سَعْدٌ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ إنها لحق وَأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ، وَلَكِنِّي قَدْ تَعَجَّبْتُ أَنِّي لَوْ وَجَدْتُ لَكَاعًا قَدْ تَفَخَّذَهَا رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِي أَنْ أَهِيجَهُ وَلَا أُحَرِّكَهُ، حَتَّى آتي بأربعة شهداء، فوالله إني لَا آتِي بِهِمْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ، قَالَ: فَمَا لَبِثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ (هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ) وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ مِنْ أَرْضِهِ عِشَاءً فَوَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ رَجُلًا، فَرَأَى بِعَيْنَيْهِ وَسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ، فَلَمْ يهيجه حَتَّى أَصْبَحَ فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي جِئْتُ أَهْلِي عِشَاءً فَوَجَدْتُ عِنْدَهَا رَجُلًا فَرَأَيْتُ بِعَيْنِي وَسَمِعْتُ بِأُذُنِي، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ بِهِ واشتد عليه واجتمعت عليه الأنصار، وقالوا: قَدِ ابْتُلِينَا بِمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، الْآنَ يَضْرِبُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ وَيُبْطِلُ شَهَادَتَهُ فِي الناس، فَقَالَ هِلَالُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِي مِنْهَا مَخْرَجًا؛ وَقَالَ هِلَالُ: يَا رسول الله فإني قَدْ أَرَى مَا اشْتَدَّ عَلَيْكَ مِمَّا جِئْتُ بِهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي لَصَادِقٌ، فَوَاللَّهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أن يأمر بضربه إذا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوحي، وكان إذا أنزل عَلَيْهِ الْوَحْيُ عَرَفُوا ذَلِكَ فِي تَرَبُّدِ وَجْهِهِ، يَعْنِي فَأَمْسَكُوا عَنْهُ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْوَحْيِ، فَنَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله} الْآيَةَ، فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «أبشر يا هلال فقد جَعَلَ اللَّهُ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا» ، فَقَالَ هِلَالٌ: قَدْ كُنْتُ أَرْجُو ذَلِكَ مِنْ رَبِّي عزَّ وجلَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فأرسولا إليها» ، فأرسولا إِلَيْهَا فَجَاءَتْ فَتَلَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم عليهما فذكرهما، وَأَخْبَرَهُمَا أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، فَقَالَ هِلَالٌ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لقد صدقت عليها، فقال: كَذَبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَاعِنُوا بَيْنَهُمَا» ، فَقِيلَ لِهِلَالٍ، اشْهَدْ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لِمَنَ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا كانت الْخَامِسَةِ قِيلَ لَهُ يَا هِلَالُ اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا كَمَا لَمْ يَجْلِدْنِي عَلَيْهَا، فَشَهِدَ فِي الْخَامِسَةِ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، ثم قيل للمرأة: اشْهَدِي أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لِمَنَ الْكَاذِبِينَ، وقيل لها عند الخامسة اتَّقِي اللَّهَ فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عليك العذاب، فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف، ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي فَشَهِدَتْ فِي الْخَامِسَةِ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ؛ فَفَرَّقَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا، وقضى أن لا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍ، وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَضَى أن لا بَيْتَ لَهَا عَلَيْهِ وَلَا قُوتَ لَهَا مِنْ أجل أنهما يفترقان مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مُتَوَفَّى عَنْهَا، وَقَالَ: «إن جاءت به أصهيب أريشح حَمْشَ السَّاقِينَ فَهُوَ لِهِلَالٍ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جَمَالِيًّا خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ فهو للذي رُمِيَتْ بِهِ» ، فَجَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جَمَالِيًّا خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» ، قَالَ عِكْرِمَةُ: فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ، وَكَانَ يُدْعَى لِأُمِّهِ ولا يدعى لأب (أخرجه الإمام أحمد وأبو داود بنحوه مُخْتَصَرًا) .
وَلِهَذَا الْحَدِيثِ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ فِي الصِّحَاحِ وغيرها من وجوه كثيرو؛ فمنها ما رواه البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «البينة أو الحد فِي ظَهْرِكَ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا رَأَى أَحَدُنَا
عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» ، فَقَالَ هِلَالٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لِصَادِقٌ وَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ الْحَدِّ، فَنَزَلَ جبريل(2/585)
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} - فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليهما فشهد هلال والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يعلم أن أحدكم كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ» ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ، فلما كان في الْخَامِسَةِ وَقَفُوهَا، وَقَالُوا: إِنَّهَا مُوجِبَةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ، ثُمَّ قَالَتْ: لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ فَمَضَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ» فجاءت به كذلك، فقا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» (انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) . وروى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: إِنَّ أَحَدَنَا إِذَا رَأَى مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا إن قتله قَتَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ على غيظ؟! والله لئن أصبحت صحيحاً لَأَسْأَلَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلاً إن قتله قَتَلْتُمُوهُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ على غيظ، اللهم احكم، قال: فنزلت آيَةُ اللِّعَانِ، فَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوَّلَ مَنِ ابتلي به. (وأخرجه مسلم من طرق عن سليمان بن مهراش الأعمش) . وعن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَ عُوَيْمِرٌ إِلَى (عاصم بن عدي) فقال له: سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِهِ فَقَتَلَهُ أَيُقَتَلُ بِهِ أَمْ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ، قَالَ: فَلَقِيَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: مَا صَنَعْتُ إِنَّكَ لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَابَ الْمَسَائِلَ، فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللَّهِ لَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْأَسْأَلَنَّهُ؛ فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ قد أُنْزِل عليه فيها، قال: فدعا بهما ولاعن بينهما، قال عويمر: إن انْطَلَقْتُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ كَذَبْتُ عَلَيْهَا، قَالَ فَفَارَقَهَا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَتْ سُنَّةَ المتلاعنين، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمَ الْأَلْيَتَيْنِ فَلَا أَرَاهُ إِلَّا قَدْ صَدَقَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمِرَ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ، فَلَا أَرَاهُ إِلَّا كَاذِبًا» ، فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ (أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَبَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا الترمذي) .
وروى الحافظ أبو يعلى عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَأَوَّلُ لِعَانٍ كَانَ فِي الإِسلام أَنَّ شَرِيكَ بْنَ سَحْمَاءَ قَذَفَهُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ بِامْرَأَتِهِ، فَرَفَعَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْبَعَةَ شُهُودٍ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ إِنِّي لَصَادِقٌ، وَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ مَا يُبَرِّئُ بِهِ ظَهْرِي مِنَ الْجَلْدِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آية اللعان: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، قَالَ: فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم: «اشْهَدْ بِاللَّهِ إِنَّكَ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتَهَا به من الزنا» فَشَهِدَ بِذَلِكَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ الْخَامِسَةِ: «وَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ إِن كُنتَ مِنَ الكاذبين فيما رميتها به من الزنا» فَفَعَلَ، ثُمَّ دَعَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «قُومِي فَاشْهَدِي بِاللَّهِ إِنَّهُ لمن الكاذبين فيما رماك به من الزنا» فَشَهِدَتْ بِذَلِكَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، ثُمَّ قَالَ لَهَا فِي الْخَامِسَةِ: «وَغَضَبُ اللَّهِ عَلَيْكِ إِنْ كَانَ من الصادقين فيما رماك به من الزنا» قال: فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ أَوِ الْخَامِسَةُ سَكَتَتْ سَكْتَةً حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهَا سَتَعْتَرِفُ، ثُمَّ قَالَتْ: لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ فَمَضَتْ عَلَى الْقَوْلِ، فَفَرَّقَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وقال: «انظروا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقِينَ فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سبطاً قصير الْعَيْنَيْنِ فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ»(2/586)
فجاءت به جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا مَا نَزَلَ فِيهِمَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» (ذكر السيوطي الروايات في ذلك وقال، قال ابن حجر: اختلف الأئمة فمنهم من رجح أنها نزلت في هلال، ومنهم من رجح أنها في عويمر، ومنهم جمع بينهما، ويحتمل أن النزول سيق بسبب هلال ثم صادف مجيء عويمر ولم يكن له علم بما وقع لهلال، وجنح القرطبي إلى تجويز نزول الآية مرتين، قال ابن حجر: ولا مانع من تعدد الأسباب) .(2/587)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
- 11 - إن الذين جاؤوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ
هَذِهِ الْعَشْرُ الْآيَاتِ كُلُّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، حِينَ رَمَاهَا أَهْلُ الْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِمَا قَالُوهُ مِنَ الْكَذِبِ البحت، والفرية التي غار الله عزَّ وجلَّ لَهَا وَلِنَبِيِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ الله تعالى براءتها صيانة لعرض الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} أَيْ جَمَاعَةٌ مِنْكُمْ يَعْنِي مَا هُوَ وَاحِدٌ وَلَا اثْنَانِ بَلْ جَمَاعَةٌ؛ فَكَانَ الْمُقَدَّمُ فِي هَذِهِ اللَّعْنَةِ (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبي بْنِ سَلُولٍ) رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَجْمَعُهُ وَيَسْتَوْشِيهِ حَتَّى دَخَلَ ذَلِكَ فِي أَذْهَانِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، فَتَكَلَّمُوا بِهِ، وَجَوَّزَهُ آخَرُونَ مِنْهُمْ، وَبَقِيَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ؛ وبيان ذلك في الأحاديث الصحيحة.
عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد أن يخرج لسفر أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معه، قالت عائشة رضي الله عنها: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي، وَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك بعدما نزل الْحِجَابُ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ، فسرنا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم من غزوته وَقَفَلَ، وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فقمت حين آذن بِالرَّحِيلِ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقد لي مِنْ جَزْعِ ظَفَارٍ قَدِ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يرحلونني، فاحتملوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ، قَالَتْ: وَكَانَ النِّسَاءُ إذ ذاك خفافاً لم يثقلن وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ الطعام؛ فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا، وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدونني فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غلبتني عيناي فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذكواني قد عرس من الْجَيْشِ، فَادَّلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَقَدْ كان رآني قبل الْحِجَابُ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي وَاللَّهِ مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً وَلَا سَمِعْتُ منه كلمة غير استرجاعه حين أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَوْطِئَ عَلَى يَدِهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي شَأْنِي، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ (عبد الله بن أُبي بن سلول) .
فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمناها شهراً والناس يفيضون في قول الْإِفْكِ، وَلَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ،(2/587)
وهو يريبني في وجعي أني لا أرى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللطف الذي أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي، إِنَّمَا يَدْخُلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يقول: «كيف تيكم؟» فذلك الذي يَرِيبُنِي وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ، حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَمَا نَقَهْتُ، وَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسطْحٍ قِبَل الْمَنَاصِعِ وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا وَلَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى ليل؛ وذلك قبل أن نتخذ الكنف القريب مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأُوَلِ فِي التنزه في البرية، وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا فِي بُيُوتِنَا، فانطلقت أنا وأم مسطح وهي بنت أَبِي رُهْمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُمُّهَا ابْنَةُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بكر الصديق، وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ عبد المطلب بن عبد مناف، فأقبلت أنا وابنة أبي رهم أم مسطح قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحُ، فقلت لها: بئسما قلت، تسبين رجلاً شهد بدراً؟ فقالت: أَيْ هَنْتَاهْ أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قُلْتُ: وماذا قال؟ قالت: فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِي، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ، ثم قال: «كيف تيكم؟» فقلت له: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ، قَالَتْ: وَأَنَا حينئذٍ أُرِيدُ أَنْ أَتَيَقَّنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، فأذن لي رسول الله فجئت أبوي، فقلت لأمي: يا أمتاه لماذا يتحدث الناس به؟ فَقَالَتْ أَيْ بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا، قَالَتْ، فَقُلْتُ: سبحان الله وقد تحدث الناس بها؟ فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ أبكي.
قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (علي بن أبي طالب) و (أسامة بن زيد) حين استلبث الوحي، يسألهما ويستشيرهما فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، قَالَتْ: فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود، فقال أسامة: يا رسول الله أَهْلُكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا، وَأَمَّا عَلِيُّ بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَإِنْ تَسْأَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ الْخَبَرَ، قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ فَقَالَ: «أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ مِنْ عَائِشَةَ؟» فَقَالَتْ لَهُ بِرَيْرَةُ: وَالَّذِي بعثك بالحق إن رأيت منها أمراً أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنَ فَتَأْكُلُهُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يومه، فاستعذر من عبد الله بن أبي سلول، قالت: فقال رسول الله وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أهلي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا معي» ، فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فَقَالَ: أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ، قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سيد الخزرج وكان رجلاً صالحاً ولكن احتمله الحمية، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل، فَقَامَ أُسَيدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عن المنافق، فَتَثَاوَرَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا، وَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتِ: وَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقُ كَبِدِي، قَالَتْ: فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وأنا أبكي إذا اسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ إِذْ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، قَالَتْ: وَلَمْ يجلس(2/588)
عندي منذ قيل مَا قِيلَ، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي شَيْءٌ.
قَالَتْ: فَتَشْهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِن كُنتُ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ لأبي: أجب عني رسول الله، فقال: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ، فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أقرأ كثيراً من القرآن: والله لقد علمت، لقد سمعتم بهذا الحديث حتى اسستقر في أنفسكم وصدقتم به، فإن قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ - وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بريئة - لا تصدقونني، ولئن اعترفت بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتُصَدِّقُني، فوالله مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ على مَا تصفون} ، قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، قَالَتْ: وأنا الله أعلم حينئذٍ أني بريئة، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي، ولكن مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يُنْزَلَ فِي شَأْنَيْ وحيٌ يُتْلَى، ولَشأني كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، ولكن كنت أرجو من أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم مَجْلِسِهِ، وَلَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ، حتى أنزل الله تعالى عَلَى نبيَّه، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البرحاء عند الوحي، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ قَالَتْ: فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يضحك، فكان أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ: «أَبْشِرِي يا عائشة، أما
الله عزَّ وجلَّ فقد برأك» .
قالت: فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ عزَّ وجلَّ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي، وَأَنْزَلَ الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الذين جاؤوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ يُنْفِقُ على مسطح بن أثاثة لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ: وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَيْهِ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يؤتوا أُوْلِي القربى - إِلَى قَوْلِهِ - إِلاَّ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، فقال أبو بكر: بلى وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فرجَّع إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عليه، وقال: والله لَا أَنْزَعُهَا مِنْهُ أَبَدًا، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل (زينب بنت جحش) زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أمري، فقال: «يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟» فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعصمها الله بِالْوَرَعِ؛ وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا (حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ) تُحَارِبُ لَهَا فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَهَذَا مَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ (أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حديث الزهري عن عائشة رضي الله عنها) .
وروى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَ عُذْرِي قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذَلِكَ وَتَلَا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا نَزَلَ أَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وامرأة فضربوا حدَّهم (رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وقال الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ تَسْمِيَتُهُمْ وهم (حسان بن ثابت) و (مسطح بن أثاثة) و (حمنة بنت جحش)) ، وروى الإمام أحمد أيضاً عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ أُمِّ رُومَانَ قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ عَائِشَةَ(2/589)
إِذْ دَخَلَتْ عَلَيْهَا امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَتْ: فَعَلَ اللَّهُ بِابْنِهَا وَفَعَلَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَلِمَ؟ قَالَتْ: إِنَّهُ كَانَ فِيمَنْ حدَّث الْحَدِيثَ، قَالَتْ: وأي الحديث؟ قالت: كذا وكذا، قالت: وقد بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: نعم، قالت: وَبَلَغَ أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَخَرَّتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَغْشِيًّا عَلَيْهَا، فَمَا أَفَاقَتْ إِلَّا وَعَلَيْهَا حُمَّى بِنَافِضٍ، قَالَتْ: فَقُمْتُ فَدَثَّرْتُهَا، قالت: فجاء النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَمَا شأن هذه؟» فقلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَتْهَا حُمَّى بِنَافِضٍ، قَالَ: «فَلَعَلَّهُ فِي حَدِيثٍ تُحُدِّثَ بِهِ» قَالَتْ: فَاسْتَوَتْ عَائِشَةُ قَاعِدَةً، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَئِنْ حَلَفْتُ لَكُمْ لَا تُصَدِّقُونِي، وَلَئِنِ اعْتَذَرْتُ إِلَيْكُمْ لَا تَعْذِرُونِي، فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبينه حِينَ قَالَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} قالت: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنزل اللَّهُ عُذْرَهَا، فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه أَبُو بَكْرٍ فَدَخَلَ، فَقَالَ يَا عَائِشَةُ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْزَلَ عُذْرَكِ» ، فَقَالَتْ: بِحَمْدِ اللَّهِ لَا بِحَمْدِكَ، فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: تَقُولِينَ هَذَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قالت: وكان فِيمَنْ حَدَّثَ هَذَا الْحَدِيثَ رَجُلٌ كَانَ يَعُولُهُ أبو بكر، فحلف أن لا يَصِلَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ والسعة} إلى آخر الآية، فقال أبو بكر بلى فوصله.
فقوله تعالى: {إِنَّ الذين جاؤوا بالإفك} أي الكذب وَالْبَهْتِ وَالِافْتِرَاءِ {عُصْبَةٌ} أَيْ جَمَاعَةٌ مِنْكُمْ {لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ} أَيْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لِسَانُ صِدْقٍ فِي الدُّنْيَا وَرِفْعَةُ مَنَازِلَ فِي الْآخِرَةِ، وَإِظْهَارُ شَرَفٍ لَهُمْ بِاعْتِنَاءِ الله تعالى بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، حيث أنزل الله براءتها في القرآن العظيم، وَلِهَذَا لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنه وعنها وَهِيَ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ، قَالَ لَهَا أَبْشِرِي فَإِنَّكِ زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يُحِبُّكِ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَكِ، ونزلت براءتك من السماء، وقوله تعالى: {لِكُلٍّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} أَيْ لِكُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَرَمَى أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِشَيْءٍ مِنَ الْفَاحِشَةِ نَصِيبٌ عَظِيمٌ مِنَ الْعَذَابِ، {والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} قِيلَ: ابْتَدَأَ بِهِ، وَقِيلَ: الَّذِي كَانَ يَجْمَعُهُ وَيُذِيعُهُ وَيُشِيعُهُ {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أَيْ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبي بْنِ سلول) قبحه الله تعالى وَلَعْنَهُ، وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ النَّصُّ عَلَيْهِ فِي الحديث؛ وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ بِهِ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وهو قول غريب، فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآُثر، وأحسن مآثره أن كَانَ يَذُبُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِعْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ» . وقال مسروق كُنْتُ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَدَخَلَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، فَأَمَرَتْ فَأُلْقِيَ لَهُ وِسَادَةٌ، فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا تَصْنَعِينَ بِهَذَا؟ يَعْنِي يَدْخُلُ عَلَيْكِ، وَفِي رِوَايَةٍ قِيلَ لَهَا: أَتَأْذَنِينَ لِهَذَا يَدْخُلُ عَلَيْكِ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، قَالَتْ: وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنَ الْعَمَى، وَكَانَ قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ هُوَ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ، ثُمَّ قَالَتْ: إِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ أَنْشَدَهَا عِنْدَمَا دَخَلَ عَلَيْهَا شِعْرًا يَمْتَدِحُهَا بِهِ فَقَالَ:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ * وتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لحوم الغوافل.
فقالت: لكنك لست كذلك.(2/590)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
- 12 - لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هذا إفك مبين - 13 - لولا جاؤوا عليه(2/590)
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُولَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ
هَذَا تَأْدِيبٌ مِنَ الله تعالى للمؤمنين في قصة عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ أَفَاضَ بَعْضُهُمْ في ذلك الكلام السوء وما ذكر من شأن الإفك، فقال تعالى: {لولا} يعني هلا {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} أي ذلك الكلام الذي رميت به أم المؤمنين رضي الله عنها {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} أَيْ قَاسُوا ذَلِكَ الْكَلَامَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ كَانَ لَا يَلِيقُ بِهِمْ فَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ بطريق الأولى والأحرى، روي أن أبا أيوب (خالد بن زيد الأنصاري) قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ أَيُّوبَ: يَا أَبَا أيوب أتسمع مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ الْكَذِبُ، أَكُنْتِ فَاعِلَةً ذَلِكَ يَا أُمَّ أَيُّوبَ؟ قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَهُ، قَالَ: فَعَائِشَةُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْكِ، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ وَذَكَرَ أَهْلَ الْإِفْكِ، قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} يَعْنِي أَبَا أَيُّوبَ حِينَ قَالَ لأم أيوب ما قال (ذكره محمد بن إسحاق بن يسار ومحمد بن عمر الواقدي) . وقوله تعالى: {ظَنَّ المؤمنون} الخ: أَيْ هَلَّا ظَنُّوا الْخَيْرَ، فَإِنَّ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَهْلُهُ وَأَوْلَى بِهِ، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَاطِنِ، وقوله: {وَقَالُواْ} : أَيْ بِأَلْسِنَتِهِمْ {هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} أَيْ كذب ظاهر على أم المؤمنين رضي الله عنها، فَإِنَّ الَّذِي وَقَعَ لَمْ يَكُنْ رِيبَةً، وَذَلِكَ أَنَّ مَجِيءَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَاكِبَةً جَهْرَةً عَلَى رَاحِلَةِ (صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ) فِي وَقْتِ الظَّهِيرَةِ وَالْجَيْشُ بِكَمَالِهِ يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهُمْ، ولو كَانَ هَذَا الْأَمْرُ فِيهِ رِيبَةٌ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا جَهْرَةً، وَلَا كَانَا يُقَدِمَانِ عَلَى مِثْلِ ذلك على رؤوس الأشهاد، بل كان هذا يكون لَوْ قُدِّرَ خُفْيَةً مَسْتُورًا، فَتَعَيَّنَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ أَهْلُ الْإِفْكِ مِمَّا رَمَوْا بِهِ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْكَذِبُ الْبَحْتُ، وَالْقَوْلُ الزُّورُ والرعونة الفاحشة الفاجرة قال الله تعالى {لَّوْلاَ} أي هلا {جاؤوا عَلَيْهِ} أَيْ عَلَى مَا قَالُوهُ {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} يَشْهَدُونَ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءُوا بِهِ {فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فأولئك عند اللهم الكاذبون} أي في حكم الله كاذبون فاجرون.(2/591)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
- 14 - وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا والآخرة لمسكم فيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
- 15 - إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ
يَقُولُ تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أَيُّهَا الْخَائِضُونَ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ، بِأَنْ قَبِلَ تَوْبَتَكُمْ وَإِنَابَتَكُمْ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَعَفَا عَنْكُمْ لِإِيمَانِكُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ {لَمَسَّكُمْ فيما أَفَضْتُمْ فِيهِ} مِنْ قَضِيَّةِ الْإِفْكِ {عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهذا فيمن عند إيمان يقبل الله بسببه التوبة، كمسطح و (حسان) و (حمة بِنْتِ جَحْشٍ) فَأَمَّا مَنْ خَاضَ فِيهِ مِنَ المافقين كعبد الله بن أبي
ابن سَلُولٍ وَأَضْرَابِهِ، فَلَيْسَ أُولَئِكَ مُرَادِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنَ الإيمانُ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَا يُعَادِلُ هَذَا وَلَا مَا يُعَارِضُهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} قَالَ مجاهد: أي يروي بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ، يَقُولُ: هَذَا سَمِعْتُهُ مِنْ فُلَانٍ، وَقَالَ فَلَانٌ كَذَا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ كَذَا، وقوله تعالى: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أَيْ تَقُولُونَ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} أَيْ تَقُولُونَ مَا تَقُولُونَ فِي شَأْنِ أُمَّ المؤمنين وتحسبون ذلك يسيراً وسهلاً، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةَ(2/591)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَا كَانَ هيناً، فكيف وهي زوجة خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، فَعَظِيمٌ عِندَ اللَّهِ أَن يقال في زوجة نبيه ورسوله ما قيل، فإن الله سبحانه وتعالى يغار لهذا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يَدْرِي مَا تبلغ (وفي رواية لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا) يَهْوِي بِهَا فِي النار أبعد مما بين السماء والأرض» .(2/592)
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
- 16 - وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ
- 17 - يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
- 18 - وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
هَذَا تَأْدِيبٌ آخَرُ بَعْدَ الْأَوَّلِ، يقول اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا} أَيْ مَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَفَوَّهَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَلَا نَذْكُرَهُ لِأَحَدٍ {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} أَيْ سُبْحَانَ اللَّهِ أَنْ يُقَالَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى زوجة رسوله، وجليلة خَلِيلِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً} أَيْ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ مُتَوَعِّدًا أَنْ يَقَعَ مِنْكُمْ مَا يُشْبِهُ هَذَا أَبَدًا، أي فيما يستقبل، ولهذا قال: {إِنْ كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي إن كنت تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَشَرْعِهِ وَتُعَظِّمُونَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} أَيْ يُوَضِّحُ لَكُمُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ وَالْحِكَمَ الْقَدَرِيَّةَ، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أَيْ عَلِيمٌ بِمَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ، حَكِيمٌ فِي شرعه وقدره.(2/592)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
- 19 - إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا والآخرة والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تعلمون
هذا تَأْدِيبٌ ثَالِثٌ لِمَنْ سَمِعَ شَيْئًا مِنَ الْكَلَامِ السيء فقام بذهنه شيء منه وتكلم به، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُواْ} أَيْ يَخْتَارُونَ ظُهُورَ الْكَلَامِ عَنْهُمْ بِالْقَبِيحِ {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} أَيْ بِالْحَدِّ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْعَذَابِ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أَيْ فَرُدُّوا الأمر إليه ترشدوا، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُؤْذُوا عِبَادَ اللَّهِ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَطْلُبُوا عَوَرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ طَلَبَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ طَلَبَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ فِي بيته» (أخرجه الإمام أحمد عن ثوبان مرفوعاً) .(2/592)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
- 20 - وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رؤوف رَحِيمٌ
- 21 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
يقول الله تَعَالَى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رؤوف رَّحِيمٌ} أَيْ لَوْلَا هَذَا لَكَانَ أَمْرٌ آخَرُ، ولكنه(2/592)
تَعَالَى رُؤُوفٌ بِعِبَادِهِ رَحِيمٌ بِهِمْ، فَتَابَ عَلَى مَنْ تَابَ إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَطَهَّرَ من طهر منهم بالحد الذي أقيم عليهم، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} يَعْنِي طَرَائِقَهُ وَمَسَالِكَهُ وَمَا يَأْمُرُ بِهِ، {وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ، هَذَا تَنْفِيرٌ وَتَحْذِيرٌ مِنْ ذلك بأفصح عبارة وأبلغها وأوجزها وأحسنها. قال ابْنِ عَبَّاسٍ {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} : عَمَلَهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَغَاتِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كُلُّ مَعْصِيَةٍ فَهِيَ مِنْ خطوات الشيطان، وسأل رَجُلٌ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إِنِّي حَرَّمْتُ أَنْ آكل طعاماً وسماه، فقال: هذا من نزغات الشَّيْطَانِ، كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَكُلْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ فِي رَجُلٍ نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِهِ: هَذَا مِنْ نزغات الشيطان وأفتاه أن يذبح كبشاً. وعن أَبِي رَافِعٍ قَالَ: غَضِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي فَقَالَتْ: هِيَ يَوْمًا يَهُودِيَّةٌ وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّةٌ وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ إِنْ لَمْ تُطْلِّقِ امْرَأَتَكَ، فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ: إِنَّمَا هَذِهِ من نزغات الشيطان (ذكره ابن أبي حاتم) . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} أي لولا أن الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ التَّوْبَةَ وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِ وَيُزَكِّي النفوس من شركها وفجورها ودنسها، وَمَا فِيهَا مِنْ أَخْلَاقٍ رَدِيئَةٍ كُلٌّ بِحَسَبِهِ، لَمَا حَصَّلَ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ زَكَاةً وَلَا خَيْرًا، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ} أَيْ مَنْ خَلْقِهِ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُرْدِيهِ فِي مَهَالِكِ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ، وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} أَيْ سَمِيعٌ لأقوال عباده، {عليم} بمن يستحق منهم الهدى والضلال.(2/593)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
- 22 - وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتَلِ} مِنَ الألية وهي الحلف أي لا يحلف {أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ} أَيِ الطَّوْلِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ. {وَالسَّعَةِ} أَيِ الْجِدَةِ {أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ لَا تَحْلِفُوا أن لا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين، وهذا فِي غَايَةِ التَّرَفُّقِ وَالْعَطْفِ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ، ولهذا قال تعالى: {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوا} أَيْ عَمَّا تَقَدَّمَ مِنْهُمْ مِنَ الْإِسَاءَةِ وَالْأَذَى، وَهَذَا مِنْ حِلْمِهِ تَعَالَى وَكَرَمِهِ ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم، وهذه الآيات نزلت في (الصدّيق) رضي الله عنه، حين حلف أن لا ينفع (مسطح بن أثاثة) بنافعة أبداً، بَعْدَمَا قَالَ فِي عَائِشَةَ مَا قَالَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، وَطَابَتِ النُّفُوسُ الْمُؤْمِنَةُ وَاسْتَقَرَّتْ، وتاب الله عليّ من تَكَلَّمَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ، وَأُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ، شَرَعَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَلَهُ الْفَضْلُ وَالْمِنَّةُ - يُعْطِّفُ الصِّدِّيقَ عَلَى قَرِيبِهِ وَنَسِيبِهِ، وَهُوَ مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، فَإِنَّهُ كَانَ ابْنَ خَالَةِ الصَّدِيقِ، وَكَانَ مِسْكِينًا لَا مَالَ لَهُ إِلَّا مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِي سبيل الله وقد زلق زلقة تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْهَا، وَضُرِبَ الْحَدَّ عَلَيْهَا، وَكَانَ الصَّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعْرُوفًا بِالْمَعْرُوفِ، لَهُ الْفَضْلُ وَالْأَيَادِي عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ، فَلَمَّا نزلت هذه الآية، قال الصديق: بلى والله إنا نحب ان تغفر لنا يا ربنا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ مَا كَانَ يَصِلُهُ مِنَ النَّفَقَةِ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَنْزَعُهَا مِنْهُ أَبَدًا، فَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ هُوَ الصَّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ بِنْتِهِ.(2/593)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
- 23 - إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُواْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(2/593)
- 24 - يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
- 25 - يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ
هَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ، خُرِّجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ {الْمُؤْمِنَاتِ} فَأُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِالدُّخُولِ فِي هَذَا مِنْ كُلِّ مُحَصَّنَةٍ، وَلَا سِيَّمَا الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ النُّزُولِ وَهِيَ عَائِشَةُ بِنْتُ الصَّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّهَا بَعْدَ هَذَا، وَرَمَاهَا بِمَا رَمَاهَا بِهِ بَعْدَ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذِهِ الآية، فإنه كافر لأنه معاند للقرآن، وقوله تعالى: {لُعِنُواْ في الدنيا والآخرة} ، كقوله: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} الآية، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِعَائِشَةَ رضي الله عنها، قال ابن عباس: نزلت في عائشة خاصة، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: رُمِيتُ بِمَا رُمِيتُ بِهِ وَأَنَا غَافِلَةٌ فَبَلَغَنِي بَعْدَ ذَلِكَ، قَالَتْ: فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ عِنْدِي، إِذْ أُوحِيَ إليه، قالت: إِذَا أُوحِيَ إِلَيْهِ أَخَذَهُ كَهَيْئَةِ السُّبَاتِ، وَإِنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدِي ثُمَّ اسْتَوَى جَالِسًا يَمْسَحُ عَلَى وَجْهِهِ وَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ أبشري» قالت، فقلت: بِحَمْدِ اللَّهِ لَا بِحَمْدِكَ، فَقَرَأَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات - حتى بلغ - أولئك مبرؤون مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (أخرجه ابن جرير) ، وقال الضحاك: الْمُرَادُ بِهَا أَزْوَاجُ النَّبِيِّ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِنَّ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في الْآيَةِ {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الْآيَةَ: يَعْنِي أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَاهُنَّ أَهْلُ النِّفَاقِ، فَأَوْجَبَ اللَّهُ لَهُمُ اللَّعْنَةَ وَالْغَضَبَ وَبَاؤُوا بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ - إِلَى قَوْلِهِ - فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْجَلْدَ وَالتَّوْبَةَ، فَالتَّوْبَةُ تُقْبَلُ وَالشَّهَادَةُ تُرَدُّ.
وَقَالَ ابن جرير: فسّر ابن عباس سُورَةَ النُّورِ، فَلَمَّا أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الْآيَةَ قَالَ: فِي شَأْنِ عَائِشَةَ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم، وهي مبهمة (قوله وَهِيَ مُبْهَمَةٌ: أَيْ عَامَّةٌ فِي تَحْرِيمِ قَذْفِ كل محصنة) وَلَيْسَتْ لَهُمْ تَوْبَةٌ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ - إِلَى قَوْلِهِ - إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ} الآية، قَالَ: فَجَعَلَ لِهَؤُلَاءِ تَوْبَةً، وَلَمْ يَجْعَلْ لِمَنْ قَذَفَ أُولَئِكَ تَوْبَةً، قَالَ فهَّم بَعْضُ الْقَوْمِ أَنْ يَقُومَ إِلَيْهِ فَيُقَبِّلَ رَأْسَهُ مِنْ حُسْنِ ما فسر به سورة النور، وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ عُمُومَهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَيُعَضِّدُ الْعُمُومَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ» قيل: وما هن يا رسول الله؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الغافلات المؤمنات» (أخرجاه في الصحيحين) . وقوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّهُمْ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ إِذَا رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا أَهْلُ الصَّلَاةِ، قَالُوا: تَعَالَوْا حَتَّى نَجْحَدَ فَيَجْحَدُونَ فيختم عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، وَتَشْهَدُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حديثاً.(2/594)
وروى ابن أبي حاتم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَالَ: «أَتُدْرُونَ ممَّ أَضْحَكُ؟» قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "مِنْ مُجَادَلَةِ العبد ربه، يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: لَا أُجِيزُ عليَّ شَاهِدًا إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرَامِ عَلَيْكَ شُهُودًا، فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ بِعَمَلِهِ، ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ، فَيَقُولُ: بُعْدًا لكنَّ وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ" (ورواه مسلم والنسائي) . وَقَالَ قَتَادَةُ: ابْنَ آدَمَ، وَاللَّهِ إِنَّ عَلَيْكَ لَشُهُودًا غَيْرَ مُتَّهَمَةٍ مِنْ بَدَنِكَ فَرَاقِبْهُمْ، وَاتَّقِ اللَّهَ فِي سِرِّكَ وَعَلَانِيَتِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عليه خافية، الظُلمة عِنْدَهُ ضَوْءٌ، وَالسِّرُّ عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ وَهُوَ بِاللَّهِ حَسَنُ الظَّنِّ فَلْيَفْعَلْ ولا قوة إلا بالله. وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} ، قَالَ ابْنُ عباس {دِينَهُمُ} : أَيْ حِسَابَهُمْ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} أَيْ وَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ وَحِسَابُهُ هُوَ الْعَدْلُ الَّذِي لَا جَوْرَ فِيهِ.(2/595)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
- 26 - الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ للطيبات أولئك مبرؤون مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْخَبِيثَاتُ مِنَ الْقَوْلِ لِلْخَبِيثِينِ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْخَبِيثُونَ مِنَ الرِّجَالِ لِلْخَبِيثَاتِ مِنَ الْقَوْلِ، وَالطَّيِّبَاتُ مِنَ الْقَوْلِ لِلطَّيِّبِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالطَّيِّبُونَ مِنَ الرِّجَالِ لِلطَّيِّبَاتِ مِنَ الْقَوْلِ، قَالَ: وَنَزَلَتْ في عائشة وأهل الإفك (وبه قال مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ البصري) ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ الْكَلَامَ الْقَبِيحَ أَوْلَى بِأَهْلِ الْقُبْحِ مِنَ النَّاسِ، وَالْكَلَامَ الطَّيِّبَ أَوْلَى بِالطَّيِّبِينَ مِنَ النَّاسِ، فَمَا نَسَبَهُ أَهْلُ النفاق إلى عائشة من كلام هُمْ أَوْلَى بِهِ، وَهِيَ أَوْلَى بِالْبَرَاءَةِ وَالنَّزَاهَةِ منهم! ولهذا قال تعالى: {أولئك مبرؤون مِمَّا يَقُولُونَ} . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: الْخَبِيثَاتُ مِنَ النِّسَاءِ لِلْخَبِيثِينِ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْخِبِيثُونَ مِنَ الرِّجَالِ لِلْخَبِيثَاتِ مِنَ النِّسَاءِ؛ وَالطَّيِّبَاتُ مِنَ النِّسَاءِ لِلطَّيِّبِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالطَّيِّبُونَ من الرجال للطيبات من النساء؛ أَيْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَائِشَةَ زَوْجَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَهِيَ طَيِّبَةٌ لِأَنَّهُ أَطْيَبُ مِنْ كُلِّ طَيِّبٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَلَوْ كَانَتْ خَبِيثَةً لَمَا صَلَحَتْ لَهُ لَا شَرْعًا وَلَا قَدَرًا؛ وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {أولئك مبرؤون مِمَّا يَقُولُونَ} أَيْ هُمْ بُعَدَاءُ عَمَّا يَقُولُهُ أَهْلُ الْإِفْكِ وَالْعُدْوَانِ {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} أَيْ بِسَبَبِ مَا قِيلَ فِيهِمْ مِنَ الْكَذِبِ {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أَيْ عِنْدَ اللَّهِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَفِيهِ وعد بأن تكون زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنة.(2/595)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
- 27 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
- 28 - فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
- 29 - لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وما تكتمون(2/595)
هَذِهِ آدَابٌ شَرْعِيَّةٌ أَدَّبَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ المؤمنين، أمرهم أن لا يَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِهِمْ حَتَّى (يَسْتَأْنِسُوا) أَيْ يَسْتَأْذِنُوا قَبْلَ الدُّخُولِ وَيُسَلِّمُوا بَعْدَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يستأذن ثلاث مرات، فَإِنْ أُذِنَ لَهُ وَإِلَّا انْصَرَفَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا مُوسَى حِينَ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ انْصَرَفَ، ثم قال عمر: ألم تسمع صَوْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ يَسْتَأْذِنُ؟ ائْذَنُوا لَهُ، فَطَلَبُوهُ فَوَجَدُوهُ قَدْ ذَهَبَ، فَلَمَّا جَاءَ بعد ذلك قال: ما أرجعك؟ قَالَ: إِنِّي اسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وإني سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فلينصرف» ، فقال عمر:
لتأتيني عَلَى هَذَا بِبَيِّنَةٍ وَإِلَّا أَوْجَعْتُكَ ضَرْبًا، فَذَهَبَ إِلَى مَلَأٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَذَكَرَ لَهُمْ مَا قَالَ عُمَرُ، فَقَالُوا: لَا يَشْهَدُ لَكَ إِلَّا أَصْغَرُنَا، فَقَامَ مَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَأَخْبَرَ عُمَرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: أَلْهَانِي عَنْهُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ. وعن أنَس أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَأْذَنَ عَلَى (سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ) فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» فَقَالَ سَعْدٌ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَلَمْ يَسْمَعِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَلَّمَ ثَلَاثًا، وَرَدَّ عَلَيْهِ سَعْدٌ ثَلَاثًا، وَلَمْ يُسْمِعْهُ، فَرَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم، فاتبعه سَعْدٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا سَلَّمْتَ تَسْلِيمَةً إِلَّا وَهِيَ بِأُذُنِي، وَلَقَدْ رَدَدْتُ عَلَيْكَ وَلَمْ أُسْمِعْكَ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَسْتَكْثِرَ مِنْ سَلَامِكِ وَمِنَ الْبَرَكَةِ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْبَيْتَ فَقَرَّبَ إِلَيْهِ زَبِيبًا، فَأَكَلَ نَبِيُّ اللَّهِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: «أَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون» (أخرجه أحمد واللفظ له ورواه أبو داود والنسائي بنحوه) . ثُمَّ لِيُعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْتَأْذِنِ عَلَى أَهْلِ المنزل أن لا يَقِفَ تِلْقَاءَ الْبَابِ بِوَجْهِهِ، وَلَكِنْ لِيَكُنِ الْبَابُ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بشر قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ، وَيَقُولُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» ، وَذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا يومئذ ستور. وجاء رجل فَوَقَفَ عَلَى بَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يستأذن، فقام على الباب - يعني: مُسْتَقْبَلَ الْبَابِ - فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَكَذَا عَنْكَ - أَوْ هَكَذَا - فَإِنَّمَا الاستئذان من النظر» (أخرجه أبو داود وقد جاء في بعض الروايات أن الرجل سعد رضي الله عنه) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ أَنَّ امْرَأً اطلع عليك بغير إذن فحذفته بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جناح» ، وعن جَابِرٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي، فَدَقَقْتُ الباب، فقال: «من ذا؟» فقلت: أنا، قال: «أنا أنا» ، كأنه كرهه (أخرجه الجماعة من حديث شعبة عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنه) ، وَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لَا يُعْرَفُ صَاحِبُهَا حَتَّى يُفْصِحَ بِاسْمِهِ أَوْ كُنْيَتِهِ الَّتِي هُوَ مَشْهُورٌ بِهَا، وَإِلَّا فَكُلُّ أَحَدٍ يعبر عن نفسه بأنا، فلا يحصل بها المقصود من الاستئذان المأمور به في الآية، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: الِاسْتِئْنَاسُ الِاسْتِئْذَانُ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ واحد. وعن عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الثَّقَفِيِّ أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَأَلِجُ أَوْ أَنَلِجُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَمَةٍ لَهُ يُقَالُ لَهَا رَوْضَةُ: «قَوْمِي إِلَى هَذَا فَعَلِّمِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْسِنُ يَسْتَأْذِنُ، فَقُولِي لَهُ يَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟» ، فسمعها الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقال: «ادخل» (أخرجه أبو داود) . وقال مُجَاهِدٌ: جَاءَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ حَاجَةٍ وَقَدْ آذاه الرمضاء، فأتى فسطاط امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ،
قَالَتِ: ادْخُلْ بِسَلَامٍ، فَأَعَادَ، فَأَعَادَتْ وَهُوَ يُرَاوِحُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ قَالَ: قُولِي(2/596)
ادخل، قالت ادخل، فدخل. وروى هيثم عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْتَأْذِنُوا على أمهاتكم وأخواتكم، وقال أَشْعَثُ عَنْ (عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ) إِنَّ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَكُونُ فِي مَنْزِلِي عَلَى الْحَالِ الَّتِي لَا أحب أن يراني عليها أحد، لا وَالِدٌ وَلَا وَلَدٌ، وَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَدْخُلُ عَلَيَّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي وَأَنَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، قَالَ: فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بيوتا} الآية (أخرجه ابن أبي حاتم) . وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ يُخْبِرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ثلاث آيات جحد من الناس، قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} قَالَ: وَيَقُولُونَ: إِنَّ أَكْرَمَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُهُمْ بيتاً، قال: والأدب كُلُّهُ قَدْ جَحَدَهُ النَّاسُ، قَالَ، قُلْتُ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أَخَوَاتِي أَيْتَامٍ فِي حِجْرِي مَعِي فِي بيت واحد؟ قال: نعم، فرددت عليه ليرخص لي فأبى، فقال: تُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ، قَالَ: فَرَاجَعْتُهُ أيضاًَ فَقَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تطيع الله؟ قال، قلت: نعم، قال: فاستأذن، وقال طاووس: مَا مِنِ امْرَأَةٍ أَكْرَهُ إليَّ أَنْ أَرَى عورتها مِنْ ذَاتِ مَحْرَمٍ قَالَ: وَكَانَ يُشَدِّدُ فِي ذلك. وقال ابن مسعود: عَلَيْكُمُ الْإِذْنُ عَلَى أُمَّهَاتِكُمْ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ أَيَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ؟ قَالَ: لَا، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَإِلَّا فَالْأَوْلَى أَنْ يُعْلِمَهَا بِدُخُولِهِ وَلَا يُفَاجِئَهَا بِهِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ عَلَى هَيْئَةٍ لَا تُحِبُّ أن يراها عليها.
وروى ابن جرير عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَتْ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا جَاءَ مِنْ حاجة
فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق، كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه (أخرجه ابن جرير وقال ابن كثير: إسناده صحيح) . وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ الدَّارَ استأنس تكلم ورفع صوته، وقال مُجَاهِدٌ: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ} قَالَ: تَنَحْنَحُوا أَوْ تَنَخَّمُوا، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَتَنَحْنَحَ أَوْ يُحَرِّكَ نَعْلَيْهِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه نهى أن يطرق الرجل على أهله طروقاً - وفي رواية - لئلا يتخوفهم، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَهَارًا فَأَنَاخَ بظاهرها وقال: «انتظروا حتى ندخل عَشَاءٌ - يَعْنِي آخِرَ النَّهَارِ - حَتَّى تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وتستحد المغيبة» . وقال قتادة في قوله: {حتى تَسْتَأْنِسُواْ} : هو الاستئذان ثلاثاً، فمن لم يؤذن له منهم فَلْيَرْجِعْ، أَمَّا الْأُولَى فَلْيُسْمِعِ الْحَيَّ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَإِنْ شَاءُوا أَذِنُوا وَإِنْ شَاءُوا رَدُّوا؛ وَلَا تقفنَّ عَلَى بَابِ قَوْمٍ رَدُّوكَ عَنْ بَابِهِمْ، فَإِنَّ لِلنَّاسِ حَاجَاتٍ وَلَهُمْ أَشْغَالٌ وَاللَّهُ أَوْلَى بِالْعُذْرِ. وَقَالَ مُقَاتِلُ ابن حيان في الآية: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا لَقِيَ صَاحِبَهُ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ: حُيِّيتَ صَبَاحًا وَحُيِّيتَ مساء، وكان ذَلِكَ تَحِيَّةَ الْقَوْمِ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَنْطَلِقُ إِلَى صَاحِبِهِ فَلَا يَسْتَأْذِنُ حَتَّى يَقْتَحِمَ وَيَقُولَ: قد دخلت ونحو ذلك، فَيَشُقُّ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ، وَلَعَلَّهُ يَكُونُ مَعَ أَهْلِهِ، فَغَيَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي سَتْرٍ وَعِفَّةِ، وَجَعَلَهُ نَقْيًّا نَزِهًا مِنَ الدَّنَسِ وَالْقَذِرِ والدرن. فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا} الآية، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُقَاتِلٌ حَسَنٌ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} يَعْنِي الِاسْتِئْذَانُ، خَيْرٌ لَكُمْ بمعنى هو خير من الطرفين للمستأذن ولأهل البيت {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، وقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} ، وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنْ شَاءَ أَذِنَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَأْذَنْ، {وَإِن(2/597)
قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} أَيْ إِذَا رَدُّوكُمْ مِنَ الْبَابِ قَبْلَ الْإِذْنِ أَوْ بَعْدَهُ {فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} أَيْ رُجُوعُكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} . وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ: لَقَدْ طَلَبْتُ عُمْرِي كُلَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَمَا أَدْرَكْتُهَا أَنْ أَسْتَأْذِنَ عَلَى بَعْضِ إِخْوَانِي، فَيَقُولُ لِي: ارجع فأرجع وأنا مغتبط، لقوله تعالى: {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وَقَالَ سَعِيدُ بن جبير في الآية: أَيْ لَا تَقِفُوا عَلَى أَبْوَابِ النَّاسِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} الآية، هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَخَصُّ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا وَذَلِكَ أَنَّهَا تَقْتَضِي جَوَازَ الدُّخُولِ إِلَى الْبُيُوتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ إِذَا كَانَ لَهُ متاع فيها بِغَيْرِ إِذْنٍ كَالْبَيْتِ الْمُعَدِّ لِلضَّيْفِ إِذَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ كَفَى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} ، ثُمَّ نسخ واستثنى، فقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} (في اللباب: أخرج ابن أبي حاتم: لما نزلت آية الاستئذان قال أبو بكر: يا رسول الله، فكيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام، ولهم بيوت معلومة على الطريق، وليس فيها سلطان، فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ..} الآية) ، وقال آخرون: هي بيوت التجار كالخانات ومنزل الأسفار وبيوت مكة وغير ذلك.(2/598)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
- 30 - قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ
هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ عَمَّا حَرَّمَ عليهم، فلا ينظروا إلاّ لما أباح لهم النظر إليه، وأن يغمضوا أَبْصَارَهُمْ عَنِ الْمَحَارِمِ، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ وَقَعَ الْبَصَرُ عَلَى مَحْرَمٍ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلْيَصْرِفْ بصره عنه سريعاً، كما روي عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أصرف بصري (أخرجه مسلم ورواه أبو داود والترمذي والنسائي أيضاً) . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِيٍّ: «يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة» (أخرجه أبو داود الترمذي) وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا بُدَّ لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ أَبَيْتُمْ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ» قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ والنهي عن المنكر» ، وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ دَاعِيَةً إِلَى فَسَادِ الْقَلْبِ، لذلك أَمَرَ اللَّهُ بِحِفْظِ الْفُرُوجِ، كَمَا أَمَرَ بِحِفْظِ الأبصار التي هي بواعث لذلك، فقال تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزنا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} الآية، وَتَارَةً يَكُونُ بِحِفْظِهِ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ كَمَا جاء في الحديث: «احفظ عورتك إلا عن زوجتك أَوْ مَا مَلَكَتْ يمينك» (أخرجه أحمد وأصحاب السنن) {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} أَيْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِهِمْ وَأَنْقَى لِدِينِهِمْ، كَمَا قِيلَ: مَنْ حَفِظَ بَصَرَهُ أَوْرَثَهُ الله نوراً في بصيرته. وروى الإمام أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ عبادة يجد حلاوتها» . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ النَّظَرَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومٌ مَنْ تَرَكَهُ مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إِيمَانًا يَجِدُ حلاوته في قلبه» (أخرجه الطبراني عن ابن مسعود مرفوعاً) . وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الْأَعْيُنِ(2/598)
وَمَا تُخْفِي الصدور} . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنَ الزِّنَا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، وزنا الأذنين الاستماع، وزنا اليدين البطش، وزنا الرِّجْلَيْنِ الْخَطْيُ، والنَّفْس تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يكذبه» ، وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّهُمْ كَانُوا ينهون أن تحدّ الرجل نظره إِلَى الْأَمْرَدِ، وَقَدْ شَدَّدَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَحَرَّمَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الِافْتِتَانِ، وَشَدَّدَ آخَرُونَ في ذلك كثيراً جداً. وفي الحديث: «كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا عَيْنًا غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، وَعَيْنًا سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَيْنًا يَخْرُجُ مِنْهَا مِثْلُ رَأْسِ الذباب من خشية الله عزَّ وجلَّ» (أخرجه ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة مرفوعاً) .(2/599)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
- 31 - وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ
أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلنِّسَاءِ المؤمنات وغيرة منه لأزواجهن الْمُؤْمِنِينَ، وَتَمْيِيزٌ لَهُنَّ عَنْ صِفَةِ نِسَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ وفعال المشركات؛ وكان سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ (مُقَاتِلُ بن حيان) قال: بلغنا أن أسماء بنت مرثد كَانَتْ فِي مَحِلٍّ لَهَا فِي بَنِي حَارِثَةَ، فجعل النساء يدخلن عليها غير متزرات، فيبدو ما بأرجلهن مِنَ الْخَلَاخِلِ، وَتَبْدُو صُدُورُهُنَّ وَذَوَائِبُهُنَّ، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: ما أقبح هذا، فأنزل الله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} الْآيَةَ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} أَيْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ مِنَ النَّظَرِ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ؛ وَلِهَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ النظر إلى الرجال الْأَجَانِبِ بِشَهْوَةٍ وَلَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ أَصْلًا، وَاحْتَجَّ كثير منهم بما روي عن أم سلمة أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَيْمُونَةُ، قَالَتْ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَهُ أَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بَعْدَمَا أُمِرْنَا بِالْحِجَابِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احْتَجِبَا مِنْهُ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ هُوَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُنَا وَلَا يَعْرِفُنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَ عَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا؟ أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ» (أخرجه أبو داود والترمذي وقال الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) . وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى جَوَازِ نَظَرِهِنَّ إِلَى الْأَجَانِبِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الحبشة وهو يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ يَوْمَ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ، وَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ تَنْظُرُ إِلَيْهِمْ مِنْ وَرَائِهِ وَهُوَ يَسْتُرُهَا مِنْهُمْ حَتَّى مَلَّتْ وَرَجَعَتْ، وَقَوْلُهُ: {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: عَنِ الْفَوَاحِشِ؛ وقال قتادة: عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُنَّ؛ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَنِ الزنا؛ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كُلُّ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقُرْآنِ يُذْكَرُ فِيهَا حِفْظُ الْفُرُوجِ فَهُوَ مِنَ الزنا،(2/599)
إلاّ هذه الآية: {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} أن لا يراها أحد، وقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أَيْ لَا يُظْهِرْنَ شَيْئًا مِنَ الزِّينَةِ لِلْأَجَانِبِ إلا ما لا يمكن إخفاؤه، قال ابْنُ مَسْعُودٍ: كَالرِّدَاءِ وَالثِّيَابِ، يَعْنِي عَلَى مَا كان يتعاطاه نِسَاءُ الْعَرَبِ مِنَ الْمِقْنَعَةِ الَّتِي تُجَلِّلُ ثِيَابَهَا وَمَا يَبْدُو مِنْ أَسَافِلِ الثِّيَابِ، فَلَا حَرَجَ عليها فيه، لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه، وقال ابن عباس: وجهها وكفيها والخاتم، وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِلزِّينَةِ الَّتِي نهين عن إبدائها، كما قال عبد الله بن مسعود: الزِّينَةُ زِينَتَانِ، فَزِينَةٌ لَا يَرَاهَا إِلَّا الزَّوْجُ: الْخَاتَمُ وَالسُّوَارُ، وَزِينَةٌ يَرَاهَا الْأَجَانِبُ، وَهِيَ الظَّاهِرُ من الثياب، وقال مالك {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} : الْخَاتَمُ وَالْخَلْخَالُ، وَيُحْتَمَلُ أن يكون ابْنَ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَابَعَهُ أَرَادُوا تَفْسِيرَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ (أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ) دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَقَالَ: «يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إلاّ هذا، وأشار إلى وجهه وكفيه» (رواه أبو داود وهو حديث مرسل لأن خَالِدُ بْنُ دُرَيْكٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ) .
وقوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} يَعْنِي الْمَقَانِعَ يُعْمَلُ لها صفات ضاربات على صدورهن لِتُوَارِيَ مَا تَحْتَهَا مِنْ صَدْرِهَا وَتَرَائِبِهَا، لِيُخَالِفْنَ شِعَارَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُنَّ لَمْ يَكُنَّ يفعلن ذلك، بل كانت المرأة منهن تَمُرُّ بَيْنَ الرِّجَالِ مُسَفِّحَةً بِصَدْرِهَا لَا يُوَارِيهِ شَيْءٌ وَرُبَّمَا أَظْهَرَتْ عُنُقَهَا وَذَوَائِبَ شَعْرِهَا وَأَقْرِطَةَ آذَانِهَا، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنَاتِ أَنْ يَسْتَتِرْنَ فِي هيئاتهن وأحوالهن، كما قال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} وَالْخُمُرُ جَمْعُ خِمَارٍ: وَهُوَ مَا يُخَمَّرُ بِهِ أَيْ يُغَطَّى بِهِ الرَّأْسُ، وَهِيَ الَّتِي تُسَمِّيهَا النَّاسُ الْمَقَانِعَ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ {وَلْيَضْرِبْنَ} وَلِيَشْدُدْنَ {بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} يَعْنِي على النرح والصدر فلا يرى منه شيء، وروى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شَقَقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بها. وروى ابن أبي حاتم عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَذَكَرْنَا نِسَاءَ قُرَيْشٍ وَفَضْلَهُنَّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ لِنِسَاءِ قريش لفضلاً وإني والله ما رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ أَشَدَّ تَصْدِيقًا لكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل، ولقد أُنْزِلَتْ سُورَةُ النُّورِ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} انقلب رجالهن إليهن يَتْلُونَ عَلَيْهِنَّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فِيهَا، وَيَتْلُو الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ وَعَلَى كل ذي قرابته، فَمَا مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا قَامَتْ إِلَى مِرْطِهَا الْمُرَحَّلِ، فَاعْتَجَرَتْ بِهِ تَصْدِيقًا وَإِيمَانًا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابِهِ، فَأَصْبَحْنَ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم معتجرات كأنهن على رؤوسهن الغربان (أخرجه ابن أبي حاتم وأبو داود) . وقال ابن جرير عن عائشة قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ النِّسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ، لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شَقَقْنَ أكتف مروطهن فاختمرن بها، وقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا بعولتهن} أي أَزْوَاجَهُنَّ {أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} كُلُّ هَؤُلَاءِ محارم للمرأة يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَظْهَرَ عَلَيْهِمْ بِزِينَتِهَا، وَلَكِنْ من غير تبرج. فَأَمَّا الزَّوْجُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ أَجْلِهِ، فتتصنع له بما لَا يَكُونُ بِحَضْرَةِ غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} يعني تظهر بزينتها أَيْضًا لِلنِّسَاءِ الْمُسَلِمَاتِ، دُونَ نِسَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، لئلا تصفهن لرجالهن، فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع؛ فأما(2/600)
الْمُسْلِمَةُ فَإِنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ فَتَنْزَجِرُ عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُبَاشِرُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ تَنْعَتُهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا» (أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عن ابن مسعود مرفوعاً) .
وروي أن عمر بن الخطاب كتب إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ الْمُسْلِمِينَ يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ مَعَ نِسَاءِ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَإِنَّهُ مِنْ قِبَلِكَ فَلَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَوْرَتِهَا إِلَّا أَهْلُ مِلَّتِهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} قَالَ: نِسَاؤُهُنَّ الْمُسْلِمَاتُ، لَيْسَ الْمُشْرِكَاتُ مِنْ نِسَائِهِنَّ، وَلَيْسَ للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة، وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} قَالَ: هَنُ الْمُسْلِمَاتُ لَا تُبْدِيهِ لِيَهُودِيَّةٍ وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ، وَهُوَ النَّحْرُ وَالْقُرْطُ والْوِشَاحُ وَمَا لَا يَحِلُّ أَنْ يراه إلاّ محرم، وروى سعيد عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَا تَضَعُ الْمُسْلِمَةُ خِمَارَهَا عِنْدَ مُشْرِكَةٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} فَلَيْسَتْ مِنْ نِسَائِهِنَّ، وَعَنْ مَكْحُولٍ وَعُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ: أَنَّهُمَا كَرِهَا أَنْ تُقَبِّلَ النَّصْرَانِيَّةُ واليهودية والمجوسية المسلمة. وقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} قال ابن جرير: يَعْنِي مِنْ نِسَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تُظْهِرَ زَينَتَهَا لَهَا وَإِنْ كَانَتْ مُشْرِكَةً لِأَنَّهَا أَمَتُهَا؛ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: بَلْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَظْهَرَ عَلَى رَقِيقِهَا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي رواه أبو داود عَنْ أنَس أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى فَاطِمَةَ بِعَبْدٍ قَدْ وَهَبَهُ لَهَا، قَالَ: وَعَلَى فَاطِمَةَ ثَوْبٌ إِذَا قَنَّعَتْ بِهِ رَأْسَهَا لَمْ يَبْلُغْ رِجْلَيْهَا، وَإِذَا غَطَّتْ بِهِ رِجْلَيْهَا لَمْ يَبْلُغْ رَأْسَهَا، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَلْقَى قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكِ بَأْسٌ إِنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وغلامك» . وروى الإمام أحمد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ وَكَانَ لَهُ مَا يُؤَدِّي فَلْتَحْتَجِبْ منه» ، وقوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} يَعْنِي كَالْأُجَرَاءِ وَالْأَتْبَاعِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِأَكْفَاءَ، وَهُمْ مع ذلك في عقولهم وله ولا همة لَهُمْ إِلَى النِّسَاءِ وَلَا يَشْتَهُونَهُنَّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْمُغَفَّلُ الَّذِي لَا شَهْوَةَ لَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْأَبْلَهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ المخنث الذي لا يقوم ذكره وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ
مِنَ السَّلَفِ، وَفِي الصحيح عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ مُخَنَّثًا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَنَعَتُ امْرَأَةً يَقُولُ: إِنَّهَا إِذَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَتْ بِأَرْبَعٍ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ أَدْبَرَتْ بِثَمَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أَرَى هَذَا يعلم ما ههنا لا يدخلن عليكم» فأخرجه، وروى الإمام أحمد عن أم سلمة أنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعندها مخنث، وعندها (عبد الله بن أبي أمية) يعني أخاها والمخنث يقول: يا عبد الله إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الطَّائِفَ غَدًا فَعَلَيْكَ بِابْنَةِ غَيْلَانَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرْ بِثَمَانٍ، قَالَ: فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: «لَا يَدْخُلَنَّ هَذَا عليك» (وأخرجاه فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ) .
وقوله تعالى: {أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النساء} يعين لِصِغَرِهِمْ لَا يَفْهَمُونَ أَحْوَالَ النِّسَاءِ وَعَوْرَاتِهِنَّ مِنْ كلامهن الرخيم، وتعطفهن في المشية وحركاتهن وسكناتهن، فَإِذَا كَانَ الطِّفْلُ صَغِيرًا لَا يَفْهَمُ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِدُخُولِهِ عَلَى النِّسَاءِ، فَأَمَّآ إِن كَانَ مُرَاهِقًا أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ بِحَيْثُ يَعْرِفُ ذَلِكَ وَيَدْرِيهِ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّوْهَاءِ وَالْحَسْنَاءِ، فَلَا يُمَكَّنُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى(2/601)
النساء» قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: «الْحَمْوُ الموت» . وقوله تعالى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} الآية، كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَتْ تَمْشِي فِي الطَّرِيقِ وَفِي رَجْلِهَا خَلْخَالٌ صَامِتٌ لَا يعلم صوتها ضربت برجلها الأرض، فيسمع الرِّجَالُ طَنِينَهُ، فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنَاتِ عَنْ مَثَلِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ زِينَتِهَا مَسْتُورًا فَتَحَرَّكَتْ بِحَرَكَةٍ لِتُظْهِرَ مَا هُوَ خَفِيٌّ دَخَلَ فِي هَذَا النَّهْيِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} إلى آخره، ومن ذلك أَنَّهَا تُنْهَى عَنِ التَّعَطُّرِ وَالتَّطَيُّبِ عِنْدَ خُرُوجِهَا من بيتها، فيشم الرجال طيبها، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ عَيْنٍ زَانِيَةٌ، وَالْمَرْأَةُ إِذَا اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ بالمجلس فهي كذا وكذا» يعني زانية. (أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه أيضاً ابو داود والنسائي) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه لقي امرأة شم مِنْهَا رِيحَ الطِيبِ وَلِذَيْلِهَا إِعْصَارٌ، فَقَالَ: يَا أَمَةَ الْجَبَّارِ جِئْتِ مِنَ الْمَسْجِدِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قال لها: تَطَيَّبْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ حِبِّي أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لا يقبل الله صلاة امرأة طيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغسل غسلها من الجنابة» (أخرجه أبو داود وابن ماجه) ، وفي الحديث: «الرَّافِلَةُ فِي الزِّينَةِ فِي غَيْرِ أَهْلِهَا كَمَثَلِ ظلمة يوم القيامة لا نور لها» (أخرجه الترمذي عن ميمونة بنت سعد مرفوعاً) ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُنَّ يُنهَيْنَ عَنِ الْمَشْيِ فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّبَرُّجِ، فقد روي عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أبيه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَقَدِ اخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ: «اسْتَأْخِرْنَ فَإِنَّهُ ليس لكن أن تحتضن الطَّرِيقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ» ، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُلْصَقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لِيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لصوقها به (أخرجه الترمذي في السنن) ، وقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أَيْ افْعَلُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْجَلِيلَةِ، وَاتْرُكُوا مَا كَانَ عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الزديلة، فَإِنَّ الْفَلَاحَ كُلَّ الْفَلَاحِ فِي فِعْلِ مَا أمر الله ورسوله، وترك ما نهى عنه والله تعالى المستعان.(2/602)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
- 32 - وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
- 33 - وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
- 34 - وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم وَمَوْعِظَةً للمتقين
اشتملت هذه الآيات الكريمات، على جمل من الأحكام المحكمة، فقوله تعالى: {وأنحكوا الأيامى مِنْكُمْ} أَمْرٌ بِالتَّزْوِيجِ، وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى وُجُوبِهِ عَلَى كُلِّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، واحتجوا بظاهر قوله عليه السلام: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» (أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود) ، وقد جاء في السنن: «تزوجوا الولود، تَنَاسَلُوا فَإِنِّي مُبَاهٍ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، الْأَيَامَى جَمْعُ أَيِّمٍ، وَيُقَالُ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا، وَلِلرَّجُلِ الَّذِي لَا زَوْجَةَ له، يقال: رجل أيم وامرأة أيم، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَغَّبَهُمُ اللَّهُ فِي التَّزْوِيجِ وَأَمَرَ بِهِ الْأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ، وَوَعَدَهُمْ عَلَيْهِ الْغِنَى، فَقَالَ: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} ، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أَطِيعُوا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ النِّكَاحِ، يُنْجِزْ لَكُمْ مَا وَعَدَكُمْ مِنَ الْغِنَى، قَالَ تَعَالَى: {إِنْ يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْتَمِسُوا الْغِنَى فِي النِّكَاحِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} ،
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: النَّاكِحُ يُرِيدُ الْعَفَافَ، وَالْمُكَاتَبُ يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالْغَازِي فِي سَبِيلِ الله" (رواه أحمد والترمذي والنسائي) ، وقد زوّج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي لا يجد عليه إِلَّا إِزَارَهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى خَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَمَعَ هَذَا فَزَوَّجَهُ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ، وَجَعَلَ صداقها عليه أن يعلمها ما معه مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْمَعْهُودُ مِنْ كَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ لَا يَجِدُ تَزْوِيجًا بالتعفف عن الحرام، كما قال صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ(2/602)
فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» وَهَذِهِ الْآيَةُ مُطْلَقَةٌ وَالَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَخَصُّ مِنْهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات} ، إلى قوله: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي صبركم عن تزوج الإماء خير لكم لِأَنَّ الْوَلَدَ يَجِيءُ رَقِيقًا {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، قَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يَرَى الْمَرْأَةَ فَكَأَنَّهُ يَشْتَهِي، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ فَلْيَذْهَبْ إِلَيْهَا وَلْيَقْضِ حَاجَتَهُ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ امْرَأَةٌ فَلْيَنْظُرْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حتى يغنيه الله.
وقوله تعالى: {والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مما ملكت أيمانهم فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فيهم خيرا} (في اللباب: أخرج ابن السكن: عن عبد الله بن صبيح عن أبيه قال: كنت مملوكاً لحويطب بن عبد العزى فسألته الكتابة، فنزلت {والذين يبتغون ... } الآية) هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلسَّادَةِ إِذَا طلب عبيدهم منهم الكتابة أن يكاتبوهم، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لِلْعَبْدِ حِيلَةٌ وَكَسْبٌ، يُؤَدِّي إِلَى سَيِّدِهِ الْمَالَ الَّذِي شَارَطَهُ عَلَى أَدَائِهِ، وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَمْرُ إِرْشَادٍ وَاسْتِحْبَابٍ، لَا أَمْرَ تحتم وإيجاب، قال الشَّعْبِيِّ: إِنْ شَاءَ كَاتَبَهُ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يكاتبه (وكذا قال عطاء ومقاتل وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ) ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ إِذَا طَلَبَ مِنْهُ عَبْدُهُ ذَلِكَ أَنْ يُجِيبَهُ إِلَى مَا طَلَبَ أَخْذًا بِظَاهِرِ هذا الأمر، وقال البخاري عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَوَاجِبٌ عَلَيَّ إِذَا عَلِمْتُ لَهُ مَالًا أَنْ أُكَاتِبَهُ؟ قَالَ: مَا أَرَاهُ إِلَّا وَاجِبًا، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَتَأْثِرُهُ عَنْ أَحَدٍ؟ قَالَ: لا، ثم أخبرني أَنَّ سِيرِينَ سَأَلَ أَنَسًا الْمُكَاتَبَةَ، وَكَانَ كَثِيرَ المال، فأبى، فانطلق إلى عمر رضي الله عنه، فَقَالَ: كَاتِبْهُ، فَأَبَى، فَضَرَبَهُ بِالدُّرَّةِ وَيَتْلُو عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} فكاتبه (ذكره البخاري معلقاً) ،(2/603)
وذهب الشافعي فِي الْجَدِيدِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِقَوْلِهِ عليه السلام: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبٍ نفس» ، وقال مالك: الأمر عندنا أنه لَيْسَ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ أَنْ يُكَاتِبَهُ إِذَا سَأَلَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنَ الْأَئِمَّةِ أكره أحداً على أن يكاتب عبده، وكذا قال الثوري وأبو حنيفة، وقوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قَالَ بَعْضُهُمْ: أَمَانَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صِدْقًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَالًا، وَقَالَ بعضهم: حيلة وكسباً، وقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} اخْتَلَفَ المفسرون فيه، فقال بعضهم: معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها، وقال آخرون: بل المراد هُوَ النَّصِيبُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ أموال الزكاة (وهذا قول الحسن ومقاتل وعبد الرحمن بن زيد ابن أسلم واختاره ابن جرير) ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يعينوا في الرقاب، وقد تقدم الحديث: «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ» فَذَكَرَ مِنْهُمُ المكاتب يريد الأداء، والقول الأول أشهر. وعن ابن عباس في الآية {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} قَالَ: ضعوا عنهم من مكاتبتهم، وقال محمد بن سيرين في الآية: كَانَ يُعْجِبُهُمْ أَنْ يَدَعَ الرَّجُلُ لِمُكَاتَبِهِ طَائِفَةً من مكاتبته، وقوله تعالى: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء} الْآيَةَ، كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ أَمَةٌ أَرْسَلَهَا تَزْنِي وَجَعَلَ عَلَيْهَا ضَرِيبَةً يَأْخُذُهَا مِنْهَا كُلَّ وَقْتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ نَهَى الله المؤمنين عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الكريمة فِي شَأْنِ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي بْنِ سلول) فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ إِمَاءٌ فَكَانَ يُكْرِهْهُنَّ عَلَى البغاء طلباً لخراجهن، ورغبة في أولادهن، ورياسة منه فيما يزعم.
(ذِكْرُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ)
قَالَ الْحَافِظُ البزار في مسنده: كَانَتْ جَارِيَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي بْنِ سلول يقال لها (معاذة) يكرهها على الزنا فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ نَزَلَتْ: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء} الآية، وقال الأعمش: نَزَلَتْ فِي أَمَةٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابن سَلُولٍ يُقَالُ لَهَا (مُسَيْكَةُ) كَانَ يُكْرِهُهَا عَلَى الْفُجُورِ وَكَانَتْ لَا بَأْسَ بِهَا فَتَأْبَى، فَأَنْزَلَ الله هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} الآية، وروى النسائي عن جابر نحوه. وعن الزُّهْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا مَنْ قُرَيْشٍ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ عِنْدَ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ) أَسِيرًا وَكَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا (مُعَاذَةُ) وَكَانَ الْقُرَشِيُّ الْأَسِيرُ يُرِيدُهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَكَانَتْ مُسْلِمَةً، وَكَانَتْ تَمْتَنِعُ مِنْهُ لِإِسْلَامِهَا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يُكْرِهُهَا على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل من القرشي فَيَطْلُبَ فِدَاءَ وَلَدِهِ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أُنْزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِي (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي بْنِ سَلُولٍ) رأس الْمُنَافِقِينَ، وَكَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ تُدْعَى (مُعَاذَةُ) وَكَانَ إِذَا نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ أَرْسَلَهَا إِلَيْهِ لِيُوَاقِعَهَا إِرَادَةَ الثَّوَابِ مِنْهُ وَالْكَرَامَةِ لَهُ، فَأَقْبَلَتِ الْجَارِيَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَشَكَتْ إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُ بِقَبْضِهَا، فَصَاحَ عَبْدُ الله بن أبي من يعذرنا مِنْ مُحَمَّدٍ يَغْلِبُنَا عَلَى مَمْلُوكَتِنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ فيهم هذا، وقول تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، وقوله تعالى: {لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ مِنْ خَرَاجِهِنَّ وَمُهُورِهِنَّ وَأَوْلَادِهِنَّ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَفِي رِوَايَةٍ: «مَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ» ، وقوله تعالى: {وَمَنْ يكرههنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ(2/604)
غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أَيْ لَهُنَّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الحديث عن جابر. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: فَإِنْ فَعَلْتُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَهُنَّ غفور رحيم، وإثمهن على من أكرههن؛ وقال أبو عبيد عَنِ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إكرههن غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قَالَ: لَهُنَّ وَاللَّهِ، لَهُنَّ وَاللَّهِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . وَلَمَّا فصل تبارك وتعالى هذه الأحكام وبينها قال تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إليكم آيات بينات} يَعْنِي الْقُرْآنَ فِيهِ آيَاتٌ وَاضِحَاتٌ مُفَسِّرَاتٌ {وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} أَيْ خَبَرًا عَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَمَا حَلَّ بِهِمْ فِي مُخَالَفَتِهِمْ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً للآخرين} أي زاجراً عن ارتكاب المآثم والمحارم {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} أَيْ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَخَافَهُ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ: فِيهِ حَكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَخَبَرُ مَا قَبْلَكُمْ، وَنَبَأُ مَا بَعْدَكُمْ، وَهُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ فقصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.(2/605)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
- 35 - اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يَقُولُ: هادي أهل السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يُدْبِّرُ الْأَمْرَ فِيهِمَا نُجُومِهِمَا وَشَمْسِهِمَا وقمرهما. وقال ابن جرير عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يقول نوري هدى، واختار هذا القول ابن جرير، وقال أبي بن كعب: هُوَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ فِي صَدْرِهِ فَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَهُ فَقَالَ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فَبَدَأَ بِنُورِ نَفْسِهِ، ثُمَّ ذكر نور المؤمن، فقتل: مَثَلُ نُورِ مَنْ آمَنَ بِهِ، فَهُوَ الْمُؤْمِنُ جعل الإيمان والقرآن في صدره، وعن ابن عباس أنه قرأها {مثل نُورِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ {اللَّهُ منّور السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فَبِنُورِهِ أَضَاءَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وفي الحديث: «أُعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ» (ذكره ابن إسحاق في السيرة من دعائه صلى الله عليه وسلم يوم آذاه أهل الطائف) . وفي الصحيحين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَن فِيهِنَّ، ولك الحمد أنت قيوم السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَن فِيهِنَّ» الْحَدِيثَ. وَعَنِ ابْنِ مسعود قَالَ: إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، نُورُ الْعَرْشِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {مَّثَلُ نُورِهِ} فِي هَذَا الضَّمِيرِ قَوْلَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ أَيْ مَثَلُ هُدَاهُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ {كَمِشْكَاةٍ} . (وَالثَّانِي) : أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الْمُؤْمِنِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، تَقْدِيرُهُ: مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ كَمِشْكَاةٍ، فَشَبَّهَ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ وَمَا هُوَ مَفْطُورٌ عَلَيْهِ مِنَ الْهُدَى وَمَا يَتَلَقَّاهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُطَابِقِ لِمَا هُوَ مَفْطُورٌ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} فَشَبَّهَ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ فِي صَفَائِهِ فِي نَفْسِهِ بِالْقِنْدِيلِ مِنَ الزُّجَاجِ الشَّفَّافِ الْجَوْهَرِيِّ، وَمَا يَسْتَهْدِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالشَّرْعِ بِالزَّيْتِ الْجَيِّدِ الصَّافِي الْمُشْرِقِ الْمُعْتَدِلِ الَّذِي لَا كَدَرَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ؛ فقوله {كَمِشْكَاةٍ} قال ابن عباس(2/605)
ومجاهد: هُوَ مَوْضِعُ الْفَتِيلَةِ مِنَ الْقِنْدِيلِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ {فِيهَا مِصْبَاحٌ} وَهُوَ الزبالة (الزِبالة: يقال للفتيلة التي يُصبَحُ بها السراج زبالة وزبّالة، وجمعها زُبال وزُبَّال) التي تضيء.
وقال مجاهد: هي الكوة بلغة الحبشة، وزاد بعضهم فَقَالَ: الْمِشْكَاةُ الْكُوَّةُ الَّتِي لَا مَنْفَذَ لَهَا، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْمِشْكَاةُ الْحَدَائِدُ الَّتِي يُعَلَّقُ بِهَا الْقِنْدِيلُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَهُوَ أَنَّ الْمِشْكَاةَ هو مَوْضِعُ الْفَتِيلَةِ مِنَ الْقِنْدِيلِ، وَلِهَذَا قَالَ: {فِيهَا مِصْبَاحٌ} وهو النور الذي في الزبالة، قَالَ أُبي بْنُ كَعْبٍ: الْمِصْبَاحُ النُّورُ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْإِيمَانُ الَّذِي فِي صَدْرِهِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ هُوَ السِّرَاجُ {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} أَيْ هَذَا الضوء مشرق في زجاجة صافية، وَهِيَ نَظِيرُ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أي كأنها كوكب من ذر، قَالَ أُبي بْنُ كَعْبٍ: كَوْكَبٌ مُضِيءٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: مُضِيءٌ مُبِينٌ ضَخْمٌ {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} أَيْ يَسْتَمِدُّ مِنْ زَيْتِ زَيْتُونِ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ {زَيْتُونَةٍ} بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} أَيْ لَيْسَتْ فِي شَرْقِيِّ بُقْعَتِهَا فَلَا تَصِلُ إِلَيْهَا الشَّمْسُ مِنْ أَوَّلِ النهار، ولا في غربيها فيقلص عَنْهَا الْفَيْءُ قَبْلَ الْغُرُوبِ، بَلْ هِيَ فِي مكان وسط تعصرها الشَّمْسُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى آخِرِهِ، فَيَجِيءُ زيتها صافياً معتدلاً مشرقاً، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} قال: هي شجرة بالصحراء لا يظلها شجر ولا جبل وَلَا كَهْفٌ، وَلَا يُوَارِيهَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَجْوَدُ لزيتها، وقال عكرمة: تِلْكَ زَيْتُونَةٌ بِأَرْضِ فَلَاةٍ إِذَا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ أشرقت عليها، فإذا غربت غربت عليها فذلك أصفى ما يكون من الزيت، وعن سعيد بن جبير في قوله: {زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} قَالَ: هُوَ أَجْوَدُ الزَّيْتِ، قَالَ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ أَصَابَتْهَا مِنْ صَوْبِ الْمَشْرِقِ، فَإِذَا أَخَذَتْ فِي الْغُرُوبِ أَصَابَتْهَا الشَّمْسُ، فَالشَّمْسُ تُصِيبُهَا بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ فتلك تعد لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غربية.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الشَّجَرَةُ فِي الْأَرْضِ لَكَانَتْ شَرْقِيَّةً أَوْ غَرْبِيَّةً، وَلَكِنَّهُ مثل ضربه الله تعالى لِنُورِهِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} قَالَ: رَجُلٌ صَالِحٌ {زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} قَالَ: لَا يَهُودِيٍّ ولا نصراني، وأولى هذه الأقوال: أَنَّهَا فِي مُسْتَوًى مِنَ الْأَرْضِ فِي مَكَانٍ فسيح باد ظاهر ضاح للشمس، تقرعه مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى آخِرِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أصفى لزيتها وألطف، ولهذا قال تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} يعني لضوء إشراق الزيت، وقوله تعالى: {نُّورٌ على نُورٍ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ إِيمَانَ الْعَبْدِ وَعَمَلَهُ، وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} المؤمن يتقلب في خمسة من النور، فكلامه من نُورٌ، وَعَمَلُهُ نُورٌ، وَمَدْخَلُهُ نُورٌ، وَمَخْرَجُهُ نُورٌ، ومصيره إلى نور يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَالَ شِمْرُ بْنُ عَطِيَّةَ: جَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى كَعْبِ الْأَحْبَارِ فَقَالَ: حَدِّثْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} قَالَ: يَكَادُ محمد صلى الله عليه وسلم يبين للناس ولو لَمْ يَتَكَلَّمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ، كَمَا يَكَادُ ذَلِكَ الزَّيْتُ أَنْ يُضِيءَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ تعالى: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} قَالَ: نُورُ النَّارِ وَنُورُ الزَّيْتِ حِينَ اجْتَمَعَا أَضَاءَا وَلَا يُضِيءُ وَاحِدٌ بِغَيْرِ صَاحِبِهِ، كَذَلِكَ نُورُ الْقُرْآنِ وَنُورُ الْإِيمَانِ حِينَ اجْتَمَعَا فَلَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلَّا بصاحبه، وقوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ} أَيْ يُرْشِدُ اللَّهُ إِلَى هِدَايَتِهِ مَنْ يَخْتَارُهُ، كَمَا جَاءَ في الحديث: "إن الله تعالى خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ من نوره يومئذ، فمن أصاب من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأ ضَلَّ، فَلِذَلِكَ أَقُولُ: جفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ الله عزَّ وجلَّ" (أخرجه الإمام أحمد والبزار عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) . وقوله(2/606)
تَعَالَى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ} لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذَا مَثَلًا لِنُورِ هُدَاهُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أَيْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ مِمَّنْ يستحق الإضلال، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ: قَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ مِثْلُ السِّرَاجِ يُزْهِرُ، وَقَلْبٌ أَغْلَفُ مَرْبُوطٌ عَلَى غِلَافِهِ، وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ، وَقَلْبٌ مُصَفَّحٌ. فَأَمَّا الْقَلْبُ الْأَجْرَدُ فَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ سِرَاجُهُ فِيهِ نُورُهُ، وَأَمَّا الْقَلْبُ الْأَغْلَفُ فَقَلْبُ الْكَافِرِ، وَأَمَّا الْقَلْبُ الْمَنْكُوسُ فَقَلْبُ الْمُنَافِقِ عَرَفَ ثُمَّ أَنْكَرَ، وَأَمَّا الْقَلْبُ الْمُصَفَّحُ فَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، وَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ الْبَقْلَةِ يَمُدُّهَا الْمَاءُ الطَّيِّبُ، وَمَثَلُ النِّفَاقِ فِيهِ كَمَثَلِ الْقُرْحَةِ يمدها الدم والقيح، فَأَيُّ الْمَدَّتَيْنِ غَلَبَتْ عَلَى الْأُخْرَى غَلَبَتْ عَلَيْهِ" (أخرجه أحمد قال ابن كثير: إسناده جيد ولم يخرجاه) .(2/607)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
- 36 - فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ
- 37 - رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ
- 38 - لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى مَثَلَ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، بِالْمِصْبَاحِ فِي الزُّجَاجَةِ الصَّافِيَةِ المتوقد من زيت طيب وذلك كالقنديل مثلاً، ذَكَرَ مَحِلَّهَا وَهِيَ الْمَسَاجِدُ الَّتِي هِيَ أَحَبُّ الْبِقَاعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْأَرْضِ، وَهِيَ بيوته التي يعبد فيها ويوحد، فقال تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} أي أمر الله تعالى بتعاهدها وتطهيرها من الدنس واللغو، والأقوال والأفعال التي لا تليق فيها، كما قال ابن عباس: نهى الله سبحانه عن اللغو فيها، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ هَذِهِ الْمَسَاجِدُ أَمَرَ اللَّهُ سبحانه وتعالى ببنائها وعمارتها ورفعها وَتَطْهِيرِهَا، وَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ كَعْبًا كَانَ يقول: مكتوب في التوراة إِنَّ بُيُوتِي فِي الْأَرْضِ الْمَسَاجِدُ، وَإِنَّهُ مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وَضَوْءَهُ، ثُمَّ زَارَنِي فِي بَيْتِي أكرمته، وحقٌ على المزور كرامة الزائر (أخرجه ابن أبي حاتم) . وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ واحترامها وتوقيرها وتطييبها وتبخيرها، فَعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ مثله في الجنة» (أخرجاه في الصحيحين) ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يُذْكَرُ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ بنى الله له بيتا في الجنة» (رواه ابن ماجة) ، وعن عائشة رضي الله عنها: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ، وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ (رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي) . وعن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يتباهى الناس في المساجد» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ؛ وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لا ردها الله عليك".(2/607)
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا قَالَ: خِصَالٌ لَا تَنْبَغِي فِي الْمَسْجِدِ: لَا يُتَّخَذُ طَرِيقًا، وَلَا يُشْهَرُ فِيهِ سِلَاحٌ، وَلَا يُنْبَضُ فِيهِ بِقَوْسٍ، وَلَا يُنْثَرُ فِيهِ نَبْلٌ، وَلَا يُمَرُّ فِيهِ بِلَحْمٍ نِيءٍ، وَلَا يُضْرَبُ فِيهِ حَدٌّ، وَلَا يُقْتَصُّ فيه أَحَدٍ، وَلَا يُتَّخَذُ سُوقًا. وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَنِّبُوا الْمَسَاجِدَ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ، وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ، وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ، وَاتَّخِذُوا على أبوابها المطاهر، وجمروها في الجمع» (أخرجه ابن ماجه وفي إسناده ضَعُفٌ) . أَمَّا أَنَّهُ لَا يُتَّخَذُ طَرِيقًا فَقَدْ كره بعض العلماء فِيهِ إِلَّا لِحَاجَةٍ إِذَا وَجَدَ مَنْدُوحَةً عَنْهُ؛ وَفِي الْأَثَرِ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَتَعَجَّبُ مِنَ الرَّجُلِ يَمُرُّ بِالْمَسْجِدِ لَا يُصَلِّي فِيهِ؛ وَأَمَّا أَنَّهُ لا يشهر فيه السلاح وَلَا يُنْبَضُ فِيهِ بِقَوْسٍ وَلَا يُنْثَرُ فِيهِ نَبْلٌ، فَلِمَا يُخْشَى مِنْ إِصَابَةِ بَعْضِ النَّاسِ به، وَأَمَا النَّهْيُ عَنِ الْمُرُورِ بِاللَّحْمِ النَّيِّءِ فِيهِ فلما يخشى من تقاطر الدم منه، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يُضْرَبُ فِيهِ حَدٌّ وَلَا يقتص منه فلما يخشى من إيجاد النجاسة فِيهِ مِنَ الْمَضْرُوبِ أَوِ الْمَقْطُوعِ؛ وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يُتَّخَذُ سُوقًا فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيهِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا بُنِيَ لذكر الله والصلاة فيه، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ: «إِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا إِنَّمَا بُنِيَتْ لذكر الله والصلاة فيها» ، وَفِي الْحَدِيثِ الثَّانِي: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ» وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَلْعَبُونَ فِيهِ وَلَا يُنَاسِبُهُمْ؛ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا رَأَى صِبْيَانًا يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ ضَرَبَهُمْ بِالْمِخْفَقَةِ وهي الدرة، وكان يفتش الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْعَشَاءِ فَلَا يَتْرُكُ فِيهِ أَحَدًا، و «مجانينكم» يَعْنِي لِأَجْلِ ضَعْفِ عُقُولِهِمْ، وَسَخَرِ النَّاسِ بِهِمْ، فَيُؤَدِّي إِلَى اللَّعِبِ فِيهَا وَلِمَا يَخْشَى مِنْ تَقْذِيرِهِمُ الْمَسْجِدَ وَنَحْوِ ذَلِكَ «وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ» كَمَا تَقَدَّمَ، «وَخُصُومَاتِكُمْ» يَعْنِي التَّحَاكُمَ وَالْحُكْمَ فِيهِ؛ وَلِهَذَا نَصَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَنْتَصِبُ لِفَصْلِ الْأَقْضِيَةِ فِي الْمَسْجِدِ، بَلْ يَكُونُ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ كثرة الحكومات والتشاجر والألفاظ التي لا تناسبه؛ ولهذا قال بعده: «ورفع أصواتكم» .
وروى البخاري عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ الْكِنْدِيِّ قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما فقال: من أنتما؟ ومن أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالَا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وقال النسائي: سَمِعَ عُمَرُ صَوْتَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: أتدري أين أنت؟ وَقَوْلُهُ: «وَاتَّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ» يَعْنِي الْمَرَاحِيضَ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى الْوُضُوءِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَقَدْ كَانَتْ قَرِيبًا مِنْ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آبَارٌ يَسْتَقُونَ مِنْهَا فيشربون ويتطهرون ويتوضأون وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: «وَجَمِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ» يَعْنِي بَخِّرُوهَا فِي أَيَّامِ الْجُمَعِ لِكَثْرَةِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ يومئذ، وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ
كَانَ يُجَمِّرُ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل جمعة، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ: "صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صِلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إِلَّا رُفِعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلَا يَزَالُ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ" وَعِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مَرْفُوعًا: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ» ، وَفِي السُّنَنِ: «بَشِّرِ المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور يوم القيامة» .
ويستحب لِمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَنْ يَبْدَأَ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى، وَأَنْ يَقُولَ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ (هو في أَبِي دَاوُدَ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ(2/608)
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
كَانَ إِذَا دَخَلَ المسجد يقول: «أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، من الشيطان الرجيم» قَالَ: فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ حُفِظَ مني سائر اليوم، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك" (أخرجه مسلم والنسائي) ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِيَقُلِ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم (أخرجه ابن ماجه وابن حبان) ، وعن فاطمة بنت الحسين عَنْ جَدَّتِهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ» ، وَإِذَا خَرَجَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ» (أخرجه الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وإسناده ليس بمتصل لأن فاطمة الصُّغْرَى لَمْ تُدْرِكْ فَاطِمَةَ الْكُبْرَى) ، فَهَذَا الَّذِي ذكرناه داخلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} وَقَوْلُهُ: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} أي اسم الله، كقوله: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} ، وقوله: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} الآية، وقوله تعالى: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} قال ابن عباس: يعني يتلى كتابه، وقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} أَيْ فِي الْبُكَرَاتِ والْعَشِيَّاتِ، وَالْآصَالُ جَمْعُ أَصِيلٍ وَهُوَ آخِرُ النهار، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ تَسْبِيحٍ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الصلاة، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِالْغُدُوِّ صَلَاةَ الْغَدَاةِ، وَيَعْنِي بِالْآصَالِ صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَهُمَا أَوَّلُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ مِنَ الصَّلَاةِ، فَأَحَبَّ أَنْ يَذْكُرَهُمَا وَأَنْ يذكر بهما عباده، وعن الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} : يعني الصلاة.
وقوله تعالى: {رِجَالٌ} فِيهِ إِشْعَارٌ بِهِمَمِهِمُ السَّامِيَةِ، وَنِيَّاتِهِمْ وَعَزَائِمِهِمُ الْعَالِيَةِ، الَّتِي بِهَا صَارُوا عُمَّارًا لِلْمَسَاجِدِ، الَّتِي هِيَ بُيُوتُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَمَوَاطِنُ عِبَادَتِهِ وشكره، وتوحيد وَتَنْزِيهِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ} الآية. وأما النِّسَاءُ فَصَلَاتُهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ أَفْضَلُ لَهُنَّ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا» ، وعن أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن» (أخرجه الإمام أحمد) . وروى الإمام أحمد عن أُمِّ حُمَيْدٍ امْرَأَةِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهَا جَاءَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ الصَّلَاةَ مَعَكَ، قَالَ: «قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكِ تُحِبِّينَ الصَّلَاةَ مَعِي، وَصَلَاتُكِ فِي بَيْتِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي حُجْرَتِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي حُجْرَتِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي دَارِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي دَارِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِي» قَالَ: فَأَمَرَتْ فَبُنِيَ لَهَا مَسْجِدٌ فِي أَقْصَى بَيْتٍ من بيوتها، فكانت والله تصلي فيه حتى لقيت الله تعالى. ويجوز للمرأة شُهُودُ جَمَاعَةِ الرِّجَالِ بِشَرْطِ أَنْ لَا تُؤْذِيَ أَحَدًا مِنَ الرِّجَالِ بِظُهُورِ زِينَةٍ وَلَا رِيحِ طيب، كما ثبت في الصحيح: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» (أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر مرفوعاً) ، وَفِي رِوَايَةٍ: «وَلِيَخْرُجْنَ وهنَّ(2/609)
تفِلات» أَيْ لَا رِيحَ لَهُنَّ، وَقَدْ ثَبَتَ في صحيح مسلم عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ فَلَا تَمَسَّ طِيبًا» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ يَشْهَدْنَ الْفَجْرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَرْجِعْنَ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يعرفن من الغلس، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهَا أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ: لَوْ أَدْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ من الْمَسَاجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذكر الله} ، كقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله} الآية، يَقُولُ تَعَالَى: لَا تَشْغَلُهُمُ الدُّنْيَا وَزُخْرُفُهَا وَزِينَتُهَا وملاذ بيعها وربحها عن ذكر ربهم، لأن الذي عنده خير لهم وأنفع مما بأيديهم، ولهذا قال تعالى: {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} أَيْ يُقَدِّمُونَ طاعته ومراده ومحبته على مرادهم ومحبتهم، روى عمرو بن دينار: أن ابن عمر رضي الله عنهما كَانَ فِي السُّوقِ فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَأَغْلَقُوا حَوَانِيتَهُمْ وَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فِيهِمْ نَزَلَتْ: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي قُمْتُ عَلَى هَذَا الدَّرَجِ أُبَايِعُ عَلَيْهِ، أَرْبَحُ كل يوم ثلثمائة دِينَارٍ، أَشْهَدُ الصَّلَاةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي الْمَسْجِدِ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَلَالٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مِنَ الذين قال الله فيهم: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} . وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ الْأَعْوَرُ: كُنْتُ مَعَ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَنَحْنُ نُرِيدُ الْمَسْجِدَ فَمَرَرْنَا بِسُوقِ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ وخَمَّرُوا مَتَاعَهُمْ، فَنَظَرَ سَالِمٌ إِلَى أمتعتهم ليس فيها أَحَدٌ، فَتَلَا سَالِمٌ هَذِهِ الْآيَةَ: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} ثم قال: هم هؤلاء؛ وقال الضحاك: لَا تُلْهِيهِمُ التِّجَارَةُ وَالْبَيْعُ أَنْ يَأْتُوا الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا، وَقَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ: كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ وَلَكِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ وميزانه بيده فِي يَدِهِ خَفَضَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} يَقُولُ: عَنِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ؛ وقال السدي عن الصلاة في جماعة، وقال مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ: لَا يُلْهِيهِمْ ذَلِكَ عَنْ حُضُورِ الصَّلَاةِ وَأَنْ يُقِيمُوهَا كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ، وَأَنْ يُحَافِظُوا عَلَى مَوَاقِيتِهَا وَمَا اسْتَحْفَظَهُمُ اللَّهُ فيها.
وقوله تَعَالَى: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِي تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ: أَيْ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ وَعَظَمَةِ الْأَهْوَالِ، كقوله: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} ، وقال تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} ، وقوله تعالى ههنا: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} أَيْ هَؤُلَاءِ من الذين يتقبل حسناتهم وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ} أَيْ يَتَقَبَّلُ مِنْهُمُ الْحَسَنَ وَيُضَاعِفُهُ لَهُمْ كَمَا قال تَعَالَى: {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} الآية، وَقَالَ: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} الآية، وقال: {والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} ، وقال ههنا: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ جِيءَ بِلَبَنٍ فَعَرَضَهُ عَلَى جُلَسَائِهِ وَاحِدًا وَاحِدًا فَكُلُّهُمْ لَمْ يَشْرَبْهُ لِأَنَّهُ كان صائماً؛ فتناوله ابن مسعود فشربه لأنه كان مفطراً، ثم تلا قوله: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فيه القلوب والأبصار} ، وفي الحديث: "إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، جَاءَ مُنَادٍ فَنَادَى بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ: سَيَعْلَمُ أَهْلُ الْجَمْعِ مَنْ أَوْلَى بِالْكَرَمِ، لِيَقُمِ الَّذِينَ لا تلهيهم(2/610)
تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَيَقُومُونَ وهم قليل، ثم يحاسب سائر الخلائق" (أخرجه ابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد بن السكن مرفوعاً) . وروى الطبراني عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {ليوفهم أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فضله} قَالَ: أُجُورَهُمْ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ الشَّفَاعَةُ لِمَنْ وَجَبَتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ لِمَنْ صَنَعَ لَهُمُ الْمَعْرُوفَ فِي الدُّنْيَا.(2/611)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
- 39 - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ
- 40 - أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ
هَذَانِ مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار، فَأَمَّا الْأَوَّلُ مِنْ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ فَهُوَ لِلْكُفَّارِ الدُّعَاةِ إِلَى كُفْرِهِمُ الَّذِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالِاعْتِقَادَاتِ، وَلَيْسُوا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى شَيْءٍ، فَمَثَلُهُمْ فِي ذَلِكَ كَالسَّرَابِ الذي يرى فيه القيعان من الأرض من بُعْدٍ كَأَنَّهُ بَحْرٌ طَامٌّ، وَالْقِيعَةُ جَمْعُ قَاعٍ كجار وجيرة، وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الْمُتَّسِعَةُ الْمُنْبَسِطَةُ وَفِيهِ يَكُونُ السراب، يُرَى كَأَنَّهُ مَاءٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَإِذَا رَأَى السَّرَابَ مَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْمَاءِ يحسبه ماء قصده لِيَشْرَبَ مِنْهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} ، فَكَذَلِكَ الْكَافِرُ، يَحْسَبُ أَنَّهُ قَدْ عَمِلَ عَمَلًا وَأَنَّهُ قَدْ حَصَّلَ شَيْئًا، فَإِذَا وَافَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَحَاسَبَهُ عَلَيْهَا وَنُوقِشَ عَلَى أفعاله لم يجد له شيئاً بالكلية، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} ، وقال ههنا: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الحساب} ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "أَنَّهُ يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْيَهُودِ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ من ولد ماذا تبغون؟ فيقولون: يا رب عَطِشْنَا فَاسْقِنَا، فَيُقَالُ: أَلَا تَرَوْنَ؟ فَتُمَثَّلُ لَهُمُ النَّارُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يُحَطِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَنْطَلِقُونَ فيتهافتون فيها" (أخرجه الشيخان) وَهَذَا الْمِثَالُ مِثَالٌ لِذَوِي الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ. فَأَمَّا أصحاب الجهل البسيط، وهم الْأَغْشَامُ الْمُقَلِّدُونَ لِأَئِمَّةِ الْكُفْرِ الصُّمِّ الْبُكْمِ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ فَمَثَلُهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} قال قتادة: {لُّجِّيٍّ} هو الْعَمِيقُ، {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ، مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} أَيْ لَمْ يُقَارِبْ رُؤْيَتَهَا مِنْ شِدَّةِ الظَّلَامِ، فَهَذَا مِثْلُ قَلْبِ الْكَافِرِ الْجَاهِلِ الْبَسِيطِ الْمُقَلِّدِ الَّذِي لَا يعرف حال من يقوده، ولا يدري أين يذهب، بَلْ كَمَا يُقَالُ فِي الْمَثَلِ لِلْجَاهِلِ: أَيْنَ تَذْهَبُ؟ قَالَ: مَعَهُمْ، قِيلَ: فَإِلَى أَيْنَ يَذْهَبُونَ؟ قال: لا أدري. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {يَغْشَاهُ مَوْجٌ} يَعْنِي بِذَلِكَ الْغَشَاوَةَ الَّتِي عَلَى الْقَلْبِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَهِيَ كَقَوْلِهِ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ، وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} الآية. وكقوله: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غشاوة} الآية. فالكافر يتقلب في خمسة من الظلم: فكلامه ظُلْمَةٌ، وَعَمَلُهُ ظُلْمَةٌ، وَمَدْخَلُهُ ظُلْمَةٌ، وَمَخْرَجُهُ ظُلْمَةٌ، وَمَصِيرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الظُّلُمَاتِ إِلَى النَّارِ، وقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُور} أَيْ مَنْ لَمْ يَهْدِهِ الله فهو هالك جاهل بائر كافر، كَقَوْلِهِ: {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ} وَهَذَا فِي مُقَابَلَةِ مَا قَالَ فِي مِثْلِ الْمُؤْمِنِينَ {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ} ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَجْعَلَ فِي قُلُوبِنَا نُورًا، وَعَنْ أَيْمَانِنَا نُورًا، وَعَنْ شَمَائِلِنَا نُورًا، وَأَنْ يُعْظِمَ لَنَا نُورًا.(2/611)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
- 41 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ
- 42 - وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ
يخبر تعالى أنه يسبح لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنَاسِيِّ وَالْجَانِّ وَالْحَيَوَانِ حَتَّى الْجَمَادِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} الآية. وقوله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ} أَيْ فِي حَالِ طَيَرَانِهَا، تُسَبِّحُ رَبَّهَا وَتَعْبُدُهُ بِتَسْبِيحٍ أَلْهَمَهَا وَأَرْشَدَهَا إِلَيْهِ وَهُوَ يعلم ما هي فاعلة، ولهذا قال تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} أَيْ كُلٌّ قَدْ أَرْشَدَهُ إِلَى طَرِيقَتِهِ وَمَسْلَكِهِ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شيء، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ لَهُ مُلْكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَهُوَ الْحَاكِمُ المتصرف الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا له ولا معقب لحكمه، {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} : أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَحْكُمُ فِيهِ بِمَا يَشَاءُ {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عملوا} الآية، فهوالخالق المالك، له الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ.(2/612)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
- 43 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ
- 44 - يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الْأَبْصَارِ
يَذْكُرُ تعالى أنه يسوق السحاب بقدرته أَوَّلَ مَا يُنْشِئُهَا وَهِيَ ضَعِيفَةٌ وَهُوَ الْإِزْجَاءُ، {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} أَيْ يَجْمَعُهُ بَعْدَ تَفَرُّقِهِ، {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} أَيْ مُتَرَاكِمًا أَيْ يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، {فَتَرَى الْوَدْقَ} أَيِ الْمَطَرَ، {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} أي من خلله، وَقَوْلُهُ: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} قَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: {مِنَ} الْأُولَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، وَالثَّالِثَةُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ فِي السَّمَاءِ جِبَالَ بَرَدٍ يُنَزِّلُ اللَّهُ مِنْهَا الْبَرْدَ، وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْجِبَالَ ههنا كناية عن السحاب فإن «من» الثانية عنده لابتداء الغاية لَكِنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ تعالى: {فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {فَيُصِيبُ بِهِ} : أَيْ بِمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن نوعي المطر والبرد، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ} رَحْمَةً لَهُمْ {وَيَصْرِفُهُ عَن مَن يَشَآءُ} أَيْ يُؤَخِّرُ عَنْهُمُ الْغَيْثَ؛ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {فَيُصِيبُ بِهِ} أَيْ بِالْبَرَدِ نِقْمَةً عَلَى مَنْ يشآء لما فيه من إتلاف زروعهم وأشجارهم، {وَيَصْرِفُهُ عَن من يشآء} رَحْمَةً بِهِمْ، وَقَوْلُهُ: {يَكَادُ سَنَا
بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} أَيْ يَكَادُ ضَوْءُ بِرِقِهِ مِنْ شِدَّتِهِ يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته، وقوله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أَيْ يَتَصَرَّفُ فِيهِمَا فَيَأْخُذُ مِنْ طُولِ هَذَا فِي قِصَرِ هَذَا، حتى يعتدلا، فهو الْمُتَصَرِّفُ فِي ذَلِكَ بِأَمْرِهِ وَقَهْرِهِ وَعِزَّتِهِ وَعِلْمِهِ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الْأَبْصَارِ} أَيْ لدليلاً على عظمته تعالى.(2/612)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
- 45 - وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى [ص:613] أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
يَذْكُرُ تَعَالَى قُدْرَتَهُ التَّامَّةَ وَسُلْطَانَهُ الْعَظِيمَ فِي خَلْقِهِ أَنْوَاعَ الْمَخْلُوقَاتِ، عَلَى اخْتِلَافِ أَشْكَالِهَا وَأَلْوَانِهَا وَحَرَكَاتِهَا وَسُكَنَاتِهَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} كَالْحَيَّةِ وَمَا شَاكَلَهَا، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} كَالْإِنْسَانِ وَالطَّيْرِ، {وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} كَالْأَنْعَامِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ} أَيْ بِقُدْرَتِهِ، لِأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .(2/612)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
- 46 - لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
يُقَرِّرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَنَزَلَ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَمْثَالِ الْبَيِّنَةِ الْمُحْكَمَةِ كَثِيرًا جَدًّا، وَأَنَّهُ يُرْشِدُ إِلَى تفهمهما وَتَعَقُّلِهَا أُولِي الْأَلْبَابِ وَالْبَصَائِرِ وَالنُّهَى، وَلِهَذَا قَالَ: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .(2/613)
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
- 47 - وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَآ أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ
- 48 - وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُعْرِضُونَ
- 49 - وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ
- 50 - أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
- 51 - إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
- 52 - وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ خِلَافَ مَا يُبَطِنُونَ، يَقُولُونَ قَوْلًا بِأَلْسِنَتِهِمْ {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} أَيْ يُخَالِفُونَ أَقْوَالَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ فَيَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أولئك بالمؤمنين} ، وقوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية، أَيْ إِذَا طُلِبُوا إِلَى اتِّبَاعِ الْهُدَى فِيمَا أنزل الله على رسوله أعرضوا استكبروا في أَنفُسِهِمْ عن اتباعه، وهذه كقوله تعالى: {رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} ، وفي الطبراني عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ دُعِيَ إِلَى سُلْطَانٍ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ لَا حَقَّ لَهُ» . وقوله تعالى: {وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} أَيْ وَإِذَا كَانَتِ الْحُكُومَةُ لَهُمْ لَا عَلَيْهِمْ جاءوا سَامِعِينَ مُطِيعِينَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ {مُذْعِنِينَ} ، وَإِذَا كَانَتِ الْحُكُومَةُ عَلَيْهِ أَعْرَضَ وَدَعَا إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ، وَأَحَبَّ أَنْ يَتَحَاكَمَ إِلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ليروج باطله، فَإِذْعَانُهُ أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ عَنِ اعْتِقَادٍ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ، بَلْ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِهَوَاهُ، وَلِهَذَا لَمَّا خَالَفَ الْحَقُّ قَصْدَهُ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} الآية، يَعْنِي لَا يَخْرُجُ أَمْرُهُمْ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُلُوبِ مَرَضٌ لَازِمٌ لَهَا، أَوْ قَدْ عَرَضَ لَهَا شَكٌّ فِي الدِّينِ، أَوْ يَخَافُونَ أَنْ يَجُورَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْهِمْ فِي الْحُكْمِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ كُفْرٌ مَحْضٌ وَاللَّهُ عليم بكل منهم، وما هو منطو عليه من هذه الصفات، وقوله تعالى: {بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أَيْ بَلْ هُمُ الظَّالِمُونَ الْفَاجِرُونَ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ مُبَرَّآنِ مِمَّا يَظُنُّونَ وَيَتَوَهَّمُونَ مِنَ الْحَيْفِ وَالْجَوْرِ، تَعَالَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عن ذلك.(2/613)
قال الحسن: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّجُلِ مُنَازَعَةٌ، فَدُعِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحِقٌّ أَذْعَنَ، وَعَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيَقْضِي لَهُ بِالْحَقِّ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَظْلِمَ فَدُعِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَضَ، وَقَالَ: أَنْطَلِقُ إلى فلان، فأنزل الله هذه الآية، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الَّذِينَ لَا يَبْغُونَ دِينًا سِوَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فَقَالَ: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أَيْ سمعاً وطاعة، ولهذا وصفهم تعالى بالفلاح وَهُوَ نَيْلُ الْمَطْلُوبِ وَالسَّلَامَةُ مِنَ الْمَرْهُوبِ، فَقَالَ تعالى: {وأولئك هُمُ المفلحون} ، وقال قتادة: ذكر لَنَا أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ قَالَ: لَا إِسْلَامَ إِلَّا بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَلَا خَيْرَ إِلَّا فِي جَمَاعَةٍ، وَالنَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْخَلِيفَةِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً، قَالَ: وَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: عُرْوَةُ الْإِسْلَامِ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَالطَّاعَةُ لِمَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ) . وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي وُجُوبِ الطَّاعَةِ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَلِلْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ إِذَا أَمَرُوا بطاعة الله أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ فِي هَذَا الْمَكَانِ. وقوله: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} قال قتادة: فِيمَا أَمَرَاهُ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَيَاهُ عَنْهُ {وَيَخْشَ اللَّهَ} فِيمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ {وَيَتَّقْهِ} فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، وَقَوْلُهُ: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} يَعْنِي الَّذِينَ فَازُوا بِكُلِّ خَيْرٍ وَأَمِنُوا مَنْ كُلِّ شَرٍّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.(2/614)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
- 53 - وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
- 54 - قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أَهْلِ النِّفَاقِ الَّذِينَ كَانُوا يَحْلِفُونَ للرسول صلى الله عليه وسلم لئن أمرتهم بالخروج في الغزو ليخرجن، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُل لاَّ تُقْسِمُواْ} أَيْ لَا تَحْلِفُوا، وَقَوْلُهُ: {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} قِيلَ: مَعْنَاهُ طاعتكم طاعة معروفة، أي قد علم طَاعَتُكُمْ إِنَّمَا هِيَ قَوْلٌ لَا فِعْلَ مَعَهُ، وَكُلَّمَا حَلَفْتُمْ كَذَبْتُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عنهم} الآية. وقال تعالى: {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} الآية، فَهُمْ مِنْ سَجِيَّتِهِمُ الْكَذِبُ حَتَّى فِيمَا يَخْتَارُونَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قوتلتم لننصركم والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون} ، وقيل المعنى {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} أَيْ لِيَكُنْ أَمْرُكُمْ طَاعَةً مَعْرُوفَةً، أَيْ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ حَلِفٍ وَلَا إِقْسَامٍ، كَمَا يُطِيعُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْمُؤْمِنُونَ بِغَيْرِ حَلِفٍ، فَكُونُوا أَنْتُمْ مِثْلَهُمْ {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أَيْ هُوَ خَبِيرٌ بِكُمْ وَبِمَنْ يُطِيعُ ممن يعصي، فالحلف وإظهار الطاعة وَإِنْ رَاجَ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَالْخَالِقُ تَعَالَى يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، لَا يَرُوجُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ التَّدْلِيسِ، بَلْ هُوَ خَبِيرٌ بِضَمَائِرِ عِبَادِهِ وَإِنْ أَظْهَرُوا خِلَافَهَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} أَيْ اتَّبِعُوا كِتَابَ اللَّهِ وسنة رسوله، وقوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أَيْ تَتَوَلَّوْا عَنْهُ وَتَتْرُكُوا مَا جَاءَكُمْ بِهِ {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} أَيْ إِبْلَاغُ الرِّسَالَةِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، {وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ} أي بقبول ذَلِكَ وَتَعْظِيمِهِ وَالْقِيَامِ بِمُقْتَضَاهُ، {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ} وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(2/614)
{صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ والأرض} الآية، وقوله تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} .(2/615)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
- 55 - وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بِأَنَّهُ سَيَجْعَلُ أُمَّتَهُ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ، أَيْ أَئِمَّةَ النَّاسِ وَالْوُلَاةَ عَلَيْهِمْ، وَبِهِمْ تَصْلُحُ الْبِلَادُ، وَتَخْضَعُ لهم العباد، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ مِنَ النَّاسِ أَمْنًا وَحُكْمًا فِيهِمْ، وقد فعله تبارك وتعالى وله الحمد والمنة، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ وَخَيْبَرَ وَالْبَحْرَيْنِ وَسَائِرَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَرْضَ الْيَمَنِ بِكَمَالِهَا، وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، وَمِنْ بَعْضِ أَطْرَافِ الشَّامِ، وَهَادَاهُ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ وَصَاحِبُ مِصْرَ المقوقس، وملوك عمان، والنجاشي ملك الحبشة، ثم قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ خَلِيفَتُهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِّيقُ، فبعث جيوش الإسلام إِلَى بِلَادِ فَارِسَ صُحْبَةَ (خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَفَتَحُوا طَرَفًا مِنْهَا، وَقَتَلُوا خلقاً من أهلها، وجيشاً آخر صحبه (أبو عبيدة) رضي الله عنه إِلَى أَرْضِ الشَّامِ، وَثَالِثًا صُحْبَةَ (عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى بِلَادِ مِصْرَ، فَفَتَحَ اللَّهُ لِلْجَيْشِ الشَّامِيِّ فِي أَيَّامِهِ بُصْرَى ودمشق، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ وَاخْتَارَ لَهُ مَا عنده من الكرامة، ومنَّ على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق، فقام بالأمر بعدهه قِيَامًا تَامًّا لَمْ يَدُرِ الْفُلْكُ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى مِثْلِهِ فِي قُوَّةِ سِيرَتِهِ وَكَمَالِ عَدْلِهِ؛ وَتَمَّ فِي أَيَّامِهِ فَتْحُ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ بِكَمَالِهَا وَدِيَارِ مِصْرَ إِلَى آخِرِهَا وَأَكْثَرِ إِقْلِيمِ فَارِسَ، وكسر كسرى، وأهانه غاية الهوان، وكسر قيصر وانتزع يده عن بلاد الشام وانحدر إلى القسطنطينية، وَأَنْفَقَ أَمْوَالَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَوَعَدَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أَتَمُّ سَلَامٍ وَأَزْكَى صَلَاةٍ. ثُمَّ لَمَّا كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الْإِسْلَامِيَّةُ إِلَى أَقْصَى مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، فَفُتِحَتْ بِلَادُ الْمَغْرِبِ إِلَى أَقْصَى مَا هُنَالِكَ الْأَنْدَلُسُ وقبرص، وبلاد القيروان ويلاد سَبْتَةَ مِمَّا يَلِي الْبَحْرَ الْمُحِيطَ، وَمِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ إِلَى أَقْصَى بِلَادِ الصِّينِ، وَقُتِلَ كِسْرَى، وَبَادَ مُلْكُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَفُتِحَتْ مَدَائِنُ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانُ وَالْأَهْوَازُ، وَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ التُّرْكِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً جِدًّا، وَخَذَلَ اللَّهُ مَلِكَهُمُ الْأَعْظَمَ خَاقَانَ، وَجُبِيَ الْخَرَاجُ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِلَى حَضْرَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، وَذَلِكَ بِبَرَكَةِ تِلَاوَتِهِ وَدِرَاسَتِهِ وَجَمْعِهِ الْأُمَّةَ عَلَى حفظ القرآن؛ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِيَ مِنْهَا» فَهَا نَحْنُ نَتَقَلَّبُ فِيمَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْإِيمَانَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَالْقِيَامَ بِشُكْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الذي يرضيه عنا.
روى الإمام مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَزَالُ أَمْرُ النَّاسِ مَاضِيًا مَا وَلِيَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا» ثُمَّ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلِمَةٍ خَفِيَتْ عَنِّي، فَسَأَلْتُ أَبِي مَاذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال، قال: «كلهم من قريش» ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً عَادِلًا،(2/615)
وَلَيْسُوا هُمْ بِأَئِمَّةِ الشِّيعَةِ الِاثْنَيْ عَشْرَ، فَإِنَّ كثيراً من أولئك لم يكن لهم مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ؛ فَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ مِنْ قُرَيْشٍ يَلُونَ فَيَعْدِلُونَ، وَقَدْ وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِهِمْ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، ثُمَّ لَا يُشْتَرَطُ أن يكونوا مُتَتَابِعِينَ، بَلْ يَكُونُ وُجُودُهُمْ فِي الْأُمَّةِ مُتَتَابِعًا وَمُتَفَرِّقًا؛ وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ عَلَى الْوَلَاءِ وَهُمْ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ كَانَتْ بعدهم فترة؛ ثم وجد منهم من شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَدْ يُوجَدُ مِنْهُمْ مَنْ بقي في الوقت الذي يعلمه الله تعالى؛ ومنهم المهدي الذي اسمه يطابق اسْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنْيَتُهُ كُنْيَتَهُ، يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا وَقِسْطًا، كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا، وقد روى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم
تكون ملكاً عضوضاً» (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي) . وقال أبو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} الْآيَةَ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بِمَكَّةَ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ سِنِينَ يدعون إلى الله وحده وإلى عبادته وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ سرًّا، وَهُمْ خَائِفُونَ لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة فقدموها، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالْقِتَالِ، فَكَانُوا بِهَا خَائِفِينَ يُمْسُونَ في السلاح ويصبحون في السلاح، فصبروا عَلَى ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ إِنْ رَجُلًا مِنْ الصحابة قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبَدَ الدَّهْرِ نَحْنُ خَائِفُونَ هَكَذَا؟ أَمَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأْمَنُ فيه ونضع عنا السِّلَاحَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لن تصبروا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الملأ العظيم محتبياً ليست فيه حَدِيدَةٌ» وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَظْهَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَأَمِنُوا وَوَضَعُوا السِّلَاحَ، ثم إن الله تعالى قَبَضَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا كَذَلِكَ آمِنِينَ فِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وعثمان، حتى وقعوا فيما وقعوا فيه، فأدخل عَلَيْهِمُ الْخَوْفَ، فَاتَّخَذُوا الْحَجَزَةَ وَالشُّرَطَ وغيَّروا فغيَّرَ بهم، وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَنَحْنُ فِي خَوْفٍ شَدِيدٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض} الآية، وقوله تعالى: {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرض} الآيتين.
وقوله تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ} الآية، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدَيِّ بْنِ حَاتِمٍ حِينَ وَفَدَ عَلَيْهِ: «أَتَعْرِفُ الْحِيرَةَ؟» قَالَ: لَمْ أَعْرِفْهَا، وَلَكِنْ قَدْ سَمِعْتُ بِهَا، قَالَ: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الْحِيرَةِ، حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فِي غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ، وَلَتَفْتَحُنَّ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ» قُلْتُ: كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ؟ قَالَ: «نَعَمْ كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، وَلَيُبْذَلَنَّ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ» قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: فَهَذِهِ الظَّعِينَةُ تَخْرُجُ مِنْ الْحِيرَةِ، فَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ فِي غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ، وَلَقَدْ كُنْتُ فِيمَنْ فَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةَ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَهَا، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بشِّرْ هَذِهِ الأمة بالسنا وَالرِّفْعَةِ وَالدِّينِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمِنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الآخرة نصيب» ، وقوله تعالى: {يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} ، وفي الحديث: «يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ» قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟» قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أعلم، قال: «حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يشركوا به شيئاً» (الحديث من رواية الشيخين عن معاذ بن جبل) ، وقوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ(2/616)
هُمُ الْفَاسِقُونَ} أَيْ فَمَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَتِي بعد ذلك، فلما خرج عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَكَفَى بِذَلِكَ ذَنْبًا عَظِيمًا، فَالصَّحَابَةُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا كَانُوا أَقْوَمَ الناس بِأَوَامِرِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَأَطْوَعَهُمْ لِلَّهِ كَانَ نصرهم بحسبهم، أظهروا كَلِمَةَ اللَّهِ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وَأَيَّدَهُمْ تَأْيِيدًا عظيماً، وحكموا سَائِرِ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ، وَلَمَّا قَصَّرَ النَّاسُ بَعْدَهُمْ في بعض الأوامر نقص ظهروهم بِحَسَبِهِمْ، وَلَكِنْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ - وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» (وَفِي رِوَايَةٍ «حَتَّى يُقَاتِلُوا الدَّجَّالَ» وَفِي رِوَايَةٍ «حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَهُمْ ظَاهِرُونَ» وكلها صَحِيحَةٌ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهَا) .(2/617)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
- 56 - وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
- 57 - لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ
يَقُولُ تَعَالَى آمراً عباده المؤمنين بإقامة الصَّلَاةِ، وَهِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَهِيَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ ضعفائهم وفقرائهم، وأن يكونوا بذلك مطيعين لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أمرهم به، وترك مَا عَنْهُ زَجَرَهُمْ، لَعَلَّ اللَّهَ يَرْحَمُهُمْ بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أُولَئِكَ سيرحمهم الله} ، وقوله تعالى: {ولا تَحْسَبَنَّ} أي لا تظن يا محمد
إن {الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ خَالَفُوكَ وَكَذَّبُوكَ {مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} أَيْ لَا يُعْجِزُونَ اللَّهَ بَلِ اللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ، وَسَيُعَذِّبُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ولهذا قال تعالى: {وَمَأْوَاهُمُ} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ {النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أَيْ بِئْسَ الْمَآلُ مَآلُ الْكَافِرِينَ، وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ.(2/617)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
- 58 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
- 59 - وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
- 60 - وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ اشْتَمَلَتْ عَلَى اسْتِئْذَانِ الْأَقَارِبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَهُوَ اسْتِئْذَانُ الْأَجَانِبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْتَأْذِنَهُمْ خَدَمُهُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ وَأَطْفَالُهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْهُمْ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: (الْأَوَّلُ) مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْغَدَاةِ لِأَنَّ النَّاسَ إِذْ ذَاكَ يَكُونُونَ نِيَامًا فِي فُرُشِهِمْ، {وَحِينَ(2/617)
تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ} أَيْ فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَضَعُ ثِيَابَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ مَعَ أَهْلِهِ، {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} ، لِأَنَّهُ وَقْتُ النَّوْمِ فَيُؤْمَرُ الْخَدَمُ وَالْأَطْفَالُ أن لا يَهْجُمُوا عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، لِمَا يُخْشَى مِنْ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ عَلَى أهله أو نحو ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَلِهَذَا قَالَ: {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أَيْ إِذَا دَخَلُوا فِي حَالٍ غَيْرِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي تَمْكِينِكُمْ إِيَّاهُمْ، وَلَا عَلَيْهِمْ إِنْ رَأَوْا شَيْئًا فِي غَيْرِ تلك الأحوال، وَلِأَنَّهُمْ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أَيْ فِي الْخِدْمَةِ وَغَيْرِ ذلك، ولهذا روى أهل السنن أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ في الهرة: «إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم - أو الطوفات -» . عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلَيْنِ سَأَلَاهُ عَنِ الاستئذان في ثلاث عَوْرَاتٍ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ سِتِّيرٌ يُحِبُّ السَّتْرَ، كَانَ النَّاسُ لَيْسَ لَهُمْ سُتُورٌ عَلَى أَبْوَابِهِمْ، وَلَا حِجَالٌ فِي بُيُوتِهِمْ، فَرُبَّمَا فَاجَأَ الرَّجُلَ خَادِمُهُ أَوْ وَلَدُهُ أَوْ يَتِيمُهُ فِي حِجْرِهِ وَهُوَ عَلَى أَهْلِهِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ الَّتِي سَمَّى اللَّهُ؛ ثُمَّ جَاءَ اللَّهُ بَعْدُ بِالسُّتُورِ، فَبَسَطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ فَاتَّخَذُوا السُّتُورَ وَاتَّخَذُوا الْحِجَالَ، فَرَأَى النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَفَاهُمْ مِنَ الِاسْتِئْذَانِ الذي أمروا به (أخرجه ابن أبي حاتم وإسناده صحيح إلى ابن عباس كما قال ابن كثير) وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ أُنَاسٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُحِبُّونَ أَنَّ يُوَاقِعُوا نِسَاءَهُمْ فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ لِيَغْتَسِلُوا ثُمَّ يَخْرُجُوا إِلَى الصَّلَاةِ، فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: بَلَغَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ رجُلاً مِنَ الْأَنْصَارِ وَامْرَأَتَهُ أَسْمَاءَ بِنْتَ مرثد صَنَعَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا، فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَ بِغَيْرِ إِذَنٍ، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَقْبَحَ هَذَا، إِنَّهُ لَيَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَزَوجِهَا وَهُمَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ غُلَامُهُمَا بِغَيْرِ إِذَنٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أيمانكم} إلى آخرها؛ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ لَمْ تُنْسَخْ قَوْلُهُ: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يَعْنِي إِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ الَّذِينَ إِنَّمَا كَانُوا يَسْتَأْذِنُونَ فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ إِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا عَلَى كل حال، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ.
قَالَ الأوزاعي: إِذَا كَانَ الْغُلَامُ رَبَاعِيًّا فَإِنَّهُ يَسْتَأْذِنُ فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ عَلَى أَبَوَيْهِ، فَإِذَا بَلَغَ الْحُلُمَ فليستأذن على كل حال، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يَعْنِي كَمَا اسْتَأْذَنَ الْكِبَارُ مِنْ وَلَدِ الرجل وأقاربه، وقوله: {والقواعد مِنَ النسآء} هُنَّ اللَّوَاتِي انْقَطَعَ عَنْهُنَّ الْحَيْضُ وَيَئِسْنَ مِنَ الْوَلَدِ {اللَّاتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً} أَيْ لَمْ يبق لهن تشوف إلى التزوج، {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي ليس عليهن من الحجر في التستر كما على غيرهن مِنَ النساء، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} قَالَ: الْجِلْبَابُ أَوِ الرداء، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: تَضَعُ الْجِلْبَابَ وَتَقُومُ بَيْنَ يَدَيِ الرَّجُلِ فِي الدِّرْعِ وَالْخِمَارِ، وَقَالَ سَعِيدُ بن جبير في الآية {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} يَقُولُ: لَا يَتَبَرَّجْنَ بِوَضْعِ الجلباب ليرى ما عليهن من الزينة. عَنْ أُمِّ الضِّيَاءِ أَنَّهَا قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ عائشة رضي الله عنها فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَقُولِينَ فِي الْخِضَابِ وَالنِّفَاضِ وَالصِّبَاغِ وَالْقُرْطَيْنِ وَالْخَلْخَالِ وَخَاتَمِ الذَّهَبِ وَثِيَابِ الرِّقَاقِ؟ فَقَالَتْ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ قِصَّتُكُنَّ كُلُّهُا وَاحِدَةٌ، أَحَلَّ اللَّهُ لَكُنَّ الزِّينَةَ غَيْرَ متبرجات (أخرجه ابن أبي حاتم) أَيْ لَا يَحِلُّ لَكُنَّ أَنْ يَرَوْا مِنْكُنَّ محرماً. وَقَوْلُهُ: {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} أَيْ وَتَرْكُ وَضْعِهِنَّ لِثِيَابِهِنَّ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا، خَيْرٌ وَأَفْضَلُ لَهُنَّ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.(2/618)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
- 61 - لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي رَفَعَ لأجله الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض ههنا، فقال عطاء بن أسلم: يقال أنها نزلت في الجهاد، وجعلوا هذه الآية ههنا كَالَّتِي فِي سُورَةِ الْفَتْحِ وَتِلْكَ فِي الْجِهَادِ لَا مَحَالَةَ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ لِضَعْفِهِمْ وَعَجْزِهِمْ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وقيل: المراد ههنا أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الْأَكْلِ مَعَ الْأَعْمَى لِأَنَّهُ لَا يَرَى الطَّعَامَ وَمَا فِيهِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، فَرُبَّمَا سَبَقَهُ غَيْرُهُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَا مَعَ الْأَعْرَجِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْجُلُوسِ فَيَفْتَاتُ عَلَيْهِ جَلِيسُهُ، وَالْمَرِيضُ لَا يَسْتَوْفِي مِنَ الطَّعَامِ كَغَيْرِهِ، فَكَرِهُوا أَنْ يُؤَاكِلُوهُمْ لِئَلَّا يَظْلِمُوهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ رُخْصَةً فِي ذَلِكَ (وهذا قول سعيد بن جبير وغيره) ؛ وقال الضحاك: كانوا قبل البعثة يتحرجون من الأكل مع هؤلاء تقذراً وتعززاً وَلِئَلَّا يَتَفَضَّلُوا عَلَيْهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ السُّدَّيُّ: كَانَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ بَيْتَ أَبِيهِ أو أخيه أو ابنه فتتحفه المرأة بشيء مِنَ الطَّعَامِ، فَلَا يَأْكُلُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَبَّ الْبَيْتِ لَيْسَ ثَمَّ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} الآية. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} إنما ذكر هذا وهذا معلوم ليعطف عليه غيره في اللفظ، وليساوي به مَا بَعْدَهُ فِي الْحُكْمِ، وَتَضَمَّنَ هَذَا بُيُوتَ الْأَبْنَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ بِهَذَا مِنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَالَ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ مَالِ أَبِيهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَنْتَ ومالك لأبيك» (هذا جزء من حديث أخرجه أحمد وأصحاب السنن) .
وقوله تعالى: {أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ - إِلَى قَوْلِهِ - أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} هَذَا ظَاهِرٌ، وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يُوجِبُ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ بعضهم على بعض، كما هو مذهب أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا، وَأَمَا قَوْلُهُ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيٍر والسُّدِّيُّ: هُوَ خَادِمُ الرَّجُلِ مِنْ عَبْدٍ وَقَهْرَمَانٍ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا اسْتَوْدَعَهُ مِنَ الطَّعَامِ بِالْمَعْرُوفِ. وقال الزهري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ المسلمون يذهبون مع النَّفِيرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْفَعُونَ مُفَاتِحَهُمْ إِلَى ضُمَنَائِهِمْ، وَيَقُولُونَ: قَدْ أَحْلَلْنَا لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَأْكُلَ، إِنَّهُمْ أَذِنُوا لَنَا عَنْ غَيْرِ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا نَحْنُ أُمَنَاءُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَوَ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} ، وَقَوْلُهُ: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} أَيْ بُيُوتِ أَصْدِقَائِكُمْ وَأَصْحَابِكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي الْأَكْلِ مِنْهَا إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَلَا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا دَخَلْتَ بَيْتَ صَدِيقِكَ فَلَا بَأْسَ(2/619)
أَنْ تَأْكُلَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} ، قَالَ ابن عباس: وَذَلِكَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ وَالطَّعَامُ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ، فَكَفَّ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ - إلى
قوله - أَوْ صَدِيقِكُمْ} ، وكانوا أيضاً يتأنفون وَيَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ الطَّعَامَ وَحْدَهُ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَرَخَّصَ اللَّهُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} ، وقال قتادة: كان هَذَا الْحَيُّ مِنْ (بَنِي كِنَانَةَ) يَرَى أَحَدُهُمْ أَنَّ مَخْزَاةً عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ فِي الجاهلية، حتى إن الرَّجُلُ لَيَسُوقُ الذُّودَ الْحُفَّلَ وَهُوَ جَائِعٌ حَتَّى يَجِدَ مَنْ يُؤَاكِلُهُ وَيُشَارِبُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} فَهَذِهِ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ وَمَعَ الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ الأكل مع الجماعة أبرك وأفضل، كما روي أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: إنا نأكل ولا نشبع، قال: «لعلكم تَأْكُلُونَ مُتَفَرِّقِينَ، اجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ الله يبارك لكم فيه» (أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه) . وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «كُلُوا جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، فَإِنَّ الْبَرَكَةَ مع الجماعة» (أخرجه ابن ماجه عن عمر مرفوعاً) .
وقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} يعني فليسلم بعضكم على بعض، وقال جابر بن عبد الله إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ تَحِيَّةً من عند الله طيبة مبارمة، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَوَاجِبٌ إِذَا خَرَجْتُ ثُمَّ دَخَلْتُ أَنْ أُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: لا، ولا أوثر وُجُوبَهُ عَنْ أَحَدٍ، وَلَكِنْ هُوَ أَحَبُّ إليَّ، وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا دَخَلْتَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُؤْمَرُ بِذَلِكَ، وحُدِّثْنَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ ترد عليه، وقال أنس بن مالك: أَوْصَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ خِصَالٍ، قَالَ: «يَا أَنَسُ أَسْبِغِ الْوُضُوءَ يُزَدْ فِي عُمْرِكَ، وَسَلِّمْ عَلَى مَنْ لَقِيَكَ مِنْ أُمَّتِي تَكْثُرْ حَسَنَاتُكَ، وَإِذَا دَخَلْتَ - يَعْنِي بَيْتَكَ - فسلم على أهلك يَكْثُرْ خَيْرُ بَيْتِكَ، وَصَلِّ صَلَاةَ الضُّحَى فَإِنَّهَا صَلَاةُ الأوَّابين قَبْلَكَ، يَا أَنَسُ ارْحَمِ الصَّغِيرَ، وَوُقِّرِ الْكَبِيرَ تَكُنْ مِنْ رُفَقَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (أخرجه الحافظ البزار عن أنس مرفوعاً) . وَقَوْلُهُ: {تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} . عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا أَخَذْتُ التَّشَهُّدَ إِلَّا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} فَالتَّشَهُّدُ فِي الصَّلَاةِ: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لله، وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لما ذكر تعالى ما في هذه السور الْكَرِيمَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُحْكَمَةِ وَالشَّرَائِعِ الْمُتْقَنَةِ الْمُبْرَمَةِ؛ نبه تعالى عباده عَلَى أَنَّهُ يُبَيِّنُ لِعِبَادِهِ الْآيَاتِ بَيَانًا شَافِيًا ليتدبروها ويتعقلوها لعلهم يعقلون.(2/620)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
- 62 - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
[ص:621]
وَهَذَا أَيْضًا أَدَبٌ أرشده الله عباده المؤمنين، فَكَمَا أَمَرَهُمْ بِالِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ الدُّخُولِ، كَذَلِكَ أَمْرَهُمْ بِالِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ الِانْصِرَافِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا فِي أَمْرٍ جَامِعٍ مَعَ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، مِنْ صَلَاةِ جُمُعَةٍ أَوْ عِيدٍ أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك، أمرهم الله تعالى أن لا يتفرقوا عَنْهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ وَمُشَاوَرَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ إِذَا اسْتَأْذَنَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ أَنْ يأذن له إن شاء الله، وَلِهَذَا قَالَ: {فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ} الآية، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة» (أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن) .(2/620)
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
- 63 - لاَ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عَنْ ذلك إعظاماً لنبيه صلى الله عليه وسلم، قال: فَقُولُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُهَابَ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يُبَجَّلَ وَأَنْ يعظم وأن يسود، وقال مقاتل فِي قَوْلِهِ: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} يَقُولُ: لَا تُسَمُّوهُ إِذَا دعوتموه يا محمد، ولا تقولوا: يا ابن عَبْدِ اللَّهِ، وَلَكِنْ شرِّفوه فَقُولُوا: يَا نَبِيَّ الله، يا رسول الله؛ وهذا كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تشعرون} ، فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ فِي مُخَاطَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْكَلَامِ مَعَهُ وَعِنْدَهُ، كَمَا أُمِرُوا بِتَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ مُنَاجَاتِهِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} أَيْ لَا تَعْتَقِدُوا أَنَّ دُعَاءَهُ عَلَى غيره كدعاء غيره، فإن دعاه مستجاب، فاحذورا أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْكُمْ فَتَهْلَكُوا، حَكَاهُ ابْنُ أَبِي حاتم عن ابن عباس والحسن البصري، والأول أظهر، والله أعلم.
وقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً} قال مقاتل: هُمُ الْمُنَافِقُونَ كَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِمُ الْحَدِيثُ فِي يوم الجمعة، فيلوذون ببعض أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى يخرجوا من المسجد، وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمُ الْخُرُوجَ أَشَارَ بِإِصْبَعِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَأْذَنُ له من غير أن يتكلم الرجل، وقال السُّدِّيُّ: كَانُوا إِذَا كَانُوا مَعَهُ فِي جَمَاعَةٍ لَاذَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ حَتَّى يَتَغَيَّبُوا عَنْهُ فَلَا يَرَاهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ يَعْلَمِ الله الذين يتسللون لِوَاذاً} يَعْنِي لِوَاذًا عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ وَعَنْ كِتَابِهِ، وَقَالَ سُفْيَانُ {قَدْ يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ لِوَاذاً} قَالَ: مِنَ الصَّفِّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي الآية: {لِوَاذاً} خِلَافًا، وَقَوْلُهُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو سبيله ومنهجه وطريقته وشريعته، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» ، أَيْ فَلْيَحْذَرْ وَلْيَخْشَ مَنْ خَالَفَ شَرِيعَةَ الرسول باطناً وظاهراً {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أَيْ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ كُفْرٍ أَوْ نِفَاقٍ أَوْ بِدْعَةٍ
{أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي في الدينا بِقَتْلٍ أَوْ حَدٍّ أَوْ حَبْسٍ أَوْ نَحْوِ ذلك؛ كما روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا(2/621)
أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ اللائي يعقن فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ يَحْجِزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فيقتحمن فِيهَا، قَالَ: فَذَلِكَ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، هَلُمَّ عَنِ النَّارِ، فَتَغْلِبُونِي وتتقحمون فيها" (أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ) .(2/622)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
- 64 - أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُ عالم الغيب والشهادة وَهُوَ عَالِمٌ بِمَا الْعِبَادُ عَامِلُونَ فِي سِرِّهِمْ وَجَهْرِهِمْ فَقَالَ: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} ، وقد لِلتَّحْقِيقِ، كَمَا قَالَ قَبْلَهَا {قَدْ يَعْلَمِ اللَّهُ الذين يتسللو مِنْكُمْ لِوَاذًا} ، وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المعوقين منكم} الآية، فكل هذه الآيات فيها تحقيق الفعل بقد، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} أي هوعالم بِهِ مُشَاهِدٌ لَهُ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذرة، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَمَن هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أَيْ هُوَ شَهِيدٌ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا هُمْ فاعلون من خير وشر، وَقَالَ تَعَالَى: {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} الآية. وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَوْلُهُ: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} أي ويوم يرجع الْخَلَائِقُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} أَيْ يُخْبِّرُهُمْ بِمَا فَعَلُوا فِي الدُّنْيَا مِنْ جَلِيلٍ وَحَقِيرٍ وَصَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} ، وَقَالَ: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} ، ولهذا قال ههنا: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ} وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.(2/622)
- 25 - سورة الفرقان(2/623)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً
- 2 - الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا
يَقُولُ تَعَالَى حَامِدًا لنفسه الْكَرِيمَةَ عَلَى مَا نَزَّلَهُ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكتاب} ، وقال ههنا: {تَبَارَكَ} وهو تفاعل من البركة المستقرة الثابتة الدائمة، {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} نَزَّلَ فَعَّلَ مِنَ التَّكَرُّرِ والتكثر، كقوله: {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ من قبل} لِأَنَّ الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَانَتْ تَنْزِلُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ مُنَجَّمًا مُفَرَّقاً مُفَصَّلًا آيَاتٍ بَعْدَ آيَاتٍ، وَأَحْكَامًا بَعْدَ أَحْكَامٍ، وَسُورًا بَعْدَ سُوَرٍ، وَهَذَا أَشَدُّ وَأَبْلَغُ وَأَشَدُّ اعْتِنَاءً بِمَنْ أُنْزِلَ عليه، كما قال في هَذِهِ السُّورَةِ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ ترتيلا} ولهذا سماه ههنا الْفُرْقَانَ لِأَنَّهُ يَفْرِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَقَوْلُهُ: {عَلَى عَبْدِهِ} هَذِهِ صِفَةُ مَدْحٍ وَثَنَاءٍ، لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إِلَى عُبُودِيَّتِهِ، كَمَا وَصَفَهُ بِهَا فِي أَشْرَفِ أَحْوَالِهِ وَهِيَ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ فَقَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بعبده ليلا} ، وَكَمَا وَصَفَهُ بِذَلِكَ فِي مَقَامِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لبدا} ، وَقَوْلُهُ: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} أَيْ إِنَّمَا خَصَّهُ بهذا الكتاب المفصل العظيم المبين المحكم الذي {لاَّ يأيته الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حكيم حميد} الذي جعله فرقاناً عظيماً لِيَخُصَّهُ بِالرِّسَالَةِ إِلَى مَنْ يَسْتَظِلُّ بِالْخَضْرَاءِ وَيَسْتَقِلُّ على الغبراء، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «بعثت إلى الأحمر والأسود» ، وقال: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وإلى الناس عامة» ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إليكم جميعا} الآية، وهكذا قال ههنا: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ} ونزه نَفْسَهُ عَنِ الْوَلَدِ وَعَنِ الشَّرِيكِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أنه {خلق كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} أَيْ كُلُّ شَيْءٍ مِمَّا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ مَرْبُوبٌ، وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ، وَمَلِيكُهُ وَإِلَهُهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ تَحْتَ قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره.(2/623)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
- 3 - وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ(2/623)
حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ جَهْلِ الْمُشْرِكِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، الْخَالِقِ لِكُلِّ شَيْءٍ الْمَالِكِ لِأَزِمَّةِ الْأُمُورِ الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَمَعَ هَذَا عَبَدُوا مَعَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ، بل هم مخلوقون لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا فَكَيْفَ يَمْلِكُونَ لِعَابِدِيهِمْ؟ {وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ بل ذلك كله مرجعه إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ الَّذِي هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ الَّذِي يُعِيدُ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ، {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ، كقوله: {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر} ، وقوله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} ، {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا محضرون} فَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ وَلَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، وَهُوَ الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، ولا عديل ولا بديل وَلَا وَزِيرَ وَلَا نَظِيرَ بَلْ هُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ.(2/624)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
- 4 - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخرون فقد جاؤوا ظُلْمًا وَزُورًا
- 5 - وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً
- 6 - قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ سَخَافَةِ عُقُولِ الْجَهَلَةِ مِنَ الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ {إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ} أَيْ كَذِبٌ {افْتَرَاهُ} يَعْنُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} أَيْ وَاسْتَعَانَ عَلَى جمعه بقوم آخرين (يعنون: جبراً مولى الحضرمي، وعداساً غلام عتبة، والقائل: أبو جهل لعنه الله) ، فقال الله تعالى: {فقد جاؤوا ظُلْماً وَزُوراً} أَيْ فَقَدِ افْتَرَوْا هُمْ قَوْلًا باطلاً وهم يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَيَعْرِفُونَ كَذِبَ أَنْفُسِهِمْ فِيمَا زعموه، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} يَعْنُونَ كُتُبَ الْأَوَائِلِ أي اسْتَنْسَخَهَا {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} أَيْ تُقْرَأُ عَلَيْهِ {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي أول النهار وآخره، وهذا الكرم لسخافته وكذبه كُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بُطْلَانَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بالتواتر أن محمداً صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يُعَانِي شَيْئًا مِنَ الْكِتَابَةِ، لَا فِي أَوَّلِ عُمُرِهِ وَلَا فِي آخِرِهِ، وَقَدْ نَشَأَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مِنْ أَوَّلِ مَوْلِدِهِ إِلَى أَنْ بَعَثَهُ اللَّهُ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وهم يعرفون مدخله، ومخرجه، وصدقته ونزاهته وبره وأمانته، حتى إنهم كانوا يسمونه في صغره، وإلى أن بعث: (الْأَمِينَ) لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ صِدْقِهِ وَبِرِّهِ، فَلَمَّا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِمَا أَكْرَمَهُ بِهِ، نَصَبُوا لَهُ العدواة، وَرَمَوْهُ بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ براءته منها، وحاروا فيما يَقْذِفُونَهُ بِهِ، فَتَارَةً مِنْ إِفْكِهِمْ يَقُولُونَ سَاحِرٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ شَاعِرٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ مَجْنُونٌ، وَتَارَةً يقولون كذاب، وقال اللَّهُ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ
يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} . وقال تعالى في جواب ما عاندوا ههنا وَافْتَرَوْا: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ والأرض} الآية: أَيْ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى أَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ والآخرين {الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} ، أَيِ اللَّهُ الَّذِي يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَيَعْلَمُ السَّرَائِرَ كَعِلْمِهِ بِالظَّوَاهِرِ، وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} ، دُعَاءٌ لَهُمْ إِلَى التوبة والإنابة، وإخبار لهم بأن رحمته واسعة وأن حلمه عظيم، مع أن مَنْ تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ، فَهَؤُلَاءِ مَعَ كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتانهم، يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ إلى الإسلام والهدى، كما قال(2/624)
تعالى: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رحيم} ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} . قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْكَرَمِ وَالْجُودِ، قَتَلُوا أَوْلِيَاءَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ والرحمة.(2/625)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
- 7 - وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا
- 8 - أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا
- 9 - انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً
- 10 - تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَكَ قُصُورًا
- 11 - بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً
- 12 - إِذَا رَأَتْهُمْ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا
- 13 - وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً
- 14 - لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَعَنُّتِ الْكَفَّارِ وَعِنَادِهِمْ، وَتَكْذِيبِهِمْ لِلْحَقِّ بِلَا حُجَّةٍ وَلَا دَلِيلٍ منهم، وإنما تعللوا بقولهم: {ما لهذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} يَعْنُونَ كَمَا نَأْكُلُهُ، وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ كَمَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ {وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} أَيْ يَتَرَدَّدُ فِيهَا وَإِلَيْهَا طَلَبًا لِلتَّكَسُّبِ وَالتِّجَارَةِ {لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} يَقُولُونَ: هَلَّا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَكُونَ لَهُ شَاهِدًا عَلَى صِدْقِ مَا يَدَّعِيهِ؟ وَهَذَا كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ: {فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مقترنين} وَكَذَلِكَ قَالَ هَؤُلَاءِ عَلَى السَّوَاءِ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ، ولهذا قالوا {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ} أَيْ عِلْمُ كَنْزٍ يُنْفِقُ مِنْهُ {أَوْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} أَيْ تَسِيرُ مَعَهُ حَيْثُ سَارَ، وَهَذَا كُلُّهُ سَهْلٌ يَسِيرٌ عَلَى اللَّهِ وَلَكِنَّ لَهُ الْحِكْمَةَ فِي تَرْكِ ذَلِكَ، وَلَهُ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّواْ} أَيْ جَاءُوا بِمَا يَقْذِفُونَكَ بِهِ وَيَكْذِبُونَ بِهِ عليك، من قولهم ساحر، مَجْنُونٌ، كَذَّابٌ، شَاعِرٌ؛ وَكُلُّهَا أَقْوَالٌ بَاطِلَةٌ، كُلُّ أَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ أَدْنَى فَهْمٍ وَعَقْلٍ يَعْرِفُ كَذِبَهُمْ وَافْتِرَاءَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَضَلُّواْ} عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} ، وَذَلِكَ أن كل من خرج عن الحق وطريق الهدى فَإِنَّهُ ضَالٌّ حَيْثُمَا تَوَجَّهَ، لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ ومنهجه مُتَّحِدٌ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا؛ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مخبراً نبيه أنه إن شَاءَ لَآتَاهُ خَيْرًا مِمَّا يَقُولُونَ فِي الدُّنْيَا وأفضل وأحسن، فقال: {تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك} الآية. قال مجاهد: يعني في الدينا، قَالَ: وَقُرَيْشٌ يُسَمُّونَ كُلَّ بَيْتٍ مِنْ حِجَارَةٍ قصراً، كبيراً كان أو صغيراً. قال سفيان الثوري عَنْ خَيْثَمَةَ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ شِئْتَ أَنْ نُعْطِيَكَ خَزَائِنَ الْأَرْضِ ومفاتيحها لم نعطه نبياً قبلك، ولا نعطي أحداً مِنْ بَعْدِكَ، وَلَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِمَّا لَكَ عِنْدَ اللَّهِ. فَقَالَ: «اجْمَعُوهَا لِي فِي الْآخِرَةِ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ فِي ذَلِكَ: {تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك} الآية.
وقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ} أَيْ إِنَّمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ هَكَذَا تَكْذِيبًا وَعِنَادًا، لَا أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ ذَلِكَ تبصراً(2/625)
وَاسْتِرْشَادًا، بَلْ تَكْذِيبُهُمْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُمْ عَلَى قَوْلِ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، {وَأَعْتَدْنَا} أي أرصدنا {لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} أَيْ عَذَابًا أَلِيمًا حاراً لا يطاق في نار جَهَنَّمَ، وَقَوْلُهُ: {إِذَا رَأَتْهُمْ} أَيْ جَهَنَّمُ {مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} يَعْنِي فِي مَقَامِ الْمَحْشَرِ، قَالَ السُّدِّيُّ: مِنْ مَسِيرَةِ مِائَةِ عَامٍ {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} أَيْ حَنَقًا عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} أَيْ يَكَادُ يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ مِنْ شدة غيظها على من كفر بالله. عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ الله بن مسعود ومعنا الربيع بن خيثم، فَمَرُّوا عَلَى حَدَّادٍ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَنْظُرُ إلى حديدة في النار، وينظر الربيع بن خيثم إليها، فتمايل الربيع لِيَسْقُطَ، فَمَرَّ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى أَتُونٍ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، فِلَمَّا رَآهُ عَبْدُ اللَّهِ وَالنَّارُ تَلْتَهِبُ فِي جَوْفِهِ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} فصعق، يعني الربيع، وحملوه إلى أهل بيته، فرابطة عَبْدُ اللَّهِ إِلَى الظُّهْرِ، فَلَمْ يَفِقْ رَضِيَ الله عنه. وعن مجاهد بإسناده إلى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُجَرُّ إِلَى النَّارِ فَتَنْزَوِي وَتَنْقَبِضُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَيَقُولُ لَهَا الرَّحْمَنُ: مَا لَكِ؟ قَالَتْ: إِنَّهُ يَسْتَجِيرُ مِنِّي، فَيَقُولُ أَرْسِلُوا عَبْدِي؛ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُجَرُّ إِلَى النَّارِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا كَانَ هَذَا الظَّنُّ بِكَ، فَيَقُولُ: فَمَا كَانَ ظَنُّكَ؟ فَيَقُولُ: أَنْ تَسَعَنِي رَحْمَتُكَ، فَيَقُولُ: أَرْسِلُوا عَبْدِي؛ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُجْرُّ إِلَى النَّارِ فَتَشْهَقُ إِلَيْهِ النار شهقة الْبَغْلَةِ إِلَى الشَّعِيرِ، وَتَزْفَرُ زَفْرَةً لَا يَبْقَى أحد إلا خاف (ذكره ابن جرير رحمه الله في تفسيره وقال ابن كثير: إسناده صحيح) . وقال عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} قال: إن جهنم لتزفر زَفْرَةً لَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مرسل إلاّ خرَّ لوجهه، ترتعد فرائضه، حَتَّى إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَجْثُو عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيَقُولَ: رَبِّ لَا أَسْأَلُكَ الْيَوْمَ إِلَّا نفسي (أخرجه عبد الرزاق عن مجاهد عن عبيد بن عمير) ، وقوله: {وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ} قَالَ قتادة: مِثْلَ الزُّجِّ فِي الرُّمْحِ أَيْ مِنْ ضِيقِهِ، وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قَوْلِ اللَّهِ: {وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ} قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ لَيُسْتَكْرَهُونَ فِي النَّارِ كَمَا يُسْتَكْرَهُ الْوَتِدُ فِي الْحَائِطِ» . وقوله: {مُّقَرَّنِينَ} يَعْنِي مُكَتَّفِينَ {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} أَيْ بِالْوَيْلِ وَالْحَسْرَةِ وَالْخَيْبَةِ، {لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً} الآية. روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى حُلَّةً مِنَ النَّارِ إِبْلِيسُ، فَيَضَعُهَا عَلَى حاجبيه ويسحبها من خلقه، وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ يُنَادِي: يَا ثُبُورَاهُ، وَيُنَادُونَ: يَا ثُبُورَهُمْ، حَتَّى يَقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَيَقُولُ: يَا ثُبُورَاهُ، وَيَقُولُونَ: يَا ثُبُورَهُمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ: {لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوَا ثُبُوراً كَثِيراً} . عن ابن عباس: أَيْ لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ وَيْلًا واحِداً وَادْعُوَا وَيْلًا كَثِيرًا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الثُّبُورُ الْهَلَاكُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الثُّبُورَ يَجْمَعُ الْهَلَاكَ وَالْوَيْلَ وَالْخَسَارَ وَالدَّمَارَ، كما قال موسى لفرعون: {وإني لأظنك يا فرعون مَثْبُوراً} أي هالكاً.(2/626)
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
- 15 - قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا
- 16 - لَهُمْ فيها ما يشاؤون خالدين كَانَ على رَبِّكَ وعدا مسؤولا
يَقُولُ تَعَالَى: يَا مُحَمَّدُ هَذَا الَّذِي وَصَفْنَاهُ لك من حال الْأَشْقِيَاءِ، الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ، فتلقاهم بوجه عبوس وتغيظ وَزَفِيرٍ، وَيُلْقَونَ فِي أَمَاكِنِهَا الضَّيِّقَةِ مُقَرَّنِينَ، لَا يستطيعون حراكاً ولا استنصاراً ولا فكاكاً(2/626)
مِمَّا هُمْ فِيهِ، أَهَذَا خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وَعَدَهَا اللَّهُ الْمُتَّقِينَ مِنْ عِبَادِهِ، التي أعدها لهم جزاء ومصيراً عَلَى مَا أَطَاعُوهُ فِي الدُّنْيَا وَجَعَلَ مَآلَهُمْ إليها؟! {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ} مِنَ الْمَلَاذِّ مِنْ مَآكِلَ وَمَشَارِبَ، وَمَلَابِسَ وَمَسَاكِنَ، وَمَرَاكِبَ وَمَنَاظِرَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أذن سمعت ولا خطر على قَلْبِ أَحَدٍ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ خَالِدُونَ أَبَدًا دَائِمًا سَرْمَدًا، بِلَا انْقِطَاعٍ وَلَا زَوَالٍ وَلَا انقضاء، ولا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، وَهَذَا مِنْ وَعْدِ اللَّهِ الَّذِي تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِمْ وَأَحْسَنَ بِهِ إِلَيْهِمْ، ولهذا قال: {كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مسؤولا} أَيْ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ وَأَنْ يَكُونَ أي وعداً واجباً، وقال محمد بن كعب القرظي: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْأَلُ لَهُمْ ذَلِكَ {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} ، وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: رَبَّنَا عَمِلْنَا لَكَ بِالَّذِي أَمَرْتَنَا فَأَنْجِزْ لَنَا مَا وَعَدْتَنَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَعْداً مسؤولا} وهذا المقام في هذه السورة كَمَا ذَكَرَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ حَالَ أهل الجنة وما فيها منن النَّضْرَةِ وَالْحُبُورِ، ثُمَّ قَالَ: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقزم * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً للظالمين} الآيات.(2/627)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
- 17 - وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ
- 18 - قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَكِنْ مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً
- 19 - فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلَا نَصْرًا وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يَقَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ تَقْرِيعِ الْكُفَّارِ فِي عِبَادَتِهِمْ مَنْ عَبَدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الملائكة وغيرهم فقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} ، قال مجاهد: هو عِيسَى وَالْعُزَيْرُ وَالْمَلَائِكَةُ، {فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ} الآية، أي فيقول تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْمَعْبُودِينَ: أَأَنْتُمْ دَعَوْتُمْ هَؤُلَاءِ إِلَى عِبَادَتِكُمْ مِنْ دُونِي، أَمْ هُمْ عَبَدُوكُمْ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ مِنْكُمْ لَهُمْ؟ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذِ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بحق} الآية. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يُجيِبُ بِهِ الْمَعْبُودُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ ينبغي لنا أن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ} ، أَيْ لَيْسَ لِلْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ أَنْ يَعْبُدُوا أَحَدًا سِوَاكَ لَا نَحْنُ وَلَا هُمْ، فَنَحْنُ ما دعوناهم إلى ذلك بل هم فعلوا ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَمْرِنَا وَلَا رِضَانَا، وَنَحْنُ بُرَآءُ مِنْهُمْ وَمِنْ عِبَادَتِهِمْ، {وَلَكِنْ مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ} أَيْ طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ، أَيْ نَسُوا مَا أَنْزَلْتَهُ إِلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى عِبَادَتِكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، {وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ هَلْكَى، وَقَالَ الحسن البصري: أي لا خير فيهم. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} أي فقد كذبكم الذين عبدتم من دون الله، فيما زعمتم أنهم لكم أولياء وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى، كقوله تَعَالَى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بعبادتهم كافرين} . وقوله: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً} أَيْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى صَرْفِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ وَلَا الِانْتِصَارِ لِأَنْفُسِهِمْ، {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ} أَيْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ {نُذِقْهُ عَذَاباً كبيرا} .(2/627)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
- 20 - وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا(2/627)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ جَمِيعِ مَنْ بَعَثَهُ مِنَ الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ
فِي الأسواق لِلتَّكَسُّبِ وَالتِّجَارَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُنَافٍ لِحَالِهِمْ وَمَنْصِبِهِمْ، فإن الله تعالى جَعَلَ لَهُمْ مِنَ السِّمَاتِ الْحَسَنَةِ، وَالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ، والأقوال الفاضلة، والأعمال الكاملة، والخوارق الباهرة، مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ كُلُّ ذِي لُبٍّ سَلِيمٍ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ اللَّهِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام} الآية، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} ؟ أَيْ اخْتَبَرْنَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ، وَبَلَوْنَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ لِنَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُ مِمَّنْ يَعْصِي، وَلِهَذَا قَالَ {أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} أَيْ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالته} ومن يستحق أن يهديه الله وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} ؟ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَجْعَلَ الدُّنْيَا مَعَ رُسُلِي فَلَا يُخَالَفُونَ لَفَعَلْتُ، وَلَكِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَلِيَ الْعِبَادَ بِهِمْ وأبتليكم بهم، وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إِنِّي مُبْتَلِيكَ ومبتل بك» (أخرجه مسلم عن عياض بن حماد مرفوعاً) ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ خيَّر بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ عَبْدًا رَسُولًا، فَاخْتَارَ أَن يَكُونَ عَبْداً رَسُولًا.(2/628)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
- 21 - وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيرًا
- 22 - يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا
- 23 - وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً
- 24 - أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ تَعَنُّتِ الْكَفَّارِ فِي كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: {لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} أَيْ بِالرِّسَالَةِ كَمَا تنزل على الأنبياء، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله} ، ويحتمل أن يكون مرادهم ههنا {لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} فَنَرَاهُمْ عَيَانًا فَيُخْبِرُونَا أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، كَقَوْلِهِمْ: {أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قبيلا} ، ولهذا قالوا: {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} ، وقوله تَعَالَى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ويقولون حجرا مَّحْجُوراً} أي هم يوم يرونهم لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لَهُمْ، وَذَلِكَ يَصْدُقُ عَلَى وقت الاحتضار، حين تبشرهم الملائكة بالنار، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لِلْكَافِرِ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، اخْرُجِي إِلَى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ، فَتَأْبَى الْخُرُوجَ وَتَتَفَرَّقُ فِي الْبَدَنِ فَيَضْرِبُونَهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} الآية. وقال تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ والملائكة باسطو أَيْدِيهِمْ} أي بالضرب، وَلِهَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} وَهَذَا بخلاف حال المؤمنين حال احْتِضَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُبَشَّرُونَ بِالْخَيْرَاتِ، وَحُصُولِ الْمَسَرَّاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أن لا تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ توعدون} ، وفي الصَّحِيحِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ لِرُوحِ الْمُؤْمِنِ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ في الجسد الطيب إن كنت تعمرينه،(2/628)
اخْرُجِي إِلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ (تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} الآية) ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمَا؛ ولا منافاة بين هذا وما تَقَدَّمَ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ فِي هَذَيْنَ الْيَوْمَيْنِ - يَوْمِ الممات ويوم المعاد - تتجلى للمؤمنين والكافرين، فَتُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَتُخْبِرُ الْكَافِرِينَ بِالْخَيْبَةِ وَالْخُسْرَانِ، فَلَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} أَيْ وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لِلْكَافِرِينَ: حَرَامٌ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمُ الْفَلَّاحُ الْيَوْمَ، وَأَصْلُ الْحِجْرِ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: حَجَرَ الْقَاضِي عَلَى فُلَانٍ إِذَا مَنَعَهُ التصرف، إما لسفهٍ أو صغرٍ أو نحو ذلك؛ وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْعَقْلِ (حِجْر) لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ عَنْ تَعَاطِي مَا لَا يَلِيقُ، وَالْغَرَضُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {وَيَقُولُونَ} عَائِدٌ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، هذا قول مجاهد وعكرمة والضحاك واختاره ابن جرير.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ} الآية، هذا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُحَاسِبُ اللَّهُ الْعِبَادَ عَلَى ما عملوه من الخير والشر، فأخبر أنه لا يحصل لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي ظَنُّوا أَنَّهَا مَنْجَاةٌ لَهُمْ شَيْءٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا فَقَدَتِ الشَّرْطَ الشَّرْعِيَّ إِمَّا الْإِخْلَاصُ فِيهَا، وَإِمَّا الْمُتَابَعَةُ لِشَرْعِ اللَّهِ، فَكُلُّ عَمَلٍ لَا يَكُونُ خَالِصًا وَعَلَى الشريعة المرضية فهو باطل، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: {هَبَآءً مَّنثُوراً} قَالَ: شُعَاعُ الشَّمْسِ إِذَا دَخَلَ الكوة. وكذا قال الحسن البصري: هو شعاع في كوة أحدكم وَلَوْ ذَهَبَ يَقْبِضُ عَلَيْهِ لَمْ يَسْتَطِعْ، وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ {هَبَآءً مَّنثُوراً} قَالَ: هُوَ الْمَاءُ المهراق، وقال قتادة: أما رأيت يبس الشَّجَرِ إِذَا ذَرَتْهُ الرِّيحُ؟ فَهُوَ ذَلِكَ الْوَرَقُ. وروى عبد الله بن وهب عن عبيد بن يعلى قال: إن الهباء الرماد إذا ذرته الريح، وَحَاصِلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَضْمُونِ الْآيَةِ، وذلك أنهم عملوا أعمالاً اعتقدوا أنها على شيء، فلما عرضت على الملك الحكم الْعَدْلِ الَّذِي لَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا إذا بها لَا شَيْءَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَشُبِّهَتْ فِي ذَلِكَ بِالشَّيْءِ التافه الحقير المتفرق، الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية، كما قال تَعَالَى: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يجده شيئاً} .
وقوله تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ} وذلك أن أَهْلَ الْجَنَّةِ يَصِيرُونَ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ، وَالْغُرُفَاتِ الْآمِنَاتِ، فَهُمْ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ حَسَنِ الْمَنْظَرِ طَيِّبِ الْمَقَامِ {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} وأهل النار يصيرون إلى الدركات السافلات، وَأَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَالْعُقُوبَاتِ {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} أَيْ بِئْسَ الْمَنْزِلُ مَنْظَرًا وَبِئْسَ الْمَقِيلُ مَقَامًا، ولهذا قال تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} أَيْ بِمَا عَمِلُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُتَقَبَّلَةِ نَالُوا مَا نَالُوا وَصَارُوا إِلَى مَا صَارُوا إليه بخلاف أهل النار، فإنهم ليس لهم عمل واحد يقتضي دخول الجنة لهم وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ، فَنَبَّهَ تَعَالَى بِحَالِ السُّعَدَاءِ عَلَى حَالِ الْأَشْقِيَاءِ وَأَنَّهُ لَا خَيْرَ عِنْدَهُمْ بالكلية، فقال تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} ، قال ابن عباس، إنما هي ساعة فيقبل أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَلَى الْأَسِرَّةِ مَعَ الْحَورِ الْعَيْنِ، ويقبل أَعْدَاءُ اللَّهِ مَعَ الشَّيَاطِينِ مُقْرَّنِينَ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَفْرَغُ اللَّهُ مِنَ الْحِسَابِ نِصْفَ النهار فيقيل(2/629)
أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} ، قال قتادة: أي مأوى ومنزلاً. وقال ابن جرير عن سعيد الصواف: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقْصُرُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ كَمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى غروب الشمس، وإنهم يتقلبون فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يُفْرَغَ مِنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} .(2/630)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
- 25 - وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا
- 26 - الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً
- 27 - وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا
- 28 - يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا
- 29 - لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ، فَمِنْهَا انْشِقَاقُ السَّمَاءِ وَتَفَطُّرُهَا، وَانْفِرَاجُهَا بِالْغَمَامِ وَهُوَ ظُلَلُ النُّورِ الْعَظِيمِ الَّذِي يُبْهِرُ الأبصار، ونزول ملائكة السموات يومئذٍ، فَيُحِيطُونَ بِالْخَلَائِقِ فِي مَقَامِ الْمَحْشَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أن يأيتهم الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة} الآية. قَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثَمَانِيَةٌ، أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى حلمك بعد علمك، وأربعة مِنْهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى عفوك بعد قدرتك.
وقوله تعالى: {الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} الآية، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ. لِلَّهِ الواحد القهار} وفي الصحيح: أن الله تعالى يَطْوِي السَّمَاوَاتِ بِيَمِينِهِ، وَيَأْخُذُ الْأَرَضِينَ بِيَدِهِ الْأُخْرَى ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟. وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} أَيْ شَدِيدًا صَعْبًا لِأَنَّهُ يَوْمُ عَدْلٍ وَقَضَاءِ فَصْلٍ، كَمَا قال تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يسير} فَهَذَا حَالُ الْكَافِرِينَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكبر} الآية، وروى الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} مَا أَطْوَلَ هَذَا الْيَوْمَ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لِيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا» . وَقَوْلُهُ: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} الآية، يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ نَدَمِ الظَّالِمِ الَّذِي فَارَقَ طريق الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْحَقِّ الْمُبِينِ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَسَلَكَ طَرِيقًا أُخْرَى غَيْرَ سَبِيلِ الرَّسُولِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَدَمَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ النَدَمُ، وَعَضَّ عَلَى يَدَيْهِ حَسْرَةً وَأَسَفًا، وَسَوَاءً كَانَ سبب نزولها في عقبة بن معيط (أخرج ابن جرير: كان أبي بن خلف يحضر النبي صلى الله عليه وسلم، فيزجره عقبة بن أبي معيط، فنزلت هذه الآية، كما في اللباب) ، أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ، فَإِنَّهَا عَامَّةٌ فِي كل ظالم كما قال الله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النار} الآيتين، فَكُلُّ ظَالِمٍ يَنْدَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، غَايَةَ النَّدَمِ، وَيَعَضُّ عَلَى يَدَيْهِ قَائِلًا {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} يَعْنِي مَنْ صرَفه عَنِ الهدى وعدَل به إلى طريق الضلال مِنْ دُعَاةِ الضَّلَالَةِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ (أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ) أَوْ أَخُوهُ (أُبي بْنُ خَلَفٍ) أَوْ غَيْرُهُمَا {لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} وَهُوَ الْقُرْآنُ {بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي}(2/630)
أَيْ بَعْدَ بُلُوغِهِ إليَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} أَيْ يَخْذُلُهُ عَنِ الْحَقِّ وَيَصْرِفُهُ عَنْهُ وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي الْبَاطِلِ وَيَدْعُوهُ إليه.(2/631)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
- 30 - وقال الرسول يا رب إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا
- 31 - وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيرًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ رسوله ونبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يُصْغُونَ لِلْقُرْآنِ وَلَا يستمعونه، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْآنِ والغوا فِيهِ} الآية، فكانوا إِذَا تُلِيَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ، أَكْثَرُوا اللَّغَطَ وَالْكَلَامَ حتى لا يسمعونه؛ فهذا من هجرانه، وترك الإيمان به مِنْ هُجْرَانِهِ، وَتَرْكُ تَدَبُّرِهِ وَتَفْهُّمِهِ مِنْ هُجْرَانِهِ، وترك العمل به مِنْ هُجْرَانِهِ، وَالْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ مَنْ شِعْرٍ أَوْ قَوْلٍ، أَوْ غناءٍ أَوْ لهوٍ من هجرانه. وقوله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ} أَيْ كَمَا حَصَلَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ فِي قَوْمِكَ مِنَ الَّذِينَ هَجَرُوا الْقُرْآنَ، كَذَلِكَ كَانَ في الأمم الماضيين، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ، يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى ضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن} الآية، ولهذا قال تعالى ههنا: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} أَيْ لِمَنِ اتَّبَعَ رَسُولَهُ وَآمَنَ بِكِتَابِهِ وَصَدَّقَهُ وَاتَّبَعَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ هاديه وناصره في الدنيا والآخرة.(2/631)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
- 32 - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً
- 33 - وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا
- 34 - الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كَثْرَةِ اعْتِرَاضِ الْكُفَّارِ وَتَعَنُّتِهِمْ وَكَلَامِهِمْ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ حَيْثُ قَالُوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} أَيْ هَلَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ جملة واحدة، كما نزلت الكتب قبله جملة واحدة كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ؟ فأجابهم الله تعالى عن ذلك بأنه إنما نزل مُنَجَّمًا فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ والحوادث وما يحتاج إليه من الأحكام ليثبت قلوب المؤمنين به كقوله: {وَقُرْآناً فرقناه} الآية، وَلِهَذَا قَالَ: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} ، قال قتادة: بيناه تبييناً، وقال ابن زيد: وَفَسَّرْنَاهُ تَفْسِيرًا {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} أَيْ بِحُجَّةٍ وَشُبْهَةٍ {إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} أَيْ وَلَا يَقُولُونَ قَوْلًا يُعَارِضُونَ بِهِ الْحَقَّ إِلَّا أَجَبْنَاهُمْ بِمَا هُوَ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وأبين وأوضح وأفصح من مقالتهم، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} أَيْ بِمَا يَلْتَمِسُونَ بِهِ عَيْبَ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ {إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق} أي: إلاّ نزل جبريل من الله تعالى بجوابهم، وما هذا إلاّ اعتناء وكبير شرف للرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كان يأتيه الوحي من الله عزَّ وجلَّ بالقرآن صباحاً ومساء، سفراً وحضراً، لا كإنزال ما قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ فَهَذَا الْمَقَامُ أَعْلَى وأجل وأعظم مكانة من سائر إخوانه الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ
وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ؛ فَالْقُرْآنُ أشرف كتاب أنزله الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم أعظم نبي أرسله الله تعالى،(2/631)
وقد جمع الله لِلْقُرْآنِ الصِّفَتَيْنِ مَعًا: فَفِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى أُنْزِلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السماء الدنيا، ثم أنزل بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْأَرْضِ مُنَجَّمًا بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ والحوادث. روي عن ابن عباس أنه قال: أنزل القرآن جملة واحدة إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً، قَالَ الله تعالى: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} ، وقال تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تنزيلا} (أخرجه النسائي بإسناده عن ابن عباس) .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ سُوءِ حَالِ الْكُفَّارِ فِي مَعَادِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَحَشْرِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ فِي أَسْوَأِ الْحَالَاتِ وَأَقْبَحِ الصِّفَاتِ، {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً} ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: «إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ قَادِرٌ أَنْ يمشيه على وجهه يوم القيامة» .(2/632)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
- 35 - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا
- 36 - فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا
- 37 - وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا
- 38 - وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا
- 39 - وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً
- 40 - وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُورًا
يَقُولُ تعالى متوعداً من كذب رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من مشركي قومه وَمُحَذِّرَهُمْ مِنْ عِقَابِهِ وَأَلِيمِ عَذَابِهِ، مِمَّا أَحَلَّهُ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِ؛ فَبَدَأَ بِذِكْرِ مُوسَى وأنه بعث وَجَعَلَ مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا أَيْ نَبِيًّا مُوَازِرًا وَمُؤَيِّدًا وَنَاصِرًا، فَكَذَّبَهُمَا فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ فَـ {دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِقَوْمِ نُوحٍ حِينَ كَذَّبُوا رَسُولَهُ نوحاً عليه السلام، ولهذا قال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ} وَلَمْ يُبْعَثْ إِلَيْهِمْ إِلَّا نُوحٌ فَقَطْ، وَقَدْ لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ إِلَى الله عزَّ وجلَّ وَيُحَذِّرُهُمْ نَقَمَهُ {فَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} ، وَلِهَذَا أَغْرَقَهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أحداً، ولم يترك من بني آدم على وجه الارض سِوَى أَصْحَابِ السَّفِينَةِ فَقَطْ، {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} أَيْ عِبْرَةٌ يَعْتَبِرُونَ بِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} أَيْ وَأَبْقَيْنَا لَكُمْ مِنَ السُّفُنِ مَا تَرْكَبُونَ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ، لِتَذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ من إنجائكم من الغرق، وقوله تعالى: {وَعَاداً وثمود وَأَصْحَابَ الرس} قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قِصَّتَيْهِمَا فِي غَيْرِ ما سورة كسورة الْأَعْرَافِ بِمَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الرس فقال ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمْ أَهْلُ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى ثمود، وقال عِكْرِمَةُ: أَصْحَابُ الرَّسِّ بِفَلْجٍ وَهُمْ أَصْحَابُ يس، وقال قتادة: فلج من قرى اليمامة، وعن عِكْرِمَةَ: الرَّسُّ بِئْرٌ رَسَوْا فِيهَا نَبِيَّهَمْ، أَيْ دفنوه فيها.(2/632)
وقوله تعالى: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} أي وأمماً - أَضْعَافِ مَنْ ذُكِرَ أَهْلَكْنَاهُمْ - كَثِيرَةً، وَلِهَذَا قَالَ: {وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} أَيْ بَيَّنَّا لَهُمُ الحجج، ووضحنا لهم الأدلة، وأزحنا الأعذار عنهم، {وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} أَيْ أَهْلَكْنَا إِهْلَاكًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نوح} ، وَالْقَرْنُ هُوَ الْأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ، كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ} ، وحَدَّه بعضُهم بمائة، وقيل بثمانين، والأظهر أن القرن هو الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد، وإذا ذهبوا وخلفهم جيل فهو قرن آخر، كما ثبت في الصحيحين: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الذين يلونهم» الحديث. {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء} يعني قرية قوم لوط وهي (سدوم) التي أهلكها الله بالقلب والمطر من الحجارة التي مِنْ سِجِّيلٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فَسَآءَ مطر المنذرين} ، وَقَالَ: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تعقلون} ، وقال تعالى: {وَإِنَّهَا لبسبيل مقيم} ، وقال: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مبين} ، وَلِهَذَا قَالَ: {أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا} ؟ أَيْ فَيَعْتَبِرُوا بِمَا حَلَّ بِأَهْلِهَا مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ بِسَبَبِ تكذيبهم بالرسول وبمخالفتهم أوامر الله، {بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً} يَعْنِي الْمَارِّينَ بِهَا مِنَ الْكُفَّارِ لَا يَعْتَبِرُونَ، لِأَنَّهُمْ {لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً} أَيْ مَعَادًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.(2/633)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
- 41 - وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا
- 42 - إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا
- 43 - أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا
- 44 - أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ اسْتِهْزَاءِ المشركين بالرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأوه، كما قال تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هزوا} الآية، يعنونه بالعيب والنقص، وقال ههنا: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} ؟ أَيْ عَلَى سَبِيلِ التنقص والإزدراء، وقوله تعالى: {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا} يعنون أنه كاد يثنيهم عن عبادة الأصنام، لولا أن صبروا وتجلدوا واستمروا عليها، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لَهُمْ وَمُتَهَدِّدًا: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب} الآية، ثم قال تعالى لنبيه منبهاً: أنَّ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةَ وَالضَّلَالَ فإنه لا يهديه أحد إلا الله عزَّ وجلَّ، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أَيْ مَهْمَا اسْتَحْسَنَ مِنْ شَيْءٍ وَرَآهُ حَسَنًا فِي هَوَى نَفْسِهِ كَانَ دِينَهُ وَمَذْهَبَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ} الآية، ولهذا قال ههنا: {أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُ الْحَجَرَ الْأَبْيَضَ زَمَانًا فَإِذَا رَأَى غَيْرَهُ أَحْسَنَ مِنْهُ عَبَدَ الثاني وترك الأول، ثم قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} ؟ الآية، أي هم أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْأَنْعَامِ السَّارِحَةِ، فَإِنَّ تِلْكَ تفعل مَا خُلِقَتْ لَهُ، وَهَؤُلَاءِ خُلِقُوا لِعِبَادَةِ اللَّهِ وحده، وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ وَيُشْرِكُونَ بِهِ، مَعَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ.(2/633)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)
- 45 - أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا
- 46 - ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا
- 47 - وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سباتا وَجَعَلَ النهار نُشُوراً(2/633)
شرع سبحانه وتعالى فيَّ بيانه الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِهِ، وَقُدْرَتِهِ التَّامَّةِ عَلَى خلق الأشياء المختلفة والمتضادة، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} ؟ قال ابن عباس ومجاهد: هُوَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ {وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} أَيْ دَائِمًا لا يزول، وقوله تعالى:
{ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} أَيْ لَوْلَا أن الشمس تطلع عليه لما عرف، وقال قتادة والسدي: دليلاً تتلوه وتتبعه حتى تأتي عليه كله، وقوله تعالى: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} أَيِ الظِّلَّ، وَقِيلَ الشَّمْسَ، {يَسِيراً} أَيْ سَهْلًا، قَالَ ابْنُ عباس: سريعاً، وقال مجاهد خَفِيًّا حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ ظِلٌّ إلاّ تحت سقف أو تحت شجرة. وقال أيوب بن موسى {قَبْضاً يَسِيراً} : قَلِيلًا قَلِيلًا. وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً} أي يلبس الوجود ويغشاه، كما قال تعالى: {والليل إِذَا يغشى} ، {والنوم سُبَاتاً} أي قاطعاً لِلْحَرَكَةِ لِرَاحَةِ الْأَبْدَانِ، فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ وَالْجَوَارِحَ تَكِلُّ من كثرة الحركة، فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ وَسَكَنَ سَكَنَتِ الْحَرَكَاتُ فَاسْتَرَاحَتْ، فَحَصَلَ النَّوْمُ الَّذِي فِيهِ رَاحَةُ الْبَدَنِ وَالرُّوحِ مَعًا، {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} أَيْ يَنْتَشِرُ النَّاسُ فيه لمعايشهم ومكاسبهم وأسبابهم.(2/634)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
- 48 - وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا
- 49 - لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً
- 50 - وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً
وَهَذَا أَيْضًا مِنْ قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ، أَيْ بِمَجِيءِ السَّحَابِ بَعْدَهَا. والرياح أنواع، فَمِنْهَا مَا يُثِيرُ السَّحَابَ، وَمِنْهَا مَا يَحْمِلُهُ، وَمِنْهَا مَا يَسُوقُهُ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بَيْنَ يدي السحاب مبشراً، وَمِنْهَا مَا يَلْقَحُ السَّحَابَ لِيُمْطِرَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} أَيْ آلَةً يتطهر بها كالسحور. فهذا أصح ما يقال في ذلك، وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن خالد بن يزيد قال: كنا عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَذَكَرُوا الْمَاءَ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ: مِنْهُ مِنَ السَّمَاءِ، ومنه ما يسوقه الغيم من البحر فيذبه الرَّعْدُ وَالْبَرْقُ؛ فَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْبَحْرِ فلا يكون منه نَبَاتٌ، فَأَمَّا النَّبَاتُ فَمِمَّا كَانَ مِنَ السَّمَاءِ؛ وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ قَطْرَةً إِلَّا أَنْبَتَ بِهَا فِي الْأَرْضِ عُشْبَةً أَوْ فِي الْبَحْرِ لُؤْلُؤَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي البَرّ بُرٌّ، وَفِي الْبَحْرِ دُرٌّ. وقوله تعالى: {لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} أَيْ أَرْضًا قَدْ طَالَ انْتِظَارُهَا لِلْغَيْثِ فَهِيَ هَامِدَةٌ لَا نَبَاتَ فِيهَا وَلَا شَيْءَ، فَلَمَّا جاءها الحياء عَاشَتْ وَاكْتَسَتْ رُبَاهَا أَنْوَاعُ الْأَزَاهِيرِ وَالْأَلْوَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وربت} الآية، {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} أَيْ وَلِيَشْرَبَ مِنْهُ الْحَيَوَانُ مِنْ أَنْعَامٍ وَأَنَاسِيِّ مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ غَايَةَ الْحَاجَةِ لِشُرْبِهِمْ وَزُرُوعِهِمْ وَثِمَارِهِمْ، كَمَا قال تَعَالَى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} الآية.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ} أَيْ أَمْطَرْنَا هَذِهِ الأرض دون هذه، وسقنا السحاب يمر على الأرض ويتعداها ويتجاوزها إلى الأرض الأخرى، فيمطرها ويكفيها ويجعلها غَدَقًا وَالَّتِي وَرَاءَهَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهَا قَطْرَةٌ مِنْ مَاءٍ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ والحكمة القاطعة. قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما: لَيْسَ عَامٌ بِأَكْثَرَ مَطَرًا مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} : أَيْ لِيَذَّكَّرُوا بِإِحْيَاءِ اللَّهِ الْأَرْضَ الْمَيِّتَةَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ والعظام الرفات، أو ليذكر من منع المطر أَنَّمَا أَصَابَهُ ذَلِكَ بِذَنْبٍ أَصَابَهُ فَيُقْلِعُ عَمَّا هو فيه. وَقَوْلُهُ: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} قَالَ(2/634)
عِكْرِمَةُ: يَعْنِي الَّذِينَ يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وكذا، وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يوماً عَلَى أَثَرِ سَمَاءٍ أَصَابَتْهُمْ مِنَ اللَّيْلِ: "أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "قَالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَاكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَاكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ".(2/635)
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
- 51 - وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا
- 52 - فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا
- 53 - وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً
- 54 - وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً
يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً} يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَلَكِنَّا خَصَصْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ بِالْبِعْثَةِ إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ الأرض، وأمرناك أن تبلغهم هذا القرآن {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} ، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إليكم جميعا} ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» ، وَفِيهِمَا «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلى الناس عامة» ، ولهذا قال تعالى: {فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} يَعْنِي بِالْقُرْآنِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ {جِهَاداً كَبيراً} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} الآية، وقوله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أَيْ خَلَقَ الْمَاءَيْنِ الْحُلْوَ والملح، فالحلو كالأنهار والعيون والآبار. قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَهَذَا المعنى لَا شَكَّ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ بَحْرٌ سَاكِنٌ وَهُوَ عَذْبٌ فُرَاتٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى إِنَّمَا أَخْبَرَ بِالْوَاقِعِ لِيُنَبِّهَ الْعِبَادَ عَلَى نِعَمِهِ عليهم ليشكروه، فالبحر العذب فرقه الله تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهاراً أو عيوناً فِي كُلِّ أَرْضٍ، بِحَسَبِ حَاجَتِهِمْ وَكِفَايَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وأراضيهم، وقوله تعالى: {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أَيْ مَالِحٌ، مرٌّ، زُعاق لَا يُسْتَسَاغُ، وَذَلِكَ كَالْبِحَارِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْمَشَارِقِ والمغارب، البحر المحيط وَبَحْرِ فَارِسَ وَبَحْرِ الصِّينِ وَالْهِنْدِ وَبَحْرِ الرُّومِ وبحر الخزر، وما شاكلها وما شابهها مِنَ الْبِحَارِ السَّاكِنَةِ الَّتِي لَا تَجْرِي، وَلَكِنْ تموج وتضطرب وتلتطم فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ وَشِدَّةِ الرِّيَاحِ، وَمِنْهَا مَا فِيهِ مَدٌّ وَجَزْرٌ، فَفِي أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ يَحْصُلُ مِنْهَا مَدٌّ وَفَيْضٌ، فَإِذَا شَرَعَ الشَّهْرُ فِي النُّقْصَانِ جَزَرَتْ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى غَايَتِهَا الأولى، فأجرى الله سبحانه وتعالى - وهو ذو الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ - الْعَادَةَ بِذَلِكَ؛ فَكُلُّ هَذِهِ الْبِحَارِ الساكنة خلقها الله سبحانه وتعالى مالحة، لِئَلَّا يَحْصُلَ بِسَبَبِهَا نَتَنُ الْهَوَاءِ، فَيَفْسَدُ الْوُجُودُ بِذَلِكَ، وَلِئَلَّا تَجْوَى الْأَرْضُ بِمَا يَمُوتُ فِيهَا مِنَ الْحَيَوَانِ، وَلَمَّا كَانَ مَاؤُهَا مِلْحًا كَانَ هَوَاؤُهَا صَحِيحًا وَمَيْتَتُهَا طَيِّبَةً؛ وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ: أَنَتَوَضَّأُ بِهِ؟ فَقَالَ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» (رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ) . وَقَوْلُهُ تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً} أَيْ بَيْنَ الْعَذْبِ وَالْمَالِحِ {بَرْزَخاً} أَيْ حَاجِزًا وَهُوَ الْيَبَسُ مِنَ الأرض {وَحِجْراً مَّحْجُوراً} أي مانعاً من أن يصل أحدهما إلى الآخر، كقوله تعالى: {مَرَجَ البحرين يلتقان بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يبغيان} ، وقوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ؟ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ، وقوله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً} الآية، أَيْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ ضَعِيفَةٍ(2/635)
فسوَّاه وعدّله، وجعله كامل الخلقة ذكراً وأنثى كَمَا يَشَاءُ، {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} فَهُوَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَلَدٌ نَسِيبٌ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُ فَيَصِيرُ صِهْرًا، ثُمَّ يَصِيرُ لَهُ أَصْهَارٌ وَأُخْتَانٌ وَقَرَابَاتٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} .(2/636)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
- 55 - وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا
- 56 - وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مبشرا ونذيرا
- 57 - قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً
- 58 - وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا
- 59 - الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا
- 60 - وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ جَهْلِ الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ، الَّتِي لَا تملك لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نفعا بِلَا دَلِيلٍ قَادَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَلَا حُجَّةٍ أدتهم إليه بل بمجرد الآراء وَالْأَهْوَاءِ، فَهُمْ يُوَالُونَهُمْ وَيُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِمْ وَيُعَادُونَ الله ورسوله والمؤمنين فيهم، ولهذا قال تعالى: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} أَيْ عَوْنًا فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ عَلَى حِزْبِ اللَّهِ، وَحِزْبُ الله هُمُ الغالبون، قَالَ مُجَاهِدٌ {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} قال: يظاهر الشيطان على معصية الله ويعينه، وقال سعيد بن جبير: عوناً للشيطان على ربه بالعدواة والشرك، وقال زيد بن أسلم: مُوَالِيًا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} أَيْ بَشِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَنَذِيرًا لِلْكَافِرِينَ، مُبَشِّرًا بِالْجَنَّةِ لمن أطاع الله، ونذيراً بيد يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ، {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أَيْ عَلَى هَذَا الْبَلَاغِ وَهَذَا الْإِنْذَارِ مِنْ أُجْرَةٍ أَطْلُبُهَا مِنْ أَمْوَالِكُمْ، وَإِنَّمَا أَفْعَلُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله تعالى، {إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} أَيْ طَرِيقًا وَمَسْلَكًا وَمَنْهَجًا يَقْتَدِي فِيهَا بما جئت به، ثم قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لا يموت} (روى ابن أبي حاتم عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: لَقِيَ سَلْمَانُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ فِجَاجِ الْمَدِينَةِ فَسَجَدَ لَهُ، فَقَالَ: «لَا تَسْجُدْ لِي يَا سَلْمَانُ وَاسْجُدْ لِلْحَيِّ الَّذِي لَا يموت» قال ابن كثير: وهو مرسل حسن) أَيْ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا، كُنْ مُتَوَكِّلًا عَلَى الله الحي الذي لا يموت أبداً، الدَّائِمُ الْبَاقِي السَّرْمَدِيُّ، الْأَبَدِيُّ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، رَبُّ كل شيء وملكيه، اجعله ذخرك وملجأك، فإنه كافيك وناصرك ومؤيدك ومظهرك، كما قال تعالى: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} أَيْ اقْرِنْ بَيْنَ حَمْدِهِ وَتَسْبِيحِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ» ، أَيْ أَخْلِصْ لَهُ الْعِبَادَةَ وَالتَّوَكُّلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً} ، وقال تعالى: {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} ، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} ، وقوله تعالى: {وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} أي بعلمه التام لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، وقوله تعالى: {الذي خَلَقَ السماوات والأرض} الآية، أي هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، الَّذِي خَلَقَ بقدرته(2/636)
وَسُلْطَانِهِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا، وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي سُفُولِهَا وَكَثَافَتِهَا {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ وَيَقْضِي الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ، وقوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} أَيِ اسْتَعْلِمْ عَنْهُ مَنْ هُوَ خَبِيرٌ بِهِ عَالِمٌ بِهِ، فَاتَّبِعْهُ وَاقْتَدِ بِهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَلَا أَخْبَرُ بِهِ، مِنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ سَيِّدِ وَلَدِ آدم على الإطلاق، الذِي لَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى، فما قاله فهو الحق، ما أخبره به فهو الصدق، ولهذا قال تعالى: {فاسأل بِهِ خَبِيراً} ، قال مجاهد: مَا أَخْبَرْتُكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ كَمَا أَخْبَرْتُكَ، وقال شمر بن عطية: هَذَا الْقُرْآنُ خَبِيرٌ بِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ} ؟ أَيْ لَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، وَكَانُوا يُنْكِرُونَ أَنْ يُسَمَّى اللَّهُ بِاسْمِهِ الرَّحْمَنِ، كَمَا أَنْكَرُوا ذَلِكَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْكَاتِبِ: «اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ، فَقَالُوا: لَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ وَلَا الرَّحِيمَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ؛ وَلِهَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} أَيْ هُوَ اللَّهُ وَهُوَ الرَّحْمَنُ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ} أَيْ لَا نِعْرِفُهُ وَلَا نقرُّ بِهِ، {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} ؟ أَيْ لِمُجَرَّدِ قَوْلِكَ، {وَزَادَهُمْ نُفُوراً} فأما الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ الَّذِي هُوَ الرَّحْمَنُ الرحيم ويفردونه بالإلهية ويسجدون له.(2/637)
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
- 61 - تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَرًا مُنِيرًا
- 62 - وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً
يَقُولُ تَعَالَى مُمَجِّدًا نَفْسَهُ ومعظماً على جميل ما خلق في السماوات من البروج، وهي الكواكب العظام (وهو قول مجاهد والحسن وقتادة وسعيد بن جبير) ، وقيل: هي قصور في السماء للحرس (وهو مروي عن علي وابن عباس وإبراهيم النخعي) ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْكَوَاكِبُ الْعِظَامُ هِيَ قُصُورٌ لِلْحَرَسِ فَيَجْتَمِعُ الْقَوْلَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بمصابيح} الآية، ولهذا قَالَ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} وَهِيَ الشَّمْسُ الْمُنِيرَةُ الَّتِي هي كالسراج في الوجود، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} ، {وَقَمَراً مُّنِيراً} أي مشرقاً مضيئاً بنور آخر من غير نور الشمس، كما قال تعالى: {وَهُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً} ، وقال: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} ، ثم قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} أَيْ يَخْلُفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ يَتَعَاقَبَانِ لَا يَفْتُرَانِ، إِذَا ذَهَبَ هَذَا جَاءَ هَذَا، وَإِذَا جَاءَ هذا ذهب ذاك، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائبين} الآية، وقال: {يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} الآية، وَقَالَ: {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ الْقَمَرَ} الآية. وقوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} أي جعلهما يتعاقبان توقيتاً لعبادة عباده، فَمَنْ فَاتَهُ عَمَلٌ فِي اللَّيْلِ اسْتَدْرَكَهُ فِي النَّهَارِ، وَمَنْ فَاتَهُ عَمَلٌ فِي النَّهَارِ اسْتَدْرَكَهُ فِي اللَّيْلِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أن الله عزَّ وجلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يده بالنهار ليتوب مسيء الليل» . قال ابن عباس في الآية: مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ اللَّيْلِ(2/637)
أَنْ يَعْمَلَهُ أَدْرَكَهُ بِالنَّهَارِ، أَوْ مِنَ النَّهَارِ أدركه بالليل، وقال مجاهد وقتادة: خلفه أي مختلفين، أي هَذَا بِسَوَادِهِ وَهَذَا بِضِيَائِهِ.(2/638)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
- 63 - وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا
- 64 - وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا
- 65 - وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا
- 66 - إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَامًا
- 67 - وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا
هَذِهِ صِفَاتُ عِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} أَيْ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ من غير تجبر ولا استكبار، كقوله تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مرحا} الآية. وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تَصَنُّعًا وَرِيَاءً، فَقَدْ كَانَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَشَى كَأَنَّمَا ينحطُّ مِنْ صَبَب وَكَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ، وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ السَّلَفِ الْمَشْيَ بِتَضَعُّفٍ وَتَصَنُّعٍ، حَتَّى رَوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ رَأَى شَابًّا يمشي رويداً قال: مَا بَالَكَ! أَأَنْتَ مَرِيضٌ؟ قَالَ: لَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَعَلَاهُ بِالدِّرَّةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَمْشِيَ بقوة، وإنما المراد بالهون هنا السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السِّكِينَةُ فَمَا أدركتم منها فصلوا وما فاتكم فأتموا» ، وقوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} أَيْ إِذَا سفه عليهم الجهال بالقول السيء لَمْ يُقَابِلُوهُمْ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ، بَلْ يَعْفُونَ وَيَصْفَحُونَ وَلَا يَقُولُونَ إِلَّا خَيْرًا، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا تَزِيدُهُ شدة الجاهل عَلَيْهِ إِلَّا حِلْمًا، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} الآية، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {قَالُواْ سَلاَماً} : يَعْنِي قَالُوا سَدَادًا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: رَدُّوا مَعْرُوفًا مِنَ القول، وقال الحسن البصري: قالوا سلام عليكم، إن جُهِلَ عَلَيْهِمْ حَلُمُوا، يُصَاحِبُونَ عِبَادَ اللَّهِ نَهَارَهُمْ بما يسمعون، ثم ذكر أن ليلهم خير ليل؛ فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} أَيْ فِي طاعته وعبادته، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} ، وقوله: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} الآية، وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة ويرجو رحمة ربه} الآية، ولهذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} أَيْ مُلَازِمًا دَائِمًا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إنْ يُعذّبْ يكنْ غَرَامًا وَإِنْ يُعْـ * طِ جَزِيلَا فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي
وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} : كُلُّ شَيْءٍ يُصِيبُ ابْنَ آدَمَ وَيَزُولُ عَنْهُ فَلَيْسَ بِغَرَامٍ، وَإِنَّمَا الْغَرَامُ اللَّازِمُ ما دامت الأرض والسماوات. {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} أَيْ بِئْسَ الْمَنْزِلُ منزلاً وبئس المقيل مقاماً، وروى ابن أبي حاتم عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: إِنَّ فِي النَّارِ لَجُبَابًا فِيهَا حَيَّاتٌ أَمْثَالُ البُخْت، وعقارب أمثال البغال الدُّهْم، فَإِذَا قُذِفَ بِهِمْ فِي النَّارِ خَرَجَتْ إِلَيْهِمْ مِنْ أَوْطَانِهَا، فَأَخَذَتْ بِشِفَاهِهِمْ وَأَبْشَارِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ، فَكَشَطَتْ لُحُومَهُمْ إِلَى أَقْدَامِهِمْ، فَإِذَا وَجَدَتْ حَرَّ النَّارِ رجعت. وروى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ عَبْدًا فِي جَهَنَّمَ لِيُنَادِي أَلْفَ سَنَةٍ: يا حنان يا منان، فيقول الله عزَّ وجلَّ لِجِبْرِيلَ اذْهَبْ فَآتِنِي بِعَبْدِي هَذَا، فَيَنْطَلِقُ جِبْرِيلُ، فيجد أهل النار مكبين يَبْكُونَ، فَيَرْجِعُ إِلَى رَبِّهِ عزَّ وجلَّ فَيُخْبِرُهُ، فيقول(2/638)
الله عزَّ وجلَّ: ائتني بِهِ فَإِنَّهُ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَيَجِيءُ بِهِ، فَيُوقِفُهُ عَلَى رَبِّهِ عزَّ وجلَّ، فَيَقُولُ لَهُ: يَا عَبْدِي كَيْفَ وَجَدْتَ مَكَانَكَ وَمَقِيلَكَ؟ فيقول: يا رب شر مكان وشر مقيل، فيقول الله عزَّ وجلَّ: رُدُّوا عَبْدِي، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا كُنْتُ أَرْجُو إِذْ أَخْرَجَتْنِي مِنْهَا أَنْ تَرُدَّنِي فِيهَا، فيقول الله عزَّ وجلَّ: دعوا عبدي" (أخرجه الإمام أحمد في المسند) . وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} الآية، أَيْ لَيْسُوا بِمُبَذِّرِينَ فِي إِنْفَاقِهِمْ فَيَصْرِفُونَ فَوْقَ الْحَاجَةِ، وَلَا بُخَلَاءَ عَلَى أَهْلِيهِمْ، فَيُقَصِّرُونَ فِي حَقِّهِمْ فَلَا يَكْفُونَهُمْ، بَلْ عَدْلًا خِيَارًا، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا لَا هَذَا وَلَا هَذَا {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} ، كما قال تَعَالَى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} الآية. وفي الحديث: «من فقه الرجل قصده في معيشته» (أخرجه الإمام أحمد أيضاً) وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا عَالَ من اقتصد» ، وقال الحسن البصري: ليس في النفقة في سبيل الله سرف، وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: مَا جَاوَزْتَ بِهِ أمر الله تعالى فَهُوَ سَرَفٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: السَّرَفُ النَّفَقَةُ فِي معصية الله عزَّ وجلَّ.(2/639)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
- 68 - وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا
- 69 - يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً
- 70 - إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
- 71 - وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً
عن عبد الله بن مَسْعُودٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ؟ قَالَ: «أَنْ تجعل لله أنداداً وَهُوَ خَلَقَكَ» ، قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» ، قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية (أخرجه النسائي والإمام أحمد ورواه البخاري ومسلم وَلَفْظُهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذنب أعظم عند الله؟ الحديث) وعن سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَلَا إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعٌ» فَمَا أَنَا بِأَشَحَّ عليهن مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَلاَ تَزْنُوا، وَلَا تسرقوا» . وروى الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «مَا تَقُولُونَ في الزنا؟» قَالُوا: حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جاره» قال: «فما تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ؟» قَالُوا: حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهِيَ حَرَامٌ، قَالَ: «لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ من بيت جاره» . وعن الهيثم بن مالك الطائي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ بَعْدَ الشِّرْكِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ نُطْفَةٍ وَضَعَهَا رَجُلٌ فِي رَحِمٍ لَا يَحِلُّ لَهُ» (أخرجه أبو بكر بن أبي الدنيا عن الهيثم بن مالك مرفوعاً) ، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، ثُمَّ أَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةٌ، فَنَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية، ونزلت: {قُلْ(2/639)
يا عبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسَهُمْ} الآية. وقوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} ، رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: أَثَامًا: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ {يَلْقَ أَثَاماً} أودية في جهنم يعذب فيها الزناة، وَقَالَ قَتادَةُ {يَلْقَ أَثَاماً} : نَكَالًا، كُنَّا نُحَدِّثُ أنه واد في جهنم، وَقَالَ السُّدِّيُّ {يَلْقَ أَثَاماً} جَزَاءً، وَهَذَا أَشْبَهُ بظاهر الآية وبهذا فَسَّرَهُ بِمَا بَعْدَهُ مُبَدَّلًا مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تعالى: {يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يوم القيامة} أي يقرر عَلَيْهِ وَيُغْلَّظُ {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} أَيْ حَقِيرًا ذليلاً، وقوله تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} أَيْ جَزَاؤُهُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْقَبِيحَةِ مَا ذُكِرَ {إِلاَّ مَن تَابَ} أي في الدنيا إلى الله عزَّ وجلَّ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ آيَةِ النِّسَاءِ {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً متعمدا} الآية، فإن هذه وإن كانت مدينة، إِلَّا أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ، فَتُحْمَلُ عَلَى مَنْ لَمْ يتب.
وقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} . فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ بُدِّلُوا مَكَانَ عمل السيئات بعمل الحسنات، قال ابن عباس: هم المؤمنون كانوا قَبْلِ إِيمَانِهِمْ عَلَى السَّيِّئَاتِ فَرَغِبَ اللَّهُ بِهِمْ عن السيئات فَحَوَّلَهُمْ إِلَى الْحَسَنَاتِ فَأَبْدَلَهُمْ مَكَانَ السَّيِّئَاتِ الْحَسَنَاتِ. وقال سعيد بن جبير: أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن، وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين، وَأَبْدَلَهُمْ بِنِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ نِكَاحَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَقَالَ الْحَسَنُ البصري: أبدلهم الله بالعمل السيء الْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَأَبْدَلَهُمْ بِالشِّرْكِ إِخْلَاصًا، وَأَبْدَلَهُمْ بِالْفُجُورِ إحصاناً، وبالكفر إسلاماً، (وَالْقَوْلُ الثَّانِي) : أَنَّ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ الْمَاضِيَةَ تَنْقَلِبُ بنفس التوبة النصوح حسنات، كَمَا ثَبَتَتِ السُّنَّةُ بِذَلِكَ وَصَحَّتْ بِهِ الْآثَارُ المروية عن السلف رَّضِيَ الله عَنْهُمْ. فعن أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَأَعْرِفُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا إِلَى الْجَنَّةِ، يُؤْتَى برجل فيقول: نحوّا عنه كِبَارَ ذُنُوبِهِ وَسَلُوهُ عَنْ صِغَارِهَا، قَالَ فَيُقَالُ له: عملت يوم كذا، كذا وكذا، وعملت يوم كذا، كذا وكذا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَيُقَالُ: فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَا أراها ههنا" قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواجذه" (أخرجه مسلم في صحيحه) . وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَيَأْتِينَّ اللَّهُ عزَّ وجلَّ بِأُنَاسٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَكْثَرُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ، قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: الَّذِينَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة موقوفاً) ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قَالَ: فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ مكحول: يغفرها لهم فيجعلها حسنات، قال ابن أبي حاتم حَدَّثَنَا أَبُو جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ مَكْحُولًا يُحَدِّثُ قَالَ: جَاءَ شَيْخٌ كَبِيرٌ هَرِمٌ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ غَدَرَ وَفَجَرَ وَلَمْ يَدَعْ حَاجَةً وَلَا داجة إلاّ اقتطفها بِيَمِينِهِ، لَوْ قُسِّمَتْ خَطِيئَتُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ لأوبقتهم فهل له من توبة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أأسلمت؟» قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شريكك لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ اللَّهَ غَافِرٌ لَكَ مَا كُنْتَ كَذَلِكَ وَمُبْدِّلٌ سَيِّئَاتِكَ حَسَنَاتٍ» ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَغَدَرَاتِي وفَجَرَاتِي؟ فَقَالَ: «وغدراتك وفجراتك» ، فولى الرجل يكبر ويهلل (رواه ابن أبي حاتم وأخرجه الطبراني بنحوه) . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عُمُومِ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ وَأَنَّهُ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ تَابَ عليه من أي ذنب كان جليلاً أوحقيراً كبيراً أو صغيراً، فقال تعالى: {وَمَن تَابَ(2/640)
وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً} أَيْ فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الآية: أي لمن تاب عليه.(2/641)
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
- 72 - وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا
- 73 - وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَانًا
- 74 - وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً
وَهَذِهِ أَيْضًا مِنْ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ، قِيلَ: هُوَ الشِّرْكُ وَعِبَادَةُ الْأَصْنَامِ، وَقِيلَ الْكَذِبُ وَالْفِسْقُ وَاللَّغْوُ وَالْبَاطِلُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: هو اللغو والغناء، وقال عمرو بن قيس: هي المجالس السوء والخنا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} أَيْ شَهَادَةُ الزُّورِ، وَهِيَ الْكَذِبُ مُتَعَمَّدًا عَلَى غيره كما في الصحيحين: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ» ؟ ثَلَاثًا، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الوالدين» ، وكان متكئاً فجاس، فَقَالَ: «أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ» فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ (أخرجه الشيخان عن أبي بكر رضي الله عنه مرفوعاً) ، وَالْأَظْهَرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ الْمُرَادَ لَا يَشْهَدُونَ الزور أي لا يحضرونه، ولهذا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} أَيْ لَا يَحْضُرُونَ الزُّورَ، وَإِذَا اتَّفَقَ مُرُورُهُمْ بِهِ مَرُّوا وَلَمْ يَتَدَنَّسُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ، وَلِهَذَا قال: {مَرُّوا كِراماً} ، وروى ابن أبي حاتم عن مَيْسَرَةَ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ مَرَّ بِلَهْوٍ مُعْرِضًا فَلَمْ يَقِفْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ أَصْبَحَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَمْسَى كَرِيمًا» ثُمَّ تَلَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} وهذه أيضاً مِنْ صِفَاتِ
الْمُؤْمِنِينَ {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} بِخِلَافِ الْكَافِرِ، فَإِنَّهُ إِذَا سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ لا يؤثر فيه، ولا يتغير عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، بَلْ يَبْقَى مُسْتَمِرًّا عَلَى كفره وطيغانه، وجهله وضلاله، كما قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} ، فَقَوْلُهُ: {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} أَيْ بخلاف الكافر الذي إذا سمع آيات الله فلا تؤثر فيه فيستمر عَلَى حَالِهِ كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا أَصَمَّ أَعْمَى، قَالَ مُجَاهِدٌ قَوْلُهُ: {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} قال: لَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يُبْصِرُوا وَلَمْ يَفْقَهُوا شَيْئًا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَمْ مِنْ رَجُلٍ يَقْرَؤُهَا ويخر عليها أصم أعمى، وقال قتادة: لَمْ يَصِمُّوا عَنِ الْحَقِّ وَلَمْ يَعْمَوا فِيهِ، فهم والله قوم عقلوا عن الحق وانتفعوا بما سمعوا من كتابه.
وقوله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} يَعْنِي الَّذِينَ يَسْأَلُونَ الله أن يخرج من أصلابهم من ذرياتهم مَنْ يُطِيعُهُ وَيَعْبُدُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، قال ابن عباس: يعنون من يعمل بطاعة الله فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة، قال عِكْرِمَةُ: لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ صَبَاحَةً وَلَا جَمَالًا، ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين. وسئل الحسن البصري عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: أَنْ يُرِيَ اللَّهُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ مِنْ زَوجَتِهِ وَمِنْ أَخِيهِ وَمِنْ حميمه طاعة الله، لا والله لا شَيْءٌ أَقَرَّ لِعَيْنِ الْمُسْلِمِ مِنْ أَنْ يَرَى وَلَدًا، أَوْ وَلَدَ وَلَدٍ، أَوْ أَخَا أَوْ حَمِيمًا مُطِيعًا لِلَّهِ عزَّ وجلَّ. وَقَالَ ابْنُ(2/641)
أسلم: يعني يسألون الله تعالى لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام، وقوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ والسدي: أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِنَا فِي الْخَيْرِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: هداة مهتدين دعاة إلى الخير، ولهذا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: ولدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ، أَوْ عَلَمٍ يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ، أَوْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ".(2/642)
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
- 75 - أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا
- 76 - خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا
- 77 - قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مِنْ أَوْصَافِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مَا ذَكَرَ من الصفات الجميلة، والأقوال والأفعال الْجَلِيلَةِ، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ: {أُولَئِكَ} أَيْ المتصفون بهذه {يُجْزَوْنَ} يوم القيامة {الغرفة} وهي الجنة سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِارْتِفَاعِهَا، {بِمَا صَبَرُواْ} أَيْ عَلَى الْقِيَامِ بِذَلِكَ، {ويُلقّون فِيهَا} أَيْ فِي الْجَنَّةِ {تَحِيَّةً وَسَلاَماً} أَيْ يُبْتَدَرُونَ فِيهَا بِالتَّحِيَّةِ وَالْإِكْرَامِ، ويلقون التَّوْقِيرَ وَالِاحْتِرَامَ، فَلَهُمُ السَّلَامُ وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} ، وَقَوْلُهُ تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ مُقِيمِينَ لَا يَظْعَنُونَ وَلَا يحولون ولا يموتون، ولا يزلون عَنْهَا وَلَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ ما دامت السماوات والأرض} الآية. وقوله تعالى: {حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} أَيْ حَسُنَتْ مَنْظَرًا وَطَابَتْ مَقِيلًا وَمَنْزِلًا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} أَيْ لَا يُبَالِي وَلَا يَكْتَرِثُ بِكُمْ إِذَا لَمْ تَعْبُدُوهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا خلق الخلق ليعبدوه ويوحده ويسبحوه بكرة وأصيلاً.
قال ابن عباس: لولا دعائكم: أي لولا إيمانكم، وأخبر تعالى الْكَفَّارَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِمْ إِذْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَلَوْ كَانَ لَهُ بِهِمْ حَاجَةٌ لَحَبَّبَ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانَ كَمَا حَبَّبَهُ إِلَى المؤمنين. وقوله تعالى: {فَقَدِ كَذَّبْتُمْ} أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} أَيْ فَسَوْفَ يكون تكذيبكم لزاما لكم، يعني مقتضياً لعذابكم وهلاككم ودماركم في الدنيا والآخرة.(2/642)
- 26 - سورة الشعراء، وَوَقَعَ فِي تَفْسِيرِ مَالِكٍ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ تَسْمِيَتُهَا سورة (الجامعة) .(2/643)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
بسم الله الرحمن الرحيم.
- 1 - طسم
- 2 - تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ
- 3 - لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ
- 4 - إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ
- 5 - وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ
- 6 - فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
- 7 - أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ
- 8 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
- 9 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ فَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي أول تفسير سورة البقرة، وقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} أَيْ هَذِهِ آيَاتُ القرآن المبين، أي البيِّن الواضح الجلي، الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وقوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ} أَيْ مُهْلِكٌ {نَفْسَكَ} أَيْ مِمَّا تحرص وَتَحْزَنُ عَلَيْهِمْ {أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} ، وَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَدَمِ إِيمَانِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنَ الْكُفَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عليهم حسرات} ، كقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ} الآية. قال مجاهد وعكرمة {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} : أي قاتل نفسك، ثم قَالَ تَعَالَى: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} أَيْ لَوْ نشاء لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهراً، ولكن لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَنَّا لَا نُرِيدُ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا الْإِيمَانَ الِاخْتِيَارِيَّ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جميعا} ، وقال تَعَالَى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية، فَنَفَذَ قَدَرُهُ وَمَضَتْ حِكْمَتُهُ، وَقَامَتْ حُجَّتُهُ الْبَالِغَةُ عَلَى خَلْقِهِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ عليهم، ثم قال تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ} أَيْ كُلَّمَا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ السَّمَاءِ أَعْرَضَ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} ، وقال تعالى: {كُلَّمَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كذبوه} الآية. ولهذا قال تعالى ههنا: {فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ فَقَدْ كَذَّبُوا بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْحَقِّ، فَسَيَعْلَمُونَ نَبَأَ هَذَا التَّكْذِيبِ بَعْدَ حِينٍ، ثم نبَّه تعالى على عظمة سلطانه وجلالة قدره، وَهُوَ الْقَاهِرُ الْعَظِيمُ الْقَادِرُ(2/643)
الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ وَأَنْبَتَ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ وَحَيَوَانٍ، قَالَ الشَّعْبِيِّ: النَّاسُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، فَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَهُوَ كَرِيمٌ، وَمَنْ دَخَلَ النَّارَ فَهُوَ لَئِيمٌ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أَيْ دَلَالَةً عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ لِلْأَشْيَاءِ، الَّذِي بَسَطَ الْأَرْضَ، وَرَفَعَ بِنَاءَ السَّمَاءِ وَمَعَ هَذَا مَا آمَنَ أكثر الناس، بل كذبوا به وبرسله، وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} أَيِ الَّذِي عَزَّ كُلَّ شَيْءٍ وَقَهَرَهُ وَغَلَبَهُ، {الرَّحِيمُ} أَيْ بِخَلْقِهِ فَلَا يُعَجِّلُ عَلَى مَنْ عَصَاهُ بَلْ يؤجله وينظره ثُمَّ يَأْخُذُهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، قَالَ أَبُو العالية: الْعَزِيزُ فِي نِقْمَتِهِ وَانْتِصَارِهِ مِمَّنْ خَالَفَ أَمْرَهُ وعبد غيره الرَّحِيمُ بِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ.(2/644)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
- 10 - وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
- 11 - قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ
- 12 - قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ
- 13 - وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ
- 14 - وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ
- 15 - قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ
- 16 - فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ
- 17 - أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
- 18 - قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ
- 19 - وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ
- 20 - قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالِّينَ
- 21 - فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ
- 22 - وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بني إسرائيل
يخبر تعالى عَمَّا أَمَرَ بِهِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ (مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ) عَلَيْهِ السلام حِينَ نَادَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، وَكَلَّمَهُ وَنَاجَاهُ، وَأَرْسَلَهُ وَاصْطَفَاهُ، وَأَمَرَهُ بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ وملئه، ولهذا قال تعالى: {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} هَذِهِ أَعْذَارٌ سَأَلَ مِنَ اللَّهِ إِزَاحَتَهَا عَنْهُ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ طَهَ {قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لي أمري - إلى قوله - قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا موسى} ، وقوله تعالى: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} أَيْ بسبب قتل الْقِبْطِيِّ الَّذِي كَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ، {قَالَ كَلاَّ} أَيْ قَالَ اللَّهُ لَهُ: لا تخف من شيء من ذلك، كقوله: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لكما سطانا} ، {فاذهبا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ} ، كقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى} أَيْ إِنَّنِي مَعَكُمَا بِحِفْظِي وَكِلَاءَتِي وَنَصْرِي وَتَأْيِيدِي، {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، كقوله في الآية الأخرى: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} أي كل منا أرسل إِلَيْكَ، {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَيْ أَطْلِقْهُمْ مِنْ إِسَارِكَ وَقَبْضَتِكَ وَقَهْرِكَ وَتَعْذِيبِكَ، فَإِنَّهُمْ عباد الله المؤمنون وحزبه المخلصون، فَلَمَّا قَالَ لَهُ مُوسَى ذَلِكَ أَعْرَضَ فِرْعَوْنُ هنالك بالكلية، ونظر إليه بعين الازدارء والغَمْص فقال: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} الآية، أَيْ أَمَا أَنْتَ الَّذِي رَبَّيْنَاهُ فِينَا وَفِي بيتنا وعلى فراشنا، وَأَنْعَمْنَا عَلَيْهِ مُدَّةً مِنَ السِّنِينِ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا قَابَلْتَ ذَلِكَ الْإِحْسَانَ بِتِلْكَ الْفَعْلَةِ أَنْ قَتَلْتَ مِنَّا رَجُلًا وَجَحَدْتَ نِعْمَتَنَا عَلَيْكَ، وَلِهَذَا قال: {وَأَنتَ مِنَ الكافرين} أي الجاحدين(2/644)
{قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً} أَيْ فِي تِلْكَ الْحَالِ {وَأَنَاْ مِنَ الضَّالِّينَ} أَيْ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيَّ وَيُنْعِمَ اللَّهُ عَلَيَّ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، قَالَ ابن عباس {وَأَنَاْ مِنَ الضالين} أي الجاهلين، {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} الآية، أي انفصل الحال الأول وَجَاءَ أَمْرٌ آخَرُ، فَقَدْ أَرْسَلَنِي اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ أَطَعْتَهُ سَلِمْتَ، وَإِنْ خَالَفْتَهُ عَطِبْتَ، ثُمَّ قَالَ مُوسَى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عبَّدت بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَيْ وَمَا أَحْسَنْتَ إِلَيَّ وَرَبَّيْتَنِي مُقَابِلَ مَا أَسَأْتَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَجَعَلْتَهُمْ عَبِيدًا وَخَدَمًا، تُصَرِّفُهُمْ فِي أَعْمَالِكَ وَمَشَاقِّ رَعِيَّتِكَ، أَفَيفي إِحْسَانُكَ إِلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا أَسَأْتَ إِلَى مَجْمُوعِهِمْ؟ أَيْ لَيْسَ مَا ذَكَرْتَهُ شَيْئًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَعَلْتَ بِهِمْ.(2/645)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
- 23 - قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ
- 24 - قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ
- 25 - قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ
- 26 - قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الْأَوَّلِينَ
- 27 - قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ
- 28 - قَالَ رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كُفْرِ فِرْعَوْنَ وَتَمَرُّدِهِ وَطُغْيَانِهِ وَجُحُودِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَآ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} {فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} وكانوا يجحدون الصانع جلَّ وعلا، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَا رَبَّ لَهُمْ سِوَى فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ مُوسَى: إِنِّي رَسُولُ رَبُّ العالمين، قَالَ له فرعون: وَمَنْ هَذَا الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ غَيْرِي؟ هَكَذَا فَسَّرَهُ عُلَمَاءُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةُ الْخَلَفِ، حَتَّى قَالَ السُّدِّيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قال فمن ربكما يا موسى} فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ رَبُّ الْعَالَمِينَ: {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أَيْ خَالِقُ جَمِيعِ ذَلِكَ وَمَالِكُهُ، وَالْمُتَصَرِّفُ فيه، وإلهه لا شريك له، هُوَ الذي خَلَقَ الأشياء كلها من بحار وقفار، وجبال وأشجار، وَنَبَاتٍ وَثِمَارٍ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الْهَوَاءِ والطير، وَمَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ الْجَوُّ، الْجَمِيعُ عَبِيدٌ لَهُ خَاضِعُونَ ذَلِيلُونَ {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} أَيْ إِن كَانَتْ لَكُمُ قُلُوبٌ مُوقِنَةٌ وَأَبْصَارٌ نَافِذَةٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ الْتَفَتَ فِرْعَوْنُ إِلَى مَنْ حَوْلَهُ مِنْ ملئه ورؤساء دولته قائلاً عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّكْذِيبِ لِمُوسَى فِيمَا قاله: {أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} ؟ أي ألا تعجبون من هَذَا فِي زَعْمِهِ أَنَّ لَكُمْ إِلَهًا غَيْرِي؟ فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الْأَوَّلِينَ} أي خالقكم وخالق آبائكم الأولين الذين كَانُوا قَبْلَ فِرْعَوْنَ وَزَمَانِهِ، {قَالَ} أَيْ فِرْعَوْنُ لِقَوْمِهِ {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} أَيْ لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ فِي دَعْوَاهُ أنَّ ثَمَّ رِبًّا غَيْرِي، {قَالَ} أَيْ مُوسَى لِأُولَئِكَ الَّذِينَ أَوْعَزَ إِلَيْهِمْ فِرْعَوْنُ مَا أَوْعَزَ مِنَ الشُّبْهَةِ، فَأَجَابَ مُوسَى بِقَوْلِهِ: {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} أَيْ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمَشْرِقَ مَشْرِقًا تَطَلُعُ مِنْهُ الْكَوَاكِبُ، والمغرب مغرباً تغرب فيه الكواكب، فَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ رَبُّكُمْ وَإِلَهُكُمْ صَادِقًا فَلْيَعْكِسِ الْأَمْرَ، وَلِيَجْعَلِ الْمَشْرِقَ مَغْرِبًا والمغرب مشرقاً، كما قال تعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المشرق فائت بِهَا مِنَ المغرب} الآية، وَلِهَذَا لَمَّا غُلِبَ فِرْعَوْنُ وَانْقَطَعَتْ حُجَّتُهُ عَدَلَ إِلَى اسْتِعْمَالِ جَاهِهِ وَقُوَّتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ نَافِعٌ لَهُ وَنَافِذٌ فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ:(2/645)
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
- 29 - قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ
- 30 - قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُبِينٍ
- 31 - قَالَ(2/645)
فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
- 32 - فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ
- 33 - وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ
- 34 - قَالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ
- 35 - يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ
- 36 - قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ
- 37 - يَأْتُوكَ بِكُلِّ سحار عليم
لما قامت الحجة على فرعون بِالْبَيَانِ وَالْعَقْلِ، عَدَلَ إِلَى أَنْ يَقْهَرَ مُوسَى بيده وسلطانه، فظن أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ هَذَا الْمَقَامِ مَقَالٌ فَقَالَ: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ} ؟ أَيْ بِبُرْهَانٍ قَاطِعٍ وَاضِحٍ، {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} أَيْ ظَاهِرٌ وَاضِحٌ في غاية الجلاء والوضوح، ذَاتُ قَوَائِمَ وَفَمٍ كَبِيرٍ وَشَكْلٍ هَائِلٍ مُزْعِجٍ، {وَنَزَعَ يَدَهُ} أَيْ مِنْ جَيْبِهِ {فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} أَيْ تَتَلَأْلَأُ كَقِطْعَةٍ مِنَ الْقَمَرِ، فبادر فرعون بشقاوته إِلَى التَّكْذِيبِ وَالْعِنَادِ، فَقَالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ: {إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} أي بارع في السحر، فروّج عليهم أَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْمُعْجِزَةِ، ثُمَّ هَيَّجَهُمْ وَحَرَّضَهُمْ عَلَى مُخَالَفَتِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، فَقَالَ: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} الآية، أَيْ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ بِقُلُوبِ النَّاسِ مَعَهُ بِسَبَبِ هَذَا، فَيُكْثِرَ أَعْوَانَهُ وَأَنْصَارَهُ وَأَتْبَاعَهُ وَيَغْلِبَكُمْ على دولكتم، فَيَأْخُذَ الْبِلَادَ مِنْكُمْ، فَأَشِيرُوا عليَّ فِيهِ مَاذَا أَصْنَعُ بِهِ؟ {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيم} أَيْ أَخِّرْهُ وَأَخَاهُ حَتَّى تَجَمَعَ لَهُ مِنْ مَدَائِنِ مَمْلَكَتِكَ، وَأَقَالِيمِ دَوْلَتِكَ كُلَّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ يُقَابِلُونَهُ، وَيَأْتُونَ بِنَظِيرِ مَا جَاءَ بِهِ، فَتَغْلِبُهُ أَنْتَ وَتَكُونُ لَكَ النُّصْرَةُ وَالتَّأْيِيدُ فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وكان هذا من تسخير الله تعالى، ليجتمع الناس في صعيد واحد، وتظهر آيَاتُ اللَّهِ وَحُجَجُهُ وَبَرَاهِينُهُ
عَلَى النَّاسِ فِي النهار جهرة.(2/646)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)
- 38 - فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ
- 39 - وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ
- 40 - لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ
- 41 - فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ
- 42 - قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين
- 43 - قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ
- 44 - فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ
- 45 - فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ
- 46 - فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ
- 47 - قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ
- 48 - رَبِّ موسى وهارون
لَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ وَقَدْ جَمَعُوهُمْ مِنْ أَقَالِيمِ بِلَادِ مِصْرَ، وَكَانُوا إِذْ ذَاكَ أَسْحَرَ النَّاسِ وأصنعهم، وَكَانَ السَّحَرَةُ جَمْعًا كَثِيرًا وَجَمًّا غَفِيرًا، قِيلَ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ. وَاجْتَهَدَ النَّاسُ فِي الِاجْتِمَاعِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَقَالَ قَائِلُهُمْ: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين} ، وَلَمْ يَقُولُوا نَتَّبِعُ الْحَقَّ سَوَاءً كَانَ مِنَ السَّحَرَةِ أَوْ مِنْ مُوسَى، بَلِ الرَّعِيَّةُ عَلَى دِينِ مَلِكِهِمْ {فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ} أَيْ إِلَى مجلس فرعون، وقد جمع خدمه وحشمه، وَوُزَرَاءَهُ وَرُؤَسَاءَ دَوْلَتِهِ، وَجُنُودَ مَمْلَكَتِهِ، فَقَامَ السَّحَرَةُ بَيْنَ يَدِي فِرْعَوْنَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ إن غلبوا فَقَالُوا: {أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين} أَيْ وَأَخَصُّ مِمَّا(2/646)
تَطْلُبُونَ أَجْعَلُكُمْ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدِي وَجُلَسَائِي، فَعَادُوا إلى مقام المناظرة {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا} وقد اختصر هذا ههنا فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: {أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ * فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} وهذا كما تقول الْجَهَلَةُ مِنَ الْعَوَامِّ إِذَا فَعَلُوا شَيْئًا هَذَا بثواب فلان، {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} أي تخطفه وتجمعه من كل بقعة وتتبلعه فلم تدع منه شيئاً. قال الله تَعَالَى {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فكان هذا أمراً عظيماً، وَبُرْهَانًا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ، وَحُجَّةً دَامِغَةً، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَنْصَرَ بِهِمْ وَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَغْلِبُوا غُلبوا، وَخَضَعُوا وَآمَنُوا بِمُوسَى فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ، وَسَجَدُوا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي أَرْسَلَ مُوسَى وَهَارُونَ بِالْحَقِّ وَبِالْمُعْجِزَةِ الْبَاهِرَةِ، فَغُلِبَ فِرْعَوْنُ غَلَبًا لَمْ يُشَاهِدِ الْعَالَمُ مِثْلَهُ، وَكَانَ وَقِحًا جَرِيئًا عليه لعنة الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ، فَعَدَلَ إِلَى الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ وَدَعْوَى الْبَاطِلِ، فَشَرَعَ يَتَهَدَّدُهُمْ وَيَتَوَعَّدُهُمْ، وَيَقُولُ: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السحر} ، وَقَالَ: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} الآية.(2/647)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
- 49 - قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ
- 50 - قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ
- 51 - إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّآ أَوَّلَ المؤمنين
تهددهم فلم ينفع ذَلِكَ فِيهِمْ، وَتَوَعَّدَهُمْ فَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيمًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ كُشِفَ عَنْ قُلُوبِهِمْ حجاب الكفر، وظهر لَهُمُ الحق مِنْ أَنَّ هَذَا الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى لَا يَصْدُرُ عَنْ بَشَرٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ أَيَّدَهُ بِهِ وَجَعَلَهُ لَهُ حُجَّةً، وَدَلَالَةً عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ لَهُمْ فِرْعَوْنُ {آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} ؟ أَيْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَسْتَأْذِنُونِي فِيمَا فَعَلْتُمْ وَلَا تُفْتَاتُوا عليَّ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ أَذِنْتُ لَكُمْ فَعَلْتُمْ وَإِنْ مَنَعْتُكُمُ امْتَنَعْتُمْ، فَإِنِّي أَنَا الْحَاكِمُ الْمُطَاعُ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} . وَهَذِهِ مُكَابَرَةٌ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ بُطْلَانَهَا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَجْتَمِعُوا بِمُوسَى قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَكَيْفَ يَكُونُ كَبِيرَهُمُ الَّذِي أَفَادَهُمْ صِنَاعَةَ السِّحْرِ؟ هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ فِرْعَوْنُ بِقَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَالصَّلْبِ، فَقَالُوا {لاَ ضَيْرَ} أَيْ لَا حَرَجَ وَلَا يَضُرُّنَا ذَلِكَ وَلَا نُبَالِي بِهِ، {إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} أَيِ الْمَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَهُوَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا فَعَلْتَ بِنَا وَسَيَجْزِينَا عَلَى ذَلِكَ أَتَمَّ الْجَزَاءَ، وَلِهَذَا قَالُوا: {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا} أَيْ ما فارقنا مِنَ الذُّنُوبِ وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، {أَن كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ بِسَبَبِ أَنَّا بَادَرْنَا قَوْمَنَا مِنَ الْقِبْطِ إِلَى الْإِيمَانِ، فَقَتَلَهُمْ كلهم.(2/647)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
- 52 - وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكَمْ مُتَّبَعُونَ
- 53 - فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ
- 54 - إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ
- 55 - وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ
- 56 - وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ
- 57 - فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
- 58 - وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ
- 59 - كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
لَمَّا طَالَ مُقَامُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبِلَادِ مِصْرَ، وَأَقَامَ بِهَا حُجَجَ اللَّهِ وَبَرَاهِينَهُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ(2/647)
يُكَابِرُونَ وَيُعَانِدُونَ، لَمْ يَبْقَ لَهُمْ إِلَّا الْعَذَابُ والنكال، فأمر الله تعالى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْلًا مِنْ مِصْرَ، وَأَنْ يَمْضِيَ بِهِمْ حَيْثُ يؤُمَر، فَفَعَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ عزَّ وجلَّ. خَرَجَ بِهِمْ بَعْدَمَا اسْتَعَارُوا مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ حُلِيًّا كَثِيرًا، وَكَانَ خروجه بهم فيما ذكره غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ المفسِّرين وَقْتَ طُلُوعِ الْقَمَرِ، وَأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ عَنْ قَبْرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَدَلَّتْهُ امْرَأَةٌ عَجُوزٌ مِنْ بني إسرائيل عليه، فاحتمل تابوته معهم، وكان يوسف عليه السلام قَدْ أَوْصَى بِذَلِكَ إِذَا خَرَجَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أن يحتملوه معهم، فَلَمَّا أَصْبَحُوا وَلَيْسَ فِي نَادِيهِمْ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، غَاظَ ذَلِكَ فِرْعَوْنَ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَى بني إسرئيل لِمَا يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الدَّمَارِ، فَأَرْسَلَ سَرِيعًا فِي بِلَادِهِ حَاشِرِينَ، أَيْ مَنْ يَحْشُرُ الْجُنْدَ وَيَجْمَعُهُ كَالنُّقَبَاءِ وَالْحُجَّابِ وَنَادَى فِيهِمْ: {إِنَّ هَؤُلَاءِ} يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ {لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} أَيْ لِطَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ، {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ} أَيْ كُلَّ وقت يصل منهم إلينا مَا يَغِيظُنَا، {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} أَيْ نَحْنُ كُلَّ وَقْتٍ نَحْذَرُ مِنْ غَائِلَتِهِمْ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْتَأْصِلَ شَأْفَتَهُمْ وَأُبِيدَ خَضْرَاءَهُمْ، فَجُوزِيَ فِي نَفْسِهِ وَجُنْدِهِ بِمَا أَرَادَ لَهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} أَيْ فَخَرَجُوا مِنْ هَذَا النَّعِيمِ إِلَى الْجَحِيمِ، وَتَرَكُوا تِلْكَ الْمَنَازِلَ الْعَالِيَةَ وَالْبَسَاتِينَ وَالْأَنْهَارَ وَالْأَمْوَالَ وَالْأَرْزَاقَ وَالْمُلْكَ وَالْجَاهَ الْوَافِرَ فِي الدُّنْيَا، {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا} الآية.(2/648)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
- 60 - فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ
- 61 - فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ
- 62 - قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ
- 63 - فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ
- 64 - وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ
- 65 - وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ
- 66 - ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ
- 67 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
- 68 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ من المفسرين: أن فرعون خرج إليهم في محفل عظيم وجمع كبير، من الأمراء والوزراء والكبراء والرؤساء والجنود، {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} أَيْ وَصَلُوا إِلَيْهِمْ عِنْدَ شُرُوقِ الشمس وهو طلوعها، {لما تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} أَيْ رَأَى كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ صَاحِبَهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لمدركون} ، وذلك أنهم انْتَهَى بِهِمُ السَّيْرُ إِلَى سَيْفِ الْبَحْرِ، وَهُوَ بحر القلزم فصار أمامهم البحر، وقد أدركهم فرعون بِجُنُودِهِ، فَلِهَذَا قَالُوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} أَيْ لَا يَصِلُ إِلَيْكُمْ شَيْءٌ مِمَّا تَحْذَرُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هو الذي أمرني أن أسير ههنا بكم، وهو سبحانه وتعالى لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَكَانَ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَمَعَهُ (يُوشَعُ بْنُ نُونٍ) وَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّاقَةِ، فعند ذَلِكَ أَمْرُ الله نبيه موسى عليه السلام أَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ الْبَحْرَ فَضَرَبَهُ، وَقَالَ: انْفَلِقْ بإذن الله. وروى ابن أبي حاتم عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا انْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ قَالَ: يَا مَنْ كَانَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْمُكَوِّنُ لِكُلِّ شيء، والكائن بعد كُلِّ شَيْءٍ، اجْعَلْ لَنَا مَخْرَجًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إليه: {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر} . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَوْحَى اللَّهُ -فِيمَا ذُكِرَ لِي- إِلَى الْبَحْرِ أَنْ إِذَا ضَرَبَكَ مُوسَى بِعَصَاهُ فَانْفَلِقْ لَهُ، قَالَ: فَبَاتَ الْبَحْرُ يضطرب ويضرب بَعْضُهُ بَعْضًا فَرَقًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَانْتِظَارًا(2/648)
لما أمره الله، وأوحى الله إلى إِلَى مُوسَى {أَنْ اضْرِبْ بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ} فَضَرَبَهُ بها، ففيها سلطان الله الذي أعطاه فانفلق، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} أَيْ كَالْجَبَلِ الْكَبِيرِ (قَالَهُ ابْنُ عباس وابن مسعود والضحاك وقتادة وغيرهم) ، قاله ابن عباس، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: هُوَ الْفَجُّ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَارَ الْبَحْرُ اثْنَيْ عَشَرَ طَرِيقًا لِكُلِّ سِبْطٍ طَرِيقٌ؛ وَزَادَ السُّدِّيُّ: وَصَارَ فِيهِ طَاقَاتٌ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَقَامَ الْمَاءُ عَلَى حَيْلِهِ كَالْحِيطَانِ، وَبَعَثَ اللَّهُ الرِّيحَ إِلَى قَعْرِ الْبَحْرِ فَلَفْحَتْهُ فَصَارَ يَبَسًا كَوَجْهِ الْأَرْضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً * لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى} ، وقال في هذه القصة {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين} أي هنالك. قال ابن عباس {وَأَزْلَفْنَا} أي قربنا من البحر فرعون وجنوده وَأَدْنَيْنَاهُمْ إِلَيْهِ، {وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} أَيْ أَنْجَيْنَا مُوسَى وَبَنِي إسرائيل ومن اتبعهم عَلَى دِينِهِمْ فَلَمْ يَهْلَكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَأُغْرِقَ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا هلك. عن عبد الله بن مسعود قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ آخِرُ أَصْحَابِ مُوسَى وَتَكَامَلَ أصحاب فرعون انطم عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ، فَمَا رُئِيَ سَوَادٌ أَكْثَرُ مِنْ يومئذٍ، وَغَرَقَ فِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أَيْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْعَجَائِبِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ لِعِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ لَدَلَالَةٌ وَحُجَّةٌ قَاطِعَةٌ وَحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ.(2/649)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
- 69 - وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ
- 70 - إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ
- 71 - قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ
- 72 - قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ - 73 - أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ
- 74 - قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ
- 75 - قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ
- 76 - أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ
- 77 - فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ
هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم عليه السلام إمام الحنفاء، أمر الله تَعَالَى رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْلُوَهُ عَلَى أُمَّتِهِ لِيَقْتَدُوا بِهِ فِي الْإِخْلَاصِ وَالتَّوَكُّلِ، وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له والتبري مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى آتَى إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن صغره، فَإِنَّهُ مِنْ وَقْتِ نَشَأَ وَشَبَّ أَنْكَرَ عَلَى قَوْمِهِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ مَعَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، {فَقَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} ؟ أَيْ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؟ {قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} أَيْ مُقِيمِينَ عَلَى عِبَادَتِهَا وَدُعَائِهَا، {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} يَعْنِي اعْتَرَفُوا بِأَنَّ أَصْنَامَهُمْ لَا تَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا رَأَوْا آبَاءَهُمْ كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يهرعون، فعند ذلك قال لهم إبراهيم: {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} أَيْ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ شَيْئًا وَلَهَا تَأْثِيرٌ، فَلْتَخْلُصْ إِلَيَّ بِالْمَسَاءَةِ، فَإِنِّي عَدُوٌّ لَهَا لَا أبالي بها وَلَا أُفَكِّرُ فِيهَا، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ} الآية. وقال هود عليه السلام {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تنظرون} ، وهكذا تبرأ إبراهيم من آلهتهم، قال تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} .(2/649)
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
- 78 - الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ
- 79 - وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ
- 80 - وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ
- 81 - وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ
- 82 - وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ
يَعْنِي لَا أَعْبُدُ إِلَّا الَّذِي يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} : أَيْ هُوَ الْخَالِقُ الَّذِي قَدَّرَ قَدَرًا، وَهَدَى الْخَلَائِقَ إِلَيْهِ فَكُلٌّ يَجْرِي عَلَى مَا قدر له، وَهُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} أَيْ هُوَ خَالِقِي وَرَازِقِي بِمَا سَخَّرَ وَيَسَّرَ مِنَ الْأَسْبَابِ السماوية والأرضية، {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} أَسْنَدَ الْمَرَضَ إِلَى نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ عَنْ قَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَخَلْقِهِ، وَلَكِنْ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ أَدَبًا، كَمَا قال الْجِنُّ: {وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} ، وكذا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} أَيْ إِذَا وَقَعْتُ فِي مَرَضٍ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شِفَائِي أَحَدٌ غَيْرُهُ بِمَا يُقَدِّرُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ، {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} أَيْ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُبْدِئُ وَيُعِيدُ {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} أي لا يقدر على غفران الذُّنُوبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا هُوَ، وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ؟ وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يشاء.(2/650)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
- 83 - رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ
- 84 - وَاجْعَلْ لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ
- 85 - وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ
- 86 - وَاغْفِرْ لِأَبِي أَنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ
- 87 - وَلاَ تُخزني يَوْمَ يُبْعَثُونَ
- 88 - يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ
- 89 - إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
وَهَذَا سُؤَالٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُؤْتِيَهُ رَبُّهُ حُكْمًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ الْعِلْمُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ اللُّبُّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ النُّبُوَّةُ، وَقَوْلُهُ: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} أَيْ اجْعَلْنِي مَعَ الصَّالِحِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الاحتضار: «اللهم في الرفيق الأعلى» ، قالها ثلاثاً. وفي الحديث: «اللَّهُمَّ أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَمِتْنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحَقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مُبْدِّلَيْنِ» ، وَقَوْلُهُ: {وَاجْعَلْ لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} أَيْ وَاجْعَلْ لِي ذِكْرًا جَمِيلًا بَعْدِي أُذْكَرُ بِهِ وَيُقْتَدَى بِي فِي الْخَيْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} . قال مجاهد وقتادة: يعني الثناء الحسن، قَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ: كُلُّ مِلَّةٍ تحبه وتتولاه، وقوله تعالى: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} أَيْ أَنْعِمْ عَلَيَّ فِي الدُّنْيَا بِبَقَاءِ الذِّكْرِ الْجَمِيلِ بَعْدِي، وَفِي الْآخِرَةِ بِأَنْ تَجْعَلَنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم، وقوله: {واغفر لأبي} الآية، كقوله: {رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ} وَهَذَا مِمَّا رَجَعَ عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إياه - إلى قوله - إِن إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} ، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تُخزني يَوْمَ يُبْعَثُونَ} أَيْ أَجِرْنِي من الخزي يوم القيامة، ويوم يبعث الخلائق أولهم وآخرهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يلقى إبراهيم يوم القيامة أباه عليه الغبرة والقترة» .
وفي رواية أخرى: "يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: ألم أقل(2/650)
لَكَ لَا تَعْصِنِي، فَيَقُولُ أَبُوهُ فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أن لا تُخزني يَوْمَ يُبْعَثُونَ فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ على الكافرين؛ ثم يقول: يا إبراهيم انظر تحت رجلك فينظر فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى في النار" (أخرجه البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً ورواه النسائي في التفسير، قال ابن كثير: والذيخ هو الذكر من الضباع) . وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ} أَيْ لَا يَقِي الْمَرْءَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَالُهُ وَلَوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا {وَلاَ بَنُونَ} أي ولو افتدى بمن على الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلَا يَنْفَعُ يومئذٍ إِلَّا الْإِيمَانُ بالله، وإخلاص الدين له، وَلِهَذَا قَالَ: {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أَيْ سَالِمٍ مِنَ الدَّنَسِ وَالشَّرْكِ، قَالَ ابن سِيرِينَ: الْقَلْبُ السَّلِيمُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَّن فِي الْقُبُورِ، وَقَالَ ابن عباس: القلب السليم أن يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ مجاهد والحسن: {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} يَعْنِي مِنَ الشِّرْكِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الْقَلْبُ السَّلِيمُ هُوَ الْقَلْبُ الصَّحِيحُ، وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض، قال الله تعالى: {في قلوبهم مرض} قال أبو عثمان النيسابوري: هو القلب السالم مِنَ الْبِدْعَةِ الْمُطْمَئِنُّ إِلَى السُّنَةِ.(2/651)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
- 90 - وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ
- 91 - وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ
- 92 - وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ
- 93 - مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ
- 94 - فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ
- 95 - وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ
- 96 - قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ
- 97 - تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ
- 98 - إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ
- 99 - وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلَّا الْمُجْرِمُونَ
- 100 - فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ
- 101 - وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ
- 102 - فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
- 103 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
- 104 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرحيم
{وَأُزْلِفَتِ الجنة} أي قربت وأدنيت من أهلها مُزَخْرَفَةً مُزَيَّنَةً لِنَاظِرِيهَا، وَهُمُ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ رَغِبُوا فيها وعملوا لها فِي الدُّنْيَا، {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} أَيْ أُظْهِرَتْ وَكُشِفَ عَنْهَا، وَبَدَتْ مِنْهَا عُنُقٌ فَزَفَرَتْ زَفْرَةً بلغت منها القلوب الْحَنَاجِرِ، وَقِيلَ لِأَهْلِهَا تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا: {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هل ينصروكم أَوْ يَنتَصِرُونَ} ؟ أَيْ لَيْسَتِ الْآلِهَةُ الَّتِي عَبَدْتُمُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ تُغْنِي عَنْكُمُ الْيَوْمَ شَيْئًا، وَلَا تَدْفَعُ عَنْ أنفسها، فإنكم وإياها حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ، وَقَوْلُهُ: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي فَدُهْوِرُوا فيها، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أُلْقِيَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الْكُفَّارِ وَقَادَتِهِمُ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى الشِّرْكِ، {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} أَيْ أُلْقُوا فِيهَا عَنْ آخِرِهِمْ، {قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي يقول الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا وَقَدْ عَادُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمَلَامَةِ: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ نَجْعَلُ أَمْرَكُمْ مُطَاعًا كَمَا يُطَاعُ أَمْرُ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَعَبَدْنَاكُمْ مَعَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، {وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ} أَيْ مَا دَعَانَا إِلَى ذَلِكَ إِلَّا الْمُجْرِمُونَ، {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ} قَالَ بَعْضُهُمْ يَعْنِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا يقولون {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فيشعفوا لنا} ؟ وَكَذَا قَالُوا: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} أَيْ قَرِيبٍ، قَالَ قَتَادَةُ:(2/651)
يَعْلَمُونَ وَاللَّهِ أَنَّ الصَّدِيقَ إِذَا كَانَ صَالِحًا نَفَعَ، وَأَنَّ الْحَمِيمَ إِذَا كَانَ صَالِحًا شَفَعَ {لو أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وَذَلِكَ أنهم يتمنون أنهم يردون إلى دار الدنيا ليعملوا بطاعة ربهم فيما يزعمون، والله تعالى يعلم أنهم لو ردوا إلى دار الدُّنْيَا لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، وقد أخبر الله تعالى عن تخاصم أهل النار، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} أَيْ إِنَّ فِي محاجة إبراهيم لقومه وإقامة الحجج عليهم في التوحيد {لآيَةً} أي لدلالة واضحة جلية على أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .(2/652)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)
- 105 - كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ
- 106 - إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ
- 107 - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ
- 108 - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
- 109 - وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ
- 110 - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ نُوحٍ عليه السلام، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعدما عبدت الأصنام والأنداد، فبعثه اللَّهُ نَاهِيًا عَنْ ذَلِكَ وَمُحَذِّرًا مِنْ وَبِيلِ عقابه، فكذبه قومه فاستمروا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْفِعَالِ الْخَبِيثَةِ في عبادتهم أصنامهم مَّعَ الله تَعَالَى، ونّزل الله تعالى تكذيبهم له منزلة تكذيبهم جميع الرسل، فلهذا قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} أَيْ أَلَا تَخَافُونَ اللَّهَ فِي عِبَادَتِكُمْ غَيْرَهُ {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أَيْ إِنِّي رَسُولٌ مِّن اللَّهِ إِلَيْكُمْ، أمين فيما بعثني الله به، أبلغكم رسالات ربي ولا أَزِيدُ فِيهَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهَا {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} الآية، أَيْ لَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ جَزَاءً عَلَى نُصْحِي لَكُمْ بَلْ أَدَّخِرُ ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} فَقَدْ وَضَحَ لَكُمْ وَبَانَ صدقي ونصحي وأمانتي فيما بعثني الله به وائتمني عليه.(2/652)
قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)
- 111 - قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ
- 112 - قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
- 113 - إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ
- 114 - وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ
- 115 - إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
يَقُولُونَ: لا نؤمن لك ولا نتبعك ونتأسى في ذلك بهؤلاء الأرذلين، الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ وَصَدَّقُوكَ وَهُمْ أَرَاذِلُنَا، وَلِهَذَا {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أَيْ وَأَيُّ شَيْءٍ يَلْزَمُنِي مِنَ اتِّبَاعِ هَؤُلَاءِ لِي وَلَوْ كَانُوا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانُوا عَلَيْهِ، لَا يَلْزَمُنِي التَّنْقِيبُ عنهم وَالْبَحْثُ وَالْفَحْصُ، إِنَّمَا عَلَيَّ أَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ تَصْدِيقَهُمْ إِيَّايَ، وأَكِلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، {أن حسابهم إلى عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا مِنْهُ أَنْ يُبْعِدَهُمْ عَنْهُ ويتابعوه فَأَبَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَقَالَ {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أَيْ إِنَّمَا بُعِثْتُ نَذِيرًا، فَمَنْ أَطَاعَنِي وَاتَّبَعَنِي وَصَدَّقَنِي كان مني وأنا منه، سواء كان شريفاً أو وضعياً، أَوْ جَلِيلًا أَوْ حَقِيرًا.(2/652)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
- 116 - قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ
- 117 - قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ
- 118 - فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
- 119 - فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
- 120 - ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ
- 121 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
- 122 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(2/652)
لَمَّا طَالَ مُقَامُ نَبِيِّ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ يدعوهم إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، وَكُلَّمَا كَرَّرَ عَلَيْهِمُ الدَّعْوَةَ صَمَّمُوا عَلَى الْكُفْرِ الْغَلِيظِ وَالِامْتِنَاعِ الشَّدِيدِ، وَقَالُوا فِي الْآخِرِ: {لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} أي إن لم تنته عن دعوتك إيانا على دينك {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} أَيْ لَنَرْجُمَنَّكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ دَعَا عَلَيْهِمْ دَعْوَةً اسْتَجَابَ اللَّهُ مِنْهُ فَقَالَ: {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} الآية، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر} إلى آخر الآية، وقال ههنا {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين} والمشحون هو الملوء بالأمتعة والأزواج التي حمل فِيهَا مِن كُلِّ زوجين اثنين، أي أنجيا نوحاً ومن اتبعه كلهم وأغرقنا من كفر به وخالف أمره كلهم أجمعين {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .(2/653)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
- 123 - كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ
- 124 - إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ
- 125 - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ
- 126 - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
- 127 - وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ
- 128 - أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ
- 129 - وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ
- 130 - وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ
- 131 - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
- 132 - وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ
- 133 - أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ
- 134 - وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
- 135 - إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ (هُودٍ) عَلَيْهِ السلام أنه دعا قومه عاداً، وكان قومه يَسْكُنُونَ الْأَحْقَافَ، وَهِيَ جِبَالُ الرَّمَلِ قَرِيبًا مِنْ حضرموت متاخمة بلاد الْيَمَنِ، وَكَانَ زَمَانُهُمْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخلق بسطة} ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةٍ مِنْ قُوَّةِ التركيب والقوة والبطش الشديد، والأموال والجنات والأنهار، وَالْأَبْنَاءِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَعْبُدُونَ غير الله معه، فبعث الله هوداً إِلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ رَسُولَا وَبَشِيرًا وَنَذِيرًا فَدَعَاهُمْ إلى الله وحده وحذرهم نقمته وعذابه، فقال لهم {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} ؟ الريع: المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة، يبنون هناك بيناناً محكماً هائلاً باهراً، وَلِهَذَا قَالَ: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً} أَيْ معلماً بناء مشهوراً، {تَعْبَثُونَ} أي وَإِنَّمَا تَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَبَثًا لَا لِلِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، بَلْ لِمُجَرَّدِ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَإِظْهَارِ الْقُوَّةِ، وَلِهَذَا أنكر عليهم نبيهم عليه السلام، لِأَنَّهُ تَضْيِيعٌ لِلزَّمَانِ وَإِتْعَابٌ لِلْأَبْدَانِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَاشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُجْدِي فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} . قَالَ مُجَاهِدٌ: والمصانع الْبُرُوجُ الْمُشَيَّدَةُ وَالْبُنْيَانُ الْمُخَلَّدُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: بُرُوجُ الْحَمَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَأْخَذُ الْمَاءِ، {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أَيْ لِكَيْ تُقِيمُوا فِيهَا أَبَدًا، وذلك ليس بِحَاصِلٍ لَكُمْ بَلْ زَائِلٌ عَنْكُمْ، كَمَا زَالَ عمن كان قبلكم، روي أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا رَأَى مَا أَحْدَثَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْغُوطَةِ مِنَ البنيان ونصب الحجر، قَامَ فِي مَسْجِدِهِمْ فَنَادَى يَا أَهْلَ دِمَشْقَ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَلَا تَسْتَحْيُونَ، أَلَا تَسْتَحْيُونَ، تَجْمَعُونَ مَا لَا تَأْكُلُونَ، وَتَبْنُونَ مَا لَا تَسْكُنُونَ، وَتَأْمُلُونَ ما لا تدركون، إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون، ويبنون(2/653)
فَيُوثِقُونَ، وَيَأْمُلُونَ فَيُطِيلُونَ، فَأَصْبَحَ أَمَلُهُمْ غُرُورًا، وَأَصْبَحَ جَمْعُهُمْ بُورًا، وَأَصْبَحَتْ مَسَاكِنُهُمْ قُبُورًا، أَلَا إِنَّ عَادًا مَلَكَتْ مَا بَيْنَ عَدَنَ وَعُمَانَ خَيْلًا، وَرِكَابًا فَمَنْ يَشْتَرِي مِنِّي مِيرَاثَ عَادٍ بِدِرْهَمَيْنِ (أخرجه ابن أبي حاتم) ؟ وقوله: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} أي يصفهم بِالْقُوَّةِ وَالْغِلْظَةِ وَالْجَبَرُوتِ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أَيِ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَأَطِيعُوا رَسُولَكُمْ، ثُمَّ شَرَعَ يُذَكِّرُهُمْ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا
تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أَيْ إِنْ كَذَّبْتُمْ وَخَالَفْتُمْ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فَمَا نَفَعَ فِيهِمْ(2/654)
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
- 136 - قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِينَ
- 137 - إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ
- 138 - وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ
- 139 - فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
- 140 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ جَوَابِ قَوْمِ هُودٍ لَهُ، بَعْدَمَا حَذَّرَهُمْ وأنذرهم وبيَّن لَهُمُ الْحَقَّ وَوَضَّحَهُ {قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِينَ} أَيْ لا نرجع عما نحن عليه، {وَمَا نَحْنُ
بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ، وَمَا نَحْنُ لَكَ بمؤمنين} وَهَكَذَا الْأَمْرُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} الآية، وقولهم {إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين} ، كما قال المشركون، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ، وقال: {وقيل للذين كفروا مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين} {خُلُق الْأَوَّلِينَ} بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ، يَعْنُونَ دِينَهُمْ وما هم عليه من الأمر دين الأولين مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَنَحْنُ تَابِعُونَ لَهُمْ سَالِكُونَ وَرَاءَهُمْ نَعِيشُ كَمَا عَاشُوا وَنَمُوتُ كَمَا مَاتُوا وَلَا بَعْثَ وَلَا مَعَادَ، وَلِهَذَا قَالُوا: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} يقول: دين الأولين (وهو قول عكرمة وقتادة وعبد الرحمن بن أسلم واختاره ابن جرير) ، وقوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} أي استمروا عَلَى تَكْذِيبِ نَبِيِّ اللَّهِ هُودٍ وَمُخَالَفَتِهِ وَعِنَادِهِ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، وَقَدْ بيَّن سَبَبَ إِهْلَاكِهِ إِيَّاهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ، بِأَنَّهُ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَرًا عَاتِيَةً، أَيْ رِيحًا شَدِيدَةَ الهبوب ذات برد شديد جداً، فكان سبب إِهْلَاكُهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَعْتَى شَيْءٍ وَأَجْبَرَهُ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ أَعْتَى منهم وأشد قوة، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد} ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟} فسلكت الريح فحصبت بِلَادَهُمْ، فَحَصَبَتْ كُلَّ شَيْءٍ لَهُمْ كَمَا قَالَ تعالى: {تُدَمِّرُ كل شيء بأمر ربها} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} إلى قوله: {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خاوية} أَيْ بَقُوا أَبْدَانًا بِلَا رُؤُوسٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ تَأْتِي الرَّجُلَ مِنْهُمْ فَتَقْتَلِعُهُ وَتَرْفَعُهُ فِي الْهَوَاءِ، ثُمَّ تُنَكِّسُهُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فَتَشْدَخُ دِمَاغَهُ، وَتَكْسِرُ رَأْسَهُ، وَتُلْقِيهِ، كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ، وَقَدْ كَانُوا تَحَصَّنُوا فِي الْجِبَالِ وَالْكُهُوفِ وَالْمَغَارَاتِ، وَحَفَرُوا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ إِلَى أَنْصَافِهِمْ، فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ شَيْئًا، {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} ، ولهذا قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} الآية.(2/654)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)
- 141 - كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ
- 142 - إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ
- 143 - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ
- 144 - فَاتَّقُوا اللَّهَ [ص:655] وَأَطِيعُونِ
- 145 - وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ
وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ (صَالِحٍ) عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ بَعَثَهُ إلى قومه ثَمُودَ، وَكَانُوا عَرَبًا يَسْكُنُونَ مَدِينَةَ الْحِجْرِ الَّتِي بَيْنَ وَادِي الْقُرَى وَبِلَادِ الشَّامِ، وَمَسَاكِنُهُمْ مَعْرُوفَةٌ مشهورة، وكانوا بَعْدَ عَادٍ وَقَبْلَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَدَعَاهُمْ نَبِيُّهُمْ صَالِحٌ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ يُطِيعُوهُ فِيمَا بَلَّغَهُمْ مِنَ الرِّسَالَةِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَكَذَّبُوهُ وخالفوه، وأخبرهم أَنَّهُ لَا
يَبْتَغِي بِدَعْوَتِهِمْ أَجْرًا مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَطْلَبُ ثَوَابَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ آلَاءَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ:(2/654)
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)
- 146 - أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ آمِنِينَ
- 147 - فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
- 148 - وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ
- 149 - وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ
- 150 - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
- 151 - وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ
- 152 - الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ولا يصلحون
يقول لهم واعظاً لهم ومحذرهم نِقَمَ اللَّهِ أَنْ تَحِلَّ بِهِمْ، وَمُذَكِّرًا بِأَنْعُمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا رَزَقَهُمْ مِنَ الْأَرْزَاقِ الدَّارَّةِ، وأنبت لهم من الجنات، وفجر لَهُمْ مِنَ الْعُيُونِ الْجَارِيَاتِ، وَأَخْرَجَ لَهُمْ مِنَ الزُّرُوعِ وَالثَّمَرَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} قال ابن عباس: أينع وبلغ فهو هضيم، وعنه يقول: معشبة، وقال مجاهد: هو الذي إذا يبس تهشم وتفتت وتناثر، وقال ابن جريج عن مجاهد {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} قَالَ: حِينَ يَطْلُعُ تَقْبِضُ عَلَيْهِ فَتَهْضِمُهُ، فَهُوَ مِنَ الرُّطَبِ الْهَضِيمِ، وَمِنَ الْيَابِسِ الْهَشِيمِ، تَقْبِضُ عَلَيْهِ فَتُهَشِّمُهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وقَتَادَةُ: الْهَضِيمُ الرَّطْبُ اللَّيِّنُ، وَقَالَ الضَّحَاكُ: إِذَا كثر حمل الثمرة وركب بعضها بعضاً فهو هضيم، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هُوَ الَّذِي لَا نَوَى لَهُ، وَقَالَ أَبُو صَخْرٍ: مَا رَأَيْتُ الطَّلْعَ حين ينشق عَنْهُ الْكُمُّ فَتَرَى الطَّلْعَ قَدْ لَصِقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَهُوَ الْهَضِيمُ. وَقَوْلُهُ: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِين} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي حَاذِقِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: شَرِهِينَ أَشِرِينَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مُجَاهِدٍ وَجَمَاعَةٍ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ تِلْكَ الْبُيُوتَ الْمَنْحُوتَةَ فِي الْجِبَالِ أَشَرًا وَبَطَرًا وَعَبَثًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلى سكناها، وكانوا حاذقين متقين لِنَحْتِهَا وَنَقْشِهَا، كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ مِنْ حَالِهِمْ لِمَنْ رَأَى مَنَازِلَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي أقبلوا على مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم، لتعبدوه وتوحده وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا {وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} يَعْنِي رُؤَسَاءَهُمْ وَكُبَرَاءَهُمْ الدُّعَاةَ لَهُمْ إِلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ ومخالفة الحق.(2/655)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
- 153 - قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ
- 154 - مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
- 155 - قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ
- 156 - وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
- 157 - فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ
- 158 - فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
- 159 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرحيم(2/655)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ ثَمُودَ فِي جَوَابِهِمْ لِنَبِيِّهِمْ (صَالِحٍ) عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى عبادة ربهم عزَّ وجلَّ أنهم {قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ وقتادة: يعنون من المسحورين، يَقُولُونَ: إِنَّمَا أَنْتَ فِي قَوْلِكَ هَذَا مَسْحُورٌ لَا عَقْلَ لَكَ، ثُمَّ قَالُوا {مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} يَعْنِي فَكَيْفَ أُوحِيَ إِلَيْكَ دوننا، كما قالوا في الآية الأخرى {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} ثُمَّ إِنَّهُمُ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ آيَةً يَأْتِيهِمْ بِهَا لِيَعْلَمُوا صِدْقَهُ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ، وقد اجتمع ملؤهم وطلبوا منه أَنْ يُخْرِجَ لَهُمُ الْآنَ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ ناقة عشراء، وأشاروا إلى صخرة عندهم، مِنْ صِفَتِهَا كَذَا وَكَذَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَ عَلَيْهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ صَالِحٌ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ لَئِنْ أجابهم إلى ما سألوا ليؤمنن به وليتبعنه، فأعطوه ذلك، فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَصَلَّى ثُمَّ دَعَا اللَّهَ عزَّ وجلَّ أَنْ يُجِيبَهُمْ إِلَى سُؤَالِهِمْ، فَانْفَطَرَتْ تِلْكَ الصَّخْرَةُ الَّتِي أَشَارُوا إِلَيْهَا عَنْ نَاقَةٍ عُشَرَاءَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَصَفُوهَا، فَآمَنَ بَعْضُهُمْ وَكَفَرَ أَكْثَرُهُمْ {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} يَعْنِي تَرِدُ مَاءَكُمْ يَوْمًا وَيَوْمًا تَرِدُونَهُ أَنْتُمْ، {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فَحَذَّرَهُمْ نِقْمَةَ اللَّهِ إِنْ أَصَابُوهَا بِسُوءٍ، فَمَكَثَتِ النَّاقَةُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ تَرِدُ الماء، وتأكل الورق والمرعى وينتفعون بلبنها يحلبون مِنْهَا مَا يَكْفِيهِمْ شُرْبًا وَرِيًّا؛ فَلَمَّا طَالَ عليهم الأمد وحضر أشقاهم تمالأوا عَلَى قَتْلِهَا وَعَقْرِهَا {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} وَهُوَ أَنَّ أَرْضَهُمْ زُلْزِلَتْ زِلْزَالًا شَدِيدًا، وجاءتهم صحية عظيمة اقتلعت القلوب من مَحَالِّهَا، وَأَتَاهُمْ مِنَ الْأَمْرِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يحتسبون، وأصبحوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .(2/656)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164)
- 160 - كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ
- 161 - إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ
- 162 - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ
- 163 - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
- 164 - وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ لوط عليه السلام، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ بَعَثَهُ إِلَى أُمَّةٍ عظيمة في حياة إبراهيم عليهما السلام، وكانوا يسكنون (سدوم) وأعمالها التي أهلكهم اللَّهُ بِهَا، وَجَعَلَ مَكَانَهَا بُحَيْرَةً مُنْتِنَةً خَبِيثَةً، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ بِبِلَادِ الْغَوْرِ مُتَاخِمَةٌ لِجِبَالِ الْبَيْتِ المقدس، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ يُطِيعُوا رَسُولَهُمُ الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَةِ الله، وارتكاب ما كانوا قد ابتدعوه مما لم يسبقهم أحد من الخلائق إلى فعله من إتيان الذكور دُونَ الْإِنَاثِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:(2/656)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
- 165 - أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ
- 166 - وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ
- 167 - قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ
- 168 - قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ الْقَالِينَ
- 169 - رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ
- 170 - فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ
- 171 - إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ
- 172 - ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ
- 173 - وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ
- 174 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
- 175 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
لما نهاهم نبي الله عن ارتكاب الْفَوَاحِشَ وَغَشَيَانِهِمُ الذُّكُورَ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى إِتْيَانِ نِسَائِهِمُ اللاتي خلقهن الله(2/656)
لهم ما كان جوابهم إِلَّا أَنْ قَالُوا {لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يَا لوط} أي عَمَّا جِئْتَنَا بِهِ {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} أَيْ نَنْفِيكَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ لَا يَرْتَدِعُونَ عَمَّا هُمْ فِيهِ وَأَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ تَبَرَّأَ مِنْهُمْ، وقال: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ الْقَالِينَ} أَيِ الْمُبْغِضِينَ لَا أحبه ولا أرضى به وإني بريء منكم، ثم دعا الله عليهم، فقال: {رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} أَيْ كُلَّهُمْ، {إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} وَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَكَانَتْ عَجُوزَ سُوءٍ، بَقِيَتْ فَهَلَكَتْ مَعَ مَنْ بَقِيَ مِنْ قومها، حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْرِيَ بِأَهْلِهِ إِلَّا امْرَأَتَهُ، وَأَنَّهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ إِذَا سَمِعُوا الصَّيْحَةَ حِينَ تَنْزِلُ عَلَى قَوْمِهِ، فَصَبَرُوا لِأَمْرِ اللَّهِ وَاسْتَمَرُّوا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أُولَئِكَ الْعَذَابَ الَّذِي عَمَّ جَمِيعَهُمْ وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ منضود، ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً - إلى قوله - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .(2/657)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180)
- 176 - كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ
- 177 - إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ
- 178 - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ
- 179 - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
- 180 - وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ
هؤلاء - يعني أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ - هُمْ «أَهْلُ مَدْيَنَ» عَلَى الصَّحِيحِ، وكان نبي الله من أنفسهم، وإنما لم يقل ههنا أَخُوهُمْ شُعَيْبٌ، لِأَنَّهُمْ نُسِبُوا إِلَى عِبَادَةِ الْأَيْكَةِ، وَهِيَ شَجَرَةٌ، وَقِيلَ: شَجَرٌ مُلْتَفٌّ كَالْغَيْضَةِ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا، فَلِهَذَا لَمَّا قَالَ: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ لَمْ يَقِلْ: إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ شُعَيْبٌ وَإِنَّمَا قَالَ: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} فقطع نسب الْأُخُوَّةِ بَيْنَهُمْ لِلْمَعْنَى الَّذِي نُسِبُوا إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُمْ نَسَبًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يفطن لِهَذِهِ النُّكْتَةِ، فَظَنَّ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ غَيْرُ أهل مدين، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ وُصِفُوا فِي كُلِّ مَقَامٍ بِشَيْءٍ، وَلِهَذَا وَعَظَ هَؤُلَاءِ، وَأَمْرَهُمْ بِوَفَاءِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ كَمَا فِي قِصَّةِ مَدْيَنَ سَوَاءً بسواء، فدل ذلك على أنهما أمة واحدة.(2/657)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
- 181 - أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ
- 182 - وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ
- 183 - وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
- 184 - وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين
يأمرهم عليه السلام بِإِيفَاءِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ التَّطْفِيفِ فِيهِمَا فَقَالَ: {أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ} أي إذا دفعتم للناس فكملوا الكيل لهم، ولا تبخسوا الْكَيْلَ فَتُعْطُوهُ نَاقِصًا وَتَأْخُذُوهُ إِذَا كَانَ لَكُمْ تَامًّا وَافِيًا، وَلَكِنْ خُذُوا كَمَا تُعْطُونَ، وَأَعْطُوا كَمَا تَأْخُذُونَ {وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} وَالْقِسْطَاسُ هُوَ الميزان، قال مجاهد: {القسطاس المستقيم} هو الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْقِسْطَاسُ الْعَدْلُ، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تبخسوا الناس أشياءهم} أي لا تُنْقِصُوهُمْ أَمْوَالَهُمْ {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} يعني قطع الطريق كما قال فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ توعدون} ، وَقَوْلُهُ: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} يُخَوِّفُهُمْ بَأْسَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ آبَاءَهُمُ الْأَوَائِلَ، كَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبآئكم الأولين} قال ابن عباس ومجاهد: {وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} يَقُولُ: خَلَقَ الْأَوَّلِينَ، وَقَرَأَ ابْنُ زيد {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جبلا كثيرا} .(2/657)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
- 185 - قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ
- 186 - وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ
- 187 - فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
- 188 - قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ
- 189 - فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
- 190 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
- 191 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ جَوَابِ قَوْمِهِ لَهُ بِمِثْلِ مَا أَجَابَتْ بِهِ ثَمُودُ لِرَسُولِهَا تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ حَيْثُ قَالُوا: {إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} يَعْنُونَ مِنَ الْمَسْحُورِينَ كَمَا تَقَدَّمَ، {وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} أَيْ تَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فِيمَا تَقُولُهُ لَا أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ إِلَيْنَا، {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء} قال قَتَادَةُ: قِطَعًا مِنَ السَّمَاءِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَذَابًا مِنَ السَّمَاءِ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً} . وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء} الآية. وهكذا قال هؤلاء الكفار الجهلة {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء} الآية، {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} يَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ جَازَاكُمْ به وهو غير ظالم لكم، وهكذا وَقَعَ بِهِمْ كَمَا سَأَلُوا جَزَاءً وِفَاقًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وَهَذَا مِنْ جنس ما سألوه مِنْ إِسْقَاطِ الْكِسَفِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وتعالى جعل عقوبتهم أن
أصابهم حر عظيم مُدَّةَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ لَا يُكِنُّهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ إِلَيْهِمْ سَحَابَةٌ أَظَلَّتْهُمْ فَجَعَلُوا يَنْطَلِقُونَ إِلَيْهَا يَسْتَظِلُّونَ بِظِلِّهَا مِنَ الْحَرِّ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ تَحْتَهَا أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مِنْهَا شَرَرًا مِنْ نَارٍ وَلَهَبًا وَوَهَجًا عَظِيمًا، وَرَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ، وَجَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ عَظِيمَةٌ أَزْهَقَتْ أَرْوَاحَهُمْ، ولهذا قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} . قَالَ قَتَادَةُ: قال عبيد اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْحَرَّ سَبْعَةَ أَيَّامٍ حَتَّى مَا يُظِلُّهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تعالى أنشأ لهم سحابة، فانطلق إليها أحدهم فاستظل بِهَا، فَأَصَابَ تَحْتَهَا بَرْدًا وَرَاحَةً، فَأَعْلَمَ بِذَلِكَ قَوْمَهُ، فَأَتَوْهَا جَمِيعًا، فَاسْتَظَلُّوا تَحْتَهَا، فَأَجَّجَتْ عَلَيْهِمْ ناراً، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ الظُّلَّةَ، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الظُّلَّةَ وَأَحْمَى عَلَيْهِمُ الشَّمْسَ، فَاحْتَرَقُوا كَمَا يَحْتَرِقُ الْجَرَادُ فِي الْمَقْلَى، وقال محمد بن جرير عن يَزِيدُ الْبَاهِلِيُّ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الآية {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة} الآية، قال: بعث الله عليهم رعدة وحراً شديداً، فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هرباً إلى البرية، فبعث الله عليهم سَحَابَةً فَأَظَلَّتْهُمْ مِنَ الشَّمْسِ، فَوَجَدُوا لَهَا بَرْدًا وَلَذَّةً، فَنَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعُوا تحتها أرسل اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَذَلِكَ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أَيِ الْعَزِيزُ فِي انْتِقَامِهِ مِنَ الْكَافِرِينَ، الرَّحِيمُ بعباده المؤمنين.(2/658)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
- 192 - وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ
- 193 - نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ
- 194 - عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ
- 195 - بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٌ(2/658)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِنَّهُ} أَيِ الْقُرْآنُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَآ يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} الْآيَةَ. {لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ وَأَوْحَاهُ إِلَيْكَ {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} وهو جبريل (تفسسير الروح الأمين بجبريل قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: ابْنُ عَبَّاسٍ وقتادة والسدي والضحاك وغيرهم) عليه السلام، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} أَيْ نَزَلَ بِهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ أَمِينٌ ذُو مَكَانَةٍ عِنْدَ اللَّهِ مُطَاعٌ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى {عَلَى قَلْبِكَ} يَا مُحَمَّدُ سَالِمًا مِنَ الدَّنَسِ وَالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} أَيْ لِتُنْذِرَ بِهِ بَأْسَ اللَّهِ وَنِقْمَتِهِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَكَذَّبَهُ، وَتُبَشِّرَ به المؤمنين المتبعين له، وقوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي أنزلناه إليك باللسان الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ الْكَامِلِ الشَّامِلِ، لِيَكُونَ بَيِّنًا وَاضِحًا ظَاهِرًا، قَاطِعًا لِلْعُذْرِ، مُقِيمًا لِلْحُجَّةِ، دَلِيلًا إِلَى المحجة، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَمْ يَنْزِلْ وَحْيٌ إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ تَرْجَمَ كُلُّ نَبِيٍّ لِقَوْمِهِ، وَاللِّسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، فَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ تَكَلَّمَ العربية.(2/659)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)
- 196 - وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ
- 197 - أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ
- 198 - وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ
- 199 - فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُّؤُمِنِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: وَإِن ذِكْرَ هَذَا الْقُرْآنِ وَالتَّنْوِيهَ بِهِ لَمَوْجُودٌ فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ الْمَأْثُورَةِ عَنْ أَنْبِيَائِهِمُ، الَّذِينَ بَشَّرُوا بِهِ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ، كَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ بِذَلِكَ حَتَّى قَامَ آخِرُهُمْ خَطِيبًا في ملئه بالبشارة بأحمد {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ من بعدي يأتي اسمه أحمد} والزبر ههنا هِيَ الْكُتُبُ، وَهِيَ جَمْعُ زَبُورٍ، وَكَذَلِكَ الزَّبُورُ وهو كتاب داود، قال الله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} أَيْ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِمْ فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَيْ أَوَلَيْسَ يَكْفِيهِمْ مِنَ الشَّاهِدِ الصَّادِقِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَجِدُونَ ذِكْرَ هَذَا الْقُرْآنِ فِي كُتُبِهِمُ الَّتِي يَدْرُسُونَهَا، وَالْمُرَادُ الْعُدُولُ مِنْهُمُ الَّذِينَ يَعْتَرِفُونَ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَبْعَثِهِ وَأُمَّتِهِ، كَمَا أَخْبَرَ بذلك مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ كـ (عبد الله بن سلام) و (سلمان الفارسي) ومن شاكلهم، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} الآية؛ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ شِدَّةِ كُفْرِ قريش وعنادهم لهذا القرآن: إنه لو نزل عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَعَاجِمِ مِمَّنْ لَا يَدْرِي مِنَ الْعَرَبِيَّةِ كَلِمَةً وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ هَذَا الْكِتَابُ بِبَيَانِهِ وَفَصَاحَتِهِ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} الآية؛ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} الآية.(2/659)
كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
- 200 - كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ
- 201 - لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ
- 202 - فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
- 203 - فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ
- 204 - أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ
- 205 - أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ(2/659)
- 206 - ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ
- 207 - مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ
- 208 - وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ
- 209 - ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: كَذَلِكَ سَلَكْنَا التَّكْذِيبَ وَالْكُفْرَ وَالْجُحُودَ وَالْعِنَادَ، أَيْ أَدْخَلْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} أَيْ بِالْحَقِّ {حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} أَيْ حَيْثُ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ، {فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً} أي عذاب الله فجأة {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} أَيْ يَتَمَنَّوْنَ حِينَ يُشَاهِدُونَ الْعَذَابَ أَنْ لَوْ أنظروا قليلاً ليعملوا في زعمهم بطاعة الله، فَكُلُّ ظَالِمٍ وَفَاجِرٍ وَكَافِرٍ إِذَا شَاهَدَ عُقُوبَتَهُ نَدِمَ نَدَمًا شَدِيدًا؛ هَذَا فِرْعَوْنُ لَمَّا دَعَا عَلَيْهِ الْكِلِيمُ بِقَوْلِهِ: {رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا} فَأَثَّرَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ فِي فِرْعَوْنَ فَمَا آمَنَ حَتَّى رَأَى الْعَذَابَ الْأَلِيمَ {حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله الذي آمَنَتْ بِهِ بنو إسرائيل} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ وَتَهْدِيدٌ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ تَكْذِيبًا واستبعاداً: ائتنا بِعَذَابِ الله، كما قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} الآيات، ثُمَّ قَالَ: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ * مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} أَيْ لَوْ أَخَّرْنَاهُمْ وَأَنْظَرْنَاهُمْ وأمليناهم برهة من الدهر وحيناً من الزمان وَإِنْ طَالَ، ثُمَّ جَاءَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ، أَيُّ شَيْءٍ يُجْدِي عَنْهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النعيم {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عيشة أو ضحاها} ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} ، ولهذا قال تعالى: {مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ} . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "يُؤْتَى بِالْكَافِرِ فَيُغْمَسُ فِي النَّارِ غَمْسَةً ثُمَّ يُقَالُ لَهُ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ رَأَيْتَ نَعِيمًا قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا كَانَ فِي الدُّنْيَا، فَيُصْبَغُ فِي الْجَنَّةِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ فيقول: لا والله يا رب". ثم قال تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَدْلِهِ فِي خُلُقِهِ أَنَّهُ مَا أَهْلَكَ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا بَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ وَالْإِنْذَارِ لَهُمْ وَبِعْثَةِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، وقيام الحجة عليهم، ولهذا قال تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا نعذبين حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا - إلى قوله - وَأَهْلُهَا ظالمون} .(2/660)
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
- 210 - وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ
- 211 - وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ
- 212 - إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ: أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ الْمُؤَيَّدُ مِنَ اللَّهِ {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عليهم ذلك مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ مَا يَنْبَغِي لهم لأن سجاياهم الفساد، وإضلال العباد، وهذا فيه نور وَهُدًى وَبُرْهَانٌ عَظِيمٌ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّيَاطِينِ مُنَافَاةٌ عَظِيمَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ} ، وقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} أَيْ وَلَوِ انْبَغَى لَهُمْ لَمَا استطاعوا ذلك، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ لَوِ انْبَغَى لَهُمْ وَاسْتَطَاعُوا حمله وتأدييه لَمَا وَصَلُوا إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنِ استماع القرآن حال نزوله، لأن السماء مائت حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً فِي مُدَّةِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ على رسول الله، فَلَمْ يَخْلُصْ أَحَدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ إِلَى اسْتِمَاعِ حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْهُ لِئَلَّا يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ، وَهَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ، وَحِفْظِهِ لِشَرْعِهِ، وَتَأْيِيدِهِ لكتابه(2/660)
ولرسوله، ولهذا قال تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} كَمَا قَالَ تَعَالَى مخبراًعن الجن {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شهابا رصدا} .(2/661)
فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
- 213 - فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ
- 214 - وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ
- 215 - وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
- 216 - فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ
- 217 - وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ
- 218 - الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ
- 219 - وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ
- 220 - إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ ولا مخبرأً أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ عَذَّبَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى آمِرًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْذِرَ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ أَيِ الْأَدْنَيْنَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يُخَلِّصُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا إِيمَانُهُ بِرَبِّهِ عزَّ وجلَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُلِينَ جَانِبَهُ لِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ عَصَاهُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ فليتبرأ منه، ولهذا قال تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} ، وَهَذِهِ النِّذَارَةُ الْخَاصَّةُ لَا تُنَافِي الْعَامَّةَ بَلْ هي فرد من أجزائها، كما قال تَعَالَى: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غافلون} ، وقال تعالى: {لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حولها} ، وقال تعالى: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِي إِلَّا دَخَلَ النَّارَ» . وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَلْنَذْكُرْهَا، الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفَا فَصَعِدَ عَلَيْهِ ثُمَّ نَادَى: «يَا صَبَاحَاهُ» ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ بَيْنَ رَجُلٍ يَجِيءُ إِلَيْهِ، وَبَيْنَ رَجُلٍ يَبْعَثُ رَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي لُؤَيٍّ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ صَدَّقْتُمُونِي؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَمَا دَعَوْتَنَا إِلَّا لِهَذَا؟ وَأَنْزَلَ الله: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (أخرجه الإمام أحمد ورواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق بمثله) ، الحديث الثاني: روى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا فَاطِمَةُ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ، يَا صَفِيَّةُ ابْنَةَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا سلوني من مالي ما شئتم» (أخرجه أحمد ومسلم عن عائشة رضي الله عنها) . الحديث الثالث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا فعمَّ وخصَّ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا مَعْشَرَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ أَنْقِذِي نَفْسَكِ من النار، فإني والله لا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِلَّا أَنَّ لكم رحماً سأبلها ببلاها» (رواه مسلم والترمذي) . وقال الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ اشْتَرِيَا أَنْفُسَكُمَا(2/661)
من الله، فإني لَا أُغْنِي عَنْكُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، سَلَانِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمَا» (تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هذا الوجه الإمام أحمد) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بَنِي قُصَيٍّ، يَا بَنِي هَاشِمٍ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَنَا النَّذِيرُ، وَالْمَوْتُ المغير، والساعة الموعد» (أخرجه الحافظ أبو يعلى) ، الحديث الرابع: قال الإمام أحمد عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ وَزُهَيْرِ بْنِ عَمْرٍو قَالَا: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضْمَةً مِنْ جَبَلٍ عَلَى أَعْلَاهَا حَجَرٌ فَجَعَلَ يُنَادِي: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَرَجُلٍ رَأَى الْعَدُوَّ فَذَهَبَ يربأ أهله رجاء أَنْ يَسْبِقُوهُ فَجَعَلَ يُنَادِي وَيَهْتِفُ يَا صَبَاحَاهُ» (أخرجه مسلم والنسائي والإمام أحمد) ؟.
وقوله تعالى: {وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أَيْ فِي جَمِيعِ أمورك فإنه مؤيدك وحافظك وناصرك ومظفرك ومعلي كلمتك، وقوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} أَيْ هُوَ مُعْتَنٍ بك، كما قال تعالى: {فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بأعيننا} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} : يَعْنِي إِلَى الصَّلَاةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَرَى قِيَامَهُ وركوعه وسجوده، وقال الحسن: إذا صليت وحدك، وقال الضحاك: أَيْ مِنْ فِرَاشِكَ أَوْ مَجْلِسِكَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {الَّذِي يَرَاكَ} قَائِمًا وَجَالِسًا وَعَلَى حَالَاتِكَ، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} ، قَالَ قَتَادَةُ: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} قَالَ: فِي الصلاة يراك وحدك ويراك في الجمع. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: يَعْنِي تَقَلُّبَهُ مِنْ صُلْبِ نَبِيٍّ إِلَى صُلْبِ نبي، حتى أخرجه نبياً، وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أَيِ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ، الْعَلِيمُ بِحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} الْآيَةَ.(2/662)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
- 221 - هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ
- 222 - تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ
- 223 - يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ
- 224 - وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ
- 225 - أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ
- 226 - وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ
- 227 - إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِمَنْ زَعَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أن مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بحق، وَأَنَّهُ شَيْءٌ افْتَعَلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، أَوْ أنه أتاه به رِئي الجان، فنزه الله سبحانه وتعالى جَنَابَ رَسُولِهِ عَنْ قَوْلِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ، وَنَبَّهَ أَنَّ ما جاء به إنما هو مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ تَنْزِيلُهُ وَوَحْيُهُ نَزَلَ بِهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ أَمِينٌ عَظِيمٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ من قبل الشَّيَاطِينِ، فَإِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ رَغْبَةٌ فِي مِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَإِنَّمَا يَنْزِلُونَ عَلَى مَنْ يُشَاكِلُهُمْ وَيُشَابِهُهُمْ مِنَ الْكُهَّانِ الْكَذَبَةِ. وَلِهَذَا قَالَ الله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} أَيْ أُخْبِرُكُمْ {عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} أَيْ كذوب في قوله وهو الأفاك {أَثِيمٍ} وهو الْفَاجِرُ فِي أَفْعَالِهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي تَنَزَّلُ عليه الشياطين من الكهان وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمْ مِنَ الْكَذَبَةِ الْفَسَقَةِ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ أَيْضًا كَذَبَةٌ فَسَقَةٌ {يُلْقُونَ السَّمْعَ} أَيْ يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ مِنَ السَّمَاءِ فَيَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، فَيَزِيدُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ ثُمَّ يلقونها إلى أوليائهم من الإنس، فيحدثون بِهَا فَيُصَدِّقُهُمُ النَّاسُ فِي كُلِّ مَا قَالُوهُ بسبب(2/662)
صِدْقِهِمْ فِي تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السماء، كما روى البخاري عن عروة بن الزبير قال، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: سَأَلَ نَاسٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ: «إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله فإنه يحدثون بالشيء يكون، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطِفُهَا الْجِنِّيُّ فَيُقَرْقِرُهَا فِي أذن وليه كقرقرة الدجاج فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة» . وروى البخاري أيضاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كأنها سسلسلة على صفوان، فإذا فرغ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُواْ: الْحَقُّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ، ومسترقو السمع هكذا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ - وصفه سُفْيَانُ بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ - فَيَسْمَعُ لكلمة فيلقها إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه فكيذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء" (تفرد به البخاري ورواه مسلم قريباً منه) .
وقوله تعالى: {والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْكُفَّارَ يَتْبَعُهُمْ ضُلَّالُ الْإِنْسِ والجن؛ وكذا قال مجاهد رحمة الله، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ الشَّاعِرَانِ يَتَهَاجَيَانِ فَيَنْتَصِرُ لِهَذَا فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، وَلِهَذَا فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ،، فأنزل الله تعالى: {والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} . وقال الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَرْجِ إِذْ عَرَضَ شَاعِرٌ يُنْشِدُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا الشَّيْطَانَ - أَوْ أَمْسِكُوا الشَّيْطَانَ -، لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خير له من أن يمتلئ شعراً» (أخرجه الإمام أحمد في المسند) . وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي كُلِّ لَغْوٍ يَخُوضُونَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي كُلِّ فَنٍّ مِنَ الْكَلَامِ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْنَا أَوْدِيَتَهُمُ الَّتِي يخضون فيها مرة في شتيمة فلان ومرة في مديحة فُلَانٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الشَّاعِرُ يَمْدَحُ قَوْمًا بِبَاطِلٍ ويذم قوماً بباطل، وقوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَحَدُهُمَا مِنَ الْأَنْصَارِ وَالْآخَرُ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَإِنَّهُمَا تَهَاجَيَا فَكَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غُوَاةٌ مِنْ قَوْمِهِ وَهُمُ السُّفَهَاءُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَكْثَرُ قَوْلِهِمْ يَكْذِبُونَ فِيهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَبَجَّحُونَ بِأَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ لَمْ تَصْدُرْ مِنْهُمْ وَلَا عَنْهُمْ فَيَتَكَثَّرُونَ بِمَا لَيْسَ لَهُمْ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا يَرِيهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه هذا القرآن ليس بكاهن ولا شاعر، لِأَنَّ حَالَهُ مُنَافٍ لِحَالِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ ظَاهِرَةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَبِّ الْعَالَمِينَ} وهكذا قال ههنا: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ، إِلَى أَنْ قَالَ: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السمع لمعزلون} ، إِلَى أَنْ قَالَ: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ؟ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ *(2/663)
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ؟ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} . وَقَوْلُهُ: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً} الآية.
قال محمد بن إسحاق: لَمَّا نَزَلَتْ {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} جَاءَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وهم يبكون قالوا: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ حِينَ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ أَنَّا شُعَرَاءُ، فَتَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} قَالَ: «أَنْتُمْ» {وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً} قَالَ: «أَنْتُمْ» {وَانْتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} قَالَ: «أَنْتُمْ» (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ رِوَايَةِ ابن إسحاق) . وروي أيضاً عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} ، إلى قوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَدْ عَلِمَ الله أني منهم، فأنزل الله تعالى: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية، وهكذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وَغَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً} قِيلَ: مَعْنَاهُ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ، وَقِيلَ: فِي شِعْرِهِمْ، وكلاهما صحيح مكفر لما سبق، وقوله تعالى: {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَرُدُّونَ عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يَهْجُونَ به المؤمنين؛ وَهَذَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَسَّانَ: «اهْجُهُمْ - أَوْ قَالَ - هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ» . وَقَالَ الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قَدْ أنزل في الشعراء ما أنزل، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَكَأَنَّ مَا تَرْمُونَهُمْ بِهِ نَضْحُ النَّبْلِ» (أخرجه الإمام أحمد في المسند) ، وقوله تعالى: {وَسَيَعْلَمْ الذين ظَلَمُواْ أي مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} ، كقوله تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ} الآية، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، قال قتادة: يعني من الشعراء وغيرهم وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمْ أَهْلُ مَكَّةَ، وَقِيلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ ظَالِمٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ حاتم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَتَبَ أبي في وَصِيَّتَهُ سَطْرَيْنِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا وصى بِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الدُّنْيَا حِينَ يُؤْمِنُ الْكَافِرُ، وَيَنْتَهِي الْفَاجِرُ، وَيَصْدُقُ الْكَاذِبُ، إِنِّي اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَإِنْ يَعْدِلْ فَذَاكَ ظَنِّي بِهِ ورجائي فيه، وإن يجر ويبذل فَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ {وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبٍ ينقلبون} .(2/664)
- 27 - سورة النمل(2/665)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ
- 2 - هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ
- 3 - الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
- 4 - إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ
- 5 - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ
- 6 - وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ} أَيْ هَذِهِ آيَاتُ {الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٌ} أَيْ بيَّن وَاضِحٍ، {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أَيْ إِنَّمَا تَحْصُلُ الْهِدَايَةُ وَالْبِشَارَةُ مِنَ الْقُرْآنِ، لِمَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ
الْمَكْتُوبَةَ، وَآتَى الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وأيقن بِالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} الآية، وقال تعالى: {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} ، ولهذا قال تعالى ههنا: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} أَيْ يُكَذِّبُونَ بِهَا وَيَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَهَا، {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} أَيْ حَسَّنَّا لَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ، وَمَدَدْنَا لَهُمْ فِي غَيِّهِمْ، فَهُمْ يَتِيهُونَ فِي ضلالهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} الآية، {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} أي ليس يخسر سواهم من أهل المحشر، وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} أي {وَإِنَّكَ} يا محمد {لَتُلَقَّى} أَيْ لَتَأْخُذُ {الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٌ} أَيْ مِنْ عِنْدِ حَكِيمٌ عَلِيمٌ أَيْ حكيم في أمره ونهيه، عَلِيمٌ بِالْأُمُورِ جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا، فَخَبَرُهُ هُوَ الصِّدْقُ الْمَحْضُ، وَحُكْمُهُ هُوَ الْعَدْلُ التَّامُّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} .(2/665)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
- 7 - إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ(2/665)
تَصْطَلُونَ
- 8 - فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
- 9 - يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
- 10 - وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ
- 11 - إِلاَّ مَن ظُلِمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ
- 12 - وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ
- 13 - فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ
- 14 - وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُذَكِّرًا لَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ مُوسَى عليه السلام، كَيْفَ اصْطَفَاهُ اللَّهُ وَكَلَّمَهُ وَنَاجَاهُ، وَأَعْطَاهُ مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الْبَاهِرَةِ وَالْأَدِلَّةِ الْقَاهِرَةِ، وَابْتَعَثَهُ إِلَى فرعون وملئه فجحدوا بها وكفروا، فَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ} أَيِ اذْكُرْ حِينَ سَارَ مُوسَى بِأَهْلِهِ فَأَضَلَّ الطَّرِيقَ وَذَلِكَ فِي لَيْلٍ وَظَلَامٍ، فَآنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا، أَيْ رَأَى نَارًا تَأَجَّجُ وَتَضْطَرِمُ، فَقَالَ: {لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} أي عن الطريق، {أَوْ آتيكم منها بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي تستدفئون بِهِ وَكَانَ كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُ رَجَعَ مِنْهَا بِخَبَرٍ عَظِيمٍ، وَاقْتَبَسَ مِنْهَا نُورًا عَظِيمًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} أَيْ فَلَمَّا أتاها ورأى مَنْظَرًا هَائِلًا عَظِيمًا، حَيْثُ انْتَهَى إِلَيْهَا وَالنَّارُ تَضْطَرِمُ فِي شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ، لَا تَزْدَادُ النَّارُ إِلَّا تَوَقُّدًا، وَلَا تَزْدَادُ الشَّجَرَةُ إِلَّا خُضْرَةً وَنَضْرَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا نُورُهَا مُتَّصِلٌ بِعَنَانِ السَّمَاءِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: لَمْ تكن ناراً وإنما كانت نوراً يتوهج، وفي رواية عنه نُورُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَوَقَفَ مُوسَى مُتَعَجِّبًا مِمَّا رَأَى {فَنُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ} قال ابن عباس: تقدس {وَمَنْ حَوْلَهَا} أي من الملائكة، روى ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يُخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ» ، زَادَ الْمَسْعُودِيُّ: «وَحِجَابُهُ النُّورُ أَوِ النَّارُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وجهه كل شيء أدرك بَصَرُهُ» ثُمَّ قَرَأَ أَبُو عُبَيْدَةَ {أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا} (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري وأصل الحديث في صحيح مسلم) ، وقوله تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيِ الَّذِي يَفْعَلُ ما يشاء ولا يشبهه شيء مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ مَصْنُوعَاتِهِ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ الْمُبَايِنُ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، ولا يكتنفه الأرض والسماوات، بَلْ هُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الْمُنَزَّهُ عَنْ مُمَاثَلَةِ المحدثات. وقوله تعالى: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أَعْلَمَهُ أَنَّ الَّذِي يُخَاطِبُهُ وَيُنَاجِيهِ هُوَ رَبُّهُ، الْعَزِيزُ الَّذِي عزَّ كُلَّ شَيْءٍ وَقَهَرَهُ وَغَلَبَهُ، الحكيم في أقواله وأفعاله، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يُلْقِيَ عَصَاهُ مِنْ يَدِهِ، لِيُظْهِرَ لَهُ دَلِيلًا وَاضِحًا عَلَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمَّا أَلْقَى مُوسَى تِلْكَ الْعَصَا مِنْ يَدِهِ انْقَلَبَتْ فِي الْحَالِ حَيَّةً عَظِيمَةً هَائِلَةً فِي غَايَةِ الْكِبَرِ وسرعة الحركة مع ذلك، ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} وَالْجَانُّ ضَرْبٌ(2/666)
من الحيات أسرعه حركة وأكثره اضطراباً، فَلَمَّا عَايَنَ مُوسَى ذَلِكَ {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} أَيْ لَمْ يَلْتَفِتْ مِنْ شِدَّةِ فَرَقِهِ {يَا مُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} أَيْ لَا تَخَفْ مِمَّا تَرَى فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَصْطَفِيَكَ رَسُولًا، وَأَجْعَلَكَ نَبِيًّا وجيهاً، وقوله تعالى: {إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَفِيهِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْبَشَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ كان على عمل سيء، ثم أقلع عنه ورجع وتاب وَأَنَابَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى} ، وقوله تَعَالَى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} هَذِهِ آيَةٌ أُخْرَى وَدَلِيلٌ بَاهِرٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ وَصِدْقِ مَنْ جَعَلَ لَهُ مُعْجِزَةً، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي جَيْبِ دِرْعِهِ، فَإِذَا أَدْخَلَهَا وَأَخْرَجَهَا خَرَجَتْ بَيْضَاءَ سَاطِعَةً كَأَنَّهَا قطعة قمر، لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف، وقوله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} أَيْ هَاتَانِ ثِنْتَانِ مِنْ تِسْعِ آيَاتٍ، أُؤَيِّدُكَ بِهِنَّ وَأَجْعَلُهُنَّ بُرْهَانًا لَكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} وهذه هي الآيات التسع التي قال تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} كما تقدم تقرير ذلك هنالك، وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} أَيْ بَيِّنَةً وَاضِحَةً ظاهرة {قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} أَيْ عَلِمُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهَا حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَكِنْ جَحَدُوهَا وَعَانَدُوهَا وَكَابَرُوهَا {ظُلْماً وَعُلُوّاً} ، أي ظلماً من أنفسهم {وَعُلُوّاً} أَيِ اسْتِكْبَارًا عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَلِهَذَا قال تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أَيِ انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ أمرهم في إهلاك الله إياهم، وفحوى الخطاب، يقول: احذروا أيها المكذبون لمحمد الْجَاحِدُونَ لِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ رَبِّهِ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، فَإِنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم أَشْرَفُ وَأَعْظَمُ مِنْ مُوسَى، وَبُرْهَانُهُ أَدَلُّ وَأَقْوَى من برهان موسى، عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ.(2/667)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
- 15 - وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ
- 16 - وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ
- 17 - وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ
- 18 - حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
- 19 - فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا أَنْعَمَ بِهِ عَلَى عَبْدَيْهِ وَنَبِيَّيْهِ (دَاوُدَ) وَابْنِهِ (سليمان) عليهما السَّلَامُ، مِن النِّعَمِ الْجَزِيلَةِ وَالْمَوَاهِبِ الْجَلِيلَةِ، وَالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ، وَمَا جَمَعَ لَهُمَا بَيْنَ سَعَادَةِ الدُّنْيَا والآخرة، والملك والنبوة، ولهذا قال تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عباده المؤمنين} ، وقوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} أَيْ فِي الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ وِرَاثَةَ الْمَالِ إِذْ لَوْ كَانَ كذلك لم يخص سليمان وحده بين سائر أولاد داود، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ وِرَاثَةُ الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا تُوَرَّثُ أَمْوَالُهُمْ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2/667)
في قوله: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقة،» {وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} أَيْ أَخْبَرَ سُلَيْمَانُ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِيمَا وَهَبَهُ لَهُ مِنَ الْمُلْكِ التَّامِّ وَالتَّمْكِينِ الْعَظِيمِ، حَتَّى إِنَّهُ سَخَّرَ لَهُ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَالطَّيْرَ؛ وَكَانَ يَعْرِفُ لُغَةَ الطير والحيوان أيضاً على اختلاف أصنافها، ولهذا قال تعالى: {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} أي ما يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَلِكُ، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ المبين} أي الظاهر البين لله علينا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} أَيْ وَجُمِعَ لِسُلَيْمَانَ وجنوده مِنَ الْجِنِّ، وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ، يَعْنِي رَكِبَ فِيهِمْ فِي أُبَّهَةٍ وَعَظَمَةٍ كَبِيرَةٍ، فِي الْإِنْسِ وَكَانُوا هم الذين يلونه، والجن وهم بعدهم فِي الْمَنْزِلَةِ، وَالطَّيْرُ وَمَنْزِلَتُهَا فَوْقَ رَأْسِهِ، فَإِنْ كَانَ حَرٌّ أَظَلَّتْهُ مِنْهُ بِأَجْنِحَتِهَا، وَقَوْلُهُ {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أَيْ يَكُفُّ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ لِئَلَّا يتقدم أحد عن منزلته، قَالَ مُجَاهِدٌ: جَعَلَ عَلَى كُلِّ صِنْفٍ وَزَعَةً لئلا يتقدموا في السير كما يفعل الملوك اليوم.
وقوله تعالى: {حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النَّمْلِ} أَيْ حَتَّى إِذَا مَرَّ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ وَالْجُنُودِ عَلَى وَادِي النَّمْلِ {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أَيْ خَافَتْ عَلَى النَّمْلِ أَنْ تَحْطِمَهَا الْخُيُولُ بحوافرها فأمرتهم بالدخول إلى مساكنهم، فَفَهِمَ ذَلِكَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهَا، {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} ، أَيْ أَلْهِمْنِي أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي مَنَنْتَ بِهَا عَلَيَّ مِنْ تَعْلِيمِي مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَالْحَيَوَانِ، وَعَلَى وَالِدَيَّ بِالْإِسْلَامِ لَكَ، وَالْإِيمَانِ بِكَ {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} أَيْ عَمَلًا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ، {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} أَيْ إِذَا تَوَفَّيْتَنِي فَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من عبادك، والرفيق الأعلى من أوليائك. وَالْغَرَضُ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهِمَ قَوْلَهَا وَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ جداً، وقد روى ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي الصَّدِيقِ النَّاجِيِّ قَالَ: خَرَجَ سُلَيْمَانُ بن داود عليهما السَّلَامُ يَسْتَسْقِي، فَإِذَا هُوَ بِنَمْلَةٍ مُسْتَلْقِيَةٍ عَلَى ظهرها رفعة قَوَائِمِهَا إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِكَ، وَلَا غِنَى بِنَا عَنْ سقياك، وإلاّ تسقنا تهلكنا، فقال سليمان: ارْجِعُوا فَقَدْ سُقِيتُمْ بِدَعْوَةِ غَيْرِكُمْ. وَقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَرَصَتْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَمْلَةٌ فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، أَفِي أَنْ قَرْصَتْكَ نَمْلَةٌ أَهْلَكْتَ أُمَّةً من الأمم تسبّح؟ فهلا نملة واحدة؟» (أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً) .(2/668)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
- 20 - وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ
- 21 - لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٌ
قال ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: كَانَ الْهُدْهُدُ مُهَنْدِسًا يَدُلُّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمَاءِ، إِذَا كَانَ بِأَرْضِ فَلَاةٍ طَلَبَهُ فَنَظَرَ لَهُ الْمَاءَ فِي تخوم الْأَرْضِ، فَإِذَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ أَمَرَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْجَانَّ فَحَفَرُوا لَهُ ذَلِكَ الْمَكَانَ، حَتَّى يَسْتَنْبِطَ الْمَاءَ مِنْ قَرَارِهِ، فَنَزَلَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمًا بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ فَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ لِيَرَى الْهُدْهُدَ فَلَمْ يَرَهُ {فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} حدث يوماً ابن عَبَّاسٍ بِنَحْوِ هَذَا وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ يُقَالُ لَهُ (نَافِعُ(2/668)
بْنُ الْأَزْرَقِ) وَكَانَ كَثِيرَ الِاعْتِرَاضِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ: قِفْ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ غُلِبْتَ الْيَوْمَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: إِنَّكَ تُخْبِرُ أن الهدهد يَرَى الْمَاءَ فِي تُخُومِ الْأَرْضِ، وَإِنَّ الصَّبِيَّ لَيَضَعُ لَهُ الْحَبَّةَ فِي الْفَخِّ، وَيَحْثُو عَلَى الْفَخِّ تُرَابًا فَيَجِيءُ الْهُدْهُدُ لِيَأْخُذَهَا فَيَقَعُ فِي الْفَخِّ فَيَصِيدُهُ الصَّبِيُّ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْلَا أَنْ يَذْهَبَ هَذَا فَيَقُولُ رَدَدْتُ عَلَى ابْنِ عباس لما أجبته، ثُمَّ قَالَ لَهُ: وَيْحَكَ إِنَّهُ إِذَا نَزَلَ الْقَدَرُ عَمِيَ الْبَصَرُ وَذَهَبَ الْحَذَرُ، فَقَالَ لَهُ نَافِعٌ: وَاللَّهِ لَا أُجَادِلُكَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَبَدًا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا غَدَا إِلَى مَجْلِسِهِ الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ فِيهِ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ، وَكَانَ فِيمَا يَزْعُمُونَ يَأْتِيهِ نُوَبٌ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الطَّيْرِ كُلَّ يَوْمٍ طَائِرٌ، فَنَظَرَ فَرَأَى مِنْ أَصْنَافِ الطَّيْرِ كُلِّهَا مَنْ حَضَرَهُ إِلَّا الْهُدْهُدَ {فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} أَخْطَأَهُ بَصَرِي مِنَ الطَّيْرِ أَمْ غَابَ فَلَمْ يَحْضُرْ؟ وَقَوْلُهُ: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} قال ابن عباس يعني نتف ريشه، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ إِنَّهُ نَتْفُ رِيشِهِ وَتَرْكُهُ مُلْقًى يَأْكُلُهُ الذَّرُّ وَالنَّمْلُ، وَقَوْلُهُ: {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} يَعْنِي قَتْلَهُ {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} بعذر بين واضح، وقال سفيان بن عيينه: لما أقدم الهدهد قالت لَهُ الطَّيْرُ: مَا خَلَّفَكَ فَقَدْ نَذَرَ سُلَيْمَانُ دمك، فقال: هل استثنى؟ قالوا: نَعَمْ، قَالَ: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} قال: نجوت إذاً.(2/669)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
- 22 - فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ
- 23 - إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ
- 24 - وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ
- 25 - أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ
- 26 - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
يَقُولُ تَعَالَى: {فَمَكَثَ} الْهُدْهُدُ {غَيْرَ بَعِيدٍ} أَيْ غَابَ زَمَانًا يَسِيرًا ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ لِسُلَيْمَانَ: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} أَيْ اطَّلَعْتُ عَلَى مَا لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَنْتَ وَلَا جُنُودُكَ {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} أَيْ بخبر صدق حق يقين، وسبأ هم مُلُوكُ الْيَمَنِ، ثُمَّ قَالَ: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} قال الحسن البصري: وهي بلقيس نبت شراحيل ملكة سبأ، وعن قتادة في قوله تعالى: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} كَانَتْ مِنْ بَيْتِ مملكة وكان أولو مشورتها ثلثمائة وَاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ رَجُلٍ، وَكَانَتْ بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا (مأرب) على ثلاثة أميال من صنعاء، وَقَوْلُهُ: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} أَيْ مِنْ متاع الدنيا مما يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَلِكُ الْمُتَمَكِّنُ {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} يَعْنِي سَرِيرٌ تَجْلِسُ عَلَيْهِ عَظِيمٌ هَائِلٌ، مُزَخْرَفٌ بالذهب وأنواع الجواهر واللآلئ، قَالَ عُلَمَاءُ التَّارِيخِ: وَكَانَ هَذَا السَّرِيرُ فِي قصر عظيم مشيد رفيع البناء محكم، وكان فيه ثلثمائة وستون طاقة من مشرقه، ومثلها من مغربه، وقد وُضِعَ بِنَاؤُهُ عَلَى أَنْ تَدْخُلَ الشَّمْسُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ طَاقَةٍ وَتَغْرُبَ مِنْ مُقَابَلَتِهَا فَيَسْجُدُونَ لَهَا صَبَاحًا وَمَسَاءً، وَلِهَذَا قَالَ: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} أَيْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ {فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ} ، وَقَوْلُهُ: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ} أَيْ لَا يَعْرِفُونَ سَبِيلَ الْحَقِّ الَّتِي هِيَ إِخْلَاصُ السُّجُودِ لِلَّهِ وَحْدَهُ دُونَ ما خلق مِنَ الْكَوَاكِبِ وَغَيْرِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ، وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تعبدون} .(2/669)
وقوله تعالى: {الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْلَمُ كُلَّ خَبِيئَةٍ فِي السَّمَاءِ والأرض، وقال سعيد بن المسيب: الخبء الماء، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: خبء السماوات والأرض ما جعل فيهما مِنَ الْأَرْزَاقِ، الْمَطَرُ مِنَ السَّمَاءِ وَالنَّبَاتُ مِنَ الْأَرْضِ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ مِنْ كَلَامِ الْهُدْهُدِ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْخَاصِّيَّةِ مَا ذَكَرَهُ ابن عباس وغيره أَنَّهُ يَرَى الْمَاءَ يَجْرِي فِي تُخُومِ الْأَرْضِ وداخلها، وَقَوْلُهُ: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} أَيْ يَعْلَمُ مَا يُخْفِيهِ الْعِبَادُ وَمَا يُعْلِنُونَهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} ، وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} الَّذِي لَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَلَمَّا كَانَ الْهُدْهُدُ دَاعِيًا إِلَى الْخَيْرِ، وعبادة الله وحده، نهي عن قتله، كما رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ والهدهد والصرد (أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه قال ابن كثير: وإسناده صحيح) .(2/670)
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
- 27 - قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
- 28 - اذْهَبْ بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ
- 29 - قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ
- 30 - إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
- 31 - أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مسلمين
يقول تعالى مخبراً عن قيل سليمان للهدهد، حين أخبره عن أهل سبأ وملكهم {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أَيْ أَصْدَقْتَ فِي إِخْبَارِكَ هَذَا {أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين} في مقالتك لتتخلص مِنَ الْوَعِيدِ الَّذِي أَوْعَدْتُكَ؟ {اذْهَبْ بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} ، وَذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَتَبَ كتاباً إلى بلقيس وقومها، وأعطاه ذلك الهدهد فحمله وَذَهَبَ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَجَاءَ إِلَى قَصْرِ بِلْقِيسَ فَأَلْقَاهُ إِلَيْهَا مِنْ كُوَّةٍ هُنَالِكَ بَيْنَ يَدَيْهَا، ثُمَّ تَوَلَّى نَاحِيَةً أَدَبًا وَرِيَاسَةً فَتَحَيَّرَتْ مِمَّا رَأَتْ وَهَالَهَا ذَلِكَ ثُمَّ عَمَدَتْ إِلَى الْكِتَابِ فأخذته ففتحت ختمه وقرأنه، فَإِذَا فِيهِ: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} فَجَمَعَتْ عِنْدَ ذَلِكَ أُمَرَاءَهَا وَوُزَرَاءَهَا وَكُبَرَاءَ دولتها ثُمَّ قَالَتْ لَهُمْ: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} تَعْنِي بِكَرَمِهِ مَا رأته من عجيب أمره، كون طائر ذهب بِهِ فَأَلْقَاهُ إِلَيْهَا ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهَا أَدَبًا وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُلُوكِ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ ثُمَّ قَرَأَتْهُ عَلَيْهِمْ {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} فَعَرَفُوا أَنَّهُ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ عليه السلام، وَأَنَّهُ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ وَهَذَا الْكِتَابُ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ وَالْوَجَازَةِ وَالْفَصَاحَةِ فَإِنَّهُ حَصَّلَ المعنى بأيسر عبارة وأحسنها. قال العلماء: لم يَكْتُبْ أَحَدٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَبْلَ سليمان عليه السلام. وقوله: {أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ} قال قتادة يقول: لا تتجبروا علي {وأتوني مسلمين} ، وقال ابن أَسْلَمَ: لَا تَمْتَنِعُوا وَلَا تَتَكَبَّرُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُوَحِّدِينَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مُخْلِصِينَ، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: طَائِعِينَ.(2/670)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
- 32 - قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ
- 33 - قَالُوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس(2/670)
شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ
- 34 - قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ
- 35 - وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ
لَمَّا قَرَأَتْ عَلَيْهِمْ كِتَابَ سُلَيْمَانَ اسْتِشَارَتْهُمْ فِي أَمْرِهَا وَمَا قَدْ نَزَلَ بِهَا، وَلِهَذَا قَالَتْ: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} أَيْ حَتَّى تَحْضُرُونَ وتشيرون {قَالُواْ نحن أولوا قوة وأولوا بَأْسٌ شَدِيدٌ} أي منّوا عليها بِعَدَدِهِمْ وَعَدَدِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، ثُمَّ فَوَّضُوا إِلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْأَمْرَ فَقَالُوا: {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} ؟ أي نحن أشداء إن شئت أن تقصديه أو تحاربيه فَمَا لَنَا عَاقَةٌ عَنْهُ، وَبَعْدَ هَذَا فَالْأَمْرُ إليك، مري فينا رأيك نمتثله ونطيعه، قال الحسن البصري: فَوَّضُوا أَمْرَهُمْ إِلَى عِلْجَةٍ تَضْطَرِبُ ثَدْيَاهَا، فَلَمَّا قَالُوا لَهَا مَا قَالُوا كَانَتْ هِيَ أَحْزَمَ رَأْيًا مِنْهُمْ وَأَعْلَمَ بِأَمْرِ سُلَيْمَانَ، وَأَنَّهُ لَا قِبَلَ لَهَا بِجُنُودِهِ وَجُيُوشِهِ وَمَا سُخِّرَ لَهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ، وَقَدْ شَاهَدَتْ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ مَعَ الْهُدْهُدِ أَمْرًا عَجِيبًا بَدِيعًا فَقَالَتْ لَهُمْ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ نُحَارِبَهُ وَنَمْتَنِعَ عَلَيْهِ، فَيَقْصِدَنَا بِجُنُودِهِ وَيُهْلِكَنَا بِمَنْ مَعَهُ، وَيَخْلُصَ إِلَيَّ وَإِلَيْكُمُ الْهَلَاكُ وَالدَّمَارُ دُونَ غَيْرِنَا؛ وَلِهَذَا قَالَتْ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ إِذَا دَخَلُوا بَلَدًا عُنْوَةً أَفْسَدُوهُ أَيْ خَرَّبُوهُ، {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} أَيْ وَقَصَدُوا مَنْ فِيهَا مِنَ الْوُلَاةِ وَالْجُنُودِ فَأَهَانُوهُمْ غَايَةَ الْهَوَانِ إِمَّا بِالْقَتْلِ أَوْ بِالْأَسْرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَتْ بِلْقِيسُ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} ، قَالَ الرَّبَّ عزَّ وجلَّ: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} ، ثم عدلت إلى المصالحة والمهادنة والمسالمة فَقَالَتْ: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} أَيْ سَأَبْعَثُ إِلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ تَلِيقُ بمثله، وَأَنْظُرُ مَاذَا يَكُونُ جَوَابُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَعَلَّهُ يقبل ذلك منا وَيَكُفُّ عَنَّا، أَوْ يَضْرِبُ عَلَيْنَا خَرَاجًا نَحْمِلُهُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ، وَنَلْتَزِمُ لَهُ بِذَلِكَ ويترك قتالنا ومحاربتنا، قال قتادة: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها، عَلِمَتْ أَنَّ الْهَدِيَّةَ تَقَعُ مَوْقِعًا مِنَ النَّاسِ، وقال ابن عباس: قَالَتْ لِقَوْمِهَا: إِنْ قَبِلَ الْهَدِيَّةَ فَهُوَ مَلِكٌ فَقَاتِلُوهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا فَهُوَ نَبِيٌّ فَاتَّبِعُوهُ.(2/671)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
- 36 - فلما جاء سليمان قال أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ
- 37 - ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ
ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ المفسرين أَنَّهَا بَعَثَتْ إِلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ عَظِيمَةٍ، مِنْ ذَهَبٍ وجواهر ولآلئ وغير ذلك، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِآنِيَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فلم ينظر سليمان إِلَى مَا جَاءُوا بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا اعْتَنَى بِهِ بَلْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَقَالَ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ؟} أَيْ أَتُصَانِعُونَنِي بِمَالٍ لِأَتْرُكَكُمْ عَلَى شركم وَمُلْكِكُمْ؟ {فَمَآ آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} أَيِ الَّذِي أَعْطَانِي اللَّهُ مِنَ الْمُلْكِ وَالْمَالِ وَالْجُنُودِ، خَيْرٌ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ {بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} أي أنتم الذي تَنْقَادُونَ لِلْهَدَايَا وَالتُّحَفِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَقْبَلُ منكم إلاّ الإسلام أو السيف، قال ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَمَرَ سُلَيْمَانُ الشَّيَاطِينَ فَمَوَّهُوا لَهُ أَلْفَ قَصْرٍ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، فَلَمَّا رَأَتْ رُسُلُهَا ذَلِكَ قَالُوا: مَا يصنع هذا بهديتنا؟ وفي هذا جَوَازِ تَهَيُّؤِ الْمُلُوكِ وَإِظْهَارِهِمُ الزِّينَةَ لِلرُّسُلِ وَالْقُصَّادِ {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} أَيْ بِهَدِيَّتِهِمْ، {فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أَيْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بقتالهم {وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أذلة} أي ولنخرجهم من بلدتهم أَذِلَّةً، {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أَيْ مُهَانُونَ مَدْحُورُونَ، فَلَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهَا رُسُلُهَا بِهَدِيَّتِهَا وَبِمَا قَالَ سُلَيْمَانُ سَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ هِيَ وَقَوْمُهَا، وَأَقْبَلَتْ تَسِيرُ إِلَيْهِ فِي جُنُودِهَا خَاضِعَةً(2/671)
ذَلِيلَةً مُعَظِّمَةً لِسُلَيْمَانَ نَاوِيَةً مُتَابَعَتَهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَمَّا تَحَقَّقَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قُدُومَهُمْ عَلَيْهِ وَوُفُودَهُمْ إِلَيْهِ فَرِحَ بِذَلِكَ وَسَرَّهُ.(2/672)
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
- 38 - قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
- 39 - قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ
- 40 - قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ
قال محمد بن إسحاق: فَلَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهَا الرُّسُلُ بِمَا قَالَ سُلَيْمَانُ قَالَتْ: قَدْ وَاللَّهِ عَرَفْتُ مَا هَذَا بِمَلِكٍ وَمَا لَنَا بِهِ مِنْ طَاقَةٍ، وَمَا نَصْنَعُ بمكابرته شَيْئًا، وَبَعَثَتْ إِلَيْهِ إِنِّي قَادِمَةٌ عَلَيْكَ بِمُلُوكِ قَوْمِي لِأَنْظُرَ مَا أَمْرُكَ وَمَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِنْ دِينِكَ، ثُمَّ أَمَرَتْ بِسَرِيرِ مُلْكِهَا الَّذِي كَانَتْ تَجْلِسُ عَلَيْهِ، وَكَانَ مِنْ ذَهَبٍ مُفَصَّصٍ بِالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ وَاللُّؤْلُؤِ فَجُعِلَ فِي سَبْعَةِ أَبْيَاتٍ، ثُمَّ أَقْفَلَتْ عَلَيْهِ الْأَبْوَابَ، ثُمَّ قَالَتْ: لِمَنْ خلفت على سطلنها احْتَفِظْ بِمَا قِبَلَكَ وَسَرِيرِ مُلْكِي، فَلَا يَخْلُصُ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَلَا يَرَيَنَّهُ أَحَدٌ حَتَّى آتِيَكَ، ثُمَّ شَخَصَتْ إِلَى سُلَيْمَانَ في اثني عشر ألف فَجَعَلَ سُلَيْمَانُ يَبْعَثُ الْجِنَّ يَأْتُونَهُ بِمَسِيرِهَا وَمُنْتَهَاهَا كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، حَتَّى إِذَا دَنَتْ جَمَعَ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مِمَّنْ تَحْتَ يده، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} . وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا بَلَغَ سُلَيْمَانَ أَنَّهَا جَائِيَةٌ وَكَانَ قَدْ ذُكِرَ لَهُ عَرْشُهَا فَأَعْجَبَهُ، وَكَانَ مَنْ ذَهَبٍ وَقَوَائِمُهُ لُؤْلُؤٌ وَجَوْهَرٌ، وَكَانَ مُسَتَّرًا بِالدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ، وَكَانَتْ عَلَيْهِ تِسْعَةُ مَغَالِيقَ فَكَرِهَ أَنْ يَأْخُذَهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، وَقَدْ عَلِمَ نَبِيُّ اللَّهِ أَنَّهُمْ مَتَى أسلموا تحرم أموالهم ودمائهم، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} ، وَهَكَذَا قَالَ عَطَاءٌ الخُراساني والسدي {قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} فَتَحْرُمُ عَلَيَّ أَمْوَالُهُمْ بإسلامهم، {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن} أي مارد مِنَ الْجِنِّ، {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَّقَامِكَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَجْلِسِكَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَقْعَدِكَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ يَجْلِسُ لِلنَّاسِ للقضاء والحكومات مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ، {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أي قوي على حمله {أمين} على مافيه مِنَ الْجَوْهَرِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أُرِيدُ أعجل من ذلك، وَمَن ههنا يظهر أن سُلَيْمَانَ أَرَادَ بِإِحْضَارِ هَذَا السَّرِيرِ إِظْهَارَ عَظَمَةِ ما وهب الله له من الملك، وما سخر لَهُ مِنَ الْجُنُودِ الَّذِي لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ، وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَلِيَتَّخِذَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى نُبُوَّتِهِ عِنْدَ بِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا، لِأَنَّ هَذَا خَارِقٌ عَظِيمٌ، أَنْ يَأْتِيَ بِعَرْشِهَا كَمَا هُوَ مِنْ بِلَادِهَا قَبْلَ أَنْ يَقْدَمُوا عَلَيْهِ، هَذَا وَقَدْ حَجَبَتْهُ بِالْأَغْلَاقِ وَالْأَقْفَالِ وَالْحَفَظَةِ، فَلَمَّا قَالَ سُلَيْمَانُ أُرِيدُ أَعْجَلَ مِنْ ذَلِكَ، {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ} قَالَ ابن عباس: وهو (آصف) كاتب سليمان عليه السلام.
وكذا روي عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ أَنَّهُ (آصِفُ بْنُ بَرْخِيَاءَ) وَكَانَ صِدِّيقًا يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ مُؤْمِنًا مِنَ الْإِنْسِ وَاسْمُهُ آصِفُ (وكذا قال أبو صالح والضحاك وزاد قتادة: كان مؤمناً من بني إسرائيل) من بني إسرائيل، وَقَوْلُهُ: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} أي ارفع(2/672)
بصرك وانظر فإنه لَا يَكِلُّ بَصَرُكَ إِلَّا وَهُوَ حَاضِرٌ عِنْدَكَ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: امْدُدْ بَصَرَكَ فَلَا يبلغ مداه حتى آتيك به، ثم قام فتوضأ ودعا الله تعالى، قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ قَالَ: يَا إِلَهَنَا وَإِلَهَ كُلِّ شَيْءٍ إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ائتني بعرشها، قال: فمثل بين يديه، فَلَمَّا عَايَنَ سُلَيْمَانُ وَمَلَؤُهُ ذَلِكَ وَرَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ {قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي} أَيْ هذا من نعم
الله علي {ليبلوني} لِيَخْتَبِرَنِي {أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} ، كَقَوْلِهِ: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} ، وكقوله: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} ، وَقَوْلُهُ: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} أَيْ هُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْعِبَادِ وَعِبَادَتِهِمْ، كَرِيمٌ: أَيْ كَرِيمٌ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْبُدْهُ أَحَدٌ، فَإِنَّ عَظَمَتَهُ لَيْسَتْ مُفْتَقِرَةً إِلَى أَحَدٍ، وَهَذَا كَمَا قَالَ مُوسَى: {إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمِنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومُنَّ إِلَّا نَفْسَهُ".(2/673)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
- 41 - قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ
- 42 - فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ
- 43 - وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ
- 44 - قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
لَمَّا جِيءَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَرْشِ بِلْقِيسَ قَبْلَ قُدُومِهَا، أَمَرَ بِهِ أَنْ يُغَيَّرَ بَعْضُ صِفَاتِهِ لِيَخْتَبِرَ مَعْرِفَتَهَا وَثَبَاتَهَا عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، هَلْ تُقْدِمُ عَلَى أَنَّهُ عَرْشُهَا أو أنه ليس بعرشها، فَقَالَ: {نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ} قال مجاهد: أمر به فغير ما كان فيه أَحْمَرَ جُعِلَ أَصْفَرَ، وَمَا كَانَ أَصْفَرَ جُعِلَ أحمر، وما كان أخضر جعل أحمر، وغير كُلُّ شَيْءٍ عَنْ حَالِهِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: زَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا {فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ} أَيْ عُرِضَ عَلَيْهَا عَرْشُهَا وَقَدْ غُيِّرَ وَنُكِّرَ فِيهِ وَنُقِصَ مِنْهُ فَكَانَ فِيهَا ثَبَاتٌ وَعَقْلٌ، وَلَهَا لُبٌّ وَدَهَاءٌ وَحَزْمٌ، فَلَمْ تُقْدِمْ عَلَى أَنَّهُ هُوَ لِبُعْدِ مَسَافَتِهِ عَنْهَا وَلَا أَنَّهُ غَيْرُهُ لِمَا رَأَتْ مِنْ آثَارِهِ وَصِفَاتِهِ وَإِنْ غُيِّرَ وَبُدِّلَ وَنُكِّرَ، فَقَالَتْ: {كَأَنَّهُ هُوَ} أَيْ يشبهه ويقاربه، وهذا في غاية الذَّكَاءِ وَالْحَزْمِ. وَقَوْلُهُ: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} قال مجاهد: يقوله سليمان، وقوله تعالى: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} ، هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِ مجاهد أي قال لسليمان {أوتينا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} ، وَهِيَ كَانَتْ قَدْ صَدَّهَا أَيْ مَنَعَهَا مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ {مَا كَانَتْ تَعْبُدُ
مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قوم كافرين} (هذا الذي قاله مجاهد هو قول سعيد بن جبير وقد اختاره ابن جرير وابن كثير) .
قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا إِنَّمَا أَظْهَرَتِ الْإِسْلَامَ بَعْدَ دُخُولِهَا إِلَى الصَّرْحِ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَوْلُهُ: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي(2/673)
الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} ، وَذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ الشَّيَاطِينَ فَبَنَوْا لَهَا قَصْرًا عَظِيمًا مِنْ قَوَارِيرَ أَيْ مِنْ زُجَاجٍ، وَأَجْرَى تَحْتَهُ الْمَاءَ، فَالَّذِي لَا يَعْرِفُ أَمْرَهُ يَحْسَبُ أَنَّهُ مَاءٌ، وَلَكِنَّ الزجاج يحول بين الماشي وبينه، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ: ثُمَّ قَالَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ لِيُرِيَهَا مُلْكًا هُوَ أَعَزُّ مِنْ مُلْكِهَا، وَسُلْطَانًا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ سُلْطَانِهَا، فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً، وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا لَا تَشُكُّ أَنَّهُ مَاءٌ تَخُوضُهُ، فَقِيلَ لَهَا {إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ} فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَى سُلَيْمَانَ، دَعَاهَا إِلَى عبادة الله وحده وعاتبها في عبادة الشمس من دون الله، قَالَتْ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَأَسْلَمَتْ وَحَسُنَ إِسْلَامُهَا (روى ابن أبي شيبة أثراً غريباً عن ابن عباس ثم قال: مَا أحسنه من حديث، وقد ضربنا صفحاً عنه لغرابته ونكارته ولأنه من الإسرائيليات، وهو كما قال ابن كثير: منكر جداً من أوهام عطاء بن السائب عن ابن عباس) . وأصل الصَّرْحِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْقَصْرُ وَكُلُّ بِنَاءٍ مُرْتَفِعٍ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِخْبَارًا عن فرعون لعنه الله {ابن لي صرحا لعلي أَبْلُغُ الأسباب} الآية، وَالصَّرْحُ قَصْرٌ فِي الْيَمَنِ عَالِي الْبَنَّاءِ، وَالْمُمَرَّدُ الْمَبْنِيُّ بَنَّاءً مُحْكَمًا أَمْلَسَ {مِنْ قَوَارِيرَ} أَيْ زجاج، وَالْغَرَضُ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اتَّخَذَ قَصْرًا عَظِيمًا مَنِيفًا مِنْ زُجَاجٍ، لِهَذِهِ الْمَلِكَةِ لِيُرِيَهَا عَظَمَةَ سُلْطَانِهِ، وَتَمَكُّنِهِ، فَلَمَّا رَأَتْ مَا آتَاهُ الله وَجَلَالَةَ مَا هُوَ فِيهِ، وَتَبَصَّرَتْ فِي أَمْرِهِ انقادت لأمر الله تعالى وعرفت أنه نبي كريم، وملك عظيم، وأسلمت لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وَقَالَتْ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} أَيْ بِمَا سَلَفَ مِنْ كُفْرِهَا وَشِرْكِهَا وعبادتها وقومها لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ مُتَابَعَةً لِدِينِ سُلَيْمَانَ فِي عِبَادَتِهِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا.(2/674)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
- 45 - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ
- 46 - قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
- 47 - قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ ثَمُودَ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا مَعَ نَبِيِّهَا (صَالِحٍ) عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: مؤمن وكافر. {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} أَيْ لِمَ تَدْعُونَ بِحُضُورِ الْعَذَابِ وَلَا تَطْلُبُونَ مِنَ اللَّهِ رَحْمَتَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} أَيْ مَا رَأَيْنَا عَلَى وَجْهِكَ وَوُجُوهِ مَنِ اتَّبَعَكَ خَيْرًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لِشَقَائِهِمْ كَانَ لَا يُصِيبُ أَحَدًا مِنْهُمْ سُوءٌ إِلَّا قَالَ هَذَا مِنْ قِبَلِ صَالِحٍ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ مجاهد: تشاءموا بهم، وهذا كما قال الله تعالى إخباراً عن قوم فرعون {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ * قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندَ الله} أي بقضائه وقدره، وقال تعالى: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُواْ طَائِرُكُم معكم} الآية، وَقَالَ هَؤُلَاءِ: {اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ} أَيِ اللَّهُ يُجَازِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} قَالَ قَتَادَةُ: تُبْتَلُونَ بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ {تُفْتَنُونَ} أَيْ: تُسْتَدْرَجُونَ فِيمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الضلال.(2/674)
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
- 48 - وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ
- 49 - قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ
- 50 - وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
- 51 - فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ
- 52 - فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
- 53 - وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
يخبر تعالى عن طغاة ثمود ورؤوسهم، الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر، وعقروا النَّاقَةَ وَهَمُّوا بِقَتْلِ صَالِحٍ أَيْضًا، بِأَنْ يُبَيِّتُوهُ فِي أَهْلِهِ لَيْلًا فَيَقْتُلُوهُ غِيلَةً، ثُمَّ يَقُولُوا لِأَوْلِيَائِهِ مِنْ أَقْرَبِيهِ إِنَّهُمْ مَا عَلِمُوا بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ، وَإِنَّهُمْ لَصَادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرُوهُمْ بِهِ مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا ذَلِكَ. فَقَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ فِي المدينة} أي مدنية ثَمُودَ {تِسْعَةُ رَهْطٍ} أَيْ تِسْعَةُ نَفَرٍ {يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ} وَإِنَّمَا غَلَبَ هَؤُلَاءِ على أمر ثمود لأنهم كانوا كبراءهم ورؤساءهم، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ عَقَرُوا النَّاقَةَ أي الذين صدر ذلك عن رأيهم ومشورتهم قبحهم الله ولعنهم (قال السهيلي: ذكر النقاش التسعة الذين كانوا يُفْسِدُونَ فِي الأرض ولا يصلحون، وسماهم بأسمائهم، وذلك لا ينضبط برواية، ولا فيه كبير فائدة، غير أني أذكرهم على وجه الاجتهاد والتخمين، وهم: مصدع بن دهر، ويقال دهم، وقدار بن سالف، وهريم، وصواب، ورياب، وراب، ودعمي، وهي، ورعين بن عمرو) ، وَالْغَرَضُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةَ الْفَسَقَةَ كَانَ مِنْ صِفَاتِهِمُ الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ بِكُلِّ طَرِيقٍ يَقْدِرُونَ عليها.
وقوله تعالى: {قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} أَيْ تَحَالَفُوا وَتَبَايَعُوا عَلَى قَتْلِ نَبِيِّ اللَّهِ (صَالِحٍ) عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ لَقِيَهُ لَيْلًا غِيلَةً، فَكَادَهُمُ اللَّهُ وَجَعَلَ الدَّائِرَةَ عَلَيْهِمْ، قَالَ مُجَاهِدٌ: تَقَاسَمُوا وَتَحَالَفُوا عَلَى هَلَاكِهِ فَلَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ حَتَّى هَلَكُوا وقومهم أَجْمَعِينَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ هَؤُلَاءِ التِّسْعَةُ، بَعْدَمَا عَقَرُوا النَّاقَةَ هَلُمَّ فَلْنَقْتُلْ صَالِحًا، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا عَجَّلْنَاهُ قَبْلَنَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا كُنَّا قَدْ أَلْحَقْنَاهُ بِنَاقَتِهِ، فَأَتَوْهُ لَيْلًا لِيُبَيِّتُوهُ فِي أَهْلِهِ فَدَمْغَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْحِجَارَةِ، فَلَمَّا أبطأوا عَلَى أَصْحَابِهِمْ أَتَوْا مَنْزِلَ صَالِحٍ فَوَجَدُوهُمْ مُنْشَدِخِينَ وقد رُضِخُوا بِالْحِجَارَةِ، فَقَالُوا لِصَالِحٍ أَنْتَ قَتَلْتَهُمْ ثُمَّ هَمُّوا بِهِ، فَقَامَتْ عَشِيرَتُهُ دُونَهُ وَلَبِسُوا السِّلَاحَ، وَقَالُوا لَهُمْ: وَاللَّهِ لَا تَقْتُلُونَهُ أَبَدًا وَقَدْ وَعَدَكُمْ أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِكُمْ فِي ثَلَاثٍ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَا تَزِيدُوا رَبَّكُمْ عَلَيْكُمْ غَضَبًا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَأَنْتُمْ مِنْ وَرَاءِ مَا تُرِيدُونَ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُمْ لَيْلَتَهُمْ تِلْكَ. وَقَالَ ابن أبي حاتم: لما عقروا الناقة قال لَهُمْ صَالِحٌ: {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مكذوب} قَالُوا: زَعَمَ صَالِحٌ أَنَّهُ يُفْرُغُ مِنَّا إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَنَحْنُ نَفْرُغُ مِنْهُ وَأَهْلِهِ قَبْلَ ثَلَاثٍ، وَكَانَ لِصَالِحٍ مَسْجِدٌ فِي الْحِجْرِ عِنْدَ شِعْبٍ هُنَاكَ يُصَلِّي فِيهِ، فَخَرَجُوا إِلَى كَهْفٍ أَيْ غَارٍ هُنَاكَ لَيْلًا فَقَالُوا: إِذَا جَاءَ يُصَلِّي قَتَلْنَاهُ ثُمَّ رَجَعْنَا إِذَا فَرَغْنَا مِنْهُ إلى أهله، ففرغنا منهم، فبعث الله عليهم صَخْرَةً مِنَ الْهَضَبِ حِيَالَهُمْ، فَخَشُوا أَنْ تَشْدَخَهُمْ فَتَبَادَرُوا فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمُ الصَّخْرَةُ وَهُمْ فِي ذَلِكَ الْغَارِ، فَلَا يَدْرِي قَوْمُهُمْ أَيْنَ هُمْ، وَلَا يَدْرُونَ مَا فُعِلَ بِقَوْمِهِمْ: فَعَذَّبَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ ههنا وهؤلاء ههنا وَأَنْجَى اللَّهُ صَالِحًا وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} أَيْ فَارِغَةً لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ {بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ وكانوا يتقون} .(2/675)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
- 54 - وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ
- 55 - أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ
- 56 - فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ
- 57 - فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ
- 58 - وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ (لُوطٍ) عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَنْذَرَ قَوْمَهُ نِقْمَةَ اللَّهِ بِهِمْ فِي فِعْلِهِمُ الْفَاحِشَةَ، الَّتِي لَمْ يَسْبِقْهُمْ إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَهِيَ (إِتْيَانُ الذُّكُورِ) دُونَ الْإِنَاثِ، وَذَلِكَ فَاحِشَةٌ عَظِيمَةٌ اسْتَغْنَى الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءُ بالنساء، فقال: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} أَيْ يَرَى بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} أَيْ لَا تَعْرِفُونَ شَيْئًا لَا طَبْعًا وَلَا شَرْعًا كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عادون} {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أخرجوا آلَ داود مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أَيْ يَتَحَرَّجُونَ من فعل ما تفعلون ومن إقراركم على صنيعكم، فأخروهم مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَصْلُحُونَ لِمُجَاوَرَتِكُمْ فِي بِلَادِكُمْ، فَعَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ فَدَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} أَيْ مِنَ الْهَالِكِينَ مَعَ قَوْمِهَا، لِأَنَّهَا كَانَتْ رِدْءًا لَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَعَلَى طَرِيقَتِهِمْ فِي رِضَاهَا بِأَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، فَكَانَتْ تَدُلُّ قَوْمَهَا عَلَى ضِيفَانِ لوط ليأتوا إليهم، وقوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً} أَيْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ منضود، وَلِهَذَا قَالَ: {فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} أَيِ الَّذِينَ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَوَصَلَ إِلَيْهِمُ الْإِنْذَارُ، فَخَالَفُوا الرَّسُولَ وَكَذَّبُوهُ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ.(2/676)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
- 59 - قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصطفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يشركون
- 60 - أَمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أَيْ عَلَى نِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى وَعَلَى مَا اتَّصَفَ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْعُلَى وَالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَأَنْ يُسَلِّمَ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ اصْطَفَاهُمْ وَاخْتَارَهُمْ وَهُمْ رُسُلُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ الْكِرَامُ، عَلَيْهِمْ من الله أفضل الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، هَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أسلم هم الأنبياء، قال: وهو كقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالسُّدِّيُّ: هُمْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عنهم أجمعين (وروي نحو هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) ، وَلَا مُنَافَاةَ فَإِنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ اصْطَفَى فَالْأَنْبِيَاءُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَالْقَصْدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ وَمَنِ اتبعه أَنْ يَحْمَدُوهُ عَلَى جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، وَأَنْ يُسَلِّمُوا(2/676)
على عباده المصطفين الأخيار، وقد روى أبو بكر البزار عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} ؟ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمْ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى. ثُمَّ شَرَعَ تَعَالَى يُبَيِّنُ أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالتَّدْبِيرِ دُونَ غيره، فقال تعالى: {أَمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات} أي خلق تلك السماوات في ارتفاعها وَصَفَائِهَا، وَمَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَةِ، والنجوم الزاهرة، والأفلاك الدائرة، وخلق الأرض وما فيها من الجبال والأطواد والسهول والأوعار، والفيافي والقفار، والزروع والأشجار، والثمار والبحار، وَالْحَيَوَانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْنَافِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ وَغَيْرِ ذلك، وقوله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ مَآءً} أَيْ جَعَلَهُ رِزْقًا لِلْعِبَادِ {فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ} أَيْ بَسَاتِينَ {ذَاتَ بَهْجَةٍ} أَيْ مَنْظَرٍ حَسَنٍ وَشَكْلٍ بَهِيٍّ {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} أَيْ لم تكونوا تقدرون على إنبات أشجارها، وإنما يقدر على ذلك الخالق الرازق دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، كَمَا يعترف به المشركون {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله} أَيْ هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ الْفَاعِلُ لِجَمِيعِ ذَلِكَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ هُمْ يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ مِمَّا يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ لَا يَخْلُقُ ولا يرزق، ولهذا قال تعالى: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ؟} أَيْ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ يُعْبَدُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ وَلِكُلِّ ذِي لُبٍّ مما يعترفون بِهِ أَيْضًا أَنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} فَعَلَ هَذَا؟ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْجَوَابِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَيْسَ ثَمّ أَحَدٌ فَعَلَ هَذَا مَعَهُ بَلْ هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِهِ فَيُقَالُ: فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَهُوَ المستقل المتفرد بالخلق والرزق والتدبير؟ كما قال تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يخلق} الآية، وقوله تعالى ههنا: {أَمَّنْ خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ} {أَمَّنْ} فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا تَقْدِيرُهُ أَمَّنْ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا؟ هَذَا مَعْنَى السِّيَاقِ وَإِنْ لم يذكر الآخر، ثم قال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} أَيْ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ عدلاً ونظيراً، وهكذا قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة ويرجو رَحْمَةَ رَبِّهِ} أَيْ أَمَّنْ هُوَ هَكَذَا كَمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ؟ ولهذا قال تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إنما يتذكر أولو الألباب} .(2/677)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
- 61 - أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
يقول تعالى: {أم من جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً} أَيْ قَارَّةً سَاكِنَةً ثَابِتَةً لَا تَمِيدُ وَلَا تَتَحَرَّكُ بِأَهْلِهَا وَلَا تَرْجُفُ بِهِمْ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا طَابَ عَلَيْهَا الْعَيْشُ وَالْحَيَاةُ، بَلْ جَعَلَهَا مِنْ فَضْلِهِ ورحمته مهاداً، ثَابِتَةً لَا تَتَزَلْزَلُ وَلَا تَتَحَرَّكُ، كَمَا قَالَ تعالى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بناء} ، {وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً} أَيْ جَعَلَ فِيهَا الْأَنْهَارَ العذبة الطيبة، شقها فِي خِلَالِهَا وَصَرَّفَهَا فِيهَا مَا بَيْنَ أَنْهَارٍ كِبَارٍ وَصِغَارٍ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَسَيَّرَهَا شَرْقًا وَغَرْبًا وَجَنُوبًا وَشَمَالًا، بِحَسَبِ مَصَالِحِ عِبَادِهِ فِي أَقَالِيمِهِمْ وأقطاهرم، حيث ذرأهم في أرجاء الأرض، وسير لَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ بِحَسَبِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} أَيْ جِبَالًا شَامِخَةً تُرْسِي الْأَرْضَ وَتُثَبِّتُهَا لِئَلَّا تَمِيدَ بِكُمْ {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً} أَيْ جَعَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الْعَذْبَةِ وَالْمَالِحَةِ {حَاجِزاً} أَيْ مَانِعًا يَمْنَعُهَا مِنَ الِاخْتِلَاطِ،(2/677)
لِئَلَّا يَفْسُدَ هَذَا بِهَذَا وَهَذَا بِهَذَا، فَإِنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ تَقْتَضِي بِقَاءَ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى صِفَتِهِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ، فَإِنَّ الْبَحْرَ الْحُلْوَ هُوَ هَذِهِ الْأَنْهَارُ السَّارِحَةُ الْجَارِيَةُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْمَقْصُودُ منها أن تكون عذبة زلالاً يسقى منها الحيوان والنبات والثمار، وَالْبِحَارُ الْمَالِحَةُ هِيَ الْمُحِيطَةُ بِالْأَرْجَاءِ وَالْأَقْطَارِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَاؤُهَا مِلْحًا أُجَاجًا لِئَلَّا يَفْسُدَ الْهَوَاءُ بِرِيحِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً} ، ولهذا قال تعالى: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} ؟ أَيْ فَعَلَ هَذَا أَوْ يُعْبَدُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَالْآخَرِ؟ وَكِلَاهُمَا مُتَلَازِمٌ صَحِيحٌ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أَيْ فِي عبادتهم غيره.(2/678)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)
- 62 - أم من يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
يُنَبِّهُ تَعَالَى إِنَّهُ هُوَ الْمَدْعُوُّ عِنْدَ الشدائد، المرجو عند النوازل، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إياه} ، وَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تجأرون} ، وهكذا قال ههنا: {أم من يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} أَيْ مَنْ هُوَ الَّذِي لَا يَلْجَأُ الْمُضْطَرُّ إِلَّا إِلَيْهِ، وَالَّذِي لَا يَكْشِفُ ضُرَّ الْمَضْرُورِينَ سِوَاهُ؟ قَالَ الْإِمَامُ أحمد عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ هجيم (قوله عن رجل من هجيم ورد اسم الرجل في رواية أخرى ذكرها الإمام أحمد وهو جابر بن سليم الهجيمي) قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إلامَ تَدْعُو؟ قَالَ: «أَدْعُو إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، الَّذِي إِنْ مَسَّكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَ عَنْكَ، وَالَّذِي إِنْ أَضْلَلْتَ بِأَرْضٍ قَفْرٍ فَدَعَوْتَهُ رَدَّ عَلَيْكَ، وَالَّذِي إن صابتك سَنَةٌ فَدَعَوْتَهُ أَنْبَتَ لَكَ» قَالَ: قُلْتُ أَوْصِنِي، قَالَ: «لَا تَسُبَّنَّ أَحَدًا وَلَا تَزْهَدَنَّ فِي الْمَعْرُوفِ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَجْهَكَ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَقِي، وَاتَّزِرْ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّ إِسْبَالَ الْإِزَارِ مِنَ الْمَخِيلَةِ وَإِنَّ اللَّهَ لا يحب المخيلة» ، وفي رواية أخرى لأحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ الْهُجَيْمِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وهو مُحْتَبٍ بِشَمْلَةٍ وَقَدْ وَقَعَ هُدْبُهَا عَلَى قَدَمَيْهِ، فقلت: إيكم محمد رَسُولُ اللَّهِ؟ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى نَفْسِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وفيَّ حفاؤهم فأوصني، قال: «لَا تحقرنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَقِي، وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلَا تَشْتِمْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَكَ أَجْرُهُ وَعَلَيْهِ وِزْرُهُ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّ إِسْبَالَ الْإِزَارِ مِنَ الْمَخِيلَةِ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ، وَلَا تَسُبَّنَّ أَحَدًا» قَالَ: فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ أحداً ولا شاة ولا بعيراً. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَرَأْتُ فِي الْكِتَابِ الأول: إن الله تعالى يَقُولُ: بِعِزَّتِي إِنَّهُ مَنِ اعْتَصَمَ بِي فَإِنْ كادته السماوات بمن فِيهِنَّ، وَالْأَرْضُ بِمَنْ فِيهَا، فَإِنِّي أَجْعَلُ
لَهُ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ مَخْرَجًا، وَمَنْ لَمْ يَعْتَصِمْ بِي، فَإِنِّي أَخْسِفُ بِهِ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ الْأَرْضَ، فَأَجْعَلُهُ فِي الْهَوَاءِ فَأَكِلُهُ إِلَى نَفْسِهِ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ رَجُلٍ حَكَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ (مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الدِّينَوَرِيُّ) الْمَعْرُوفُ بالدُّقِّيِّ الصُّوفِيُّ، قَالَ هَذَا الرَّجُلُ: كُنْتُ أُكَارِي عَلَى بَغْلٍ لِي مِنْ دِمَشْقَ إِلَى بَلَدِ الزَّبَدَانِيِّ، فَرَكِبَ مَعِي ذَاتَ مَرَّةٍ رَجُلٌ، فَمَرَرْنَا عَلَى بَعْضِ الطَّرِيقِ عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ مَسْلُوكَةٍ، فَقَالَ لِي: خُذْ فِي هَذِهِ فَإِنَّهَا أَقْرَبُ، فَقُلْتُ: لَا خِبْرَةَ لِي فِيهَا، فقال: بل هي أقرب فسلكناها فانتهيا إِلَى مَكَانٍ وَعْرٍ وَوَادٍ عَمِيقٍ وَفِيهِ قَتْلَى كثيرة، فَقَالَ لِي: أَمْسِكْ رَأْسَ الْبَغْلِ حَتَّى أَنْزِلَ، فَنَزَلَ وَتَشَمَّرَ وَجَمَعَ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ وَسَلَّ سِكِّينًا معه وقصدني ففرت مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَتَبِعَنِي، فَنَاشَدْتُهُ اللَّهَ،(2/678)
وَقُلْتُ: خُذِ الْبَغْلَ بِمَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: هُوَ لِي، وَإِنَّمَا أُرِيدُ قَتْلَكَ، فَخَوَّفْتُهُ اللَّهَ وَالْعُقُوبَةَ فَلَمْ يَقْبَلْ، فَاسْتَسْلَمْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقُلْتُ إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَتْرُكَنِي حَتَّى أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ: عجل فَقُمْتُ أُصَلِّي، فَأُرْتِجَ عَلَيَّ الْقُرْآنُ، فَلَمْ يَحْضُرْنِي مِنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ فَبَقِيتُ وَاقِفًا مُتَحَيِّرًا، وَهُوَ يَقُولُ: هِيهِ افْرُغْ، فَأَجْرَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِي قوله تعالى: {أَمْ من يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} فَإِذَا أَنَا بِفَارِسٍ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ فَمِ الْوَادِي وَبِيَدِهِ حَرْبَةٌ، فَرَمَى بِهَا الرَّجُلَ، فَمَا أَخْطَأَتْ فُؤَادَهُ فَخَرَّ صَرِيعًا، فَتَعَلَّقْتُ بِالْفَارِسِ، وَقُلْتُ: بِاللَّهِ من أنت؟ فقال: أنا رسول الَّذِي يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ، قال: فأخذت البغل والحمل ورجعت سالماً (أخرج القصة ابن عساكر وذكر قصة أخرى مشابهة تدل على إكرام الله لأوليائه وعباده الصالحين قال صاحب الجوهرة:
واثبتن للأولياء الكرامة * ومن نفاها فانبذن كلامه) .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الْأَرْضِ} أَيْ يُخْلِفُ قَرْنًا لِقَرْنٍ قَبْلَهُمْ وَخَلَفًا لِسَلَفٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بعض درجات} ، وَهَكَذَا هَذِهِ الْآيَةُ: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الْأَرْضِ} أَيْ أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ، وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَقَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ، وَلَوْ شَاءَ لَأَوْجَدَهُمْ كُلَّهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَجْعَلْ بَعْضَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ بَعْضٍ، بَلْ لَوْ شَاءَ لَخَلَقَهُمْ كُلَّهُمْ أَجْمَعِينَ، كَمَا خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهُمْ بَعْضَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ بَعْضٍ، وَلَكِنْ لَا يُمِيتُ أَحَدًا حَتَّى تَكُونَ وَفَاةُ الْجَمِيعِ في وقت واحد لكانت تضيق عنهم الْأَرْضُ وَتَضِيقُ عَلَيْهِمْ مَعَايِشُهُمْ وَأَكْسَابُهُمْ وَيَتَضَرَّرُ بَعْضُهُمْ ببعض، ولكت اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ وَقُدْرَتُهُ أَنْ يَخْلُقَهُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثم يكثرهم غاية الكثرة ويجعلهم أمماً بَعْدَ أُمَمٍ، حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ وَتَفْرُغَ الْبَرِيَّةُ كما قدر تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَكَمَا أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، ثُمَّ يُقِيمُ الْقِيَامَةَ وَيُوَفِّي كُلَّ عَامِلٍ عَمَلَهُ إِذَا بلغ الكتاب أجله، ولهذا قال تعالى: {أَمْ من يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} أَيْ يَقْدِرُ على ذلك، أو أإله مَّعَ الله بعد هذا! وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِفِعْلِ ذلك وحده لا شريك له؟ {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} أَيْ مَا أَقَلَّ تَذَكُّرَهُمْ فِيمَا يُرْشِدُهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى الصِّرَاطِ المستقيم.(2/679)
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
- 63 - أم من يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ
يقول تَعَالَى: {أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أَيْ بِمَا خَلَقَ مِنَ الدَّلَائِلِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ، كَمَا قال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وبالنجم هم يهتدون} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الْآيَةَ، {وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أَيْ بَيْنَ يَدَيِ السَّحَابِ الَّذِي فِيهِ مَطَرٌ يغيث الله به عباده المجدبين الْقَنِطِينَ {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ؟ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .(2/679)
أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
- 64 - أم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(2/679)
أَيْ هُوَ الَّذِي بِقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الأخرى: {إنه هو يبدئ ويعيد} ، وقال تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه} ، {وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} أَيْ بِمَا يُنْزِلُ مِنْ مَطَرِ السَّمَاءِ وَيُنْبِتُ مِنْ بَرَكَاتِ الأرض، كما قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} ، فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مباركاً، فيسلكه يَنَابِيعَ فِي الأرض، ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ أَنْوَاعَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْأَزَاهِيرِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَلْوَانٍ شَتَّى {كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى} ، ولهذا لما قال تعالى: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} أَيْ فَعَلَ هَذَا وَعَلَى القول الآخر بعد هذا {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} عَلَى صِحَّةِ مَا تَدَّعُونَهُ مِنْ عِبَادَةِ آلِهَةٍ أُخْرَى {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فِي ذَلِكَ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لهم ولا برهان كما قال تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} .(2/680)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
- 65 - قُل لاَّ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ
- 66 - بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ مُعَلِّمًا لِجَمِيعِ الْخَلْقِ أنه لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الغيب إلا الله. وقوله تعالى: {إِلاَّ اللَّهُ} اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ لَا يَعْلَمُ أحد ذلك إلاّ الله عزَّ وجلَّ، كما قال تَعَالَى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلَّا هُوَ} الآية، وقال تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} إلى آخر السورة، والآيات في هذا كثيرة. وقوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أَيْ وَمَا يَشْعُرُ الخلائق الساكنون في السماوات والأرض بوقت الساعة، كما قال تعالى: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بغتة} أَيْ ثَقُلَ عِلْمُهَا عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وقالت عائشة رضي الله عنها: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْلَمُ - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَكُونُ فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، لِأَنَّ اللَّهَ تعالى يقول: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الغيب إلا الله} (أخرجه ابن أبي حاتم) ، وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ النُّجُومَ لثلاث خصال: جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَجَعَلَهَا يُهْتَدَى بِهَا، وَجَعَلَهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، فَمَنْ تَعَاطَى فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ بِرَأْيِهِ وَأَخْطَأَ حَظَّهُ وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَإِنَّ أناساً جَهَلَةً بِأَمْرِ اللَّهِ قَدْ أَحْدَثُوا مِنْ هَذِهِ النُّجُومِ كِهَانَةً: مَنْ أَعْرَسَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ سَافَرَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ وُلِدَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَعَمْرِي مَا مِنْ نَجْمٍ إِلَّا يُولَدُ بِهِ الْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَالْقَصِيرُ وَالطَّوِيلُ وَالْحَسَنُ وَالدَّمِيمُ، وَمَا عِلْمُ هَذَا النَّجْمِ وَهَذِهِ الدَّابَّةِ وَهَذَا الطَّيْرِ بِشَيْءٍ مِنَ الغيب، وقضى الله تعالى أنه {لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يبعثون} (أخرجه ابن أبي حاتم أيضاً قال ابن كثير: وهو كلام جليل متين صحيح) .
وقوله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} أَيِ انْتَهَى عِلْمُهُمْ وَعَجَزَ عن معرفة وقتها. قال ابن عباس {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ} أَيْ غَابَ، وَقَالَ قَتَادَةُ {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخرة} يعني بجهلهم بربهم، يقول: لم ينفذ لهم علم في الآخرة، هذا قول، وقال ابن جريج عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخرة} حين(2/680)
لم ينفع العلم، وبه قال عطاء وَالسُّدِّيُّ: أَنَّ عِلْمَهُمْ إِنَّمَا يُدْرِكُ وَيَكْمُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} ، وكان الحسن يَقْرَأُ {بَلْ أَدْرَكَ عِلْمُهُمْ} : قَالَ اضْمَحَلَّ عِلْمُهُمْ في الدنيا حين عاينوا الآخرة، وقوله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} عَائِدٌ عَلَى الجنس والمراد الكافرون، كما قال تعالى: {بل زعمتم أن لن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً} أي الكافرون منكم، وهكذا قال ههنا: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} أَيْ شَاكُّونَ فِي وُجُودِهَا وَوُقُوعِهَا، {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} أَيْ فِي عَمَايَةٍ وَجَهْلٍ كَبِيرٍ فِي أَمْرِهَا وشأنها.(2/681)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
- 67 - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ
- 68 - لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
- 69 - قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين
- 70 - ولا تحزن عليهم وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُنْكِرِي الْبَعْثِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، أَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا إِعَادَةَ الْأَجْسَادِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا عِظَامًا وَرُفَاتًا وَتُرَابًا، ثُمَّ قَالَ: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ} أَيْ مَا زِلْنَا نَسْمَعُ بِهَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا وَلَا نَرَى لَهُ حَقِيقَةً وَلَا وُقُوعًا، وَقَوْلُهُمْ: {إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} يَعْنُونَ مَا هَذَا الْوَعْدُ بِإِعَادَةِ الْأَبْدَانِ {إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أَيْ أَخَذَهُ قَوْمٌ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ من كتب، يَتَلَقَّاهُ بَعْضٌ عَنْ بَعْضٍ وَلَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ عَمَّا ظَنُّوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَعَدَمِ الْمَعَادِ {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ {سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين} أي المكذبين بالرسل وبما جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَغَيْرِهِ، كَيْفَ حلت بهم نقمة اللَّهِ وَعَذَابُهُ وَنَكَالُهُ، وَنَجَّى اللَّهُ مِنْ بَيْنِهِمْ رُسُلَهُ الْكِرَامَ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وصحته، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أَيِ الْمُكَذِّبِينَ بِمَا جِئْتَ بِهِ وَلَا تَأْسَفْ عَلَيْهِمْ وَتَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، {وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} أَيْ فِي كَيْدِكَ وَرَدِّ مَا جِئْتَ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ مُؤَيِّدُكَ وَنَاصِرُكَ، وَمُظْهِرٌ دِينَكَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَعَانَدَهُ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ.(2/681)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
- 71 - وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
- 72 - قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ
- 73 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ
- 74 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ
- 75 - وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٌ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي سُؤَالِهِمْ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاسْتِبْعَادِهِمْ وُقُوعَ ذَلِكَ، {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ؟ قال الله تعالى مُجِيبًا لَهُمْ: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ {عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْ يَكُونَ قَرُبَ أَوْ أَنْ يقرب لَكُم بَعْضَ الذي تستعجلون، كقوله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ؟ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قريبا} ، وقال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} ، وَإِنَّمَا دَخَلَتِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: {رَدِفَ لَكُم} لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى عَجِلَ لَكُمْ، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ {عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ(2/681)
لَكُم} عُجّل لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} أَيْ فِي إِسْبَاغِهِ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ مَعَ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَشْكُرُونَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي يعلم الضمائر والسرائر كَمَا يَعْلَمُ الظَّوَاهِرَ، {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ به} ، {يعلم السر وأخفى} ، ثم أخبر تعالى بأنه عالم غيب السماوات وَالْأَرْضِ وَأَنَّهُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَهُوَ مَا غاب عن العباد وما شاهدوه، فقال تعالى: {وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي وَمَا مِن شَيْءٍ {فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} ، وهذه كَقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يسير} .(2/682)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
- 76 - إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
- 77 - وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ
- 78 - إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ
- 79 - فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ
- 80 - إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ
- 81 - وَمَآ أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَمَا اشتمل عليه من الهدى والبيان وَالْفُرْقَانِ، إِنَّهُ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ حَمَلَةُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ {أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} كَاخْتِلَافِهِمْ فِي عِيسَى وَتَبَايُنِهِمْ فِيهِ، فَالْيَهُودُ افتروا والنصارى غلوا، فجاء الْقُرْآنُ بِالْقَوْلِ الْوَسَطِ الْحَقِّ الْعَدْلِ أَنَّهُ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ الْكِرَامِ، عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ عيسى بن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ} ، وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} أَيْ هُدًى لقلوب المؤمنين به ورحمة لهم، ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {بِحُكْمِهِ وَهُوَ العزيز} أي فِي انْتِقَامِهِ {الْعَلِيمُ} بِأَفْعَالِ عِبَادِهِ وَأَقْوَالِهِمْ {فَتَوَكَّلْ على الله} أي في جميع أُمُورِكَ وَبَلِّغْ رِسَالَةَ رَبِّكَ، {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} أَيْ أَنْتَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ وَإِنْ خَالَفَكَ مَنْ خَالَفَكَ مِمَّنْ كُتِبَتْ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةُ، وَحَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آية، ولهذا قال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى} أَيْ لَا تُسْمِعُهُمْ شَيْئًا يَنْفَعُهُمْ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ عَلَى قُلُوبِهِمْ غِشَاوَةٌ وفي آذانهم وقر الكفر، ولهذا قال تعالى: {وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ * وَمَآ أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ * إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} أَيْ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لَكَ مَنْ هُوَ سَمِيعٌ بصير، السمع والبصر النافع في القلب، الْخَاضِعُ لِلَّهِ وَلِمَا جَاءَ عَنْهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.(2/682)
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
- 82 - وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ
هَذِهِ الدَّابَّةُ تَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ وَتَرْكِهِمْ أَوَامِرَ اللَّهِ وتبديلهم دين الْحَقَّ، يُخْرِجُ اللَّهُ لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ. قِيلَ: مِنْ مَكَّةَ، وَقِيلَ مِنْ غَيْرِهَا كَمَا سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى، فَتُكَلِّمُ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ والحسن وقتادة: تُكَلِّمُهُمْ كَلَامًا أَيْ تُخَاطِبُهُمْ مُخَاطَبَةً، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: تُكَلِّمُهُمْ فَتَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ واختاره ابن جرير وَقَدْ وَرَدَ فِي ذِكْرِ الدَّابَّةِ أَحَادِيثُ(2/682)
وآثار كثيرة، فلنذكر منها ما تيسر والله المستعان روى الإمام أحمد: عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ: أَشْرَفَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غُرْفَةٍ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ أَمْرَ السَّاعَةَ فَقَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدُّخَانُ، وَالدَّابَّةُ، وَخُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَخُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مريم عليه السلام، وَالدَّجَّالُ، وَثَلَاثَةُ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنٍ تَسُوقُ أَوْ تَحْشُرُ النَّاسَ تَبِيتُ مَعَهُمْ حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا" (أخرجه الإمام أحمد ورواه كذلك مسلم وأهل السنن وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ) . حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ مسلم بن الحجاج عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا لَمْ أَنْسَهُ بَعْدُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنْ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدابة على الناس ضحى، وأيتهما كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا» . حديث آخر: وروى مسلم فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: "بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدجال، والدابة، وخاصة أحدكم، وأمر العامة"، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَخْرُجُ دَابَّةُ الْأَرْضِ وَمَعَهَا عَصَا مُوسَى وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَتَخْطِمُ أَنْفَ الْكَافِرِ بِالْعَصَا، وَتُجْلِي وَجْهَ الْمُؤْمِنِ بِالْخَاتَمِ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى الخوان يعرف المؤمن من الكافر» (أخرجه أبو داود الطيالسي بهذا اللفظ وأخرجه الإمام أحمد بمثله إلا أنه قال: فَتَخْطِمُ أَنْفَ الْكَافِرِ بِالْخَاتَمِ، وَتَجْلُو وَجْهَ الْمُؤْمِنِ بِالْعَصَا حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْخُوَانِ الْوَاحِدِ لَيَجْتَمِعُونَ فَيَقُولُ هَذَا يَا مُؤْمِنُ، وَيَقُولُ هَذَا يَا كافر) . وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ حَكَى مِنْ كَلَامٍ عُزَيْرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: وَتَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ سَدُومَ دَابَّةٌ تُكَلِّمُ النَّاسَ كُلٌّ يَسْمَعُهَا، وَتَضَعُ الْحَبَالَى قَبْلَ التَّمَامِ، وَيَعُودُ الْمَاءُ الْعَذْبُ أُجَاجًا وَيَتَعَادَى الْأَخِلَّاءُ وَتُحْرَقُ الْحِكْمَةُ وَيُرْفَعُ الْعِلْمُ وَتُكَلِّمُ الْأَرْضُ الَّتِي تَلِيهَا، وَفِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يَرْجُو النَّاسُ مَا لَا يَبْلُغُونَ، وَيَتْعَبُونَ فِيمَا لَا يَنَالُونَ، وَيَعْمَلُونَ فِيمَا لَا يَأْكُلُونَ (أخرجه ابن أبي حاتم وقد ورد في بعض الآثار أن الدابة تخرج من موضع بالبادية قريباً من مكة، ويروى عن ابن عباس أنها تخرج من بعض أودية تهامة، وعن ابن مسعود: أنها تخرج من صدع بالصفا) .(2/683)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
- 83 - وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فهم يوزعون
- 84 - حتى إذا جاؤوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ - 85 - وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ
- 86 - أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَحَشْرِ الظَّالِمِينَ من المكذبين بآيات الله ورسله، لِيَسْأَلَهُمْ عَمَّا فَعَلُوهُ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، تَقْرِيعًا وتصغيراً وتحقيراً، فقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً} أَيْ مِنْ كُلِّ قَوْمٍ وَقَرْنٍ فَوْجًا أَيْ جَمَاعَةً {مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَآ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} ، وقوله تعالى: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} قال ابن عباس: يدفعون، وقال قتادة: يرد أَوَّلَهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زيد: يساقون {حتى إِذَا جَآءُوا} ووقفوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ فِي مَقَامِ الْمُسَاءَلَةِ {قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا علما أم(2/683)
ماذا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيسألون عَنِ اعْتِقَادِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أهل السعادة وكانوا كما قال الله عَنْهُمْ، {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} فحينئذٍ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عذر يعتذرون به، كما قال الله تَعَالَى: {هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فيعتذرون} الآية، وهكذا قال ههنا {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ} أَيْ بُهِتُوا فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا ظَلَمَةً لِأَنْفُسِهِمْ، وقد ردوا إلى علام الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ وشأنه الرفيع: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ} أي في ظلام الليل لتسكن حركاتهم بسببه وَتَهْدَأُ أَنْفَاسُهُمْ، وَيَسْتَرِيحُونَ مِنْ نَصَبِ التَّعَبِ فِي نهارهم {والنهار مُبْصِراً} أي منيراً مشرقاً، فسبب ذَلِكَ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْمَعَايِشِ وَالْمَكَاسِبِ وَالْأَسْفَارِ وَالتِّجَارَاتِ، وغير ذلك من شؤونهم الَّتِي يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .(2/684)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
- 87 - وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ
- 88 - وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ
- 89 - مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ
- 90 - وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ هول يوم نفخة الفزع في الصور، وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ: أَنَّ إِسْرَافِيلَ هُوَ الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَنْفُخُ فِيهِ أَوَّلًا نَفْخَةَ الْفَزَعِ، وَيُطَوِّلُهَا، وَذَلِكَ فِي آخِرِ عُمْرِ الدُّنْيَا حِينَ تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى شَرَارِ الناس من الأحياء، فيفزع مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ {إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ} وَهُمُ الشُّهَدَاءُ فَإِنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عند ربهم يرزقون، وفي حديث مسلم الطويل قَالَ: "فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ: أَلَا تَسْتَجِيبُونَ؟ فَيَقُولُونَ: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ دارٌّ رِزْقُهُمْ حسنٌ عَيْشُهُمْ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا. قَالَ - وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إِبِلِهِ قَالَ: فَيَصْعَقُ وَيَصْعَقُ النَّاسُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ - أَوْ قَالَ يُنْزِلُ اللَّهُ - مَطَرًا كَأَنَّهُ الطَّلُّ - أَوْ قَالَ الظل، فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ نفخة أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسؤولون} ثُمَّ يُقَالُ: أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ. فَيُقَالُ: مِنْ كَمْ؟ فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وتسعون قَالَ: فَذَلِكَ يَوْمٌ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً وَذَلِكَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن ساق" (أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو بطوله، وهذا جزء من الحديث الصحيح) . وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا وَرَفَعَ لِيتًا. اللِّيتُ هُوَ صَفْحَةُ الْعُنُقِ أَيْ أَمَالَ عُنُقَهُ لِيَسْتَمِعَهُ مِنَ السَّمَاءِ جَيِّدًا، فَهَذِهِ (نَفْخَةُ الْفَزَعِ) ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ (نَفْخَةُ الصَّعْقِ) وَهُوَ الْمَوْتُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ (نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وَهُوَ النُّشُورُ مِنَ الْقُبُورِ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} أَيْ صَاغِرِينَ مُطِيعِينَ لَا يَتَخَلَّفُ أَحَدٌ عَنْ أَمْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بحمده} .(2/684)
وقال تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَآ أَنْتُمْ تخرجون} وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ: أَنَّهُ فِي النَّفْخَةِ الثَّالِثَةِ يَأْمُرُ اللَّهُ الْأَرْوَاحَ فَتُوضَعُ فِي ثُقْبٍ فِي الصُّورِ، ثُمَّ يَنْفُخُ إِسْرَافِيلُ فِيهِ بَعْدَمَا تَنْبُتُ الْأَجْسَادُ فِي قُبُورِهَا وَأَمَاكِنِهَا، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ طَارَتِ الْأَرْوَاحُ تَتَوَهَّجُ، أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ نُورًا، وَأَرْوَاحُ الْكَافِرِينَ ظُلْمَةً، فَيَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَتَرْجِعَنَّ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهَا، فَتَجِيءُ الْأَرْوَاحُ إِلَى أَجْسَادِهَا فَتَدِبُّ فِيهَا كَمَا يدب السم في اللديغ، ثم يقومون ينفضون التُّرَابَ مِنْ قُبُورِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} ، وقوله تَعَالَى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} أَيْ تَرَاهَا كَأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بَاقِيَةٌ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ أَيْ تَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} ، وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارزة} ، وقوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} أَيْ يفعل ذلك بقدرته العظيمة {الذي أَتْقَنَ كل شيء} أي أَتْقَنَ كلُّ مَا خَلَقَ وَأَوْدَعَ فِيهِ مِنَ الحكمة ما أودع، {إِنَّهُ خَبِيرٌ بما يفعلون} أَيْ هُوَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُ عِبَادُهُ مِنْ خير وشر وسيجازيهم عليه أتم الجزاء. ثُمَّ بيَّن تَعَالَى حَالَ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ يومئذٍ فَقَالَ: {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} ، قَالَ قَتَادَةُ: بِالْإِخْلَاصِ، وَقَالَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ: هِيَ لا إله إلاّ الله. وقد بين تعالى في الموضع الْآخَرِ أَنَّ لَهُ عَشْرَ أَمْثَالِهَا {وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الأخرة: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّنْ يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة} ، وقال تعالى: {وَهُمْ فِي الغرفات آمنون} ، وقوله تعالى: {وَمَنْ جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} أَيْ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ مُسِيئًا لَا حَسَنَةَ لَهُ أَوْ قَدْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ كل بحسبه، ولهذا قال تعالى: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} . وَقَالَ ابن مسعود وابن عباس والضحاك والحسن وقتادة فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ} : يَعْنِي بِالشِّرْكِ.(2/685)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
- 91 - إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
- 92 - وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ
- 93 - وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا رَسُولَهُ وَآمِرًا لَهُ أَنْ يَقُولَ: {إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ} وإضافة الربيوبية إِلَى الْبَلْدَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ لَهَا وَالِاعْتِنَاءِ بها، كما قال تَعَالَى: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} ، وقوله تعالى: {الَّذِي حَرَّمَهَا} أَيِ الَّذِي إِنَّمَا صَارَتْ حَرَامًا شرعاً وقدراً بِتَحْرِيمِهِ لَهَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ القيامة، ولا يُعْضَدُ شَوْكُهُ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ لقطته إلاّ من عرفها، ولا تختلى خلاه» الحديث بتمامه. وقوله تعالى: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} مِنْ بَابِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ أَيْ هُوَ رَبُّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ ورب كل شيء وملكيه لا إله إلا هو، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(2/685)
أَيِ الْمُوَحِّدِينَ الْمُخْلِصِينَ الْمُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ الْمُطِيعِينَ لَهُ، وَقَوْلُهُ: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} أَيْ عَلَى النَّاسِ أبلغهم إياه، كقوله تَعَالَى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} ، وكقوله تعالى: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} الآية، أَيْ أَنَا مُبَلِّغٌ وَمُنْذِرٌ، {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ المنذرين} أي لي أسوة بالرسل الَّذِينَ أَنْذَرُوا قَوْمَهُمْ وَقَامُوا بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ أداء الرسالة، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} ، وَقَالَ: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وكيل} ، {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} أَيِ لِلَّهِ الْحَمْدُ الَّذِي لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عليه، والإنذار إليه، ولهذا قال تعالى: {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنه الحق} ، وقوله تعالى {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أَيْ بَلْ هو شهيد على كل شيء.
عن عمر بن عبد العزيز قال: لو كَانَ اللَّهُ مُغْفلاً شَيْئًا لَأَغْفَلَ مَا تُعَفِّي الرِّيَاحُ مِنْ أَثَرِ قَدَمَيِ ابْنِ آدَمَ، وَقَدْ ذكر عن الإمام أحمد رحمة الله تعالى أنه كان يُنْشِدُ هَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ:
إِذَا مَا خلوتَ الدَّهْرَ يَومًا فَلَا تَقُلْ * خلوت وكن قُلْ عليَّ رقيبُ
وَلَا تحسبنَّ اللَّهَ يَغْفُلُ سَاعَةً * وَلَا أَنَّ مَا يَخْفَى، عَلَيْهِ يَغِيبُ.(2/686)
المجلد الثالث(2/5)
- 28 - سورة القصص(2/5)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
بسم الله الرحمن الرحيم
- 1 - طسم
- 2 - تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين
- 3 - نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
- 4 - إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
- 5 - وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ
- 6 - وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ. وَقَوْلُهُ: {تِلْكَ} أَيْ هَذِهِ {آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} أَيْ الْوَاضِحِ الْجَلِيِّ الْكَاشِفِ عَنْ حَقَائِقِ الْأُمُورِ وَعِلْمِ مَا قَدْ كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ، وَقَوْلُهُ: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بالحق} أَيْ نَذْكُرُ لَكَ الْأَمْرَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ كَأَنَّكَ تُشَاهِدُ وَكَأَنَّكَ حَاضِرٌ، ثُمَّ قَالَ تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الْأَرْضِ} أَيْ تَكَبَّرَ وَتَجَبَّرَ وَطَغَى، {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} أَيْ أَصْنَافًا قَدْ صَرَّفَ كُلَّ صِنْفٍ فِيمَا يُرِيدُ مِنْ أمور دولته، وقوله تعالى: {يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ} يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خِيَارَ أَهْلِ زَمَانِهِمْ، هَذَا وَقَدْ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمَلِكُ الْجَبَّارُ الْعَنِيدُ يستعملهم في أخس الأعمال، وَيَقْتُلُ مَعَ هَذَا أَبْنَاءَهُمْ، وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ، إِهَانَةً لَهُمْ وَاحْتِقَارًا وَخَوْفًا مِنْ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمُ غُلَامٌ يَكُونُ سَبَبُ هَلَاكِهِ وَذَهَابُ دَوْلَتِهِ عَلَى يديه، فَاحْتَرَزَ فِرْعَوْنُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ ذُكُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَنْ يَنْفَعَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ لِأَنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ ولكل أجل كتاب، ولهذا قَالَ تَعَالَى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرض - إلى قوله - يَحْذَرُونَ} وَقَدْ فَعَلَ تَعَالَى ذَلِكَ بِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ - إلى قوله - يَعْرِشُونَ} ، وقال تعالى: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إسرائيل} أَرَادَ فِرْعَوْنُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ موسى، فما نفعه ذلك مع قدرة الإله العظيم الذي لا يخالف أمره ولا يغلب، بل نفذ حكمه في القدم بأن يكون هلاك فِرْعَوْنَ عَلَى يَدَيْهِ، بَلْ يَكُونُ هَذَا الْغُلَامُ الَّذِي احْتَرَزْتَ مِنْ وُجُودِهِ وَقَتَلْتَ بِسَبَبِهِ أُلُوفًا مِنَ الْوِلْدَانِ، إِنَّمَا مَنْشَؤُهُ وَمُرَبَّاهُ عَلَى فِرَاشِكَ، وَفِي دَارِكَ، وَغِذَاؤُهُ مِنْ طَعَامِكَ، وَأَنْتَ تُرَبِّيهِ وَتُدَلِّلُهُ وَتَتَفَدَّاهُ وَحَتْفُكَ وَهَلَاكُكَ وَهَلَاكُ جُنُودِكَ عَلَى يديه، لتعلم أن رب السماوات العلا هو القاهر الغالب العظيم، القوي العزيز الشَّدِيدُ الْمِحَالِ الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.(2/5)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
- 7 - وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
- 8 - فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ
- 9 - وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
ذَكَرُوا أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا أَكْثَرَ مِنْ قَتْلِ ذُكُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، خَافَتِ الْقِبْطُ أَنْ يُفْنِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَلُونَ هُمْ مَا كَانُوا يَلُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، فَقَالُوا لِفِرْعَوْنَ: إِنَّهُ يُوشِكُ إِنِ اسْتَمَرَّ هَذَا الحال أن يموت شيوخهم، وغلمانهم يقتلون، ونساؤهم لا يمكن أن تقمن بما تقوم بِهِ رِجَالُهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ فَيَخْلُصُ إِلَيْنَا ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْوِلْدَانِ عَامًا وَتَرْكِهِمْ عَامًا، فَوُلِدَ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّنَةِ الَّتِي يَتْرُكُونَ فيها الوالدان، وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها الوالدان، وكان لفرعون مُوَكَّلُونَ بِذَلِكَ وَقَوَابِلُ يَدُرْنَ عَلَى النِّسَاءِ، فَمَنْ رَأَيْنَهَا قَدْ حَمَلَتْ أَحْصَوُا اسْمَهَا، فإِذا كَانَ وَقْتُ وِلَادَتِهَا لَا يَقْبَلُهَا إِلَّا نِسَاءُ الْقِبْطِ، فإن وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ جَارِيَةً تَرَكْنَهَا وَذَهَبْنَ، وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا دَخَلَ أُولَئِكَ الذَّبَّاحُونَ بِأَيْدِيهِمُ الشِّفَارُ الْمُرْهَفَةُ فقتلوه ومضوا، قبحهم الله تعالى، فَلَمَّا حَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهَا مَخَايِلُ الْحَمْلِ كَغَيْرِهَا وَلَمْ تَفْطِنْ لَهَا الدَّايَاتُ، وَلَكِنْ لَمَّا وَضَعَتْهُ ذَكَرًا ضَاقَتْ بِهِ ذَرْعًا، وَخَافَتْ عَلَيْهِ خَوْفًا شَدِيدًا وَأَحَبَّتْهُ حُبًّا زَائِدًا، وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لا يراه أحد إلاّ أحبه، قال تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} فلما ضاقت به ذرعاً ألهمت في سرها ونفث في روعها، كما قال تَعَالَى: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَتْ دَارُهَا عَلَى حَافَّةِ النِّيلِ، فَاتَّخَذَتْ تَابُوتًا وَمَهَّدَتْ فِيهِ مَهْدًا، وَجَعَلَتْ تُرْضِعُ وَلَدَهَا، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا أَحَدٌ ممن تخافه ذهبت فوضعته فِي ذَلِكَ التَّابُوتِ، وَسَيَّرَتْهُ فِي الْبَحْرِ وَرَبَطَتْهُ في بِحَبْلٍ عِنْدَهَا، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ دَخَلَ عَلَيْهَا مَنْ تَخَافُهُ، فَذَهَبَتْ فَوَضَعَتْهُ فِي ذَلِكَ التابوت، وأرسلته في البحر، وذهلت أَنْ تَرْبِطَهُ، فَذَهَبَ مَعَ الْمَاءِ وَاحْتَمَلَهُ حَتَّى مَرَّ بِهِ عَلَى دَارِ فِرْعَوْنَ فَالْتَقَطَهُ الْجَوَارِي، فَاحْتَمَلْنَهُ فَذَهَبْنَ بِهِ إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ وَلَا يَدْرِينَ مَا فِيهِ، وَخَشِينَ أَنْ يَفْتَتْنَ عَلَيْهَا فِي فَتْحِهِ دُونَهَا، فَلَمَّا كَشَفَتْ عَنْهُ إِذَا هُوَ غُلَامٌ
مِنْ أَحْسَنِ الْخَلْقِ وَأَجْمَلِهِ وَأَحْلَاهُ وَأَبْهَاهُ، فَأَوْقَعَ اللَّهُ مَحَبَّتَهُ فِي قَلْبِهَا حِينَ نَظَرَتْ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لِسَعَادَتِهَا وَمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ كَرَامَتِهَا وَشَقَاوَةِ بَعْلِهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} الآية، قال محمد بن إسحاق: اللَّامُ هُنَا (لَامُ الْعَاقِبَةِ) لَا (لَامُ التَّعْلِيلِ) لأنهم لم يريدوا بالتقاطه ذلك، قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لي وَلَكَ} الآية، يَعْنِي أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا رَآهُ هَمَّ بِقَتْلِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فشرعت امرأته (آسية بنت مزاحم) تخاصم عَنْهُ وَتَذُبُّ دُونَهُ وَتُحَبِّبُهُ إِلَى فِرْعَوْنَ، فَقَالَتْ: {قرة عين لي ولك} ، فقال فرعون: أَمَّا لَكِ فَنَعَمْ، وَأَمَّا لِي فَلَا، فَكَانَ كذلك وهداها الله بسببه وأهلكه الله على يديه، وَقَوْلُهُ: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} وَقَدْ حَصَلَ لَهَا ذَلِكَ وَهَدَاهَا اللَّهُ بِهِ وَأَسْكَنَهَا الْجَنَّةَ بِسَبَبِهِ، وقوله: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} أَيْ أَرَادَتْ أَنْ تَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَتَتَبَنَّاهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ(2/6)
لَّهَآ وَلَدٌ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أَيْ لَا يَدْرُونَ مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُ بِالْتِقَاطِهِمْ إِيَّاهُ مِنَ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ الْبَالِغَةِ والحجة القاطعة.(2/7)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
- 10 - وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
- 11 - وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
- 12 - وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ
- 13 - فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فُؤَادِ أُمِّ مُوسَى حِينَ ذَهَبَ وَلَدُهَا فِي الْبَحْرِ إِنَّهُ أَصْبَحَ فَارِغًا، أَيْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمور الدُّنْيَا إِلَّا مِنْ موسى، قاله ابن عباس ومجاهد {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} : أَيْ إِنْ كَادَتْ من شدة وجدها وحزنها لَتُظْهِرُ أَنَّهُ ذَهَبَ لَهَا وَلَدٌ، وَتُخْبِرُ بِحَالِهَا لولا أن الله ثبتها وصبرها، قال تعالى: {لَوْلاَ أَن رَّبَطْنَا على عليها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أَيْ أَمَرَتِ ابْنَتَهَا وَكَانَتْ كَبِيرَةً تَعِي مَا يُقال لَهَا فَقَالَتْ لَهَا {قُصِّيهِ} أَيْ اتْبَعِي أَثَرَهُ وَخُذِي خَبَرَهُ، وَتَطَلَّبِي شَأْنَهُ مِنْ نَوَاحِي الْبَلَدِ فَخَرَجَتْ لِذَلِكَ {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ} قَالَ ابن عباس: عن جانب، وقال مجاهد: وقال مجاهد: بصرت به عَنْ بَعِيدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: جَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَكَأَنَّهَا لَا تُرِيدُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَارِ فِرْعَوْنَ، وَأَحَبَّتْهُ امْرَأَةُ الملك عَرَضُوا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ الَّتِي فِي دَارِهِمْ، فَلَمْ يقبل ثَدْيًا وَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فخرجوا به إلى السوق لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ امْرَأَةً تَصْلُحُ لِرَضَاعَتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ بأيديهم عرفته، ولم يظهر ذلك ولم يشعروا بها، قال تَعَالَى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ} أَيْ تحريماً قدرياً وذلك لكرامته عند الله وصيانته له أَنْ يَرْتَضِعَ غَيْرَ ثَدْيِ أُمِّهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى جَعَلَ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى رُجُوعِهِ إِلَى أُمِّهِ لِتُرْضِعَهُ وَهِيَ آمِنَةٌ بَعْدَمَا كَانَتْ خَائِفَةً فَلَمَّا رأتهم حائرين فيمن يرضعه {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أهل بيت يكلفونه لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فلما قَالَتْ ذَلِكَ أَخَذُوهَا وَشَكُّوا فِي أَمْرِهَا، وَقَالُوا لها: وما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه؟ فقالت لهم: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في سرور الْمَلِكِ وَرَجَاءُ مَنْفَعَتِهِ فَأَرْسَلُوهَا، فَلَمَّا قَالَتْ لَهُمْ ذَلِكَ وَخَلَصَتْ مِنْ أَذَاهُمْ ذَهَبُوا مَعَهَا إِلَى مَنْزِلِهِمْ، فَدَخَلُوا بِهِ عَلَى أُمِّهِ، فَأَعْطَتْهُ ثَدْيَهَا، فَالْتَقَمَهُ فَفَرِحُوا بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا وَذَهَبَ الْبَشِيرُ إِلَى امْرَأَةِ الْمَلِكِ، فَاسْتَدْعَتْ أُمَّ مُوسَى، وَأَحْسَنَتْ إِلَيْهَا وَأَعْطَتْهَا عَطَاءً جَزِيلًا وَهِيَ لَا تَعْرِفُ أَنَّهَا أُمُّهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَكِنْ لِكَوْنِهِ وَافَقَ ثَدْيَهَا، ثُمَّ سَأَلْتُهَا آسِيَةُ أَنْ تُقِيمَ عِنْدَهَا فَتُرْضِعُهُ فَأَبَتْ عَلَيْهَا وَقَالَتْ: إِنَّ لِي بَعْلًا وَأَوْلَادًا وَلَا أَقْدِرُ عَلَى الْمَقَامِ عِنْدَكِ، وَلَكِنْ إِنْ أَحْبَبْتِ أَنْ أُرْضِعَهُ فِي بَيْتِي فَعَلْتُ، فَأَجَابَتْهَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ إِلَى ذَلِكَ وَأَجْرَتْ عَلَيْهَا النفقة والصلات والإِحسان الْجَزِيلَ، فَرَجَعَتْ أُمُّ مُوسَى بِوَلَدِهَا رَاضِيَةً مرضية، قد أبدلها الله بَعْدِ خَوْفِهَا أَمْنًا فِي عِزٍّ وَجَاهٍ وَرِزْقٍ دَارٍّ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَثَلُ الَّذِي يَعْمَلُ وَيَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ كَمَثَلِ أَمِّ مُوسَى تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا» ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الشِّدَّةِ وَالْفَرَجِ إِلَّا الْقَلِيلُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، فسبحان من بيده الأمر، يَجْعَلُ لِمَنِ اتَّقَاهُ بَعْدَ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَبَعْدَ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} أَيْ بِهِ {وَلاَ تَحْزَنَ} أَيْ عَلَيْهِ {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أَيْ فِيمَا وَعَدَهَا مِنْ رده إليها(2/7)
وجعله من المرسلين، وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أَيْ حُكْمَ اللَّهِ في أفعاله وعواقبها المحمودة، فَرُبَّمَا يَقَعُ الْأَمْرُ كَرِيهًا إِلَى النُّفُوسِ وَعَاقِبَتُهُ مَحْمُودَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} .(2/8)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
- 14 - وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
- 15 - وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ
- 16 - قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
- 17 - قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ
لما ذكر تعالى مبدأة أَمْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَاهُ اللَّهُ حُكْمًا وَعِلْمًا، قَالَ مُجَاهِدٌ يَعْنِي النُّبُوَّةَ {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى سَبَبَ وُصُولِهِ إِلَى مَا كان قدره له من النبوة والتكليم في قَضِيَّةَ قَتْلِهِ ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ، الَّذِي كَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِ مِنْ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى بِلَادِ مَدْيَنَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَقَالَ ابن المنكدر عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ ذَلِكَ نِصْفَ النَّهَارِ (وهو قول سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، والسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ) ، {فَوَجَدَ فيها رجلان يَقْتَتِلاَنِ} أَيْ يَتَضَارَبَانِ وَيَتَنَازَعَانِ، {هَذَا مِن شِيعَتِهِ} أي إسرائيلي {وهذا مِنْ عَدُوِّهِ} أي قبطي، فاستغاث الإسرائيلي بموسى عليه السلام، فوجد مُوسَى فُرْصَةً وَهِيَ غَفْلَةُ النَّاسِ فَعَمَدَ إِلَى الْقِبْطِيِّ {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: فوكزه أَيْ طَعَنَهُ بِجَمْعِ كَفِّهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: وَكَزَهُ بِعَصًا كَانَتْ مَعَهُ فَقَضَى عَلَيْهِ أَيْ كَانَ فِيهَا حَتْفُهُ فَمَاتَ: {قَالَ} مُوسَى {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} أَيْ بِمَا جَعَلْتَ لِي من الجاه والعز والنعمة {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً} أَيْ مُعِينًا {لِّلْمُجْرِمِينَ} أَيِ الْكَافِرِينَ بِكَ، الْمُخَالِفِينَ لِأَمْرِكَ.(2/8)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
- 18 - فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ
- 19 - فَلَمَّا إِنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذي هو عدو لهما قال يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَتَلَ ذَلِكَ الْقِبْطِيَّ إِنَّهُ أَصْبَحَ {فِي الْمَدِينَةِ خَآئِفاً} أَيْ مِنْ مَعَرَّةِ مَا فَعَلَ {يَتَرَقَّبُ} أَيْ يَتَلَفَّتُ وَيَتَوَقَّعُ مَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، فَمَرَّ فِي بَعْضِ الطرق فإِذا ذلك الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ عَلَى ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ يُقَاتِلُ آخر، فلما مر عليه مُوسَى اسْتَصْرَخَهُ عَلَى الْآخَرِ فَقَالَ لَهُ مُوسَى: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ [ص:9] مُّبِينٌ} أَيْ ظَاهِرُ الْغَوَايَةِ كَثِيرُ الشر، ثم عزم موسى عَلَى الْبَطْشِ بِذَلِكَ الْقِبْطِيِّ، فَاعْتَقَدَ الإِسرائيلي لِخَوَرِهِ وَضَعْفِهِ وَذِلَّتِهِ أَنَّ مُوسَى إِنَّمَا يُرِيدُ قَصْدَهُ لَمَّا سَمِعَهُ يَقُولُ ذَلِكَ، فَقَالَ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ {يَا مُوسَى} أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إِلَّا هُوَ وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا سَمِعَهَا ذَلِكَ الْقِبْطِيُّ لَقَفَهَا مِنْ فَمِهِ، ثُمَّ ذهب بها إلى باب فرعون وألقاها عنده فعلم فرعون بِذَلِكَ، فَاشْتَدَّ حَنَقُهُ وَعَزَمَ عَلَى قَتْلِ مُوسَى، فَطَلَبُوهُ فَبَعَثُوا وَرَاءَهُ لِيُحْضِرُوهُ لِذَلِكَ.(2/8)
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
- 20 - وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ
قَالَ تَعَالَى: {وَجَآءَ رَجُلٌ} وَصَفَهُ بِالرُّجُولِيَّةِ لِأَنَّهُ خَالَفَ الطَّرِيقَ فسلك طريقاً أقرب من طريق الذي بُعِثُوا وَرَاءَهُ فَسَبَقَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ لَهُ يَا مُوسَى {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} أَيْ يَتَشَاوَرُونَ فِيكَ {لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ} أَيْ مِنَ الْبَلَدِ {إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} .(2/9)
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
- 21 - فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
- 22 - وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ
- 23 - وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ
- 24 - فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ
لَمَّا أَخْبَرَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِمَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ فِرْعَوْنُ وَدَوْلَتُهُ فِي أَمْرِهِ، خَرَجَ مِنْ مِصْرَ وحده ولم يألف ذلك قبله، بل كان في رفاهية ونعمة ورياسة {فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ} أَيْ يَتَلَفَّتُ {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أَيْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، فَذَكَرُوا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعث ملكاً فأرشده إلى الطريق {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ} أَيْ أَخَذَ طَرِيقًا سالكاً فَرِحَ بِذَلِكَ، {قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ} أي الطَّرِيقِ الْأَقْوَمِ، فَفَعَلَ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ، وَهُدَاهُ إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة، فجعله هَادِيًا مَهْدِيًّا، {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ} أَيْ لما وَصَلَ إِلَى مَدْيَنَ وَوَرَدَ مَاءَهَا، وَكَانَ لَهَا بئر يرده رِعَاءُ الشَّاءِ {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} أَيْ جَمَاعَةً يَسْقُونَ {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ
امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} أَيْ تُكَفْكِفَانِ غَنَمَهُمَا أَنْ تَرِدَ مَعَ غَنَمِ أُولَئِكَ الرِّعَاءِ لِئَلَّا يُؤْذَيَا، فَلَمَّا رَآهُمَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَقَّ لَهُمَا وَرَحِمَهُمَا، {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} ؟ أَيْ مَا خَبَرُكُمَا لَا تَرِدَانِ مَعَ هَؤُلَاءِ، {قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} أَيْ لَا يَحْصُلُ لَنَا سَقْيٌ إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِ هَؤُلَاءِ، {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} أَيْ فهذا الحال الملجىء لَنَا إِلَى مَا تَرَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فسقى لَهُمَا} . روى عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغُوا أَعَادُوا الصَّخْرَةَ عَلَى الْبِئْرِ وَلَا يُطِيقُ رَفْعَهَا إِلَّا عَشَرَةُ رِجَالٍ، فَإِذَا هُوَ بِامْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ: مَا خَطْبُكُمَا؟ فَحَدَّثَتَاهُ فَأَتَى الْحَجَرَ فَرَفَعَهُ، ثم(2/9)
لَمْ يَسْتَقِ إِلَّا ذَنُوبًا وَاحِدًا حَتَّى رَوِيَتِ الغنم (أخرجه ابن أبي شيبة وإسناده صحيح) . وقوله تعالى: {ثُمَّ تولى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَارَ مُوسَى مِنْ مِصْرَ إِلَى مَدْيَنَ لَيْسَ لَهُ طَعَامٌ إِلَّا الْبَقْلُ وَوَرَقُ الشَّجَرِ، وَكَانَ حَافِيًا، فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه، وَجَلَسَ فِي الظِّلِّ وَهُوَ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خلقه، وإن بطنه للاصق بِظَهْرِهِ مِنَ الْجُوعِ، وَإِنَّ خُضْرَةَ الْبَقْلِ لَتُرَى مِنْ دَاخِلِ جَوْفِهِ، وَإِنَّهُ لَمُحْتَاجٌ إِلَى شِقِّ تمرة، وقوله: {إِلَى الظل} جلس تحت شجرة، قال السدي: كانت الشجرة من شجر السمر، وقال عطاء: لَمَّا قَالَ مُوسَى {رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} أَسْمَعَ الْمَرْأَةَ.(2/10)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
- 25 - فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
- 26 - قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ
- 27 - قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِّنَ الصَّالِحِينَ
- 28 - قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ
لَمَّا رَجَعَتِ الْمَرْأَتَانِ سريعاً بالغنم إلى أبيهما حالهما بسبب مجيئهما سَرِيعًا، فَسَأَلَهُمَا عَنْ خَبَرِهِمَا فَقَصَّتَا عَلَيْهِ مَا فَعَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَبَعَثَ إِحْدَاهُمَا إِلَيْهِ لتدعوه إلى أبيها، قال تَعَالَى: {فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} أَيْ مشي الحرائر، جاءت مستترة بكم درعها، قال عمر رضي الله جَاءَتْ {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} قَائِلَةً بِثَوْبِهَا عَلَى وجهها ليست بسَلْفَع من النساء ولاّجة خرّاجة (أخرجه ابن أبي حاتم وإسناده صحيح ومعنى السلفع: الجريئة من النساء السليطة الجسور كما أفاده الجوهري) . {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} وَهَذَا تَأَدُّبٌ فِي الْعِبَارَةِ لَمْ تطلبه مُطْلَقًا لِئَلَّا يُوهِمَ رِيبَةً، بَلْ قَالَتْ: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} يَعْنِي لِيُثِيبَكَ وَيُكَافِئَكَ عَلَى سَقْيِكَ لِغَنَمِنَا، {فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} أَيْ ذَكَرَ لَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَمَا جَرَى لَهُ مِنَ السَّبَبِ الَّذِي خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ مِنْ بَلَدِهِ {قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يَقُولُ: طِبْ نَفْسًا وَقَرَّ عَيْنًا فَقَدْ خَرَجْتَ مِنْ مَمْلَكَتِهِمْ فَلَا حُكْمَ لَهُمْ فِي بلادنا، ولهذا قال: {نَجَوْتَ من القوم الظلمين} . وقد اختلف المفسرون في الرجل من هو؟ على أقوال: أحدهما أَنَّهُ شُعَيْبٌ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي أُرْسِلَ إلى أهل مدين (هذا هو المشهور عند كثير من العلماء وهو قول الحسن البصري) ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ ابْنَ أَخِي شُعَيْبٍ، وَقِيلَ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ شُعَيْبٌ قَبْلَ زَمَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ لِأَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} ، وعن ابن عباس قال: الَّذِي اسْتَأْجَرَ مُوسَى (يَثْرَى) صَاحِبُ مَدْيَنَ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ: ثُمَّ قَالَ: الصَّوَابُ أَنَّ هَذَا لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِخَبَرٍ وَلَا خَبَرَ تَجِبُ به الحجة في ذلك. وقوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} أَيْ قَالَتْ(2/10)
إِحْدَى ابْنَتَيْ هَذَا الرَّجُلِ قِيلَ: هِيَ الَّتِي ذَهَبَتْ وَرَاءَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَتْ لِأَبِيهَا: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} أَيْ لِرِعْيَةِ هَذِهِ الْغَنَمِ، {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} قَالَ له أبوها: وما علمك بذلك؟ قالت له: إِنَّهُ رَفَعَ الصَّخْرَةَ الَّتِي لَا يَطِيقُ حَمْلَهَا إلاّ عشرة رجال، وإن لَمَّا جِئْتُ مَعَهُ تَقَدَّمْتُ أَمَامَهُ فَقَالَ لِي: كوني من ورائي، فإذا اختلف عليَّ الطَّرِيقَ فَاحْذِفِي لِي بِحَصَاةٍ أَعْلَمُ بِهَا كَيْفَ الطريق لأهتدي إليه (روي هذا القول عن عمر وابن عباس وشريح القاضي وقتادة ومحمد بن إسحاق وغيرهم) . وقال ابن مسعود: أَفَرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ: أَبُو بَكْرٍ حِينَ تَفَرَّسَ في عمره وصاحب يوسف حين قال أكرمي مثواه، وَصَاحِبَةُ مُوسَى حِينَ قَالَتْ: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} ، {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} أَيْ طَلَبَ إِلَيْهِ هَذَا الرَّجُلُ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ أن يرعى غنمه ويزوجه إحدى بنتيه.
وقوله تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} أَيْ عَلَى أَنْ تَرْعَى غنمي ثَمَانِي سِنِينَ، فَإِنْ تَبَرَّعْتَ بِزِيَادَةِ سَنَتَيْنِ فَهُوَ إليك، وإلاّ ففي الثمان كِفَايَةٌ، {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} أَيْ لَا أشاقك ولا أؤاذيك ولا أماريك. وفي الحديث: «إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ آجَرَ نَفْسَهُ بِعِفَّةِ فرجه وطعمة بطنه» (أخرجه ابن أبي شيبة وابن ماجة عن (عتبة بن المنذر السلمي) مرفوعاً) ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} يَقُولُ: إِنَّ مُوسَى قَالَ لِصِهْرِهِ الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْتَ مِنْ أَنَّكَ اسْتَأْجَرْتَنِي عَلَى ثَمَانِ سِنِينَ، فَإِنْ أَتْمَمْتُ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِي فَأَنَا مَتَى فَعَلْتُ أَقَلَّهُمَا، فَقَدْ بَرِئْتُ مِنَ الْعَهْدِ وَخَرَجْتُ مِنَ الشَّرْطِ، وَلِهَذَا قَالَ: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ} أَيْ فَلَا حرج عليّ، وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السلام إنما فعل أكمل الأجلين وأتمهما. روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: قَالَ سَأَلَنِي يَهُودِيٌّ مَنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ فَقُلْتُ لَا أَدْرِي حَتَّى أقدم على حبر العرب، فأسأله، فقدمت على (ابن عباس) رضي الله عنه فسألته، فَقَالَ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ إذا قال فعل. وعن أبي ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سُئِلَ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: "أَوْفَاهُمَا وَأَبَرَّهُمَا، قَالَ: وَإِنْ سُئِلْتَ أَيَّ المرأتين تزوج فقل الصغرى منهما" (أخرجه البزار عن أبي ذر رضي الله عنه) . وروى ابن جرير عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا دَعَا نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَاحِبَهُ إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: كُلُّ شَاةٍ وَلَدَتْ عَلَى غير لونها فلك ولدها، فعمد موسى فرفع حبالاً على الماء، فلما رأيت الْخَيَالَ فَزِعَتْ فَجَالَتْ جَوْلَةً، فَوَلَدْنَ كُلُّهُنَّ بُلْقًا إلاّ شاة واحدة فذهب بأولادهن كلهن ذلك العام.(2/11)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
- 29 - فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ
- 30 - فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
- 31 - وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ
- 32 - اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ(2/11)
بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ
قَدْ تقدم أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَضَى أَتَمَّ الْأَجَلَيْنِ وأوفاهما وأبرهما وأكملهما (هو عشر سنين على رأي الجمهور وقال مجاهد عشر سنين وبعدها عشر أخر رواه عن ابن جرير) . قوله: {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} قَالُوا: كَانَ مُوسَى قَدِ اشْتَاقَ إلى بلاده وأهله، فعزم على زيارتهم خُفْيَةٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَتَحَمَّلَ بِأَهْلِهِ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْغَنَمِ الَّتِي وَهَبَهَا لَهُ صِهْرُهُ، فَسَلَكَ بِهِمْ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ مُظْلِمَةٍ باردة، فنزل منزلاً فجعل كل ما أَوْرَى زَنْدَهُ لَا يُضِيءُ شَيْئًا فَتَعَجَّبَ مِنْ ذلك، فبينما هو كذلك {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} أَيْ رَأَى ناراً تضيء على بعد {فقال لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} أَيْ حَتَّى أَذْهَبَ إِلَيْهَا {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ أَضَلَّ الطَّرِيقَ {أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار} أي قطعة منها {لعلها تَصْطَلُونَ} أي تستدفئون بِهَا مِنَ الْبَرْدِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ من شاطئ الوادي الْأَيْمَنِ} أَيْ مِنْ جَانِبِ الْوَادِي مِمَّا يَلِي الْجَبَلَ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَرْبِ، كَمَا قال تعالى: {ومآ كنت بجانب الغرب إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} فَهَذَا مِمَّا يُرْشِدُ إِلَى أَنَّ مُوسَى قَصَدَ النَّارَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَالْجَبَلُ الْغَرْبِيُّ عَنْ يَمِينِهِ وَالنَّارُ وَجَدَهَا تَضْطَرِمَ فِي شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ، فِي لَحْفِ الْجَبَلِ مِمَّا يَلِي الْوَادِيَ فَوَقَفَ بَاهِتًا فِي أمرها فناداه ربه {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أَيِ الَّذِي يُخَاطِبُكَ وَيُكَلِّمُكَ هُوَ {رَبُّ العالمين} الفعال لما يشاء، تعال وَتَقَدَّسَ وتنزَّه عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، فِي ذَاتِهِ وصفاته وأقواله وأفعاله، وَقَوْلُهُ: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} أَيِ الَّتِي فِي يدك، كما في قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى؟ قَالَ هِيَ عَصَايَ أتؤكأ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} ، وَالْمَعْنَى: أَمَّا هَذِهِ عَصَاكَ الَّتِي تَعْرِفُهَا {أَلْقِهَا فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} ، فَعَرَفَ وَتَحَقَّقَ أن الذي يكلمه ويخاطبه هو الذي يقول للشيء كن فيكون. {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} أَيْ تَضْطَرِبُ، {كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً} أي في حركتها السريعة مع عظم خلقتها واتساع فمها، واصطكاك أنيابها بحيث لا تمر بصخرة إلا ابتلعها تنحدر فِي فِيهَا، تَتَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا حَادِرَةٌ فِي وَادٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ، {وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} أَيْ ولم يَلْتَفِتُ لِأَنَّ طَبْعَ الْبَشَرِيَّةِ يَنْفِرُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ لَهُ: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} رَجَعَ فَوَقَفَ في مقامه الأول، قال الله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أَيْ إِذا أَدْخَلْتَ يَدَكَ فِي جَيْبِ دِرْعِكَ ثُمَّ أَخْرَجْتَهَا فَإِنَّهَا تَخْرُجُ تَتَلَأْلَأُ كَأَنَّهَا قِطْعَةُ قَمَرٍ فِي لَمَعَانِ الْبَرْقِ، وَلِهَذَا قَالَ {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} : أَيْ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ. وقوله تعالى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: مِّن الفزع، وقال قتادة: من الرعب مِمَّا حَصَلَ لَكَ مِنْ خَوْفِكَ مِنَ الْحَيَّةِ؛ والظاهر أَنَّهُ أُمِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا خَافَ مِن شَيْءٍ إِنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ جَنَاحَهُ مِنَ الرَّهْبِ، وهو يَدُهُ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ ذَهَبَ عَنْهُ مَا تجده مِنَ الْخَوْفِ، وَرُبَّمَا إِذَا اسْتَعْمَلَ أَحَدٌ ذَلِكَ على سبيل الاقتداء فوضع يده على فؤاده، فإنه يزول عنه ما يجده. عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ مُلِئَ قَلْبُهُ رُعْبًا مِنْ فِرْعَوْنَ، فَكَانَ إِذَا رَآهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَدْرَأُ بِكَ في نحره، وأعوذ بك من شره» فنزع اللَّهُ مَا كَانَ فِي قَلْبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَعَلَهُ فِي قَلْبِ فِرْعَوْنَ فَكَانَ إِذَا رآه بال كما يبول الحمار (رواه ابن أبي حاتم عن مجاهد) . وقوله تعالى: {فَذَانِكَ(2/12)
بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ} يعني جعل العصا حَيَّةً تَسْعَى، وَإِدْخَالَهُ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ فَتَخْرُجُ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، دَلِيلَانِ قَاطِعَانِ وَاضِحَانِ عَلَى قُدْرَةِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَصِحَّةِ نُبُوَّةِ مَنْ جَرَى هَذَا الْخَارِقُ عَلَى يَدَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {إلى فرعون وملته} أَيْ وَقَوْمِهِ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْكُبَرَاءِ وَالْأَتْبَاعِ، {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} أَيْ خَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ الله مخالفين لأمره ودينه.(2/13)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
- 33 - قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ
- 34 - وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ معي ردء يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ إِنْ يُكَذِّبُونِ
- 35 - قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ
لَمَّا أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً} يَعْنِي ذَلِكَ الْقِبْطِيَّ، {فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} أَيْ إِذَا رَأَوْنِي، {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي لِسَانِهِ لَثْغَةٌ بِسَبَبِ مَا كَانَ تَنَاوَلَ تِلْكَ الجمرة، فَحَصَلَ فِيهِ شِدَّةٌ فِي التَّعْبِيرِ، وَلِهَذَا قَالَ: {واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يفقهوا قولي} {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً} أَيْ وَزِيرًا وَمُعِينًا وَمُقَوِّيا لِأَمْرِي، يَصَدِّقُنِي فِيمَا أَقُولُهُ وَأُخْبِرُ بِهِ عَنِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، لأن خبر الاثنين أنجع في النفوس من خبر الواحد، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: {رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} أَيْ يُبَيِّنُ لهم ما أكملهم به فإنه يفهم عني ما لا يعلمون، فلما سأل ذلك موسى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} أَيْ سَنُقَوِّي أَمْرَكَ وَنُعِزُّ جَانِبَكَ بِأَخِيكَ، الَّذِي سَأَلْتَ لَهُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَعَكَ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا موسى} . وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَيْسَ أَحَدٌ أَعْظَمَ مِنَّةً عَلَى أَخِيهِ مِنْ (مُوسَى) عَلَى (هَارُونَ) عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنَّهُ شُفِّعَ فِيهِ حَتَّى جَعَلَهُ الله نبياً ورسولاً، ولهذا قال تَعَالَى فِي حَقِّ مُوسَى {وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} أَيْ حُجَّةً قَاهِرَةً {فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ} أَيْ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى أَذَاكُمَا بِسَبَبِ إبلاغكما آيات اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يِا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ من ربك - إلى قوله - والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} ، وَلِهَذَا أَخْبَرَهُمَا أَنَّ الْعَاقِبَةَ لَهُمَا وَلِمَنِ اتَّبَعَهُمَا في الدنيا والآخرة فقال تعالى: {أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا} إلى آخر الآية.(2/13)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
- 36 - فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى آبَآئِنَا الْأَوَّلِينَ
- 37 - وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ مَجِيءِ مُوسَى وَأَخِيهِ هَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَعَرْضِهِ مَا آتَاهُمَا اللَّهُ من المعجزات الباهرة والدلالة القاهرة، على صدقهما فيما أخبرا به عَنِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، مِنْ تَوْحِيدِهِ وَاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ، فَلَمَّا عَايَنَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ ذَلِكَ وَشَاهَدُوهُ وتحققوه، وأيقنوا أنه من عند اللَّهِ، عَدَلُوا بِكُفْرِهِمْ وَبَغْيِهِمْ إِلَى الْعِنَادِ وَالْمُبَاهَتَةِ، وَذَلِكَ لِطُغْيَانِهِمْ وَتَكَبُّرِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، فَقَالُوا: {مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى} أَيْ مُفْتَعَلٌ مصنوع، وأرادوا معارضته بالحيلة والجاه، وقوله:(2/13)
{وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى آبَآئِنَا الْأَوَّلِينَ} يَعْنُونَ عبادة الله وحده لا شريك له، ويقولون مَا رَأَيْنَا أَحَدًا مِنْ آبَائِنَا عَلَى هَذَا الدِّينِ، وَلَمْ نَرَ النَّاسَ إِلَّا يُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى، فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُجِيبًا لَهُمْ: {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ} يَعْنِي مِنِّي وَمِنْكُمْ، وَسَيَفْصِلُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار} أي من النُّصْرَةُ وَالظَّفَرُ وَالتَّأْيِيدُ، {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي المشركون بالله عز وجل.(2/14)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
- 38 - وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ
- 39 - وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ
- 40 - فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ
- 41 - وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ
- 42 - وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كُفْرِ فرعون وطغيانه، وافترائه في دعواه الإِلهية لعنه الله، كما قال الله تعالى: {فاستخف قَوْمَهُ فأطاعوه} الآية، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى الِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ بِقِلَّةِ عُقُولِهِمْ وَسَخَافَةِ أَذْهَانِهِمْ؛ ولهذا قال: {يا أيها الملأ ما عملت لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} ، وقال تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُ {فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} يَعْنِي أَنَّهُ جَمَعَ قَوْمَهُ وَنَادَى فِيهِمْ بِصَوْتِهِ العالي مصرحاً لهم بذلك فأجابوه سامعين مطعين، وَلِهَذَا انْتَقَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ فَجَعَلَهُ عِبْرَةً لِغَيْرِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَحَتَّى إِنَّهُ وَاجَهَ مُوسَى الْكِلِيمَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} ، وَقَوْلُهُ: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ موسى} يعني أمر وزيره (هامان) مدير رعيته أن يوقد له على الطين يعني يتخذ لَهُ آجُرًّا لِبِنَاءِ الصَّرْحِ، وَهُوَ الْقَصْرُ الْمُنِيفُ الرفيع العالي، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كاذباً} الآية. وَذَلِكَ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ بَنَى هَذَا الصَّرْحَ الَّذِي لَمْ يُرَ فِي الدُّنْيَا بِنَاءٌ أَعْلَى مِنْهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا أَنْ يُظْهِرَ لِرَعِيَّتِهِ تَكْذِيبَ موسى فما زَعَمَهُ مِنْ دَعْوَى إِلَهٍ غَيْرِ فِرْعَوْنَ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أَيْ فِي قَوْلِهِ إِنَّ ثَمَّ رَبًّا غَيْرِي، لَا أَنَّهُ كذبه في أن الله تعالى أَرْسَلَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْتَرِفُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ جل وعلا، فإنه قال: {وَمَا رَبُّ العالمين} ؟ وقال: {وَمَا رَبُّ العالمين} ؟ وَقَالَ: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} ، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ، وقوله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} أَيْ طَغَوْا وَتَجَبَّرُوا وَأَكْثَرُوا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لا قيامة ولا معاد، {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} ، ولهذا قال تعالى ههنا: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} أَيْ أَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْبَحْرِ فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أَيْ لِمَنْ سلك وراءهم وأخذ بطريقهم فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَتَعْطِيلِ الصَّانِعِ، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ} أَيْ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ خِزْيُ الدُّنْيَا مَوْصُولًا بِذُلِّ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَهْلَكْنَاهُمْ(2/14)
فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ} ، وقوله تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أَيْ وَشَرَعَ اللَّهُ لَعْنَتَهُمْ وَلَعْنَةَ مَلِكِهِمْ فِرْعَوْنَ عَلَى أَلْسِنَةِ المؤمنين من عبادة المتبعين لرسله كما أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا مَلْعُونُونَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ كَذَلِكَ، {وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} قال قتادة: هذه الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرفد المرفود} .(2/15)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
- 43 - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا أَنْعَمُ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُوسَى الْكِلِيمِ، عَلَيْهِ مِنْ ربه أفضل الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ، مِنْ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ عَلَيْهِ بَعْدَمَا أهلك فرعون وملأه، وقوله تعالى: {من بعدما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} يَعْنِي أَنَّهُ بَعْدَ إِنْزَالِ التَّوْرَاةِ لَمْ يُعَذِّبْ أُمَّةً بِعَامَّةٍ، بَلْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، كما قال تعالى: {وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً} ، وروى ابن جرير عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، غير أهل القرية الذين مسخوا قردة بعد مُوسَى، ثُمَّ قَرَأَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى} (أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري موقوفاً، ورواه البزار من طريق آخر عن أبي سعيد مرفوعاً بلفظ مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا بِعَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا قَبْلَ مُوسَى ثُمَّ قرأ {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعدما أَهْلَكْنَا القرون الأولى} ) الآية، وقوله: {بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً} أَيْ مِنَ الْعَمَى وَالْغَيِّ، {وَهُدًى} إِلَى الْحَقِّ، {وَرَحْمَةً} أي إرشاد إلى العمل الصالح، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أَيْ لَعَلَّ النَّاسَ يَتَذَكَّرُونَ بِهِ ويهتدون بسببه.(2/15)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
- 44 - وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ
- 45 - وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ
- 46 - وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
- 47 - وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
يَقُولُ تعالى منبهاً على برهان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، حَيْثُ أَخْبَرَ بِالْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ خَبَرًا كَأَنَّ سَامِعَهُ شاهدٌ وراءٍ لِمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ الْكُتُبِ، نَشَأَ بَيْنَ قَوْمٍ لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، كَمَا أنه لما أخبره عن مريم، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} ، ولما أخبره عن نوح وإغراق قومه، قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} الآية. وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ يُوسُفَ {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} الآية، وَقَالَ فِي سُورَةِ طَهَ: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ(2/15)
ما قد سبق} الآية، وقال ههنا بعدما أخبر عن قصة موسى {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الأمر} يعني ما كنت يا محمد بِجَانِبِ الْجَبَلِ الْغَرْبِيِّ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى من الشجرة عَلَى شَاطِئِ الْوَادِي، {وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} لِذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْحَى إِلَيْكَ ذلك، ليكون حُجَّةً وَبُرْهَانًا عَلَى قُرُونٍ قَدْ تَطَاوَلَ عَهْدُهَا، وَنَسُوا حُجَجَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَمَا أَوْحَاهُ إِلَى الأنبياء المتقدمين، وقال تعالى: {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أَيْ وَمَا كُنْتَ مُقِيمًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا، حِينَ أُخْبِرْتَ عن نبيها شعيب وما قاله لِقَوْمِهِ وَمَا رَدُّوا عَلَيْهِ، {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أَيْ وَلَكِنْ نَحْنُ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ذَلِكَ، وَأَرْسَلْنَاكَ إلى الناس رَسُولًا، {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} قيل: المراد أمة محمد، نودوا يا أمة محمد أعطيتهم قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي وَأَجَبْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي (أخرجه النسائي في سننه عن أبي هريرة موقوتاً، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم أيضاً) ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} موسى، وهذا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} ، ثُمَّ أَخْبَرَ ههنا بِصِيغَةٍ أُخْرَى أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ النِّدَاءُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} ، وقال تعالى: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالوادي المقدس طوى} ، وقال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} ، وقوله تعالى: {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} أَيْ مَا كُنْتَ مشاهداً لشيء من ذلك، ولكن الله تعالى أوحاه إليك وأخبرك به رحمة منه بك وَبِالْعِبَادِ بِإِرْسَالِكَ إِلَيْهِمْ، {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أَيْ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، {وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} الآية، أي وأرسلناك إليهم لتقيم عليهم الحجة، ولينقطع عُذْرَهُمْ إِذَا جَاءَهُمْ عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ بِكُفْرِهِمْ، فَيَحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ وَلَا نَذِيرٌ، كما قال تَعَالَى: {أَن تَقُولُوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ ونذير} والآيات في هذه كثيرة.(2/16)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
- 48 - فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ
- 49 - قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
- 50 - فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله إِن اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
- 51 - وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مخبراً عن القوم أنه لَوْ عَذَّبَهُمْ قَبْلَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لَاحْتَجُّوا بأنهم لم يأتهم رسول، فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا على وجه التعنت والعناد، والكفر والإِلحاد: {لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَى} الآية، يعنون مِثْلَ الْعَصَا، وَالْيَدِ، وَالطُّوفَانِ، وَالْجَرَادِ، والقُمّل، وَالضَّفَادِعِ، والدم، وتنقيص الزوع وَالثِّمَارِ مِمَّا يَضِيقُ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَكَفَلْقِ الْبَحْرِ، وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ، وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَالْحُجَجِ الْقَاهِرَةِ، التي أجرها الله تعالى على يدي موسى عليه السلام، حجة وبرهاناً(2/16)
له على فرعون وملئه، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَنْجَعْ فِي فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، بَلْ كَفَرُوا بِمُوسَى وَأَخِيهِ هَارُونَ، كَمَا قَالُوا لَهُمَا: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آباءنا} ، وقال تعالى: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ المهلكين} ، ولهذا قال ها هنا: {أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ} أَيْ أَوْلَمَ يَكْفُرِ الْبَشَرُ بِمَا أُوتِيَ مُوسَى من تلك الآيات العظيمة، {قالوا ساحران تَظَاهَرَا} أَيْ تَعَاوَنَا، {وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} أي بكل منهما كافرون، قال مجاهد: أمرت اليهود قريشاً أَنْ يَقُولُوا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَقَالَ اللَّهُ: {أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قالوا ساحران تَظَاهَرَا} قَالَ: يَعْنِي مُوسَى وَهَارُونَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تَظَاهَرَا} أَيْ تَعَاوَنَا وَتَنَاصَرَا وَصَدَّقَ كل منها الآخر، وهذا قول جيد قوي، وعن ابن عباس: {قَالُواْ ساحران تَظَاهَرَا} قال: يعنون موسى ومحمداً صلى الله عليه وسلم وهذا رواية الحسن البصري، وأما من قرأ {سحران تظاهرا} فروي عن ابن عباس: يعنون التوراة والقرآن، قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي صَدَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الآخر، وقال عكرمة: يعنون التوراة والإِنجيل واختاره ابن جرير، والظاهر أَنَّهُمْ يَعْنُونَ التَّوْرَاةَ وَالْقُرْآنَ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: {قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ} ، وَكَثِيرًا مَا يُقْرِنُ اللَّهُ بَيْنَ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ - إِلَى أَنْ قَالَ - وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مبارك} ، وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} الآية، وقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ ترحمون} .
وَقَدْ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ لِذَوِي الْأَلْبَابِ، أَنَّ اللَّهَ تعالى لَمْ يُنْزِلْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ - فِيمَا أَنْزَلَ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَعَدِّدَةِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ - أَكْمَلَ وَلَا أَشْمَلَ وَلَا أَفْصَحَ وَلَا أَعْظَمَ وَلَا أَشْرَفَ، مِنَ الْكِتَابِ الذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَبَعْدَهُ فِي الشَّرَفِ وَالْعَظَمَةِ الْكِتَابُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُوسَى عليه السلام، وهو الكتاب الذي قال الله فيه: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} والإِنجيل إنما أنزل متمماً للتوراة، ومحلاً لبعض ما حرم بني إسرائيل. ولهذا قال تعالى: {قَالَ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ فِيمَا تُدَافِعُونَ بِهِ الْحَقَّ وَتُعَارِضُونَ بِهِ مِنَ الْبَاطِلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ} أَيْ فَإِنْ لَمْ يُجِيبُوكَ عَمَّا قُلْتَ لَهُمْ وَلَمْ يَتَّبِعُوا الْحَقَّ {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ} أَيْ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله} أَيْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مَأْخُوذَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: فَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: بيَّنا لَهُمُ الْقَوْلَ، وَقَالَ قَتَادَةُ، يَقُولُ تَعَالَى: أَخْبَرَهُمْ كَيْفَ صُنِعَ بِمَنْ مَضَى وَكَيْفَ هُوَ صَانِعٌ {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .(2/17)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
- 52 - الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ
- 53 - وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ
- 54 - أُولَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ ويدرؤون بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
- 55 - وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي
الْجَاهِلِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْعُلَمَاءِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ(2/17)
يَتْلُونَهُ حق تلاوة أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِن مِّن أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لله} . قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ فِي سَبْعِينَ مِنَ الْقِسِّيسِينَ بَعَثَهُمُ النَّجَاشِيُّ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَيْهِمْ: {يسن وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} حَتَّى خَتَمَهَا، فَجَعَلُوا يَبْكُونَ وَأَسْلَمُوا، وَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ الْأُخْرَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} يَعْنِي مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ كُنَّا مُسْلِمِينَ أَيْ مُوَحِّدِينَ مُخْلِصِينَ لِلَّهِ مُسْتَجِيبِينَ لَهُ، قَالَ الله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ} أَيْ هَؤُلَاءِ الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ بِالثَّانِي، وَلِهَذَا قَالَ: {بِمَا صَبَرُواْ} أَيْ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ، فَإِنَّ تَجَشُّمَ مِثْلِ هَذَا شَدِيدٌ عَلَى النُّفُوسِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصحيح: "ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ ثُمَّ آمَنَ بِي، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حقَّ اللَّهِ وحقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَة فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أعتقها فتزوجها"، وفي الحديث: «مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَلَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا» (أخرجه الإمام أحمد عن القاسم بن أبي أمامة) ، وقوله تعالى: {ويدرأون بالحسنة السيئة} أي لا يقابلون السيء بِمِثْلِهِ وَلَكِنْ يَعْفُونَ وَيَصْفَحُونَ، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أَيْ وَمِنَ الَّذِي رَزَقَهُمْ مِنَ الْحَلَالِ يُنْفِقُونَ على خلق الله في الزكاة المفروضة، وصدقات النفل والقربات، وقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ} أَيْ لَا يُخَالِطُونَ أَهْلَهُ وَلَا يُعَاشِرُونَهُمْ، بَلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} ، {وَقَالُوا لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} أَيْ إِذَا سَفَّهَ عَلَيْهِمْ وكلمهم بما لا يليق أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَلَمْ يُقَابِلُوهُ بِمِثْلِهِ مِنَ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ، وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ إِلَّا كَلَامٌ طَيِّبٌ، وقالوا: {لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أعمالنا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} أَيْ لَا نُرِيدُ طَرِيقَ الْجَاهِلِينَ وَلَا نُحِبُّهَا. قَالَ مُحَمَّدُ بن إسحاق: ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ عِشْرُونَ رَجُلًا أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مِنَ النَّصَارَى حِينَ بَلَغَهُمْ خَبَرُهُ مِنَ الْحَبَشَةِ، فَوَجَدُوهُ فِي الْمَسْجِدِ فَجَلَسُوا إِلَيْهِ وَكَلَّمُوهُ وَسَاءَلُوهُ وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مُسَاءَلَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا أرادوا دعاهم إلى الله تعالى، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ فَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ، ثُمَّ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا كَانَ يُوصَفُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِهِ، فَلَمَّا قَامُوا عَنْهُ اعْتَرَضَهُمْ (أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ) فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا لَهُمْ: خَيَّبَكُمُ اللَّهُ مِنْ رَكْبٍ، بَعَثَكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ تَرْتَادُونَ لَهُمْ لِتَأْتُوهُمْ بِخَبَرِ الرَّجُلِ، فَلَمْ تَطْمَئِنَّ مَجَالِسُكُمْ عِنْدَهُ، حَتَّى فَارَقْتُمْ دِينَكُمْ وَصَدَّقْتُمُوهُ فِيمَا قَالَ، مَا نَعْلَمُ رَكْبًا أَحْمَقَ مِنْكُمْ، فَقَالُوا لَهُمْ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نُجَاهِلُكُمْ، لَنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، وَلَكُمْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، قَالَ وَيُقَالُ: إِنَّ النَّفَرَ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نجران وفيهم نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} ، إِلَى قَوْلِهِ: {لاَ نَبْتَغِي الجاهلين} قال: وسألت الزهري عن هذه الآيات فيمن نزلت؟ قَالَ: مَا زِلْتُ أَسْمَعُ مِنْ عُلَمَائِنَا أَنَّهُنَّ نزلن فِي (النَّجَاشِيِّ) وَأَصْحَابِهِ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالْآيَاتُ اللاتي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ورهباناً - إلى قوله - فاكتبنا مَعَ الشاهدين} .(2/18)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
- 56 - إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
- 57 - وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَدُنَّا وَلَكِنَّ(2/18)
أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنك يا محمد {لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} أَيْ لَيْسَ إِلَيْكَ ذَلِكَ، إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يشاء، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يشاء} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي (أَبِي طَالِبٍ) عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ يَحُوطُهُ وَيَنْصُرُهُ، وَيَقُومُ في صفه ويحبه حباً شديداً، فلما حضرته الوفاة دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإيمان والدخول في الإِسلام، فَاسْتَمَرَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، ولله الحكمة التامة، روى الزهري عن الْمُسَيَّبُ بْنُ حَزَنٍ الْمَخْزُومِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عنده (أبا جهل بن هشام) و (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمية بْنِ الْمُغِيرَةِ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةٌ أحاج لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرضها عليه ويعودان عليه بتلك المقالة، حتى كان آخر ما قال: هو على ملة عبد الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «والله لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أنهَ عَنْكَ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى" وَأَنْزَلَ فِي أَبِي طَالِبٍ: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (أخرجه البخاري ومسلم) ، وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ أَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا عَمَّاهُ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي بِهَا قُرَيْشٌ يَقُولُونَ مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ إِلَّا جَزَعُ الْمَوْتِ لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، لَا أَقُولُهَا إِلَّا لِأُقِرَّ بِهَا عينك، فأنزل الله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يشآء وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} (أخرجه مسلم والترمذي) .
وقوله تَعَالَى: {وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ} يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ اعْتِذَارِ بَعْضِ الْكُفَّارِ فِي عَدَمِ اتِّبَاعِ الْهُدَى حَيْثُ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} أَيْ نَخْشَى إِنِ اتَّبَعْنَا مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَخَالَفْنَا مَنْ حَوْلَنَا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ الْمُشْرِكِينَ، أَنْ يَقْصِدُونَا بِالْأَذَى وَالْمُحَارَبَةِ، وَيَتَخَطَّفُونَا أَيْنَمَا كنا، قال اللَّهُ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً} يَعْنِي هَذَا الَّذِي اعْتَذَرُوا بِهِ كذب وباطل، لأن الله تعالى جَعَلَهُمْ فِي بَلَدٍ أَمِينٍ، وَحَرَمٍ مُعَظَّمٍ آمِنٍ مُنْذُ وُضِعَ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْحَرَمُ آمِنًا لهم فِي حَالِ كَفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ. وَلَا يَكُونُ آمِنًا وقد أسلموا وتابعوا الحق؟ وقوله تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} أَيْ مِنْ سَائِرِ الثِّمَارِ مِمَّا حَوْلَهُ مِنَ الطَّائِفِ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَتَاجِرُ وَالْأَمْتِعَةُ {رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّآ} أَيْ من عندنا {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يعلمون} ولهذا قالوا ما قالوا.(2/19)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
- 58 - وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ
- 59 - وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وأهلها ظالمون(2/19)
يقول تعالى معرّضاً بأهل مكة: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أَيْ طَغَتْ وَأَشِرَتْ، وَكَفَرَتْ نِعْمَةَ اللَّهِ فِيمَا أَنْعَمَ به عليهم من الأزراق، كما قال: {وَضَرَبَ الله مئلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِن كُلِّ مَكَانٍ - إلى قوله - فَأَخَذَهُمُ العذاب وَهُمْ ظَالِمُونَ} ، ولهذا قال تعالى: {فتلك مساكنهم لهم تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً} أَيْ دُثِرَتْ ديارهم فلا ترى إلاّ مساكنهم، وقوله تعالى: {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} أَيْ رَجَعَتْ خَرَابًا لَيْسَ فيها أحد، ثم قال تعالى مُخْبِرًا عَنْ عَدْلِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُهْلِكُ أَحَدًا ظالماً له، وإنما بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا} وَهِيَ مَكَّةُ {رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} فيه دلالة على أن النبي الأمي رَسُولٌ إِلَى جَمِيعِ الْقُرَى مِنْ عَرَبٍ وَأَعْجَامٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حولها} ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إليكم جميعا} ، وتمام الدليل قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عذابا شديداً} الآية، فأخبر تعالى أَنَّهُ سَيُهْلِكُ كُلَّ قَرْيَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وقد قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} فَجَعَلَ تَعَالَى بِعْثَةَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ شَامِلَةً لِجَمِيعِ القرى لأنهم مَبْعُوثٌ إِلَى أُمِّهَا وَأَصْلِهَا الَّتِي تَرْجِعُ إِلَيْهَا، وثبت في الصحيحين عنه صلوات الله عليه وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ والأسود» ولهذا ختم به النبوة والرسالة، فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَلَا رَسُولَ، بَلْ شَرْعُهُ بَاقٍ بَقَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً} أَيْ أَصْلِهَا وَعَظِيمَتِهَا كَأُمَّهَاتِ الرَّسَاتِيقِ وَالْأَقَالِيمِ (حَكَاهُ الزمخشري وابن الجوزي وغيرهما وليس ببعيد كما قال ابن كثبير) .(2/20)
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
- 60 - وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ
- 61 - أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ حَقَارَةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ الزِّينَةِ الدَّنِيئَةِ وَالزَّهْرَةِ الْفَانِيَةِ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، مِنَ النعيم العظيم المقيم، كما قال تَعَالَى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} وقال: {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} ، وَقَالَ: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والله ما الحياة الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَغْمِسُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ» (أخرجه مسلم في صحيحه) ، وقوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أَيْ أَفَلَا يَعْقِلُ مَنْ يُقَدِّمُ الدُّنْيَا عَلَى الآخرة، وقوله تَعَالَى: {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ القيامة مِنَ المحضرين} ، يقول تعالى: أَفَمَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ مُصَدِّقٌ بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ على صالح الأعمال من الثواب، كَمَنْ هُوَ كَافِرٌ مُكَذِّبٌ بِلِقَاءِ اللَّهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فَهُوَ مُمَتَّعٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَيَّامًا قَلَائِلَ {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} ؟ قال مجاهد: مِّن المعذبين، وهذا كقوله تعالى: {وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} .(2/20)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
- 62 - وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ
- 63 - قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ
- 64 - وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ(2/20)
يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ
- 65 - وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ
- 66 - فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ
- 67 - فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عما يوبخ به الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَيْثُ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ؟ يَعْنِي: أَيْنَ الْآلِهَةُ الَّتِي كُنْتُمْ تَعْبُدُونَهَا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ؟ وَهَذَا على سبيل التقريع والتهديد كما قال تعالى: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ، وَقَوْلُهُ: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} يَعْنِي الشَّيَاطِينِ وَالْمَرَدَةِ وَالدُّعَاةِ إِلَى الْكُفْرِ {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} فَشَهِدُوا عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أغووهم فاتبعوهم، ثم تبرأوا من عبادتهم، قَالَ تَعَالَى: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضداً} ، وقال تَعَالَى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كافرين} ، وقال الخليل عليه السلام لقومه {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} الآية، وقال الله تعالى: {وإذا تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا} الآية، وَلِهَذَا قَالَ: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ} أَيْ لِيُخَلِّصُوكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ كَمَا كُنْتُمْ تَرْجُونَ مِنْهُمْ في الدار الدنيا، {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ} ، أَيْ وَتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى النَّارِ لَا مَحَالَةَ، وَقَوْلُهُ: {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} أَيْ فودُّوا حِينَ عَايَنُوا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً * وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مصرفاً} وَقَوْلُهُ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} النداء الأول سؤال عن التوحيد، وهذا عن إِثْبَاتُ النُّبُوَّاتِ، مَاذَا كَانَ جَوَابُكُمْ لِلْمُرْسَلِينَ إِلَيْكُمْ، وَكَيْفَ كَانَ حَالُكُمْ مَعَهُمْ؟ وَهَذَا كَمَا يُسْأَلُ الْعَبْدُ فِي قَبْرِهِ: مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَشْهَدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَقُولُ: هَاهَ هَاهَ لَا أَدْرِي، وَلِهَذَا لَا جَوَابَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرَ السُّكُوتِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا، وَلِهَذَا قال تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبياء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ} قال مُجَاهِدٌ: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَجُ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ بِالْأَنْسَابِ، وَقَوْلُهُ: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أَيْ فِي الدُّنْيَا {فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَ (عَسَى) مِنَ اللَّهِ مُوجِبَةٌ، فَإِنَّ هَذَا وَاقِعٌ بِفَضْلِ الله ومنته لا محالة.(2/21)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
- 68 - وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
- 69 - وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ
- 70 - وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالِاخْتِيَارِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ مُنَازِعٌ وَلَا معقب، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ(2/21)
مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ} أَيْ مَا يَشَاءُ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَالْأُمُورُ كُلُّهَا خَيْرُهَا وَشَرُّهَا بِيَدِهِ وَمَرْجِعُهَا إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: {مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} نَفْيٌ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} ، وَلِهَذَا قَالَ: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أَيْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ الَّتِي لَا تَخْلُقُ ولا تختار شيئاً، ثم قال تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} أَيْ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ الضَّمَائِرُ، وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ السَّرَائِرُ، كَمَا يَعْلَمُ مَا تُبْدِيهِ الظَّوَاهِرُ مِنْ سَائِرِ الْخَلَائِقِ {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} ، وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أَيْ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَلَا مَعْبُودَ سِوَاهُ، كما لا رب سِوَاهُ، {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} أَيْ فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ هُوَ الْمَحْمُودُ عَلَيْهِ بعدله وَحِكْمَتِهِ، {وَلَهُ الْحُكْمُ} أَيِ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لَهُ لِقَهْرِهِ وَغَلَبَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحِمَتِهِ، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي جميعكم يوم القيامة، فيجزي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ.(2/22)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
- 71 - قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ
- 72 - قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ
- 73 - وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ بِمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ اللَّذَيْنِ لَا قِوَامَ لَهُمْ بِدُونِهِمَا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ اللَّيْلَ دَائِمًا عَلَيْهِمْ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَضَرَّ ذَلِكَ بِهِمْ، وَلَسَئِمَتْهُ النفوس، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ} أَيْ تُبْصِرُونَ بِهِ وَتَسْتَأْنِسُونَ بِسَبَبِهِ {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} ؟ ثم أخبر تعالى أنه لو جعل النهار {سَرْمَداً} أي دَائِمًا مُسْتَمِرًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَضَرَّ ذَلِكَ بِهِمْ، وَلَتَعِبَتِ الْأَبْدَانُ وَكَلَّتْ مِنْ كَثْرَةِ الْحَرَكَاتِ والأشغال، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} ؟ أَيْ تَسْتَرِيحُونَ مِنْ حركاتكم وأشغالهم، {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} ؟ * وَمِن رَّحْمَتِهِ} أَيْ بِكُمْ {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أَيْ خَلَقَ هَذَا وَهَذَا {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} أَيْ فِي اللَّيْلِ، {وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} (هذا النوع يسمى في علم البديع (اللف والنشر المرتب) حيث جمعهما في اللفظ (الليل والنهار) ثم أعاد ما يتعلق بهما الأول على الأول، والثاني على الثاني) أَيْ فِي النَّهَارِ بِالْأَسْفَارِ وَالتَّرْحَالِ وَالْحَرَكَاتِ وَالْأَشْغَالِ، وَقَوْلُهُ: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أَيْ تَشْكُرُونَ اللَّهَ بِأَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ بِاللَّيْلِ اسْتَدْرَكَهُ بِالنَّهَارِ، أَوْ بِالنَّهَارِ اسْتَدْرَكَهُ بِاللَّيْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ شكوراً} وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ.(2/22)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
- 74 - وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ
- 75 - وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
وَهَذَا أَيْضًا نِدَاءٌ ثان على سبيل التوبيخ والتقريع لِمَنْ عَبَدَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، يُنَادِيهِمُ الرب تعالى على رؤوس [ص:23] الْأَشْهَادِ فَيَقُولُ: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أي في دار الدُّنْيَا، {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي رَسُولًا، {فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} أَيْ عَلَى صِحَّةِ مَا ادَّعَيْتُمُوهُ مِنْ أَنَّ لِلَّهِ شُرَكَاءَ {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} أَيْ لَا إله غيره فَلَمْ يَنْطِقُوا وَلَمْ يُحِيرُوا جَوَابًا، {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أَيْ ذَهَبُوا فَلَمْ يَنْفَعُوهُمْ.(2/22)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
- 76 - إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمٍ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إن الله لا يحب الْفَرِحِينَ
- 77 - وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرض إن الله لا يحب المفسدين
عن ابن عباس قال في قوله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمٍ مُوسَى} قَالَ: كان ابن عمه (وهو قول إبراهيم النخعي وقَتَادَةُ وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمْ) ، وقال ابن جريج: هو قارون بن يصهب بْنِ قَاهِثَ، وَمُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ قَاهِثَ، وزعم محمد بن إسحاق إن قارون كان عم موسى بن عمران عليه السلام، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عمه والله أعلم، وقال قتادة: كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّ مُوسَى، وَكَانَ يُسَمَّى الْمُنَوَّرَ لِحُسْنِ صَوْتِهِ بِالتَّوْرَاةِ، وَلَكِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ نَافَقَ كَمَا نَافَقَ السَّامِرِيُّ، فَأَهْلَكَهُ البغي لكثرة ماله، وقوله: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز} أي الأموال {مَآ إن مفاتحه لتنوأ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ} أَيْ لَيُثْقِلُ حَمْلُهَا الفِئام من الناس لكثرتها، قال الأعمش: كَانَتْ مَفَاتِيحُ كُنُوزِ قَارُونَ مِنْ جُلُودٍ، كُلُّ مِفْتَاحٍ عَلَى خِزَانَةٍ عَلَى حِدَّتِهِ، فَإِذَا رَكِبَ حُمِلَتْ عَلَى سِتِّينَ بَغْلًا أَغَرَّ مُحَجَّلًا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاتفرح إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أَيْ وَعَظَهُ فيما هو فيه صالحو قَوْمِهِ، فَقَالُوا عَلَى سَبِيلِ النُّصْحِ وَالْإِرْشَادِ: لَا تَفْرَحْ بِمَا أَنْتَ فِيهِ، يَعْنُونَ لَا تَبْطَرْ بما أنت فيه من المال {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْمَرِحِينَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْأَشِرِينَ الْبَطِرِينَ، الَّذِينَ لَا يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ، وَقَوْلُهُ: {وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخرة وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا} أي اسْتَعْمِلْ مَا وَهَبَكَ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ الْجَزِيلِ وَالنِّعْمَةِ الطَّائِلَةِ فِي طَاعَةِ رَبِّكَ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ الَّتِي يَحْصُلُ لَكَ بِهَا الثواب في الدنيا والآخرة، {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أَيْ مِمَّا أَبَاحَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَنَاكَحِ، فَإِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِنَفْسِكَ عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزوجك عَلَيْكَ حَقًّا، فَآتِ كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ، {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أَيْ أَحْسِنْ إِلَى خَلْقِهِ كَمَا أَحْسَنَ هُوَ إِلَيْكَ، {وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} أَيْ لَا تَكُنْ هِمَّتُكَ بِمَا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تُفْسِدَ بِهِ في الْأَرْضَ وَتُسِيءَ إِلَى خَلْقِ اللَّهِ {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} .(2/23)
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
- 78 - قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ جَوَابِ قَارُونَ لِقَوْمِهِ حِينَ نَصَحُوهُ وَأَرْشَدُوهُ إِلَى الْخَيْرِ {قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}(2/23)
أَيْ أَنَا لَا أَفْتَقِرُ إِلَى مَا تَقُولُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَعْطَانِي هَذَا الْمَالَ لِعِلْمِهِ بِأَنِّي أَسْتَحِقُّهُ وَلِمَحَبَّتِهِ لِي، فَتَقْدِيرُهُ إِنَّمَا أُعْطِيتُهُ لِعِلْمِ اللَّهِ فيَّ أَنِّي أَهْلٌ لَهُ، وهذا كقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} أي على علم من الله بي، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَرَادَ {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} أَيْ إِنَّهُ كَانَ يعني عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ فِي نَفْسِهِ عِلْمٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّ قَلْبَ الأعيان لا يقدر أحد عليه إلا الله عز وجلَّ (ردّ ابن كثير على هذا القول وبيّن أن من ادعى أنه يُحيل ماهية ذات إلى ماهية أُخرى فإنما هو كذب وجهل وضلال، وزغل وتمويه على الناس ثم قال: فأما ما يجريه الله سبحانه مِنْ خَرْقِ الْعَوَائِدِ عَلَى يَدَيْ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ فَهَذَا أَمْرٌ لَا يُنْكِرُهُ مُسْلِمٌ، وَلَا يَرُدُّهُ مؤمن، وقد أجاد رحمه الله في هذا المقام وأفاده) ، وقال بعضهم: إن قارون كان يعرف الِاسْمَ الْأَعْظَمَ فَدَعَا اللَّهَ بِهِ فَتَمَوَّلَ بِسَبَبِهِ، وَالصَّحِيحُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ اعْتِنَاءِ اللَّهِ بِهِ فِيمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْمَالِ {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} ؟ أَيْ قَدْ كَانَ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ مَالًا، وَمَا كَانَ ذَلِكَ عَنْ مَحَبَّةٍ مِنَّا لَهُ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ مَعَ ذَلِكَ بِكَفْرِهِمْ وَعَدَمِ شُكْرِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} أَيْ لِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ، قَالَ قَتَادَةُ {عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} عَلَى خيرٍ عِنْدِي، وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَلَى عِلْمٍ أَنِّي أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَقَدْ أَجَادَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْإِمَامُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ {قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} قَالَ: لَوْلَا رِضَا اللَّهِ عَنِّي وَمَعْرِفَتُهُ بِفَضْلِي مَا أَعْطَانِي هَذَا الْمَالَ، وَقَرَأَ: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} الآية، وَهَكَذَا يَقُولُ مَنْ قلَّ عِلْمُهُ إِذَا رَأَى من وسع الله عليه، لَوْلَا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ لَمَا أُعْطِيَ.(2/24)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)
- 79 - فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
- 80 - وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصَّابِرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَارُونَ إِنَّهُ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى قَوْمِهِ، فِي زينة عظيمة وتجمل باهر، فَلَمَّا رَآهُ مَنْ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَيَمِيلُ إلى زخارفها وَزِينَتِهَا، تَمَنَّوْا أَنْ لَوْ كَانَ لَهُمْ مِثْلُ الَّذِي أُعْطِيَ {قَالُوا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أَيْ ذُو حَظٍّ وَافِرٍ مِنَ الدُّنْيَا، فَلَمَّا سَمِعَ مَقَالَتَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ النَّافِعِ قَالُوا لَهُمْ {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أَيْ جَزَاءُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا تَرَوْنَ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خطر على قلب بشر واقرأوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} "، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصَّابِرُونَ} قَالَ السُّدِّيُّ: ولا يُلَقّى الْجَنَّةَ إِلَّا الصَّابِرُونَ، كَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ من تمام كلام الذين أُوتُواْ العلم، وقال ابن جرير: ولا يُلَقَّى هَذِهِ الْكَلِمَةَ إِلَّا الصَّابِرُونَ عَنْ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا الرَّاغِبُونَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَكَأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مَقْطُوعًا مِنْ كَلَامِ أُولَئِكَ وَجَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ وَإِخْبَارِهِ بِذَلِكَ.(2/24)
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
- 81 - فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ(2/24)
- 82 - وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عباده وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى اخْتِيَالَ قَارُونَ فِي زِينَتِهِ وَفَخْرَهُ عَلَى قَوْمِهِ وَبَغْيَهُ عَلَيْهِمْ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ خَسَفَ بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عند الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال:
بينما رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ إِذْ خُسِفَ بِهِ فَهُوَ يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة" وروى الإمام أحمد
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل ممن كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَ فِي بُرْدَيْنِ أَخْضَرَيْنِ يَخْتَالُ فِيهِمَا أَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ فَإِنَّهُ لَيَتَجَلْجَلُ فيها إلى يوم القيامة» . وقد ذكر أن هلاك قارون كان من دعوة موسى نبي الله عليه السلام، وَقِيلَ: إِنَّ قَارُونَ لَمَّا خَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ في زيتته تِلْكَ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى الْبِغَالِ الشُّهْبِ وَعَلَيْهِ وعلى خدمه ثياب الأرجوان المصبغة، فمر
في محفله ذَلِكَ عَلَى مَجْلِسِ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ يُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ، فَلَمَّا رَأَى الناس قارون انصرفت وجوههم نحوه يَنْظُرُونَ إِلَى مَا هُوَ فِيهِ، فَدَعَاهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: يَا مُوسَى أَمَا لَئِنْ كُنْتَ فُضِّلْتَ عَلَيَّ بِالنُّبُوَّةِ فَلَقَدْ فُضِّلْتُ عَلَيْكَ بِالدُّنْيَا، فاستوت بهم الأرض، وعن ابن عباس قَالَ: خُسِفَ بِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُخْسَفُ بِهِمْ كُلَّ يوم قامة يتجلجلون فيها إلى يوم القيامة، وقوله تعالى: {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} أَيْ مَآ أغنى عَنْهُ ماله ولا جمعه ولا خدمه وحشمه، وَلَا دَفَعُوا عَنْهُ نِقْمَةَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ وَنَكَالَهُ، ولا كان هو نفسه منتصراً لنفسه فلا ناصر له من نفسه ولا غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بالأمس} أي الذين لما رأوه في زينتهك {قَالُوا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} فَلَمَّا خُسِفَ بِهِ أَصْبَحُوا يَقُولُونَ {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} أَيْ لَيْسَ الْمَالُ بدالٍّ عَلَى رِضَا اللَّهِ عَنْ صَاحِبِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيُضَيِّقُ وَيُوَسِّعُ، وَيَخْفِضُ ويرفع، وَهَذَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الْمَالَ مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الإِيمان إِلَّا مَنْ يُحِبُّ» ، {لَوْلَا أَن منَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} أَيْ لَوْلَا لُطْفُ اللَّهِ بِنَا وَإِحْسَانُهُ إِلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا كَمَا خَسَفَ بِهِ لِأَنَّا وَدِدْنَا أَنْ نَكُونَ مَثَلَهُ، {وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} يَعْنُونَ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا ولا يفلح الكافرون عِنْدَ اللَّهِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الآخرة، وقد اختلف في معنى قوله ههنا {ويكأن} فقال بعضهم: معناه ويلك اعلم أن، ولكن خفف فَقِيلَ وَيْكَ، وَدَلَّ فَتْحُ أَنَّ عَلَى حَذْفِ اعْلَمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعَّفَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَوِيٌّ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا كتابتها في المصاحف متصلة ويكأن، وَالْكِتَابَةُ أَمْرٌ وَضْعِيٌّ اصْطِلَاحِيٌّ وَالْمَرْجِعُ إِلَى اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهَا {وَيْكَأَنَّ} أَيْ أَلَمْ تَرَ أَنَّ، قَالَهُ قَتَادَةُ: وَقِيلَ مَعْنَاهَا وَيْ كَأَنَّ فَفَصَلَهَا، وَجَعَلَ حَرْفَ وَيْ لِلتَّعَجُّبِ أو للتنبيه، وكأن بمعنى أظن وأحتسب. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَقْوَى الْأَقْوَالِ فِي هَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ إِنَّهَا بِمَعْنَى أَلَمْ تَرَ أَنَّ، والله أعلم.(2/25)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
- 83 - تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
- 84 - مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(2/25)
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَنَعِيمَهَا الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، جَعَلَهَا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَوَاضِعِينَ، الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ {عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} أَيْ تَرَفُّعًا عَلَى خَلْقِ اللَّهِ وَتَعَاظُمًا عليهم وتجبراً بهم ولا فساداً فيهم، قَالَ عِكْرِمَةُ: الْعُلُوُّ: التَّجَبُّرُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جبير: العلو البغي، وقال سفيان الثوري: الْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ التَّكَبُّرُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْفَسَادُ أخذ المال بغير حق، وقال ابن جرير {لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ} تَعَظُّمًا وَتَجَبُّرًا، {وَلاَ فَسَاداً} عملاً بالمعاصي. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، ولا يبغي أحد على أحد» وأما أَحَبَّ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ التَّجَمُّلِ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَحَبُّ أَنْ يَكُونَ رِدَائِي حَسَنًا وَنَعْلِي حَسَنَةً أَفَمِنَ الْكِبَرِ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «لَا إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» ، وَقَالَ تعالى: {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} أَيْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ حَسَنَةِ الْعَبْدِ فَكَيْفَ وَاللَّهُ يُضَاعِفُهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وهذا مَقَامُ الْفَضْلِ، ثُمَّ قَالَ: {وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كنتم تعملون} وهذا مقام الفضل والعدل.(2/26)
- 85 - إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
- 86 - وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِلْكَافِرِينَ
- 87 - وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
- 88 - وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِبَلَاغِ الرِّسَالَةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ، وَمُخْبِرًا لَهُ بِأَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَى مَعَادٍ وَهُوَ يَوْمُ القيامة فسأله عَمَّا اسْتَرْعَاهُ مِنْ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {إن الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن} أَيِ افْتَرَضَ عَلَيْكَ أَدَاءَهُ إِلَى النَّاسِ {لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أَيْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيَسْأَلُكَ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين} ، وقال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ} وقال: {وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء} . وقال ابن عباس: {لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ} يَقُولُ: لَرَادُّكَ إِلَى الْجَنَّةِ ثم سائلك عن القرآن، وقال مجاهد: يحييك يوم القيامة، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَيْ وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ معاداً فيبعثه اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا قال البخاري في التفسير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قَالَ: إلى مكة، وهكذا رواه الْعَوْفيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أَيْ لَرَادُّكَ إِلَى مَكَّةَ كَمَا أَخْرَجَكَ مِنْهَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ {لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ} : إِلَى مَوْلِدِكَ بِمَكَّةَ، وعن الضَّحَّاكِ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ فَبَلَغَ الْجُحْفَةَ اشْتَاقَ إِلَى مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ} إِلَى مَكَّةَ، وَهَذَا مِنْ كَلَامِ الضَّحَّاكِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ وَإِنْ كَانَ مَجْمُوعُ السُّورَةِ مكياً، والله أعلم.
وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ ذَلِكَ تَارَةً بِرُجُوعِهِ إِلَى مَكَّةَ وَهُوَ الْفَتْحُ الَّذِي هُوَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ أمارة على اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم، كما فسر ابن عباس سورة {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} أَنَّهُ أَجَلُ رَسُولِ(2/26)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُعِيَ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَارَةً أُخْرَى قَوْلَهُ: {لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ} بِالْمَوْتِ، وَتَارَةً بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي هُوَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَتَارَةً بِالْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ جَزَاؤُهُ وَمَصِيرُهُ عَلَى أَدَاءِ رِسَالَةِ اللَّهِ، وإبلاغها إلى الثقلين الإنس والجن، وَلِأَنَّهُ أَكْمَلُ خَلْقِ اللَّهِ وَأَفْصَحُ خَلْقِ اللَّهِ وأشرق خلق الله على الإِطلاق، وقوله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أَيْ قُلْ لِمَنْ خَالَفَكَ وَكَذَّبَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ قَوْمِكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ قُلْ: رُبِّي أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِي مِنْكُمْ وَمِنِّي، وَسَتَعْلَمُونَ لِمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ وَلِمَنْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ وَالنُّصْرَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُذَكِّرًا لِنَبِيِّهِ نِعْمَتَهُ الْعَظِيمَةَ عَلَيْهِ
وَعَلَى الْعِبَادِ إِذْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ: {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} أَيْ مَا كُنْتَ تَظُنُّ قَبْلَ إِنْزَالِ الوحي إليك أن الوحي ينزل عليك، {ولكن رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} أي إنما أنزل الْوَحْيُ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ رَحْمَتِهِ بِكَ وَبِالْعِبَادِ بِسَبَبِكَ، فَإِذَا مَنَحَكَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً} أي معيناً {لِّلْكَافِرِينَ} وَلَكِنْ فَارِقْهُمْ وَنَابِذْهُمْ وَخَالِفْهُمْ، {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} أَيْ لَا تَتَأَثَّرْ لِمُخَالَفَتِهِمْ لَكَ وَصَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ طريقك، فَإِنَّ اللَّهَ معلٍ كَلِمَتَكَ، وَمُؤَيِّدٌ دِينَكَ، وَمُظْهِرٌ ما أرسلك بِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} أَيْ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّكَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
وقوله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إله إلا هُوَ} أي لا يليق الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وَلَا تَنْبَغِي الْإِلَهِيَّةُ إِلَّا لعظمته، وقوله: {كل شيء إِلَّا وَجْهَهُ} إخبارٌ بِأَنَّهُ الدَّائِمُ الْبَاقِي الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي تَمُوتُ الْخَلَائِقُ وَلَا يَمُوتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} فعبر بالوجه عن الذات، وهكذا قوله هنهنا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ وَجْهَهُ} أَيْ إِلَّا إِيَّاهُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصحيح: «أصدق كلمة قالها الشاعر لَبِيَدٍ * أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ باطل *» (أخرجه البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً) ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} أَيْ إِلَّا مَا أُرِيدَ به وجهه، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُنَافِي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، فَإِنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ كُلِّ الْأَعْمَالِ بِأَنَّهَا بَاطِلَةٌ، إلاّ ما أريد به وجه الله تعالى مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُطَابِقَةِ لِلشَّرِيعَةِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ مقتضاه أن كل الذوات فانية وزائلة إلاّ ذاته تعالى وتقدس، فَإِنَّهُ الْأَوَّلُ الْآخِرُ الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شيء وبعد كل شيء، وكان ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَعَاهَدَ قَلْبَهُ يَأْتِي الْخَرِبَةَ فَيَقِفُ عَلَى بَابِهَا فَيُنَادِي بِصَوْتٍ حَزِينٍ: فَيَقُولُ أَيْنَ أَهْلُكِ؟ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} (أخرجه ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ) ، وَقَوْلُهُ: {لَهُ الْحُكْمُ} أَيِ الْمُلْكُ وَالتَّصَرُّفُ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ يَوْمَ مَعَادِكُمْ فيجزيكم بِأَعْمَالِكُمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ.(2/27)
- 29 - سورة العنكبوت(2/28)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
- 1 - الم
- 2 - أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ
- 3 - وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ
- 4 - أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ في أول سورة البقرة، وقوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يفتنون} (أخرج ابن أبي حاتم: أن {آلم أحسب ... } نزلت في أناس كانوا بمكة، أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب الرسول عليه السلام بالمدينة أن لا يقبل منهم حتى يهاجروا، فخرجوا إلى المدينة فردهم المشركون، وأخرج ابن سعد: أنها نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في الله، كما في اللباب) اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا بُدَّ أَنْ يَبْتَلِيَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، بِحَسْبِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ له فِي الْبَلَاءِ» وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الذين مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين} ، وَقَالَ فِي الْبَقَرَةِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} ، ولهذا قال ههنا: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} أَيِ الَّذِينَ صَدَقُوا في دعوى الإِيمان، مِمَّنْ هُوَ كَاذِبٌ فِي قَوْلِهِ وَدَعْوَاهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يكن كَيْفَ يَكُونُ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَئِمَّةِ السنة والجماعة، وبهذا يقول ابن عباس وغيره في مثل قوله: {إِلاَّ لنعلم} إلاّ لنرى، وذلك لأن الرُّؤْيَةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ وَالْعِلْمُ أَعَمُّ مِنَ الرؤية فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود، وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الذين يعلون السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أَيْ لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِيمَانِ أَنَّهُمْ يَتَخَلَّصُونَ مِنْ هَذِهِ الْفِتْنَةِ وَالِامْتِحَانِ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ مَا هُوَ(2/28)
أَغْلَظُ مِنْ هَذَا وَأَطَمُّ، وَلِهَذَا قَالَ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا} أَيْ يفوتونا {ساء يَحْكُمُونَ} أَيْ بِئْسَ مَا يَظُنُّونَ.(2/29)
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
- 5 - مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
- 6 - وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
- 7 - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: {مَّنْ كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ} أَيْ الدار الآخرة وعمل الصالحات، ورجا مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُحَقِّقُ لَهُ رَجَاءَهُ، وَيُوَفِّيهِ عَمَلَهُ كَامِلًا موفراً، فَإِنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ سَمِيعُ الدعاء، بصير بكل الكائنات. ولهذا قال تعالى: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ وَهُوَ السميع العليم} ، وقوله تعالى: {ومن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} ، كقوله تعالى: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} أَيْ مَنْ عَمِلَ صَالَحَا فَإِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ عمله على نفسه، فإن الله تعالى غني عن الْعِبَادِ وَلَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رجل منهم، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} . قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ الرَّجُلَ لِيُجَاهِدُ وَمَا ضَرَبَ يَوْمًا من الدهر بسيف، ثم أخبر تعالى أنه مع غناه عن الخلائق جميعهم، ومع بره وإحسانه بِهِمْ، يُجَازِي الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ أَنَّهُ يكفَّر عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ، فَيَقْبَلُ الْقَلِيلَ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا الْوَاحِدَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَيَجْزِي عَلَى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا أَوْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} ، وقال ههنا: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .(2/29)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
- 8 - وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
- 9 - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادُهُ بالإِحسان إِلَى الْوَالِدَيْنِ، بَعْدَ الْحَثِّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِتَوْحِيدِهِ، فَإِنَّ الْوَالِدَيْنِ هَمَّا سَبَبُ وُجُودِ الإِنسان، وَلَهُمَا عَلَيْهِ غَايَةُ الإِحسان، فَالْوَالِدُ بالإِنفاق وَالْوَالِدَةُ بالإِشفاق، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إحساناً} ، وَمَعَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ والإِحسان إِلَيْهِمَا فِي مُقَابَلَةِ إِحسانهما الْمُتَقَدِّمِ، قَالَ {وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تطعهمآ} أي وإِن حرصا أَنْ تُتَابِعَهُمَا عَلَى دِينِهِمَا إِذَا كَانَا مُشْرِكَيْنِ، فلا تُطِعْهُمَا فِي ذَلِكَ فَإِنَّ مَرْجِعَكُمْ إِلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَجْزِيكَ بِإِحْسَانِكَ إِلَيْهِمَا وَصَبْرِكَ عَلَى دِينِكَ، وَأَحْشُرُكَ مَعَ الصَّالِحِينَ لَا فِي زُمْرَةِ وَالِدَيْكَ، ولهذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} . عن مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ قال: نزلت فيَّ أربع آيات فذكر قصته، وقال، قالت أم سعد: أليس الله قد أمرك بِالْبَرِّ؟ وَاللَّهِ لَا أَطْعَمُ طَعَامًا وَلَا أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى أَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ، قَالَ: فَكَانُوا إذا أرادوا أن يطعموها(2/29)
شجروا (فتحوا فمها) فاها، فنزلت: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً، وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تطعهما} (أخرجه الترمذي في باب التفسير في قصة (سعد بن أبي وقاص) مع أمه، ورواه أيضاً مسلم والإمام أحمد وأبو داود والنسائي) الآية.(2/30)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
- 10 - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إنا كنا معكم أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ
- 11 - وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مخبراً عن صفات المكذبين، الذين يدعون الإِيمان بألسنتم وَلَمْ يَثْبُتِ الإِيمان فِي قُلُوبِهِمْ، بِأَنَّهُمْ إِذَا جاءتهم محنة وفتنة فِي الدُّنْيَا، اعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ فَارْتَدُّوا عَنِ الإِسلام، وَلِهَذَا قال تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي فِتْنَتَهُ أَنْ يَرْتَدَّ عَنْ دِينِهِ إِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ - إلى قوله - ذلك هُوَ الضلال البعيد} ، ثم قال عزَّ وجلَّ: {وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} أَيْ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ قَرِيبٌ مِنْ رَبَّكَ يَا مُحَمَّدُ وَفَتْحٌ وَمَغَانِمُ، لَيَقُولُنَّ هؤلاء لكم إنا كنا معكم أي إِخْوَانَكُمْ فِي الدِّينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله قالوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ} الآية، وقوله تعالىمخبراً عنهم ههنا: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كنا معكم} ، ثم قال الله تعالى: {أوليس الله بأعلم فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} أَيْ أَوَلَيِسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَمَا تُكِنُّهُ ضَمَائِرُهُمْ، وَإِنْ أظهروا لكم الموافقة؟ وقوله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} أَيْ وليختبرن الله الناس بالضراء والسراء، ليتميز من يطيع الله في الضراء والسراء، ومن يُطِيعُهُ فِي حَظِّ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أخبارهم} .(2/30)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
- 12 - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
- 13 - وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الْهُدَى: ارْجِعُوا عَنْ دِينِكُمْ إِلَى دِينِنَا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَنَا {وَلْنَحْمِلْ خطاياكم} أي آثامكم إِن كَانَتْ لَكُمُ آثام، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: افْعَلْ هَذَا وَخَطِيئَتُكَ فِي رقبتي، قال الله تعالى تكذيباً لهم: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خطاياكم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أَيْ فِيمَا قَالُوهُ إنهم يحتملون عَنْ أُولَئِكَ خَطَايَاهُمْ. فَإِنَّهُ لَا يَحْمِلُ أَحَدٌ وزر أَحَدٌ. قال الله تَعَالَى: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ} ، وقوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} إِخْبَارٌ عَنِ الدعاة إلى الكفر والضلالة، أنهم يحملون يوم القيامة أوزار أنفسهم وأوزاراً أخر،(2/30)
بسبب ما أَضَلُّوا مِنَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أَوْزَارِ أُولَئِكَ شَيْئًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية، وَفِي الصَّحِيحِ: «مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» ، وَفِي الصَّحِيحِ: «مَا قُتِلَتْ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سن القتل» . وقوله تعالى: {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أَيْ يكذبون ويختلفون من البهتان.
وفي الحديث: "إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْزِمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فيقول: وعزتي وجلالي لَا يَجُوزُنِي الْيَوْمَ
ظُلْمٌ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ فيقول: أين فلان بن فُلَانٍ؟ فَيَأْتِي يَتْبَعُهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ، فيشخص الناس أبصارهم، حتى يقوم بين يدي الرحمن عزَّ وجلَّ، ثم يأمر المنادي مَنْ كَانَتْ لَهُ تِبَاعَةٌ أَوْ ظُلَامَةٌ عِنْدَ بن فلان بن فُلَانٍ فَهَلُمَّ، فَيُقْبِلُونَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا قِيَامًا بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ، فَيَقُولُ الرَّحْمَنُ: اقْضُوا عَنْ عَبْدِي، فيقولون: كيف نقضي عنه؟ فيقول: خُذُوا لَهُمْ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَلَا يَزَالُونَ يَأْخُذُونَ منها حتى لا يبقى منها حَسَنَةٌ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ الظُّلَامَاتِ، فَيَقُولُ: اقْضُوا عَنْ عَبْدِي، فَيَقُولُونَ: لَمْ يَبْقَ لَهُ حسنة. فيقول: خذوا من سيئاتهم فاحملواها عليه" ثم نزع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وليحملن أثقالهم مع أثقالهم وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون} (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي أمامة مرفوعاً) وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ: «إن الرجل ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، وقد ظلم هذا وأخذ مال هذا، وأخذ من عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا لم تبق له حسنة أخذ من سيئاتهم فطرح عليه» .(2/31)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
- 14 - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ
- 15 - فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ
هَذِهِ تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ ورسوله صلى الله عليه وسلم، يُخْبِرُهُ عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ مَكَثَ فِي قَوْمِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ، يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تعالى لَيْلًا وَنَهَارًا وَسِرًّا وَجِهَارًا، وَمَعَ هَذَا مَا زادهم ذلك إلاّ فراراً، وَمَا آمَنُ مَعَهُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، وَلِهَذَا قال تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} أَيْ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ مَا نَجَعَ فِيهِمُ الْبَلَاغُ والإِنذار، فَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ لَا تَأْسَفْ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِكَ مِنْ قَوْمِكَ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَيَضِلُّ مَنْ يشاء، وبيده الأمر وإليه ترجع الأمور وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سَيُظْهِرُكَ وَيَنْصُرُكَ وَيُؤَيِّدُكَ، وَيُذِلُّ عدوك ويكبتهم ويجعلهم أسفل السافلين. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بُعِثَ نُوحٌ وَهُوَ لِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ وَلَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا وَعَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ سِتِّينَ عاماً حتى كثر الناس وفشوا، وقوله تعالى: {فأنجينا وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا بِنُوحٍ عَلَيْهِ السلام، وقد تقدم تفسيره بما أغنى عن إعادته، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} أَيْ وَجَعَلْنَا تِلْكَ السَّفِينَةَ بَاقِيَةً، إِمَّا عَيْنُهَا - كَمَا قَالَ قَتَادَةُ - إِنَّهَا بَقِيَتْ إِلَى أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى جَبَلِ الْجُودِيِّ، أَوْ نَوْعُهَا جَعَلَهُ لِلنَّاسِ تَذْكِرَةً لِنِعَمِهِ عَلَى الخلق كيف أنجاهم مِنَ الطُّوفَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ(2/31)
فِي الفلك المشحون} ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} ، وقال ههنا: {فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} .(2/32)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
- 16 - وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
- 17 - إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
- 18 - وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَخَلِيلِهِ (إِبْرَاهِيمَ) إِمَامِ الْحُنَفَاءِ، أَنَّهُ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، والإِخلاص لَهُ فِي التَّقْوَى، وَطَلَبِ الرزق منه وحده لا شريك له، وتوحيد فِي الشُّكْرِ فَإِنَّهُ الْمَشْكُورُ عَلَى النِّعَمِ لَا مُسْدِي لَهَا غَيْرُهُ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} أَيْ أَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ وَالْخَوْفَ {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ حَصَلَ لَكُمُ الْخَيْرُ فِي الدُّنْيَا والآخرة، ثم أخبر تعالى أن الأصنام التي يعبدونها لا تضر ولا تنفع، وإنما هي مخلوقة مثلكم، قال ابن عباس: {وتخلفون إفكاً} أي تنحونها أصناماً (وبه قال مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وهو الأظهر) ، وهي لا تملك لكم رزقاً {فاتبغوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْحَصْرِ، كقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَابْتَغُوا} أَيْ فَاطْلُبُوا {عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} أَيْ لَا عِنْدَ غَيْرِهِ فَإِنَّ غَيْرَهُ لا يملك شيئاً، {واعبدوا واشكروا لَهُ} أي كلوا من رزقه واعبدوا وَحْدَهُ وَاشْكُرُوا لَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ، {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجَازِي كل عامل بعمله. وقوله تعالى: {وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} أَيْ فَبَلَّغَكُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ فِي مُخَالَفَةِ الرُّسُلِ، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} يَعْنِي إِنَّمَا عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يُبَلِّغَكُمْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ، وَاللَّهُ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، فَاحْرِصُوا لِأَنْفُسِكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ السعداء، قال قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} ، قَالَ: يُعَزِّي نَبِيَّهُ صَلَّى الله عليه وسلم، وَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ كُلَّ هَذَا مِنْ كلام إبراهيم الخليل عليه السلام، يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ لِإِثْبَاتِ الْمَعَادِ لِقَوْلِهِ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(2/32)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
- 19 - أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
- 20 - قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
- 21 - يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ
- 22 - وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
- 23 - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ أَرْشَدَهُمْ إِلَى إِثْبَاتِ الْمَعَادِ الَّذِي يُنْكِرُونَهُ، بِمَا يُشَاهِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُونُوا شَيْئًا مَذْكُورًا، ثُمَّ وُجِدُوا وَصَارُوا أُنَاسًا سَامِعِينَ مُبْصِرِينَ، فَالَّذِي بَدَأَ هَذَا قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِ، فَإِنَّهُ سَهْلٌ عَلَيْهِ يَسِيرٌ لَدَيْهِ، ثُمَّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِمَا فِي الْآفَاقِ مِنَ الْآيَاتِ الْمُشَاهَدَةِ مِنْ خلق الله(2/32)
الأشياء: السماوات وما فيها من الكواكب المنيرة، وَالْأَرَضِينَ وَمَا فِيهَا مِنْ مِهَادٍ وَجِبَالٍ، وَأَوْدِيَةٍ وبراري وَقِفَارٍ، وَأَشْجَارٍ وَأَنْهَارٍ، وَثِمَارٍ وَبِحَارٍ، كُلُّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى حُدُوثِهَا فِي أَنْفُسِهَا، وَعَلَى وُجُودِ صَانِعِهَا الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ، وَلِهَذَا قَالَ: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} ، كقوله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه} ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق ثُمَّ الله يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وَهَذَا الْمَقَامُ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ
أَنَّهُ الحق} ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ؟ * أَمْ خَلَقُواْ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لاَّ يوقنون} ، وقوله تَعَالَى: {يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ} أَيْ هُوَ الْحَاكِمُ الْمُتَصَرِّفُ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، فَلَهُ الخلق والأمر لِأَنَّهُ الْمَالِكُ الَّذِي لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، كما جاء في الحديث: «إِنَّ اللَّهَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لهم» (أخرجه أصحاب السنن) ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وإليه تقبلون} أي ترجعون يوم القيامة، وقوله تعالى: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} أَيْ لَا يُعْجِزُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، بَلْ هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، فكل شَيْءٍ خَائِفٌ مِنْهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ وَهُوَ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَآئِهِ} أَيْ جَحَدُوهَا وَكَفَرُوا بِالْمَعَادِ، {أُولَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي} أَيْ لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا، {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ مُوجِعٌ شديد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.(2/33)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
- 24 - فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إن في ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
- 25 - وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ فِي كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ ومكابرتهم، ودفعهم الحق بالباطل، إنهم مَا كَانَ لَهُمْ جَوَابٌ بَعْدَ مَقَالَةِ إِبْرَاهِيمَ هَذِهِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْهُدَى وَالْبَيَانِ {إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَامَ عَلَيْهِمُ الْبُرْهَانُ وَتَوَجَّهَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، فَعَدَلُوا إِلَى استعمال جاههم وقوة ملكهم، {فقالوا ابنوا بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم} وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حَشَدُوا فِي جَمْعِ أَحِطَابٍ عَظِيمَةٍ مدة طويلة، ثم أضرموا فيها النار، ثُمَّ عَمَدُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَكَتَّفُوهُ وَأَلْقَوْهُ فِي كفة المنجنيق، ثم قذفوه فَجَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَخَرَجَ مِنْهَا سالماً بعدما مَكَثَ فِيهَا أَيَّامًا، وَلِهَذَا وَأَمْثَالِهِ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ إِمَامًا، فَإِنَّهُ بَذَلَ نَفْسَهُ لِلرَّحْمَنِ، وَجَسَدَهُ للنيران، وَلِهَذَا اجْتَمَعَ عَلَى مَحَبَّتِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، وقوله تعالى: {فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار} أي سلمه مِنْهَا بِأَنْ جَعَلَهَا عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، {إِنَّ في ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، يَقُولُ لِقَوْمِهِ مُقَرِّعًا لَهُمْ وَمُوَبَّخًا عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ، إنما اتخذتم هذه لتجتمعوا على عباداتها في الدنيا صداقة وألفة منكم {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يَنْعَكِسُ هَذَا الْحَالُ فَتَبْقَى هذه الصداقة والمودة بغضاً وشنآناً، ثم {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ}(2/33)
أَيْ تَتَجَاحَدُونَ مَا كَانَ بَيْنَكُمْ، {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} أَيْ يَلْعَنُ الْأَتْبَاعُ الْمَتْبُوعِينَ، وَالْمَتْبُوعُونَ الْأَتْبَاعَ، {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أختها} ، وقال ههنا: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار} الآية، أي مصيركم وَمَرْجِعُكُمْ بَعْدَ عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ إِلَى النَّارِ، وَمَا لَكُمْ من ناصر ينصركم، ولا منفذ ينقذكم من عذاب الله.(2/34)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
- 26 - فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
- 27 - وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ آمَنُ لَهُ {لُوطٌ} يُقَالُ: إِنَّهُ ابْنُ أخي إبراهيم، وهو لوط بن هاران بن آزر، وَهَاجَرَ مَعَهُ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ، ثُمَّ أُرْسِلُ فِي حَيَاةِ الْخَلِيلِ إِلَى أَهْلِ سَدُومَ وَإِقْلِيمِهَا، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا تَقَدَّمَ وَمَا سَيَأْتِي، وقوله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} يَحْتَمِلُ عَوْدَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَ} عَلَى (لُوطٍ) لِأَنَّهُ هو أقرب المذكورين، ويحتمل عوده إلى (إبراهيم) وَهُوَ الْمُكَنَّى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} أَيْ مِنْ قَوْمِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ اخْتَارَ الْمُهَاجَرَةَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمُ، ابْتِغَاءَ إِظْهَارِ الدِّينِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّهُ هُوَ العزيز الحكيم} أَيْ لَهُ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ {الْحَكِيمُ} في أقواله وأفعاله، وَقَالَ قَتَادَةُ: هَاجَرَا جَمِيعًا مِنْ كَوْثَى وَهِيَ من سواد الكوفة إلى الشام، وروى الإمام أحمد عَنْ قَتَادَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: لَمَّا جَاءَتْنَا بَيْعَةُ (يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ) قَدِمْتُ الشَّامَ، فَأُخْبِرْتُ بِمَقَامٍ يَقُومُهُ (نَوْفٌ الْبِكَالِيُّ) فَجِئْتُهُ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ، فَانْتَبَذَ النَّاسَ وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ، فإذا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَلَمَّا رَآهُ نَوْفٌ أَمْسَكَ عَنِ الْحَدِيثِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّهَا سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ فَيَنْحَازُ النَّاسُ إِلَى مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ لَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ إِلَّا شَرَارُ أَهْلِهَا، فَتَلْفِظُهُمْ أرضهم تقْذَرُهُمْ نَفْسُ الرَّحْمَنِ، تَحْشُرُهُمُ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، فَتَبِيتُ مَعَهُمْ إِذَا بَاتُوا وَتَقِيلُ مَعَهُمْ إذا قالوا، وتأكل من تخلف منهم» . قَالَ: وَسَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سَيَخْرُجُ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي مِنْ قبل المشرق، يقرأون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، كُلَّمَا خَرَجَ مِنْهُمْ قرن قطع، كلما خرج قَرْنٌ قُطِعَ - حَتَّى عَدَّهَا زِيَادَةً عَلَى عِشْرِينَ مرة - حتى يخرج الدجال في بقيتهم» (أخرجه الإمام أحمد، ورواه أبو داود في سننه في كتاب الجهاد) .
وقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ويعقوب} ، كقوله: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ، وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً} أي لَمَّا فَارَقَ قَوْمَهُ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ بِوُجُودِ وَلَدٍ صَالِحٍ نَبِيٍّ وَوُلِدَ
لَهُ وَلَدٌ صَالِحٌ نبي في حياة جده، وكذلك قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} أي زيادة، كما قال تَعَالَى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} أَيْ يولد لِهَذَا الْوَلَدِ وَلَدٌ فِي حَيَاتِكُمَا تَقَرُّ بِهِ أعينكما، فأما ما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ويعقوب} قَالَ: هُمَا وَلَدَا إِبْرَاهِيمَ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ وَلَدَ الولد بمنزلة الولد، فإن هذا الأمر لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى مَنْ هُوَ دُونَ ابن عباس، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} هَذِهِ خِلْعَةٌ سَنِيَّةٌ عَظِيمَةٌ مَعَ اتِّخَاذِ اللَّهِ إِيَّاهُ خَلِيلًا وَجَعْلِهِ لِلنَّاسِ إِمَامًا أَنْ جَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، فَلَمْ يُوجَدْ نَبِيٌّ بَعْدَ(2/34)
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا وَهُوَ مِنْ سُلَالَتِهِ، فَجَمِيعُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ سُلَالَةِ (يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ عيسى بن مريم، فقام مبشراً بالنبي العربي سيد وَلَدِ آدَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الَّذِي اصْطَفَاهُ اللَّهُ مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ، مِنْ سُلَالَةِ (إسماعيل بن إبراهيم) عليهما السَّلَامُ، وَلَمْ يُوجَدْ نَبِيٌّ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ سواه عليه أفضل الصلاة والسلام، وَقَوْلُهُ: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} أَيْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ سَعَادَةِ الدُّنْيَا الْمَوْصُولَةِ بِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَكَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا الرِّزْقُ الْوَاسِعُ الْهَنِيُّ وَالْمَنْزِلُ الرَّحْبُ، وَالْمَوْرِدُ الْعَذْبُ، وَالزَّوْجَةُ الْحَسَنَةُ الصَّالِحَةُ، وَالثَّنَاءُ الجميل، والذكر الحسن وكل أَحَدٍ يُحِبُّهُ وَيَتَوَلَّاهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ مَعَ الْقِيَامِ بِطَاعَةِ اللَّهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفَى} أَيْ قَامَ بِجَمِيعِ مَا أُمِرَ بِهِ وَكَمَّلَ طاعة ربه، ولهذا قال تعالى: {وآتينا أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} ، وكما قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين - إلى قوله - وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} .(2/35)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
- 28 - وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكَمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ
- 29 - أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
- 30 - قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نَبِيِّهِ (لُوطٍ) عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى قَوْمِهِ سُوءَ صَنِيعِهِمْ، وَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ قَبِيحِ الْأَعْمَالِ، في اتباعهم الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَلَمْ يَسْبِقْهُمْ إِلَى هَذِهِ الفعلة أحد من نبي آدَمَ قَبْلَهُمْ، وَكَانُوا مَعَ هَذَا يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَيُكَذِّبُونَ رَسُولَهُ وَيُخَالِفُونَهُ وَيَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، أَيْ يَقِفُونَ فِي طَرِيقِ النَّاسِ يَقْتُلُونَهُمْ وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَهُمْ، {وَتَأْتُونَ في ناديهم الْمُنْكَرَ} أَيْ يَفْعَلُونَ مَا لَا يَلِيقُ مِنَ الأقوال فِي مَجَالِسِهِمُ الَّتِي يَجْتَمِعُونَ فِيهَا، لَا يُنْكِرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَمِنْ قائل: كانوا يأتون بعضهم فِي الْمَلَأِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَمِنْ قَائِلٍ: كَانُوا يتضارطون ويتضاحكون، روى الإمام أحمد عن أحمد عَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى {وتأتون في ناديهم الْمُنْكَرَ} قَالَ: «يَحْذِفُونَ أَهْلَ الطَّرِيقِ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ وذلك المنكر الذي كانوا يأتونه» (أخرجه أحمد وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ) . وعن مجاهد {وَتَأْتُونَ في ناديهم المنكر} قال: الصفير ولعب الحمام وحل أزرار القباء، وقوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أن قال ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وهذا من كفرهم واستهزئهم وَعِنَادِهِمْ، وَلِهَذَا اسْتَنْصَرَ عَلَيْهِمْ نبيَّ اللَّهِ فَقَالَ: {رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} .(2/35)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
- 31 - وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ
- 32 - قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ
- 33 - وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ(2/35)
- 34 - إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
- 35 - وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
لِمَا اسْتَنْصَرَ (لوط) عليه السلام بالله عزَّ وجلَّ عَلَيْهِمْ بَعَثَ اللَّهُ لِنُصْرَتِهِ مَلَائِكَةً، فَمَرُّوا عَلَى (إبراهيم) ، عليه السلام في هيئة أضياف، فجاءتهم بما ينبغي للضيف، فلما رأى إبراهيم أَنَّهُ لَا هِمَّةَ لَهُمْ إِلَى الطَّعَامِ نَكِرَهُمْ، وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، فَشَرَعُوا يُؤَانِسُونَهُ وَيُبَشِّرُونَهُ بِوُجُودِ وَلَدٍ صَالِحٍ
مِنَ امْرَأَتِهِ سَارَّةَ، وَكَانَتْ حَاضِرَةً فَتَعَجَّبَتْ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سورة هود والحجر، فَلَمَّا جَاءَتْ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى وَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّهُمْ أُرْسِلُوا لِهَلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ أَخَذَ يُدَافِعُ لَعَلَّهُمْ يُنْظَرُونَ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ، وَلَمَّا قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً، قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} أَيْ مِنَ الْهَالِكِينَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُمَالِئُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وبغيهم، ثُمَّ سَارُوا مِنْ عِنْدِهِ فَدَخَلُوا عَلَى (لُوطٍ) في صورة شبان حِسَانٍ، فَلَمَّا رَآهُمْ كَذَلِكَ {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} أي اغتم بِأَمْرِهِمْ إِنْ هُوَ أَضَافَهُمْ خَافَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يُضِفْهُمْ خَشِيَ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ، ولم يعلم بأمرهم إلاَّ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ {قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} ، وَذَلِكَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اقتلع قراهم من قرار الأرض ثُمَّ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ منضود، وَجَعَلَ اللَّهُ مَكَانَهَا بُحَيْرَةً خَبِيثَةً مُنْتِنَةً، وَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً إِلَى يَوْمِ التَّنَادِ، وَهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْمَعَادِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً} أَيْ وَاضِحَةً {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وبالليل أفلا تعقلون} ؟(2/36)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
- 36 - وإلى مدين أخاهم شعيبا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
- 37 - فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ (شُعَيْبٍ) عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَنْذَرَ قَوْمَهُ أَهْلَ مَدْيَنَ فَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ يَخَافُوا بَأْسَ اللَّهِ وَنِقْمَتَهُ وَسَطْوَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} قال ابن جرير: معناه واخشوا اليوم الآخر، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر} ، وقوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} نَهَاهُمْ عَنِ الْعَيْثِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَهُوَ السَّعْيُ فِيهَا وَالْبَغْيُ عَلَى أَهْلِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْقِصُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، وَيَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى النَّاسِ، هَذَا مَعَ كَفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِرَجْفَةٍ عَظِيمَةٍ زَلْزَلَتْ عَلَيْهِمْ بِلَادَهُمْ، وَصَيْحَةٍ أَخْرَجَتِ الْقُلُوبَ مِنْ حَنَاجِرِهَا، وَعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ الَّذِي أَزْهَقَ الْأَرْوَاحَ مِنْ مُسْتَقَرِّهَا إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُمْ مَبْسُوطَةً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهُودٍ وَالشُّعَرَاءِ، وَقَوْلُهُ: {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} قَالَ قَتَادَةُ: مَيِّتِينَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: قَدْ أُلْقِيَ بَعْضُهُمْ
عَلَى بَعْضٍ.(2/36)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
- 38 - وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وكانوا(2/36)
مُسْتَبْصِرِينَ
- 39 - وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ
- 40 - فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يُظْلَمُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ كيف أبادهم وتنوع في عذابهم، وأخذهم بالانتقام منهم، فعاد قوم هود عليه السلام كانوا يَسْكُنُونَ (الْأَحْقَافَ) وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ بِلَادِ اليمن، وثمود قوم صالح كانوا يَسْكُنُونَ (الْحِجْرَ) قَرِيبًا مِنْ وَادِي الْقُرَى، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُ مَسَاكِنَهُمَا جَيِّدًا وَتَمُرُّ عَلَيْهَا كَثِيرًا، وقارون صاحب الأموال الجزيلة والكنوز الثقيلة، وفرعون ووزيره (هامان) القبطيان الكافرون بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} أَيْ كَانَتْ عُقُوبَتُهُ بِمَا يُنَاسِبُهُ {فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} وَهُمْ عَادٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ فَجَاءَتْهُمْ رِيحٌ صَرْصَرٌ بَارِدَةٌ شَدِيدَةُ الْبَرْدِ، عاتية شديدة الهبوب، تحمل عليهم حصباء الأرض فتلقيها عَلَيْهِمْ، وَتَقْتَلِعُهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، فَتَرْفَعُ الرَّجُلَ مِنْهُمْ من الأرض إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، ثُمَّ تُنَكِّسُهُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فَتَشْدَخُهُ فَيَبْقَى بَدَنًا بِلَا رَأْسٍ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ، {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} وَهُمْ ثَمُودُ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ وَظَهَرَتْ لَهُمُ الدلالة على تِلْكَ النَّاقَةِ الَّتِي انْفَلَقَتْ عَنْهَا الصَّخْرَةُ مِثْلَ مَا سَأَلُوا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَمَعَ هَذَا مَا آمَنُوا بَلِ اسْتَمَرُّوا عَلَى طُغْيَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَتَهَدَّدُوا نَبِيَّ اللَّهِ صَالِحًا وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ، وَتَوَعَّدُوهُمْ بِأَنْ يُخْرِجُوهُمْ وَيَرْجُمُوهُمْ فَجَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ أَخَمَدَتِ الْأَصْوَاتَ مِنْهُمْ وَالْحَرَكَاتِ، {وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} وَهُوَ قَارُونُ الَّذِي طَغَى وَبَغَى وَعَتَا وَعَصَى الرب الأعلى، ومشى في الأرض مرحا وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ، وَاخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ، فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا} وهو فرعون ووزيره هامان وجنودهما عَنْ آخِرِهِمْ أُغْرِقُوا فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أَيْ فِيمَا فَعَلَ بِهِمْ، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أَيْ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ جَزَاءً وفاقاً بما كسبت أيديهم.(2/37)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
- 41 - مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
- 42 - إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
- 43 - وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلَّا الْعَالِمُونَ
هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، يَرْجُونَ نَصْرَهُمْ وَرِزْقَهُمْ وَيَتَمَسَّكُونَ بِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ فِي ضَعْفِهِ وَوَهَنِهِ، فَلَيْسَ فِي أَيْدِي هَؤُلَاءِ مِنْ آلِهَتِهِمْ إِلَّا كَمَنْ يَتَمَسَّكُ بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، فَإِنَّهُ لَا يُجْدِي عَنْهُ شَيْئًا، فَلَوْ عَلِمُوا هَذَا الْحَالَ لَمَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ الْمُؤْمِنِ قَلْبُهُ لِلَّهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُحْسِنُ الْعَمَلَ فِي اتِّبَاعِ الشرع، فإنه متمسك بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا لِقُوَّتِهَا وَثَبَاتِهَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِمَنْ عَبَدَ غَيْرَهُ وَأَشْرَكَ بِهِ: إِنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَيَعْلَمُ مَا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الْأَنْدَادِ وَسَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ(2/37)
الْعَالِمُونَ} أَيْ وَمَا يَفْهَمُهَا وَيَتَدَبَّرُهَا إِلَّا الرَّاسِخُونَ في العلم المتضلعون منه: عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: مَا مَرَرْتُ بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَا أَعْرِفُهَا إِلَّا أَحْزَنَنِي لِأَنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلَّا الْعَالِمُونَ} (أخرجه ابن أبي حاتم) .(2/38)
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
- 44 - خلق الله السماوات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ
- 45 - اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ أَنَّهُ خلق السماوات وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، يَعْنِي لَا عَلَى وَجْهِ الْعَبَثِ واللعب {لتجزى كل نفس بما تسعى} ، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بالحسنى} ، وقوله: تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} أَيْ لَدَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى الْمُتَفَرِّدُ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْإِلَهِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَهُوَ قِرَاءَتُهُ وَإِبْلَاغُهُ لِلنَّاسِ، {وَأَقِمِ الصلاة إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفشحاء وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} يَعْنِي أَنَّ الصَّلَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى شَيْئَيْنِ عَلَى تَرْكِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، أي مُوَاظَبَتَهَا تَحْمِلُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَ في الحديث عن ابن عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ تَزِدْهُ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بعداً» .
ذكر الآثار الواردة في ذلك
روى ابن أبي حاتم عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ {إِنَّ الصلاة تنهى عن الفشحاء وَالْمُنْكَرِ} ؟ قَالَ: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الفحشاء والمنكر فلا صلاة له» ، وعن ابن عباس، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ بِهَا مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا» (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الطبراني بنحوه) . وروى الحافظ أبو بكر البزار قَالَ، قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ، قال: «إنه سينهاه ما تقول» (أخرجه البزار والإمام أحمد في مسنده) ، وَتَشْتَمِلُ الصَّلَاةُ أَيْضًا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الْأَكْبَرُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أَيْ أَعْظَمُ مِنَ الْأَوَّلِ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} أي يعلم جميع أعمالكم وأقوالكم، وقال أبو العالية: إِنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا ثَلَاثُ خِصَالٍ، فَكُلُّ صَلَاةٍ لَا يَكُونُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْخِلَالِ فَلَيْسَتْ بِصَلَاةٍ: الْإِخْلَاصُ، وَالْخَشْيَةُ، وَذِكْرُ اللَّهِ، فَالْإِخْلَاصُ يَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْخَشْيَةُ تَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَذِكْرُ الله (الْقُرْآنِ) يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ، وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ الْأَنْصَارِيُّ: إِذَا كُنْتَ فِي صَلَاةٍ فَأَنْتَ فِي مَعْرُوفٍ وَقَدْ حَجَزَتْكَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالَّذِي أَنْتَ فيه مِّن ذِكْرِ الله أكبر، وعن ابن عباس في قوله تعالى {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} يَقُولُ: وَلَذِكْرُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ أكبر إذا ذكروه من ذكرهم إياه (وهو قول مجاهد وبه قال غير واحد من السلف) . وعنه أيضاً قال: لها وجهان: ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَمَا حَرَّمَهُ، قَالَ: وَذِكْرُ اللَّهِ إياكم أعظم من ذكرهم أياه، وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ، قَالَ لِي ابن(2/38)
عَبَّاسٍ: هَلْ تَدْرِي مَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ؟ قَالَ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا هو؟ قلت: التسبيح والتحميد والتكلبير فِي الصَّلَاةِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، قَالَ: لقد قلت قولاً عجيباً وَمَا هُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا يَقُولُ: ذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ عِنْدَمَا أَمَرَ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ إِذَا ذَكَرْتُمُوهُ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ ابن عباس، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.(2/39)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
- 46 - وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ مُجَادَلَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ الْإِسْلَامُ أَوِ الْجِزْيَةُ أَوِ السَّيْفُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ باقية مُحْكَمَةٌ لِمَنْ أَرَادَ الِاسْتِبْصَارَ مِنْهُمْ فِي الدِّينِ، فَيُجَادِلُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، لِيَكُونَ أَنْجَعَ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} الآية. وهذا القول اختاره ابن جرير، وقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} أَيْ حَادُوا عَنْ وَجْهِ الْحَقِّ، وَعَمُوا عَنْ وَاضِحِ الْمَحَجَّةِ، وَعَانَدُوا وَكَابَرُوا، فحينئذٍ يُنْتَقَلُ مِنَ الْجِدَالِ إِلَى الْجِلَادِ، ويقاتلون بما يمنعهم ويردعهم، قَالَ جَابِرٌ: أُمِرْنَا مَنْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ إِنَّ نَضْرِبَهُ بِالسَّيْفِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} يَعْنِي أَهْلَ الْحَرْبِ وَمَنِ امْتَنَعَ منهم من أداء الجزية، وقوله تعالى: {وَقُولُواْ آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} يعني إذا أخبروا بما لا نعلم صِدْقُهُ وَلَا كَذِبُهُ فَهَذَا لَا نُقْدِمُ عَلَى تكذيبه لأنه قد يكون حقاً ولا تَصْدِيقِهِ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا، وَلَكِنْ نُؤْمِنُ به إيماناً مجملاً، أخرج البخاري رحمه الله عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كان أهل الكتاب يقرأون التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الإِسلام، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) قَالَ: لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، إِمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا وَفِي قَلْبِهِ تَالِيَةٌ تَدْعُوهُ إِلَى دِينِهِ كَتَالِيَةِ الْمَالِ، وروى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ وَكِتَابُكُمُ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث، تقرأونه مَحْضًا لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب بدلوا وغيروا وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمُ الْكِتَابَ، وَقَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا؟ أَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ؟ لَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا يَسْأَلُكُمْ عَنِ الذي أنزل عليكم. وحدّث معاوية رَهْطًا مِنْ قُرَيْشٍ بِالْمَدِينَةِ وَذَكَرَ كَعْبَ الْأَحْبَارِ، فقال: إن مِنْ أَصْدَقِ هَؤُلَاءِ الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ لَنَبْلُو عليه الكذب (أخرجه البخاري موقوفاً على مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال ابن كثير: معناه أنه يقع منه الكذب مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، لِأَنَّهُ يُحَدِّثُ عَنْ صُحُفٍ هو يحسن الظن فيها وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة) .(2/39)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
- 47 - وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن هَؤُلَاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلَّا الْكَافِرُونَ
- 48 - وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِنَ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ(2/39)
- 49 - بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلَّا الظَّالِمُونَ
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا أَنْزَلْنَا الْكُتُبَ عَلَى مَنْ قَبْلَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الرُّسُلِ، كَذَلِكَ أنزلنا إليك هذا الكتاب، وقوله تعالى: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أَيِ الَّذِينَ أخذوه فتلوه حق تلاوته، من أخبارهم العلماء الأذكياء كـ (عبد الله بن سلام) و (سلمان الفارسي) وأشباههما، وقوله تعالى: {وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} يَعْنِي الْعَرَبَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الْكَافِرُونَ} أَيْ مَا يُكَذِّبُ بِهَا وَيَجْحَدُ حَقَّهَا إلاّ من يستر الحق بالباطل، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِنَ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بيمنك} أَيْ قَدْ لَبِثْتَ فِي قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ من قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَ بِهَذَا الْقُرْآنِ عُمُرًا لَا تَقْرَأُ كِتَابًا وَلَا تُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ قَوْمِكَ وَغَيْرِهِمْ يَعْرِفُ أَنَّكَ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَا تَقْرَأُ وَلَا تَكْتُبُ، وَهَكَذَا صِفَتُهُ في الكتب المتقدمة، كما قال تعالى: {والذين يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر} الآية، وَهَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دائماً إلى يوم الدين لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَلَا يَخُطُّ سَطْرًا وَلَا حَرْفًا بِيَدِهِ، بَلْ كَانَ لَهُ كُتَّابٌ يَكْتُبُونَ بين يده الوحي والرسائل إلى الأقاليم، وَمَا أَوْرَدَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يمت صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَعَلَّمَ الْكِتَابَةَ فَضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو} أَيْ تَقْرَأُ {مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ} لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ {وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} تَأْكِيدٌ أَيْضًا وَخَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} .
وقوله تعالى: {إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} أَيْ لَوْ كُنْتَ تُحْسِنُهَا لَارْتَابَ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنَ النَّاسِ، فَيَقُولُ: إِنَّمَا تَعَلَّمَ هَذَا مِنْ كُتُبٍ قَبْلَهُ مَأْثُورَةٍ عَنِ الأنبياء، وقد قَالُوا ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ أُمِّيٌّ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ والأرض} الآية، وقال ههنا {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ آيَاتٌ بَيِّنَةٌ واضحة في الدلالة على الحق، يَحْفَظُهُ الْعُلَمَاءُ، يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِفْظًا وَتِلَاوَةً وَتَفْسِيرًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مدكر} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ وَقَدْ أُعطي مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا» ، وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِّي مُبْتَلِيكَ وَمُبْتَلٍ بِكَ، ومنزلٌ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا ويقظاناً} ، أي لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ، مُيَسَّرٌ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، مُهَيْمِنٌ عَلَى الْقُلُوبِ، مُعْجِزٌ لَفْظًا وَمَعْنَى، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي صِفَةِ هَذِهِ الأمة {أناجيلهم في صدورهم) ، وقوله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الظَّالِمُونَ} أَيْ مَا يُكَذِّبُ بِهَا وَيَبْخَسُ حَقَّهَا وَيَرُدُّهَا {إِلاَّ الظَّالِمُونَ} أَيِ الْمُعْتَدُونَ الْمُكَابِرُونَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيَحِيدُونَ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} .(2/40)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
- 50 - وَقَالُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - 51 - أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
- 52 - قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الخاسرون(2/40)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي تَعَنُّتِهِمْ، وَطَلَبِهِمْ آيَاتٍ يَعْنُونَ تُرْشِدُهُمْ إِلَى أَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله، كما أتى صالح بناقته، قال تَعَالَى: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ {إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ} أَيْ إِنَّمَا أَمْرُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَوْ عَلِمَ أَنَّكُمْ تَهْتَدُونَ لَأَجَابَكُمْ إِلَى سؤالكم، لأن هذا سَهْلٌ عَلَيْهِ يَسِيرٌ لَدَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يَعْلَمُ مِنْكُمْ أنكم إنما قضدتم التَّعَنُّتُ وَالِامْتِحَانُ، فَلَا يُجِيبُكُمْ إِلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ * وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بها} ، وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أَيْ إِنَّمَا بعثت نذيراً لكم فعلي أن أبلغكم رسالة الله تعالى، و {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد} ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا كَثْرَةَ جَهْلِهِمْ وَسَخَافَةَ عَقْلِهِمْ، حَيْثُ طَلَبُوا آيَاتٍ تَدُلُّهُمْ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما جاءهم، وَقَدْ جَاءَهُمْ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ، الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مُعْجِزَةٍ، إِذْ عَجَزَتِ الْفُصَحَاءُ وَالْبُلَغَاءُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ، بَلْ عَنْ مُعَارَضَةِ سُورَةٍ مِنْهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عليهم} (أخرجه ابن جرير وغيره قال: جاء أناس من المسلمين بكتب كتبوا فيها بعض ما سمعوه من الْيَهُودُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كفى بقوم ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم، إلى ما جاء به غيره» فنزلت رأولم يكفهم ... } أَيْ أَوْلَمَ يَكْفِهِمْ آيَةً إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ الْعَظِيمَ الَّذِي فِيهِ خَبَرُ مَا قَبْلَهُمْ وَنَبَأُ مَا بَعْدَهُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَهُمْ، وَأَنْتَ رَجُلٌ أُمِّيٌّ لَا تَقْرَأُ وَلَا تَكْتُبُ وَلَمْ تُخَالِطْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَجِئْتَهُمْ بِأَخْبَارِ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى بِبَيَانِ الصَّوَابِ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَبِالْحَقِّ الْوَاضِحِ الْبَيِّنِ الْجَلِيِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بني إسرائيل} ، وقال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آية مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى} وفي الصحيح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ من بني إِلَّا قَدْ أُعطي مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يوم القيامة" (أخرجه الشيخان والإمام أحمد) . وقد قال تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أَيْ إِنَّ فِي هَذَا الْقُرْآنِ {لَرَحْمَةً} أي بياناً للحق وإزاحة للباطل {وذكرى} بِمَا فِيهِ حُلُولُ النِّقَمَاتِ وَنُزُولُ الْعِقَابِ بِالْمُكَذِّبِينَ والعاصين لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً} أَيْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَيَعْلَمُ مَآ أَقُولُ لَكُمْ مِنْ إِخْبَارِي عَنْهُ بِأَنَّهُ أَرْسَلَنِي، فلو كنت كاذباً عليه لا نتقم مِنِّي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمن ثم قطعنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين} ، وَإِنَّمَا أَنَا صَادِقٌ عَلَيْهِ فِيمَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ، وَلِهَذَا أَيَّدَنِي بِالْمُعْجِزَاتِ الْوَاضِحَاتِ وَالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَاتِ {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، {وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِاللَّهِ أولئك هُمُ الخاسرون} أي يوم القيامة سَيَجْزِيهِمْ عَلَى مَا فَعَلُوا وَيُقَابِلُهُمْ عَلَى مَا صنعوا، في تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ، كَذَّبُوا بِرُسُلِ اللَّهِ مَعَ قِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ، وَآمَنُوا بِالطَّوَاغِيتِ والأوثان بلا دليل، فسيجزيهم عَلَى ذَلِكَ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ.(2/41)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
- 53 - وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
- 54 - يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ
- 55 - يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(2/41)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ جَهْلِ الْمُشْرِكِينَ، فِي استعجالهم عذاب الله أت يَقَعَ بِهِمْ، وَبَأْسَ اللَّهِ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، وقال ههنا: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ} أي لولا ما ختم اللَّهُ مِنْ تَأْخِيرِ الْعَذَابِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ قَرِيبًا سَرِيعًا كَمَا اسْتَعْجَلُوهُ، ثُمَّ قَالَ: {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} أَيْ فَجْأَةً، {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} أي يستعجلون العذاب وهو واقع بهم لا محالة، ثم قال عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} ، وقال تعالى: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} ، فَالنَّارُ تَغْشَاهُمْ مِنْ سَائِرِ جِهَاتِهِمْ وَهَذَا أَبْلَغُ في العذاب الحسي، وقوله تعالى: {وَنَقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تَهْدِيدٌ وَتَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ وهذا عذاب معنوي على النفوس، كقوله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وجوهم ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بقدر} ، وقال تَعَالَى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} .(2/42)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
- 56 - يا عبادي الَّذِينَ آمَنُوا إِن أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
- 57 - كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
- 58 - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
- 59 - الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
- 60 - وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، بِالْهِجْرَةِ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي لَا يَقْدِرُونَ فِيهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ، إِلَى أَرْضِ اللَّهِ الْوَاسِعَةِ، حَيْثُ يُمْكِنُ إِقَامَةُ الدِّينِ، بِأَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ وَيَعْبُدُوهُ كَمَا أَمَرَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {يا عبادي الذين آمنوا إِن أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فاعبدوا} . عن الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبِلَادُ بِلَادُ اللَّهِ، وَالْعِبَادُ عِبَادُ اللَّهِ، فَحَيْثُمَا أَصَبْتَ خَيْرًا فَأَقِمْ» (أخرجه الإمام أحمد عن الزبير بن العوام) ، وَلِهَذَا لَمَّا ضَاقَ عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ مُقَامَهُمْ بِهَا، خَرَجُوا مُهَاجِرِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ لِيَأْمَنُوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزلين هناك (أصحمة النجاشي) ملك الحبشة رحمة الله تعالى، فآواهم وأيدهم، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة الباقون إلى المدينة المطهرة، ثم قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أَيْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، فَكُونُوا فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَحَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ، فَإِنَّ الْمَوْتَ لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا مَحِيدَ عَنْهُ، ثُمَّ إِلَى اللَّهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، فَمَنْ كَانَ مُطِيعًا لَهُ جَازَاهُ أَفْضَلَ الْجَزَاءِ ووافاه أتم الثواب، ولهذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أَيْ لَنُسْكِنَنَّهُمْ مَنَازِلَ عَالِيَةً فِي الْجَنَّةِ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا، مِنْ مَاءٍ وَخَمْرٍ وَعَسَلٍ وَلَبَنٍ، يُصَرِّفُونَهَا وَيُجْرُونَهَا حَيْثُ شَاءُوا، {خَالِدِينَ فِيهَآ} أي ما كثين فِيهَا أَبَدًا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} نِعْمَتْ هَذِهِ الْغُرَفُ أَجْرًا عَلَى أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ {الَّذِينَ صَبَرُواْ} أَيْ عَلَى دِينِهِمْ وَهَاجَرُوا إِلَى اللَّهِ، وَنَابَذُوا الْأَعْدَاءَ، وَفَارَقُوا الْأَهْلَ وَالْأَقْرِبَاءَ، ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَرَجَاءَ مَا عِنْدَهُ.(2/42)
وفي الحديث: «أن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام، وأطاب الكلام، وتابع الصلاة والصيام، وقام بالليل والناس نيام» (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي مالك الأشعري مرفوعاً) {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} فِي أَحْوَالِهِمْ كُلِّهَا فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ تَعَالَى أَنَّ الرِّزْقَ لَا يُخْتَصُّ بِبُقْعَةٍ، بَلْ رِزْقُهُ تَعَالَى عَامٌّ لِخَلْقِهِ حَيْثُ كَانُوا وَأَيْنَ كَانُوا، بَلْ كَانَتْ أَرْزَاقُ الْمُهَاجِرِينَ حَيْثُ هَاجَرُوا أَكْثَرَ وَأَوْسَعَ وَأَطْيَبَ، فَإِنَّهُمْ بَعْدَ قَلِيلٍ صَارُوا حُكَّامَ الْبِلَادِ فِي سائر الأقطار والأمصار، ولهذا قال تَعَالَى: {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا} أَيْ لا تطيق جمعه وتحصيله ولا تدخر شيئاً لغد، {والله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} أَيِ اللَّهُ يُقَيِّضُ لَهَا رِزْقَهَا عَلَى ضَعْفِهَا وَيُيَسِّرُهُ عَلَيْهَا، فَيَبْعَثُ إِلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ مِنَ الرِّزْقِ مَا يُصْلِحُهُ حَتَّى الذَّرِّ فِي قَرَارِ الْأَرْضِ، وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَالْحِيتَانِ في الماء، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} ، وروى ابن حاتم عن ابن عمر قال: خرجت مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ بَعْضَ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، فَجَعَلَ يَلْتَقِطُ مِنَ التَّمْرِ وَيَأْكُلُ، فَقَالَ لِي: «يَا ابْنَ عُمَرَ مَا لَكَ لَا تَأْكُلُ؟» قَالَ، قُلْتُ: لَا أَشْتَهِيهِ يَا رسول الله، قال: «لكني أشتهيه وهذا صُبْحُ رابعةٍ مُنْذُ لَمْ أَذُقْ طَعَامًا، وَلَمْ أَجِدْهُ، وَلَوْ شِئْتُ لَدَعَوْتُ رَبِّي فَأَعْطَانِي مِثْلَ ملك كسرى وقيصر، فَكَيْفَ بِكَ يَا ابْنَ عُمَرَ إِذَا بَقِيتَ فِي قَوْمٍ يُخَبِّئُونَ رِزْقَ سَنَتِهِمْ بِضَعْفِ الْيَقِينِ؟» قَالَ فَوَاللَّهِ مَا بَرِحْنَا وَلَا رِمْنا حَتَّى نَزَلَتْ: {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله عزَّ وجلَّ لم يأمروني بِكَنْزِ الدُّنْيَا، وَلَا بِاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، فَمَنْ كَنَزَ دُنْيَاهُ يُرِيدُ بِهَا حَيَاةً بَاقِيَةً، فَإِنَّ الْحَيَاةَ بِيَدِ اللَّهِ، أَلَا وَإِنِّي لَا أَكْنِزُ دِينَارًا ولا درهماً ولا أخبأ رزقاً لغد (الحديث أخرجه ابن أبي حاتم وفي إسناده ضعف كذا قال ابن كثير) ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَافِرُوا تَرْبَحُوا، وَصُومُوا تَصِحُّوا وغزوا تغنموا» (أخرجه الإمام أحمد، ورواه البيهقي عن ابن عمر مرفوعاً باللفظ (سافروا تصحوا وتغنموا) . وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أَيِ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ {الْعَلِيمُ} بِحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ.(2/43)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
- 61 - وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ
- 62 - اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
- 63 - وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُقَرِّرًا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ معه غيره معترفون بأنه المستقل بخلق السماوات وَالْأَرْضِ، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَتَسْخِيرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَّهُ الخالق الرازق
لعباده، ومقدر آجالهم وأرزاقهم فتفاوت بَيْنَهُمْ، فَمِنْهُمُ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَهُوَ الْعَلِيمُ بِمَا يُصْلِحُ كُلًّا مِنْهُمْ وَمَنْ يَسْتَحِقُّ الْغِنَى مِمَّنْ يستحق الفقر، فذكر أنه المستقل بِخَلْقِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَفَرِّدِ بِتَدْبِيرِهَا، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فلمَ يُعْبَدُ غَيْرُهُ؟ وَلِمَ يُتَوَكَّلُ عَلَى غَيْرِهِ؟ فَكَمَا أَنَّهُ الْوَاحِدُ فِي مُلْكِهِ، فَلْيَكُنِ الْوَاحِدَ فِي عِبَادَتِهِ، وَكَثِيرًا مَا يُقَرِّرُ تَعَالَى «مَقَامَ الْإِلَهِيَّةِ» بِالِاعْتِرَافِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ [ص:44] الْمُشْرِكُونَ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ، كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ.(2/43)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
- 64 - وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
- 65 - فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ
- 66 - لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ حَقَارَةِ الدُّنْيَا وَزَوَالِهَا وَانْقِضَائِهَا، وَأَنَّهَا لَا دَوَامَ لَهَا وَغَايَةُ مَا فِيهَا لَهْوٌ وَلَعِبٌ {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أَيْ الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ، الْحَقُّ الذي لا زوال له وَلَا انْقِضَاءَ، بَلْ هِيَ مُسْتَمِرَّةٌ أَبَدَ الْآبَادِ، وقوله تعالى: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أَيْ لَآثَرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ يَدْعُونَهُ وَحْدَهُ لَا شريك له، فلا يَكُونُ هَذَا مِنْهُمْ دَائِمًا {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} الآية. وقال ههنا: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ هُمْ يُشْرِكُونَ} . وقد ذكر محمد ابن إِسْحَاقَ عَنْ (عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ) أَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، ذَهَبَ فَارًّا مِنْهَا، فَلَمَّا رَكِبَ فِي الْبَحْرِ لِيَذْهَبَ إِلَى الْحَبَشَةِ اضْطَرَبَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ، فَقَالَ أَهْلُهَا: يَا قَوْمِ أَخْلِصُوا لِرَبِّكُمُ الدعاء، فإنه لا ينجي ههنا إلا هو، فقال عكرمة: والله لئن كان لاينجي في البحر غيره فإنه لا ينجي في البر أيضاً غيره، اللَّهُمَّ لَكَ عليَّ عَهْدٌ لَئِنْ خَرَجْتُ لَأَذْهَبْنَ فلأضعن يدي في يد محمد، فلأجدنه رؤوفاً رحيماً، فكان كذلك. وقوله تعالى: {لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ} هذه اللام (لَامَ الْعَاقِبَةِ) لِأَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ ذَلِكَ وَلَا شَكَّ أَنَّهَا كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَقْدِيرِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَتَقْيِيضِهِ إِيَّاهُمْ لِذَلِكَ فَهِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَقْرِيرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَنًا} .(2/44)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
- 67 - أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ
- 68 - وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ
- 69 - وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لنهدينهم وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى قُرَيْشٍ فِيمَا أَحَلَّهُمْ مِنْ حَرَمِهِ الَّذِي جعله لِلنَّاسِ سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد، وَمَن دخله كان آمناً، فهو أَمْنٍ عَظِيمٍ، وَالْأَعْرَابُ حَوْلَهُ يَنْهَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لإِيلاَفِ قريش} إلى آخر السورة، وقوله تعالى: {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله يكفرون} (في اللباب: أخرج جويبر: أنهم قالوا: يا محمد، ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس، والأعراب أكثر منا، فنزل: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا ... } الآية) أَيْ أَفَكَانَ شُكْرُهُمْ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ أَنْ أَشْرَكُوا بِهِ وَعَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ مِنَ الأصنام والأنداد، {بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار} فكفروا بنبي الله ورسوله فكذبوه، فقاتلوه، فأخرجوه من بين أظهرهم، ولهذا سلبهم الله تعالى مَا كَانَ أَنْعَمَ(2/44)
بِهِ عَلَيْهِمْ، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ، ثم صارت الدَّوْلَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مَكَّةَ وَأَرْغَمَ آنَافَهُمْ وَأَذَلَّ رِقَابَهُمْ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ} ؟ أَيْ لَا أَحَدَ أَشَدُّ عُقُوبَةً مِمَّن كَذَبَ علَى الله، فقال إن الله أوحى إليه وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شيء، وَهَكَذَا لَا أَحَدَ أَشَدُّ عُقُوبَةً مِمَّنْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ، فَالْأَوَّلُ مُفْتَرٍ وَالثَّانِي مُكَذِّبٌ، ولهذا قال تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} ، ثُمَّ قَالَ تعالى: {والذين جَاهَدُواْ فِينَا} يعني الرسول صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ وَأَتْبَاعَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أَيْ لَنُبَصِّرَنَّهُمْ سُبُلَنَا أَيْ طُرُقَنَا فِي الدُّنْيَا والآخرة، وقوله: {وإن الله لَمَعَ المحسنين} .
روى ابن حاتم بسنده عن الشعبي قال، قال عيسى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّمَا الإِحسان أَنْ تُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، لَيْسَ الْإِحْسَانُ أَنْ تحسن إلى من أحسن إليك، والله أعلم.(2/45)
- 30 - سورة الروم(2/46)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
- 1 - الم
- 2 - غُلِبَتِ الرُّومُ
- 3 - فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ
- 4 - فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمَن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ
- 5 - بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
- 6 - وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
- 7 - يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ
نزلت هذه الآيات حين غلب الفرس (آخر ملوك الفرس الذي قتل زمن عثمان بن عفان هو: يزدجر بن شهريار، وهو الذي كتب له النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه للإسلام، فمزق الكتاب، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق) عَلَى بِلَادِ الشَّامِ، وَمَا وَالَاهَا مِنْ بِلَادِ الجزيرة وأقاصي بلاد الروم، فاضطر ملك الروم حتى لجأ إلى القسطنطينية وحوصر فِيهَا مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ عَادَتِ الدَّوْلَةُ لِهِرَقْلَ كما سيأتي. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ أَوْثَانٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الكتاب، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إِنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ» ، فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لَهُمْ، فَقَالُوا: اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ أَجَلًا، فَإِنْ ظَهَرْنَا كَانَ لَنَا كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ ظَهَرْتُمْ كَانَ لَكُمْ كذا وكذا، فجعل أجل خَمْسَ سِنِينَ، فَلَمْ يَظْهَرُوا، فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "ألا جعلتها إلى دُونَ الْعَشْرِ؟ ثُمَّ ظَهَرَتِ الرُّومُ بَعْدُ، قَالَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (أخرجه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما) . (حديث آخر: عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: الدُّخَانُ، وَاللِّزَامُ، وَالْبَطْشَةُ، وَالْقَمَرُ، وَالرُّومُ (أخرجاه فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ موقوفاً) . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: كانت فارس ظاهرة عَلَى الرُّومِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تظهر الروم(2/46)
عَلَى فَارِسَ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى دِينِهِمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بعد عليهم سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِين} قَالُوا: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ صَاحِبَكَ يَقُولُ: إِنَّ الرُّومَ تَظْهَرُ عَلَى فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِين، قَالَ: صَدَقَ، قالوا: هل لك أَنْ نُقَامِرَكَ، فَبَايَعُوهُ عَلَى أَرْبَعِ قَلَائِصَ إِلَى سَبْعِ سِنِينَ فَمَضَتِ السَّبْعُ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ، ففرح المشركون بذلك، فشق عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا بِضْعُ سِنِينَ عِنْدَكُمْ» ؟ قَالُوا دُونَ الْعَشْرِ، قَالَ: «اذْهَبْ فَزَايِدْهُمْ وَازْدَدْ سَنَتَيْنِ فِي الْأَجَلِ» قَالَ: فَمَا مَضَتِ السَّنَتَانِ حَتَّى جَاءَتِ الرُّكْبَانُ بِظُهُورِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ، ففرح المؤمنون بذلك وأنزل الله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الروم - إلى قوله تعالى - وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وعده} (أخرجه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم والترمذي قريباً منه) .
وقال عكرمة: لقي الْمُشْرِكُونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: إِنَّكُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَالنَّصَارَى أَهْلُ كِتَابٍ، وَنَحْنُ أُمِّيُّونَ وَقَدْ ظَهَرَ إِخْوَانُنَا مِنْ أَهْلِ فَارِسَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنَّكُمْ إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم، فأنزل الله تَعَالَى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ - إلى قوله - يَنصُرُ مَن يَشَآءُ} فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ إِلَى الْكُفَّارِ فَقَالَ: أَفَرِحْتُمْ بِظُهُورِ إِخْوَانِكُمْ عَلَى إِخْوَانِنَا، فَلَا تَفْرَحُوا وَلَا يُقِرَّنَ اللَّهُ أَعْيُنَكُمْ، فَوَاللَّهِ لَيُظْهِرَنَّ اللَّهُ الرُّومَ عَلَى فَارِسَ، أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ إِلَيْهِ (أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ) فَقَالَ: كَذَبْتَ يَا أَبَا فُضَيْلٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أَنْتَ أكذب يا عدو الله، فقال: أناجيك عَشْرَ قَلَائِصَ مِنِّي وَعَشْرَ قَلَائِصَ مِنْكَ، فَإِنْ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ غَرِمْتُ، وَإِنْ ظَهَرَتْ فَارِسُ غَرِمْتَ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ، ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: «مَا هَكَذَا ذَكَرْتُ إِنَّمَا الْبِضْعُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ فَزَايِدْهُ في خطر، ومادَّه فِي الْأَجَلِ» ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَقِيَ أُبَيًّا فَقَالَ: لَعَلَّكَ نَدِمْتَ؟ فَقَالَ: لَا، تَعَالَ أُزَايِدْكَ فِي الْخَطَرِ وَأُمَادَّكَ فِي الْأَجَلِ، فَاجْعَلْهَا مائة قَلُوصٍ إِلَى تِسْعِ سِنِينَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، فَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ قَبْلَ ذَلِكَ فَغَلَبَهُمُ المسلمون.
ولنتكلم على كلمات هذه الآيات الكريمات، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَأَمَّا الرُّومُ فَهُمْ مِنْ سُلَالَةِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَيُقَالُ لَهُمْ بَنُو الْأَصْفَرِ، وَكَانُوا عَلَى دِينِ الْيُونَانِ، وَالْيُونَانُ مِنْ سُلَالَةِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ أَبْنَاءِ عَمِّ التُّرْكِ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّيَّارَةَ، وهم الذين أسسوا دمشق وبنوا معبدها، فكان الروم على دينهم إلى بعد مبعث المسيح بنحو من ثلثمائة سنة، وكان من ملك منهم الشام مع الجزيرة يُقَالُ لَهُ (قَيْصَرُ) ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ في دين النصارى من الروم (قسطنطين) ، وأمه
مريم الهيلانية مِنْ أَرْضِ حَّران كَانَتْ قَدْ تَنَصَّرَتْ قَبْلَهُ فَدَعَتْهُ إِلَى دِينِهَا، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَيْلَسُوفًا، فتابعها، وَاجْتَمَعَتْ بِهِ النَّصَارَى وَتَنَاظَرُوا فِي زَمَانِهِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرْيُوسَ، وَاخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا كثيراُ لا ينضبط، إلاّ أنه اتفق جماعتهم ثلثمائة وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ أُسْقُفًّا، فَوَضَعُوا لِقُسْطَنْطِينَ الْعَقِيدَةَ،
وَهِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا (الْأَمَانَةَ الْكَبِيرَةَ) وَإِنَّمَا هِيَ الْخِيَانَةُ الْحَقِيرَةُ، وَوَضَعُوا لَهُ الْقَوَانِينَ يَعْنُونَ كُتُبَ الْأَحْكَامِ من تحريم وتحليل وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَغَيَّرُوا دِينَ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَزَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا مِنْهُ، فصلوا إِلَى الْمَشْرِقِ، وَاعْتَاضُوا عَنِ السَّبْتِ بِالْأَحَدِ، وَعَبَدُوا الصَّلِيبَ، وَأَحَلُّوا الْخِنْزِيرَ، وَاتَّخَذُوا أَعْيَادًا أَحْدَثُوهَا، كَعِيدِ الصَّلِيبِ وَالْقِدَّاسِ وَالْغِطَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ(2/47)
الْبَوَاعِيثِ وَالشَّعَانِينِ، وَجَعَلُوا لَهُ الْبَابَ وَهُوَ كَبِيرُهُمْ، ثم البتاركة، ثم المطارنة، ثم الأساقفة والقساوسة، ثُمَّ الشَّمَامِسَةِ، وَابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ، وَبَنَى لَهُمُ الْمَلِكُ الْكَنَائِسَ وَالْمَعَابِدَ، وَأَسَّسَ الْمَدِينَةَ الْمَنْسُوبَةَ إِلَيْهِ وَهِيَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، يُقَالُ: إِنَّهُ بَنَى فِي أَيَّامِهِ اثْنَيْ عشر ألف كنيسة، وبنى بيت لحم بثلاث مَحَارِيبَ، وَبَنَتْ أُمُّهُ الْقُمَامَةَ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمَلَكِيَّةُ، يَعْنُونَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى دِينِ الْمَلِكِ، ثُمَّ حدثت الْيَعْقُوبِيَّةُ أَتْبَاعُ يَعْقُوبَ الْإِسْكَافِ ثُمَّ النَّسْطُورِيَّةُ أَصْحَابُ نَسْطُورَا، وَهُمْ فِرَقٌ وَطَوَائِفُ كَثِيرَةً، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إنهم افترقوا على اثنين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» . وَالْغَرَضُ أَنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ كُلَّمَا هَلَكَ قَيْصَرُ خَلْفَهُ آخَرُ بَعْدَهُ حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ (هِرَقْلُ) وَكَانَ مِنْ عُقَلَاءِ الرِّجَالِ، ومن أحرم الْمُلُوكِ وَأَدْهَاهُمْ وَأَبْعَدِهِمْ غَوْرًا وَأَقْصَاهُمْ رَأْيًا، فَتَمَلَّكَ عليهم في رياسة عظيمة وأبهة كثيرة، فناوأه كسرى ملك الفرس، وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر، وَكَانُوا مَجُوسًا يَعْبُدُونَ النَّارَ، فَتَقَدَّمَ عَنْ عِكْرِمَةَ أنه قال: بَعَثَ إِلَيْهِ نُوَّابَهُ وَجَيْشَهُ فَقَاتَلُوهُ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ كِسْرَى غَزَاهُ بِنَفْسِهِ فِي بِلَادِهِ فَقَهَرَهُ وَكَسَرَهُ وَقَصَرَهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى مَدِينَةِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ فَحَاصَرَهُ بِهَا مُدَّةً طَوِيلَةً حَتَّى ضَاقَتْ عليه، وَلَمْ يَقْدِرْ كِسْرَى عَلَى فَتْحِ الْبَلَدِ وَلَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ لِحَصَانَتِهَا، لِأَنَّ نِصْفَهَا مِنْ نَاحِيَةِ الْبَرِّ وَنِصْفَهَا الْآخَرَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَحْرِ، فَكَانَتْ تأتيهم الميرة والمدد من هنالك، ثُمَّ كَانَ غَلَبُ الرُّومِ لِفَارِسَ بَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ وَهِيَ تَسَعٌ، فَإِنَّ الْبِضْعَ فِي كَلَامِ العرب ما بين الثلاث إلى التسع.
وقوله تعالى: {للَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمَن بَعْدُ} أَيْ من قبل ذلك ومن بعده، {ويؤمئذ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} أَيْ لِلرُّومِ أَصْحَابِ قَيْصَرَ مَلِكِ الشَّامِ عَلَى فَارِسَ أَصْحَابِ كِسْرَى، وهم المجوس، وكانت نُصْرَةُ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ يَوْمَ وَقْعَةِ بَدْرٍ في قول طائفة كثيرة مِنَ الْعُلَمَاءِ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمْ، وقد ورد في الحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ فَأَعْجَبَ ذَلِكَ المؤمنين ففرحوا به، وأنزل الله: {ويؤمئذ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم} (أخرجه الترمذي وابن أبي حاتم والبرار) ، وقال الآخرون: بل كان نصر الروم على فارس عام الحديبية (يروى هذا القول عن عكرمة والزهري وقتادة وغيرهم) ، وَالْأَمْرُ فِي هَذَا سَهْلٌ قَرِيبٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا انْتَصَرَتْ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ سَاءَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا انْتَصَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ فَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الرُّومَ أَهْلُ كِتَابٍ فِي الْجُمْلَةِ فَهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمَجُوسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى - إلى قوله - رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين} . وقال تعالى ههنا: {ويؤمئذ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم} ، عن العلاء بن الزبير الكلابي عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ غَلَبَةَ فَارِسَ الرُّومَ، ثُمَّ رَأَيْتُ غَلَبَةَ الرُّومِ فَارِسَ، ثُمَّ رَأَيْتُ غَلَبَةَ الْمُسْلِمِينَ فَارِسَ وَالرُّومَ كُلُّ ذَلِكَ فِي خمس عشرة سنة (أخرجه ابن أبي حاتم) . وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أَيْ فِي انْتِصَارِهِ وَانْتِقَامِهِ مِنْ أعدائه، {الرحيم} بعباده المؤمنين، وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} أَيْ هَذَا الَّذِي أَخْبَرْنَاكَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أَنَّا سَنَنْصُرُ الرُّومَ عَلَى فَارِسَ وَعْدٌ مِنَ الله حق، وخبر صدق لايخلف، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ وَوُقُوعِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَرَتْ سُنَّتُهُ أَنْ يَنْصُرَ أَقْرَبَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ وَيَجْعَلَ لَهَا الْعَاقِبَةَ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أَيْ بِحُكْمِ اللَّهِ فِي كَوْنِهِ وَأَفْعَالِهِ الْمُحْكَمَةِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ العدل، وقوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ الغافلون} أَيْ أَكْثَرُ النَّاسِ لَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ إِلَّا بالدنيا(2/48)
وأكسابها وشؤونها وَمَا فِيهَا، فَهُمْ حُذَّاقٌ أَذْكِيَاءُ فِي تَحْصِيلِهَا ووجوه مكاسبها، وهم غافلون في أمور الدين وما يَنْفَعُهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، كَأَنَّ أَحَدَهُمْ مُغَفَّلٌ لَا ذِهْنَ لَهُ وَلَا فِكْرَةَ، قَالَ الْحَسَنُ البصري: والله ليبلغ مِنْ أَحَدِهِمْ بِدُنْيَاهُ أَنَّهُ يَقْلِبُ الدِّرْهَمَ عَلَى ظُفْرِهِ فَيُخْبِرُكَ بِوَزْنِهِ وَمَا يُحْسِنُ أَنْ يُصَلِّيَ، وقال ابن عباس في قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ الغافلون} يَعْنِي الْكُفَّارُ يَعْرِفُونَ عُمْرَانَ الدُّنْيَا وَهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ جُهَّالٌ.(2/49)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
- 8 - أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنْفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ
- 9 - أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
- 10 - ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا على التفكير في مخلوقاته الدالة على وجوده، وَإِنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ} يَعْنِي بِهِ النَّظَرَ وَالتَّأَمُّلَ لِخَلْقِ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ، مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهَا مَا خُلِقَتْ سُدًى وَلَا بَاطِلًا بَلْ بِالْحَقِّ، وَأَنَّهَا مُؤَجَّلَةٌ إِلَى أَجَلٍ مسمى وهو يوم القيامة، ولهذا قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} ، ثُمَّ نَبَّهَهُمْ عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ فِيمَا جَاءُوا بِهِ عَنْهُ، بِمَا أَيَّدَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَاتِ، مِنْ إِهْلَاكِ مَنْ كَفَرَ بِهِمْ، ونجاة من صدقهم، فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي الْأَرْضِ} أَيْ بِأَفْهَامِهِمْ وَعُقُولِهِمْ ونظرهم وسماع أَخْبَارَ الْمَاضِينَ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أَيْ كَانَتِ الْأُمَمُ الْمَاضِيَةُ وَالْقُرُونُ السَّالِفَةُ أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً، وَمُكِّنُوا فِي الدُّنْيَا تَمْكِينًا لَمْ تَبْلُغُوا إِلَيْهِ، وَعُمِّرُوا فِيهَا أَعْمَارًا طِوَالًا فَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِنْكُمْ، واستغلوها أكثر من استغلالكم، ومع هذا فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ من واق، ولا حالت أموالهم وأولادهم بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَأْسِ اللَّهِ وَلَا دَفَعُوا عَنْهُمْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ فِيمَا أَحَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} حيث كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله واستهزأوا بِهَا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمُ السَّالِفَةِ وتكذيبهم المتقدم، ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} أَيْ كَانَتِ السُّوأَى عَاقِبَتَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله وكانوا بها يستهزئون} .(2/49)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
- 11 - الله يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
- 12 - وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ
- 13 - وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مِّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ
- 14 - وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ
- 15 - فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ
- 16 - وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ(2/49)
فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أَيْ كَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى بَدَاءَتِهِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِ، {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، ثُمَّ قَالَ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَيْأَسُ الْمُجْرِمُونَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَفْتَضِحُ الْمُجْرِمُونَ، وَفِي رِوَايَةٍ يَكْتَئِبُ المجرمون، {وَلَمْ يكن له مِّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ} أَيْ مَا شَفَعَتْ فِيهِمُ الْآلِهَةُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ تعالى وَكَفَرُوا بِهِمْ وَخَانُوهُمْ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِمْ، ثم قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يؤمئذ يَتَفَرَّقُونَ} قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ وَاللَّهِ الْفُرْقَةُ الَّتِي لا اجتماع بعدها، يعني أنه إِذَا رُفِعَ هَذَا إِلَى عِلِّيِّينَ وَخُفِضَ هَذَا إلى أسفل سافلين، فذلك آخر العهد بينهما، ولهذا قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} قال مجاهد وقتادة: ينعمون.(2/50)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
- 17 - فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ
- 18 - وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ
- 19 - يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ
هذا تسبيح منه تعالى لنفسه المقدسة، وإرشاده لِعِبَادِهِ إِلَى تَسْبِيحِهِ وَتَحْمِيدِهِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، عِنْدَ الْمَسَاءِ وَهُوَ إِقْبَالُ اللَّيْلِ بِظَلَامِهِ، وَعِنْدَ الصباح وهو إسفار النهار بضيائه، ثُمَّ اعْتَرَضَ بِحَمْدِهِ مُنَاسِبَةً لِلتَّسْبِيحِ وَهُوَ التَّحْمِيدُ، فقال تعالى: {وَلَهُ الحمد في السموات وَالْأَرْضِ} أَيْ هُوَ الْمَحْمُودُ عَلَى مَا خَلَقَ في السماوات والأرض، ثم قال تعالى: {وعيشاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} فالعَشاء هُوَ شِدَّةُ الظَّلَامِ وَالْإِظْهَارُ هو قوة الضياء، كما قال تعالى: {والنهار إِذَا جَلاَّهَا * والليل إِذَا يَغْشَاهَا} ، وقال تعالى: {والليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى} ، وقال تعالى: {والضحى والليل إِذَا سجى} والآيات في هذا كثيرة. وفي الحديث: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ لِمَ سَمَّى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ الَّذِي وفَّى، لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ كُلَّمَا أَصْبَحَ وكلما أصبح وكلما أمسى: سُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ" (أخرجه الإمام أحمد) . وقوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} هُوَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قُدْرَتِهِ على خلق الأشياء المتقابلة، فإنه يذكر خلقه الأشياء وأضدادها ليدل عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ إِخْرَاجُ النَّبَاتِ مِنَ الْحَبِّ، وَالْحَبِّ مِنَ النَّبَاتِ، وَالْبَيْضِ مِنَ الدَّجَاجِ، وَالدَّجَاجِ مِنَ الْبَيْضِ، وَالْإِنْسَانِ مِنَ النُّطْفَةِ، وَالنُّطْفَةِ مِنَ الإِنسان، وَالْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرِ من المؤمن. وقوله تعالى: {ويحيي الأرض بعد موتها} ، كقوله تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} ، وقوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} ، ولهذا قال: {وكذلك تخرجون} .(2/50)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
- 20 - وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ
- 21 - وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، أَنَّهُ خَلَقَ أَبَاكُمْ آدَمَ مِن تُرَابٍ، {ثُمَّ إِذَآ(2/50)
أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} فَأَصْلُكُمْ مِن تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ تَصَوَّرَ فَكَانَ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ صَارَ عِظَامًا، شَكْلُهُ عَلَى شَكْلِ الْإِنْسَانِ ثُمَّ كَسَا اللَّهُ تِلْكَ الْعِظَامَ لَحْمًا، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحَ فَإِذَا هُوَ سميع بصير، ثُمَّ كَلَّمَا طَالَ عُمْرُهُ تَكَامَلَتْ قُوَاهُ وَحَرَكَاتُهُ، حَتَّى آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ صَارَ يبني المدائن والحصون، ويدور أقطار الأرض، ويكتسب، وَيَجْمَعُ الْأَمْوَالَ، وَلَهُ فِكْرَةٌ وَغَوْرٌ، وَدَهَاءٌ وَمَكْرٌ، وَرَأْيٌ وَعِلْمٌ، وَاتِّسَاعٌ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كُلٌّ بِحَسَبِهِ، فَسُبْحَانَ مَنْ أَقْدَرَهُمْ وَسَيَّرَهُمْ وَسَخَّرَهُمْ وَصَرَّفَهُمْ فِي فُنُونِ الْمَعَايِشِ وَالْمَكَاسِبِ وَفَاوَتَ بَيْنَهُمْ في العلوم والفكر، وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ إذآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} . عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، جَاءَ مِنْهُمُ الْأَبْيَضُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَالسَّهْلُ والحزن وبين ذلك» (أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود وقال الترمذي: حسن صحيح) . وقوله تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} أَيْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ جِنْسِكُمْ إِنَاثًا تكون لَكُمْ أَزْوَاجاً {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ليسكن إليها} يَعْنِي بِذَلِكَ حَوَّاءَ خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ آدَمَ من ضلعه الأيسر، ولو أنه تعالى جَعَلَ بَنِي آدَمَ كُلَّهُمْ ذُكُورًا، وَجَعَلَ إِنَاثَهُمْ مَنْ جِنْسٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ، إِمَّا مِنْ جَانٍّ أَوْ حَيَوَانٍ، لَمَا حَصَلَ هَذَا الِائْتِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَزْوَاجِ، بَلْ كَانَتْ تَحْصُلُ نَفْرَةٌ لَوْ كَانَتِ الْأَزْوَاجُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، ثُمَّ مِنْ تَمَامِ رَحْمَتِهِ بِبَنِي آدَمَ أَنْ جَعَلَ أَزْوَاجَهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَجَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ {مَّوَدَّةً} وهي المحبة {وَرَحْمَةً} وهي الرأفة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .(2/51)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
- 22 - وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ
- 23 - وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِن فَضْلِهِ إِن فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
يَقُولُ تعالى: {ومن آيَاتِهِ} الدالة على قدرته العظيمة {خَلْقُ السموات وَالْأَرْضَ} أَيْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا، وَشُفُوفِ أَجْرَامِهَا وَزِهَارَةِ كَوَاكِبِهَا، وَنُجُومِهَا الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ، وخلق الأرض في انخفاضها وكثافة، وَمَا فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَأَوْدِيَةٍ، وَبِحَارٍ وَقِفَارٍ وحيوان وأشجار، وقوله تعالى: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} يَعْنِي اللُّغَاتِ، فَهَؤُلَاءِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وهؤلاء تتر، وهؤلاء كرج، وهؤلاء روم، وهؤلاء فرنج، وهؤلاء بربر، وَهَؤُلَاءِ حَبَشَةٌ، وَهَؤُلَاءِ هُنُودٌ، وَهَؤُلَاءِ عَجَمٌ، وَهَؤُلَاءِ صقالبة، وَهَؤُلَاءِ أَكْرَادٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ مِنَ اخْتِلَافِ لُغَاتِ بَنِي آدَمَ وَاخْتِلَافِ أَلْوَانِهِمْ، وَهِيَ حُلَاهُمْ فَجَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ بَلْ أَهْلِ الدُّنْيَا مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، كُلٌّ لَهُ عَيْنَانِ وَحَاجِبَانِ وَأَنْفٌ وَجَبِينٌ وَفَمٌ وَخَدَّانِ وَلَيْسَ يُشْبِهُ وَاحِدٌ مِنْهُمُ الْآخَرَ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُفَارِقَهُ بِشَيْءٍ مِنَ السَّمْتِ أَوِ الْهَيْئَةِ أَوِ الْكَلَامِ، ظَاهِرًا كَانَ أَوْ خَفِيًّا يَظْهَرُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ. كُلُّ وَجْهٍ مِنْهُمْ أُسْلُوبٌ بِذَاتِهِ، وَهَيْئَةٌ لا تشبه أخرى، وَلَوْ تَوَافَقَ جَمَاعَةٌ فِي صِفَةٍ مِنْ جَمَالٍ أَوْ قُبْحٍ، لَا بُدَّ مِنْ فَارِقٍ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَبَيْنَ الْآخَرِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ} أَيْ وَمِنِ الْآيَاتِ مَا جَعَلَ الله مِنْ صِفَةِ النُّوَّمِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِيهِ تَحْصُلُ الرَّاحَةُ، وَسُكُونُ الْحَرَكَةِ، وَذَهَابُ الْكَلَالِ وَالتَّعَبِ، وَجَعَلَ لَكُمْ الِانْتِشَارَ وَالسَّعْيَ فِي الْأَسْبَابِ وَالْأَسْفَارِ فِي النَّهَارِ وَهَذَا ضِدُّ النَّوْمِ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أَيْ يعون، روى الطبراني(2/51)
عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَصَابَنِي أَرَقٌ مِنَ اللَّيْلِ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَقَالَ: "قُلْ: اللَّهُمَّ غَارَتِ النُّجُومُ، وَهَدَأَتِ الْعُيُونُ، وَأَنْتَ حَيٌّ قَيُّومٌ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، أنم عيني، وأهدىء ليلي" فقلتها فذهب عني (أخرجه الطبراني عن زيد بن ثابت) .(2/52)
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
- 24 - وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
- 25 - وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ أَنَّهُ {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} أَيْ تَارَةً تَخَافُونَ مِمَّا يَحْدُثُ بَعْدَهُ مِنْ أمطار مزعجة، وصواعق متلفة، وتارة ترجون وميضه وما يأتي به من المطر المحتاج إليه، ولهذا قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ موتها} أَيْ بَعْدَمَا كَانَتْ هَامِدَةٌ لَا نَبَاتَ فِيهَا وَلَا شَيْءَ، فَلَمَّا جَاءَهَا الْمَاءُ {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وأنبتت من كل زوج بهيج} ، وَفِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ وَدَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى الْمَعَادِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، ثم قال تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} ، كقوله تَعَالَى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بإذنه} ، وقوله: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ} وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا اجتهد في اليمين قال: وَالَّذِي تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ، أَيْ هِيَ قَائِمَةٌ ثَابِتَةٌ بِأَمْرِهِ لَهَا وَتَسْخِيرِهِ إِيَّاهَا، ثُمَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُدِّلَتِ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ، وَخَرَجَتِ الْأَمْوَاتُ مِنْ قُبُورِهَا أَحْيَاءً، بأمره تعالى ودعائه إياهم، ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} أي من الأرض، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إن لبثتنم إلا قليلا} ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} .(2/52)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
- 26 - وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ
- 27 - وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
يَقُولُ تعالى: {وَلَهُ مَن في السموات وَالْأَرْضِ} أَيْ مِلْكُهُ وَعَبِيدُهُ {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} أي خاضعون خاشعون طوعاً وكرهاً، وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه} ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي أَيْسَرُ عَلَيْهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْإِعَادَةُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنَ الْبُدَاءَةِ، وَالْبُدَاءَةُ عَلَيْهِ هينة، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عليَّ مِنْ إِعَادَتِهِ وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ" (أخرجه البخاري وأحمد) ، وَقَالَ آخَرُونَ: كِلَاهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى السواء، وقال الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كلٌّ عَلَيْهِ هيِّن، وقوله: {وَلَهُ المثل الأعلى في السموات(2/52)
والأرض} ، قال ابن عباس: كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وَقَالَ قَتَادَةُ: مَثَلُهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هو ولا رب غيره، قوله: {وَهُوَ العزيز الحكيم} وَهُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ، بَلْ قَدْ غَلَبَ كُلَّ شَيْءٍ، وَقَهَرَ كُلَّ شيء بقدرته وسلطانه {الحكيم} في أقواله وأفعاله، وعن مالك فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.(2/53)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
- 28 - ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
- 29 - بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ، العابدين معه غيره، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُعْتَرِفُونَ أَنَّ شُرَكَاءَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادَ عُبَيْدٌ لَهُ مِلْكٌ لَهُ، كَمَا كانوا يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ،
تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، فَقَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أَيْ تَشْهَدُونَهُ وتفهمونه من أنفسكم {هل لكم مما مملكت أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فيما رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} أي أيرضى أحدكم أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ شَرِيكًا لَهُ فِي مَالِهِ فَهُوَ وَهُوَ فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ؟ {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} أَيْ تَخَافُونَ أَنْ يُقَاسِمُوكُمُ الْأَمْوَالَ، قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: إِنَّ مَمْلُوكَكَ لَا تَخَافُ أَنْ يُقَاسِمَكَ مَالَكَ وَلَيْسَ لَهُ ذَاكَ، كَذَلِكَ اللَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْأَنْدَادَ مِنْ خَلْقِهِ؟ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} فَهُمْ يَأْنَفُونَ مِنَ الْبَنَاتِ، وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ، فَنَسَبُوا إِلَيْهِ مَا لَا يَرْتَضُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ فَهَذَا أَغْلَظُ الْكُفْرِ، وَهَكَذَا فِي هَذَا الْمَقَامِ جَعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ مِنْ عَبِيدِهِ وَخَلْقِهِ، وَأَحَدُهُمْ يَأْبَى غَايَةَ الْإِبَاءِ وَيَأْنَفُ غَايَةَ الْأَنَفَةِ، مِنْ ذَلِكَ إِن يَكُونَ عَبْدُهُ شَرِيكَهُ فِي مَالِهِ يُسَاوِيهِ فِيهِ وَلَوْ شَاءَ لَقَاسَمَهُ عَلَيْهِ، تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً، ولما كان التنبيه بمثل هذا المثل على براءته تعالى ونزاهته عن ذلك بطريق الأَوْلى والأحرى، قال تعالى: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ إِنَّمَا عَبَدُوا غَيْرَهُ سَفَهًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجَهْلًا: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أَيِ الْمُشْرِكُونَ {أَهْوَآءَهُمْ} أَيْ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَنْدَادَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، {فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} أَيْ فَلَا أَحَدَ يَهْدِيهِمْ إِذَا كَتَبَ الله ضلالهم، {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَّاصِرِينَ} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ من قدرة الله منقذ ولا مجير.(2/53)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
- 30 - فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
- 31 - مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
- 32 - مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ
يقول تعالى: فسدِّدْ وجهك واستمر على الدين الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لَكَ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي هَدَاكَ اللَّهُ لَهَا، وَكَمَّلَهَا لَكَ غاية الكمال، ولازم فِطْرَتَكَ السَّلِيمَةَ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ الْخَلْقَ عَلَيْهَا، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته(2/53)
وتوحيد، وأنه لا إله غيره. وقوله تعالى: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ لَا تُبَدِّلُوا خَلْقَ اللَّهِ، فَتُغَيِّرُوا النَّاسَ عَنْ فطرتهم التي فطرهم الَّتِي فَطَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ خَبَرًا بِمَعْنَى الطَّلَبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وهو مَعْنًى حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ خَبَرٌ عَلَى بَابِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى سَاوَى بَيْنَ خلقه كلهم في الفطرة، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا قال ابن عباس {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أَيْ لِدِينِ اللَّهِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ» ثُمَّ يَقُولُ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدين القيم} (أخرجه البخاري عن أبي هريرة ورواه أيضاً مسلم) . وروى الإمام أحمد عن الأسود بن سريع قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وغزوت معه، فأصبت ظفراً. فقاتل الناس يؤمئذ حَتَّى قَتَلُوا الْوِلْدَانَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ جَاوَزَهُمُ الْقَتْلُ الْيَوْمَ حَتَّى قَتَلُوا الذُّرِّيَّةَ» ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا هُمْ أبناء المشركين؟ فقال: "لا إِنَّمَا خِيَارُكُمْ أَبْنَاءُ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ قَالَ: لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً، لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً، وَقَالَ: كُلُّ نَسَمَةٍ تُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهَا لسانها فأبواها يهودانها أو ينصرانها" (أخرجه الإمام أحمد في مسنده والنسائي في كتاب السير) ، وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ فَإِذَا عَبَّرَ عَنْهُ لِسَانُهُ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» (أخرجه أحمد عن جابر بن عبد الله مرفوعاً) .
وروى الإمام أحمد عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: "إِنَّ رَبِّي عزَّ وجلَّ أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي فِي يَوْمِي هَذَا: كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عِبَادِي حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَأَضَلَّتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وأمرتهم أن لا يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابً لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فَقُلْتُ: رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدْعُوهُ خُبْزَةً، قَالَ: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فَسَنُنْفِقُ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثُ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ. قَالَ: وَأَهْلُ الجنة ثلاثة: ذو سلطان مسقط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، ورجل عفيف متعفف ذو عيال. قال: "وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زِبْر (لازِبْر: بكسر الزاي وفتحها: أي لا عقل له) له، الذين هم فيكم تبع لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا، وَالْخَائِنُ الَّذِي لايخفى لَهُ طَمَعٌ - وَإِنْ دَقَّ - إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عن أهلك ومالك"، وذكر البخيل والكذاب والشنْظير (أخرجه أحمد ومعنى الشنظير: السيء الخلق: البذيء اللسان) الفحَّاش. وقوله تعالى: {ذَلِكَ دين الْقَيِّمُ} أَيِ التَّمَسُّكُ بِالشَّرِيعَةِ وَالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ هُوَ الدين القيم الْمُسْتَقِيمُ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أَيْ فَلِهَذَا لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ فَهُمْ عَنْهُ نَاكِبُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله} الآية.(2/54)
وقوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} قال ابن جريح: أَيْ رَاجِعِينَ إِلَيْهِ {وَاتَّقُوهُ} أَيْ خَافُوهُ وَرَاقَبُوهُ {وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ} وَهِيَ الطَّاعَةُ الْعَظِيمَةُ {وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين} أي بل كونوا مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُخْلِصِينَ لَهُ الْعِبَادَةَ لَا يُرِيدُونَ بها سواه، قال ابن جرير: مَرَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمُعَاذِ بْنِ جبل، فقال عمر: مَا قِوَامُ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قَالَ مُعَاذٌ: ثَلَاثٌ وهن الْمُنْجِيَاتِ: الإِخلاص، وَهِيَ الْفِطْرَةُ، فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَالصَّلَاةُ وَهِيَ الْمِلَّةُ، وَالطَّاعَةُ وهي العصمة، فقال عمر صدقت. وقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أَيْ لَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَدْ فَرَّقُوا دِينَهُمْ أَيْ بدلوه وغيروه وآمنوا ببعض وكفروا ببعض؛ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ مِمَّا عَدَا أَهْلَ الإِسلام، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} الآية، فَأَهْلُ الْأَدْيَانِ قَبْلَنَا اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى آراء بَاطِلَةٍ، وَكُلُّ فُرْقَةٍ مِنْهُمْ تَزْعُمُ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَهَذِهِ الْأُمَّةُ أَيْضًا اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى نَحِلٍ كُلُّهَا ضَلَالَةٌ إِلَّا وَاحِدَةً، وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْمُتَمَسِّكُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَحَدِيثِهِ، كَمَا رواه الحاكم في مستدركه أَنَّهُ: سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الفرقة الناجية منهم قَالَ: «مَنْ كَانَ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي» .(2/55)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
- 33 - وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
- 34 - لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
- 35 - أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ
- 36 - وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ
- 37 - أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ النَّاسِ إِنَّهُمْ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ يَدْعُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يشركون بالله ويعبدون معه غيره، وقوله تعالى: {لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ} هِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَلَامُ التَّعْلِيلِ عِنْدَ آخَرِينَ. وَلَكِنَّهَا تَعْلِيلٌ لِتَقْيِيضِ اللَّهِ لَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَاللَّهِ لَوْ تَوَعَّدَنِي حارس لخفت منه، فكيف والمتوعد ههنا هُوَ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ؛ ثُمَّ قال تعالى منكراً على المشركين فيما اختلفوا فيه من عبادة غيره بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً} أَيْ حُجَّةً، {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} أَيْ يَنْطِقُ {بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} ؟ وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ من ذلك، ثم قال تعالى: {وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يقنطون} ، وهذا إِنْكَارٌ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَوَفَّقَهُ، فَإِنَّ الإِنسان إِذَا أصابته نعمة بطر، وإذا أصابته شدة قنط وأيس، قَالَ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أَيْ صَبَرُوا فِي الضَّرَّاءِ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي الرَّخَاءِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ(2/55)
لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} أَيْ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ فَيُوَسِّعُ عَلَى قَوْمٍ وَيُضَيِّقُ عَلَى آخَرِينَ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .(2/56)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
- 38 - فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون
- 39 - وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ
- 40 - اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
يَقُولُ تعالى آمراً بإعطاء {ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} أَيْ مِنَ الْبَرِّ وَالصِّلَةِ، {وَالْمِسْكِينَ} وَهُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ أو له شيء لايقوم بِكِفَايَتِهِ، {وَابْنَ السَّبِيلِ} وَهُوَ الْمُسَافِرُ الْمُحْتَاجُ إِلَى نَفَقَةٍ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي سَفَرِهِ، {ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهُ اللَّهِ} أَيِ النَّظَرُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} أَيْ مَنْ أَعْطَى عَطِيَّةً يُرِيدُ أَنْ يَرُدَّ النَّاسُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَهْدَى لَهُمْ فَهَذَا لَا ثَوَابَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ، بِهَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ومجاهد والضحاك، وَهَذَا الصَّنِيعُ مُبَاحٌ وَإِنْ كَانَ لَا ثَوَابَ فيه، إلاّ أنه قد نهي عنه بقوله تعالى: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} أَيْ لَا تُعْطِ الْعَطَاءَ تُرِيدُ أَكْثَرَ مِنْهُ، قال تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} أَيِ الَّذِينَ يُضَاعِفُ اللَّهُ لَهُمُ الثَّوَابَ وَالْجَزَاءَ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: «وَمَا تَصْدَّقَ أَحَدٌ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ» ، إِلَّا أَخْذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ، حَتَّى تصير التمرة أعظم من أُُحُدٍ"، وقوله عزَّ وجلَّ: {والله الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} أَيْ هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ يُخْرِجُ الإِنسان مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ عُرْيَانًا لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا سَمْعَ وَلَا بَصَرَ وَلَا قُوَى، ثُمَّ يَرْزُقُهُ جَمِيعَ ذَلِكَ بَعْدَ ذلك، والرياش واللباس والمال والأملاك والمكاسب. وقوله تعالى: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} أَيْ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} أي يوم القيامة، وقوله تعالى: {هل من شركائهم} أَيِ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ {مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ} ؟ أَيْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، ثُمَّ يَبْعَثُ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أَيْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، وتنزّه وتعاظم عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ أَوْ نَظِيرٌ، أَوْ وَلَدٌ أَوْ وَالِدٌ، بَلْ هُوَ الْأَحَدُ الفرد الصمد.(2/56)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
- 41 - ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
- 42 - قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ
قال ابن عباس وعكرمة: المراد بالبر ههنا الفيافي، وبالبحر الأمصار والقرى، وفي رواية عنه: الْبَحْرُ الْأَمْصَارُ وَالْقُرَى مَا كَانَ مِنْهَا عَلَى جَانِبِ نَهْرٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ بِالْبَرِّ المعروف، وبالبحر هو البحر المعروف،(2/56)
وعن مُجَاهِدٍ {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} قَالَ: فَسَادُ الْبَرِّ قَتْلُ ابْنِ آدَمَ، وَفَسَادُ الْبَحْرِ أخذ السفينة غصباً، وقال عطاء: الْمُرَادُ بِالْبَرِّ مَا فِيهِ مِنَ الْمَدَائِنِ وَالْقُرَى، وبالبحر جزائره، والقول الأول أظهر وعليه الأكثرون؛ وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} أَيْ بَانَ النقص في الزروع والثمار بِسَبَبِ الْمَعَاصِي، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَنْ عَصَى اللَّهَ فِي الْأَرْضِ فَقَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّ صَلَاحَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِالطَّاعَةِ، وَلِهَذَا جَاءَ في الحديث: «لَحَدٌ يُقَامُ فِي الْأَرْضِ أَحَبُّ إِلَى أَهْلِهَا من أن يمطروا أربعين صباحاً» (أخرجه أبو داود في سننه) . وَالسَّبَبُ فِي هَذَا أَنَّ الْحُدُودَ إِذَا أُقِيمَتْ انكف الناس عن تعاطي المحرمات، وإذا تركت المعاصي كان سبباً في حصول الْبَرَكَاتِ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ وَلِهَذَا إِذَا نَزَلَ عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان، قيل للأرض: أخرجي بركتك، فيأكل من الرمانة الفئام (الفِئَام: الجماعة الكثيرة) مِنَ النَّاسِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقَحْفِهَا، وَيَكْفِي لَبَنُ اللَّقْحة (اللَّقْحة: الحلوب) الْجَمَاعَةَ مِنَ النَّاسِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِبَرَكَةِ تنفيذ شريعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُلَّمَا أُقِيمَ الْعَدْلُ كثرت البركات والخير، ولهذا ثبت في الصحيحين: أن الفاجر إذا مات يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب، وقوله تعالى: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ} الآية، أَيْ يَبْتَلِيهِمْ بِنَقْصِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ اخْتِبَارًا منه لهم وَمُجَازَاةً عَلَى صَنِيعِهِمْ {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أَيْ عَنِ الْمَعَاصِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يرجعون} ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ} أَيْ مِنْ قَبْلِكُمْ، {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ} أَيْ فانظروا ما حَلَّ بِهِمْ مِنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَكُفْرِ النِّعَمِ.(2/57)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
- 43 - فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ
- 44 - مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ
- 45 - لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ فِي طَاعَتِهِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا أَرَادَ كَوْنَهُ فَلَا رَادَّ له، {يؤمئذ يَصَّدَّعُونَ} أي يتفرقون فريق فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {مَن كَفَرَ
فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِّن فَضْلِهِ} أَيْ يُجَازِيهِمْ مُجَازَاةَ الْفَضْلِ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى مَا يَشَاءُ اللَّهُ {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} وَمَعَ هَذَا هُوَ الْعَادِلُ فِيهِمْ الَّذِي لَا يَجُورُ.(2/57)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
- 46 - وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
- 47 - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قومهم فجاؤوهم بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نصر المؤمنين(2/57)
يقول تَعَالَى نِعَمَهُ عَلَى خَلْقِهِ، فِي إِرْسَالِهِ الرِّيَاحَ مبشرات بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، بمجيء الغيث عقبها، ولهذا قال تعالى: {وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ} أي المطر الذي الَّذِي يُنْزِلُهُ فَيُحْيِيَ بِهِ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ، {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ} أَيْ فِي الْبَحْرِ وَإِنَّمَا سَيَّرَهَا بِالرِّيحِ {وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أَيْ فِي التِّجَارَاتِ والمعايش والسير من قطر إِلَى قُطْرٍ، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أَيْ تَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ، مِنَ النِّعَمِ الظاهرة والباطلة الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، ثُمَّ قَالَ تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ} هَذِهِ تسلية من الله تعالى وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّهُ وإن كذبه كثير من قومه، فَقَدْ كُذِّبَتِ الرُّسُلُ الْمُتَقَدِّمُونَ، مَعَ مَا جَاءُوا أممهم من الدلائل الواضحات، ولكن انتقم الله مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ وَخَالَفَهُمْ، وَأَنْجَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ، {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} أي هُوَ حَقٌّ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ تَكَرُّمًا وتفضيلاً،
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} . عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَرُدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَرُدَّ عَنْهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نصر المؤمنين} (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء مرفوعاً) .(2/58)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
- 48 - اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ
- 49 - وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ
- 50 - فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - 51 - وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ
يُبَيِّنُ تَعَالَى كَيْفَ يَخْلُقُ السحاب، الذي ينزل منه الماء، فقال تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} إِمَّا من البحر أَوْ مِمَّا يَشَاءُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَآءُ} أَيْ يَمُدُّهُ فَيُكَثِّرُهُ وينميه، ينشىء سحابة ترى فِي رَأْيِ الْعَيْنِ مِثْلَ التُّرْسِ، ثُمَّ يَبْسُطُهَا حَتَّى تَمْلَأَ أَرْجَاءَ الْأُفُقِ، وَتَارَةً يَأْتِي السَّحَابُ من نحو البحر ثقالاً مملوءة كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ - إلى قوله - كذلك نُخْرِجُ الموتى لعلكم تذكرون} ، وكذلك قال ههنا: {الله الذي يُرْسِلُ الرياح فتثر سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} ، قال مجاهد: يعني قطعاً، وقال مجاهد: يعني قطعاً، وقال الضحاك: متراكماً وَقَالَ غَيْرُهُ: أَسْوَدَ مِنْ كَثْرَةِ الْمَاءِ تَرَاهُ مدلهماً ثقيلاً قريباً من الأرض، وقوله تعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} أَيْ فَتَرَى الْمَطَرَ وَهُوَ الْقَطْرُ، يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ذَلِكَ السَّحَابِ {فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أَيْ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ يفرحون بنزوله عليهم ووصوله إليهم، وقوله تعالى: {وَإِن كَانُواْ مِن قبل أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} مَعْنَى الْكَلَامِ:
أَنَّ هَؤُلَاءِ القوم الذين أصابهم هذا المطر، كانوا قانطين من نزول المطر إليهم، فَلَمَّا جَاءَهُمْ، جَاءَهُمْ عَلَى فَاقَةٍ فَوَقَعَ مِنْهُمْ موقعاً عظيماً، فبعدما كَانَتْ أَرْضُهُمْ مُقَشْعَرَةً هَامِدَةً، أَصْبَحَتْ وَقَدِ اهْتَزَّتْ وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج، ولهذا قال تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} يَعْنِي الْمَطَرَ {كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ}(2/58)
ثُمَّ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَجْسَادِ بَعْدَ موتها وتفرقها وتمزقها، فقال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى} أَيْ إِنَّ الَّذِي فعل ذلك لقادر على إحياء الأموات {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} ، يقول تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً} يَابِسَةً عَلَى الزَّرْعِ الَّذِي زَرَعُوهُ، وَنَبَتَ وَشَبَّ وَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ {فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً} أَيْ قَدِ اصْفَرَّ وَشَرَعَ فِي الْفَسَادِ {لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ} أَيْ بَعْدَ هَذَا الْحَالِ {يَكْفُرُونَ} أَيْ يَجْحَدُونَ مَا تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ مِنَ النعم، كقوله تعالى: {ألإرأيتم ما تحرثون - إلى قوله - بَلْ نحن محرمون} ، قال ابن أبي حاتم عن عبيد اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: الرِّيَاحُ ثَمَانِيَةٌ: أَرْبَعَةٌ منها رحمة، وأربعة منها عذاب، فأما الرحمة: فالناشرات، والمبشرات، والمرسلات، والذرايات، وَأَمَّا الْعَذَابُ: فَالْعَقِيمُ، وَالصَّرْصَرُ - وَهُمَا فِي الْبَرِّ - وَالْعَاصِفُ وَالْقَاصِفُ وَهُمَا فِي الْبَحْرِ، فَإِذَا شَاءَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّكَهُ بِحَرَكَةِ الرَّحْمَةِ، فَجَعَلَهُ رَخَاءً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَلَاقِحًا لِلسَّحَابِ تُلَقِّحُهُ بِحَمْلِهِ الْمَاءَ كَمَا يُلَقِّحُ الذَّكَرُ الْأُنْثَى بِالْحَمْلِ، وَإِنْ شَاءَ حَرَّكَهُ بِحَرَكَةِ الْعَذَابِ، فَجَعَلَهُ عَقِيمًا وَأَوْدَعَهُ عَذَابًا أَلِيمًا وَجَعْلَهُ نِقْمَةً عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَيَجْعَلُهُ صَرْصَرًا وَعَاتِيًا وَمُفْسِدًا لِمَا يَمُرُّ عَلَيْهِ؛ وَالرِّيَاحُ مُخْتَلِفَةٌ فِي مَهَابِّهَا، صبَا ودَبُور وجَنوب وشَمال، وَفِي مَنْفَعَتِهَا وَتَأْثِيرِهَا أَعْظَمَ اخْتِلَافِ، فَرِيحٌ لَيِّنَةٌ رَطْبَةٌ تُغَذِّي النَّبَاتَ وَأَبْدَانَ الْحَيَوَانِ، وَأُخْرَى تُجَفِّفُهُ، وَأُخْرَى تُهْلِكُهُ وَتُعْطِبُهُ، وَأُخْرَى تُسَيِّرُهُ وَتَصْلُبُهُ، وَأُخْرَى تُوهِنُهُ وَتُضْعِفُهُ (أخرجه ابن أبي حاتم عن عبيد بن عمرو موقوفاً) .(2/59)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
- 52 - فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدعآء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ
- 53 - وَمَآ أَنتَ بهاد الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: كَمَا أَنَّكَ لَيْسَ فِي قُدْرَتِكَ أَنْ تُسْمِعَ الْأَمْوَاتَ فِي أَجْدَاثِهَا، وَلَا تُبْلِغَ كَلَامَكَ الصُّمَّ الَّذِينَ لا يسمعون، كَذَلِكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَةِ الْعُمْيَانِ عَنِ الْحَقِّ وَرَدِّهِمْ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ، بَلْ ذَلِكَ إِلَى الله فإنه تعالى بقدرته يسمع الأموات إِذَا شَاءَ، وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} أَيْ خَاضِعُونَ مُسْتَجِيبُونَ مُطِيعُونَ، فَأُولَئِكَ هُمُ الذين يسمعون الحق ويتبعونه، وهذا حال المؤمينين، وَالْأَوَّلُ مَثَلُ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} ، وقد تواترت الآثار (أورد ابن كثير عن ابن أبي الدنيا آثاراً كثيرة عن السلف الصالح تدل على اجتماع أرواح الموتى واستبشارهم بزيارة أخوانهم وأقربائهم لهم وأنهم يحسون ويشعرون بذلك ويأنسون بزيارة الأحياء، وقد ضربنا صفحاً عنها خشية الإطالة) بِأَنَّ الْمَيِّتَ يَعْرِفُ بِزِيَارَةِ الْحَيِّ لَهُ وَيَسْتَبْشِرُ؛ فروى ابن أبي الدنيا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما مِنْ رَجُلٍ يَزُورُ قَبْرَ أَخِيهِ وَيَجْلِسُ عِنْدَهُ إِلَّا اسْتَأْنَسَ بِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُومَ» ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «إذا مر الرجل بِقَبْرٍ يَعْرِفُهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» وَقَدْ شُرِعَ السَّلَامُ عَلَى الْمَوْتَى، وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْعُرْ وَلَا يَعْلَمُ بالمسلَّم مُحَالٌ، وقد علّم النبي صلى اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ إِذَا رَأَوُا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ، فَهَذَا السَّلَامُ وَالْخِطَابُ وَالنِّدَاءُ لِمَوْجُودٍ يَسْمَعُ وَيُخَاطِبُ وَيَعْقِلُ وَيَرُدُّ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعِ المسلِّم الرَّدَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(2/59)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
- 54 - اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ
يُنَبِّهُ تَعَالَى عَلَى تَنَقُّلِ الإِنسان فِي أَطْوَارِ الْخَلْقِ، حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فَأَصْلُهُ مِن تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ، ثُمَّ يَصِيرُ عظاماً، ثم تكسى العظام لَحْمًا، وَيُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ ضَعِيفًا نَحِيفًا وَاهِنَ الْقُوَى، ثُمَّ يَشِبُّ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَكُونَ صَغِيرًا، ثُمَّ حَدَثًا، ثُمَّ مُرَاهِقًا، ثُمَّ شَابًّا وَهُوَ - الْقُوَّةُ بَعْدَ الضَّعْفِ - ثُمَّ يَشْرَعُ فِي النَّقْصِ فَيَكْتَهِلُ، ثُمَّ يَشِيخُ ثُمَّ يَهْرَمُ وَهُوَ - الضَّعْفُ بَعْدَ الْقُوَّةِ - فَتَضْعُفُ الْهِمَّةُ وَالْحَرَكَةُ وَالْبَطْشُ، وَتَشِيبُ اللُّمَّةُ وَتَتَغَيَّرُ الصِّفَاتُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} أَيْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَتَصَرَّفُ فِي عَبِيدِهِ بِمَا يُرِيدُ {وَهُوَ الْعَلِيمُ القدير} .(2/60)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
- 55 - وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ
- 56 - وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ
- 57 - فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ جَهْلِ الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَفِي الدُّنْيَا فَعَلُوا مَا فَعَلُوا مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَفِي الْآخِرَةِ يَكُونُ مِنْهُمْ جَهْلٌ عَظِيمٌ أَيْضًا، فَمِنْهُ: إِقْسَامُهُمْ بِاللَّهِ أَنَّهُمْ مَا لَبِثُوا غير ساعة واحدة في الدنيا، ومقصودهم بِذَلِكَ عَدَمُ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُنْظَرُوا حَتَّى يُعْذَرَ إِلَيْهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الذين أُوتُواْ العالم وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} أَيْ فَيَرُدُّ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُونَ الْعُلَمَاءُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا أَقَامُوا عَلَيْهِمْ حُجَّةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولُونَ لَهُمْ حِينَ يَحْلِفُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أَيْ فِي كِتَابِ الْأَعْمَالِ {إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} أَيْ مِنْ يَوْمِ خُلِقْتُمْ إِلَى أَنْ بُعِثْتُمْ، {وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَيَوْمَئِذٍ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لاَّ ينفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ} أي اعْتِذَارُهُمْ عَمَّا فَعَلُوا، {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أَيْ وَلَا هُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ} .(2/60)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
- 58 - وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ
- 59 - كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
- 60 - فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} أَيْ قَدْ بَيَّنَّا لَهُمُ الْحَقَّ وَوَضَّحْنَاهُ لَهُمْ، وَضَرَبْنَا(2/60)
لهم فيه الأمثال ليستبينوا الحق بغيره وَيَتَّبِعُوهُ، {وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ} أَيْ لَوْ رَأَوْا أَيَّ آيَةٍ كَانَتْ، سَوَاءً كَانَتْ بِاقْتِرَاحِهِمْ أَوْ غَيْرِهِ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا سِحْرٌ وَبَاطِلٌ، كَمَا قَالُوا فِي انْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَنَحْوِهِ، ولهذا قال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أَيِ اصْبِرْ عَلَى مُخَالَفَتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْجِزٌ لَكَ مَا وَعَدَكَ، مِنْ نَصْرِهِ إِيَّاكَ عليهم، وَجَعْلِهِ الْعَاقِبَةَ لَكَ وَلِمَنِ اتَّبَعَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ} أَيْ بَلِ اثْبُتْ عَلَى مَا بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ، فإنه الحق الذي لا مرية فِيهِ، قال ابن أبي حاتم عن أبي يحيى: صلى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَاةَ الْفَجْرِ فَنَادَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فَأَجَابَهُ علي رضي الله عنه وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يوقنون} (أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير) .(2/61)
- 31 - سورة لقمان(2/62)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
- 1 - الم
- 2 - تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ
- 3 - هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ
- 4 - الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
- 5 - أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَامَّةُ الكلام على ما يتعلق بصدر هذه الآية، وهو أنه سبحانه وتعالى جَعَلَ هَذَا الْقُرْآنَ هُدًى وَشِفَاءً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَحْسَنُوا الْعَمَلَ فِي اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ، فَأَقَامُوا الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ بِحُدُودِهَا وَأَوْقَاتِهَا، وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ نَوَافِلَ رَاتِبَةٍ وَغَيْرِ رَاتِبَةٍ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ المفروضة عليهم إلى مستحقيها، ووصلوا أرحامهم وقراباتهم، وَأَيْقَنُوا بِالْجَزَاءِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَرَغِبُوا إِلَى الله في ثواب ذلك، لم يراؤوا وَلَا أَرَادُوا جَزَاءً مِنَ النَّاسِ وَلَا شَكُورًا، فمن ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} أَيْ عَلَى بصيرة وبينة ومنهج واضح جلي {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.(2/62)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
- 6 - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ
لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ
- 7 - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
لَمَّا ذَكَّرَ تَعَالَى حَالَ السُّعَدَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ بكتاب الله وينتفعون بسماعة، عَطَفَ بِذِكْرِ حَالِ الْأَشْقِيَاءِ، الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الِانْتِفَاعِ بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ، وَأَقْبَلُوا عَلَى اسْتِمَاعِ المزامير والغناء، بالألحان وآلات الطرب (قال السيوطي: أخرج ابن جويبر: نزلت في النضر بن الحارث، اشترى قينة، وكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، يقول: أطعميه واسقيه وغنيه، هذا خير مما يدعوك إليه محمد، وقيل: إن النضر هذا كان من بني عبد الدار،
وكان قد تعلم أخبار فارس في الجاهلية) . روى ابن جرير عَنْ أَبِي الصَّهْبَاءِ الْبَكْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الآية: {ومن الناس من يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود: الْغِنَاءُ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، يردها ثلاث(2/62)
مرات، وقال الحسن البصري: نزلت هذه الآية {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} في الغناء والمزامير، وقيل: أراد بِقَوْلِهِ: {يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} اشْتِرَاءَ الْمُغَنِّيَاتِ مِنَ الجواري، قال ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " لَا يَحُلُّ بَيْعُ الْمُغَنِّيَاتِ، ولا شراؤهن، وأكل أثمانهم حَرَامٌ، وَفِيهِنَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عليَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سبيل الله} (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الترمذي وابن جرير) ، قال الضحّاك: {لَهْوَ الحديث} يعني الشرك، وبه قال ابن أَسْلَمَ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ كُلُّ كَلَامٍ يَصُدُّ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ سَبِيلِهِ، وَقَوْلُهُ: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ إِنَّمَا يَصْنَعُ هذا للتخالف للإسلام وأهله، وقوله تعالى: {وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} قَالَ مُجَاهِدٌ: وَيَتَّخِذُ سَبِيلَ اللَّهِ هُزُوًا يَسْتَهْزِئُ بِهَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي وَيَتَّخِذُ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً، وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ أَوْلَى. وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أَيْ كَمَا اسْتَهَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَسَبِيلِهِ، أُهِينُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعَذَابِ الدَّائِمِ الْمُسْتَمِرِّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} أَيْ هَذَا الْمُقْبِلُ عَلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالطَّرَبِ، إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ، وَلَّى عَنْهَا وَأَعْرَضَ وَأَدْبَرَ، وتصامم وما به من صمم: كأنه ما سمعها لأنه يتأذى بسماعها، إذ لاانتفاع لَهُ بِهَا وَلَا أَرَبَ لَهُ فِيهَا، {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُؤْلِمُهُ كَمَا تَأَلَّمَ بِسَمَاعِ كِتَابِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ.(2/63)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
- 8 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم جَنَّاتُ النَّعِيمِ
- 9 - خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
هَذَا ذِكْرُ مَآلِ الْأَبْرَارِ، مِنَ السُّعَدَاءِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وصدقوا المرسلين، وعملوا الأعمال الصالحة التابعة لِشَرِيعَةِ اللَّهِ {لَهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أَيْ يَتَنَعَّمُونَ فيها بأنواع الملاذ، مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمُشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ، وَالْمَرَاكِبِ، وَالنِّسَاءِ، وَالنَّضْرَةِ، وَالسَّمَاعِ، الَّذِي لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ أَحَدٍ، وهم في ذلك مقيمون دائماً لَا يَظْعَنُونَ وَلَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَعَدَ اللَّهِ حَقّاً} أَيْ هَذَا كَائِنٌ لَا محالة، لأنه وَعْدِ اللَّهِ، وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ لِأَنَّهُ الْكَرِيمُ الْمَنَّانُ، الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ، الْقَادِرُ عَلَى كل شيء، {وهو العزيز} الَّذِي قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وَدَانَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، {الْحَكِيمُ} فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ الَّذِي جَعَلَ الْقُرْآنَ هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ} .(2/63)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
- 10 - خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ
- 11 - هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
يُبَيِّنُ سُبْحَانَهُ بِهَذَا قُدْرَتَهُ الْعَظِيمَةَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض، وما فيهما وما بينهما، فقال تعالى: {خلق السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ} قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَيْسَ لَهَا عمد، وقال ابن عباس: لَهَا عُمُدٌ لَا تَرَوْنَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هذه المسألة في أول سورة الرعد، {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} يَعْنِي الْجِبَالُ أَرْسَتِ الْأَرْضَ وَثَقَّلَتْهَا لِئَلَّا تَضْطَرِبُ بِأَهْلِهَا عَلَى وَجْهِ الماء، ولهذا قال: {إِنْ تَمِيدَ بِكُمْ} أي لئلا تميد بكم، وقوله تعالى: {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ}(2/63)
أَيْ وَذَرَأَ فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الْحَيَوَانَاتِ مِمَّا لَا يَعْلَمُ عَدَدَ أَشْكَالِهَا وَأَلْوَانِهَا إِلَّا الَّذِي خلقها، ولما قرر سبحانه أنه الخالق نبه على أنه الرزاق، بقوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مآء فأنبتنا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} أَيْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ مِنَ النَّبَاتِ {كَرِيمٍ} أَيْ حَسَنِ الْمَنْظَرِ، وقال الشعبي: من دَخَلَ الْجَنَّةَ فَهُوَ كَرِيمٌ وَمَنْ دَخَلَ النَّارَ فهو لئيم، وقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ تَعَالَى مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا صَادِرٌ عَنْ فِعْلِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ وَتَقْدِيرِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} أَيْ مِمَّا تَعْبُدُونَ وَتَدْعُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، {بَلِ الظَّالِمُونَ} يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْعَابِدِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ {فِي ضَلاَلٍ} أَيْ جَهْلٍ وَعَمًى {مُّبِينٍ} أَيْ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ.(2/64)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
- 12 - وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي لقمان: هل كان نبياً أو عبداً صالحاً؟ على قولين: الأكثرون على الثاني، قال ابن عباس: كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً، وقال سعيد بن المسيب: كَانَ لُقْمَانُ مِنْ سُودَانِ مِصْرَ ذَا مَشَافِرَ، أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة، وقال ابن جرير عَنْ خَالِدٍ الرَّبْعِيِّ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا حَبَشِيًّا نَجَّارًا، فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: اذْبَحْ لَنَا هذه الشاة فذبحها، قال أَخْرِجْ أَطْيَبَ مُضْغَتَيْنِ فِيهَا، فَأَخْرَجَ اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ، ثم مكث مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ اذْبَحْ لَنَا هَذِهِ الشَّاةَ فَذَبَحَهَا فَقَالَ: أَخْرِجْ أَخْبَثَ مُضْغَتَيْنِ فِيهَا فَأَخْرَجَ اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ، فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: أَمَرْتُكَ أَنْ تُخْرِجَ أَطْيَبَ مُضْغَتَيْنِ فِيهَا فَأَخْرَجْتَهُمَا، وَأَمَرْتُكَ أَنْ تُخْرِجَ أَخْبَثَ مُضْغَتَيْنِ فِيهَا فَأَخْرَجْتَهُمَا: فَقَالَ لُقْمَانُ؛ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ
أَطْيَبَ مِنْهُمَا إِذَا طَابَا وَلَا أَخْبَثَ مِنْهُمَا إِذَا خبثا، وقال مُجَاهِدٍ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا صَالِحًا وَلَمْ يَكُنْ نبياً، غَلِيظَ الشَّفَتَيْنِ مُصَفَّحَ الْقَدَمَيْنِ قَاضِيًا عَلَى بَنِي إسرائيل. وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} أَيِ الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ وَالتَّعْبِيرَ، {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} أَيْ أَمَرْنَاهُ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ عَلَى مَا أَتَاهُ اللَّهُ وَمَنَحَهُ وَوَهَبَهُ مِنَ الْفَضْلِ الَّذِي خصصه بِهِ عَمَّنْ سِوَاهُ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ وَأَهْلِ زَمَانِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أَيْ إِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ ذَلِكَ وَثَوَابُهُ عَلَى الشَّاكِرِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يمهدون} ، وَقَوْلُهُ: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أَيْ غَنِيٌّ عَنِ الْعِبَادِ لَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ وَلَوْ كَفَرَ أَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً، فَإِنَّهُ الغني عما سِوَاهُ؛ فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إلا إياه.(2/64)
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
- 13 - وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
- 14 - وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ
- 15 - وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مخبراً عن وصية لقمان لولده، وقد ذكره الله تعالى بأحسن الذكر، وَهُوَ يُوصِي وَلَدَهُ الَّذِي هُوَ أُشْفِقُ النَّاسِ عَلَيْهِ وَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ، فَهُوَ حَقِيقٌ أَنْ يَمْنَحَهُ أَفْضَلَ مَا يُعْرَفُ، وَلِهَذَا أَوْصَاهُ أَوَّلًا بِأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا(2/64)
يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ مُحَذِّرًا لَهُ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} أَيْ هُوَ أَعْظَمُ الظلم. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنه ليس بذلك، أَلَا تَسْمَعَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ {يَا بنيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود) ، ثُمَّ قَرَنَ بِوَصِيَّتِهِ إِيَّاهُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، الْبَرَّ بِالْوَالِدَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إحساناً} وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ تَعَالَى بَيْنَ ذَلِكَ فِي القرآن؛ وقال ههنا: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} ، قَالَ مُجَاهِدٌ: مَشَقَّةُ وَهْنِ الْوَلَدِ؛ وَقَالَ قَتَادَةُ: جُهْدًا عَلَى جُهْدٍ؛ وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ، وَقَوْلُهُ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} أَيْ تَرْبِيَتُهُ وَإِرْضَاعُهُ بَعْدَ وَضْعِهِ فِي عَامَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} ألآية، ومن ههنا استنبط ابن عباس وغيره من اللأئمة أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، لِأَنَّهُ قال فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ تَعَالَى تَرْبِيَةَ الْوَالِدَةِ، وَتَعَبَهَا وَمَشَقَّتَهَا فِي سَهَرِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، لِيُذَكِّرَ الْوَلَدَ بِإِحْسَانِهَا الْمُتَقَدِّمِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ ارحمهما كَمَا
رَبَّيَانِي صغيراً} ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إليَّ الْمَصِيرُ} أَيْ فَإِنِّي سَأَجْزِيكَ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ جزاء. عن شعيب بْنِ وَهْبٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَكَانَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تُطِيعُونِي لَا آلُوكُمْ خيراً، وإن المصير إِلَى اللَّهِ إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ، إقامة فلا ظعن، وخلود فلا موت (أخرجه ابن أبي حاتم، وهذا القول من كلام معاذ بن جبل رضي الله عنه) .
وقوله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تطعمها} أَيْ إِنْ حَرَصَا عَلَيْكَ كُلَّ الْحِرْصِ، عَلَى أَنْ تُتَابِعَهُمَا عَلَى دِينِهِمَا فَلَا تَقْبَلْ مِنْهُمَا ذلك، ولا يمنعك ذلك أَنْ تُصَاحِبَهُمَا فِي الدُّنْيَا {مَعْرُوفاً} أَيْ مُحْسِنًا إِلَيْهِمَا، {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ، {ثُمَّ
إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، روى الطبراني عن داود بن أبي هند أن سعد بن مالك (سعد بن مالك هو سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه) قَالَ: أُنْزِلَتْ فِيَّ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ به علم فلا تطعهمآ} الآية، قال: كُنْتُ رَجُلًا بَرًّا بِأُمِّي، فَلَمَّا أَسْلَمْتُ قَالَتْ: يَا سَعْدُ مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكَ قَدْ أَحْدَثْتَ؟ لتدعنَّ دِينَكَ هَذَا أَوْ لَا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ حَتَّى أَمُوتَ، فَتُعَيَّرُ بِي، فَيُقَالُ: يَا قَاتِلَ أُمِّهِ، فَقُلْتُ: لَا تَفْعَلِي يَا أُمَّهْ، فَإِنِّي لَا أَدْعُ
دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ؛ فَمَكَثَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً لَمْ تَأْكُلْ فَأَصْبَحَتْ قَدْ جهدت، فمكثت يوماً آخر وَلَيْلَةً لَمْ تَأْكُلْ، فَأَصْبَحَتْ قَدْ جَهِدَتْ، فَمَكَثَتْ يوماً وَلَيْلَةً أُخْرَى لَا تَأْكُلْ، فَأَصْبَحَتْ قَدِ اشْتَدَّ جُهْدُهَا، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قُلْتُ يَا أُمَّهْ تَعْلَمِينَ وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ لَكِ مِائَةُ نَفْسٍ فَخَرَجَتْ نَفساً نَفْساً مَا تَرَكْتُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ؛ فَإِنْ شِئْتِ فَكُلِي وَإِنْ شِئْتِ لَا تأكلي، فأكلت.(2/65)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
- 16 - يَا بُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
- 17 - يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ(2/65)
عَزْمِ الْأُمُورِ
- 18 - وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
- 19 - وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحمير
هذه وصايا نافعة حكاها الله سبحانه عَنْ (لُقْمَانَ الْحَكِيمِ) لِيَمْتَثِلَهَا النَّاسُ وَيَقْتَدُوا بِهَا، فَقَالَ: {يَا
بُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} أَيْ إِنَّ الْمَظْلَمَةَ أَوِ الخطيئة لو كانت مثقال حبة خردل، وكانت مخفية فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} أَيْ أَحْضَرَهَا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ، وَجَازَى عَلَيْهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} الآية، وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الذَّرَّةُ مُحَصَّنَةً مُحَجَّبَةً فِي داخل صخرة صماء، أو ذاهبة في أرجاء السماوات والأرض، فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِهَا لِأَنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} أَيْ لِطَيْفُ الْعَلَمِ فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ الْأَشْيَاءُ، وَإِنْ دَقَّتْ وَلَطُفَتْ وَتَضَاءَلَتْ، {خَبِيرٌ} بِدَبِيبِ النَّمْلِ فِي اللَّيْلِ الْبَهِيمِ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} أَنَّهَا صَخْرَةٌ تَحْتَ الْأَرْضِينَ السَّبْعِ، وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ فِي حَقَارَتِهَا لَوْ كَانَتْ دَاخِلَ صَخْرَةٍ فإن الله سيبديها ويظهرها بلطيف عمله، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ، لَخَرَجَ عَمَلُهُ للناس كائناً ما كان" (أخرجه أحمد عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً) ، ثُمَّ قَالَ: {يَا بنيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} أَيْ بِحُدُودِهَا وَفُرُوضِهَا وَأَوْقَاتِهَا، {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} أَيْ بِحَسَبِ طَاقَتِكِ وَجُهْدِكَ، {وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ} لأن الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَا بُدَّ أَنْ يَنَالَهُ مِنَ النَّاسِ أَذًى فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} أَيْ إِنَّ الصَّبْرَ عَلَى أَذَى النَّاسِ لَمِنْ عَزْمِ الأمور.
وقوله تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} يَقُولُ: لَا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ عَنِ النَّاسِ إِذَا كَلَّمْتَهُمْ أَوْ كَلَّمُوكَ، احْتِقَارًا مِنْكَ لَهُمْ وَاسْتِكْبَارًا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أََلِنْ جَانِبَكَ وَابْسُطْ وَجْهَكَ إِلَيْهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ» ، قال ابن عباس يقول: لا تتكبر فتحتقر عِبَادَ اللَّهِ وَتُعْرِضَ عَنْهُمْ بِوَجْهِكَ إِذَا كَلَّمُوكَ، وقال زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} : لا تتكلم وأنت معرض، وقال إبراهيم النخعي: يعني بذلك التشدق في الكلام، والصواب القول الأول، قال الشاعر (هو عمرو بن حيي التَّغْلَبِيِّ) :
وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صعَّر خَدَّهُ * أَقَمْنَا له من ميله فتقوما
وقوله تعالى: رولا تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً} أي خيلاء مُتَكَبِّرًا جَبَّارًا عَنِيدًا، لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ يُبْغِضُكَ اللَّهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أَيْ مُخْتَالٍ مُعْجَبٍ فِي نَفْسِهِ {فَخُورٍ} أَيْ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} . عَنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ قَالَ: ذُكِرَ الْكِبْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَدَّدَ فِيهِ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ» فَقَالَ رَجُلٌ(2/66)
مِنَ الْقَوْمِ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لِأَغْسِلُ ثِيَابِي فَيُعْجِبُنِي بَيَاضُهَا وَيُعْجِبُنِي شِرَاكُ نَعْلِي وعلاَّقة سَوْطِي، فَقَالَ: «لَيْسَ ذَلِكَ الْكِبْرُ، إِنَّمَا الكبر أن تسفه الحق، وتغمط الناس» (أخرجه الطبراني عن ثابت بن قيس وفيه قصة طويلة) ، وقوله: {واقصد فِي مَشْيِكَ} أي امش مقتصداً مشياً لَيْسَ بِالْبَطِيءِ الْمُتَثَبِّطِ، وَلَا بِالسَّرِيعِ الْمُفْرِطِ بَلْ عَدْلًا وَسَطًا بَيْنَ بَيْنَ وَقَوْلُهُ: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} أَيْ لَا تُبَالِغْ فِي الْكَلَامِ وَلَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلِهَذَا قال: {إن أنكر الأصولت لَصَوْتُ الحمير} قال مجاهد: إِنَّ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ، أَيْ غَايَةُ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ أَنَّهُ يُشَبَّهُ بِالْحَمِيرِ فِي عُلُوِّهِ وَرَفْعِهِ، وَمَعَ هَذَا هُوَ بَغِيضٌ إِلَى الله تعالى، وهذا التشبيه بِالْحَمِيرِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ وَذَمَّهُ غَايَةَ الذَّمِّ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه» ، وروى النسائي عند تفسير هذه الآية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحَمِيرِ فَتَعَوَّذُوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطاناً» (أخرجه النسائي وبقية الجماعة سوى ابن ماجة) . فَهَذِهِ وَصَايَا نَافِعَةٌ جِدًّا، وَهِيَ مِنْ قَصَصِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ، وَقَدْ رُوِيَ عنه من الحكم والمواعظ أشياء كثيرة.(2/67)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
- 20 - أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلاَ كِتَابٍ منير
- 21 - وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ
يقول تعالى منبهاً خلقه عاى نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِأَنَّهُ سَخَّرَ لَهُمْ مَّا فِي السموات، مِنْ نُجُومٍ يَسْتَضِيئُونَ بِهَا فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ، وما يخلق فيها من سحاب وأمطار، وما خلق لهم في الأرض من أنهار وَأَشْجَارٍ وَزُرُوعٍ وَثِمَارٍ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ الظَّاهِرَةَ والباطنة، ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ مَا آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ أي في توحيده وإرساله الرُّسُلِ، وَمُجَادَلَتِهِ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا مُسْتَنَدٍ، مِنْ حُجَّةٍ صَحِيحَةٍ وَلَا كِتَابٍ مَأْثُورٍ صَحِيحٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} أَيْ مُبِينٍ مُضِيءٍ {وَإِذَا قِيلَ لهم} أي هؤلاء الْمُجَادِلِينَ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ {اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} أَيْ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ الشَّرَائِعِ الْمُطَهَّرَةِ، {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ إِلَّا اتِّبَاعَ الآباء الأقدمين، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} أَيْ فَمَا ظَنُّكُمْ أَيُّهَا الْمُحْتَجُّونَ بِصَنِيعِ آبَائِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ضَلَالَةٍ وَأَنْتُمْ خَلَفٌ لَهُمْ فيما كانوا فيه، ولهذا قال تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} .(2/67)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
- 22 - وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمور
- 23 - وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
- 24 - نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [ص:68]
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أَيْ أَخْلَصَ لَهُ الْعَمَلَ، وَانْقَادَ لِأَمْرِهِ وَاتَّبَعَ شَرْعَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أَيْ فِي عَمَلِهِ بِاتِّبَاعِ مَا بِهِ أُمِرَ، وَتَرْكِ مَا عَنْهُ زُجِرَ {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} أَيْ فَقَدْ أَخَذَ مُوَثِقًا مِنَ اللَّهِ مَتِينًا أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُ، {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ * وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} أَيْ لَا تحزن عليهم يا محمد فِي كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَإِنَّ قَدَرَ اللَّهِ نَافِذٌ فِيهِمْ، وَإِلَى اللَّهِ مَرْجِعُهُمْ {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} أَيْ فَيَجْزِيهِمْ عَلَيْهِ، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خافية، ثم قال تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً} أَيْ فِي الدُّنْيَا، {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ} أَيْ نُلْجِئُهُمْ {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} أَيْ فَظِيعٍ صعب شاق على النفوس، كما قال تَعَالَى: {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} .(2/67)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
- 25 - وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
- 26 - لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَن اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عن هؤلاء المشركين، إِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَمَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ شُرَكَاءَ يَعْتَرِفُونَ أَنَّهَا خَلْقٌ لَهُ وَمِلْكٌ له، ولهذا قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} أَيْ إِذْ قَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةُ بِاعْتِرَافِكُمْ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ، ثم قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السموات والأرض} أي هي خَلْقُهُ وَمُلْكُهُ، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أَيِ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، {الْحَمِيدُ} فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَ لَهُ الحمد في السماوات والأرض، وَهُوَ الْمَحْمُودُ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا.(2/68)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
- 27 - وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
- 28 - مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَجَلَالِهِ وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَا، وَكَلِمَاتِهِ التَّامَّةِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا أَحَدٌ، وَلَا اطِّلَاعَ لِبِشْرٍ عَلَى كُنْهِهَا وَإِحْصَائِهَا، كما قال سيد البشر: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ على نفسك» ، فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبحر ما نفذت كَلِمَاتُ اللَّهِ} أَيْ وَلَوْ أَنَّ جَمِيعَ أَشْجَارِ الأرض جعلت أقلاماً، وجعل البحر مداداً وأمده سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} أَيْ وَلَوْ أَنَّ جَمِيعَ أَشْجَارِ الْأَرْضِ جُعِلَتْ أَقْلَامًا، وجعل البحر مداداً وأمده سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَعَهُ، فَكُتِبَتْ بِهَا كَلِمَاتُ اللَّهِ الدَّالَّةُ عَلَى عَظْمَتِهِ وَصِفَاتِهِ وَجَلَالِهِ، لَتَكَسَّرَتِ الْأَقْلَامُ ونفذ مَاءُ الْبَحْرِ وَلَوْ جَاءَ أَمْثَالُهَا مَدَدًا، وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ السَّبْعَةُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ وَلَمْ يُرِدِ الحصر، فقد قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قُل لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {بِمِثْلِهِ} آخَرَ فَقَطْ، بَلْ بِمِثْلِهِ ثُمَّ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ بِمِثْلِهِ ثُمَّ هَلُمَّ جَرًّا، لِأَنَّهُ لَا حَصْرَ لِآيَاتِ اللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ، قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَوْ جُعِلَ شَجَرُ الْأَرْضِ أَقْلَامًا وَجُعِلَ الْبَحْرُ مِدَادًا، وَقَالَ اللَّهُ: إِنَّ مِنْ أمري كذا لنفذ ماء البحر وتكسرت الأقلام، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: إِنَّ مَثَلَ عِلْمِ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَقَطْرَةٍ مِنْ مَاءِ الْبُحُورِ كُلِّهَا، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ: {ولو أن ما في الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} الآية، وقوله تَعَالَى: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أَيْ مَا خَلْقُ جَمِيعِ النَّاسِ، وَبَعْثُهُمْ يَوْمَ الْمَعَادِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِهِ، إِلَّا كَنِسْبَةِ خلق نفس واحدة،(2/68)
الجميع هيّن عليه، {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ له كن فيكون} ، {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر} أَيْ لَا يَأْمُرُ بِالشَّيْءِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَكَرُّرِهِ وتوكيده، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أَيْ كَمَا هُوَ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِهِمْ بَصِيرٌ بِأَفْعَالِهِمْ، كَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، كَذَلِكَ قُدْرَتُهُ عَلَيْهِمْ كقدرته على نفس واحدة، ولهذا قال تَعَالَى: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} الآية.(2/69)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
- 29 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
- 30 - ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ
يُخْبِرُ تعالى أنه {يُولِجُ الليل فِي النهار} يعني يَأْخُذُ مِنْهُ فِي النَّهَارِ فَيَطُولُ ذَلِكَ وَيَقْصُرُ هَذَا، وَهَذَا يَكُونُ زَمَنَ الصَّيْفِ يَطُولُ النَّهَارُ إلى الغاية، ثم يشرع فِي النَّقْصِ فَيَطُولُ اللَّيْلُ وَيَقْصُرُ النَّهَارُ وَهَذَا يكون في الشِّتَاءِ {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} قِيلَ إِلَى غَايَةٍ مَحْدُودَةٍ، وَقِيلَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكِلَا الْمَعْنِيِّينَ صَحِيحٌ وَيُسْتَشْهِدُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ؟» قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ؟ قَالَ: «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ فَتَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ ثُمَّ تَسْتَأْذِنُ رَبَّهَا فَيُوشِكُ أَنْ يُقَالَ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ» (أخرجه الشيخان عن أبي ذر الغفاري مرفوعاً) ، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الشَّمْسُ بِمَنْزِلَةِ السَّاقِيَةِ تَجْرِي بِالنَّهَارِ فِي السَّمَاءِ فِي فَلَكِهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ جَرَتْ بِاللَّيْلِ فِي فَلَكِهَا، تَحْتَ الْأَرْضِ حَتَّى تَطْلُعَ مِنْ مَشْرِقِهَا، قَالَ: وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفاً) ، وقوله: {وإن الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} المعنى أنه تعالى الخالق العالم بجميع الأشياء، وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ} أَيْ إِنَّمَا يُظْهِرُ لَكُمْ آيَاتِهِ لِتَسْتَدِلُّوا بِهَا عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ أي الإله الحق، وأن كل مل سِوَاهُ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ وَكُلُّ شيء فقير إليه، الْجَمِيعُ خَلْقُهُ وَعَبِيدُهُ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى تَحْرِيكِ ذَرَّةٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَوِ اجْتَمَعَ كُلُّ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى أَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا لعجزوا عن ذلك، ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} أَيِ الْعَلِيُّ الَّذِي لَا أَعْلَى مِنْهُ، الْكَبِيرُ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شيء، فالكل خَاضِعٌ حَقِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ.(2/69)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
- 31 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
- 32 - وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كفور
يقول تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ، لِتَجْرِيَ فِيهِ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ، أَيْ بِلُطْفِهِ وَتَسْخِيرِهِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا مَا جَعَلَ فِي الْمَاءِ مِنْ قُوَّةٍ يَحْمِلُ بِهَا السُّفُنَ لَمَا جَرَتْ، وَلِهَذَا قَالَ: {لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ} أَيْ مِنْ قُدْرَتِهِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ(2/69)
لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أَيْ صَبَّارٌ فِي الضَّرَّاءِ، شكور في الرخاء، ثم قال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ} أَيْ كَالْجِبَالِ وَالْغَمَامِ {دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إياه} ، وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك} الآية، ثم قال تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ متقصد} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ كَافِرٌ، كَأَنَّهُ فَسَرَّ الْمُقْتَصِدَ ههنا بالجاهد، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يشركون} ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ، هُوَ الْمُتَوَسِّطُ فِي الْعَمَلِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ هُوَ الْمُرَادُ في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} الآية، فالمقتصد ههنا هو المتوسط في العمل، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الإِنكار عَلَى مَنْ شَاهَدَ تِلْكَ الْأَهْوَالَ، وَالْأُمُورَ الْعِظَامَ، وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ فِي البحر، ثم بعدما أنعم الله عليه بالخلاص، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَابِلَ ذَلِكَ بِالْعَمَلِ التَّامِّ، وَالدَّؤُوبِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ، فَمَنِ اقتصد بعد ذلك كان مقصراً والله أعلم، وقوله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} الختار: هو الغدّار، قاله مجاهد والحسن وَهُوَ الَّذِي كُلَّمَا عَاهَدَ نَقَضَ عَهْدَهُ، وَالْخَتْرُ أتم الغدر وأبلغه. قال عمرو بن معد يكرب:
وَإِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ أَبَا عُمَيْرٍ * مَلَأْتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وَخَتْرِ
وَقَوْلُهُ: {كَفُورٍ} أَيْ جَحُودٌ لِلنِّعَمِ لَا يَشْكُرُهَا بَلْ يَتَنَاسَاهَا وَلَا يَذْكُرُهَا.(2/70)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
- 33 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ
يَقُولُ تَعَالَى مُنْذِرًا لِلنَّاسِ يَوْمَ الْمَعَادِ، وَآمِرًا لَهُمْ بِتَقْوَاهُ وَالْخَوْفِ مِنْهُ، والخشية من الله مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَيْثُ {لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ} أَيْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِنَفْسِهِ لَمَا قُبِلَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْوَلَدُ لَوْ أراد فداء والده بنفسه لم يقبل مِنْهُ، ثُمَّ عَادَ بِالْمَوْعِظَةِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {فَلَا تعزنكم الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أَيْ لَا تُلْهِيَنَّكُمْ بِالطُّمَأْنِينَةِ فِيهَا عَنِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} يَعْنِي الشَّيْطَانُ (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ) ، فَإِنَّهُ يَغُرُّ ابْنَ آدَمَ وَيَعِدُهُ وَيُمَنِّيهِ، وليس من ذلك شيء، بل كان كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا} ، قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَالَ عُزَيْرٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَمَّا رَأَيْتُ بَلَاءَ قَوْمِي اشْتَدَّ حُزْنِي وكثر همي وأرق نومي، فتضرعت إِلَى رَبِّي وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ، فَأَنَا فِي ذَلِكَ التضرع أبكي إذ أتاني الملَك، فقلت له: خبرني هل تشفع أرواح الصديقين المظلمة، أَوِ الْآبَاءِ لِأَبْنَائِهِمْ؟ قَالَ: إِنِ الْقِيَامَةَ فِيهَا فَصْلُ الْقَضَاءِ، وَمُلْكٌ ظَاهِرٌ لَيْسَ فِيهِ رُخْصَةٌ لَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِ الرَّحْمَنِ، وَلَا يُؤْخَذُ فِيهِ وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا وَلَدٌ عَنْ وَالِدِهِ، وَلَا أَخٌ عَنْ أَخِيهِ، وَلَا عَبْدٌ عَنْ سَيِّدِهِ، وَلَا يَهْتَمُّ أَحَدٌ به بِغَيْرِهِ، وَلَا يَحْزَنُ لِحُزْنِهِ وَلَا أَحَدَ يَرْحَمُهُ، كُلٌّ مُشْفِقٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يُؤْخَذُ إِنْسَانٌ عن إنسان، كل يهمه همه ويبكي ذنبه، وَيَحْمِلُ وَزْرَهُ وَلَا يَحْمِلُ وِزْرَهُ مَعَهُ غَيْرُهُ (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ) .(2/70)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
- 34 - إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي(2/70)
نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ
هذ مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا، فَلَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ إِعْلَامِهِ تَعَالَى بِهَا، فَعِلْمُ وَقْتِ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ} ، وَكَذَلِكَ إِنْزَالُ الْغَيْثِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَكِنْ إِذَا أَمَرَ بِهِ عَلِمَتْهُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بذلك، ومن يشاء اللَّهُ مَنْ خَلْقِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَعْلَمُ مَا في الأرحام مما يريد أن يخلقه تَعَالَى سِوَاهُ، وَلَكِنْ إِذَا أَمَرَ بِكَوْنِهِ ذِكْرًا أو أُنثى، شَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا، عَلِمَ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِذَلِكَ، وكذا لَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا فِي دُنْيَاهَا وَأُخْرَاهَا،، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} فِي بَلَدِهَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَيِّ بِلَادِ اللَّهِ كَانَ، لَا عِلْمَ لِأَحَدٍ بِذَلِكَ وهذه شبيهة بقوله تعالى: {وعنده مفاتيح الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إلا هو} الآية، وقد ورد السنّة بتسمية هذه الخمس مفاتيح الغيب، وروى الإمام أحمد عن أبي بُرَيْدَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: "خمسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ} "، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مفاتيح الغيب لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خبير} (أخرجه البخاري والإمام أحمد) .
وعن مجاهد قال: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: إِنِ امرأتي حبلى فأخبرني ما تلد؟ وبلادنا مجدبة، فَأَخْبِرْنِي مَتَّى يَنْزِلُ الْغَيْثُ؟ وَقَدْ عَلِمْتُ مَتَى وُلِدْتُ فَأَخْبَرَنِي مَتَى أَمُوتُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة - إلى قوله - عَلَيمٌ خَبِيرٌ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَهِيَ مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ التي قال الله تعالى: {وَعِندَهُ مفاتيح الغيب لايعلمها إلا هو} (رواه ابن أبي حاتم وابن جرير) ، وروى مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً} . وقوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ أَرْضٍ تَمُوتُ} قَالَ قَتَادَةُ: أَشْيَاءُ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بهن فلن يُطْلِعْ عَلَيْهِنَّ مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} فَلَا يَدْرِي أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ فِي أي سنة أة فِي أَيِّ شَهْرٍ أَوْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَتَّى يَنْزِلُ الْغَيْثُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا فِي الْأَرْحَامِ أَذَكُرٌ أَمْ أُنْثَى، أَحْمَرُ أَوْ أَسْوَدُ وَمَا هُوَ، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً} أَخَيْرٌ أَمْ شَرٌّ، وَلَا تَدْرِي يَا ابْنَ آدَمَ مَتَى تَمُوتُ لَعَلَّكَ الْمَيِّتُ غَدًا لَعَلَّكَ الْمُصَابُ غَداً، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} أي لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَدْرِي أَيْنَ مَضْجَعُهُ مِنَ الْأَرْضِ، أَفِي بَحْرٍ أَمْ بَرٍّ، أَوْ سَهْلٍ أَوْ جَبَلٍ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة» (أخرجه الطبراني في المعجم الكبير) . وروي مثله عن ابن مسعود، وبمعناه عن أسامة.(2/71)
- 32 - سورة السجدة(2/72)
روى البخاري عن أبي هريرة قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ يَوْمَ الْجُمُعَةِ (الم تَنْزِيلُ) السَّجْدَةَ وَ {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} ، وروى الإمام أحمد عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم تنزيل السجدة وتبارك الذي بِيَدِهِ الملك.(2/72)
بسم الله الرحن الرحيم(2/72)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
- 1 - الم
- 2 - تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَبِّ الْعَالَمِينَ
- 3 - أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ ههنا، وَقَوْلُهُ: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ} أَيْ لا شك فيه ولا مرية أنه منزل {مِن رَّبِّ العالمين} ، ثم قال تعالى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} بَلْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ أَيِ اخْتَلَقَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أَيْ يَتَّبَعُونَ الْحَقَّ.(2/72)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
- 4 - اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ
- 5 - يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ
- 6 - ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
يُخْبِرُ تَعَالَى أنه خالق الأشياء، فَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ، {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ} أَيْ بَلْ هُوَ الْمَالِكُ لِأَزِمَّةِ الْأُمُورِ، الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ الْمُدَبِّرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَلَا وَلِيَّ لِخَلْقِهِ سِوَاهُ، وَلَا شَفِيعَ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ، {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} يَعْنِي أَيُّهَا الْعَابِدُونَ غَيْرَهُ، الْمُتَوَكِّلُونَ عَلَى مَنْ عَدَاهُ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ أَنْ يَكُونَ لَهُ نَظِيرٌ أَوْ شَرِيكٌ أو وزير، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ. وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} أَيْ يَتَنَزَّلُ أَمْرُهُ(2/72)
مِنْ أَعْلَى السَّمَاوَاتِ إِلَى أَقْصَى تُخُومِ الْأَرْضِ السابعة، كما قال تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمر بينهن} الآية، وَتُرْفَعُ الْأَعْمَالُ إِلَى دِيوَانِهَا فَوْقَ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَمَسَافَةُ مَا بَيَّنَهَا وَبَيْنَ الْأَرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَسُمْكُ السَّمَاءِ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: النُّزُولُ مِنَ الْمَلَكِ فِي مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَصُعُودُهُ فِي مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَلَكِنَّهُ يَقْطَعُهَا فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أَيِ الْمُدَبِّرُ لِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّذِي هُوَ شَهِيدٌ عَلَى أَعْمَالِ عِبَادِهِ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ جَلِيلُهَا وَحَقِيرُهَا وَصَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا، هُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي قَدْ عَزَّ كُلَّ شَيْءٍ فَقَهَرَهُ وَغَلَبَهُ، وَدَانَتْ لَهُ الْعِبَادُ وَالرِّقَابُ، {الرَّحِيمُ} بعباده المؤمنين.(2/73)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
- 7 - الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِّن طِينٍ
- 8 - ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَاءٍ مَهِينٍ
- 9 - ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ
يقول تعالى مخبراً إِنَّهُ الَّذِي أَحْسَنَ خَلْقَ الْأَشْيَاءِ وَأَتْقَنَهَا وَأَحْكَمَهَا، قال زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ} قَالَ: أَحْسَنَ خَلْقَ كُلِّ شَيْءٍ، كَأَنَّهُ جَعَلَهُ مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ؛ ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ تعالى خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، شَرَعَ فِي ذِكْرِ خَلْقِ الإنسان، فقال تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِّن طِينٍ} يَعْنِي خَلَقَ أَبَا الْبَشَرِ آدَمَ مِّن طِينٍ، {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن ملء مَّهِينٍ} أَيْ يَتَنَاسَلُونَ كَذَلِكَ مِنْ نُطْفَةٍ، تَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ، {ثُمَّ سَوَّاهُ} يَعْنِي آدَمَ لَمَّا خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ خَلَقَهُ سَوِيًّا مُسْتَقِيمًا، {وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} يَعْنِي الْعُقُولَ، {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أَيْ بِهَذِهِ الْقُوَى الَّتِي رَزَقَكُمُوهَا اللَّهُ عزَّ وجلَّ، فَالسَّعِيدُ مَنِ اسْتَعْمَلَهَا فِي طَاعَةِ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ.(2/73)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
- 10 - وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ
- 11 - قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي اسْتِبْعَادِهِمُ الْمَعَادَ حَيْثُ قَالُوا {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} أَيْ تَمَزَّقَتْ أَجْسَامُنَا، وَتَفَرَّقَتْ فِي أَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَذَهَبَتْ، {أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي أئنا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي أتنا لنعود بعد تلك الحال؟ يستبعدون ذلك، ولهذا قال تعالى: {بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} ، ثُمَّ قَالَ تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} ، الظاهر أن ملك الموت شخص معين، وَقَدْ سُمِّيَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ بِعِزْرَائِيلَ وَهُوَ لمشهور (قاله قتادة وغير واحد من علماء السلف) ، وَلَهُ أَعْوَانٌ؛ وَهَكَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ أَعْوَانَهُ يَنْتَزِعُونَ الْأَرْوَاحَ مِنْ سَائِرِ الْجَسَدِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ تَنَاوَلَهَا مَلَكُ الْمَوْتِ، قَالَ مجاهد: حويت له الأرض فجعلت مثل الطست يتناول منها متى يشاء، وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: وَاللَّهِ مَا مِنْ بَيْتٍ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَّا وَمَلَكُ الْمَوْتِ يَقُومُ عَلَى بَابِهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ يَنْظُرُ هَلْ فِيهِ أَحَدٌ أُمِرَ أَنْ يتوفاه (أخرجه ابن أبي حاتم) ، وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} أَيْ يَوْمَ مَعَادِكُمْ وَقِيَامِكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ لِجَزَائِكُمْ.(2/73)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
- 12 - ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ
- 13 - وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
- 14 - فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عن حال المشركين يوم القيامة، حِينَ عَايَنُوا الْبَعْثَ وَقَامُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، حَقِيرِينَ ذَلِيلِينَ نَاكِسِي رُؤُوسِهِمْ أَيْ مِنَ الْحَيَاءِ وَالْخَجَلِ، يَقُولُونَ {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} أَيْ نَحْنُ الْآنَ نَسْمَعُ قَوْلَكَ وَنُطِيعُ أَمْرَكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يأتوننا} وَكَذَلِكَ يَعُودُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمَلَامَةِ إِذَا دَخَلُوا النَّارَ بِقَوْلِهِمْ: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير} ، وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا} أي إلى دار الدُّنْيَا {نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} أَيْ قَدْ أيقنا وتحققنا فيها أَنَّ وَعْدَكَ حَقٌّ وَلِقَاءَكَ حَقٌّ، وَقَدْ عَلِمَ الرَّبُّ تَعَالَى مِنْهُمْ أَنَّهُ لَوْ أَعَادَهُمْ إِلَى الدنيا كفاراً يكذبون بآيات الله، ويخالفون رسله، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ ربنا} الآية، وقال ههنا: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً} ، {ولكن حقَّ القول مني لأملأن جنهم مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أَيْ مِنَ الصِّنْفَيْنِ فَدَارُهُمُ النَّارُ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا وَلَا مَحِيصَ لَهُمْ مِنْهَا، نَعُوذُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ التَّامَّةِ مِنْ ذَلِكَ {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} أَيْ يُقَالُ لِأَهْلِ النَّارِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، ذُوقُوا هَذَا الْعَذَابَ بِسَبَبِ تَكْذِيبِكُمْ به، واستبعادكم وقوعه، {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} أي سَنُعَامِلُكُمْ مُعَامَلَةَ النَّاسِي، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَنْسَى شَيْئًا وَلَا يَضِلُّ عَنْهُ شَيْءٌ، بَلْ مِنْ باب المقابلة، كما قال تعالى: {فاليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا} ، وقول تعالى: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ بسبب كفرهم وتكذيبكم، كما قال تعالى: {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} .(2/74)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
- 15 - إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
- 16 - تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
- 17 - فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} أَيْ إِنَّمَا يُصَدِّقُ بِهَا {الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً} أَيِ اسْتَمَعُوا لَهَا وَأَطَاعُوهَا قَوْلًا وَفِعْلًا، {وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} أَيْ عَنِ اتِّبَاعِهَا وَالِانْقِيَادِ لَهَا، كَمَا يَفْعَلُهُ الْجَهَلَةُ مِنَ الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جهنم داخرين} ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} يَعْنِي بِذَلِكَ قِيَامَ اللَّيْلِ وَتَرْكَ النَّوْمِ، وَالِاضْطِجَاعِ على الفرش الوطيئة، قال مجاهد والحسن: يَعْنِي بِذَلِكَ قِيَامَ اللَّيْلِ، وَعَنْ أَنَسٍ وَعِكْرِمَةَ: هُوَ الصَّلَاةُ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ، وَعَنْ أَنَسٍ أَيْضًا: هو انتظار صلاة العتمة، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ فِي جَمَاعَةٍ وَصَلَاةُ الْغَدَاةِ فِي جَمَاعَةٍ {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} أَيْ خَوْفًا مِنْ وَبَالِ عِقَابِهِ، وَطَمَعًا فِي جَزِيلِ ثَوَابِهِ {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} فَيَجْمَعُونَ فعل القربات اللازمة(2/74)
والمتعدية، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فأصبحت يوماً قريباً ونحن نسير، فقلت: يا بني اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النار قال: "لقد سألت عن عظيم وغنه لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ الله ولا تشرك به شيئا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أَدُلَّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جنة، والصدقة تطفىء الْخَطِيئَةَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ - ثُمَّ قَرَأَ - {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حَتَّى بَلَغَ {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟ " فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: "رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَّا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ"؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ ثُمَّ قَالَ: «كفَّ عَلَيْكَ هَذَا» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به، «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ قَالَ عَلَى مناخرهم - إلاّ حصائد ألسنتهم» (أخرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة) . وروى ابن أبي حاتم، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تبوك فقال: «إن شئت نبأتك بِأَبْوَابِ الْخَيْرِ، الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ وَقِيَامُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ» ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} الآية، وعن أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، جَاءَ مُنَادٍ فَنَادَى بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ» سَيَعْلَمُ أَهْلُ الْجَمْعِ الْيَوْمَ مَنْ أَوْلَى بِالْكَرَمِ" ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُنَادِي: لِيَقُمِ الَّذِينَ كَانَتْ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ - الْآيَةَ - فيقومون وهم قليل"، وقال بِلَالٌ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} الْآيَةَ، كُنَّا نَجْلِسُ فِي الْمَجْلِسِ وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلُّونَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْعَشَاءِ، فنزلت هذه الآية {تتجافى جوبهم عن المضاجع} (أخرجه البزار عن زيد بن أسلم عن أبيه) ، وقوله تَعَالَى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} أَيْ فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ عَظَمَةَ مَا أَخْفَى اللَّهُ لَهُمْ فِي الْجَنَّاتِ، مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَاللَّذَّاتِ الَّتِي لَمْ يَطَّلِعُ عَلَى مِثْلِهَا أَحَدٌ، لما أخفوا أعمالهم، كذلك أَخْفَى اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ، جَزَاءً وِفَاقًا، فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَخْفَى قَوْمٌ عَمَلَهُمْ فَأَخْفَى اللَّهُ لَهُمْ مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قلب بشر، قال البخاري: قوله تعالى {فَلاَ تَعْلَمُ ما أخفي مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الآية، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (رواه البخاري ومسلم والترمذي والإمام أحمد) . وفي الحديث: «مَنْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ يَنْعَمُ لَا يَبْأَسُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ، فِي الْجَنَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خطر على قلب بشر» (أخرجه مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أبي هريرة مرفوعاً) ، وروى مسلم عن المغيرة بن شعبة يَرْفَعُهُ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ عزَّ وجلَّ مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِيءُ بَعْدَمَا أُُدخَلَ أهلُ الجنةَ الجنةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رب كيف وقد أخذ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ؟ فَيُقَالُ لَهُ أَتَرْضَى أن يكون لك مثل مَلِكٍ مَنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ(2/75)
رَبِّ، فَيَقُولُ لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ ومثله، فقال في الخامسة: رضيت ربي، هذا لك وعشرة أمثاله معه، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، قَالَ رَبِّ فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً، قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. قَالَ: وَمِصْدَاقُهُ من كتاب الله عزَّ وجلَّ {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الآية (أخرجه مسلم عن المغيرة بن شعبة مرفوعاً ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح) .(2/76)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
- 18 - أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ
- 19 - أَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
- 20 - وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
- 21 - وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
- 22 - وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَدْلِهِ وَكَرَمِهِ، أَنَّهُ لَا يُسَاوِي فِي حُكْمِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِآيَاتِهِ مُتْبِعًا لِرُسُلِهِ بِمَنْ كَانَ فَاسِقًا، أي خارجاً عن طاعة ربه، مكذباً رسل الله، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كالفجار} ؟ وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} الآية، ولهذا قال تعالى ههنا: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} أَيْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ ذكر عطاء والسدي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي (عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) و (عقبة بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ) وَلِهَذَا فَصَّلَ حُكْمَهُمْ فَقَالَ: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أَيْ صَدَّقَتْ قُلُوبُهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَعَمِلُوا بِمُقْتَضَاهَا وَهِيَ الصَّالِحَاتُ، {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى} أَيِ الَّتِي فِيهَا الْمَسَاكِنُ وَالدُّورُ وَالْغُرَفُ الْعَالِيَةُ {نُزُلاً} أَيْ ضِيَافَةً وَكَرَامَةً، {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ} أَيْ خَرَجُوا عَنِ الطَّاعَةِ، {فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا} ، كَقَوْلِهِ: {كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا} الآية، قال الفضيل ابن عِيَاضٍ: وَاللَّهِ إِنَّ الْأَيْدِيَ لَمُوثَقَةٌ، وَإِنَّ الْأَرْجُلَ لَمُقَيَّدَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَبَ لَيَرْفَعُهُمْ، وَالْمَلَائِكَةَ تَقْمَعُهُمْ، {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا، وقوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِالْعَذَابِ الْأَدْنَى مَصَائِبَ الدُّنْيَا وَأَسْقَامَهَا وَآفَاتِهَا، وَمَا يَحِلُّ بِأَهْلِهَا مِمَّا يبتلى الله به عباده ليتوبوا إليه، وقال مجاهد: يعني به عذاب القبر، وقال عبد الله بن مسعود: الْعَذَابُ الْأَدْنَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ يوم بدر، قال السدي: لَمْ يَبْقَ بَيْتٌ بِمَكَّةَ إِلَّا دَخَلَهُ الْحُزْنُ عَلَى قَتِيلٍ لَهُمْ أَوْ أَسِيرٍ فَأُصِيبُوا أَوْ غَرِمُوا، وَمِنْهُمْ مَنْ جُمِعَ لَهُ الْأَمْرَانِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {ومن أظلم ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} أَيْ لَا أَظْلِمُ مِمَّنْ ذَكَّرَهُ اللَّهُ بِآيَاتِهِ وَبَيَّنَهَا لَهُ وَوَضَّحَهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَرَكَهَا وَجَحَدَهَا، وَأَعْرَضَ عَنْهَا وَتَنَاسَاهَا كَأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهَا، قال قتادة: إِيَّاكُمْ وَالْإِعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ فَقَدِ اغْتَرَّ أَكْبَرَ الْغِرَّةِ وأعوز أشد العوز، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُتَهَدِّدًا لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} أَيْ سَأَنْتَقِمُ مِمَّنْ فعل ذلك أشد الانتقام.(2/76)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
- 23 - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ
- 24 - وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ
- 25 - إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ (مُوسَى) عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ آتَاهُ الْكِتَابَ وَهُوَ التَّوْرَاةُ، وقوله تعالى: {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ} قَالَ قتادة: يعني به ليلة الإسراء، وفي الحديث: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ رَجُلًا آدم جَعْدًا كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى رجلاً مَرْبُوعَ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ سَبْطَ الرَّأْسِ، وَرَأَيْتُ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ، وَالدَّجَّالَ» فِي آيات أراهن الله أياها {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ} أَنَّهُ قَدْ رَأَى مُوسَى وَلَقِيَ مُوسَى لَيْلَةَ أُسَرِيَ به. وروى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في قوله تعالى: {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ} قَالَ من لقاء موسى ربه عزَّ وجلَّ (أخرجه الطبراني) ، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُ} أي الكتاب الذي آتيناه {هدى لنبي إِسْرَائِيلَ} ، كما قال تعالى في الإسراء: {وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب وجعلناه هدى لنبي إسرائيل أن لا تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وكيلا} . وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} أَيْ لَمَّا كَانُوا صَابِرِينَ على أوامر الله، وترك زواجره، وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ، وَاتِّبَاعِهِمْ فِيمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ، كَانَ مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ إِلَى الْحَقِّ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَيَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، ثم لمّا بدّلوا وحرّفوا سُلِبُوا ذَلِكَ الْمَقَامَ، وَصَارَتْ قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، فَلَا عَمَلَ صَالِحًا وَلَا اعتقاداً صحيحاً، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الكتاب} قال قتادة: لما صبروا عن الدنيا، وقال سُفْيَانُ: هَكَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ حَتَّى يَتَحَامَى عن الدنيا، وسئل سُفْيَانُ عَنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الصَّبْرُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ} ؟ قَالَ: لَمَّا أَخَذُوا بِرَأْسِ الأمر صاروا رؤساء، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ تَنَالُ الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات وفضلناهم عن العالمين} ، كما قال ههنا: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أَيْ مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ والأعمال.(2/77)
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
- 26 - أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ
- 27 - أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى أَوَلَمْ يَهْدِ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ، مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم إياهم فيما جاؤوهم به، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ بَاقِيَةٌ وَلَا عَيْنٌ وَلَا أثر {هَلْ تحسن مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} ، وَلِهَذَا قَالَ: {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} أَيْ وَهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِ أُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ، فَلَا يَرَوْنَ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ كَانَ يَسْكُنُهَا وَيَعْمُرُهَا ذهبوا منها كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فيها، كَمَا قَالَ: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} ، وقال: {وَكَأَيِّن(2/77)
مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وقصر مشيد} ، ولهذا قال ههنا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} أَيْ إِنَّ فِي ذَهَابِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ وَدَمَارِهِمْ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ، وَنَجَاةِ مَنْ آمَنَ بِهِمْ، لآيات
وعبراً ومواعظ ودلائل {أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} أَيْ أَخْبَارَ مَنْ تَقَدَّمَ كَيْفَ كان من أمرهم. وقوله تَعَالَى:
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرض الجزر} يُبَيِّنُ تَعَالَى لُطْفَهُ بِخَلْقِهِ وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ، فِي إرساله الماء مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ مِنَ السَّيْحِ، وَهُوَ مَا تحمله الأنهار ويتحدر مِنَ الْجِبَالِ، إِلَى الْأَرَاضِي الْمُحْتَاجَةِ إِلَيْهِ فِي أوقاته، ولهذا قال تعالى: {إِلَى الأرض الجرز} وهي الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزًا} ، وأرض مصر رخوة تَحْتَاجُ مِنَ الْمَاءِ مَا لَوْ نَزَّلَ عَلَيْهَا مطراً لتهدمت أبنيتها فيسوق الله تعالى إِلَيْهَا النَّيْلَ، بِمَا يَتَحَمَّلُهُ مِنَ الزِّيَادَةِ الْحَاصِلَةِ من أمطار بلاد الحبشة، فَيَسْتَغِلُّونَ كُلَّ سَنَةٍ عَلَى مَاءٍ جَدِيدٍ مَمْطُورٍ فِي غَيْرِ بِلَادِهِمْ، وَطِينٍ جَدِيدٍ مِنْ غَيْرِ أرضهم فسبحان الحكيم الكريم المنان المحمود أبداً. روى قيس بن حجاج قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ مِصْرُ أَتَى أَهْلُهَا (عَمْرَو بن العاص) وكان أميراً بها، فقالوا أيها الأمير إن لنيلنا هذا سُنَّةً لَا يَجْرِي إِلَّا بِهَا، قَالَ وَمَا ذاك؟ قالوا ذا كَانَتْ ثِنْتَا عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ عَمَدْنَا إِلَى جَارِيَةٍ بِكْرٍ بَيْنَ أَبَوَيْهَا فَأَرْضَيْنَا أَبَوَيْهَا وَجَعَلْنَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ أَفْضَلَ مَا يَكُونُ، ثُمَّ أَلْقَيْنَاهَا فِي هَذَا النِّيلِ فَقَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: إِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ فِي الإِسلام، إِنَّ الإِسلام يَهْدِمُ مَا كان قبله، فأقاموا وَالنِّيلُ لَا يَجْرِي حَتَّى هَمُّوا بِالْجَلَاءِ، فَكَتَبَ (عَمْرٌو) إِلَى (عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) بِذَلِكَ فَكَتَبَ إليه عمر إنك قد أصبت بالذي فعلت، قد بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِبِطَاقَةٍ دَاخِلَ كِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهَا فِي النِّيلِ، فَلَمَّا قَدِمَ كِتَابُهُ أَخَذَ عَمْرٌو الْبِطَاقَةَ فَفَتَحَهَا فَإِذَا فِيهَا: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى نِيلِ أَهْلِ مِصْرَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّكَ إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تَجْرِي مِنْ قِبَلِكَ فَلَا تَجْرِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ هُوَ الَّذِي يُجْرِيكَ فَنَسْأَلُ اللَّهَ أن يجزيك، قال فألقى البطاقة في النيل فأصبحوا يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ النِّيلَ سِتَّةَ عشر ذراعاً في ليلة واحدة، وقد قطع اللَّهُ تِلْكَ السُّنَّةَ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَى اليوم (رواه الحافظ أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة) . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صباً} الآية، ولهذا قال ههنا: {أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} ؟ وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} قَالَ: هِيَ الَّتِي لَا تُمْطَرُ إِلَّا مَطَرًا لَا يُغْنِي عَنْهَا شَيْئًا إِلَّا مَا يَأْتِيهَا من السيول، وقال عكرمة والضحاك: الْأَرْضِ الْجُرُزِ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا وَهِيَ مغبرة، قلت وهذا كقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا} الآيتين.(2/78)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
- 28 - وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
- 29 - قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَّ ينفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ
- 30 - فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ اسْتِعْجَالِ الْكَفَّارِ وُقُوعِ بَأْسِ اللَّهِ بِهِمْ، وَحُلُولِ غَضَبِهِ عَلَيْهِمْ، اسْتِبْعَادًا وَتَكْذِيبًا وَعِنَادًا {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ} أَيْ مَتَى تُنْصَرُ عَلَيْنَا يَا مُحَمَّدُ؟ كَمَا تَزْعُمُ أَنَّ لَكَ وَقْتًا تُدَالُ عَلَيْنَا وَيُنْتَقَمُ لَكَ مِنَّا، فَمَتَى يَكُونُ هَذَا؟ مَا نَرَاكَ أَنْتَ وَأَصْحَابَكَ إِلَّا مُخْتَفِينَ خَائِفِينَ ذَلِيلِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ}(2/78)
أَيْ إِذَا حَلَّ بِكُمْ بَأْسُ اللَّهِ وَسُخْطُهُ وَغَضَبُهُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْأُخْرَى {لاَّ ينفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُواْ بِمَا عندهم من العلم} الآيتين. والمراد بالفتح القضاء والفصل، كقوله: {فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فتحاً} الآية، وَكَقَوْلِهِ: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق} الآية، ثم قال تعالى: {فَأَعْرِضْ
عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ} أَيْ أَعْرِضْ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَبَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ من ربك، كقوله تعالى: {اتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ لَا إله إلا هو} الآية، وَانْتَظِرْ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، وَسَيَنْصُرُكَ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ، إِنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ} أَيْ أَنْتَ مُنْتَظِرٌ وَهُمْ مُنْتَظِرُونَ، وَيَتَرَبَّصُونَ بِكُمُ الدَّوَائِرَ {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ تتربص به ريب المنون} وسترى عَاقِبَةَ صَبْرِكَ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى أَدَاءِ رِسَالَةِ اللَّهِ فِي نُصْرَتِكَ وَتَأْيِيدِكَ، وَسَيَجِدُونَ غِبَّ مَا يَنْتَظِرُونَهُ فِيكَ وَفِي أَصْحَابِكَ، مِنْ وَبِيلِ عِقَابِ اللَّهِ لَهُمْ، وَحُلُولِ عَذَابِهِ بِهِمْ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوكيل.(2/79)
- 33 - سورة الأحزاب(2/80)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
- 1 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا
- 2 - وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
- 3 - وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً
قَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: التَّقْوَى أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، تَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ، وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، مَخَافَةَ عَذَابِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَلاَ تطع الكافرين والمنافقين} (دعا أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرجع عن قوله، على أن يعطوه شطراً من أموالهم، وخوفه المنافقون واليهود بالمدينة، فأنزل الله {يَا أيها النبي ... } الآية. أخرجه جويبر، وذكره في اللباب) أَيْ لَا تَسْمَعْ مِنْهُمْ وَلَا تَسْتَشِرْهُمْ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} أَيْ فَهُوَ أَحَقُّ أَنْ تَتَّبِعَ أَوَامِرَهُ وَتُطِيعَهُ، فَإِنَّهُ عَلِيمٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، حَكِيمٌ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ} أَيْ مِنْ قُرْآنٍ وَسُنَّةٍ، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} أَيْ فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أَيْ فِي جَمِيعِ أُمُورِكَ وَأَحْوَالِكَ، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} أَيْ وَكَفَى بِهِ وَكِيلًا لِمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَأَنَابَ إِلَيْهِ.(2/80)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
- 4 - مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ
- 5 - ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
يَقُولُ تَعَالَى مُوَطِّئًا قَبْلَ الْمَقْصُودِ الْمَعْنَوِيِّ، أَمْرًا معروفاً حسياً، وَهُوَ أَنَّهُ كَمَا لَا يَكُونُ لِلشَّخْصِ الْوَاحِدِ قَلْبَانِ فِي جَوْفِهِ وَلَا تَصِيرُ زَوْجَتُهُ الَّتِي يظاهر منه بِقَوْلِهِ أَنْتِ عليَّ كَظَهْرِ أُمِّي أُمًّا لَهُ، كَذَلِكَ لَا يَصِيرُ الدعيُّ وَلَدًا لِلرَّجُلِ(2/80)
إِذَا تَبَنَّاهُ فَدَعَاهُ ابْنًا لَهُ، فَقَالَ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وما يجعل أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} ، كقوله عزَّ وجلَّ: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللَّائِي ولدنهم} الآية، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أبناءهم} هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنَّفْيِ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي شأن (زيد بن حارثة) رضي الله عنه مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَبَنَّاهُ قبل النبوة، فكان يُقَالُ لَهُ (زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ) فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ يَقْطَعَ هَذَا الْإِلْحَاقَ وَهَذِهِ النِّسْبَةَ بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ} ، كما قال تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين} ، وقال ههنا: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} يَعْنِي تَبَنِّيكُمْ لَهُمْ قَوْلٌ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ابْنًا حَقِيقِيًّا فَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ صُلْبِ رَجُلٍ آخَرَ، فَمَا يُمْكِنُ أن يكون له أبوان، كما لايمكن أَنْ يَكُونَ لِلْبَشَرِ الْوَاحِدِ قَلْبَانِ، {وَاللَّهُ يَقُولُ الحق} أي العدل، {هو يَهْدِي السَّبِيلَ} أَيِ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ يُقَالُ لَهُ ذُو القلبين (هو جميل بن معمر الجمحي) ، وَأَنَّهُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ قَلْبَيْنِ كُلٌّ منهما بعقل وافر، فأنزل الله تعالى هذه الآية رداً عليه. وقال عبد الرزاق عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} ، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي (زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ) ضُرِبَ لَهُ مَثَلٌ، يَقُولُ لَيْسَ ابْنُ رَجُلٍ آخَرَ ابْنَكَ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رضي الله عنه، وَهَذَا يُوَافِقُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّفْسِيرِ وَاللَّهُ سبحانه تعالى أعلم، وقوله عزَّ وجلَّ: {ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} هَذَا أَمْرٌ نَاسِخٌ لِمَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، مِنْ جَوَازِ ادِّعَاءِ الْأَبْنَاءِ الْأَجَانِبِ، وهم الأدعياء، فأمر تبارك وتعالى بِرَدِّ نِسَبِهِمْ إِلَى آبَائِهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّ هذا هو العدل والقسط والبر.
روى الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: إن زيد بن حارثة رضي الله عنه مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ {ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي) . وَقَدْ كَانُوا يُعَامِلُونَهُمْ مُعَامَلَةَ الْأَبْنَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي الْخَلْوَةِ بِالْمَحَارِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لما نسخ هذا الحكم أباح تبارك وتعالى زَوْجَةَ الدَّعِيِّ، وَتَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بزينب بنت جحش مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه، وقال عزَّ وجلَّ: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ منهن وطراً} ، وقال تبارك وتعالى في آية التحريم: {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين من أصلابكم} احْتِرَازًا عَنْ زَوْجَةِ الدَّعِيِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الصلب، فَأَمَّا دَعْوَةُ الْغَيْرِ ابْنًا عَلَى سَبِيلِ التَّكْرِيمِ والتحبيب، فليس مما نهنهي عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - أغيلمة بني عبد المطلب - على جمرات لَنَا مِنْ جَمْعٍ، فَجَعَلَ يُلَطِّخُ أَفْخَاذَنَا وَيَقُولُ: «أبنيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» (أخرجه أحمد وأهل السنن إلا الترمذي) وعن أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «يا بني» ، وقوله عزَّ وجلَّ: {فَإِنْ لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} أمر تَعَالَى بِرَدِّ أَنْسَابِ الْأَدْعِيَاءِ إِلَى آبَائِهِمْ إِنْ عرفوا، فإن لم يعرفوا فهم إخوانكم فِي الدِّينِ وَمَوَالِيهِمْ أَيْ عِوَضًا عَمَّا فَاتَهُمْ مِنَ النَّسَبِ، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي رضي الله عنه: «أنت مني وأنا منك» وقال لجعفر رضي الله عنه: «أشبهتَ خَلْقَي وخُلُقي» ، وقال لزيد رضي الله عنه: «أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا» . كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين وَمَوَالِيكُمْ} .(2/81)
وقد جاء في الحديث: «ليس من رجل ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلَّا كفر» (أخرجه البخاري ومسلم) ؛ وَهَذَا تَشْدِيدٌ وَتَهْدِيدٌ، وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، فِي التَّبَرِّي من النسب المعلوم، ولهذا قال تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} ، ثم قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} أَيْ إِذَا نَسَبْتُمْ بَعْضَهُمْ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ فِي الْحَقِيقَةِ خَطَأً، بَعْدَ الِاجْتِهَادِ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ، فَإِنَّ الله تعالى قَدْ وَضَعَ الْحَرَجَ فِي الْخَطَأِ، وَرَفَعَ إِثْمَهُ كما أرشد
إليه في قوله تبارك وتعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} ، وفي الحديث: «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنِ اجتهد فأخطا فله أجر» (أخرجه البخاري عن عمرو بن العاص مرفوعاً) ، وفي الحديث الآخر: «إن الله تعالى رفع عن أمتي الخطأ والنسيان والأمر الذي يكرهون عليه» ، وقال تبارك وتعالى ههنا: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَّا تعمدت قلوبهم وكان الله عفوراً رَحِيماً} أي إنما الْإِثْمُ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ الْبَاطِلَ، كَمَا قَالَ عزَّ وجلَّ: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} الآية، وروى الإمام أحمد عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ مَعَهُ الْكِتَابَ، فَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ، فرجم رسول الله صلى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمَنَا بَعْدَهُ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ كُنَّا نَقْرَأُ: [وَلَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كفر بكم إن ترغبوا عن آبائكم] (أخرجه الإمام أحمد في المسند) ، وفي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "ثَلَاثٌ فِي النَّاسِ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ".(2/82)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
- 6 - النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأْوْلُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا
عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى شَفَقَةَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم على أمته ونصحته لَهُمْ، فَجَعَلَهُ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَحَكَّمَهُ فيهم مقدمٌ عَلَى اخْتِيَارِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تسليماً} ، وفي الصحيح: «والذي نفسي بيده لايؤمن أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أن عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إليَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَا عُمَرُ حَتَّى أَكُونَ أَحَبُّ إِلَيْكَ من نفسك» فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إليَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «الْآنَ يَا عُمَرُ» ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ، وقال البخاري عند هذه الآية الكريمة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ في الدنيا والآخرة، اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَّنفسهم} . فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كانوا، وإن تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلَاهُ" (أخرجه البخاري ورواه أحمد وابن أبي حاتم) . وقال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي في الحرمة والاحترام، والتوقير والإكرام وَالْإِعْظَامِ، وَلَكِنْ لَا تَجُوزُ الْخَلْوَةُ بِهِنَّ وَلَا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع.
وقوله تعالى: {وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أَيْ فِي حُكْمِ اللَّهِ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمهاجرين}(2/82)
أَيِ الْقُرَابَاتُ أَوْلَى بِالتَّوَارُثِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَهَذِهِ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانَ قَبْلَهَا مِنْ التَّوَارُثِ بِالْحَلِفِ وَالْمُؤَاخَاةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: كَانَ الْمُهَاجِرِيُّ يَرِثُ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ قِرَابَاتِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى بَيْنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ فِينَا خَاصَّةً مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارَ: {وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بعض} ، وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا من الْمَدِينَةَ قَدِمْنَا وَلَا أَمْوَالَ لَنَا، فَوَجَدْنَا الْأَنْصَارَ نِعْمَ الْإِخْوَانُ فَوَاخَيْنَاهُمْ وَوَارَثْنَاهُمْ، فَآخَى أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه (خارجة بن زيد) ، وآخى عمر رضي الله عنه فلاناً، وآخى عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ (ابن سَعْدٍ الزُّرَقِيِّ) وَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ غَيْرَهُ، قَالَ الزبير رضي الله عنه، وَوَاخَيْتُ أَنَا (كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ) فَجِئْتُهُ فَابْتَعَلْتُهُ، فَوَجَدَتُ السِّلَاحَ قَدْ ثَقِلَهُ فِيمَا يُرَى، فَوَاللَّهِ يا بني لو مات يؤمئذ عَنِ الدُّنْيَا مَا وَرِثَهُ غَيْرِي، حَتَّى أَنْزَلَ الله تعالى هَذِهِ الْآيَةَ فِينَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَالْأَنْصَارَ خَاصَّةً، فرجعنا إلى مواريثنا. وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً} أَيْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَبَقِيَ النَّصْرُ وَالْبِرُّ وَالصِّلَةُ وَالْإِحْسَانُ والوصية، وقوله تعالى: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} أَيْ هَذَا الْحُكْمُ، وَهُوَ أَنَّ أُولِي الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ، حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ مُقَدَّرٌ مَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يُبَدَّلُ وَلَا يُغَيَّرُ، وإن كان تعالى قَدْ شَرَعَ خِلَافَهُ فِي وَقْتٍ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَنْسَخُهُ إِلَى مَا هُوَ جَارٍ فِي قدره الأزلي وقضائه القدري الشرعي والله أعلم.(2/83)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
- 7 - وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظًا
- 8 - لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ وَبَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، أَنَّهُ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، فِي إِقَامَةِ دِينِ الله تعالى وَإِبْلَاغِ رِسَالَتِهِ، وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ وَالِاتِّفَاقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} الآية، فَهَذَا الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ أُخِذَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ إِرْسَالِهِمْ، وَكَذَلِكَ هَذَا، وَنَصَّ مِنْ بَيْنِهِمْ عَلَى هَؤُلَاءِ الخمسة وهم أولو العزم، وقد صرح بذكرهم أيضاً في قوله تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ. وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فيه} فَهَذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الَّتِي أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ بها، كما قال تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} فَبَدَأَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْخَاتَمِ لِشَرَفِهِ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ، ثُمَّ رَتَّبَهُمْ بِحَسَبِ وَجُودِهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عليهم، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْمِيثَاقِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُمْ حِينَ أُخْرِجُوا فِي صُورَةِ الذَّرِّ من صلب آدم عليه الصلاة والسلام، كما قال أبي بن كعب: وَرَفَعَ أَبَاهُمْ آدَمَ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَعْنِي ذُرِّيَّتَهُ، وَأَنَّ فِيهِمُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ، وَحَسَنَ الصُّورَةِ وَدُونَ ذَلِكَ فَقَالَ: رَبِّ لَوْ سَوَّيْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ فقال: إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُشْكَرَ، وَرَأَى فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءَ مِثْلَ السُّرُجِ عَلَيْهِمُ النُّورُ وَخُصُّوا بِمِيثَاقٍ آخَرَ من الرسالة والنبوة وهو الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ الْعَهْدُ، وَقَوْلُهُ تعالى: {لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ} قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُبَلِّغِينَ المؤدين عن الرسل، وقوله تعالى: {وَأَعَدَّ(2/83)
لِلْكَافِرِينَ} أَيْ مِنْ أُمَمِهِمْ {عَذَاباً أَلِيماً} أَيْ مُوجِعًا، فَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا رسالات ربهم ونصحوا الأمم، وَإِنْ كَذَّبَهُمْ مَنْ كَذَّبَهُمْ مِنَ الْجَهَلَةِ وَالْمُعَانِدِينَ، والمارقين والقاسطين.(2/84)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
- 9 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بصيرا
- 10 - إذ جاؤوكم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نِعْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي صَرْفِهِ أَعْدَاءَهُمْ وَهَزْمِهِ إِيَّاهُمْ، عَامَ تَأَلَّبُوا عَلَيْهِمْ وَتَحَزَّبُوا، وَذَلِكَ عَامَ الخندق، وَكَانَ سَبَبُ قُدُومِ الْأَحْزَابِ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَشْرَافِ يَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ، الَّذِينَ كَانُوا قَدْ أَجْلَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى خَيْبَرَ، مِنْهُمْ (سَلَّامُ بْنُ أبي الحقيق) و (سلاَم بن مشكم) و (كنانة بن الربيع) خرجوا إلى مكة، فاجتمعوا بأشراف قريش، وألبوهم على حرب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَعَدُوهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمُ النَّصْرَ وَالْإِعَانَةَ، فَأَجَابُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى غَطَفَانَ فَدَعَوْهُمْ فَاسْتَجَابُوا لَهُمْ أَيْضًا، وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ فِي أَحَابِيشِهَا وَمَنْ تَابَعَهَا وَقَائِدُهُمْ (أَبُو سُفْيَانَ) صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَلَى غَطَفَانَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ بَدْرٍ، وَالْجَمِيعُ قَرِيبٌ مِنْ عَشْرَةِ آلَافٍ، فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَسِيرِهِمْ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِمَّا يَلِي الشَّرْقَ، وَذَلِكَ بإشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه، فَعَمِلَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ وَاجْتَهَدُوا وَنَقَلَ مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التُّرَابَ وَحَفَرَ، وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ فَنَزَلُوا شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ قَرِيبًا مِنْ أُحُد، وَنَزَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فِي أَعَالِي أَرْضِ الْمَدِينَةِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ من المسلمين وهم نحو من ثلاثة آلاف، فأسندوا ظهورهم إلى سلع ووجوههم نَحْوِ الْعَدُوِّ، وَالْخَنْدَقُ حَفِيرٌ لَيْسَ فِيهِ مَاءٌ بينهم وبينهم، يحجب الخيالة والرجالة أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِمْ وَجَعَلَ النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ فِي آطَامِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ لَهُمْ حِصْنٌ شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ، وَلَهُمْ عَهْدٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِمَّةٌ، وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ ثَمَانِمِائَةِ مُقَاتِلٍ، فَذَهَبَ إليهم (حيي بن أخطب) فلم يزل بهم حتى نقضوا العهد، ومالأوا الْأَحْزَابَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَظُمَ الْخَطْبُ وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ، وَضَاقَ الْحَالُ، كما قال الله تبارك وتعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} وَمَكَثُوا مُحَاصِرِينَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إليهم، ولم يقع بينهم قتال، ثُمَّ أَرْسَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عَلَى الْأَحْزَابِ ريح شديدة الهبوب قوية حتى لم يبق لَهُمْ خَيْمَةٌ وَلَا شَيْءٌ، وَلَا تُوقَدُ لَهُمْ نَارٌ وَلَا يَقِرُّ لَهُمْ قَرَارٌ، حَتَّى ارْتَحَلُوا خائبين خاسرين، كما قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً} قال مجاهد: وهي الصَّبا، ويؤيده الحديث الشريف: «نصرت بالصَّبا وأهلكت عاد بالدبور» .
وقوله تعالى: {وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} هم الْمَلَائِكَةُ زَلْزَلَتْهُمْ وَأَلْقَتْ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ وَالْخَوْفَ، فكان رئيس كل قبيلة يقولك يَا بَنِي فُلَانٍ إِلَيَّ فَيَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ فَيَقُولُ: النجاء لما ألقى الله عزَّ وجلَّ في قلوبهم من الرعب، روى مسلم في صحيحه عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: لَوْ أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلْتُ مَعَهُ وَأَبْلَيْتُ، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: أَنْتَ كُنْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ؟ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ(2/84)
الْأَحْزَابِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ رِيحٍ شَدِيدَةٍ وَقُرٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا رَجُلٌ يَأْتِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَكُونُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ الثانية، ثم الثالثة مثله، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «يَا حُذَيْفَةُ قُمْ فَأْتِنَا بِخَبَرٍ مِنَ الْقَوْمِ» فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ فَقَالَ: "ائْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلَا تَذْعَرْهُمْ عليَّ، قَالَ فَمَضَيْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ حَتَّى أَتَيْتُهُمْ، فَإِذَا أَبُو سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ، فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ قَوْسِي وَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهِ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ وَلَوْ رَمَيْتُهُ لَأَصَبْتُهُ، قَالَ: فَرَجَعْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَصَابَنِي الْبَرْدُ حِينَ فَرَغْتُ وَقَرَرْتُ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَلْبَسَنِي مِنْ فَضْلٍ عَبَاءَةً كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي فِيهَا فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى الصُّبْحَ، فلما أن أصبحت قال رسول الله عليه وسلم: «قم يا نومان» (أخرجه مسلم في صحيحه) .
وأخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ ابْنِ أَخِي حُذَيْفَةَ قَالَ: ذكر حذيفة رضي الله عنه مَشَاهِدَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ جُلَسَاؤُهُ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شَهِدْنَا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا، فقال حذيفة: لاتمنوا ذَلِكَ لَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ وَنَحْنُ صَافُّونَ قعوداً وَأَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَحْزَابِ فَوْقَنَا، وقريظة لليهود أَسْفَلَ مِنَّا نَخَافُهُمْ عَلَى ذَرَارِينَا، وَمَا أَتَتْ عَلَيْنَا قَطُّ أَشَدُّ ظُلْمَةً وَلَا أَشَدُّ رِيحًا فِي أَصْوَاتِ رِيحِهَا أَمْثَالُ الصَّوَاعِقِ وَهِيَ ظُلْمَةٌ مَا يَرَى أَحَدُنَا إِصْبَعَهُ، فَجَعَلَ الْمُنَافِقُونَ يَسْتَأْذِنُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُونَ: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ، فَمَا يَسْتَأْذِنُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا أَذِنَ لَهُ، وَيَأْذَنُ لَهُمْ فيتسللون ونحن ثلثمائة أو نحو ذلك إذا اسْتَقْبَلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا رَجُلًا، حَتَّى أَتَى عَلَيَّ وَمَا عليَّ من جنة الْعَدْوِ وَلَا مِنَ الْبَرْدِ إِلَّا مِرْطٌ لِامْرَأَتِي مَا يُجَاوِزُ رُكْبَتِي، قَالَ فَأَتَانِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا جَاثٍ عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟» فَقُلْتُ: حُذَيْفَةُ، قَالَ: «حُذَيْفَةُ؟» فَتَقَاصَرْتُ الأرض فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ كَرَاهِيَةَ أَنْ اقوم فَقُمْتُ، فَقَالَ: «إِنَّهُ كَائِنٌ فِي الْقَوْمِ خَبَرٌ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ» قَالَ: وَأَنَا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ فَزَعًا
وَأَشَدِّهِمْ قُرًّا قَالَ: فَخَرَجْتُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ احْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمَنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ» ، قال: فوالله ما خلق الله تعالى فَزَعًا وَلَا قُرًّا فِي جَوْفِي إِلَّا خَرَجَ مِنْ جَوْفِي، فَمَا أُجِدُ فِيهِ شَيْئًا، قَالَ: فلما وليت قال صلى الله عليه وسلم: «يَا حُذَيْفَةُ لَا تُحْدِثَنَّ فِي الْقَوْمِ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي» قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا دَنَوْتُ مِنْ عَسْكَرِ الْقَوْمِ نَظَرْتُ فِي ضَوْءِ نَارٍ لهم توقد، فإذا رَجُلٌ أَدْهَمُ ضَخْمٌ يَقُولُ بِيَدِهِ عَلَى النَّارِ وَيَمْسَحُ خَاصِرَتَهُ وَيَقُولُ: الرَّحِيلَ الرَّحِيلَ وَلَمْ أَكُنْ أعرف أبا سفيان قيل ذَلِكَ، فَانْتَزَعْتُ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي أَبْيَضَ الرِّيشِ، فَأَضَعُهُ فِي كَبِدِ قَوْسِي لِأَرْمِيَهُ بِهِ فِي ضَوْءِ النَّارِ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُحْدِثَنَّ فِيهِمْ شَيْئًا حتى تأتيني» ، قال: فَأَمْسَكْتُ وَرَدَدْتُ سَهْمِي إِلَى كِنَانَتِي ثُمَّ إِنِّي شجعت نفسي حتى دخلت المعسكر، فَإِذَا أَدْنَى النَّاسِ مِنِّي بَنُو عَامِرٍ يَقُولُونَ: يَا آلَ عَامِرٍ الرَّحِيلَ الرَّحِيلَ لَا مُقَامَ لَكُمْ، وَإِذَا الرِّيحُ فِي عَسْكَرِهِمْ مَا تُجَاوِزُ عَسْكَرَهُمْ شِبْرًا، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْمَعُ صَوْتَ الْحِجَارَةِ في رحالهم وفرشهم الرِّيحُ تَضْرِبُهُمْ بِهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ نَحْوَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا انْتَصَفْتُ فِي الطَّرِيقِ أَوْ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ، إِذَا أَنَا بِنَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ فَارِسًا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مُعْتَمِّينَ فَقَالُوا: أَخْبِرْ صَاحِبَكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَفَاهُ الْقَوْمَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى لله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ فِي شَمْلَةٍ يُصَلِّي فَوَاللَّهِ مَا عَدَا أَنْ رَجَعْتُ رَاجَعَنِي الْقُرُّ وَجَعَلْتُ أُقَرْقِفُ، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَهُوَ يُصَلِّي، فَدَنَوْتُ منه، فأسبل علي شملة، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى، فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرَ الْقَوْمِ وأخبرته أني تركتهم يرتحلون، وأنزل الله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله(2/85)
عليكم إذا جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بصيراً} (أخرجه الحاكم والبيهقي في دلائل النبوة) ولأبي داود: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى (أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ في سننه) ؛ وقوله تعالى: {إِذاً جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ} أَيِ الْأَحْزَابُ {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} تقدم عن حذيفة رضي الله عنه أَنَّهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ، {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} أَيْ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَالْفَزَعِ، {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} ظَنَّ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدَّائِرَةَ عَلَى المؤمنين، وقال محمد بن إسحاق: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ كُلَّ ظَنٍّ وَنَجَمَ النِّفَاقُ، حَتَّى قال (معتب بن قشير) : كَانَ مُحَمَّدٌ يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَحَدُنَا لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَذْهَبَ إلا الغائط، وقال الحسن في قوله عز وجلَّ: {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} ظنون مختلفة ظن المنافقون أن محمداً صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ يُسْتَأْصَلُونَ، وَأَيْقَنَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ مَا وَعَدَ اللَّهُ وَرَسُولَهُ حَقٌّ وَأَنَّهُ سَيُظْهِرُهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ولو كره المشركون، وعن أبي سعيد رضي الله عنه قَالَ: قُلْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُ، فَقَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحناجر؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعَمْ، قُولُوا: اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا قَالَ: فَضَرَبَ وُجُوهَ أَعْدَائِهِ بِالرِّيحِ، فَهَزَمَهُمْ بِالرِّيحِ (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الإمام أحمد بمثله) .(2/86)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
- 11 - هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً
- 12 - وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا
- 13 - وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ ذَلِكَ الْحَالِ حِينَ نَزَلَتِ الْأَحْزَابُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَالْمُسْلِمُونَ مَحْصُورُونَ
فِي غَايَةِ الْجُهْدِ وَالضِّيقِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهُمْ، أَنَّهُمُ ابْتُلُوا وَاخْتُبِرُوا وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً، فحينئذٍ ظَهَرَ النِّفَاقُ وَتَكَلَّمَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ، {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} ، أَمَّا الْمُنَافِقُ فَنَجَمَ نِفَاقُهُ، وَالَّذِي قلبه شبهة تنفس بِمَا يَجِدُهُ مِنَ الْوَسْوَاسِ فِي نَفْسِهِ، لِضَعْفِ إِيمَانِهِ وَشِدَّةِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ ضِيقِ الحال، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ} يَعْنِي الْمَدِينَةَ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: "أُرِيتُ فِي الْمَنَامِ دَارَ هِجْرَتِكُمْ أَرْضٌ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ فذهب وَهْلي (وَهْلي: أي ظني) أَنَّهَا هَجَرُ فَإِذَا هِيَ يَثْرِبُ" وَفِي لَفْظٍ المدينة، وقوله: {لا مقام لكم} أي ههنا يَعْنُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَقَامِ الْمُرَابِطَةِ، {فَارْجِعُوا} أَيْ إِلَى بُيُوتِكُمْ ومنازلكم {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي} قال ابن عباس رضي الله عنهما: هُمْ بَنُو حَارِثَةَ، قَالُوا: بُيُوتُنَا نَخَافُ عَلَيْهَا السراق، يَعْنِي اعْتَذَرُوا فِي الرُّجُوعِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ بِأَنَّهَا عورة، أي ليس دونها ما يحجبها من الْعَدُوِّ، فَهُمْ يَخْشَوْنَ عَلَيْهَا مِنْهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} أَيْ لَيْسَتْ كَمَا يَزْعُمُونَ {إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} أَيْ هَرَبًا من الزحف.(2/86)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
- 14 - وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا
- 15 - وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ(2/86)
مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ الله مسؤولا
- 16 - قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا
- 17 - قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سوء أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن
دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا} أَنَّهُمْ لَوْ دَخَلَ عَلَيْهِمُ الْأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ الْمَدِينَةِ وَقُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِهَا، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ وَهِيَ الدُّخُولُ فِي الْكَفْرِ لَكَفَرُوا سَرِيعًا، وَهُمْ لَا يُحَافِظُونَ عَلَى الْإِيمَانِ وَلَا يَسْتَمْسِكُونَ بِهِ مَعَ أَدْنَى خَوْفٍ وَفَزَعٍ (هَكَذَا فَسَّرَهَا قَتَادَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ) ، وَهَذَا ذَمٌّ لَهُمْ فِي غَايَةِ الذَّمِّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى يُذَكِّرُهُمْ بِمَا كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ هَذَا الْخَوْفِ أن لا يُوَلُّوا الْأَدْبَارَ وَلَا يَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ: {وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً} أي وإن الله سَيَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْعَهْدِ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ فِرَارَهُمْ ذَلِكَ لَا يُؤَخِّرُ آجَالَهُمْ وَلَا يُطَوِّلُ أَعْمَارَهُمْ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي تَعْجِيلِ أَخْذِهِمْ غِرَّةً، ولهذا قال تعالى: {وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أَيْ بَعْدَ هربكم وفراركم، ثم قال تعالى: {قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ} أي يمنعكم، {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سواءا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ وَلَا لِغَيْرِهِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مُجِيرٌ وَلَا مُغِيثٌ.(2/87)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
- 18 - قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً
- 19 - أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِالْمُعَوِّقِينَ لِغَيْرِهِمْ من شُهُودِ الْحَرْبِ، وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ أَيْ أَصْحَابِهِمْ وَعُشَرَائِهِمِ وَخُلَطَائِهِمْ {هَلُمَّ إِلَيْنَا} أَيْ إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي الظِّلَالِ وَالثِّمَارِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ {لَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أَيْ بُخَلَاءُ بِالْمَوَدَّةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْكُمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أَيْ فِي الْغَنَائِمِ، {فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أَيْ مِنْ شَدَّةِ خَوْفِهِ وَجَزَعِهِ، وَهَكَذَا خَوْفُ هَؤُلَاءِ الْجُبَنَاءِ مِنَ الْقِتَالِ {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} أَيْ فَإِذَا كَانَ الْأَمْنُ تَكَلَّمُوا كلاماً فصيحاً عالياً، وادعوا لأنفسهم الشجاعة والنجدة، وهم يكذبون في ذلك، قال ابْنُ عَبَّاسٍ: {سَلَقُوكُمْ} أَيِ اسْتَقْبَلُوكُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَّا عِنْدَ الْغَنِيمَةِ فَأَشَحُّ قَوْمٍ وَأَسْوَأُهُ مُقَاسِمَةً أَعْطُونَا أَعْطُونَا، قَدْ شَهِدْنَا مَعَكُمْ، وَأَمَّا عِنْدَ الْبَأْسِ فَأَجَبْنُ قَوْمٍ وَأَخْذُلُهُ لِلْحَقِّ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} أَيْ لَيْسَ فِيهِمْ خَيْرٌ قَدْ جَمَعُوا الْجُبْنَ وَالْكَذِبَ وَقِلَّةَ الْخَيْرِ. فَهُمْ كَمَا قَالَ فِي أَمْثَالِهِمُ الشَّاعِرُ:
أَفِي السلم أعيار (الأعيار: جمع عير وهو الحمار) جَفَاءً وَغِلْظَةً * وَفِي الْحَرْبِ أَمْثَالَ النِّسَاءِ الْعَوَارِكِ؟(2/87)
أي في حال المسالمة كأنهم الحمر، وَفِي الْحَرْبِ كَأَنَّهُمُ النِّسَاءُ الْحُيَّضُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} أَيْ سَهْلًا هيناً عنده.(2/88)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
- 20 - يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً
وَهَذَا أَيْضًا مِنْ صِفَاتِهِمُ الْقَبِيحَةِ في الجبن والخور والخوف، {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ} بَلْ هُمْ قَرِيبٌ مِنْهُمْ وَإِنَّ لَهُمْ عَوْدَةً إِلَيْهِمْ، {وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يسألون عن أبنائكم} أَيْ وَيَوَدُّونَ إِذَا جَاءَتِ الْأَحْزَابُ أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ حَاضِرِينَ مَعَكُمْ فِي الْمَدِينَةِ، بَلْ فِي الْبَادِيَةِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَخْبَارِكُمْ وَمَا كَانَ مِنْ أمرهم مَعَ عَدُوِّكُمْ، {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً} أَيْ وَلَوْ كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ لَمَا قَاتَلُوا مَعَكُمْ إِلَّا قَلِيلًا، لِكَثْرَةِ جُبْنِهِمْ وذلتهم وضعف يقينهم والله سبحانه وتعالى العالم بهم.(2/88)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
- 21 - لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا
- 22 - وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي التَّأَسِّي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر تبارك وتعالى النَّاسُ بِالتَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صبره ومصابراته ومرابطته ومجاهدته، ولهذا قال تعالى للذين تضجروا وَتَزَلْزَلُوا وَاضْطَرَبُوا فِي أَمْرِهِمْ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، الْمُصَدِّقِينَ بِمَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ، وَجَعْلِهِ العاقبة لهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} قَالَ ابن عباس: يعنون قوله تعالى فِي سورة البقرة {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} أَيْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ الَّذِي يَعْقُبُهُ النَّصْرُ الْقَرِيبُ، ولهذا قال تعالى: {وَصَدَقَ الله ورسوله} ، وقوله تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} دَلِيلٌ عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ، ومعنى قوله جلت عظمته: {وَمَا زَادَهُمْ} أَيْ ذَلِكَ الْحَالُ وَالضِّيقُ وَالشِّدَّةُ {إِلاَّ إِيمَاناً} بِاللَّهِ {وَتَسْلِيماً} أَيِ انْقِيَادًا لِأَوَامِرِهِ وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.(2/88)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)
- 23 - مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً
- 24 - لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
لَمَّا ذكر عزَّ وجلَّ عن المنافقين أنهم نقضوا العهد، وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، وَ {صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ} قَالَ بَعْضُهُمْ: أَجْلَهُ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: عَهْدَهُ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ(2/88)
{وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} أَيْ وَمَا غَيَّرُوا عَهْدَ اللَّهِ وَلَا نَقَضُوهُ وَلَا بدلوه. روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نرى هذه الآيات نزلت في أنس بن النضر رضي الله عنه {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ} الآية، وروى الإمام أحمد عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ أَنَسٌ عَمِيَ (أَنَسُ بن النضر) رضي الله عنه، لَمْ يَشْهَدْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَشَقَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم غبت عنه، لئن أراني الله تعالى مَشْهَدًا فِيمَا بَعْدُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليرين الله عزَّ وجلَّ مَا أَصْنَعُ، قَالَ: فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا، فشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُُحد، فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال له أنس رضي الله عنه: يا أبا عمرو أين، واهاً لريح الجنة إني أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ، قَالَ: فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ رضي الله عنه، قال: فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ، فَقَالَتْ أُخْتُهُ عَمَّتِي الرُّبَيِّعُ ابْنَةُ النَّضْرِ: فَمَا عَرَفْتُ أَخِي إِلَّا بِبَنَانِهِ، قال: فنزلت هذه الآية {مِّنَ المؤمنين رجالاً صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} قَالَ: فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ وفي أصحابه رَّضِيَ الله عَنْهُمْ (أخرجه أحمد ورواه مسلم والترمذي والنسائي عن أنس رضي الله عنه بنحوه) . وعن طلحة رضي الله عنه قال: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُحد صَعِدَ الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ تعالى وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَعَزَّى الْمُسْلِمِينَ بِمَا أَصَابَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ وَالذُّخْرِ، ثُمَّ قرأ هذه الآية: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عليه فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} الآية كلها، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فأقبلتُ وعليَّ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ حَضْرَمِيَّانِ فَقَالَ: «أَيُّهَا السَّائِلُ هَذَا مِنْهُمْ» (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ موسى بن طلحة) .
قال مجاهد في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} يعني عهده {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ} يوماً فيه القتال فيصدق في اللقاء، وَقَالَ الْحَسَنُ: {فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ} يَعْنِي مَوْتَهُ عَلَى الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الْمَوْتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يبدل تبديلاً، وقال بعضهم: نحبه نذره، وقوله تعالى: {وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} أَيْ وَمَا غَيَّرُوا عَهْدَهُمْ وَبَدَّلُوا الْوَفَاءَ بِالْغَدْرِ، بَلِ اسْتَمَرُّوا عَلَى مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا نَقَضُوهُ كَفِعْلِ الْمُنَافِقِينَ الذين {عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} ، وقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أَيْ إِنَّمَا يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِالْخَوْفِ وَالزِّلْزَالِ، لِيَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، فَيَظْهَرُ أَمْرُ هَذَا بِالْفِعْلِ وَأَمْرُ هَذَا بِالْفِعْلِ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ كَوْنِهِ، وَلَكِنْ لَا يُعَذِّبُ الْخَلْقَ بِعِلْمِهِ فِيهِمْ، حَتَّى يعملوا بما يعمله منهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أخباركم} ، فَهَذَا عِلْمٌ بِالشَّيْءِ بَعْدَ كَوْنِهِ وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ السَّابِقُ حَاصِلًا بِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَكَذَا قال الله تَعَالَى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطيب} ، ولهذا قال تعالى ههنا: {لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} أَيْ بِصَبْرِهِمْ عَلَى مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ، وَقِيَامِهِمْ بِهِ وَمُحَافَظَتِهِمْ عَلَيْهِ {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ} وَهُمُ النَّاقِضُونَ لِعَهْدِ اللَّهِ المخالفون لأوامره، فاستحقوا بذلك عقابه وعذابه، ولما كانت رحمته ورأفته تبارك وتعالى بِخَلْقِهِ هِيَ الْغَالِبَةُ لِغَضَبِهِ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} .(2/89)
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
- 25 - وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْأَحْزَابِ لَمَّا أَجْلَاهُمْ عَنِ الْمَدِينَةِ بِمَا أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ من الريح والجنود الإلهية، ولولا أن الله جعل رَسُولَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ لَكَانَتْ هَذِهِ الرِّيحُ عَلَيْهِمْ أشد من الريح العقيم
التي أرسلها على عاد، ولكن قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} فسلط عليهم هواء فرّق شملهم، وَرَدَّهُمْ خَائِبِينَ خَاسِرِينَ بِغَيْظِهِمْ وَحَنَقِهِمْ {لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً} لا في الدنيا مِنَ الظَّفَرِ وَالْمَغْنَمِ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ بِمَا تحملوه من الآثام في مبارزة الرسول صلى الله عليه وسلم بالعداوة وهمهم بقتله، وقوله تبارك وتعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} أَيْ لَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى مُنَازَلَتِهِمْ وَمُبَارَزَتِهِمْ حَتَّى يُجْلُوهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ؛ بَلْ كَفَى اللَّهُ وَحْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَأَعَزَّ جنده، وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ فلا شيء بعده» (أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة) ، وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَحْزَابِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الْأَحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ» . وفي قوله عزَّ وجلَّ: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} ، إِشَارَةٌ إِلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ، وَهَكَذَا وَقَعَ بَعْدَهَا لَمْ يَغُزْهُمُ الْمُشْرِكُونَ بَلْ غَزَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي بِلَادِهِمْ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا انْصَرَفَ أهل الْخَنْدَقِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما بَلَغْنَا: «لَنْ تَغْزُوَكُمْ قُرَيْشٌ بَعْدَ عَامِكُمْ هَذَا وَلَكِنَّكُمْ تَغْزُونَهُمْ» ، فَلَمْ تَغْزُ قُرَيْشٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ يَغْزُوهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ تعالى مكة، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} أَيْ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ رَدَّهُمْ خَائِبِينَ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً، وأعز الله الإسلام وأهله، فلخ الحمد والمنة.(2/90)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
- 26 - وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا
- 27 - وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لم تطؤوها وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً
قَدْ تقدم أن (بني قريظة) لما قدمت الْأَحْزَابِ، وَنَزَلُوا عَلَى الْمَدِينَةَ نَقَضُوا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَهْدِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِسِفَارَةِ (حُيَيِّ بن أخطب) لَعَنَهُ اللَّهُ دَخَلَ حِصْنَهُمْ، وَلَمْ يَزَلْ بِسَيِّدِهِمْ (كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ) حَتَّى نَقَضَ الْعَهْدَ، وَقَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: وَيْحَكَ قَدْ جِئْتُكَ بِعِزِّ الدَّهْرِ، أَتَيْتُكَ بِقُرَيْشٍ وَأَحَابِيشِهَا، وَغَطَفَانَ وَأَتْبَاعِهَا، وَلَا يزالون ههنا حَتَّى يَسْتَأْصِلُوا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: بل والله أتيتني بذل الدهر، فَلَمْ يَزَلْ يَفْتِلُ فِي الذِّرْوَةِ وَالْغَارِبِ، حَتَّى أجابه، فَلَمَّا نَقَضَتْ قُرَيْظَةُ وَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَاءَهُ وَشَقَّ عَلَيْهِ وعلى المسلمين جداً، فلما أيده الله تعالى ونصره، وَكَبَتَ الْأَعْدَاءَ وَرَدَّهُمْ خَائِبِينَ بِأَخْسَرِ صَفْقَةٍ، وَرَجَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، وَوَضَعَ النَّاسُ السِّلَاحَ، فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ مِنْ وَعْثَاءِ تِلْكَ الْمُرَابَطَةِ، فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، إذ تبدى له جبريل عليه الصلاة والسلام متعجراً بِعِمَامَةٍ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا قَطِيفَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ، فَقَالَ: أَوَضَعْتَ السِّلَاحَ يَا رَسُولَ الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ» ، قَالَ: لَكِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَضَعْ أَسْلِحَتَهَا، وَهَذَا الْآنَ رُجُوعِي مِنْ طَلَبِ الْقَوْمِ، ثُمَّ قال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة، فَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2/90)
من فوره، وأمر الناس بالميسر إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَكَانَتْ عَلَى أَمْيَالٍ مِنَ المدينة وذلك بعد صلاة الظهر، وقال صلى الله
عليه وسلم: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» ، فَسَارَ النَّاسُ فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلَاةُ فِي الطَّرِيقِ، فَصَلَّى بَعْضُهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَقَالُوا: لَمْ يُرِدْ مِنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ألا تعجيل المسير، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُصَلِّيهَا إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَتَبِعَهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وأعطى الراية لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ نَازَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سلم وَحَاصَرَهُمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْحَالُ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ (سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ) سيد الأوس رضي الله عنه، لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية، فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَدْعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ لِيَحْكُمَ فِيهِمْ، فَلَمَّا أَقْبَلَ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ قَدْ وَطَّئُوا لَهُ عَلَيْهِ جَعَلَ الْأَوْسُ يَلُوذُونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: يَا سَعْدُ إِنَّهُمْ مَوَالِيكَ فَأَحْسِنْ فِيهِمْ، وَيُرَقِّقُونَهُ عَلَيْهِمْ وَيُعَطِّفُونَهُ، وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ، فلما أكثروا عليه قال رضي الله عنه: لقد آن لسعد أن تَأْخُذَهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، فَعَرَفُوا أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَبْقِيهِمْ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْخَيْمَةِ الَّتِي فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» فَقَامَ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَأَنْزَلُوهُ إِعْظَامًا وَإِكْرَامًا وَاحْتِرَامًا لَهُ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِ لِيَكُونَ أَنْفَذَ لِحُكْمِهِ فِيهِمْ، فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ هَؤُلَاءِ - وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ - قَدْ نَزَلُوا عَلَى حكمك فاحكم فيهم بما شئت» فقال رضي الله عنه: وحكمي نافذ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» قَالَ: وَعَلَى مَنْ فِي هَذِهِ الْخَيْمَةِ؟ قال: «نعم» ، قال: وعلى من ههنا، وَأَشَارَ إِلَى الْجَانِبِ الَّذِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» ، فَقَالَ رضي الله عنه: إِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتَلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذُرِّيَّتُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة» ، ثُمَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَخَادِيدِ، فَخُدَّتْ فِي الْأَرْضِ وَجِيءَ بِهِمْ مُكْتَفِينَ، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَكَانُوا مَا بَيْنَ السَّبْعِمِائَةِ إِلَى الثَّمَانِمِائَةِ، وَسَبَى مَنْ لَمْ يُنْبِتْ مِنْهُمْ مع النساء وأموالهم، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم} أَيْ عَاوَنُوا الْأَحْزَابَ وَسَاعَدُوهُمْ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يَعْنِي بَنِي قُرَيْظَةَ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ بَعْضِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانَ قَدْ نَزَلَ آبَاؤُهُمُ الْحِجَازَ قَدِيمًا طَمَعًا فِي اتِّبَاعِ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإِنجيل، {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كفروا به} فعليهم لعنة الله، وقوله تعالى: {من صَيَاصِيهِمْ} يعني حصونهم (وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وقتادة والسدي وغير واحد من السلف) ، {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} وَهُوَ الْخَوْفُ لِأَنَّهُمْ كانوا مالأوا المشركين على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وأخافوا المسلمين وراموا قتلهم فانعكس عليهم الحال، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} فالذين قتلوا هم المقاتلة، والأسراء هم الصغار والنساء، {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} أَيْ جَعَلَهَا لَكُمْ من قتلكم لهم {وَأَرْضاً لم تطأوها} قيل: خيبر، وقيل: مكة، وقيل: فارس والروم، قال ابْنُ جَرِيرٍ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مُرَادًا {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} .(2/91)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
- 28 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا
- 29 - وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أجرا عظيما(2/91)
هذا أمر من الله تبارك وتعالى لرسول الله صلى اله عليه وسلم، بِأَنْ يُخَيِّرَ نِسَاءَهُ بَيْنَ أَنْ يُفَارِقَهُنَّ فَيَذْهَبْنَ إِلَى غَيْرِهِ، مِمَّنْ يَحْصُلُ لَهُنَّ عِنْدَهُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا، وَبَيْنَ الصَّبْرِ عَلَى مَا عِنْدَهُ من ضيق الحال، ولهن عند الله تعالى فِي ذَلِكَ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ، فَاخْتَرْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ وَأَرْضَاهُنَّ، اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فَجَمَعَ الله تعالى لَهُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ بَيْنَ خَيْرِ الدُّنْيَا وَسَعَادَةِ الآخرة، روى البخاري عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهَا حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ تعالى أن يخيَّر أزواجه، قالت: فَبَدَأَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَسْتَعْجِلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ - قالت: وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أبويَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بفراقه - قالت: ثم قال: " إن الله تبارك تعالى قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ} " الْآيَتَيْنِ، قالت عائشة رضي الله عنها فَقُلْتُ أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ الله ورسوله والدار الآخرة (أخرجه البخاري وفي بعض رواياته عن عائشة قَالَتْ: ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم مثل ما فعلت) . وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أُنْزِلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ فَبَدَأَ بِي أَوَّلَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ، فقال صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لا تعجلي حتى تستأمري أبويك» قالت وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بفراقه قالت ثم قال: "إن الله تبارك وتعالى قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ} الْآيَتَيْنِ، قالت عائشة رضي الله عنها فَقُلْتُ أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ. ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ كُلَّهُنَّ، فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ الله عنهن (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه البخاري ومسلم عن الزهري عن عائشة بمثله) .
وروى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قَالَ: أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يستأذن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّاسَ بِبَابِهِ جُلُوسٌ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ رضي الله عنه، فَاسْتَأْذَنَ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، ثُمَّ أَذِنَ لِأَبِي بكر وعمر رضي الله عنهما فَدَخْلَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وحوله نساؤه، وهو صلى الله عليه وسلم ساكت، فقال عمر رضي الله عنه: لأكملن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّهُ يَضْحَكُ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَ ابْنَةَ زَيْدٍ - امْرَأَةَ عُمَرَ - سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ آنِفًا فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَقَالَ: «هُنَّ حَوْلِي يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ» ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى عَائِشَةَ لِيَضْرِبَهَا، وَقَامَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى حَفْصَةَ كِلَاهُمَا يَقُولَانِ: تَسْأَلَانِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ما ليس عنده، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلن: والله لا نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد هَذَا الْمَجْلِسِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، قَالَ: وَأَنْزَلَ الله عزَّ وجلَّ الخيار، فبدأ بعائشة رضي الله عنها فَقَالَ: «إِنِّي أَذْكُرُ لَكِ أَمْرًا مَا أُحِبُّ أَنْ تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ» قَالَتْ وَمَا هُوَ؟ قَالَ فَتَلَا عَلَيْهَا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ} الْآيَةَ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَفِيكَ أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ بَلْ أَخْتَارُ الله تعالى ورسوله، وأسألك أن لا تَذْكُرَ لِامْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِكَ مَا اخْتَرْتُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّفًا وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا، لاتسألني امرأة منهن عما اخترت إلاّ أخبرتها» (أخرجه مسلم والإمام أحمد) ، قوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} أي أعطيكن حقوقكن وأطلق سراحكن، قال عكرمة: وكان تحته يؤمئذ تِسْعُ نِسْوَةٍ، خَمْسٌ مِنْ قُرَيْشٍ (عَائِشَةُ، وَحَفْصَةُ، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة) رضي الله عنهن، وَكَانَتْ تَحْتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةُ بنت حيي النضيرية، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةُ، وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْمُصْطَلِقِيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عنهن وأرضاهن أجمعين.(2/92)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
- 30 - يا نساء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا
- 31 - وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيمًا
يَقُولُ تَعَالَى وَاعِظًا نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اللَّاتِي اخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ والدار الآخرة، بِأَنَّ مَنْ يَأْتِ مِنْهُنَّ {بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} قَالَ ابن عباس: هي النشوز وسوء الخلق، وهذا شَرْطٌ وَالشَّرْطُ لَا يَقْتَضِي الْوُقُوعَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} ، وكقوله {قُلْ إِن كَانَ
لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} ، فلما كانت منزلتهن رَفِيعَةً نَاسَبَ أَنْ يَجْعَلَ الذَّنْبَ لَوْ وَقَعَ منهن مغلظاً، ولهذا قال تعالى: {مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} يعني في الدنيا والآخرة (قاله زيد بن أسلم ومجاهد) ، {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} أَيْ سَهْلًا هنياً، ثُمَّ ذَكَرَ عَدْلَهُ وَفَضْلَهُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ} أي تطع الله ورسوله وتستجب {نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} أَيْ فِي الْجَنَّةِ، فَإِنَّهُنَّ فِي مَنَازِلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، فَوْقَ مَنَازِلِ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ، فِي الْوَسِيلَةِ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ مَنَازِلِ الْجَنَّةِ إِلَى الْعَرْشِ.(2/93)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
- 32 - يا نساء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
- 33 - وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا
- 34 - وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا
هَذِهِ آدَابٌ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَنِسَاءُ الأمة تبع لهن في ذلك) ، بأنهن إذا اتقين الله عزَّ وجلَّ كما أمرهن، فإنه لا يشبهن أَحَدٌ مِنَ النِّسَاءِ وَلَا يَلْحَقُهُنَّ فِي الْفَضِيلَةِ والمنزلة، ثم قال تعالى: {فلاتخضعن بالقول} قال السدي: يَعْنِي بِذَلِكَ تَرْقِيقَ الْكَلَامِ إِذَا خَاطَبْنَ الرِّجَالَ، ولهذا قال تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أَيْ دَغَلٌ، {وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: قَوْلًا حَسَنًا جَمِيلًا مَعْرُوفًا فِي الْخَيْرِ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهَا تُخَاطِبُ الْأَجَانِبَ بِكَلَامٍ لَيْسَ فِيهِ تَرْخِيمٌ، أَيْ لَا تُخَاطِبِ الْمَرْأَةُ الْأَجَانِبَ كَمَا تُخَاطِبُ زوجها، وقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} أَيِ الْزَمْنَ بُيُوتَكُنَّ، فَلَا تَخْرُجْنَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَمِنِ الْحَوَائِجِ الشَّرْعِيَّةِ، الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ بِشَرْطِهِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وليخرجن وهنَّ تفِلات» (تفلات: أي غير متطيبات) وفي رواية: «وبيوتهن خير لهن» وروى الحافظ البزار عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جِئْنَ النِّسَاءُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ الرِّجَالُ بِالْفَضْلِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَا لَنَا عَمَلٌ نُدْرِكُ بِهِ عَمَلَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سبيل اللَّهِ تَعَالَى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قعدت - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - مِنْكُنَّ فِي بَيْتِهَا فَإِنَّهَا تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى» ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المرأة عورة(2/93)
فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ، وَأَقْرَبُ مَا تَكُونُ بروحة ربها وهي في قعر بيتها» (أخرجه الحافظ البزار والترمذي) ، وفي الحديث: «صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا» (أخرجه الحافظ البزار عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً وإسناده جَيِّدٌ) ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَخْرُجُ تَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ الرِّجَالِ فَذَلِكَ تَبَرُّجُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَ قتادة: كانت لهن مشية وتكسر وتغنج فنهى الله تعالى عن ذلك، وقال مقاتل: التبرج أَنَّهَا تُلْقِي الْخِمَارَ عَلَى رَأْسِهَا وَلَا تَشُدُّهُ فَيُوَارِي قَلَائِدَهَا وَقُرْطَهَا وَعُنُقَهَا وَيَبْدُو ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْهَا وَذَلِكَ التَّبَرُّجُ، ثُمَّ عُمَّتْ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ في التبرج.
وقوله تعالى: {وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} نَهَاهُنَّ أَوَّلًا عَنِ الشَّرِّ ثُمَّ أَمَرَهُنَّ بِالْخَيْرِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَهِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَهِيَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ، {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، وَهَذَا مِنْ بَابِ عَطْفِ الْعَامِ على الخاص، وقوله تَعَالَى: {إِنَّمَآ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} نَصٌّ فِي دُخُولِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم في أهل البيت ههنا، لأنهن سبب نزول هذه اللآية، وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً، روى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ كَانَ يُنَادِي فِي السُّوقِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} نَزَلَتْ فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وليس المراد أنهن المراد فقط دون غيرهن، فقد روى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ رضي الله عنه عن ابن عَمٍّ لَهُ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَسَأَلْتُهَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: تَسْأَلُنِي عَنْ رَجُلٍ كَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ تَحْتَهُ ابْنَتُهُ وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ؟ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وحسيناً رَّضِيَ الله عَنْهُمْ فَأَلْقَى عَلَيْهِمْ ثَوْبًا فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا» قَالَتْ: فدنوت منهم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا مِنْ أَهْلِ بيتك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «تنحي فإنك على خير» (أخرجه ابن أبي حاتم) .
وروى مسلم في صحيحه عن يزيد بن حبان قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَحُصَيْنُ بْنُ سَبْرَةَ وَعُمَرُ بن سلمة إلى (زيد بن أرقم) رضي الله عنه، فَلَمَّا جَلَسْنَا إِلَيْهِ قَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: لَقَدْ لَقِيتَ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعْتَ حَدِيثَهُ وَغَزَوْتَ مَعَهُ وَصَلَّيْتَ خَلْفَهُ، لَقَدْ لَقِيَتْ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا، حَدِّثْنَا يَا زَيْدُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي وَاللَّهِ لَقَدْ كَبُرَتْ سِنِّي وَقَدِمَ عَهْدِي وَنَسِيتُ بَعْضَ الَّذِي كُنْتُ أَعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا حَدَّثْتُكُمْ فَاقْبَلُوا وَمَا لَا، فلا تكلفوا فيه، ثُمَّ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى خماً بين مكة والمدينة، فحمد الله تعالى وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَوَعَظَ وَذَكَّرَ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يوشك أن يأتني رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبُ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثِقْلَيْنِ، أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» فحث على كتاب الله عزَّ وجلَّ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ؟ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنْ أَهْلَ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ. قَالَ: ومن هم؟ هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل(2/94)
عباس رضي الله عنهم، قال: كل هؤلاء حرم الصدقة بعده؟ قال: نعم (رواه مسلم في صحيحه) . والذي لَا يَشُكُّ فِيهِ مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاخِلَاتٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ مَعَهُنَّ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ من آيات الله والحكمة} أي واعملن بما ينزل الله تبارك وتعالى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بيوتكن من الكتاب والسنّة، وَاذْكُرْنَ هَذِهِ النِّعْمَةَ الَّتِي خُصِصْتُنَّ بِهَا مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، أَنَّ الْوَحْيَ يَنْزِلُ فِي بُيُوتِكُنَّ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ، وَعَائِشَةُ الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ رضي عنهما أولاهن بهذه النعمة، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ فِي فِرَاشِ امْرَأَةٍ سِوَاهَا، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وسلامه عليه، فَنَاسَبَ أَنَّ تُخَصُّصَ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ، وَأَنَّ تُفْرَدَ بهذه المرتبة الْعَلِيَّةِ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ أَزْوَاجُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ
فَقَرَابَتُهُ أَحَقُّ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ: «وَأَهْلُ بَيْتِي أَحَقُّ» ، وَهَذَا يُشْبِهُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ فَقَالَ: «هُوَ مَسْجِدِي هَذَا» ، فَهَذَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَإِنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ، كَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ ذَاكَ أُسس عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ فَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِتَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ والله أعلم. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} أَيْ بِلُطْفِهِ بكن بلغتن هذه المنزلة، وبخبرته أَعْطَاكُنَّ ذَلِكَ وَخَصَّكُنَّ بِذَلِكَ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: واذكروا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُنَّ بِأَنَّ جَعْلَكُنَّ فِي بُيُوتٍ تُتْلَى فِيهَا آيَاتُ اللَّهِ وَالْحِكْمَةُ، فَاشْكُرْنَ اللَّهَ تعالى عَلَى ذَلِكَ وَاحْمِدْنَهُ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خبيراً} أي إذا لُطْفٍ بِكُنَّ إِذْ جَعَلَكُنَّ فِي الْبُيُوتِ الَّتِي تتلى فيها آيات الله وَالْحِكْمَةُ وَهِيَ (السُّنَّةُ) خَبِيرًا بِكُنَّ إِذِ اخْتَارَكُنَّ لرسوله أزواجاً.(2/95)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
- 35 - إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً
عن أم سلمة رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ: مَا لِي أَسْمَعُ الرِّجَالَ يُذْكَرُونَ فِي الْقُرْآنِ، وَالنِّسَاءُ لَا يُذْكَرْنَ؟ فَأَنْزَلَ الله تعالى: {إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} (رواه النسائي في سننه عن أم سلمة رضي الله عنها) . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَهُ يَذْكُرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَذْكُرُ المؤمنات؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّ المسلمين والمسلمات} الآية (أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما) . وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَخَصُّ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ في قلوبكم} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» فَيَسْلُبُهُ الْإِيمَانَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كُفْرُهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أخص منه. وقوله تعالى: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} الْقُنُوتُ هُوَ الطَّاعَةُ فِي سُكُونٍ، قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ(2/95)
الليل ساجداً وقائماً} ، وقال تعالى: {كُلُّ له قانتون} فالإسلام بعده مرتبة يرتقي إليها وهو {الإيمان} ثم القنوت ناشىء عَنْهُمَا {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} هَذَا فِي الْأَقْوَالِ فَإِنَّ الصدق خصلة محمودة، وَهُوَ عَلَامَةٌ عَلَى الْإِيمَانِ كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ أَمَارَةٌ عَلَى النِّفَاقِ؛ وَمَنْ صَدَقَ نَجَا، «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ» الحديث. {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} هَذِهِ سَجِيَّةُ الْأَثْبَاتِ، وَهِيَ الصَّبْرُ على المصائب، والعلم [ان المقدر كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَتَلَقِّي ذَلِكَ بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وإنما الصبر عند الصدمة الأولى، أي أصبعه فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ ثُمَّ مَا بَعْدَهُ أَسْهَلُ منه وهو صدق السجية وثباتها {والخاشعين والخاشعين} الخشوع هو السُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ وَالتُّؤَدَةُ وَالْوَقَارُ وَالتَّوَاضُعُ، وَالْحَامِلُ عَلَيْهِ الخوف من الله تعالى وَمُرَاقَبَتُهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} الصَّدَقَةُ هِيَ الْإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ المحاويج الضعفاء الذين لا كسب لهم، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّهِ - فَذَكَرَ مِنْهُمْ - وَرَجُلٌ تصدَّق بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الماء النار» والأحاديث في الحث عليها كثيرة جداً.
{والصائمين والصائمات} والصوم زكاة البدن، يزكيه ويطهره وينقيه من الأخلاط الرديئة، كما قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ دَخَلَ فِي قوله تعالى: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} وَلَمَّا كَانَ الصَّوْمُ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى كَسْرِ الشَّهْوَةِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ بَعْدَهُ {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} أَيْ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالْمَآثِمِ إِلَّا عَنِ الْمُبَاحِ، كما قال عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ، وقوله تعالى: {والذاكرين الله كثيراً والذكرات} ، روى ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إذ أَيْقَظَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ كانا تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ» (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه بمثله) . وفي الحديث: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعُهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ تَعَاطِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ غَدًا فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: «ذكر الله عزَّ وجلّ» (أخرجه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل مرفوعاً) وروي أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَقَالَ: أَيُّ الْمُجَاهِدِينَ
أَعْظَمُ أَجْرًا يَا رَسُولَ الله؟ قال رسول الله عليه وسلم: «أكثرهم لله تعالى ذِكْرًا» ، قَالَ: فَأَيُّ الصَّائِمِينَ أَكْثَرُ أَجْرًا؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أكثرهم لله عزَّ وجل ذِكْرًا» ثُمَّ ذَكَرَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْحَجَّ وَالصَّدَقَةَ، كل ذلك يقول رسول الله صلى اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ ذِكْرًا» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ذَهَبَ الذَّاكِرُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أجل» (أخرجه الإمام أحمد في المسند) . وقوله تعالى: {أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} خبر عن هؤلاء المذكورين كلهم، أي أن الله تعالى قد أعد لهم أي هيأ لهم {مَّغْفِرَةً} منه لذنوبهم و {أجراً عَظِيماً} وَهُوَ الْجَنَّةُ.(2/96)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
- 36 - وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مبينا
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (زينب بنت جحش) لزيد بن حارثة رضي الله عنه، فَاسْتَنْكَفَتْ مِنْهُ، وَقَالَتْ: أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ حَسَبًا، وكانت امرأة فيها حدة، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ} الْآيَةَ كُلَّهَا (وهكذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل أنها نزلت في (زينب بنت جحش) حِينَ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لمولاه زيد بن حارثة) ، وقال عبد الرحمن بْنِ أَسْلَمَ: نَزَلَتْ فِي (أُمِّ كُلْثُومِ) بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ رضي الله عنها، وَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ مِنَ النِّسَاءِ يَعْنِي بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فَوَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُ، فَزَوَّجَهَا زيد بن حارثة رضي الله عنه يَعْنِي - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - بَعْدَ فِرَاقِهِ زَيْنَبَ، فَسَخِطَتْ هِيَ وَأَخُوهَا، وَقَالَا: إِنَّمَا أَرَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَزَوَّجَنَا عَبْدَهُ، قَالَ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً} إِلَى آخِرِ الآية، وروى الإمام أحمد عن أنَس رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى (جُلَيْبِيبٍ) امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى أَبِيهَا فقال: حتى أستأمر أمها، فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم إِذًا» قَالَ، فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَذَكَرَ لها، فقالت: لاها الله إذن مَا وَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا جُلَيْبِيبًا، وَقَدْ مَنَعْنَاهَا مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، قَالَ: وَالْجَارِيَةُ فِي سِتْرِهَا تَسْمَعُ، قَالَ فانطلق الرجل يريد أن يخبر رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَرُدُّوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ، إِنْ كَانَ قَدْ رَضِيَهُ لَكُمْ فَأَنْكِحُوهُ، قَالَ: فَكَأَنَّهَا جَلَّتْ عَنْ أَبَوَيْهَا، وَقَالَا: صَدَقْتِ، فَذَهَبَ أَبُوهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ رضيته فقد رضيناه، قال صلى الله عليه وسلم: «فَإِنِّي قَدْ رَضِيتُهُ» ، قَالَ: فَزَوَّجَهَا، ثُمَّ فَزِعَ أهل المدينة فركب جليبيب فوجوده قَدْ قُتِلَ، وَحَوْلُهُ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ قتلهم، قال أنس رضي الله عنه: فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا وَإِنَّهَا لَمِنْ أَنْفَقِ بَيْتٍ بِالْمَدِينَةِ (أخرجه أفمام أحمد عن أنس رضي الله عنه) . وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (الِاسْتِيعَابِ) أَنَّ الْجَارِيَةَ لَمَّا قَالَتْ فِي خِدْرِهَا: أَتَرُدُّونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أمره؟ نزلت هَذِهِ الْآيَةِ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عن طاووس قَالَ: إِنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَنَهَاهُ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا حَكَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِشَيْءٍ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُ وَلَا اختيار لأحد ههنا ولا رأي ولا قول، كما قال تبارك وتعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} ، وَفِي الْحَدِيثِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ» ، وَلِهَذَا شَدَّدَ فِي خِلَافِ ذَلِكَ فَقَالَ: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً} ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أليم} .(2/97)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
- 37 - وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ(2/97)
فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عن نبيه صلى الله عليه وسلم، أنه قال لمولاه (زيد بن حارثة) رضي الله عنه، وَهُوَ الَّذِي (أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ) أَيْ بِالْإِسْلَامِ ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} أَيْ بِالْعِتْقِ مِنَ الرِّقِّ، وَكَانَ سَيِّدًا كَبِيرَ الشَّأْنِ جَلِيلَ الْقَدْرِ، حَبِيبًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهُ (الْحِبُّ) وَيُقَالُ لِابْنِهِ أُسَامَةَ (الْحِبُّ ابْنُ الْحِبِّ) قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سَرِيَّةٍ إِلَّا أَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ عَاشَ بَعْدَهُ لاستخلفه (أخرجه الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ زَوَّجَهُ بِابْنَةِ عَمَّتِهِ (زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ) الأسدية رضي الله عنها، وَأَصْدَقَهَا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا وَخِمَارًا وَمِلْحَفَةً ودرعاً، فَمَكَثْتُ عِنْدَهُ قَرِيبًا مِنْ سَنَةٍ أَوْ فَوْقَهَا، ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَهُمَا فَجَاءَ زَيْدٌ يَشْكُوهَا إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لَهُ::أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ" قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} . روى ابن أبي حاتم عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ قَالَ: سألني علي بن الحسين رضي الله عنهما ما يقول الحسن في قوله تَعَالَى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} ، فذكرت له، فقال: لا، ولكن الله تعالى أَعْلَمَ نَبِيَّهُ أَنَّهَا سَتَكُونُ مِنْ أَزْوَاجِهِ قَبْلَ أن يتزوجها، فلما أتاه زيد رضي الله عنه لِيَشْكُوَهَا إِلَيْهِ قَالَ: «اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» فَقَالَ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنِّي مُزَوِّجُكَهَا وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ.
وروى ابن جرير عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَوْ كَتَمَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تعالى لِكَتَمَ {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} الْوَطَرُ: هُوَ الْحَاجَةُ وَالْأَرَبُ، أَيْ لَمَّا فَرِغَ مِنْهَا وَفَارَقَهَا زَوَّجْنَاكَهَا، وَكَانَ الَّذِي وَلِيَ تَزْوِيجَهَا مِنْهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِ أن يدخل عليها بلا ولي ولا عقد ولا مهر ولا شهود من البشر، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ: «اذْهَبْ فَاذْكُرْهَا عليَّ» فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَاهَا وَهِيَ تُخَمِّرُ عَجِينَهَا قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهَا عَظُمَتْ فِي صَدْرِي، حَتَّى مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْظُرَ إِلَيْهَا وأقول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقي، وَقُلْتُ: يَا زَيْنَبُ أَبْشِرِي أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُكِ، قَالَتْ: مَا أنا بصانعة شيئا حتى أؤمر رَبِّي عزَّ وجلَّ، فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدِهَا، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، وَجَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا حِينَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأطعمنا عَلَيْهَا الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ، فَخَرَجَ النَّاسُ وَبَقِيَ رِجَالٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي الْبَيْتِ بَعْدَ الطَّعَامِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّبَعَتْهُ، فَجَعَلَ صلى الله عليه
وسلم يَتَتَبَّعُ حُجِرَ نِسَائِهِ يُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ وَيَقُلْنَ: يَا رسول الله فكيف وَجَدْتَ أَهْلَكَ؟ فَمَا أَدْرِي أَنَا أَخْبَرْتُهُ أَنَّ القوم قد خرجوا أو أخبر، فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ فَذَهَبْتُ أَدْخَلَ مَعَهُ، فَأَلْقَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَنَزَلَ الْحِجَابُ وَوَعَظَ الْقَوْمَ بِمَا وُعِظُوا بِهِ {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يؤذن لكم} الآية كلها (أخرجه الإمام أحمد ورواه مسلم والنسائي بنحوه) ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "إِنَّ زينب بنت جحش رضي الله عنها كَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ، وَزَوَّجَنِي اللَّهُ تعالى من فوق سبع سماوات" (أخرجه البخاري في صحيحه عن أنَس بن مالك) وقوله تعالى: {لِّكَيْلاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ(2/98)
أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً} أَيْ إِنَّمَا أَبَحْنَا لَكَ تَزْوِيجَهَا وَفَعَلْنَا ذَلِكَ لِئَلَّا يَبْقَى حَرَجٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَزْوِيجِ مُطَلَّقَاتِ الْأَدْعِيَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ قَدْ تَبَنَّى (زَيْدَ بن حارثة) رضي الله عنه، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ (زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ) فَلَمَّا قطع الله تعالى هَذِهِ النِّسْبَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أنباءكم} زاد ذلك بياناً وتأكيداً بوقوع رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها لَمَّا طَلَّقَهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى في آية التحريم {وَحَلاَئِلُ أبناءكم الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} لِيَحْتَرِزَ مِنَ الِابْنِ الدَّعِيِّ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ كثيراً فيهم، وقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} أَيْ وَكَانَ هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي وَقَعَ قَدْ قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحَتَّمَهُ، وَهُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، كَانَتْ زَيْنَبُ رضي الله عنها فِي عِلْمِ اللَّهِ سَتَصِيرُ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/99)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)
- 38 - مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا
يَقُولُ تَعَالَى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} أَيْ فِيمَا أَحَلَّ لَهُ وَأَمَرَهُ بِهِ مِنْ تَزْوِيجِ زينب رضي الله عنها التي طلقها دعيه زيد بن حارثة رضي الله عنه، وقوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} أي هذا حكم الله تعالى فِي الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ لِيَأْمُرَهُمْ بِشَيْءٍ وعليهم في ذلك حرج، وهذا رد مَنْ تَوَهَّمَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ نَقْصًا فِي تَزْوِيجِهِ امْرَأَةَ زَيْدٍ مَوْلَاهُ وَدَعِيِّهِ الَّذِي كَانَ قَدْ تَبَنَّاهُ، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} أَيْ وَكَانَ أَمْرُهُ الَّذِي يُقَدِّرُهُ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ، وَوَاقِعًا لَا مَحِيدَ عَنْهُ وَلَا مَعْدَلَ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.(2/99)
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
- 39 - الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً
- 40 - مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شيء عليما
يمدح تبارك وتعالى {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ} أَيْ إِلَى خَلْقِهِ ويؤدونها بأماناتها {وَيَخْشَوْنَهُ} أَيْ يَخَافُونَهُ وَلَا يَخَافُونَ أَحَدًا سِوَاهُ، فَلَا تَمْنَعُهُمْ سَطْوَةُ أَحَدٍ عَنْ إِبْلَاغِ رِسَالَاتِ الله تعالى {وكفى بالله حَسِيباً} أي وكفى الله نَاصِرًا وَمُعِينًا، وَسَيِّدُ النَّاسِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، بَلْ وَفِي كُلِّ مَقَامٍ (مُحَمَّدٍ) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ قَامَ بِأَدَاءِ الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب، ثُمَّ وَرِثَ مَقَامَ الْبَلَاغِ عَنْهُ أُمَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَكَانَ أَعْلَى مَنْ قَامَ بِهَا بَعْدَهُ أَصْحَابُهُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، بَلَّغُوا عَنْهُ كَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وَحَضَرِهِ وَسَفَرِهِ، وَسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ، ثُمَّ وَرِثَهُ كُلُّ خَلَفٍ عَنْ سَلَفِهِمْ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، فَبِنُورِهِمْ يقتدي المهتدون، وعلى منهجهم يسلك الموفقون، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُحَقِّرَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنْ يَرَى أَمْرَ اللَّهِ فِيهِ مَقَالٌ ثُمَّ لَا يَقُولُهُ، فَيَقُولُ الله: ما يمنعك أن تقول منه، فَيَقُولُ رَبِّ خَشِيتُ النَّاسَ فَيَقُولُ فَأَنَا أَحَقُّ أن يخشى" (أخرجه أحمد ورواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري) . وقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} نهى أَنَّ يُقَالَ بَعْدَ هَذَا (زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ) أَيْ لَمْ يَكُنْ أَبَاهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تبناه، فإنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعِشْ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ حَتَّى بَلَغَ الحلم، فإنه صلى الله عليه وسلم وُلِدَ لَهُ الْقَاسِمُ وَالطَّيِّبُ وَالطَّاهِرُ مِنْ خَدِيجَةَ رضي الله عنها فماتوا صغاراً، وولد له صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمُ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ، فَمَاتَ أَيْضًا رَضِيعًا، وكان له صلى الله عليه وسلم مِنْ خَدِيجَةَ أَرْبَعُ بَنَاتٍ: زَيْنَبُ وَرُقَيَّةُ وَأُمُّ كُلْثُومٍ وَفَاطِمَةُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، فَمَاتَ في حياته صلى الله عليه وسلم ثلاث، وتأخرت فاطمة(2/99)
رضي الله عنها حتى أصيبت به صلى الله عليه وسلم ثم ماتت بعده لستة أشهر، وقوله تعالى: {وَلَكِنْ رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} فَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَإِذَا كَانَ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ فَلَا رسول بعده بالطريق الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، لِأَنَّ مَقَامَ الرِّسَالَةِ أَخَصُّ مِنْ مقام النبوة.
وَبِذَلِكَ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. روى الإمام أحمد عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلِي فِي النَّبِيِّينَ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَحْسَنَهَا وَأَكْمَلَهَا وَتَرَكَ فِيهَا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ لَمْ يَضَعْهَا فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِالْبُنْيَانِ وَيَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ: لَوْ تَمَّ مَوْضِعُ هَذِهِ اللَّبِنَةِ؟ فَأَنَا فِي النَّبِيِّينَ مَوْضِعُ تلك اللبنة" (أخرجه الإمام أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح) . حديث آخر: روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ فَلَا رَسُولَ بَعْدِي وَلَا نَبِيَّ» قَالَ فَشَقَّ ذَلِكَ على الناس فقال: «وَلَكِنَّ الْمُبَشِّرَاتِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: «رُؤْيَا الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ وَهِيَ جُزْءٌ من أجزاء النبوة» (أخرجه أحمد والترمذي) ، حديث آخر: روى أبو داود الطيالسي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَكْمَلَهَا وَأَحْسَنَهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ فَكَانَ مَنْ دَخَلَهَا فَنَظَرَ إِلَيْهَا قَالَ: مَا أَحْسَنَهَا إِلَّا مَوْضِعَ هَذِهِ اللَّبِنَةِ، فَأَنَا مَوْضِعُ اللبنة ختم بي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام" (أخرجه الطيالسي ورواه البخاري ومسلم والترمذي بنحوه) . حديث آخر: قال الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رجل ابتنى بيوتاً فأكملها وأحسنها وَأَجْمَلَهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ وَيُعْجِبُهُمُ الْبُنْيَانُ وَيَقُولُونَ ألا وضعت ههنا لَبِنَةً فَيَتِمُّ بُنْيَانُكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكنت أنا اللبنة، حديث آخر، قال الإمام أحمد عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قَالَ، قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لمنجدل في طينته» . حديث آخر: عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "إن لي أسماء: أنا أَسْمَاءٌ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الذي
يمحو الله تعالى بِهِ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ" (أخرجاه في الصحيحين عن طريق الزهري) . فَمِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادِ إِرْسَالُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، ثُمَّ مِنْ تَشْرِيفِهِ لَهُمْ خَتْمُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ بِهِ، وَإِكْمَالُ الدِّينِ الْحَنِيفِ لَهُ، وَقَدْ أخبر تبارك وتعالى في كتابه العزيز أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ لِيَعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ مَنِ ادَّعَى هَذَا الْمَقَامَ بَعْدَهُ فَهُوَ كَذَّابٌ أفاك دجال، ضال مضل.(2/100)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
- 41 - يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا
- 42 - وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً
- 43 - هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً
- 44 - تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيمًا
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عباد المؤمنين بكثرة الذكر لربهم تبارك وتعالى، المنعم عليهم بأنواع النعم وصنوف المنن، لما(2/100)
لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ، وَجَمِيلِ المآب، روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكارها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرَقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ» ؟ قَالُوا: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «ذكر الله عزَّ وجلَّ» (أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه) . وعن عبد الله بن بشر قال: جَاءَ أَعُرَابِيَّانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أي الناس خير؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ» ، وَقَالَ الْآخَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا فَمُرْنِي بِأَمْرٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:
«لايزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى» (أخرجه الإمام أحمد وروى الترمذي وابن ماجه الفصل الأخير منه) . وفي الحديث: «أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقولوا مجنون» (أخرجه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً) ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ قَوْمٍ جَلَسُوا مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا الله تعالى فيه إلا رأوه حسرة يوم القيامة» (أخرجه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً) ، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذكرا كَثِيراً} إن الله تعالى لَمْ يَفْرِضْ عَلَى عِبَادِهِ فَرِيضَةً، إِلَّا جَعَلَ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا، ثُمَّ عَذَرَ أَهْلَهَا فِي حال العذر غير الذكر، فإن الله تعالى لَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَلَمْ يَعْذُرْ أَحَدًا فِي تَرْكِهِ إِلَّا مَغْلُوبًا عَلَى تركه فقال: {اذكروا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جنوبكم} بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَفِي السِّفْرِ والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال. وقال عزَّ وجلَّ: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} فَإِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ صَلَّى عَلَيْكُمْ هُوَ وَمَلَائِكَتُهُ، وَالْأَحَادِيثُ وَالْآيَاتُ وَالْآثَارُ فِي الحث على ذكر الله تعالى كثيرة جداً (صنف العلماء في الأذكار كتباً كثيرة ومن أحسنها كتاب (الأذكار) للإمام النووي) .
وقوله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أَيْ عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ، كقوله عزَّ وجلَّ: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} ، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ} هَذَا تَهْيِيجٌ إِلَى الذِّكْرِ، أَيْ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَذْكُرُكُمْ فَاذْكُرُوهُ أنتم، كقوله عزَّ وجلَّ: {فاذكروني أَذْكُرْكُمْ واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} ، وَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، ومَن ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خير منه» والصلاة من الله تعالى: ثَنَاؤُهُ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ، حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عن أبي العالية، وقال غيره: الصلاة من الله عزَّ وجلَّ: الرحمة، وَأَمَّا الصَّلَاةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَبِمَعْنَى الدُّعَاءِ لِلنَّاسِ والاستغفار، كقوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينِ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم} ، وقوله تعالى: {لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أَيْ بِسَبَبِ رَحْمَتِهِ بِكُمْ وَثَنَائِهِ عَلَيْكُمْ وَدُعَاءِ مَلَائِكَتِهِ لَكُمْ، يُخْرِجُكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ إِلَى نُورِ الْهُدَى وَالْيَقِينِ، {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ هَدَاهُمْ إلى الحق وبصّرهم الطريق، الذي ضل عنه الدعاة إلى الكفر أو البدعة، وَأَمَّا رَحْمَتُهُ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَآمَنَهُمْ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَأَمَرَ مَلَائِكَتَهُ يَتَلَقَّوْنَهُمْ بِالْبِشَارَةِ بِالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لمحبته لهم ورأفته بهم. روى الإمام البخاري عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ(2/101)
عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى امْرَأَةً مِنَ السَّبْيِ، قَدْ أَخَذَتْ صَبِيًّا لَهَا، فَأَلْصَقَتْهُ إِلَى صَدْرِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَرَوْنَ هَذِهِ تُلْقِي وَلَدَهَا فِي النَّارِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ؟» قالوا: لا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فواللَّهِ، للهُ
أرحمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا، وقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} أي تحيتهم مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ، أَيْ يوم يسلم عليهم، كما قال عزَّ وجلَّ: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رحيم} وقال قتادة: الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامِ يَوْمَ يَلْقَوْنَ اللَّهَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. (قُلْتُ) : وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وقوله تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} يَعْنِي الْجَنَّةَ وَمَا فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والملاذ والمناظر مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
- 45 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً
- 46 - وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا
- 47 - وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا
- 48 - وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً
عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ، قَالَ: أَجَلْ، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته فِي الْقُرْآنِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} ، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ ولا سخَّاب (سخّاب: أي كثير الصخب وهو الذي يرفع صوته في الأسواق) فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ، وَلَكِنْ يعفو ويصفح وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً (أخرجه البخاري والإمام أحمد عن عطاء بن يسار) . وقال وهب بن منبه: إن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ (شِعِيَاءُ) أَنْ قُمْ فِي قَوْمِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنِّي مَنْطِقٌ لِسَانَكَ بِوَحْيٍ، وأبعث أمياً من الأميين، أبعثه لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، لَوْ يَمُرُّ إِلَى جَنْبِ سِرَاجٍ لَمْ يُطْفِئْهُ مِنْ سَكِينَتِهِ، وَلَوْ يَمْشِي عَلَى الْقَصَبِ لَمْ يُسْمَعْ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ، أَبْعَثُهُ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، لَا يَقُولُ الْخَنَا، أَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا كُمْهًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا، أُسَدِّدُهُ لِكُلِّ أَمْرٍ جَمِيلٍ، وَأَهَبُ لَهُ كُلَّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، وَأَجْعَلُ السَّكِينَةَ لِبَاسَهُ، والبِّر شِعَارَهُ، وَالتَّقْوَى ضَمِيرَهُ، وَالْحِكْمَةَ مَنْطِقَهُ، وَالصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ طَبِيعَتَهُ، وَالْعَفْوَ وَالْمَعْرُوفَ خُلُقَهُ، وَالْحَقَّ شَرِيعَتَهُ، وَالْعَدْلَ سِيرَتَهُ، وَالْهُدَى إِمَامَهُ، وَالْإِسْلَامَ مِلَّتَهُ، وَأَحْمَدَ اسْمَهُ، أَهْدِي بِهِ بَعْدَ الضلال، وأعلِّم بِهِ بَعْدَ الْجَهَالَةِ، وَأَرْفَعُ بِهِ بَعْدَ الْخَمَالَةِ، وَأُعْرَفُ بِهِ بَعْدَ النُّكْرَةِ، وَأُكْثِّرُ بِهِ بَعْدَ الْقِلَّةِ، وَأُغْنِي بِهِ بَعْدَ الْعَيْلَةِ، وَأَجْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، وَأُؤَلِّفُ بِهِ بَيْنَ أُمَمٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَقُلُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَهْوَاءٍ مُتَشَتَّتَةٍ، وَأَسْتَنْقِذُ بِهِ فِئَامًا مِنَ النَّاسِ عَظِيمَةً مِنَ الْهَلَكَةِ، وَأَجْعَلُ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، مُوَحِّدِينَ مُؤْمِنِينَ مُخْلِصِينَ، مُصَدِّقِينَ لِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلِي، أُلْهِمُهُمُ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ، وَالثَّنَاءَ وَالتَّكْبِيرَ وَالتَّوْحِيدَ، فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَمَضَاجِعِهِمْ وَمُنْقَلَبِهِمْ وَمَثْوَاهُمْ، يُصَلُّونَ(2/102)
لِي قِيَامًا وَقُعُودًا، وَيُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صُفُوفًا وَزُحُوفًا، وَيُخْرِجُونَ مِنْ دِيَارِهِمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي أُلُوفًا، يُطَهِّرُونَ الْوُجُوهَ وَالْأَطْرَافَ، وَيَشُدُّونَ الثِّيَابَ فِي الْأَنْصَافِ، قُرْبَانُهُمْ دِمَاؤُهُمْ، وَأَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ، رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ، لُيُوثٌ بِالنَّهَارِ، وَأَجْعَلُ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وذريته السابقين والصديقين، والشهداء الصالحين، أُمَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ، وأعز مَنْ نَصَرَهُمْ وَأُؤَيِّدُ مَنْ دَعَا لَهُمْ، وَأَجْعَلُ دائرة السوء على ما خَالَفَهُمْ، أَوْ بَغَى عَلَيْهِمْ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَ شَيْئًا مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ، أَجْعَلُهُمْ وَرَثَةً لِنَبِيِّهِمْ، وَالدَّاعِيَةَ إِلَى رَبِّهِمْ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُوفُونَ بعهدهمن أَخْتِمُ بِهِمُ الْخَيْرَ الَّذِي بَدَأْتُهُ بِأَوَّلِهِمْ، ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ، وَأَنَا ذُو الْفَضْلِ العظيم (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ رحمة الله) .
وقال ابن عباس: لَمَّا نَزَلَتْ: {يِا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} وَقَدْ كَانَ أَمَرَ عَلِيًّا ومعاذاً رضي الله عنهما أَنْ يَسِيرَا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: "انْطَلِقَا فَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، إِنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عليَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} (رواه ابن أبي حاتم والطبراني) ". فقوله تعالى {شَاهِداً} أَيْ لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَعَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} ، كَقَوْلِهِ: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} ، وقوله عزَّ وجلَّ {وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} أَيْ بَشِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِجَزِيلِ الثَّوَابِ، ونذيراً للكافرين من وبيل العقاب، وقوله جلت عظمته {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} أَيْ دَاعِيًا لِلْخَلْقِ إلى عبادة ربهم، {وَسِرَاجاً مُّنِيراً} أَيْ وَأَمْرُكَ ظَاهِرٌ فِيمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ كَالشَّمْسِ فِي إِشْرَاقِهَا وَإِضَاءَتِهَا لا يجحدها إلا معاند. وقوله جلَّ وعلا: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} أَيْ لا تطعهم وتسمع مِنْهُمْ فِي الَّذِي يَقُولُونَهُ، {وَدَعْ أَذَاهُمْ} أَيِ اصْفَحْ وَتَجَاوَزْ عَنْهُمْ وَكِلْ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ تعالى، ولهذا قال جلَّ جلاله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} .(2/103)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
- 49 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلًا
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا إِطْلَاقُ النِّكَاحِ عَلَى الْعَقْدِ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَصْرَحُ فِي ذَلِكَ منها، لقوله تبارك وتعالى: {مِنْ قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} وَفِيهَا دَلَالَةٌ لِإِبَاحَةِ طلاق المرأة قبل الدخول بها، وقوله تعالى: {الْمُؤْمِنَاتِ} خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، إِذْ لَا فَرْقَ الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُؤْمِنَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ فِي ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ، وقد استبدل ابن عباس وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا إِذَا تَقَدَّمَهُ نِكَاحٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} فعقب النكاح بالطلاق، وهذا مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل، وذهب مالك وأبو حنيفة إِلَى صِحَّةِ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ، فِيمَا إِذَا قَالَ: إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةً فَهِيَ طَالِقٌ، فَعِنْدَهُمَا متى تزوجها طلقت مِنْهُ، فَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَاحْتَجُّوا عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قَالَ: إِذَا قَالَ (كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طالق) لَيْسَ بِشَيْءٍ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ(2/103)
آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} أَلَا تَرَى أن الطلاق بعد النِّكَاحِ؟ وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «لَا طَلَاقَ لِابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ» (أخرجه أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ الترمذي: حديث حسن وهو أحسن شيء في هذا الباب) وفي رواية: «لاطلاق قبل النكاح» (أخرجه ابن ماجه عن المسور بن مخزمة) ، وقوله عزَّ وجلَّ: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} هَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فَتَذْهَبُ فَتَتَزَوَّجُ فِي فَوْرِهَا مَنْ شَاءَتْ، ولا يستثنى من هذا إلا المتوقي عَنْهَا زَوْجُهَا فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا بِالْإِجْمَاعِ أيضاً. وقوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} المتعة هنا أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ نِصْفَ الصَّدَاقِ الْمُسَمَّى أَوِ الْمُتْعَةُ الْخَاصَّةُ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَمَّى لَهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فرضتم} وقال عزَّ وجلَّ: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين} . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم تزوج (أميمة بنت شراحيل) فلما أن دخلت عليه صلى الله عليه وسلم بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا فَكَأَنَّهَا كَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ أَبَا أَسِيدٍ أَنْ يُجَهِّزَهَا وَيَكْسُوَهَا ثَوْبَيْنِ رَازِقِيَّيْنِ. قال علي بن أبي طلحة: إِنْ كَانَ سَمَّى لَهَا صَدَاقًا فَلَيْسَ لَهَا إِلَّا النِّصْفُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا صداقاً أمتعها عَلَى قَدْرِ عُسْرِهِ وَيُسْرِهِ وَهُوَ السَّرَاحُ الْجَمِيلُ.(2/104)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
- 50 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
يَقُولُ تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم، بِأَنَّهُ قَدْ أَحَلَّ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ أَزْوَاجَهُ اللاتي أعطاهن مهورهن وهي الأجور ههنا كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَدْ كَانَ مهره لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونصف، فَالْجَمِيعُ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَّا (أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ) فَإِنَّهُ أَمْهَرَهَا عَنْهُ النَّجَاشِيُّ رَحِمَهُ الله تعالى أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، وَإِلَّا (صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ) فَإِنَّهُ اصْطَفَاهَا مِنْ سَبْيِ خَيْبَرَ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا، وَكَذَلِكَ (جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ) الْمُصْطَلِقِيَّةُ أَدَّى عَنْهَا كِتَابَتَهَا إِلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بن شماس وتزوجها - رَّضِيَ الله عَنْهُمْ أجمعين - وقوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} أَيْ وَأَبَاحَ لَكَ التَّسَرِّي مِمَّا أَخَذْتَ مِنَ الْمَغَانِمِ، وَقَدْ مَلَكَ صَفِيَّةَ وَجُوَيْرِيَةَ فَأَعْتَقَهُمَا وَتَزَوَّجَهُمَا، وَمَلَكَ رَيْحَانَةَ بِنْتَ شَمْعُونٍ النَّضْرِيَّةَ، وَمَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةَ أم ابنه إبراهيم عليهما السَّلَامُ، وَكَانَتَا مِنَ السَّرَارِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وقوله تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ} الآية، كان النَّصَارَى لَا يَتَزَوَّجُونَ الْمَرْأَةَ إِلَّا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا سَبْعَةُ أَجْدَادٍ فَصَاعِدًا، وَالْيَهُودُ يَتَزَوَّجُ أَحَدُهُمْ بِنْتَ أَخِيهِ وَبِنْتَ أُخْتِهِ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ الْكَامِلَةُ الطَّاهِرَةُ بِهَدْمِ إِفْرَاطِ النَّصَارَى، فَأَبَاحَ بِنْتَ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ، وَبِنْتَ الْخَالِ وَالْخَالَةِ، وحرم(2/104)
مَا فَرَّطَتْ فِيهِ الْيَهُودُ مِنْ إِبَاحَةِ بِنْتِ الأخ والأخت وهذا شنيع فظيع، روى ابن أبي حاتم عَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: خَطَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني، ثم أنزل الله تعالى: {إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} قَالَتْ: فَلَمْ أَكُنْ أَحِلُّ لَهُ، وَلَمْ أَكُنْ مِمَّنْ هَاجَرَ مَعَهُ، كُنْتُ من الطلقاء، وقال قتادة: الْمُرَادَ مَنْ هَاجَرَ مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَفِي رواية عنه {اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ} أي أسلمن، وقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ} أي ويحل لك أيها النبي المرأة المؤمنة، إن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ أَنْ تَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ إن شئت ذلك، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ، فَقَامَتْ قِيَامًا طَوِيلًا فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا إِيَّاهُ؟» فَقَالَ مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي هَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِزَارَكَ جَلَسْتَ لَا إِزَارَ لَكَ فَالْتَمِسْ شَيْئًا» فَقَالَ: لاَ أَجِدُ شَيْئًا، فَقَالَ: «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ؟» قَالَ نَعَمْ سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كذا - السور يسميها - فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زوجتكها بما معك من القرآن» (أخرجه البخاري ومسلم وأحمد) .
وعن ثابت قال: كُنْتُ مَعَ أَنَسٍ جَالِسًا وَعِنْدَهُ ابْنَةٌ لَهُ، فَقَالَ أَنَسٌ جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَلْ لَكَ فيَّ حَاجَةٌ؟ فَقَالَتِ ابْنَتُهُ: مَا كَانَ أَقَلَّ حَيَاءَهَا فَقَالَ: «هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ، رغبت في النبي فعرضت عليه نفسها» (أخرجه البخاري والإمام أحمد) . وقال ابن أبي حاتم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خولة بنت الحكيم، وعن عروة كنا نتحدث أن خولة بنت الحكيم كَانَتْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وكانت امرأة صالحة، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ للنبي صلى الله عليه وسلم كثير، كما روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغَارُ مِنَ اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} قُلْتُ: مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ في هواك. وقد قال ابن عباس: لَمْ يَكُنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امرأة وهبت نفسها له، أَيْ إِنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ وَاحِدَةً مِمَّنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا لَهُ وَمَخْصُوصًا بِهِ لِأَنَّهُ مَرْدُودٌ إِلَى مَشِيئَتِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا} أي إن اختار ذلك (أخرج ابن سعد: أن أم شريك غزية بنت جابر الدوسية عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم وكانت جميلة فقبلها، فقالت عائشة: ما في امرأة حين تهب نفسها لرجل خير، قالت أم شريك: فأنا تلك فسماها الّله: مؤمنة، فقال {وامرأة مؤمنة ... } الآية، فلما نزلت قالت عائشة: إن الله يسرع لك في هواك) . وقوله تعالى: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ عِكْرِمَةُ: أَيْ لَا تَحِلُّ الْمَوْهُوبَةُ لِغَيْرِكَ، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِرَجُلٍ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حتى يعطيها شيئاً، أَيْ إِنَّهَا إِذَا فَوَّضَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا إِلَى رجل فإنه متى دخل بها وجب عليه لها مهر مثلها، وَلِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} يَقُولُ: لَيْسَ لِامْرَأَةٍ تَهَبُ نَفْسَهَا لِرَجُلٍ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا مَهْرٍ إِلَّا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ(2/105)
أَيْمَانُهُمْ} أي من حصرهم في أربعة نِسْوَةٍ حَرَائِرَ، وَمَا شَاءُوا مِنَ الْإِمَاءِ، وَاشْتِرَاطِ الولي والمهر والشهود عليهم، وَقَدْ رَخَّصْنَا لَكَ فِي ذَلِكَ فَلَمْ نُوجِبْ عليك شيئاً منه (قاله مجاهد والحسن وقتادة وابن جرير في تفسير قوله تَعَالَى {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أزواجهم} ) {لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} .(2/106)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
- 51 - تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيمًا
{تُرْجِي} أَيْ تُؤَخِّرُ {مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ} أَيْ من الواهبات، {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ} أَيْ مَنْ شِئْتَ رددتها، ومن رددتها فأنت أَيْضًا بِالْخِيَارِ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شِئْتَ عُدْتَ فِيهَا فَآوَيْتَهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَن ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} ، قال الشعبي: كن نساءاً وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ بِبَعْضِهِنَّ وَأَرْجَأَ بِعَضَهُنَّ لَمْ يُنْكَحْنَ بَعْدَهُ، مِنْهُنَّ أُمُّ شَرِيكٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ بقوله: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ} الآية، أَيْ مِنْ أَزْوَاجِكَ لَا حَرَجَ عَلَيْكَ أَنْ تَتْرُكَ الْقَسْمَ لَهُنَّ، فَتُقَدِّمْ مَنْ شِئْتَ، وَتُؤَخِّرْ مَنْ شِئْتَ، وَتُجَامِعْ مَنْ شِئْتَ، وَتَتْرُكْ مَنْ شئت؛ ومع هذا كان النبي يَقْسِمُ لَهُنَّ، وَلِهَذَا ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ القسم واجباً عليه صلى الله عليه وسلم، واحتجوا بهذه الآية الكريمة، وروى البخاري عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كان يستأذن في اليوم الْمَرْأَةِ مِنَّا بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} فَقُلْتُ لَهَا: مَا كُنْتِ تَقُولِينَ؟ فَقَالَتْ: كنت أقول: إن كان ذلك إليَّ فَإِنِّي لَا أُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أن أوثر عليك أحداً (اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الْوَاهِبَاتِ وَفِي النِّسَاءِ اللَّاتِي عِنْدَهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فيهن جميعاً وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي) ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} أَيْ إِذَا عَلِمْنَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ وَضَعَ عَنْكَ الْحَرَجَ فِي الْقَسْمِ، فَإِنْ شِئْتَ قَسَمْتَ وَإِنْ شِئْتَ لَمْ تَقْسِمْ، لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ فِي أَيِّ ذَلِكَ فَعَلْتَ، ثُمَّ مَعَ هَذَا أن تَقْسِمُ لَهُنَّ اخْتِيَارًا مِنْكَ، لَا أَنَّهُ عَلَى سبيل الوجوب، فرحن بذلك واستبشرن واعترفن بمنتك عليهن، في قسمتك وإنصافك لهن وعدلك فيهن، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} أَيْ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى بَعْضِهِنَّ دُونَ بَعْضٍ مِمَّا لَا يمكن دفعه، كما روي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذَا فِعْلِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أملك» (أخرجه أصحاب السنن الأربعة وإسناده صحيح ورجاله ثقات) ، وزاد أبو داود: يعني القلب. ولهذا عقب ذلك بقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً} أَيْ بِضَمَائِرِ السَّرَائِرِ، {حَلِيماً} أي يحلم ويغفر (أخرج ابن سعد عن أبي رزين قال: همَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يطلق نساءه، فلما رأين ذلك جعلنه في حل من أنفسهن، يؤثر من يشاء على من يشآء، فأنزل الله: {إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ - إلى قوله - تُرْجِي مَن تَشَآءُ} ذكره السيوطي) .(2/106)
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
- 52 - لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ على كل شيء رقيبا(2/106)
هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ مُجَازَاةً لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم عَلَى حُسْنِ صَنِيعِهِنَّ، فِي اخْتِيَارِهِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، لَمَّا خَيَّرَهُنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تقدم، فَلَمَّا اخْتَرْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كان جزاؤهن أن الله تعالى قَصَرَهُ عَلَيْهِنَّ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِنَّ أو يستبدل بهن أزواجاً غيرهن، ثم إنه تعالى رفع عنه الحرج في ذلك وَأَبَاحَ لَهُ التَّزَوُّجَ، وَلَكِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ بعد ذلك تزوج، لتكون المنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهن، روي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أحل الله له النساء (أخرجه أحمد والترمذي والنسائي) . وروى ابن أبي حاتم عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حتى أحل لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنَ النِّسَاءِ مَا شَاءَ إلاّ ذات محرم، وذلك قول الله تعالى: {تُرْجِي مَن تشاء منهن} (أخرجه ابن أبي حاتم) فَجُعِلَتْ هَذِهِ نَاسِخَةً لِلَّتِي بَعْدَهَا فِي التِّلَاوَةِ كَآيَتِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي الْبَقَرَةِ، الْأُولَى نَاسِخَةٌ لِلَّتِي بَعْدَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى الْآيَةِ {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ} أي من بعدما ذَكَرْنَا لَكَ مِنْ صِفَةِ النِّسَاءِ، اللَّاتِي أَحْلَلْنَا لَكَ مِنْ نِسَائِكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، وَبَنَاتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّاتِ، وَالْخَالِ وَالْخَالَاتِ، وَالْوَاهِبَةِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَصْنَافِ النِّسَاءِ فلا يحل لَّكَ.
قال ابن جرير عن زياد عن رَجُلٍ مَنَّ الْأَنْصَارِ قَالَ، قُلْتُ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ أَزْوَاجَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّينَ أَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ؟ فَقَالَ: وَمَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ؟ قال، قلت: قول الله تعالى: {لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ} فَقَالَ: إِنَّمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ ضَرْبًا مِنَ النِّسَاءِ، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ - إلى قوله تعالى - إِنَّ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} ثُمَّ قِيلَ لَهُ: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ} ، وروى الترمذي عن ابن عباس قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَصْنَافِ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا كَانَ من المؤمنات المهاجرات بقوله تعالى: {لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} ، فَأَحَلَّ اللَّهُ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنبي، وحرم كل ذات غير دين الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَالَ: {وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حبط عمله} الآية، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتي آتتيت أجورهن - إلى قوله تعالى - خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وَحَرَمَ مَا سوى ذلك من أصناف النساء (رواه التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ} أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا سَمَّى لَكَ، لَا مُسْلِمَةً وَلَا يَهُودِيَّةً، وَلَا نَصْرَانِيَّةً، وَلَا كافرة، وَقَالَ عِكْرِمَةُ {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ} : أَيِ الَّتِي سَمَّى اللَّهُ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ رَّحْمَةِ اللَّهُ إِنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِيمَنْ ذُكِرَ مِنْ أَصْنَافِ النِّسَاءِ، وَفِي النِّسَاءِ اللَّوَاتِي فِي عِصْمَتِهِ وَكُنْ تِسْعًا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ جَيِّدٌ وَلَعَلَّهُ مُرَادُ كَثِيرٍ مِمَّنْ حَكَيْنَا عَنْهُ مِنَ السَّلَفِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ رُوِيَ عَنْهُ هذا وهذا ولا منافاة والله أعلم.(2/107)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
- 53 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ(2/107)
وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا
- 54 - إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً
هَذِهِ آيَةُ الْحِجَابِ، وَفِيهَا أَحْكَامٌ وَآدَابٌ شَرْعِيَّةٌ، وَهِيَ مِمَّا وَافَقَ تَنْزِيلُهَا قَوْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عنه أنه قال: وَافَقْتُ رَبِّي عزَّ وجلَّ فِي ثَلَاثٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَأَنْزَلَ الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ
إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ نِسَاءَكَ يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ حَجَبْتَهُنَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ، وَقُلْتُ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لمَّا تَمَالَأْنَ عَلَيْهِ فِي الْغَيْرَةِ {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} فَنَزَلَتْ كَذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ذِكْرُ أُسَارَى بدر وهي قضية رابعة. وفي البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخِطَابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلَوْ أَمَرْتَ أُمهات الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ، وَكَانَ وَقْتُ نُزُولِهَا فِي صَبِيحَةِ عُرْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بزينب بنت جحش، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ الخامسة في قول قتادة والواقدي وغيرهما، قال البخاري عن أنس بن مالك: لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ دَعَا الْقَوْمَ فَطَعِمُوا ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، فَلَمَّا قَامَ، قَامَ مَنْ قَامَ، وَقَعَدَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدْخُلَ، فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قاموا فانطلقوا، فَجِئْتُ، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَدِ انْطَلَقُوا فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ، فَذَهَبْتُ أَدْخَلُ فَأَلْقَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا} الآية (رواه البخاري عن أنس بن مالك وأخرجه مسلم والنسائي بنحوه) .
وروى ابن أبي حاتم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَعْرَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ نِسَائِهِ، فصنعت أم سليم حيساً ثم جعلته في تَوْر (الحيس: طعام خليط من تمر وسمن وأَقِط. التور: وعاء صغير للشرب) ، فَقَالَتْ: اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُ أَنَّ هَذَا مِنَّا لَهُ قَلِيلٌ، - قَالَ أَنَسٌ: وَالنَّاسُ يومئذٍ فِي جَهْد - فَجِئْتُ بِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعثتْ بِهَذَا أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَيْكَ، وَهِيَ تُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَتَقُولُ أَخْبِرْهُ أَنَّ هَذَا مِنَّا لَهُ قَلِيلٌ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثُمَّ قال: «ضعه» فوضعه فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ: «اذْهَبْ فَادْعُ لي فلاناً وفلاناً» فسمى رِجَالًا كَثِيرًا، وَقَالَ: «وَمَنْ لَقِيتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» ، فَدَعَوْتُ مَنْ قَالَ لِي وَمَنْ لَقِيتُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَجِئْتُ وَالْبَيْتُ وَالصُّفَّةُ وَالْحُجْرَةُ مَلْأَى مِنَ النَّاسِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عُثْمَانَ كَمْ كَانُوا؟ فَقَالَ: كَانُوا زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جئْ بِهِ» فَجِئْتُ بِهِ إِلَيْهِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَدَعَا، وَقَالَ: «مَا شَاءَ اللَّهُ» ثُمَّ قَالَ: «لِيَتَحَلَّقْ عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ وَلْيُسَمُّوا، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ إِنْسَانٍ مِمَّا يَلِيهِ» فَجَعَلُوا يُسَمُّونَ وَيَأْكُلُونَ حَتَّى أكلوا كلهم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارفعه» قال: فجئت فأخذت التور، فنظرت فيه فَمَا أَدْرِي أَهْوَ حِينَ وَضَعْتُ أَكْثَرُ أَمْ حِينَ أَخَذْتُ، قَالَ: وَتَخَلَّفَ رِجَالٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزوج رسول الله التي دخل(2/108)
بِهَا مَعَهُمْ مُوَلِّيَةٌ وَجْهِهَا إِلَى الْحَائِطِ فَأَطَالُوا الْحَدِيثَ، فَشَقُّوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً، وَلَوْ أُعْلِمُوا كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عَزِيزًا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حُجَرِهِ وَعَلَى نِسَائِهِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَدْ جَاءَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ ثَقِلُوا عَلَيْهِ ابْتَدَرُوا الْبَابَ، فَخَرَجُوا، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَرْخَى السِّتْرَ وَدَخَلَ الْبَيْتَ وَأَنَا فِي الْحُجْرَةِ فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ يَسِيرًا وَأَنْزَلَ الله عليه القرآن فخرج وهو يتلو هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي} الآيات، قَالَ أَنَسٌ: فَقَرَأَهُنَّ عليَّ قَبْلَ النَّاسِ فَأَنَا أحدث الناس بهن عهداً (رواه ابن أبي حاتم واللفظ له وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي بنحوه) .
فقوله تعالى: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ} حَظَرَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَدْخُلُوا مَنَازِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، كَمَا كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَصْنَعُونَ فِي بُيُوتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَابْتِدَاءِ الإسلام، حتى غار الله لهذه الأمة فأخبرهم بِذَلِكَ، وَذَلِكَ مِنْ إِكْرَامِهِ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ، ثم استثنى من ذلك فقال تعالى: {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} أَيْ غَيْرَ مُتَحَيِّنِينَ نُضْجَهُ وَاسْتِوَاءَهُ، أَيْ لَا ترقبوا الطعام إذا طبخ حَتَّى إِذَا قَارَبَ الِاسْتِوَاءَ تَعَرَّضْتُمْ لِلدُّخُولِ، فَإِنَّ هذا مما يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيَذُمُّهُ؛ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التطفيل وهو الذي تسميه العرب الضيفن (صنّف الخطيب البغدادي كِتَابًا فِي ذَمِّ الطُّفَيْلِيِّينَ وَذَكَرَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ أَشْيَاءَ يَطُولُ إِيرَادُهَا) ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا} ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُجِبْ عُرْسًا كَانَ أو غيره» (أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عمر) ، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ، فَإِذَا فَرَغْتُمْ مِنَ الَّذِي دُعِيتُمْ إِلَيْهِ فَخَفِّفُوا عَنْ أَهْلِ الْمَنْزِلِ وَانْتَشَرُوا فِي الْأَرْضِ» ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} أَيْ كَمَا وَقَعَ لِأُولَئِكَ النفر الثلاثة الذين استرسل بهم الحديث، {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ} وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ دُخُولَكُمْ مَنْزِلَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كان يشق عليه ويتأذى به، ولكن كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، مِنْ شِدَّةِ حَيَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عليه النهي عن ذلك، ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} أَيْ وَلِهَذَا نَهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ وَزَجَرَكُمْ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أَيْ وَكَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنِ الدُّخُولِ عَلَيْهِنَّ كَذَلِكَ لَا تَنْظُرُوا إِلَيْهِنَّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِكُمْ حَاجَةٌ يُرِيدُ تَنَاوُلَهَا مِنْهُنَّ فَلَا يَنْظُرْ إِلَيْهِنَّ، وَلَا يَسْأَلْهُنَّ حَاجَةً إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حجاب. {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} أَيْ هَذَا الَّذِي أَمَرَتْكُمْ بِهِ وَشَرَعْتُهُ لَكُمْ مِنَ الْحِجَابِ أَطْهَرُ وأطيب، وقوله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} قال ابن عباس: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ همَّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بَعْضَ نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده، قَالَ رَجُلٌ لِسُفْيَانَ: أَهِيَ عَائِشَةُ؟ قَالَ: قَدْ ذكروا ذلك، وقال السُّدِّيِّ: أَنَّ الَّذِي عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ (طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَتَّى نَزَلَ التَّنْبِيهُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا أَجْمَعَ العلماء قاطبة على من أن تُوُفِّيَ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَزْوَاجِهِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ تزوجها مِنْ بَعْدِهِ، لِأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وأمهات المؤمنين كما تقدم، وَقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَلِكَ وشدَّد فِيهِ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ الله عَظِيماً} ، ثم قال تعالى: {إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}(2/109)
أَيْ مَهْمَا تُكِنُّهُ ضَمَائِرُكُمْ وَتَنْطَوِي عَلَيْهِ سَرَائِرُكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ فَإِنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (نزلت الآية في طلحة بن عبيد الله، قال: أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ويتزوج نساءنا، لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه بعده، فأنزل الله هذه الآية. أخرجه ابن أبي حاتم وأخرج جوبير عن ابن عباس: أن رجلاً أتى بعض أزواج الرسول فكلمها، وهو ابن عم لها، فكره الرسول ذلك، فقال الرجل: يمنعني من كلام ابنة عمي، لأتزوجنها من من بعده فنزلت الآية، قال ابن عباس: فأعتق ذلك الرجل رقبة، وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله وحج ماشياً، توبة من كلمته) .(2/110)
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
- 55 - لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً
لما أمر تبارك وتعالى النِّسَاءَ بِالْحِجَابِ مِنَ الْأَجَانِبِ، بيَّن أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَقَارِبَ لَا يَجِبُ الِاحْتِجَابُ مِنْهُمْ كَمَا اسْتَثْنَاهُمْ في سورة النور عند قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بعولتهن} الآية، وَفِيهَا زِيَادَاتٌ عَلَى هَذِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا والكلام عليها بما أغنى عن إعادته ههنا، وقوله تعالى: {وَلاَ نسائهن} يعني ذلك عدم الاحتجاب من النساء المؤمنات، وقوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} يعني به أرقاءهن من الإناث كما تقدم التنبيه عليه، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّمَا يَعْنِي بِهِ الإماء فقط، وقوله تعالى: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} أَيْ وَاخْشَيْنَهُ فِي الْخَلْوَةِ وَالْعَلَانِيَةِ، فَإِنَّهُ شَهِيدٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، فَرَاقِبْنَ الرَّقِيبَ.(2/110)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
- 56 - إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً
قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: صَلَاةُ اللَّهِ تعالى ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ، وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ الدعَّاء، وقال ابن عباس: يصلون يبِرّكون، وقال سفيان الثوري: صلاة الرب الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وتعالى أَخْبَرَ عِبَادَهُ بِمَنْزِلَةِ عَبْدِهِ وَنَبِيِّهِ عِنْدَهُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، بِأَنَّهُ يُثْنِي عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى أَهْلَ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ، لِيَجْتَمِعَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْعَالَمِينَ (الْعُلْوِيِّ) و (السفلي) جَمِيعاً، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَلْ يُصَلِّي رَبُّكَ؟ فَنَادَاهُ رَبُّهُ عزَّ وجلَّ: يَا مُوسَى سَأَلُوكَ هَلْ يُصَلِّي رَبُّكَ فَقُلْ نعم، أنا أصلي وَمَلَائِكَتِي عَلَى أَنْبِيَائِي وَرُسُلِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس) . وقد أخبر سبحانه وتعالى بأنه يُصَلِّي عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الذي يُصَلِّي عليكم وملائكته} الآية، وقال تعالى: {أولئك عليهم صلوت من ربهم} الآية، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ميامن الصفوف» ، وَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، ونحن نذكر منها إن شاء الله ما تيسر، روى البخاري عند تفسير هذه الآية عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَّا السَّلَامُ عَلَيْكَ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ فَكَيْفَ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: «قُولُوا اللَّهُمَّ صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» . وروى ابن أبي حاتم عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا السَّلَامَ عَلَيْكَ فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: «قُولُوا اللَّهُمَّ صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إنك حميد مجيد» ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: أَمَّا السَّلَامُ عَلَيْكَ(2/110)
فقد عرفناه هو الذي في التشهد وَفِيهِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. حديث آخر: وروى الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قل، قلنا: يا رسول الله هذا السلام عَلَيْكَ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: «قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كما باركت على آل إبراهيم» . حديث آخر: قال مسلم عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُولُوا اللَّهُمَّ صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كما باركت على آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، والسلام كما قد علمتم» (أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي) . ومن ههنا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، فإن تركه لم تصح صلاته، عَلَى أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى خِلَافِهِ وَحَكَوُا الْإِجْمَاعَ على خلافه وللقول بوجوبه ظواهر الحديث، فلا إجماع فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا قَدِيمًا وَلَا حَدِيثًا، والله أعلم.
(فضائل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) .
روى أبو عيسى الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً» (تفرد بروايته الترمذي وقال: حديث حسن غريب) . حديث آخر: وروى الترمذي عن أبي بن كعب قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ اذْكُرُوا اللَّهَ، جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ» قَالَ أُبَيٌّ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟ قَالَ: «مَا شِئْتَ» قُلْتُ الرُّبْعُ، قَالَ: «مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» قُلْتُ: فَالنِّصْفُ قَالَ: {مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ" قُلْتُ: فَالثُّلْثَيْنِ، قَالَ: «مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» قُلْتُ أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا، قَالَ: «إِذَنْ تُكفى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لك ذنبك» . طريق أخرى: روى
الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَجَّهُ نَحْوَ صَدَقَتِهِ فَدَخَلَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَخَرَّ سَاجِدًا فَأَطَالَ السُّجُودَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ قَبَضَ نَفْسَهُ فِيهَا فَدَنَوْتُ مِنْهُ ثُمَّ جَلَسْتُ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: «مَنْ هَذَا» قلت: عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: «مَا شَأْنُكَ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَجَدْتَ سَجْدَةً خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ الله قبض روحك فِيهَا، فَقَالَ: «إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَبَشَّرَنِي أَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يَقُولُ لَكَ مَنْ(2/111)
صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَسَجَدْتُ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ شُكْرًا» . حديث آخر: قال الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالسُّرُورُ يُرَى فِي وَجْهِهِ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَرَى السُّرُورَ فِي وَجْهِكَ، فَقَالَ: "إِنَّهُ أَتَانِي الْمَلَكُ فقال: يا محمد أما يرضيك رَبَّكَ عزَّ وجلَّ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إِلَّا صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا، وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إلاّ سلمت عليه عشراً قلت: بلى" (أخرجه أحمد ورواه النسائي بنحوه) . حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من صلى عليَّ واحدة صل الله عليه بها عشراً» . حديث آخر: قال الإمام أحمد عن قيس مولى عمرو بن العاص قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: مَنْ صَلَّى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَلَائِكَتُهُ لها سَبْعِينَ صَلَاةً، فليقلَّ عَبْدٌ مِنْ ذَلِكَ أَوْ ليكثر، وسمعت عبد الله ابن عَمْرٍو يَقُولُ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا كَالْمُوَدِّعِ، فَقَالَ: «أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ - قَالَهُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ - وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي، أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلَامِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ، وَعَلِمْتُ كَمْ خَزَنَةُ النَّارِ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَتُجُوِّزَ بِي عُوفِيتُ وَعُوفِيَتْ أُمَّتِي، فَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا مَا دمت فيكم، فإن ذُهِبَ بِي فَعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ أَحِلُّوا حَلَالَهُ وحرموا حرامه» . حديث آخر: قال الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ وَحَطَّ عَنْهُ عَشْرَ خَطِيئَاتٍ» . حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أحمد عن عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْبَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ» . حديث آخر: قال إسماعيل القاضي عن أبي ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَبْخَلَ النَّاسِ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يصل عليّ» ، وروى عن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الْبُخْلِ أَنْ أُذْكَرَ عِنْدَهُ فلا يصليّ عليّ» .
حديث آخر: قال الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَغِمَ أَنْفُ رِجْلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عليَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ» (أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب ورواه البخاري بنحوه) . وَهَذَا الْحَدِيثُ وَالَّذِي قَبْلَهُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كُلَّمَا ذُكِرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ منهم الطحاوي والحليمي؛ وذهب أخرون إلى أنه تجب الصلاة عليه فِي الْمَجْلِسِ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ لَا تَجِبُ في بقية ذلك المجلس، بل تستحب، ويتأيد بالحديث الذي رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نبيهم إلاّ كان عليهم تِرَةَ (ترة: مكروهاً وحسرة عليهم) يوم القيامة، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ"، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ إِنَّمَا تَجِبُ الصَّلَاةُ عليه - عليه الصلاة والسلام - فِي الْعُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً امْتِثَالًا لِأَمْرِ الْآيَةِ، ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ فِي كُلِّ حَالٍ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ بَعْدَمَا حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم في الجملة.
فَصْلٌ.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى(2/112)
مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، فَهَذَا جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِيمَا إِذَا أَفْرَدَ غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ قَائِلُونَ: يَجُوزُ ذَلِكَ، واحتجوا بقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} ، وَبِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} ، وبقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} الآية. وَبِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: «اللَّهُمَّ صلِّ عَلَيْهِمْ» فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أبي أوفى» (أخرجاه في الصحيحين) ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: لَا يَجُوزُ إِفْرَادُ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّ هَذَا قَدْ صَارَ شِعَارًا لِلْأَنْبِيَاءِ إِذَا ذُكِرُوا، فَلَا يَلْحَقُ بِهِمْ غَيْرُهُمْ، فَلَا يُقَالُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، أَوْ قَالَ عَلِيٌّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا، كَمَا لَا يُقَالُ: قَالَ مُحَمَّدٌ عزَّ وجلَّ، وَإِنِ كَانَ عزيزاً جليلاً، لأن هذا شِعَارِ ذِكْرِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَحَمَلُوا مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُمْ، وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ شِعَارًا لِآلِ أَبِي أَوْفَى وَلَا لِجَابِرٍ وَامْرَأَتِهِ، وَهَذَا مَسْلَكٌ حسن. وأما السلام، فقال الْجُوَيْنِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: هُوَ فِي مَعْنَى الصَّلَاةِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْغَائِبِ وَلَا يُفْرَدُ بِهِ غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَا يُقَالُ: عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ، وَأَمَّا الْحَاضِرُ فيخاطب به فيقال: سلام عليك وسلام عليكم أَوِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَوْ عَلَيْكُمْ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ.
(قُلْتُ) : وَقَدْ غَلَبَ هَذَا فِي عِبَارَةِ كَثِيرٍ مِنَ النُّسَّاخِ لِلْكُتُبِ أَنْ يُفْرَدَ عَلَيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنْ يُقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ دُونِ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَوْ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ؛ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ معناه صحيحاً لكن ينبغي أن يسوى بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّعْظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ، فَالشَّيْخَانِ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، قال عكرمة عن ابن عباس: لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ يُدْعَى للمسلمين والمسلمات بالمغفرة، وكتب عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَمَّا بعد فإن ناساً مِنَ النَّاسِ قَدِ الْتَمَسُوا الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ نَاسًا مِنَ الْقُصَّاصِ قَدْ أَحْدَثُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَى خُلَفَائِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ عَدْلَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا، فَمُرْهُمْ أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُمْ عَلَى النَّبِيِّينَ، وَدُعَاؤُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً وَيَدْعُوا مَا سِوَى ذلك (قال ابن كثير: أثر حسن) .
فَرْعٌ: قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَجْمَعْ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ، فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَا يَقُولُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَطْ، وَلَا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَطْ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُنْتَزَعٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ قَوْلَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.(2/113)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
- 57 - إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا
- 58 - وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً
يَقُولُ تَعَالَى مُتَهَدِّدًا وَمُتَوَعِّدًا مَنْ آذَاهُ، بِمُخَالَفَةِ أَوَامِرِهِ وَارْتِكَابِ زواجره، وإيذاء رسوله بعيب أو بنقص - عياذاً بالله من ذلك - قال عكرمة {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} نَزَلَتْ فِي المصورين، وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ"(2/113)
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانُوا يَقُولُونَ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَعَلَ بِنَا كَذَا وَكَذَا، فَيُسْنِدُونَ أفعال الله إِلَى الدَّهْرِ وَيَسُبُّونَهُ، وَإِنَّمَا الْفَاعِلُ لِذَلِكَ هُوَ الله عزَّ وجلَّ فنهى عن ذلك، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ طَعَنُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَزْوِيجِهِ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ آذَاهُ بِشَيْءٍ، وَمَنْ آذَاهُ فَقَدْ آذَى الله كما أن الطاعة فقد أطاع الله، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمِنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمِنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى الله يوشك أن يأخذه» (أخرجه أحمد والترمذي) . وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} أَيْ يَنْسُبُونَ إِلَيْهِمْ مَا هُمْ بُرَآءُ مِنْهُ لَمْ يَعْمَلُوهُ وَلَمْ يَفْعَلُوهُ {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} وهذا هو البهت الكبير أَنْ يُحْكَى أَوْ يُنْقَلَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ مَا لَمْ يَفْعَلُوهُ، عَلَى سَبِيلِ الْعَيْبِ وَالتَّنَقُّصِ لَهُمْ، وَمِنْ أَكْثَرِ مَنْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الوعيد الرَّافِضَةُ الَّذِينَ يَتَنَقَّصُونَ الصَّحَابَةَ، وَيَعِيبُونَهُمْ بِمَا قَدْ بَرَّأَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، وَيَصِفُونَهُمْ بِنَقِيضِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَدَحَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ الْأَغْبِيَاءُ يَسُبُّونَهُمْ وَيَتَنَقَّصُونَهُمْ، وَيَذْكُرُونَ عَنْهُمْ مَا لَمْ يَكُنْ وَلَا فَعَلُوهُ أَبَدًا، فهم في الحقيقة منكسو القلوب، يذمون الممدوحين ويمدحون المذمومين، وقد روى عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: "أَيُّ الرِّبَا أَرْبَى عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَرْبَى الرِّبَا عِنْدَ اللَّهِ اسْتِحْلَالُ عِرْضِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ» ثُمَّ قَرَأَ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احتملوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} (أخرجه ابن أبي حاتم) .(2/114)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
- 59 - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيمًا
- 60 - لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا
- 61 - مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا
- 62 - سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرَ النِّسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ - خَاصَّةً أَزْوَاجَهُ وَبَنَاتِهِ لشرفهن - بأن يدنين عليهم مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، لِيَتَمَيَّزْنَ عَنْ سِمَاتِ نِسَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، والجلباب هو الرداء فوق الخمار، وهو بمنزلة الإزار اليوم، قال الْجَوْهَرِيُّ: الْجِلْبَابُ الْمِلْحَفَةُ، قَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ هُذَيْلٍ تَرْثِي قَتِيلًا لَهَا:
تَمْشِي النُّسُورُ إِلَيْهِ وَهْيَ لاهية * مشي العذارى عليهن الجلابيب.
قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَمَرَ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا خَرَجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ فِي حَاجَةٍ أَنْ يُغَطِّينَ وجوهن مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِنَّ بِالْجَلَابِيبِ وَيُبْدِينَ عَيْنًا وَاحِدَةً، وَقَالَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: سَأَلْتُ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيَّ عَنْ قول الله عزَّ وجلَّ: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} فَغَطَّى وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ وَأَبْرَزَ عَيْنَهُ الْيُسْرَى، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تُغَطِّي ثُغْرَةَ نحرها بجلبابها تدنيه عليها،(2/114)
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} خَرَجَ نِسَاءُ الأنصار كأن على رؤوسهن الْغِرْبَانُ مِنَ السَّكِينَةِ وَعَلَيْهِنَّ أَكْسِيَةٌ سُودٌ يَلْبَسْنَهَا (أخرجه ابن أبي حاتم) . وسئل الزُّهْرِيَّ هَلْ عَلَى الْوَلِيدَةِ خِمَارٌ، مُتَزَوِّجَةٌ أَوْ غَيْرُ مُتَزَوِّجَةٍ؟ قَالَ: عَلَيْهَا الْخِمَارُ إِنْ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً، وَتُنْهَى عَنِ الْجِلْبَابِ، لِأَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُنَّ أن يتشبهن بالحرائر المحصنات، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} .
وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إِلَى زِينَةِ نِسَاءِ أهل الذمة وإما نهي عَنْ ذَلِكَ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ لَا لِحُرْمَتِهِنَّ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ} ، وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} أَيْ إِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ عُرِفْنَ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ، لَسْنَ بِإِمَاءٍ وَلَا عواهر، قال السُّدي: كَانَ نَاسٌ مِنْ فُسَّاقِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَخْرُجُونَ بِاللَّيْلِ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ إِلَى طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فيتعرضون للنساء وكان مَسَاكِنُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ضَيِّقَةً، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ خَرَجَ النِّسَاءُ إِلَى الطُّرُقِ يَقْضِينَ حَاجَتَهُنَّ، فَكَانَ أُولَئِكَ الْفُسَّاقُ يَبْتَغُونَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ، فَإِذَا رَأَوُا المرأة عليها جلباب قالوا: هذه حرة فكفوا عَنْهَا، وَإِذَا رَأَوُا الْمَرْأَةَ لَيْسَ عَلَيْهَا جِلْبَابٌ قالوا: هذه أمة فوثبوا عليها، وقال مجاهد: يتحجبن فَيُعْلَمُ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُنَّ فَاسِقٌ بأذى ولا ريبة، وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} أَيْ لِمَا سَلَفَ فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُنَّ عِلْمٌ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِلْمُنَافِقِينَ وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطون الْكُفْرَ {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} قَالَ عِكْرِمَةُ وغيره: هم الزناة ههنا، {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} يَعْنِي الَّذِينَ يَقُولُونَ جَاءَ الأعداء وجاءت الْحُرُوبُ، وَهُوَ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ، لَئِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ ذَلِكَ وَيَرْجِعُوا إِلَى الْحَقِّ {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ لَنُسَلِّطَنَّكَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ لَنُحَرِّشَنَّكَ بِهِمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَنُعْلِمَنَّكَ بِهِمْ، {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا} أَيْ فِي الْمَدِينَةِ {إِلاَّ قَلِيلاً مَّلْعُونِينَ} حَالٌ مِنْهُمْ فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِمْ في المدينة مدة قريبة مطرودين مبعدين {أَيْنَمَا ثُقِفُوا} أَيْ وُجِدُوا، {أُخِذُواْ} لِذِلَّتِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ، {وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً} . ثم قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} أَيْ هَذِهِ سُنَّتُهُ فِي الْمُنَافِقِينَ إِذَا تَمَرَّدُوا عَلَى نِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَلَمْ يَرْجِعُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ يُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ وَيَقْهَرُونَهُمْ، {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} أَيْ وَسُنَّةُ اللَّهِ فِي ذَلِكَ لَا تُبَدَّلُ وَلَا تُغَيَّرُ.(2/115)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
- 63 - يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا
- 64 - إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً
- 65 - خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
- 66 - يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا
- 67 - وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا
- 68 - رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً
يقول تعالى مخبراً لرسوله صلوات الله وسلامه عليه أنه لا علم له بالساعة، وَأَرْشَدَهُ أَنْ يَرُدَّ عِلْمَهَا إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، لَكِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّهَا قَرِيبَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً} ، كما قال تعالى: {اقتربت الساعة وانشق الْقَمَرِ} ، وَقَالَ: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} ، وقال: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ(2/115)
تَسْتَعْجِلُوهُ} ، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ} أَيْ ابعدهم من رَحْمَتِهِ {وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أَيْ مَاكِثِينَ مُسْتَمِرِّينَ فَلَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا وَلَا زَوَالَ لَهُمْ عنها، {لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} أي ليس لَهُمْ مُغِيثٌ وَلَا مُعِينٌ يُنْقِذُهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} أَيْ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وتلوى وجوههم على جهنم، يتمنون أن لو كانوا في الدُّنْيَا مِمَّنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَأَطَاعَ الرَّسُولَ، كَمَا أخبر الله عنهم بِقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا ليتني اتخذت مَعَ الرسول سبيلاً} ، وَقَالَ تَعَالَى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} ، وَهَكَذَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي حَالَتِهِمْ هَذِهِ أَنَّهُمْ يودون أن لو أَطَاعُوا اللَّهَ وَأَطَاعُوا الرَّسُولَ فِي الدُّنْيَا، {وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا} قال طاووس: {سَادَتَنَا} يعني الأشراف و {كُبَرَآءَنَا} يعني العلماء، أَيِ اتَّبَعْنَا السَّادَةَ وَهُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْكُبَرَاءُ مِنَ المشيخة، وخالفنا الرسل {رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِّنَ الْعَذَابِ} أَيْ بِكُفْرِهِمْ وإغوائهم إيانا {والعنهم لَعْناً كَبِيراً} قرئ (كبيراً) وقرئ (كيثراً) وهما متقاربان في المعنى.(2/116)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
- 69 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَى فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً
أخرج الإمام البخاري عند تفسير هذه الآية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: مَا يَتَسَتَّرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلَّا مِنْ عيب في جلده إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ وَإِمَّا آفَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ، فَخَلَعَ ثِيَابَهُ عَلَى حَجَرٍ، ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فرغ أقبل على ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: ثُوبِي حَجَرٌ، ثُوبِي حَجَرٌ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ، وَقَامَ الْحَجَرُ، فَأَخَذَ ثَوْبَهُ، فَلَبِسَهُ، وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَباً مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا - قَالَ - فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَى فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً} (أخرجه البخاري مطولاً في أحاديث الأنبياء ورواه في باب التفسير مختصراً) . وعن ابن عباس في قوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَى} قَالَ، قَالَ قَوْمُهُ لَهُ: إِنَّكَ آدَرُ، فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ يَغْتَسِلُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى صَخْرَةٍ فَخَرَجَتِ الصَّخْرَةُ تَشْتَدُّ بِثِيَابِهِ، وَخَرَجَ يَتْبَعُهَا عُرْيَانَا، حَتَّى انْتَهَتْ بِهِ إلى مَجَالِسُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: فَرَأَوْهُ لَيْسَ بِآدَرَ فذلك قوله: {فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ} ، وروى الإمام أحمد، عن عبد الله بن مسعود قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ قَسْمًا فَقَالَ رَجُلٌ مَنَّ الْأَنْصَارِ: إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، قَالَ، فَقُلْتُ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ أَمَا لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قلت، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْمَرَّ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرِ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» (أَخْرَجَاهُ فِي الصحيحين وللفظ لأحمد) . وقوله تعالى: {وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً} أَيْ لَهُ وَجَاهَةٌ وَجَاهٌ عِنْدَ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ عِنْدَ اللَّهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، وَلَكِنْ مُنِعَ الرُّؤْيَةَ لِمَا يَشَاءُ عزَّ وجلَّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ وَجَاهَتِهِ الْعَظِيمَةِ عِنْدَ اللَّهِ أَنَّهُ شَفَعَ فِي(2/116)
أخيه هارون أن يرسله (أي يجعله رسولاً معه) الله معه فأجاب الله سؤاله فقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} .(2/117)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
- 70 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا
- 71 - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيماً
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ، وَأَنْ يَعْبُدُوهُ عِبَادَةَ مَنْ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَأَنْ يَقُولُوا {قَوْلاً سَدِيداً} أَيْ مُسْتَقِيمًا لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ، وَوَعَدَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَثَابَهُمْ عَلَيْهِ، بِأَنْ يُصْلِحَ لَهُمْ أعمالهم أن يُوَفِّقُهُمْ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَأَنْ يَغْفِرَ لَهُمُ الذُّنُوبَ الماضية، ثم قال تعالى: {ومن
من يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} وذلك أنه يجار من نار الجحيم، ويصير إلى النعيم المقيم، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم صلاة الظُّهْرِ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَوْمَأَ إِلَيْنَا بِيَدِهِ فَجَلَسْنَا فقال: «إن الله تعالى أَمَرَنِي أَنْ آمُرَكُمْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ وَتَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا» ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ آمُرَكُنَّ أَنْ تَتَّقِينَ اللَّهَ وتقلن قولاً سديداً» . وعن ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ النَّاسِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ، قَالَ عِكْرِمَةُ: الْقَوْلُ السَّدِيدُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: السَّدِيدُ الصِّدْقُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ السَّدَادُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الصَّوَابُ، وَالْكُلُّ حَقٌّ.(2/117)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
- 72 - إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً
- 73 - لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً
قال ابن عباس: يعني بالأمانة (الطاعة) عرضها عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَعْرِضَهَا عَلَى آدَمَ فَلَمْ يطقنها، فقال لآدم: إني قد رعضت الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَلَمْ يُطِقْنَهَا، فَهَلْ أَنْتَ آخِذٌ بِمَا فِيهَا؟ قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا فِيهَا؟ قَالَ: إِنْ أَحْسَنْتَ جُزِيتَ، وإن أسأت عوقبت، فأخذها آدم فحملها، فذلك قوله تَعَالَى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} وعنه الْأَمَانَةُ (الْفَرَائِضُ) عَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ إِنْ أَدَّوْهَا أَثَابَهُمْ وَإِنْ ضَيَّعُوهَا عَذَّبَهُمْ فكرهوا ذلك وأشفقوا عليه مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَلَكِنْ تَعْظِيمًا لِدِينِ اللَّهِ أن لا يَقُومُوا بِهَا، ثُمَّ عَرَضَهَا عَلَى آدَمَ فَقَبِلَهَا بما فيها، وهو قوله تَعَالَى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} يعني غراً بأمر الله. وهكذا قال مجاهد والضحاك والحسن البصري: إِنَّ الْأَمَانَةَ هِيَ الْفَرَائِضُ، وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ الطاعة، وقال أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ مِنَ الْأَمَانَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ اؤْتُمِنَتْ عَلَى فَرْجِهَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْأَمَانَةُ الدِّينُ والفرائض والحدود، وقال زيد بن أسلم: الْأَمَانَةُ ثَلَاثَةٌ: الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالِاغْتِسَالُ مِنَ الْجَنَابَةِ؛ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهَا، بَلْ هِيَ مُتَّفِقَةٌ وَرَاجِعَةٌ إِلَى أَنَّهَا التَّكْلِيفُ وَقَبُولُ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي بِشَرْطِهَا، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ قَامَ بِذَلِكَ أُثِيبَ، وَإِنْ تَرَكَهَا عُوقِبَ، فَقَبِلَهَا الْإِنْسَانُ عَلَى ضَعْفِهِ وَجَهْلِهِ وَظُلْمِهِ، إِلَّا مَنْ وَفَّقَ الله وبالله المستعان. عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} قَالَ: عَرَضَهَا عَلَى السَّبْعِ الطِّبَاقِ الطَّرَائِقِ الَّتِي زُيِّنَتْ بِالنُّجُومِ، وَحَمَلَةِ(2/117)
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، فَقِيلَ لَهَا: هَلْ تَحْمِلِينَ الْأَمَانَةَ وَمَا فِيهَا؟ قَالَ: قِيلَ لَهَا إِنْ أَحْسَنْتِ جُزِيتِ، وَإِنْ أَسَأْتِ عُوقِبْتِ، قَالَتْ: لَا، ثُمَّ عَرَضَهَا عَلَى الْأَرْضِينَ السَّبْعِ الشِّدَادِ الَّتِي شُدَّتْ بِالْأَوْتَادِ، وَذُلِّلَتْ بِالْمِهَادِ، قَالَ، فَقِيلَ لَهَا: هَلْ تَحْمِلِينَ الْأَمَانَةَ وَمَا فِيهَا؟ قَالَتْ: وَمَا فِيهَا؟ قَالَ، قِيلَ لَهَا: إِنْ أَحْسَنْتِ جُزِيتِ،
وَإِنْ أَسَأْتِ عُوقِبْتِ، قَالَتْ: لَا، ثُمَّ عَرَضَهَا عَلَى الْجِبَالِ الشُّمِّ الشَّوَامِخِ الصِّعَابِ الصِّلَابِ، قَالَ، قِيلَ لَهَا: هَلْ تَحْمِلِينَ الْأَمَانَةَ وَمَا فِيهَا؟ قَالَتْ: وما فيهن؟ قال لَهَا: إِنْ أَحْسَنْتِ جُزِيتِ، وَإِنْ أَسَأْتِ عُوقِبْتِ، قالت: لا (ذكره ابن أبي حاتم من كلام الحسن البصري رضي الله عنه) . وقال مقاتل ابن حيان: إن الله تعالى حِينَ خَلَقَ خَلْقَهُ جَمَعَ بَيْنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، فَبَدَأَ بِالسَّمَاوَاتِ فَعَرَضَ عَلَيْهِنَّ الْأَمَانَةَ وَهِيَ الطَّاعَةُ، فَقَالَ لَهُنَّ أَتَحْمِلْنَ هَذِهِ الْأَمَانَةَ، وَلَكُنَّ عليَّ الفَضْلُ وَالْكَرَامَةِ وَالثَّوَابِ فِي الجنة؟ فقلن: يا رب إنا لا نسطيع هذا الأمر، وليس بنا قوة ولكنا لك مطيعون، ثُمَّ عَرَضَ الْأَمَانَةَ عَلَى الْأَرْضِينَ فَقَالَ لَهُنَّ: أَتَحْمِلْنَ هَذِهِ الْأَمَانَةَ وَتَقْبَلْنَهَا مِنِّي وَأُعْطِيكُنَّ الْفَضْلَ والكرامة في الدنيا؟ فَقُلْنَ: لَا صَبْرَ لَنَا عَلَى هَذَا يَا رب ولا نطيق ولكنا لك سامعون مطيعون لا نعصيك في شيء أمرتنا بِهِ، ثُمَّ قَرَّبَ آدَمَ فَقَالَ لَهُ: أَتَحْمِلُ هَذِهِ الْأَمَانَةَ وَتَرْعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا؟ فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ آدَمُ: مَا لِي عِنْدَكَ؟ قَالَ: يَا آدَمُ إِنْ أَحْسَنْتَ وَأَطَعْتَ وَرَعَيْتَ الْأَمَانَةَ فَلَكَ عِنْدِي الْكَرَامَةُ وَالْفَضْلُ وَحُسْنُ الثَّوَابِ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ عَصَيْتَ وَلَمْ تَرْعَهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا وَأَسَأْتَ فَإِنِّي مُعَذِّبُكَ وَمُعَاقِبُكَ وَأُنْزِلُكَ النَّارَ، قَالَ: رَضِيتُ يَا رَبِّ، وَتَحَمَّلَهَا فَقَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عند ذلك: قد حملتكها فذلك قوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الإنسان} (أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان موقوفاً) .
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا - أَوْ قَالَ - يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الْأَمَانَةَ، يُؤْتَى بِصَاحِبِ الْأَمَانَةِ فَيُقَالُ لَهُ: أدِّ أَمَانَتَكَ فَيَقُولُ: أَنَّى يَا رَبِّ وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَدِّ أَمَانَتَكَ، فَيَقُولُ: أنَّى يَا رَبِّ، وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَدِّ أَمَانَتَكَ، فَيَقُولُ: أنَّى يَا رَبِّ وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ، فَيُذْهَبُ بِهِ إِلَى الْهَاوِيَةِ، فَيَهْوِي فِيهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى قَعْرِهَا فَيَجِدُهَا هُنَالِكَ كَهَيْئَتِهَا فَيَحْمِلُهَا فَيَضَعُهَا عَلَى عَاتِقِهِ، فَيَصْعَدُ بِهَا إِلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ، حَتَّى إذا رأى أنه قد خرج زلت قدمه فهوى في أثرها أبد الآبدين" قال: والأمانة في الصلاة، وَالْأَمَانَةُ فِي الصَّوْمِ، وَالْأَمَانَةُ فِي الْوُضُوءِ، وَالْأَمَانَةُ في الحديث، وأشد ذلك الوادئع، فلقيت البراء فقلت: ألا تسمع ما يقول أخوك عبد الله؟ فقل: صدق (أخرجه ابن جرير عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه) ، ومما يتعلق بالأمانة ما روي عن حذيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنَ قَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا، وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ، حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ فَعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ، ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ رفع الأمانة فقال: ينام الرجل النومة فتنقبض الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ المَجْل كَجَمْرٍ دَحْرَجْتُهُ عَلَى رِجْلِكَ، تَرَاهُ مُنْتَبراً (المًجْل: انتفاخ في اليد من العمل الشاق أو النار، منتبراً: متورماً) ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ - قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ حَصًى فَدَحْرَجَهُ عَلَى رِجْلِهِ - قَالَ: فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ لَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، حَتَّى يُقَالَ: إِنْ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ مَا أَجْلَدَهُ وَأَظْرَفَهُ وَأَعْقَلَهُ وَمَا في قلبه حبة خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ، وَمَا أُبَالِي أَيُّكُمْ(2/118)
بَايَعْتُ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا لَيُرَدَنَّهُ عَلَيَّ دِينُهُ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا لَيَرُدُنَّهُ عَلِيَّ سَاعِيهِ، فَأَمَّا الْيَوْمُ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ مِنْكُمْ إلا فلاناً وفلاناً (أخرجه الشيخان والإمام أحمد) . وروى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلَا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا، حِفْظُ أَمَانَةٍ، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة طِعمة» (أخرجه أحمد والطبراني. و (الطِعمة) : الجهة التي يُرتزق منها) . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ والمشركات} أي إنما حمّل بني آدَمَ الْأَمَانَةَ وَهِيَ التَّكَالِيفُ {لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} وَهُمُ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ خَوْفًا مِنْ أَهْلِهِ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ مُتَابَعَةً لِأَهْلِهِ {وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} وَهُمُ الَّذِينَ ظَاهِرُهُمْ وَبَاطِنُهُمْ عَلَى الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَمُخَالَفَةِ رُسُلِهِ، {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي ليرحم المؤمنين من الخلق الذين آمَنُواْ بالله وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ الْعَامِلِينَ بِطَاعَتِهِ، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رحيماً} .(2/119)
- 34 - سورة سبأ(2/120)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ
- 2 - يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ لَهُ الْحَمْدَ الْمُطْلَقَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الْمَالِكُ لِجَمِيعِ ذَلِكَ، الْحَاكِمُ فِي جميع ذلك، ولهذا قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أَيِ الْجَمِيعُ مِلْكُهُ وَعَبِيدُهُ وتحت تصرفه وقهره، كما قال تعالى: {وَإِنَّ لَنَا للآخرة والأولى} ، ثم قال تعالى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} فَهُوَ الْمَعْبُودُ أَبَدًا، المحمود على طول المدى، وقوله تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ} أَيْ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، {الْخَبِيرُ} الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ ولا يغيب عنه شيء، وقال الزُّهْرِيِّ: خَبِيرٌ بِخَلْقِهِ حَكِيمٌ بِأَمْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ عزَّ وجلَّ: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} أَيْ يَعْلَمُ عَدَدَ الْقَطْرِ النَّازِلِ فِي أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، وَالْحَبِّ الْمَبْذُورِ وَالْكَامِنِ فِيهَا، وَيَعْلَمُ ما يخرج من ذلك وعدده وَكَيْفِيَّتُهُ وَصِفَاتُهُ {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} أَيْ مِنْ قَطْرٍ وَرِزْقٍ، {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أَيْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} أَيِ الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ فَلَا يُعَاجِلُ عُصَاتَهُمْ بالعقوبة {الغفور} عن ذنوب التَّائِبِينَ إِلَيْهِ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ.(2/120)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
- 3 - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ
- 4 - لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
- 5 - وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ
- 6 - وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(2/120)
هَذِهِ إِحْدَى الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي لَا رَابِعَ لهن، مما أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْسِمَ بِرَبِّهِ الْعَظِيمِ عَلَى وُقُوعِ الْمَعَادِ، لَمَّا أَنْكَرَهُ مَنْ أَنْكَرَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ، فَإِحْدَاهُنَّ في سورة يونس، وهي قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أنتم معجزين} ، وَالثَّانِيَةُ هَذِهِ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} ، وَالثَّالِثَةُ فِي سورة التغابن وهي قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} ، فقال تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} ، ثُمَّ وَصَفَهُ بِمَا يؤكد ذلك ويقرره فقال: {عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ} لَا يَغِيبُ عَنْهُ، أَيِ الْجَمِيعُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ علمه فلا يخفى عليه شَيْءٌ، فَالْعِظَامُ وَإِنْ تَلَاشَتْ وَتَفَرَّقَتْ وَتَمَزَّقَتْ، فَهُوَ عَالِمٌ أَيْنَ ذَهَبَتْ وَأَيْنَ تَفَرَّقَتْ، ثُمَّ يُعِيدُهَا كَمَا بَدَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَإِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ثُمَّ بيَّن حِكْمَتَهُ فِي إِعَادَةِ الْأَبْدَانِ وقيام الساعة بقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أَيْ سَعَوْا فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ الله تعالى وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} أَيْ لِيُنَعِّمَ السُّعَدَاءَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُعَذِّبَ الأشقياء من الكافرين، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الجنة هُمْ الفائزون} . وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كالفجار} ؟ وقوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} هَذِهِ حِكْمَةٌ أُخْرَى مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا شَاهَدُوا قِيَامَ السَّاعَةِ وَمُجَازَاةَ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ رأوه حينئذ عين اليقين، ويقولون يومئذ {لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق} ، {وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} الْعَزِيزُ هُوَ الْمَنِيعُ الْجَنَابِ الَّذِي لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ، بل قد قهر كل شيء وغلبه، الْحَمِيدُ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ، وهو المحمود في ذلك كله جلَّ وعلا.(2/121)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
- 7 - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ
- 8 - أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ
- 9 - أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ
هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ عَنْ اسْتِبْعَادِ الْكَفَرَةِ الْمُلْحِدِينَ قِيَامَ السَّاعَةِ، وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِخْبَارِهِ بِذَلِكَ، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أَيْ تَفَرَّقَتْ أَجْسَادُكُمْ فِي الْأَرْضِ وَذَهَبَتْ فِيهَا كُلَّ مَذْهَبٍ وَتَمَزَّقَتْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، {إِنَّكُمْ} أَيْ بَعْدَ هَذَا الْحَالِ {لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أَيْ تَعُودُونَ أحياء ترزقون بعد ذلك؟ {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ} ؟ قال الله عزَّ وجلَّ رَادًّا عَلَيْهِمْ: {بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كما زعموا، بَلْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الصَّادِقُ الْبَارُّ الرَّاشِدُ الَّذِي جَاءَ بِالْحَقِّ، وَهُمُ الكذبة الجهلة الأغبياء، {فِي العذاب} أي الكفر المفضي بهم إلى عذاب الله تعالى، {والضلال(2/121)
الْبَعِيدِ} مِنَ الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ تعالى مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض، {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} ، أَيْ حَيْثُمَا تَوَجَّهُوا وذهبوا، فالسماء مطلة عليهم والأرض تحتهم، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الماهدون} قال قتادة: إِنَّكَ إِنْ نَظَرْتَ عَنْ يَمِينِكَ أَوْ عَنْ شِمَالِكَ أَوْ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ أَوْ مَنْ خلفك رأيت السماء والأرض، وقوله تعالى: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ} أَيْ لَوْ شِئْنَا لفعلنا بهم ذلك بظلمهم وَقُدْرَتِنَا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ نُؤَخِّرُ ذَلِكَ لِحِلْمِنَا وَعَفْوِنَا، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} ، قال قتادة: {مُّنِيبٍ} تائب، وعنه: المنيب المقبل إلى الله تعالى، أي إن في النظر إلى خلق السماوات وَالْأَرْضِ، لَدَلَالَةٌ لِكُلِّ عَبْدٍ فَطِنٍ لَبِيبٍ رجَّاع إلى الله، على قدرة الله تعالى عَلَى بَعْثِ الْأَجْسَادِ وَوُقُوعِ الْمَعَادِ، لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ السَّمَاوَاتِ فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا، وَهَذِهِ الْأَرْضِينَ فِي انْخِفَاضِهَا، وَأَطْوَالِهَا وَأَعْرَاضِهَا إِنَّهُ لَقَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ وَنَشْرِ الرَّمِيمِ مِنَ الْعِظَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى} ، وقال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يعلمون} .(2/122)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
- 10 - ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ
- 11 - أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا أنعم به على عبده ورسوله داود عليه الصلاة والسلام مِمَّا آتَاهُ مِنَ الْفَضْلِ الْمُبِينِ وَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ الْمُتَمَكِّنِ، وَالْجُنُودِ ذَوِي الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ، وَمَا أَعْطَاهُ وَمَنَحَهُ مِنَ الصَّوْتِ الْعَظِيمِ الَّذِي كَانَ إِذَا سَبَحَ بِهِ تَسْبَحُ مَعَهُ الْجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ، الصُّمُّ الشَّامِخَاتُ، وَتَقِفُ لَهُ الطُّيُورُ السَّارِحَاتُ، وَالْغَادِيَاتُ وَالرَّائِحَاتُ، وَتُجَاوِبُهُ بِأَنْوَاعِ اللُّغَاتِ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سمع صَوْتِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ، فَوَقَفَ فَاسْتَمِعْ لِقِرَاءَتِهِ، ثُمَّ قال صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ داود» . ومعنى قوله تعالى: {أَوِّبِي} أَيْ سَبِّحِي (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وغير واحد) ، والتأويب في اللغة التَّرْجِيعُ، فَأُمِرَتِ الْجِبَالُ وَالطَّيْرُ أَنْ تُرَجِّعَ مَعَهُ بأصواتها، وقوله تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَتَادَةُ: كَانَ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُدْخِلَهُ نَارًا وَلَا يَضْرِبَهُ بِمِطْرَقَةٍ، بَلْ كَانَ يَفْتِلُهُ بِيَدِهِ مِثْلَ الخيوط، ولهذا قال تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} وَهِيَ الدُّرُوعُ، قَالَ قَتَادَةُ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَمِلَهَا مِنَ الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا كانت قبل ذلك صفائح، وقال ابن شوذب: كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَرْفَعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ دِرْعًا فَيَبِيعُهَا بِسِتَّةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، أَلْفَيْنِ لَهُ وَلِأَهْلِهِ وَأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ يُطْعِمُ بِهَا بني إسرائيل خبز الحواري (أخرجه ابن أبي حاتم) ، {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} هَذَا إِرْشَادٌ مِنَ اللَّهِ تعالى لِنَبِيِّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تَعْلِيمِهِ صَنْعَةَ الدروع، قال مجاهد {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} لَا تُدِقَّ الْمِسْمَارَ فَيَقْلَقَ في الحلقة، ولا تغلظه فيقصمها واجعله بقدر، وقال الحكم بن عيينة: لا تغلظه فيقصم ولا تدقه فيقلق، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: السَّرْدُ حَلَقُ الْحَدِيدِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُقَالُ دِرْعٌ مَسْرُودَةٌ إِذَا كَانَتْ مَسْمُورَةُ الْحَلَقِ، وَاسْتُشْهِدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:(2/122)
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا * دَاوُدُ أَوْ صَنَعَ السَّوَابِغَ تبع.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر عن وهب بن منبه أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَخْرُجُ مُتَنَكِّرًا، فَيَسْأَلُ الرُّكْبَانَ عَنْهُ وَعَنْ سِيرَتِهِ، فَلَا يَسْأَلُ أَحَدًا إِلَّا أَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا فِي عِبَادَتِهِ وسيرته وعدله عليه السلام. قال وهب: حتى بعث الله تعالى ملكاً في سورة رجل فلقيه داود عليه الصلاة والسلام، فَسَأَلَهُ كَمَا كَانَ يَسْأَلُ غَيْرَهُ، فَقَالَ: هُوَ خَيْرُ النَّاسِ لِنَفْسِهِ وَلِأُمَّتِهِ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ خَصْلَةً لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ كَانَ كَامِلًا، قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ عِيَالَهُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ يَعْنِي بَيْتَ الْمَالِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَصَبَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى رَبِّهِ عزَّ وجلَّ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يُعَلِّمَهُ عَمَلًا بِيَدِهِ يَسْتَغْنِي به ويغني به عياله فألان الله عزَّ وجلَّ له الحديد وعلمه صنعة الدروع فعمل الدروع وهو أول من عملها، فقال الله تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} يَعْنِي مَسَامِيرَ الْحَلَقِ، قَالَ: وَكَانَ يَعْمَلُ الدِّرْعَ فَإِذَا ارْتَفَعَ مِنْ عَمَلِهِ دِرْعٌ بَاعَهَا فَتَصَدَّقَ بِثُلْثِهَا وَاشْتَرَى بِثُلْثِهَا مَا يَكْفِيهِ وَعِيَالَهُ، وَأَمْسَكَ الثُّلُثَ يَتَصَدَّقُ
بِهِ يَوْمًا بِيَوْمٍ إِلَى أَنْ يَعْمَلَ غيرها، وقال: إن الله تعالى أعطى داود لَمْ يُعْطَهُ غَيْرُهُ مِنْ حُسْنِ الصَّوْتِ، إِنَّهُ كان إذا قرأ الزبور تجتمع الوحوش إليه حَتَّى يُؤْخَذَ بِأَعْنَاقِهَا وَمَا تَنْفِرُ، وَمَا صَنَعَتِ الشَّيَاطِينُ الْمَزَامِيرَ وَالْبَرَابِطَ وَالصُّنُوجَ إِلَّا عَلَى أَصْنَافِ صوته عليه السلام، وَكَانَ شَدِيدَ الِاجْتِهَادِ، وَكَانَ إِذَا افْتَتَحَ الزَّبُورَ بِالْقِرَاءَةِ كَأَنَّمَا يَنْفُخُ فِي الْمَزَامِيرِ، وَكَأَنْ قَدْ أعطي سبعين مزماراً في حلقه، وقوله تعالى: {وَاعْمَلُوا صَالِحاً} أَيْ فِي الَّذِي أَعْطَاكُمُ اللَّهُ تعالى مِنَ النِّعَمِ {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أَيْ مُرَاقِبٌ لَكُمْ بَصِيرٌ بِأَعْمَالِكُمْ وَأَقْوَالِكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.(2/123)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
- 12 - وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ السَّعِيرِ
- 13 - يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى ما أنعم به على (داود) عطف بذكره ما أعطى ابنه (سليمان) عليهما الصلاة والسلام، مِنْ تَسْخِيرِ الرِّيحِ لَهُ تَحْمِلُ بِسَاطَهُ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ يَغْدُو عَلَى بِسَاطِهِ مِنْ دِمَشْقَ فَيَنْزِلُ بِإِصْطَخَرَ يتغدى بِهَا، وَيَذْهَبُ رَائِحًا مِنْ إِصْطَخَرَ فَيَبِيتُ بِكَابُلَ، وَبَيْنَ دِمَشْقَ وَإِصْطَخَرَ شَهْرٌ كَامِلٌ لِلْمُسْرِعِ، وَبَيْنَ إصطخر وكابل شهر كامل للمسرع، وقوله تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرِ وَاحِدٍ: الْقِطْرُ النُّحَاسُ، قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ فَكُلُّ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ مِمَّا أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ السُّدِّيُّ: وإنما أسيلت له ثلاثة أيام، وقوله تعالى: {وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} أَيْ وَسَخَّرْنَا لَهُ الْجِنَّ يَعْمَلُونَ بَيْنَ يديه {بِإِذْنِ رَبِّهِ} أَيْ بِقَدَرِهِ وَتَسْخِيرِهِ لَهُمْ بِمَشِيئَتِهِ، مَا يَشَاءُ مِنَ الْبِنَايَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} أَيْ وَمَنْ يَعْدِلْ وَيَخْرُجُ مِنْهُمْ عَنِ الطَّاعَةِ {نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ السَّعِيرِ} وَهُوَ الحريق، وقوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} أَمَّا الْمَحَارِيبُ فَهِيَ الْبِنَاءُ الْحَسَنُ وَهُوَ أَشْرَفُ شَيْءٍ فِي الْمَسْكَنِ وَصَدْرُهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَحَارِيبُ بُنْيَانٌ دُونَ الْقُصُورِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ الْمَسَاجِدُ، وقال قتادة: هي القصور والمساجد، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْمَسَاكِنُ، وَأَمَّا التَّمَاثِيلُ، فقال الضحاك وَالسُّدِّيُّ: التَّمَاثِيلُ الصُّوَرُ، قَالَ مُجَاهِدٌ:(2/123)
وَكَانَتْ مِنْ نُحَاسٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: مِنْ طِينٍ وزجاج. وقوله تعالى: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} الْجَوَابُ جَمْعُ جَابِيَةٍ وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء، قال الأعشى:
تَرُوحُ عَلَى آلِ الْمَحَلَّقِ جَفْنَةٌ * كَجَابِيَةِ الشَّيْخِ العراقي تفهق.
وقال ابن عباس {كالجواب} كَالْحِيَاضِ (وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ) ، وَالْقُدُورُ الرَّاسِيَاتُ أَيِ الثَّابِتَاتُ فِي أَمَاكِنِهَا لا تتحرك ولا تتحول عن أماكنها لعظمها، وقال عكرمة: أثافيها منها، وقوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} أَيْ وَقُلْنَا لَهُمُ اعْمَلُوا شُكْرًا عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ فِي الدين والدنيا، قال السلمي: الصَّلَاةُ شُكْرٌ، وَالصِّيَامُ شُكْرٌ، وَكُلُّ خَيْرٍ تَعْمَلُهُ لله عزَّ وجلَّ شُكْرٌ، وَأَفْضَلُ الشُّكْرِ الْحَمْدُ (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عن أبي عبد الرحمن السلمي) . وقال القرظي: الشكر تقوى الله تعالى وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَهَذَا يُقَالُ لِمَنْ هُوَ مُتَلَبِّسٌ بالفعل، وقد كان آل داود عليهم السلام كذلك قائمين بشكر الله تعالى قولاً وعملاً، قال ابن أبي حاتم عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ جَزَّأَ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَنِسَائِهِ الصَّلَاةَ، فَكَانَ لَا تَأْتِي عَلَيْهِمْ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَّا وَإِنْسَانٌ مِنْ آلِ دَاوُدَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَغَمَرَتْهُمْ هَذِهِ الْآيَةُ {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنْ أَحَبَّ الصَّلَاةِ إِلَى الله تعالى صَلَاةُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ تعالى صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَلَا يَفِرُّ إِذَا لاقى» . وقد روي عن جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمَانَ بن داود عليهم السلام لِسُلَيْمَانَ: يَا بُنَيَّ لَا تُكْثِرِ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَإِنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ بِاللَّيْلِ تَتْرُكُ الرَّجُلَ فَقِيرًا يوم القيامة" (أخرجه ابن ماجة في سننه) . وقال فَضِيلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} قال: دَاوُدُ يَا رَبِّ كَيْفَ أَشْكُرُكَ وَالشُّكْرُ نِعْمَةٌ مِنْكَ؟ قَالَ: «الْآنَ شَكَرْتَنِي حِينَ عَلِمْتَ أَنَّ النعمة مني» ، وقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} إِخْبَارٌ عَنِ الْوَاقِعِ.(2/124)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
- 14 - فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ
يَذْكُرُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ مَوْتِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَيْفَ عَمَّى اللَّهُ مَوْتَهُ عَلَى الْجَانِّ الْمُسَخَّرِينَ لَهُ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، فَإِنَّهُ مَكَثَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عصاه وهي منسأته مُدَّةً طَوِيلَةً نَحْوًا مِنْ سَنَةٍ، فَلَمَّا أَكَلَتْهَا دَابَّةُ الْأَرْضِ وَهِيَ (الْأَرَضَةُ) ضَعُفَتْ وَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ وَعُلِمَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ بمدة طويلة، وتبينت الْجِنُّ وَالْإِنْسُ أَيْضًا أَنَّ الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ كَمَا كَانُوا يَتَوَهَّمُونَ وَيُوهِمُونَ النَّاسَ ذَلِكَ (ذكر عند تفسير هذه الآية أخبار غريبة من الإسرائيليات ضربنا صفحاً عنها) . قال عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم: قَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَلِكِ الْمَوْتِ: إِذَا أُمِرْتَ بِي فَأَعْلِمْنِي، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا سُلَيْمَانُ قَدْ أُمِرْتُ بِكَ قَدْ بَقِيَتْ لَكَ سُوَيْعَةٌ، فَدَعَا الشَّيَاطِينَ فَبَنَوْا عَلَيْهِ صَرْحًا مِنْ قَوَارِيرَ، وَلَيْسَ لَهُ بَابٌ، فَقَامَ يُصَلِّي فَاتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ، قَالَ: فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَبَضَ(2/124)
رُوحَهُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَصَاهُ، وَلَمْ يَصْنَعْ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ، قَالَ: وَالْجِنُّ تعمل بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَنْظُرُونَ
إِلَيْهِ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَيٌّ. قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ دَابَّةَ الْأَرْضِ، قَالَ: وَالدَّابَّةُ تَأْكُلُ الْعِيدَانَ يُقَالُ لَهَا: الْقَادِحُ، فَدَخَلَتْ فِيهَا فَأَكَلَتْهَا، حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ جَوْفَ الْعَصَا ضَعُفَتْ وَثَقُلَ عَلَيْهَا فَخَرَّ مَيِّتًا، فَلَمَّا رأت الجن ذلك انفضوا وذهبوا، قال: فذلك قوله تعالى: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} قال أصبغ: بلغني أَنَّهَا قَامَتْ سَنَةً تَأْكُلُ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يخر، وذكر غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ نَحْوًا مِنْ هَذَا، والله أعلم.(2/125)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
- 15 - لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ
- 16 - فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ
- 17 - ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ
كَانَتْ سَبَأٌ مُلُوكَ الْيَمَنِ وَأَهْلَهَا، وَكَانُوا فِي نِعْمَةٍ وَغِبْطَةٍ فِي بِلَادِهِمْ وَعَيْشِهِمْ، واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم، وبعث الله تبارك وتعالى إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ تَأْمُرُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَيَشْكُرُوهُ بِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ، فَكَانُوا كَذَلِكَ مَا شَاءَ الله تعالى، ثُمَّ أَعْرَضُوا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ، فَعُوقِبُوا بِإِرْسَالِ السَّيْلِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الْبِلَادِ أَيْدِيَ سَبَأٍ شَذَرَ مذر، كما سيأتي قريباً، روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبَأٍ ما هو أرجل أم امرأة أم أرض؟ قال صلى الله عليه وسلم: «بل هو رَجُلٌ وُلِدَ لَهُ عَشَرَةٌ، فَسَكَنَ الْيَمَنَ مِنْهُمْ ستة، والشام مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ، فَأَمَّا الْيَمَانِيُّونَ فَمَذْحِجُ وَكِنْدَةُ وَالْأَزْدُ وَالْأَشْعَرِيُّونَ وَأَنْمَارٌ وَحِمْيَرُ، وَأَمَّا الشَّامِيَّةُ فَلَخْمُ وَجُذَامُ وعاملة وغسان» (رواه الإمام أحمد وابن جرير والترمذي وقال: حسن غريب، قال ابن كثير: ورواه ابن عبد البر عن تميم الداري مرفوعاً فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَقَوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ وَحُسِّنَ) ، قَالَ علماء النسب: اسْمُ سَبَأٍ (عَبْدُ شَمْسِ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ) وَإِنَّمَا سُمِّيَ سَبَأً، لِأَنَّهُ أول من سبأ في العرب، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «كان رجلاً من العرب» يعني من سلالة الخليل عليه السلام، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم مر بنفر من أسلم ينتصلون فقال: «ارموا بني إسرائيل فإن أباكم كان رامياً» (أخرجه البخاري) ، فَأَسْلَمُ قَبِيلَةٌ مِنَ (الْأَنْصَارِ) وَالْأَنْصَارُ أَوْسُهَا وَخَزْرَجُهَا مِنْ غَسَّانَ مِنْ عَرَبِ الْيَمَنِ مِنْ سَبَأٍ، نَزَلُوا بِيَثْرِبَ لَمَّا تَفَرَّقَتْ سَبَأٌ فِي الْبِلَادِ حين بعث الله عزَّ وجلَّ عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ، وَنَزَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِالشَّامِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُمْ غَسَّانُ بِمَاءٍ نَزَلُوا عَلَيْهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُشَلَّلِ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثابت رضي الله عنه:
إما سألت عنا فنحن مَعْشَرٌ نُجُبٌ * الْأَزْدُ نِسْبَتُنَا وَالْمَاءُ غَسَّانُ.
وَمَعْنَى قوله صلى الله عليه وسلم: «ولد له عشرة» أَيْ كَانَ مِنْ نَسْلِهِ هَؤُلَاءِ الْعَشْرَةُ الَّذِينَ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أُصُولُ الْقَبَائِلِ مِنْ عَرَبِ الْيَمَنِ، لَا أَنَّهُمْ وُلِدُوا مِنْ صُلْبِهِ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ الْأَبَوَانِ وَالثَّلَاثَةُ وَالْأَقَلُّ وَالْأَكْثَرُ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مُبِينٌ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ كتب النسب، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «فَتَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ» أَيْ بعد ما أرسل(2/125)
الله تعالى عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ، مِنْهُمْ مَنْ أَقَامَ بِبِلَادِهِمْ، ومنهم من نزح إِلَى غَيْرِهَا، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ السَّدِّ أَنَّهُ كَانَ الْمَاءُ يَأْتِيهِمْ مِنْ بَيْنِ جَبَلَيْنِ، وَتَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَيْضًا سُيُولُ أَمَطَارِهِمْ وَأَوْدِيَتِهِمْ، فَعَمَدَ مُلُوكُهُمُ الْأَقَادِمُ، فَبَنَوْا بَيْنَهُمَا سَدًا عَظِيمًا مُحْكَمًا، حَتَّى ارْتَفَعَ الْمَاءُ، وَحُكَمَ عَلَى حَافَاتِ ذَيْنَكِ الْجَبَلَيْنِ، فَغَرَسُوا الْأَشْجَارَ، وَاسْتَغَلُّوا الثِّمَارَ فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْكَثْرَةِ وَالْحُسْنِ، كَمَا ذَكَرَ غَيْرُ واحد من السلف، أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ تَمْشِي تَحْتَ الْأَشْجَارِ وَعَلَى رَأْسِهَا مِكْتَلٌ أَوْ زِنْبِيلٌ - وَهُوَ الَّذِي تُخْتَرَفُ فِيهِ الثِّمَارُ - فَيَتَسَاقَطُ مِنَ الْأَشْجَارِ فِي ذَلِكَ مَا يَمْلَؤُهُ، مِنْ غَيْرِ أَنَّ يَحْتَاجَ إِلَى كُلْفَةٍ وَلَا قِطَافٍ، لِكَثْرَتِهِ وَنُضْجِهِ وَاسْتِوَائِهِ، وَكَانَ هذا السد بمأرب (مأرب بلدة بينها وبين اليمن ثلاث مراحل ويعرف هذا السد بسد مأرب) . ويذكر أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِبَلَدِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الذُّبَابِ وَلَا الْبَعُوضِ وَلَا الْبَرَاغِيثِ وَلَا شَيْءٌ مِنَ الْهَوَامِّ، وَذَلِكَ لِاعْتِدَالِ الْهَوَاءِ وَصِحَّةِ الْمِزَاجِ، وَعِنَايَةِ الله بهم ليوحدوه ويعبدوه، كما قال تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} ثُمَّ فسرها بقوله عزَّ وجلَّ {جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ} أَيْ مِنْ نَاحِيَتَيِ الْجَبَلَيْنِ وَالْبَلْدَةُ بَيْنَ ذَلِكَ، {كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} أي غفور لكم إن استررتم على التوحيد، وقوله تعالى: {فَأَعْرَضُواْ} أَيْ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَعَدَلُوا إِلَى عبادة الشمس من دون الله كما قال الهدهد لسليمان عليه الصلاة والسلام: {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ} قال السدي: أرسل الله عزَّ وجلَّ إِلَيْهِمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ نَبِيٍّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ سَيْلَ العرم} المراد بالعرم المياه، وقيل: الوادي، وقيل: الماء الغزير، وذكر غير واحد منهم ابن عباس وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: أَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ لَمَّا أَرَادَ عُقُوبَتَهُمْ بِإِرْسَالِ الْعَرِمِ عَلَيْهِمْ بَعَثَ عَلَى السَّدِّ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ، يُقَالُ لَهَا الْجُرَذُ، نقبته، وانساب الْمَاءُ فِي أَسْفَلِ الْوَادِي، وَخَرُبَ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَشْجَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَنَضَبَ الْمَاءُ عَنِ الْأَشْجَارِ الَّتِي فِي الْجَبَلَيْنِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ. فَيَبِسَتْ وَتَحَطَّمَتْ، وَتَبَدَّلَتْ تِلْكَ الْأَشْجَارُ المثمرة الأنيقة النضرة، كما قال تبارك وَتَعَالَى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} قال ابن عباس ومجاهد: هو الأراك وأكلة البربر (وَأَثْلٍ) هُوَ الطَّرْفَاءُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ شَجَرٌ يُشْبِهُ الطرفاء، وقيل: هو الثمر والله أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ: {وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} لَمَّا كَانَ أَجْوَدُ هَذِهِ الْأَشْجَارِ الْمُبْدَلِ بِهَا هُوَ السِّدْرُ، قَالَ {وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} فَهَذَا الَّذِي صَارَ أَمْرُ تَيْنِكَ الْجَنَّتَيْنِ إِلَيْهِ، بَعْدَ الثِّمَارِ النَّضِيجَةِ وَالْمَنَاظِرِ الْحَسَنَةِ وَالظِّلَالِ الْعَمِيقَةِ وَالْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ تَبَدَّلَتْ إِلَى شَجَرِ الْأَرَاكِ وَالطَّرْفَاءِ وَالسِّدْرِ ذِي الشَّوْكِ الْكَثِيرِ وَالثَّمَرِ الْقَلِيلِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبِهِمُ الْحَقَّ وَعُدُولِهِمْ عَنْهُ إلى الباطل، ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} أَيْ عَاقَبْنَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَلاَ يُعَاقَبُ إِلَّا الْكُفُورُ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: صَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيمُ لَا يُعَاقَبُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ إِلَّا الكفور، وقال ابن أبي حاتم عَنِ ابْنِ خِيرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَزَاءُ الْمَعْصِيَةِ الْوَهْنُ فِي الْعِبَادَةِ، وَالضِّيقُ فِي الْمَعِيشَةِ، وَالتَّعَسُّرُ فِي اللَّذَّةِ، قِيلَ: وَمَا التَّعَسُّرُ فِي اللَّذَّةِ؟ قَالَ: لا يصادف لذة حلال إلا جاءه من ينغصه إياها (ذكره ابن أبي حاتم) .(2/126)
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
- 18 - وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ
- 19 - فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النعمة والغبطة وَالْعَيْشِ الْهَنِيِّ الرَّغِيدِ، وَالْبِلَادِ الرَّخِيَّةِ، وَالْأَمَاكِنِ الْآمِنَةِ وَالْقُرَى الْمُتَوَاصِلَةِ الْمُتَقَارِبَةِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، مَعَ كَثْرَةِ أَشْجَارِهَا وَزُرُوعِهَا وَثِمَارِهَا، بِحَيْثُ إِنَّ مُسَافِرَهُمْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَمْلِ زَادٍ وَلَا مَاءٍ، بل حيث نزل وجد ماء وثمراً، ويقبل فِي قَرْيَةٍ وَيَبِيتُ فِي أُخْرَى بِمِقْدَارِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي سَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: هِيَ قُرًى بِصَنْعَاءَ، وقال مجاهد والحسن: هي قُرَى الشَّامِ، يَعْنُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مِنَ الْيَمَنِ إِلَى الشَّامِ فِي قُرًى ظَاهِرَةٍ مُتَوَاصِلَةٍ، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا بَيْتُ المقدس، وعنه: هِيَ قُرًى عَرَبِيَّةٌ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ {قُرًى ظَاهِرَةً} أَيْ بَيِّنَةً وَاضِحَةً يَعْرِفُهَا الْمُسَافِرُونَ، يَقِيلُونَ فِي وَاحِدَةٍ وَيَبِيتُونَ فِي أُخْرَى، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير} أي جعلنا بِحَسْبَ مَا يَحْتَاجُ الْمُسَافِرُونَ إِلَيْهِ، {سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} أي الأمن الحاصل لَهُمْ فِي سَيْرِهِمْ لَيْلًا وَنَهَارًا، {فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وظلموا أَنفُسَهُمْ} وذلك أنهم بطروا هذه النعمة، وَأَحَبُّوا مَفَاوِزَ وَمَهَامِهَ، يَحْتَاجُونَ فِي قَطْعِهَا إِلَى الزاد والرواحل والسير في المخاوف، كَمَا طَلَبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ مُوسَى أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ لَهُمْ مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ {مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي عَيْشٍ رَغِيدٍ، فِي مَنَّ وَسَلْوَى وَمَا يَشْتَهُونَ مِنْ مَآكِلَ وَمَشَارِبَ وَمَلَابِسَ مُرْتَفِعَةٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} ، وقال تعالى في حق هؤلاء {فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} أَيْ بِكُفْرِهِمْ، {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أَيْ جَعَلْنَاهُمْ حَدِيثًا لِلنَّاسِ، وَسَمَرًا يَتَحَدَّثُونَ بِهِ مِنْ خَبَرِهِمْ، وَكَيْفَ مَكَرَ اللَّهُ بِهِمْ وَفَرَّقَ شَمْلَهُمْ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ وَالْأُلْفَةِ وَالْعَيْشِ الْهَنِيءِ تَفَرَّقُوا في البلاد ههنا وههنا، وَلِهَذَا تَقُولُ الْعَرَبُ فِي الْقَوْمِ إِذَا تَفَرَّقُوا: تفرقوا أيدي سبأ، وأيادي سبأ، وتفرقوا شذر مذر، قال الشعبي: أما غسان فلحقوا بعمان فمزقهم الله كل ممزق بِالشَّامِ، وَأَمَّا الْأَنْصَارُ فَلَحِقُوا بِيَثْرِبَ، وَأَمَّا خُزَاعَةَ فَلَحِقُوا بِتِهَامَةَ، وَأَمَّا الْأَزْدُ فَلَحِقُوا بِعُمَانَ فَمَزَّقَهُمُ اللَّهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وابن جرير عن الشعبي) .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أَيْ إِنَّ فِي هَذَا الَّذِي حَلَّ بِهَؤُلَاءِ مِنَ النِّقْمَةِ وَالْعَذَابِ، وَتَبْدِيلِ النِّعْمَةِ وَتَحْوِيلِ الْعَافِيَةِ عُقُوبَةً عَلَى مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الكفر والآثام، لعبرة لكل صَبَّارٍ على المصائب، شكور على النعم، روى الإمام أحمد عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجِبْتُ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ حَمِدَ رَبَّهُ وَشَكَرَ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ حَمِدَ رَبَّهُ وَصَبَرَ، يُؤْجَرُ الْمُؤْمِنُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي اللُّقْمَةِ يَرْفَعُهَا إلى امرأته» (أخرجه الإمام أحمد ورواه النسائي وهو حديث عزيز من رواية عمر
ابن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنهما) ، وهذا الحديث لَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هريرة(2/127)
رضي الله عنه: «عجباً للمؤمن لا يقضي الله تعالى قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ؛ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضراء صبر فكان خيراً له وليس لذلك لأحد إلا للمؤمن» ، قال قَتَادَةَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} كَانَ مُطَرَّفٌ يَقُولُ: نِعْمَ الْعَبْدُ الصَّبَّارُ الشَّكُورُ الَّذِي إِذَا أُعْطِيَ شَكَرَ وَإِذَا ابْتُلِيَ صَبَرَ.(2/128)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
- 20 - وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ
- 21 - وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شيء حفيظ
لما ذكر تَعَالَى قِصَّةَ سَبَأٍ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي اتِّبَاعِهِمُ الْهَوَى وَالشَّيْطَانِ، أَخْبَرَ عَنْهُمْ وَعَنْ أمثالهم ممن اتبع إبليس والهوى والرشاد وَالْهُدَى فَقَالَ: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} ، قال ابن عباس: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ إِبْلِيسٍ {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلًا} ، وقال {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين} وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لما أهبط الله آدم عليه الصلاة والسلام مِنَ الْجَنَّةِ وَمَعَهُ حَوَّاءُ، هَبَطَ إِبْلِيسُ فَرِحًا بِمَا أَصَابَ مِنْهُمَا، وَقَالَ: إِذَا أَصَبْتُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ مَا أَصَبْتُ فَالذُّرِّيَّةُ أَضْعَفُ وَأَضْعَفُ، وَكَانَ ذَلِكَ ظَنًّا مِنْ إِبْلِيسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ إِبْلِيسُ: لَا أُفَارِقُ ابْنَ آدَمَ مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ أَعِدُهُ وَأُمَنِّيهِ وَأَخْدَعُهُ، فَقَالَ اللَّهُ تعالى: وعزتي وجلالي لَا أَحْجُبُ عَنْهُ التَّوْبَةَ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ بِالْمَوْتِ، وَلَا يَدْعُونِي إِلَّا أَجَبْتُهُ، وَلَا يَسْأَلُنِي إِلَّا أَعْطَيْتُهُ، وَلَا يَسْتَغْفِرُنِي إِلَّا غَفَرْتُ لَهُ (رواه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري) . وقوله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ مِنْ حُجَّةٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَاللَّهِ مَا ضَرَبَهُمْ بِعَصَا وَلَا أَكْرَهَهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَمَا كَانَ إِلَّا غُرُورًا وَأَمَانِيَّ، دعاهم إليها فأجابوه، وقوله عزَّوجلَّ: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} أَيْ إِنَّمَا سَلَّطْنَاهُ عَلَيْهِمْ ليظهر أمر من هو مؤمن بالآخرة والحساب وَالْجَزَاءِ، فَيُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ فِي الدُّنْيَا مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ، وَقَوْلُهُ تعالى: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ} أَيْ وَمَعَ حِفْظِهِ ضَلَّ مَنْ ضَلَّ مِنَ اتِّبَاعِ إِبْلِيسَ، وَبِحِفْظِهِ وَكِلَاءَتِهِ سَلِمَ مَنْ سَلِمَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أتباع الرسل.(2/128)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
- 22 - قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ
- 23 - وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ
بَيَّنَ تبارك وتعالى أَنَّهُ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لا نظير له ولا شريك، بَلْ هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْأَمْرِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ مُشَارِكٍ وَلَا مُنَازِعٍ وَلَا مُعَارِضٍ، فَقَالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ} أَيْ مِنَ الْآلِهَةِ الَّتِي عُبِدَتْ مِنْ دُونِهِ، {لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} ، كما قال تعالى: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ من قطمير} ، وقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} أَيْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا اسْتِقْلَالًا وَلَا عَلَى سَبِيلِ(2/128)
الشَّرِكَةِ {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ} أَيْ وليس لله من هذه الأنداد من معين يُسْتَظْهَرُ بِهِ فِي الْأُمُورِ، بَلِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ فُقَرَاءُ إِلَيْهِ عُبَيْدٌ لَدَيْهِ، قَالَ قَتَادَةُ فِي قوله عزَّ وجلَّ {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ} مِنْ عَوْنٍ يعينه بشيء، ثم قال تعالى {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أَيْ لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، لَا يَجْتَرِئُ أَحَدٌ أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَهُ تَعَالَى فِي شَيْءٍ، إِلَّا بَعْدَ إِذْنِهِ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ، كَمَا قال عزَّ وجلَّ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} ؟ وقال جلَّ وعلا: {وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى} ، وقال تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْ خشيته مشفقون} وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَأَكْبَرُ شَفِيعٍ عِنْدَ الله تعالى، أَنَّهُ حِينَ يَقُومُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ لِيَشْفَعَ فِي الخلق كلهم، قال: «فأسجد لله تعالى فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، وَيَفْتَحَ عليَّ بِمَحَامِدَ لَا أُحْصِيهَا الْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ يا محمد ارفع رأسك، وقل تسمع وَسَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ» الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن
قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا الْحَقَّ} ، وَهَذَا أَيْضًا مَقَامٌ رَفِيعٌ فِي الْعَظَمَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى إذا تكلم بالوحي فسمع أَهْلُ السَّمَاوَاتِ كَلَامَهُ أُرْعِدُوا مِنَ الْهَيْبَةِ حَتَّى يلحقهم مثل الغشي، قال ابن مسعود {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} أَيْ زَالَ الْفَزَعُ عَنْهَا، وقال ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة في قوله عزَّ وجلَّ: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُواْ الحق} يقول: خلي عن قلوبهم، فإذا كان كذلك سأل بَعْضُهُمْ بَعْضًا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُ بِذَلِكَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ لِلَّذِينِ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ لِمَنْ تَحْتَهُمْ، حَتَّى يَنْتَهِيَ الْخَبَرُ إِلَى أَهْلِ السماء الدنيا، ولهذا قال تعالى: {قَالُواْ الْحَقَّ} أَيْ أَخْبَرُوا بِمَا قَالَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .
وقال آخرون: بل معنى قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا اسْتَيْقَظُوا مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْغَفْلَةِ فِي الدنيا، قَالُواْ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَقِيلَ لَهُمْ: الْحَقُّ، وَأُخْبِرُوا بِهِ مِمَّا كَانُوا عَنْهُ لَاهِينَ فِي الدنيا، قال مُجَاهِدٍ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} كَشَفَ عَنْهَا الْغِطَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ {حَتَّى إِذَا فزع عن قلوبهم} يعني من فيها من الشك والتكذيب، وقال ابن أَسْلَمَ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} يَعْنِي مَا فِيهَا مِنَ الشَّكِّ قَالَ فُزِّعَ الشَّيْطَانُ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَفَارَقَهُمْ وَأَمَانِيهِمْ وَمَا كَانَ يُضِلُّهُمْ {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} قَالَ: وَهَذَا فِي بَنِي آدَمَ - هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ - أَقَرُّوا حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِقْرَارُ، وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أن الضمير عائد على (الملائكة) وهذا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ لِصِحَّةِ الأحاديث فيه والآثار، قَالَ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ في صحيحه عن سفيان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إذا قضى الله تعالى الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانَ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مُسْتَرِقُ السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بعض - ووصف سفيان بيده فحرفها ونشر بَيْنَ أَصَابِعِهِ - فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ، فَرُبَّمَا
أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كذبة فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، كذا وكذا، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء" (أخرجه البخاري ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه) . وعن النواس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ(2/129)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَرَادَ الله تبارك وتعالى أَنْ يُوحِيَ بِأَمْرِهِ تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ، فَإِذَا تَكَلَّمَ أَخَذَتِ السَّمَاوَاتِ مِنْهُ رَجْفَةٌ - أَوْ قَالَ رِعْدَةٌ - شديدة من خوف الله تعالى، فَإِذَآ سَمِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صَعِقُوا وَخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّدًا، فَيَكُونُ أَوَّلُ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ (جبريل) عليه الصلاة والسلام، فَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أَرَادَ، فَيَمْضِي به جبريل عليه الصلاة والسلام على الملائكة، كلما مر بسماء سماء يسأله مَلَائِكَتُهَا: مَاذَا قَالَ رَبُّنَا يَا جِبْرِيلُ، فَيَقُولُ عليه السلام: قَالَ الْحَقُّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، فَيَقُولُونَ كُلُّهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ جِبْرِيلُ، فَيَنْتَهِي جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ إلى حيث أمره الله تعالى مِّنَ السمآء والأرض" (أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن خزيمة عن النواس بن سمعان مرفوعاً) .(2/130)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
- 24 - قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ
مُّبِينٍ
- 25 - قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ
- 26 - قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ
- 27 - قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
يَقُولُ تَعَالَى مُقَرِّرًا تَفَرُّدَهُ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، وَانْفِرَادَهُ بالإلهية أيضاً، فكما كانوا يعترفون بأنهم لا يرزقهم مِّنَ السمآء والأرض إِلَّا اللَّهُ، فَكَذَلِكَ فَلْيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ غيره، وقوله تَعَالَى: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أَيْ وَاحِدٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مُبْطِلٌ، وَالْآخَرُ مُحِقٌّ، لَا سَبِيلَ إِلَى أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ وَنَحْنُ عَلَى الْهُدَى أَوْ عَلَى الضَّلَالِ، بَلْ وَاحِدٌ مِنَّا مُصِيبٌ، وَنَحْنُ قَدْ أَقَمْنَا الْبُرْهَانَ عَلَى التَّوْحِيدِ فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ من الشرك بالله تعالى، وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} قَالَ قَتَادَةُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُشْرِكِينَ، وَاللَّهِ مَا نَحْنُ وَإِيَّاكُمْ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ، إنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ لَمُهْتَدٍ. وَقَالَ عكرمة: معناها إِنَّا نَحْنُ لَعَلَى هُدًى وَإِنَّكُمْ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ، وقوله تَعَالَى: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} مَعْنَاهُ التَّبَرِّي مِنْهُمْ أَيْ لَسْتُمْ مِنَّا وَلَا نَحْنُ مِنْكُمْ، بَلْ نَدْعُوكُمْ إِلَى الله تعالى وَإِلَى تَوْحِيدِهِ وَإِفْرَادِ الْعِبَادَةِ لَهُ، فَإِنْ أَجَبْتُمْ فَأَنْتُمْ مِنَّا وَنَحْنُ مِنْكُمْ، وَإِنْ كَذَّبْتُمْ فَنَحْنُ بُرَآءُ مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ بُرَآءُ مِنَّا كَمَا قَالَ تعالى: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} ، وقوله تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} أَيْ يَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَسَتَعْلَمُونَ يَوْمَئِذٍ لِمَنِ الْعِزَّةُ وَالنُّصْرَةُ وَالسَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يتفرقون} ، ولهذا قال الله عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} أَيِ الْحَاكِمُ الْعَادِلُ الْعَالِمُ بحقائق الأمور، وقوله تبارك وتعالى: {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ} أَيْ أَرَوْنِي هَذِهِ الْآلِهَةِ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَصَيَّرْتُمُوهَا لَهُ عَدْلًا، (كَلاَّ) أَيْ لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ وَلَا نَدِيدٌ وَلَا شَرِيكٌ وَلَا عَدِيلٌ، ولهذا قال تعالى: {بَلْ هُوَ اللَّهُ} أَيِ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ، {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أَيْ ذُو العزة الذي قهر بها كُلَّ شَيْءٍ، (الْحَكِيمُ) فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَشَرْعِهِ وقدره، تبارك وتعالى وتقدس عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كبيراً.(2/130)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
- 28 - وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
- 29 - وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
- 30 - قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تستقدمون
يقول تعالى لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسليماً {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} أي إلى جميع الخلائق من المكلفين كقوله تبارك وتعالى: {قُلِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إليكم جميعاً} ، {بَشِيراً وَنَذِيراً} أَيْ تُبَشِّرُ مَنْ أَطَاعَكَ بِالْجَنَّةِ، وَتُنْذِرُ مَنْ عَصَاكَ بِالنَّارِ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} ، كقوله عزَّ وجلَّ: {وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بؤمنين} ، {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله} ، قال محمد بن كعب: يعني إلى الناس عامة، وقال قتادة: أرسل اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْعَرَبِ والعجم، فأكرمهم على الله تبارك وتعالى أَطْوَعُهُمْ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حاتم عن عكرمة قال: سمعت ابن عباس
رضي الله عنهما يقول: إن الله تعالى فَضَّلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ، قَالُوا: يَا ابْنَ عباس فيم فضله على الأنبياء؟ قال رضي الله عنه إن الله تعالى قَالَ: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} وَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} فأرسله الله تعالى إلى الجن والإنس، وهذا كما ثبت في الصحيحين، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خاصة وبعثت إلى الناس عامة" (أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ موقوفاً) ، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بُعِثْتُ إِلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ» قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، وَقَالَ غَيْرُهُ يَعْنِي الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ، وَالْكُلُّ صَحِيحٌ، ثُمَّ قال الله عزَّ وجلَّ مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ فِي اسْتِبْعَادِهِمْ قِيَامَ السَّاعَةِ: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} وهذه الآية، كقوله عزَّ وجلَّ: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا} الآية، ثم قال تعالى: {قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ} أَيْ لَكُمْ مِيعَادٌ مُؤَجَّلٌ، لا يزاد ولا ينقص، فَإِذَا جَاءَ فَلَا يُؤَخَّرُ سَاعَةً وَلَا يُقَدَّمُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ} ، وقال عزَّ وجلَّ: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يأتي لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وسعيد} .(2/131)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
- 31 - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلِ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ
- 32 - قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ
- 33 - وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(2/131)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَمَادِي الْكُفَّارِ فِي طُغْيَانِهِمْ وعنادهم، وإصرارهم عل عدم الإيمان بالقرآن الكريم، وبما أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ} قَالَ الله عزَّ وجلَّ مُتَهَدِّدًا لَهُمْ وَمُتَوَعِّدًا وَمُخْبِرًا عَنْ مَوَاقِفِهِمُ الذَّلِيلَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي حَالِ تُخَاصِمِهِمْ وَتَحَاجِّهِمْ، {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلِ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} وهم الأتباع {لِلَّذِينَ استكبروا} منهم وَهُمْ قَادَتُهُمْ وَسَادَتُهُمْ: {لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} أَيْ لَوْلَا أَنْتُمْ تَصُدُّونَا لَكُنَّا اتَّبَعْنَا الرُّسُلَ، وَآمَنَّا بِمَا جَاءُونَا بِهِ، فَقَالَ لَهُمُ الْقَادَةُ وَالسَّادَةُ وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا {أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ} ، أَيْ نَحْنُ مَا فَعَلْنَا بِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ أَنَّا دَعَوْنَاكُمْ فَاتَّبَعْتُمُونَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، وَخَالَفْتُمُ الْأَدِلَّةَ والبراهين والحجج التي جاءت بها الرسل لِشَهْوَتِكُمْ وَاخْتِيَارِكُمْ لِذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالُوا: {بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أَيْ بَلْ كُنْتُمْ تَمْكُرُونَ بنا ليلاً ونهاراً، وتغرّونا وَتُخْبِرُونَا أَنَّا عَلَى هُدًى وَأَنَّا عَلَى شَيْءٍ، فإذا اجتمع ذَلِكَ بَاطِلٌ وَكَذِبٌ وَمَيْنٌ، قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} يَقُولُ بَلْ مكركم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، {إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} أَيْ نُظَرَاءَ وَآلِهَةً مَعَهُ وتقيموا لنا شبهاً وأشياء تُضِلُّونَا بِهَا، {وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ} أَيِ الْجَمِيعُ مِنَ السَّادَةِ وَالْأَتْبَاعِ كُلٌّ نَدِمَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ، {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَهِيَ السَّلَاسِلُ الَّتِي تَجْمَعُ أَيْدِيهِمْ مَعَ أَعْنَاقِهِمْ، {هَلْ
يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أَيْ إِنَّمَا نُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، كلٌ بِحَسْبِهِ لِلْقَادَةِ عَذَابٌ بِحَسْبِهِمْ، وَلِلْأَتْبَاعِ بِحَسْبِهِمْ، {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} قال ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن جهنم لما سيق إليها تلقَّاهم لَهَبُهَا، ثُمَّ لَفَحَتْهُمْ لَفْحَةً فَلَمْ يَبْقَ لهم لحم إلا سقط على العرقوب» (أخرجه ابن أبي حاتم) .(2/132)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
- 34 - وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
- 35 - وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ
- 36 - قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
- 37 - وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ
- 38 - وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ
- 39 - قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَآمِرًا لَهُ بِالتَّأَسِّي بِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، ومخبراً له بِأَنَّهُ مَا بَعَثَ نَبِيًّا فِي قَرْيَةٍ إِلَّا كَذَّبَهُ مُتْرَفُوهَا وَاتَّبَعَهُ ضُعَفَاؤُهُمْ، كَمَا قَالَ قَوْمُ نوح: {أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} ، وَقَالَ الْكُبَرَاءُ مِنْ قَوْمِ صَالِحٍ: {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ؟ قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ(2/132)
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} ، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فيها} ، وقال جلَّ وعلا: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} ، وقال جلَّ وعلا ههنا: {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ} أَيْ نبي أو ورسول {إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ} وَهُمْ أُولُو النِّعْمَةِ وَالْحِشْمَةِ وَالثَّرْوَةِ وَالرِّيَاسَةِ، قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ جَبَابِرَتُهُمْ وَقَادَتُهُمْ ورؤوسهم فِي الشَّرِّ {إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي لا نؤمن به ولا نتبعه، عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: كَانَ رَجُلَانِ شَرِيكَانِ خَرَجَ أَحَدُهُمَا إِلَى السَّاحِلِ وَبَقِيَ الْآخَرُ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى صَاحِبِهِ يَسْأَلُهُ مَا فَعَلَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِنَّمَا اتَّبَعَهُ أَرَاذِلُ النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ، قَالَ: فَتَرَكَ تِجَارَتَهُ ثم أتى صاحبه، فقال: دلني عليه، وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ أَوْ بَعْضَ الْكُتُبِ، قَالَ: فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إلامَ تدعو؟ قال: «أدعو إِلَى كَذَا وَكَذَا» قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الله، قال صلى الله عليه وسلم: «وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟» قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ نبي إلا اتبعه أراذل النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ، قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (أخرجه ابن أبي حاتم) ، وَهَكَذَا قَالَ هِرَقْلُ لِأَبِي سُفْيَانَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ تِلْكَ الْمَسَائِلَ قَالَ فِيهَا: وَسَأَلْتُكَ أَضُعَفَاءُ النَّاسِ اتَّبَعَهُ أَمْ أَشْرَافُهُمْ، فَزَعَمْتَ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ وهم أتباع الرسل (هذا جزء من حديث طويل رواه الشيخان) . وقال تبارك وتعالى إخباراً عن المترفين الكاذبين: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أَيِ افْتَخَرُوا بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَاعْتَقَدُوا أن ذلك دليل على محبة الله تعالى لَهُمْ وَاعْتِنَائِهِ بِهِمْ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ لِيُعْطِيَهُمْ هَذَا فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يُعَذِّبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وهيهات لهم ذلك، قال الله تَعَالَى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ؟ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} ، وقال تبارك وتعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} ، ولهذا قال عزَّ وجلَّ ها هنا: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} أَيْ يُعْطِي الْمَالُ لِمَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، فَيُفْقِرُ مَنْ يَشَاءُ وَيُغْنِي مَنْ يشاء، وله الحكمة التامة البالغة، والحجة القاطعة الدامغة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} أَيْ لَيْسَتْ هَذِهِ دَلِيلًا عَلَى مَحَبَّتِنَا لكم ولا اعتنائنا بكم، ولهذا قال الله تعالى: {إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أَيْ إِنَّمَا يُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى الإيمانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضعف بِمَا عَمِلُواْ} أي تصاعف لَهُمُ الْحَسَنَةُ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} أَيْ فِي مَنَازِلِ الْجَنَّةِ الْعَالِيَةِ {آمِنُونَ} مِنْ كُلِّ بَأْسٍ وَخَوْفٍ وأذى، ومن كل شر يحذر منه.
عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَغُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا» فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: لِمَنْ هِيَ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لِمَنْ طيَّب الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وصلى بالليل والناس نيام» (أخرجه ابن أبي حاتم) . {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أَيْ يَسْعَوْنَ في الصد عن سبيل الله واتباع رسله وَالتَّصْدِيقِ بِآيَاتِهِ، {أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} أَيْ جميعهم مجزيون بأعمالهم فيها بحسبهم، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} أَيْ بِحَسْبِ مَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، يَبْسُطُ عَلَى هَذَا مِنَ الْمَالِ(2/133)
كثيراً، ويضيّق على هذا ويقتر عليه رِزْقَهُ جِدًّا، وَلَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ مَا لَا يُدْرِكُهَا غَيْرُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} أَيْ كَمَا هُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الدُّنْيَا هَذَا فَقِيرٌ مُدْقِعٌ وَهَذَا غَنِيٌّ مُوَسَّعٌ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ هُمْ فِي الْآخِرَةِ، هَذَا فِي الْغُرُفَاتِ فِي أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَهَذَا فِي الْغَمَرَاتِ فِي أَسْفَلِ الدَّرَكَاتِ، وَأَطْيَبُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» (أخرجه مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما) ، وقوله تَعَالَى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} أَيْ مَهْمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فِيمَا أَمَرَكُمْ به، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبذل، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنفقْ أُنفقْ عَلَيْكَ» ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنفقْ بِلَالًا، وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إقلالاً» ، وعن حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ألا إن بَعْدَ زَمَانِكُمْ هَذَا زَمَانٌ عَضُوضٌ يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ حَذَارَ الْإِنْفَاقِ» ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (أخرجه ابن أبي حاتم) ، وفي الحديث: «شرار الناس يُبَايِعُونَ كُلَّ مُضْطَرٍّ، أَلَا إِنَّ بِيعَ الْمُضْطَرِّينَ حَرَامٌ، أَلَا إِنَّ بَيْعَ الْمُضْطَرِّينَ حَرَامٌ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَعْرُوفٌ فَعُدْ بِهِ عَلَى أَخِيكَ، وإلا فلا تزده هلاكاً إلى هلاكه» (أخرجه الحافظ الموصلي وفي إسناده ضعف) ، وقال مُجَاهِدٌ: لَا يَتَأَوَّلَنَّ أَحَدُكُمْ هَذِهِ الْآيَةَ {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} إِذَا كَانَ عِنْدَ أَحَدِكُمْ مَا يُقِيمُهُ فَلْيَقْصِدْ فِيهِ، فَإِنَّ الرزق مقسوم.(2/134)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
- 40 - وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ
- 41 - قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ
- 42 - فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَقْرَعُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رؤوس الْخَلَائِقِ، فَيَسْأَلُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَزْعُمُونَ أنهم يعبدون الأنداد التي هي على صورهم لِيُقَرِّبُوهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ {أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} أَيْ أَنْتُمْ أَمَرْتُمْ هَؤُلَاءِ بعبادتكم، كما قال تعالى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل} ، وكما يقول لعيسى عليه الصلاة والسلام: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بحق} ، وَهَكَذَا تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: {سُبْحَانَكَ} أَيْ تَعَالَيْتَ وَتَقَدَّسْتَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعَكَ إِلَهٌ {أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ} أَيْ نَحْنُ عَبِيدُكَ وَنَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ هَؤُلَاءِ، {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} يَعْنُونَ الشياطين لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم {أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} ، كما قال تبارك وتعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثاُ وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً * لَّعَنَهُ الله} ، قال الله عزَّ وجلَّ: {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} أَيْ لَا يَقَعُ لَكُمْ نَفْعٌ مِمَّنْ كُنْتُمْ تَرْجُونَ نَفْعَهُ الْيَوْمَ، مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْأَوْثَانِ الَّتِي ادَّخَرْتُمْ عِبَادَتَهَا لِشَدَائِدِكُمْ وَكُرَبِكُمْ، الْيَوْمَ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ {ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تقريعاً وتوبيخاً.(2/134)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
- 43 - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ
- 44 - وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ
- 45 - وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ أنهم يستحقون الْعُقُوبَةَ وَالْأَلِيمَ مِنَ الْعَذَابِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ بَيِّنَاتٍ، يَسْمَعُونَهَا غَضَّةً طَرِيَّةً مِنْ لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قَالُواْ مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ} يَعْنُونَ أَنَّ دِينَ آبَائِهِمْ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ مَا جَاءَهُمْ به الرسول عندهم باطل، {وَقَالُواْ مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى} يَعْنُونَ الْقُرْآنَ، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ} أَيْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى الْعَرَبِ مِنْ كِتَابٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانُوا يَوَدُّونَ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: لَوْ جَاءَنَا نَذِيرٌ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيْنَا كِتَابٌ، لَكُنَّا أَهْدَى
مِنْ غَيْرِنَا، فَلَمَّا منَّ الله عَلَيْهِم بذلك كذبوه وجحدوه وعاندوه، ثم قال تعالى: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أَيْ مِنَ الْأُمَمِ {وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ} ، قَالَ ابْنُ عباس: أي من القوة في الدنيا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أكثر منهم وأشد قوة} أَيْ وَمَا دَفَعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ عَذَابَ اللَّهِ وَلَا رَدَّهُ، بَلْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَمَّا كَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ} أي فكيف كان عقابي ونكالي وانتصاري لرسلي.(2/135)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
- 46 - قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ
يقول تبارك وتعالى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ الزَّاعِمِينَ أَنَّكَ مَجْنُونٌ: {إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ}
أَيْ إِنَّمَا آمُرُكُمْ بِوَاحِدَةٍ، وَهِيَ {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ} أَيْ تقوموا قياماً خالصاً لله عزَّ وجلَّ مِنْ غَيْرِ هَوًى وَلَا عَصَبِيَّةٍ فَيَسْأَلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا: هَلْ بِمُحَمَّدٍ مِنْ جُنُونٍ؟ فَيَنْصَحُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ} أَيْ يَنْظُرُ الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَسْأَلُ غَيْرَهُ مِّنَ النَّاسِ عَنْ شَأْنِهِ إِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَيَتَفَكَّرُ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ} (هَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وغيرهم، وتفسير الآية بِالْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ وَفُرَادَى بَعِيدٌ كما ذكر ابن كثير) ، وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} ، قال البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصفا ذات يوم فقال: «يا صاحباه» فاجتمعت إليه قريش فقالوا: مالك؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ(2/135)
أَنَّ الْعَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ أَوْ يُمَسِّيكُمْ أَمَا كُنْتُمْ تصدقوني" قالوا: بلى؟ قال صلى الله عليه وسلم: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {تبت يد أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} ، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} . وقال الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَنَادَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ: «أيها الناس تدرون ما مثلي ومثلكم؟» قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ مَثَلُ قَوْمٍ خَافُوا عَدُوًّا يَأْتِيهِمْ، فَبَعَثُوا رَجُلًا يَتَرَاءَى لَهُمْ، فَبَيْنَمَا هُوَ كذك أَبْصَرَ الْعَدُوَّ، فَأَقْبَلَ لِيُنْذِرَهُمْ وَخَشِيَ أَنْ يُدْرِكَهُ الْعَدُوُّ قَبْلَ أَنْ يُنْذِرَ قَوْمَهُ فَأَهْوَى بِثَوْبِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ أُوتِيتُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ أُوتِيتُمْ" ثَلَاثَ مرات.(2/136)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
- 47 - قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
- 48 - قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ
- 49 - قُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ
- 50 - قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ: {مَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} ، أَيْ لَا أُرِيدُ مِنْكُمْ جُعْلًا ولا عطاء على أداء رسالة الله عزَّ وجلَّ إِلَيْكُمْ، وَنُصْحِي إِيَّاكُمْ وَأَمْرِكُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} ، أَيْ إِنَّمَا أَطْلُبُ ثَوَابَ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أَيْ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْأُمُورِ بِمَا أَنَا عَلَيْهِ مِنْ إِخْبَارِي عَنْهُ بِإِرْسَالِهِ إياي إليكم وما أنتم عليه، وقوله عزَّ وجلَّ: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أَيْ يُرْسِلُ الْمَلَكَ إِلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا في الأرض، وقوله تبارك وتعالى: {قُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} أَيْ جَاءَ الْحَقُّ مِنَ اللَّهِ وَالشَّرْعِ العظيم، وذهب الباطل واضمحل، كقوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} ، وَلِهَذَا لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَوَجَدَ تِلْكَ الْأَصْنَامَ مَنْصُوبَةً حَوْلَ الْكَعْبَةِ، جَعَلَ يَطْعَنُ الصنم منها وَيَقْرَأُ: {وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} ، {قُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أَيْ لَمْ يَبْقَ لِلْبَاطِلِ مَقَالَةً وَلَا رِيَاسَةً وَلَا كَلِمَةً، وَزَعَمَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بالباطل ها هنا إبليس أي إِنَّهُ لَا يَخْلُقُ أَحَدًا وَلَا يُعِيدُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ حَقًا، ولكن ليس هو المراد ههنا والله أعلم، وقوله تبارك وتعالى: {قُلِ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} أَيِ الخير كله من عند الله وفيما أنزل اللَّهُ عزَّ َّوجلَّ، مِنَ الْوَحْيِ وَالْحَقِّ الْمُبِينِ، فِيهِ الْهُدَى وَالْبَيَانُ وَالرَّشَادُ، وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يضل من تلقاء نفسه، وقوله تعالى: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} أَيْ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ {قَرِيبٌ} يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وقد روي في الصحيحين: «إنكم لا تدعون أصماً وَلَا غَائِبًا إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا مُجِيبًا» .(2/136)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
- 51 - وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ
- 52 - وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ
- 53 - وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ
- 54 - وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شك مريب
يقول تبارك وتعالى: ولو ترى يا محمد إذا فَزِعَ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {فَلاَ فَوْتَ} أي فلا مفر لهم ولا وزر لهم وَلَا مَلْجَأَ {وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} أَيْ لم يمكنوا أن يمعنوا فِي الْهَرَبِ، بَلْ أُخِذُوا مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: حِينَ خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ، وقال مجاهد وَقَتَادَةُ: مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ: يَعْنِي عَذَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي قَتَلَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ الطَّامَّةُ الْعُظْمَى، وَإِنْ كَانَ مَا ذُكِرَ مُتَّصِلًا بذلك، {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ آمنا بالله ورسله كما قال تعالى: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا موقنون} ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} أَيْ وَكَيْفَ لَهُمْ تَعَاطِي الْإِيمَانِ، وَقَدْ بَعُدُوا عَنْ مَحَلِّ قَبُولِهِ مِنْهُمْ، وَصَارُوا إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةَ، وَهِيَ (دَارُ الْجَزَاءِ) لَا دَارُ الِابْتِلَاءِ؟ فَلَوْ كَانُوا آمِنُوا فِي الدُّنْيَا لَكَانَ ذَلِكَ نَافِعَهُمْ، وَلَكِنْ بَعْدَ مَصِيرِهِمْ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةَ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى قَبُولِ الإيمان، قَالَ مُجَاهِدٌ: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ} قَالَ: التَّنَاوُلُ لِذَلِكَ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: التَّنَاوُشُ تَنَاوُلُهُمُ الْإِيمَانَ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدِ انْقَطَعَتْ عَنْهُمُ الدُّنْيَا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَمَا إِنَّهُمْ طَلَبُوا الْأَمْرَ مِنْ حَيْثُ لَا يُنَالُ، تَعَاطَوُا الْإِيمَانَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَلَبُوا الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا وَالتَّوْبَةَ مِمَّا هُمْ فِيهِ وَلَيْسَ بِحِينِ رجعة ولا توبة.
وقوله تعالى: {وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} أَيْ كَيْفَ يَحْصُلُ لَهُمُ الْإِيمَانُ فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ كَفَرُوا بِالْحَقِّ فِي الدُّنْيَا وَكَذَّبُوا بِالرُّسُلِ، {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} يعني بالظن، كما قال تعالى: {رَجْماً بالغيب} فَتَارَةً يَقُولُونَ شَاعِرٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ كَاهِنٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ سَاحِرٌ، وَتَارَةً يَقُولُونَ مَجْنُونٌ، إِلَى غَيْرِ ذلك من الأقوال الباطلة، ويكذبون بالبعث وَالنُّشُورِ وَالْمَعَادِ، {وَيَقُولُونَ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وما نحن بمستيقين} قال قتادة ومجاهد: يَرْجُمُونَ بِالظَّنِّ، لَا بَعْثَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نار، وقوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمَا: يَعْنِي الْإِيمَانُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} : وَهِيَ التَّوْبَةُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا مِنْ مَالٍ وَزَهْرَةٍ وَأَهْلٍ (وَرُوِيَ نحوه عن ابن عمر وابن عباس وَالرَّبِيعِ بْنِ أنَس وَهُوَ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ وَجَمَاعَةٍ من العلماء) ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فَإِنَّهُ قَدْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شَهَوَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا طَلَبُوهُ فِي الْآخِرَةِ فَمُنِعُوا مِنْهُ. وقوله تعالى: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِن قَبْلُ} أَيْ كَمَا جرى للأمم الماضية المكذبة بالرسل لَمَّا جَاءَهُمْ بِأْسُ اللَّهِ، تَمَنَّوْا أَنْ لَوْ آمنوا فلم يقبل منهم {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون} ، وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ} أَيْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا فِي شَكٍّ وَرِيبَةٍ فَلِهَذَا لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ، قَالَ قَتَادَةُ: إِيَّاكُمْ وَالشَّكَّ وَالرِّيبَةَ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى شَكٍّ بُعِثَ عَلَيْهِ، وَمَنْ مَاتَ عَلَى يقين بعث عليه.(2/137)
- 35 - سورة فاطر(2/138)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كُنْتُ لَا أَدْرِي مَا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ، فَقَالَ أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها أي بدأتها، وقال ابن عباس: {فَاطِرِ السماوات والأرض} : أي بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: فَهُوَ خَالِقُ السماوات والأرض، وقوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً} أَيْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ، {أُولِي أَجْنِحَةٍ} أَيْ يَطِيرُونَ بِهَا لِيُبَلِّغُوا مَا أُمِرُوا بِهِ سَرِيعًا {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} أَيْ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ جَنَاحَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ ثَلَاثَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ أَرْبَعَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم رأى جبريل عليه السلام (لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ) وَلَهُ سِتُّمَائَةِ جَنَاحٍ بَيْنَ كُلِّ جَنَاحَيْنِ كَمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلِهَذَا قَالَ جلَّ وعلا: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قَالَ السُّدِّيُّ: يَزِيدُ فِي الْأَجْنِحَةِ وَخَلْقِهِمْ مَا يَشَاءُ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ} يَعْنِي حُسْنَ الصوت (رواه البخاري في الأدب، وقرئ في الشاذ (يَزِيدُ فِي الخلق) بالحاء المهملة) .(2/138)
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
- 2 - مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى ولا معطي لما منع، رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، كان يقول إذا انصرف من الصَّلَاةِ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الجد» (أخرجاه في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة) ، وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ يَقُولُ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ [ص:139] حَمْدُهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مَلْءَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَمَلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، اللَّهُمَّ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» . وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تبارك وتعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لفضله} ولها نظائر كثيرة.(2/138)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
- 3 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
يُنَبِّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَوْحِيدِهِ، فِي إِفْرَادِ الْعِبَادَةَ لَهُ، كَمَا أَنَّهُ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، فَكَذَلِكَ فَلْيُفْرَدْ بِالْعِبَادَةِ وَلَا يُشْرَكْ بِهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ والأوثان، ولهذا قال تعالى: {لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فأنَّى تُؤْفَكُونَ} أَيْ فَكَيْفَ تُؤْفَكُونَ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ، وَوُضُوحِ هَذَا الْبُرْهَانِ، وَأَنْتُمْ بَعْدَ هَذَا تَعْبُدُونَ الْأَنْدَادَ وَالْأَوْثَانَ؟ والله أعلم.(2/139)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)
- 4 - وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
- 5 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ
- 6 - إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أصحاب السعير
يقول تبارك وتعالى: وإن يكذبوك يَا مُحَمَّدُ - هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ - وَيُخَالِفُوكَ فِيمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، فَلَكَ فِيمَنْ سَلَفَ قَبْلَكَ مِنَ الرُّسُلِ أُسْوَةٌ، فَإِنَّهُمْ كَذَلِكَ جَاءُوا قَوْمَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، وَأَمَرُوهُمْ بِالتَّوْحِيدِ فَكَذَّبُوهُمْ وَخَالَفُوهُمْ، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أَيْ وَسَنَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ أوفر الجزاء، ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أَيِ الْمَعَادُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أَيِ الْعِيشَةُ الدَّنِيئَةُ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَتْبَاعِ رُسُلِهِ مِنَ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ، فَلَا تَتَلَهَّوْا عَنْ ذَلِكَ الْبَاقِي بِهَذِهِ الزَّهْرَةِ الْفَانِيَةِ، {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وهو الشيطان، أي لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان ويصرفكم عَنِ اتِّبَاعِ رُسُلِ اللَّهِ وَتَصْدِيقِ كَلِمَاتِهِ، فَإِنَّهُ غرار كذاب أفاك، وهذه كَالْآيَةِ الَّتِي فِي آخِرِ لُقْمَانَ: {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور} ، وقال زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُوَ الشَّيْطَانُ، كَمَا قَالَ المؤمنون للمنافقين يوم القيامة: {وَغرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بالله الغرور} ثُمَّ بيَّن تَعَالَى عَدَاوَةَ إِبْلِيسَ لِابْنِ آدَمَ، فَقَالَ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} أَيْ هُوَ مُبَارِزٌ لَكُمْ بِالْعَدَاوَةِ، فَعَادُوهُ أَنْتُمْ أَشَدَّ الْعَدَاوَةِ وَخَالِفُوهُ، وَكَذِّبُوهُ فِيمَا يَغُرُّكُمْ بِهِ، {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} أَيْ إِنَّمَا يَقْصِدُ أَنْ يُضِلَّكُمْ حَتَّى تَدْخُلُوا مَعَهُ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ، فَهَذَا هُوَ الْعَدُوُّ المبين، وهذه كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} .(2/139)