول خافوا، لتذهب النفس في تقديره كل مذهب، ولتفتنّ في تصوير الخوف من المصير المحتوم الذي يئول اليه أمر الضعاف في هذه الحياة. ولك أن تقدره بمثل الضياع والهيام والتشرد في مسارب الحياة ومسالكها المتشعبة، من دون كافل يكفلهم، أو مدبّر يدبر شئونهم. وقد رمق الشاعر سماء هذا المعنى بقوله الممتع في الاعتذار عن الخوف والتخلف متعللا ببناته:(2/165)
لقد زاد الحياة إليّ حبا ... بناتي إنهنّ من الضعاف
أحاذر أن يرين البؤس بعدي ... وأن يشربن رنقا غير صاف
وأن يعرين إن كسي الجواري ... فتنبو العين عن كرم عجاف
ولولاهن قد سوّيت مهري ... وفي الرحمن للضعفاء كاف
هذا ولحذف المفعول به من الكلام لطائف وتعاجيب، كقولنا:
فلان يحلّ ويعقد، ويبرم وينقض، ويضر وينفع. والأصل في ذلك على إثبات المعنى المقصود في النفس للشيء على الإطلاق.
الفوائد:
قول صاحب المغني ومناقشته:
اختلف في «لو» هذه اختلافا كثيرا. وسنورد قول صاحب المغني في إعراب هذه الآية، ثم نناقشه. ولا يخلو ذلك من متعة وفائدة. قال: «القسم الثاني من أقسام «لو» أن تكون حرف شرط في المستقبل إلا أنها لا تجزم، كقوله توبة بن الحمير في ليلى الأخيلية:
ولو أن ليلى الأخيلية سلّمت ... عليّ ودوني جندل وصفائح
لسلّمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب الأرض صائح
وقوله تعالى: «وليخش الذين ... » الآية. أي: وليخش الذين إن شارفوا وقاربوا أن يتركوا. وإنما أولنا الترك بمشارفة(2/166)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
الترك، لأن الخطاب للأوصياء، وإنما يتوجه إليهم قبل الترك، لأنهم بعده أموات» هذا ما قاله في المغني. والتأويل المذكور لا يتقيد بكون الخطاب للأوصياء بل هو جار، ولو قلنا: إنه للورثة أو للجالسين عند المريض أيضا، وحينئذ فذكر الأوصياء ليس للاحتراز بل هو اقتصار على أحد المعاني. وقد أشار صاحب الكشاف الى أنه لا بد من حمل «تركوا» على المشارفة لا لما ذكره صاحب المغني ولكن ليصحّ وقوع خافوا جزاء، وذلك لكون الخوف منتفيا بعد الموت، فلا يتأتى خوف بعد الترك. فإن قلت: ما معنى وقوع «لو تركوا» وجوابه صلة للذين؟ قلت: معناه: وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية، وذلك عند احتضارهم، خافوا عليهم الضياع بعدهم، لذهاب كافلهم وكاسبهم.
[سورة النساء (4) : آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) كلام مستأنف مسوق للنهي عن ظلم اليتامى من الأولياء والأوصياء. وإن واسمها، وجملة يأكلون صلة الموصول وأموال اليتامى مفعول به وظلما حال مؤوّلة أي ظالمين. ولك أن تعربها مفعولا لأجله وشروط النصب متوفرة.
ولك أن تعربها مفعولا مطلقا لبيان نوع الأكل أي: أكل ظلم (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) إنما كافة ومكفوفة لا عمل لها ويأكلون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو(2/167)
فاعل والجملة خبر إن الأولى وفي بطونهم جار ومجرور متعلقان بيأكلون أو بمحذوف حال، لأنه كان في الأصل صفة ل «نارا» ثم تقدمت. ونارا مفعول به وسيصلون عطف على يأكلون وسعيرا مفعول به.
البلاغة:
انطوت هذه الآية على تجسيد بديع يتجلى في فنّين من فنون البيان:
1- الإسهاب في قولهم «في بطونهم» فقد ذكر البطون، لأن الاكل لا يستقر إلا فيها، تجسيدا لبشاعة الجرم المقترف بأكل مال اليتيم، ومثله «قد بدت البغضاء من أفواههم» أي تشدقوا بها، وقالوها بملء أفواههم.
2- المجاز المرسل في أكل النار، والعلاقة هي المسببية: فالنار لا تؤكل، وإنما يؤكل مسببها، والآيل إليها، وهو مال اليتيم.
3- جاء «يأكلون» بالمضارع دون سين الاستقبال، وسيصلون بالسين، لأنه لما كان لفظ «نارا» مطلقا قيّد في قوله «سعيرا» إذ هو الجمر المتقد.
4- التعريض: فقد عرض بذكر البطون لخستهم واتّضاع أمرهم، وهو أن أنفسهم والعرب تتذمم من ذلك، ألا ترى الحطيئة كيف اكتفى من هجائه بهذا القدر يلمع اليه، وذلك بقوله:(2/168)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
أي: المطعوم والمكسوّ.
[سورة النساء (4) : آية 11]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)
الإعراب:
(يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) كلام مستأنف مسوق للشروع في تفصيل أحكام المواريث المجملة في قوله: للرجال نصيب. ويوصيكم فعل مضارع والكاف مفعوله المقدم والله فاعله المؤخر وفي أولادكم جار ومجرور متعلقان بيوصيكم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) جملة مستأنفة مسوقة لتبيين الوصية. وللذكر جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومثل صفة لمبتدأ محذوف مؤخر، أي: حظّ مثل(2/169)