قُوَّةٍ أَنكَاثاً} . قال السدي: هَذِهِ امْرَأَةٌ خَرْقَاءُ كَانَتْ بِمَكَّةَ كُلَمَّا غَزَلَتْ شَيْئًا نَقَضَتْهُ بَعْدَ إِبْرَامِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ هَذَا مَثَلٌ لِمَنْ نَقَضَ عَهْدَهُ بَعْدَ تَوْكِيدِهِ، وهذا القول أرحج وأظهر، سواء كَانَ بِمَكَّةَ امْرَأَةٌ تَنْقُضُ غَزْلَهَا أَمْ لَا، وقوله: {أَنكَاثاً} أي انقاضاً، {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} أَيْ خَدِيعَةً وَمَكْرًا {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} أي تحلفون لِلنَّاسِ إِذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْكُمْ لِيَطْمَئِنُّوا إِلَيْكُمْ، فَإِذَا أَمْكَنَكُمُ الْغَدْرُ بِهِمْ غَدَرْتُمْ، فَنَهَى اللَّهُ عن ذلك لينبه بالأدنى على الأعلى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} : أَيْ أَكْثَرُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يُحَالِفُونَ الْحُلَفَاءَ فَيَجِدُونَ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَعَزَّ، فَيَنْقُضُونَ حِلْفَ هَؤُلَاءِ وَيُحَالِفُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هُمْ أكثر وأعز فنهوا عن ذلك، وقوله: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ} قال ابن جرير: أي بأمره إياكم بالوفاء بالعهد {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.(2/345)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
- 93 - وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
- 94 - وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
- 95 - وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إنما عِندَ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
- 96 - مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يَقُولُ الله تَعَالَى: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ} أَيُّهَا النَّاسُ {أُمَّةً وَاحِدَةً} أَيْ لَوَفَّقَ بَيْنَكُمْ وَلَمَا جَعَلَ اخْتِلَافًا وَلَا تباغض ولا شحناء، {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ثُمَّ يَسْأَلُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ جَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا عَلَى الْفَتِيلِ وَالنَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ؛ ثُمَّ حذَّر تَعَالَى عِبَادَهُ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَيْمَانِ دَخَلًا: أَيْ خَدِيعَةً وَمَكْرًا لِئَلَّا تَزِلَّ قَدَمٌ {بَعْدَ ثُبُوتِهَا} مثلٌ لِمَنْ كَانَ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ فَحَادَ عَنْهَا، وَزَلَّ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى بِسَبَبِ الْأَيْمَانِ الْحَانِثَةِ، الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا رَأَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ عَاهَدَهُ ثُمَّ غَدَرَ بِهِ لَمْ يَبْقَ لَهُ وثوق بالدين، فيصد بِسَبَبِهِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} أَيْ لَا تَعْتَاضُوا عَنِ الْإِيْمَانِ بِاللَّهِ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا، فَإِنَّهَا قَلِيلَةٌ وَلَوْ حِيزَتْ لِابْنِ آدَمَ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا لَكَانَ مَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَهُ، أَيْ جَزَاءُ اللَّهِ وَثَوَابُهُ خَيْرٌ لِمَنْ رَجَاهُ وَآمَنَ بِهِ، وَطَلَبَهُ وَحَفِظَ عَهْدَهُ رَجَاءَ مَوْعُودِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ} أَيْ يَفْرَغُ وَيَنْقَضِي فَإِنَّهُ إلى أجل معدود، {وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} أَيْ وَثَوَابُهُ لَكُمْ في الجنة باق لا انقطاع ولا نفاذ لَهُ، فَإِنَّهُ دَائِمٌ لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يعملون} قسم من الرب تعالى مؤكد بِاللَّامِ أَنَّهُ يُجَازِي الصَّابِرِينَ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ أَيْ وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئِهَا.(2/345)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
- 97 - مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(2/345)
هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ عَمِلَ صالحاً، وهو العمل المتابع لكتاب الله وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم، مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ بَنِي آدَمَ وقلبه مؤمن بالله ورسوله، بِأَنْ يُحْيِيَهُ اللَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يَجْزِيَهُ بِأَحْسَنِ مَا عَمِلَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَشْمَلُ وُجُوهَ الرَّاحَةِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ فَسَّرُوهَا بِالرِّزْقِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ. وعن على ابن أبي طالب رضي الله عنه فسرها بالقناعة. وقال ابن عباس: إنها هي السَّعَادَةُ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: لَا يَطِيبُ لِأَحَدٍ حَيَاةٌ إِلَّا فِي الْجَنَّةِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ تَشْمَلُ هَذَا كُلَّهُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتاه» . وفي رواية: «قد أفلح من هدي للإسلام وكان عيشه كفافا وقنع به» (أخرجه أحمد والترمذي والنسائي) . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حسنة يعطى بها الدُّنْيَا وَيُثَابُ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فيطعم بحسناته فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا خَيْرًا» (أخرجه أحمد ومسلم في صحيحه) .(2/346)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
- 98 - فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
- 99 - إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
- 100 - إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ
هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا أَرَادُوا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَنْ يَسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرجيم، وهذا أَمْرُ نَدْبٍ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، حَكَى الْإِجْمَاعُ عَلَى ذلك أَبُو جَعْفَرٍ بْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مَبْسُوطَةً في أول التفسير ولله الحمد والمنة. وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} قَالَ الثَّوْرِيُّ: لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ أَنْ يُوقِعَهُمْ فِي ذَنْبٍ لَا يَتُوبُونَ مِنْهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ لَا حُجَّةَ لَهُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ آخَرُونَ كَقَوْلِهِ: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} ، {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} . قَالَ مُجَاهِدٌ: يُطِيعُونَهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: اتَّخَذُوهُ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ {وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} ، أَيْ أَشْرَكُوا في عبادة الله، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ سَبَبِيَّةً أَيْ صَارُوا بسبب طاعتهم للشيطان مشركين بالله تعالى.(2/346)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
- 101 - وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
- 102 - قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ ضَعْفِ عُقُولِ الْمُشْرِكِينَ وَقِلَّةِ ثَبَاتِهِمْ وَإِيقَانِهِمْ وَأَنَّهُ لَا يَتَصَوَّرُ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ، وَقَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الشَّقَاوَةَ وَذَلِكَ أنهم إذا رأوا تغير الأحكام ناسخها بمنسوخها قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ} أَيْ كَذَّابٌ، وَإِنَّمَا هُوَ الرَّبُّ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يريد. وقال مجاهد: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آية} : أي ورفعناها وَأَثْبَتْنَا [ص:347] غَيْرَهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} الآية، فَقَالَ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} أَيْ جِبْرِيلُ {مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} أَيْ بِالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ} فَيُصَدِّقُوا بِمَا أَنْزَلَ أَوَّلًا وَثَانِيًا وَتُخْبِتُ لَهُ قُلُوبُهُمْ، {وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} أي وجعله هادياً وَبِشَارَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ.(2/346)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
- 103 - وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ وَالْبَهْتِ أَنَّ مُحَمَّدًا إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ هَذَا الَّذِي يَتْلُوهُ عَلَيْنَا مِنَ الْقُرْآنِ بَشَرٌّ، وَيُشِيرُونَ إِلَى رَجُلٍ أَعْجَمِيٍّ كَانَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، غُلَامٍ لِبَعْضِ بُطُونِ قريش، وكان بياعاً يبيع عند الصفا، وربما كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ وَيُكَلِّمُهُ بَعْضَ الشَّيْءِ، وَذَاكَ كَانَ أعجمي اللسان لا يعرف العربية، فَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ فِي افْتِرَائِهِمْ ذَلِكَ: {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} أي الْقُرْآنَ، أَيْ فَكَيْفَ يَتَعَلَّمُ مَنْ جَاءَ بِهَذَا الْقُرْآنِ فِي فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَمَعَانِيهِ التَّامَّةِ الشَّامِلَةِ الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ مِنْ مَعَانِي كُلِّ كِتَابٍ نزل على بني إسرائيل، كَيْفَ يَتَعَلَّمُ مِنْ رَجُلٍ أَعْجَمِيٍّ؟ لَا يَقُولُ هَذَا مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنَ الْعَقْلِ. قال محمد بن إسحاق: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي - كَثِيرًا مَا يَجْلِسُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ إلى غُلَامٍ نَصْرَانِيٍّ يُقَالُ لَهُ (جَبْرٌ) عَبْدٍ لِبَعْضِ بَنِي الْحَضْرَمِيِّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} . وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ كَانَ اسْمُهُ (يَعِيشَ) ، وَقَالَ ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ قَيْنًا بِمَكَّةَ، وكان اسمه بلعام، وَكَانَ أَعْجَمِيَّ اللِّسَانِ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرَوْنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ ويخرج من عنده، فقالوا: إنما يعلمه بلعام، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عربي مبين} .(2/347)
- 104 - إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
- 105 - إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ لاَ يَهْدِي مَن أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ، وَتَغَافَلَ عَمَّا أَنْزَلَهُ على رسوله صلى الله
عليه وسلم وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَصْدٌ إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهَذَا الْجِنْسُ مِنَ النَّاسِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِآيَاتِهِ، وَمَا أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ مُوجِعٌ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِمُفْتَرٍ وَلَا كَذَّابٍ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم شِرَارُ الْخَلْقِ {الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} مِنَ الْكَفَرَةِ وَالْمُلْحِدِينَ الْمَعْرُوفِينَ بِالْكَذِبِ عِنْدَ النَّاسِ، وَالرَّسُولُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَصْدَقَ النَّاسِ، وَأَبَرَّهُمْ وَأَكْمَلَهُمْ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَإِيمَانًا وَإِيقَانًا، مَعْرُوفًا بِالصِّدْقِ فِي قَوْمِهِ لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، بِحَيْثُ لَا يُدْعَى بينهم إلاّ بالأمين محمد؛ ولهذا قال هرقل ملك الروم، لأبي سفيان: (فَمَا كَانَ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَذْهَبَ فَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ) .(2/347)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
- 106 - مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا(2/347)
فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
- 107 - ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
- 108 - أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ
- 109 - لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ
أَخْبَرَ تَعَالَى عَمَّنْ كَفَرَ بِهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالتَّبَصُّرِ وَشَرَحَ صَدْرَهُ بِالْكُفْرِ، وَاطْمَأَنَّ بِهِ، أَنَّهُ قَدْ غَضِبَ عَلَيْهِ لِعِلْمِهِمْ بِالْإِيمَانِ ثُمَّ عُدُولِهِمْ عَنْهُ، وَأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا عَظِيمًا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، فَأَقْدَمُوا عَلَى مَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الرِّدَّةِ لِأَجْلِ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَهْدِ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَيُثَبِّتْهُمْ عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ، فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ بِهَا شَيْئًا يَنْفَعُهُمْ، وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِمْ وأبصارهم فلا ينتفعون بها، فَهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ، {لاَ جَرَمَ} أَيْ لَا بُدَّ وَلَا عَجَبَ أَنَّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، {أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وأهليهم يَوْمَ الْقِيَامَةِ - وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِلاَّ مَن أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِمَّنْ كَفَرَ بِلِسَانِهِ وَوَافَقَ الْمُشْرِكِينَ بِلَفْظِهِ مُكْرَهًا لِمَا نَالَهُ مِنْ ضَرْبٍ وَأَذًى وَقَلْبُهُ يَأْبَى مَا يَقُولُ، وهو مطمئن باللإيمان بالله ورسوله. وقد روى عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت فِي (عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ) حِينَ عَذَّبَهُ الْمُشْرِكُونَ حَتَّى يَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مُكْرَهًا، وَجَاءَ مُعْتَذِرًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هذه الآية. وقال ابن جرير: أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَعَذَّبُوهُ، حَتَّى قَارَبَهُمْ فِي بَعْضِ مَا أَرَادُوا، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟» قَالَ: مُطَمْئِنًا بِالْإِيمَانِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ عادوا فعد» ، وَفِيهِ أَنَّهُ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وذكر آلهتهم بخير، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟» قَالَ: مُطَمْئِنًا بِالْإِيمَانِ، فَقَالَ: «إِنْ عَادُوا فَعُدْ» ، وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} ، وَلِهَذَا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته، ويجوز له أن يأبى كَمَا كَانَ بِلَالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْبَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَهُمْ يَفْعَلُونَ بِهِ الْأَفَاعِيلَ، حَتَّى أَنَّهُمْ لَيَضَعُونَ الصَّخْرَةَ الْعَظِيمَةَ عَلَى صَدْرِهِ فِي شدة الحر ويأمرونه بالشرك بِاللَّهِ فَيَأْبَى عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ، أَحَدٌ، وَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ كَلِمَةً هِيَ أَغْيَظُ لَكُمْ مِنْهَا لَقُلْتُهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ. وَكَذَلِكَ حَبِيبُ بْنُ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ لَمَّا قَالَ لَهُ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَسْمَعُ، فَلَمْ يَزَلْ يُقَطِّعُهُ إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك.
وَالْأَفْضَلُ وَالْأَوْلَى أَنْ يَثْبُتَ الْمُسْلِمُ عَلَى دِينِهِ ولو أفضى إلى قتله؛ كما ذكر الحافظ فِي تَرْجَمَةِ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ) أَحَدِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَسَرَتْهُ الرُّومُ فَجَاءُوا بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ فَقَالَ لَهُ: تَنَصَّرْ وَأَنَا أُشْرِكُكَ فِي مُلْكِي وَأُزَوِّجُكَ ابْنَتِي، فَقَالَ لَهُ: لَوْ أعطتني جَمِيعَ مَا تَمْلِكُ وَجَمِيعَ مَا تَمْلِكُهُ الْعَرَبُ على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طَرْفَةَ عَيْنٍ مَا فَعَلْتُ، فَقَالَ: إِذًا أَقْتُلُكَ، فقال: أنت وذاك، قال: فَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ، وَأَمَرَ الرُّمَاةَ فَرَمَوْهُ قَرِيبًا مِنْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَهُوَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ دِينَ النَّصْرَانِيَّةِ فَيَأْبَى، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُنْزِلَ، ثُمَّ أمر بقدر مِنْ نُحَاسٍ، فَأُحْمِيَتْ وَجَاءَ بِأَسِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَلْقَاهُ وَهُوَ يَنْظُرُ، فَإِذَا هُوَ عِظَامٌ تَلُوحُ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ فَأَبَى، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُلْقَى فِيهَا فَرُفِعَ فِي الْبَكَرَةِ لِيُلْقَى فِيهَا، فَبَكَى، فطمع فيه ودعاه، فقال: إِنِّي إِنَّمَا بَكَيْتُ لِأَنَّ نَفْسِي إِنَّمَا هِيَ نَفْسٌ
وَاحِدَةٌ تُلْقَى فِي(2/348)
هَذِهِ الْقِدْرِ السَّاعَةَ فِي اللَّهِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ لِي بِعَدَدِ كُلِّ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِي نَفْسٌ تُعَذَّبُ هَذَا الْعَذَابَ فِي اللَّهِ. وَفِي بعض الروايات: أنه سجنه ومنع منه الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ أَيَّامًا، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِخَمْرٍ وَلَحْمِ خِنْزِيرٍ، فَلَمْ يَقْرَبْهُ، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْكُلَ؟ فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ حَلَّ لِي، وَلَكِنْ لَمْ أَكُنْ لِأُشَمِّتَكَ بي، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: فقبّلْ رَأْسِي، وَأَنَا أُطْلِقُكَ، فَقَالَ: وَتُطْلِقُ مَعِي جَمِيعَ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: نَعَمْ، فَقَبَّلَ رَأْسَهُ، فَأَطْلَقَهُ، وَأَطْلَقَ مَعَهُ جَمِيعَ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُقَبِّلَ رَأْسَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ وَأَنَا أَبْدَأُ، فَقَامَ فقبل رأسه رضي الله عنهما.(2/349)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
- 110 - ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
- 111 - يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
هَؤُلَاءِ صِنْفٌ آخَرُ كَانُوا مُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ مُهَانِينَ فِي قَوْمِهِمْ فوافقوهم على الفتنة، إِنَّهُمْ أَمْكَنَهُمُ الْخَلَاصُ بِالْهِجْرَةِ فَتَرَكُوا بِلَادَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ وَغُفْرَانِهِ، وَانْتَظَمُوا فِي سِلْكِ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَاهَدُوا مَعَهُمُ الْكَافِرِينَ وَصَبَرُوا، فَأَخْبَرَ تَعَالَى إِنَّهُ مِن بَعْدِهَا أَيْ تِلْكَ الْفِعْلَةِ وَهِيَ الْإِجَابَةُ إِلَى الْفِتْنَةِ لَغَفُورٌ لَهُمْ رَحِيمٌ بِهِمْ يَوْمَ مَعَادِهِمْ {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ} أَيْ تُحَاجُّ {عَن نَّفْسِهَا} لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاجُّ عَنْهَا لَا أَبٌ وَلَا ابْنٌ وَلَا أَخٌ وَلَا زَوْجَةٌ {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} أَيْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أَيْ لَا يُنْقَصُ مِنْ ثَوَابِ الْخَيْرِ، وَلَا يُزَادُ عَلَى ثَوَابِ الشَّرِّ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً.(2/349)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
- 112 - وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ
بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
- 113 - وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ
هَذَا مَثَلٌ أُرِيدَ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ؟ فَإِنَّهَا كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً مُسْتَقِرَّةً يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهَا، وَمَنْ دخلها كان آمناً لا يخاف، كما قال تعالى: {أو لم نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كل شيء رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا} ، وهكذا قال ههنا: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً} ، أَيْ هَنِيئًا سَهْلًا، {مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} أَيْ جَحَدَتْ آلاء الله عليها وأعظمها بِعْثَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وبئس القرار} وَلِهَذَا بَدَّلَهُمُ اللَّهُ بِحَالَيْهِمُ الْأَوَّلَيْنِ خِلَافَهُمَا، فَقَالَ: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} أَيْ أَلْبَسَهَا وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليها ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ وَيَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِن كُلِّ مَكَانٍ، وذلك أنهم اسْتَعْصَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَوْا إِلَّا خِلَافَهُ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ، فَأَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ أَذْهَبَتْ كُلَّ شَيْءٍ لهم، فأكلوا العلهز، وهو وبر يخلط بدمه إذا نحروه. وقوله: {والخوف} وذلك أنهم بُدِّلُوا بِأَمْنِهِمْ خَوْفًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، حِينَ هَاجَرُوا إِلَى المدينة من سطوته وسراياه وجيوشه، وجعل كل ما لهم في دمار(2/349)
وسفال، حتى فتحها اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله فيهم منهم وامتن عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية. وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ هَذَا الْمَثَلَ ضرب لأهل مكة قاله ابن عباس، وإليه ذهب مجاهد وقتادة والزهري رحمهم الله.(2/350)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
- 114 - فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
- 115 - إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
- 116 - وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ
- 117 - مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَكْلِ رِزْقِهِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ وَبِشُكْرِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ به ابتداء، ثم ذكر تعالى مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ مِمَّا فِيهِ مَضَرَّةٌ لَهُمْ في دينهم وديناهم مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أَيْ ذُبِحَ عَلَى غَيْرِ اسم الله ومع هذا، {فَمَنِ اضطر إليه} أي احتاج من غَيْرِ بَغْيٍّ وَلَا عُدْوَانٍ، {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَثَلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ عن إعادته ولله الحمد. ثُمَّ نَهَى تَعَالَى عَنْ سُلُوكِ سَبِيلِ الْمُشْرِكِينَ الذين حللوا وحرموا، بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه وابتدعوه فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ، فَقَالَ: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} وَيَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ من ابتدع بدعة ليس فِيهَا مُسْتَنَدٌ شَرْعِيٌّ، أَوْ حَلَّلَ شَيْئًا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ أَوْ حَرَّمَ شَيْئًا مِمَّا أَبَاحَ الله بمجرد رأيه وتشهيه، ثُمَّ تَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ؛ أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَمَتَاعٌ قَلِيلٌ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، كَمَا قَالَ: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} ، وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} .(2/350)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
- 118 - وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
- 119 - ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا الْمَيْتَةَ والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا كَانَ حَرَّمَهُ عَلَى الْيَهُودِ فِي شَرِيعَتِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَنْسَخَهَا، وَمَا كانوا فيه من الآصار والتضيق والأغلال والحرج فَقَالَ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} أي في سورة الأنعام، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} أَيْ فِيمَا ضَيَّقْنَا عَلَيْهِمْ، {وَلَكِنْ كانوا أَنْفُسَهُمْ يظلمون} أي فاستحقوا ذلك، كقوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى تَكَرُّمًا وَامْتِنَانًا فِي حَقِّ الْعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ مَنْ تَابَ مِنْهُمْ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ فَقَالَ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ {ثُمَّ تَابُواْ مِن(2/350)
بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ} ، أي أقلعوا كما كَانُوا فِيهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَأَقْبَلُوا عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أَيْ تِلْكَ الفعلة والزلة {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} .(2/351)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
- 120 - إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
- 121 - شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
- 122 - وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَالِحِينَ
- 123 - ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين
يمدح تَعَالَى عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ وَخَلِيلَهُ إِبْرَاهِيمَ، إِمَامَ الْحُنَفَاءِ وَوَالِدَ الْأَنْبِيَاءِ، وَيُبَرِّئُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ فَقَالَ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} ، فَأَمَّا الْأُمَّةُ: فَهُوَ الْإِمَامُ الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ، وَالْقَانِتُ: هُوَ الْخَاشِعُ الْمُطِيعُ، وَالْحَنِيفُ الْمُنْحَرِفُ قَصْدًا عَنِ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَلِهَذَا قال: {وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} ، قال عبد الله بن مسعود: الْأُمَّةُ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ، وَالْقَانِتُ الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وقال ابْنُ عُمَرَ: الْأُمَّةُ الَّذِي يعلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ {أُمَّةً} أَيْ أُمَّةً وَحْدَهُ، وَالْقَانِتُ: المطيع. وعنه كان مُؤْمِنًا وَحْدَهُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ إِذْ ذَاكَ كُفَّارٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ إِمَامَ هُدًى، وَالْقَانِتُ: الْمُطِيعُ لِلَّهِ، وَقَوْلُهُ: {شَاكِراً لأَنْعُمِهِ} أَيْ قَائِمًا بِشُكْرِ نعم الله عليه، كقوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} أَيْ قَامَ بِجَمِيعِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى به. وقوله: {اجتباه} أي اختاره واصطفاه كقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} ، ثُمَّ قَالَ: {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ عَلَى شَرْعٍ مَرْضِيٍّ. وَقَوْلُهُ: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أَيْ جَمَعْنَا لَهُ خَيْرَ الدُّنْيَا مِنْ جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ الْمُؤْمِنُ إِلَيْهِ فِي إِكْمَالِ حَيَاتِهِ الطَّيِّبَةِ، {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} . وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أَيْ لِسَانَ صِدْقٍ، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} أَيْ وَمِنْ كَمَالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَصِحَّةِ تَوْحِيدِهِ وَطَرِيقِهِ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ يَا خَاتَمَ الرُّسُلِ وَسَيِّدَ الْأَنْبِيَاءِ {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} ، كقوله فِي الْأَنْعَامِ: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْيَهُودِ:(2/351)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
- 124 - إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
لَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ فِي كُلِّ مِلَّةٍ يَوْمًا مِنَ الْأُسْبُوعِ يَجْتَمِعُ النَّاسُ فِيهِ لِلْعِبَادَةِ، فَشَرَعَ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ السَّادِسُ الذي أكمل الله فيه الخليقة واجتمعت فيه وتمت النعمة على عباده، ويقال إن الله تَعَالَى شَرَعَ ذَلِكَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ مُوسَى، فَعَدَلُوا عَنْهُ، وَاخْتَارُوا السَّبْتَ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي لَمْ يَخْلُقْ فِيهِ الرَّبُّ شَيْئًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّذِي كَمَّلَ خَلْقَهَا يَوْمَ الْجُمْعَةِ، فَأَلْزَمَهُمْ تَعَالَى بِهِ فِي شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَوَصَّاهُمْ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَأَنْ يُحَافِظُوا عَلَيْهِ مَعَ أَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِمُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَهُ وَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ وَعُهُودَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} ، قَالَ مُجَاهِدٌ: اتَّبَعُوهُ وَتَرَكُوا الجمعة، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ [ص:352] مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ الْيَهُودُ غداً والنصارى بعد غد» (هذا لفظ البخاري) .(2/351)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
- 125 - ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ الْخَلْقَ إِلَى اللَّهِ بِالْحِكْمَةِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهُوَ مَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، أَيْ بِمَا فِيهِ مِنَ الزَّوَاجِرِ وَالْوَقَائِعِ بِالنَّاسِ ذَكَّرَهُمْ بِهَا لِيَحْذَرُوا بَأْسَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، أَيْ مَنِ احْتَاجَ مِنْهُمْ إِلَى مُنَاظَرَةٍ وَجِدَالٍ، فَلْيَكُنْ بِالْوَجْهِ الْحَسَنِ برفق ولين وحسن خطاب كقوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ منهم} الآية، فأمره تعالى بلين الجانب، كما أمر به مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ حِينَ بَعَثَهُمَا إِلَى فرعون في قوله: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} . وَقَوْلُهُ: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} الآية، أَيْ قَدْ عَلِمَ الشَّقِيَّ مِنْهُمْ وَالسَّعِيدَ، وَكَتَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَفَرَغَ مِنْهُ فَادْعُهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَى مَنْ ضَلَّ مِنْهُمْ حَسَرَاتٍ، فَإِنَّهُ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ، عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ، {إِنَّكَ لاَ
تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ، {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يشاء} .(2/352)
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
- 126 - وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ
- 127 - وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ
- 128 - إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ
يَأْمُرُ تعالى بالعدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق، قال ابن سيرين: إن أخذ منكم رجل شيئاً فخذوا مِثْلِهِ، وكذا قال مجاهد والحسن البصري وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانُوا قَدْ أُمِرُوا بِالصَّفْحِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فَأَسْلَمَ رِجَالٌ ذَوُو مَنَعَةٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَذِنَ اللَّهُ لَنَا لَانْتَصَرْنَا مِنْ هَؤُلَاءِ الْكِلَابِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْجِهَادِ، قال عطاء بن يسار: نَزَلَتْ سُورَةُ النَّحْلِ كُلُّهَا بِمَكَّةَ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا، نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، بعد أحد حين قُتِلَ حَمْزَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمُثِّلَ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بِثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ قَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ لَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ مُثْلَةً لَمْ يُمَثِّلْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ بِأَحَدٍ قَطُّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إلى آخر السورة، وقال الحافظ أبو بكر البزار، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ اسْتُشْهِدَ، فَنَظَرَ
إِلَى مَنْظَرٍ لَمْ ينظر إلى منظر أوجع للقلب منه، أو قال لقلبه، فَنَظَرَ إِلَيْهِ وَقَدْ مُثّل بِهِ، فَقَالَ: «رَحْمَةُ الله عليك، إن كنت ما علمتك إلى وصولاً لِلرَّحِمِ، فَعُولًا لِلْخَيْرَاتِ، وَاللَّهِ لَوْلَا حُزْنُ مَنْ بَعْدَكَ عَلَيْكَ لَسَرَّنِي أَنْ أَتْرُكَكَ حَتَّى(2/352)
يَحْشُرَكَ اللَّهُ مِنْ بُطُونِ السِّبَاعِ - أَوْ كَلِمَةً نحوها - أما والله لأمثلن بسبعين كمثلتك» ، فنزل جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ السُّورَةِ وَقَرَأَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، فَكَفَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي عَنْ
يمينه وأمسك عن ذلك (قال ابن كثير في إسناده ضعف) . وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ لَهَا أَمْثَالٌ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعَدْلِ وَالنَّدْبِ إِلَى الْفَضْلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ، ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ على الله} ، الآية. وَقَالَ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ، ثُمَّ قَالَ: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كفارة له} ، وقال في هذه الآية: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ، ثُمَّ قَالَ: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} ، وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ} تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بالصبر، وإخبار بأن ذلك لا ينال إلاّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِعَانَتِهِ، وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} ، أَيْ عَلَى مَنْ خالفك فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ ذَلِكَ، {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ} أَيْ غَمٍّ، {مِّمَّا يَمْكُرُونَ} أَيْ مِمَّا يُجْهِدُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي عَدَاوَتِكَ وَإِيصَالِ الشَّرِّ إِلَيْكَ، فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ وَنَاصِرُكَ وَمُؤَيِّدُكَ وَمُظْهِرُكَ وَمُظْفِرُكَ بِهِمْ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} ، أَيْ مَعَهُمْ بِتَأْيِيدِهِ وَنَصْرِهِ ومعونته وهديه وسعيه.(2/353)
- 17 - سورة الإسراء(2/354)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم.
- 1 - سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
يُمَجد تَعَالَى نَفْسَهُ، وَيُعَظِّمُ شَأْنَهُ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ سِوَاهُ، فَلَا إله غيره ولا رب سواه، {الذي أسرى بِعَبْدِهِ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، {لَيْلاً} : أَيْ فِي جُنْحِ اللَّيْلِ، {مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} : وَهُوَ مَسْجِدُ مَكَّةَ {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} (قال الحافظ السهيلي: قوله عزَّ وجلَّ {إلى المسجد الأقصى} : يعني بيت المقدس، وهو إيليا، ومعنى إيليا - بيت الله - {وباركنا حوله} - يعني الشام - والشام بالسريانية: الطيب، فسميت بذلك لطيبها وخصبها، وبيت المقدس بناه سليمان عليه السلام، وكان داود عليه السلام قد ابتدأ مبناه فأكمله ابنه سليمان عليه السلام، واسمه: إيلياء، وتفسيره بالعربية: بيت الله، ذكره البكري، وقال الطبري: كان داود عليه السلام قد همَّ ببنيانه فأوحى الله تعالى إليه «إنما يبنيه ابن لك طاهر اليد من الدماء» ، وفي الصحيح أنه وضع للناس بعد البيت الحرام، بأربعين سنة، وهذا يدل على أنه قد كان بني أيضاً في إسحاق ويعقوب عليهما السلام، ولكن بنيانه على التمام وكمال الهيئة كان على عهد سليمان عليه السلام) وهو بيت المقدس الذي بإيلياء معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل عليه السلام، ولهذا جمعوا له هناك كُلُّهُمْ فَأَمَّهُمْ فِي مَحِلَّتِهِمْ وَدَارِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَالرَّئِيسُ الْمُقَدَّمُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَقَوْلُهُ تعالى {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} : أَيْ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، {لِنُرِيَهُ} : أَيْ مُحَمَّدًا {مِنْ آيَاتِنَآ} : أَيْ الْعِظَامُ، كما قال تعالى: {ولقد رأى مِنْ آيَاتِ ربه الكبرى} ، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أَيْ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ عباده البصير بهم، فيعطي كلاً منهم مَا يَسْتَحِقُّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
«ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الواردة في الإسراء»
قال الإمام البخاري، عن أنَس بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ، إِنَّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: أَيَهُمُّ هُوَ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ: هُوَ خيرهم، فقال(2/354)
آخِرُهُمْ: خُذُوا خَيْرَهُمْ، فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَلَمْ يَرَهُمْ، حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخرى فِيمَا يَرَى قلبه وتنام عينه وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ - وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ - فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ، فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ، فَتَوَلَّاهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ، فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَوْرٌ مَنْ ذهب محشو إيماناً وحمكة فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ - يَعْنِي عُرُوقَ حَلْقِهِ - ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَضَرَبَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا فَنَادَاهُ أَهْلُ السَّمَاءِ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: جِبْرِيلُ، قَالُوا: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ مَعِي مُحَمَّدٌ، قَالُوا: وَقَدْ بُعِثَ إليه؟ قال: نعم، قالوا: فمرحباً به وأهلاً، يَسْتَبْشِرُ بِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ، لَا يَعْلَمُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِمَا يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ فِي الْأَرْضِ حتى يعلمهم، فوجد فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا آدَمَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ آدَمُ، فَقَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِابْنِي، نِعْمَ الِابْنُ أَنْتَ، فَإِذَا هُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِنَهْرَيْنِ يَطَّرِدَانِ، فَقَالَ: مَا هَذَانِ النَّهْرَانِ يا جبريل؟ " قال: هذان النِّيلُ وَالْفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا، ثُمَّ مَضَى بِهِ فِي السَّمَاءِ
فَإِذَا هُوَ بِنَهْرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ من لؤلؤ وزبرجد، فضرب بيده فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ أَذْفَرُ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي خَبَّأَ لك ربك، ثم عرج به إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لَهُ مِثْلَ ما قالت له الملائكة الْأُولَى مَنْ هَذَا؟ قَالَ جِبْرِيلُ، قَالُوا: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: مرحباً به وأهلاً. ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ. ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، كُلُّ سَمَاءٍ فِيهَا أنبياء قد سماهم فوعيت مِنْهُمْ إِدْرِيسَ فِي الثَّانِيَةِ، وَهَارُونَ فِي الرَّابِعَةِ، وَآخَرَ فِي الْخَامِسَةِ لَمْ أَحْفَظِ اسْمَهُ، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ، وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ بِتَفْضِيلِ كَلَامِ الله تعالى، فقال موسى: رب لم أظن أن ترفع علي أحداً.
ثُمَّ عَلَا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ، حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى، حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فِيمَا يُوحِي خَمْسِينَ صَلَاةً عَلَى أُمَّتِكَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، ثُمَّ هُبِطَ حتى بلغ موسى، فاحتسبه مُوسَى فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَاذَا عَهِدَ إِلَيْكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: «عَهِدَ إِلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ» . قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ وَعَنْهُمْ، فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَعَلَا بِهِ إِلَى الجبار تعالى وتقدس، فَقَالَ وَهُوَ فِي مَكَانِهِ: «يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا فَإِنَّ أُمَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا» ، فَوَضَعَ عنه عشر صلوات، ثم رجع مُوسَى فَاحْتَبَسَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ احْتَبَسَهُ مُوسَى عِنْدَ الْخَمْسِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ لَقَدْ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمِي عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذَا فَضَعُفُوا فَتَرَكُوهُ، فَأُمَّتُكَ أَضْعَفُ أَجْسَادًا وَقُلُوبًا وَأَبْدَانًا وَأَبْصَارًا وَأَسْمَاعًا، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ، كُلَّ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِبْرِيلَ لِيُشِيرَ عَلَيْهِ وَلَا يَكْرَهُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ، فَرَفَعَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ فَقَالَ: "يَا رَبِّ إِنَّ أُمَّتِي ضُعَفَاءُ، أَجْسَادُهُمْ وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم، فخفف عنه، فقال الجبار تبارك وتعالى: يَا مُحَمَّدُ! قَالَ: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ» ، قَالَ: إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ كَمَا فَرَضْتُ عَلَيْكَ في أم الكتاب، فكل حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَهِيَ خُمْسٌ عَلَيْكَ، فَرَجَعَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: كَيْفَ فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: «خَفَّفَ عَنَّا أَعْطَانَا بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا» ، قَالَ مُوسَى: قَدْ وَاللَّهِ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى(2/355)
أَدْنَى مِن ذَلِكَ فَتَرَكُوهُ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أَيْضًا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مُوسَى قَدْ وَاللَّهِ استحييت من ربي عزَّ وجلَّ مِمَّا أَخْتَلِفُ إِلَيْهِ» . قَالَ فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللَّهِ. قال واستيقظ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، هَكَذَا سَاقَهُ الْبُخَارِيُّ في كتاب التوحيد.
وقد قال الحافظ الْبَيْهَقِيُّ: فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ زِيَادَةٌ تَفَرَّدَ بِهَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عليه وسلم رأى الله عزَّ وجلَّ، يَعْنِي قَوْلَهُ: ثُمَّ دَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. قَالَ: وَقَوْلُ عَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَمْلِهِمْ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى رُؤْيَتِهِ جِبْرِيلَ أَصَحُّ. وهذا الذي قاله البيهقي رحمه الله في هذه المسألة هو الحق، فَإِنَّ أَبَا ذَرٍّ قَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: «نورٌ أَنَّى أَرَاهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «رَأَيْتُ نُورًا» : أخرجه مسلم، وقوله: {ثُمَّ دَنَا فتدلى} إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي صَحِيحِ مسلم عن أبي هريرة، وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ، أَبْيَضُ، فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فَرَكِبْتُهُ فَسَارَ بِي حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرَبَطْتُ الدَّابَّةَ بالحلقة التي يربط بها الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَأَتَانِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ من لبن، فاخترت اللبن، فقال جِبْرِيلُ: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، قَالَ: ثُمَّ عُرِجَ بِي إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل، فقيل له مَنْ أَنْتَ، قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بآدم فرحب بي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِابْنَيِ الْخَالَةِ يَحْيَى وَعِيسَى، فَرَحَّبَا بِي وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جبريل، فقيل له: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بيوسف عليه السلام وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحَّبَ بي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل، فقيل له: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، فَقِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بإدريس، فرحب بي ودعا لي بخير، ثم يقول تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عليا} ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، فَقِيلَ: قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فإذا أنا بهارون، فرحب بي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السماء السادسة فاستفح جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، فَقِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فإذا أنا بموسى عليه السلام، فرحب بي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السماء السابعة، فاستفح جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، فَقِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام، وَإِذَا هُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ.(2/356)
ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلَالِ، فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَهَا تَغَيَّرَتْ فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصِفَهَا مِنْ حُسْنِهَا، قَالَ: فَأَوْحَى اللَّهُ إلى ما أوحى، وقد فرض عَلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، خَمْسِينَ صَلَاةً، فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى، قَالَ: مَا فرض ربك على أمتك؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، وَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ، قَالَ فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ: أَيْ رَبِّ خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي، فحط عني خمساً، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى، فقال: ما فعلت، فقلت: قد حط عني خمساً، فقال: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، قَالَ، فَلَمْ أَزَلْ أرجع إلى رَبِّي وَبَيْنَ مُوسَى، وَيَحُطُّ عَنِّي خَمْسًا خَمْسًا حتى قال: يا محمد هن خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَتِلْكَ خَمْسُونَ صَلَاةً، وَمَنْ هُمْ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عملها كتبت له عشرا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ فإن عملها كتبت له سَيِّئَةً وَاحِدَةً، فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ رُّجِعْتُ إلى ربي حتى استحييت» .
عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بالبراق فكأنها حركت ذَنَبَهَا، فَقَالَ لَهَا جِبْرِيلُ: مَهْ يَا بُرَاقُ الله فوالله ما رَكِبَكَ مِثْلُهُ، وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ بِعَجُوزٍ عَلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، فَقَالَ: «مَا هَذِهِ يَا جِبْرِيلُ؟» قَالَ: سِرْ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ، فَسَارَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسِيرَ فَإِذَا شَيْءٌ يَدْعُوهُ مُتَنَحِّيًا عن الطريق، فقال: هَلُمَّ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: سِرْ يَا مُحَمَّدُ، فَسَارَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يسير، قال فلقيه خلق من خلق الله، فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَوَّلُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا آخِرُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا حَاشِرُ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: ارْدُدِ السَّلَامَ يَا مُحَمَّدُ، فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ لَقِيَهُ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى، ثُمَّ الثَّالِثَةَ كَذَلِكَ حَتَّى انْتَهَى إلى بيت المقدس، فعرض عليه الخمر والماء وَاللَّبَنَ، فَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّبَنَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، وَلَوْ شَرِبْتَ الْمَاءَ لَغَرِقْتَ وَغَرِقَتْ أُمَّتُكَ، وَلَوْ شربت الخمر لغويت ولغويت أُمَّتُكَ، ثُمَّ بُعِثَ لَهُ آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَأَمَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَمَّا الْعَجُوزُ الَّتِي رَأَيْتَ عَلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ فَلَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إلا كما بَقِيَ مِنْ عُمْرِ تِلْكَ الْعَجُوزِ، وَأَمَّا الَّذِي أَرَادَ أَنْ تَمِيلَ إِلَيْهِ فَذَاكَ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ أَرَادَ أَنْ تَمِيلَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام (أخرجه ابن جرير ورواه الحافظ البيهقي في دلائل النبوة، وفي بعض ألفاظه غرابة) .
(يتبع ... )(2/357)
(تابع ... 1) : 1 - سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الحرام إلى المسجد الأقصى ... ...
(رواية عن أنَس بْنُ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ)
قال الإمام أحمد، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ مَالِكَ بْنَ صَعْصَعَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدثهم عن ليلة أسري بي قَالَ: "بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ - وَرُبَّمَا قَالَ قَتَادَةُ فِي الْحِجْرِ - مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: الْأَوْسَطِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، قَالَ: فأتاني فشقّ ما بين هذه إلى هذه «، أي من ثغرة نحره إلى شعرته،» فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، قَالَ: فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مملوء إيماناً وحكمة، فغسل قلبي ثم حشا ثُمَّ أُعِيدَ، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وفوق الحمار أبيض". قال، فقال الجارود: هو الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟(2/357)
قَالَ: نَعَمْ يَقَعُ خَطْوُهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ، قَالَ: "فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى أَتَى بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا، قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ
ولنعم المجيء جاء، قال: ففتح لنا، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا فِيهَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قال: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثانية فاستفتح، فقيل: من هذا؟ فَقَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَ قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: ففتح لنا، فلما خلصت فإذا عيسى ويحيى وهما ابنا الخالة، قال هذان يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا، قَالَ: فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا السَّلَامَ،
ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّالِثَةَ فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ:
مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَ قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ ولنعم المجيء جاء، قال: ففتح لنا، فلما خلصت إذا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: هَذَا يُوسُفُ، قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَ قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: ففتح لنا، فلما خلصت فإذا إدريس عليه السلام، قال: هذا إدريس، قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَ قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قال: ففتح لنا، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: هذا هارون فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَ قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ:
نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جاء، قال: ففتح لنا، فلما خلصت فإذا أنا بموسى عليه السلام، قَالَ: هَذَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: فَلَمَّا تَجَاوَزْتُهُ بَكَى، قِيلَ لَهُ، مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي، قَالَ: ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّابِعَةَ فَاسْتَفْتَحَ،
قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ وَلَنِعْمَ المجيء جاء، قال: ففتح لنا، فلما خلصت فإذا إبراهيم عليه السلام، قال: هذا إبراهيم فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قَالَ: ثُمَّ رُفِعْتُ إِلَيَّ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، فَقَالَ: هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، قَالَ: وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ، قَالَ: ثُمَّ رُفِعَ إِلَيَّ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ.
قَالَ قتادة: وحدثنا الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، يدخله كل يوم سبعون ألفاً ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أنَس، قَالَ: "ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ قال: فأخذت اللبن، قال: هذه الفطرة أنت عليها وأمتك، قال: ثم فرضت عليّ الصَّلَاةُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ،(2/358)
قال: فنزلت حتى أتيت موسى، فقال: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قَالَ، قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً وَإِنِّي قَدْ خَبَرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، قَالَ: فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَ أُمرت؟ قُلْتُ: بِأَرْبَعِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ أَرْبَعِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي قَدْ خَبَرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، قَالَ: فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا أُخر، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ، فَقُلْتُ: أُمِرْتُ بِثَلَاثِينَ صَلَاةً، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ ثَلَاثِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي قَدْ خَبَرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، قَالَ: فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا أُخر، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: بِعِشْرِينَ صَلَاةً كُلَّ يوم، فقال: إن أمتك لا تستطيع العشرين صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ خَبَرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، قَالَ: فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا أُخر، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ فَقُلْتُ: أُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كل يوم، فقال: إن أمتك لا تستطيع العشر صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ خَبَرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، قَالَ: فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ فَقُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تستطيع الخمس صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ خَبَرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، قَالَ، قُلْتُ: قد سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم. فنفذت، فنادى مُنَادٍ قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي" (أخرجه أحمد ورواه الشيخان من حديث قتادة بنحوه) .
(يتبع ... )(2/359)
(تابع ... 2) : 1 - سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الحرام إلى المسجد الأقصى ... ...
(رِوَايَةُ أنَس عَنْ أَبِي ذَرٍّ)
قَالَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ أَبُو ذر يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: "فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صَدْرِي ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فعرج بي إلى السماء الدنيا، فلما جئت إلى السماء قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قال: نعم معي محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا لسماء الدنيا فإذا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَلَى يَسَارِهِ أسودة إذا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصالح، قال: قلت جبريل: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ عَنْ شِمَالِهِ بَكَى، ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ، فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ لَهُ الْأَوَّلُ فَفَتَحَ"، قَالَ أنَس: فَذُكِرَ أَنَّهُ قد وجد في السماوات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم ولم يثبت
كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السادسة. قال أنَس: فلما مر جبريل والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِدْرِيسَ، قَالَ: مَرْحَبًا بالنبي الصالح(2/359)
والأخ الصالح، فقلت: من هذا؟ قال: إدريس، ثم مر بِمُوسَى فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا، قَالَ: هَذَا مُوسَى، ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عِيسَى، ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابن عباس وأبا حية الْأَنْصَارِيَّ كَانَا يَقُولَانِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ» . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وأنَس بْنُ مَالِكٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْتُ على موسى عليه السلام، فَقَالَ: مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فرض خمسين صلاة، قال موسى: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى قُلْتُ: وَضَعَ شَطْرَهَا، فَقَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُهُ فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، قُلْتُ قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ أدخلت الجنة فإذا فيها حبائل اللُّؤْلُؤِ وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ" (هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ في كتاب الصلاة، ورواه مسلم في كتاب الأيمان بنحوه) .
عن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فجلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عن آياته وأنا أنظر إليه» (رواه أحمد وأخرجه الشيخان) . عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْتَهَى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَقِيَ فِيهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، وَإِنَّهُ أُتِيَ بقدحين قدح من لبن وقدح من خَمْرٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا ثُمَّ أَخَذَ قَدَحَ اللَّبَنِ، فقال جبريل: أصبت هديت للفطرة، لو أخذت الْخَمْرَ لَغَوَتْ أُمَّتُكَ، ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ فَافْتُتِنَ نَاسٌ كَثِيرٌ كَانُوا قد صلوا معه،. وقال ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: فَتَجَهَّزَ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا: هَلْ لَكَ في صاحبك؟ يزعم أنه جاء بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَوَ قَالَ ذلك؟ قالوا: نعم، قال: فأنا أشهد لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: فتصدقه في أن يَأْتِيَ الشَّامَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ أنا أُصَدِّقُهُ بِأَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَبِهَا سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَسَمِعْتُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَطَفِقْتُ أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه» (أخرجه البيهقي عن سعيد بن المسيب) .
(رواية شداد بن أوس)
روى الإمام الترمذي، عن جبير بن نفير، عن شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ قَالَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أُسْرِيَ بِكَ؟ قَالَ: "صَلَّيْتُ لِأَصْحَابِي صلاة العتمة بمكة معتماً، فَأَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ - أَوْ قال بيضاء(2/360)
فوق الحمار ودون البغل، فقال: اركب، فاستصعب عَلَيَّ، فَرَازَهَا بِأُذُنِهَا، ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهَا، فَانْطَلَقَتْ تهوي بنا يقع حافرها حيث انتهى طَرْفُهَا حَتَّى بَلَغْنَا أَرْضًا
ذَاتَ نَخْلٍ فَأَنْزَلَنِي، فقال: صلِّ، فصليت، ثم ركبت، فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ: صَلَّيْتَ بِيَثْرِبَ، صَلَّيْتَ بِطِيبَةَ، فَانْطَلَقَتْ تَهْوِي بنا، يقع حافرها عند منتهى طرفها، ثم بلغنا أرضاً، قال: انزل، ثُمَّ قَالَ: صلِّ، فصلَّيت، ثُمَّ رَكِبْنَا، فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ: صليت بمدين عِنْدَ شَجَرَةِ مُوسَى، ثُمَّ انْطَلَقَتْ تَهْوِي بِنَا يَقَعُ حَافِرُهَا حَيْثُ أَدْرَكَ طَرْفُهَا، ثُمَّ بَلَغْنَا أَرْضًا بَدَتْ لَنَا قُصُورٌ، فَقَالَ: انْزِلْ فَنَزَلْتُ، فَقَالَ: صلِّ، فصلَّيت، ثُمَّ رَكِبْنَا، فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ: صَلَّيْتَ ببيت لحم، حيث ولد عيسى بن مَرْيَمَ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ مِنْ بَابِهَا الْيَمَانِي، فَأَتَى قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ فَرَبَطَ فيه دابته ودخلنا المسجد من باب تميل فيه الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَصَلَّيْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، وَأَخَذَنِي مِنَ الْعَطَشِ أَشَدُّ مَا أَخَذَنِي، فَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا لَبَنٌ وَفِي الْآخَرِ عَسَلٌ أُرْسِلَ إِلَيَّ بِهِمَا جَمِيعًا، فَعَدَلْتُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ هَدَانِي اللَّهُ عزَّ وجلَّ فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فشربت حتى عرقت بِهِ جَبِينِي، وَبَيْنَ يَدَيَّ شيخُ مُتَّكِئٌ عَلَى مثوات لَهُ، فَقَالَ: أَخَذَ صَاحِبُكَ الْفِطْرَةَ إِنَّهُ لَيُهْدَى، ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى أَتَيْنَا الْوَادِيَ الَّذِي فِيهِ الْمَدِينَةُ فَإِذَا جَهَنَّمُ تَنْكَشِفُ عَنْ مِثْلِ الروابي، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ وَجَدْتَهَا؟ قَالَ: وجدتها مثل الحمة السنخة، ثُمَّ انْصَرَفَ بِي فَمَرَرْنَا بِعِيرٍ لِقُرَيْشٍ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا قَدْ أَضَلُّوا بَعِيرًا لَهُمْ قَدْ جَمَعَهُ فُلَانٌ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا صَوْتُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ أَصْحَابِي قَبْلَ الصُّبْحِ بِمَكَّةَ، فَأَتَانِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كُنْتَ اللَّيْلَةَ فقد التمستك في منامك، فقد علمت أنك أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ مَسِيرَةُ شَهْرٍ فَصِفْهُ لِي، قَالَ: فَفُتِحَ لِي صِرَاطٌ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ لَا يألني عن شيء إلاّ أنبأته، فقال أبو بكر: أشهد إِنَّكَ لَرَسُولُ الله، وقال الْمُشْرِكُونَ: انْظُرُوا إِلَى ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ اللَّيْلَةَ! قَالَ، فَقَالَ: إِنَّ مِنْ آيَةِ مَآ أَقُولُ لَكُمْ أَنِّي مررت بعير لكم في مكان كذا وكذا، وقد أضلوا بعيراً لهم فجمعه لهم فلان، وإن مسيرهم ينزلون بكذا ثم كذا، وَيَأْتُونَكُمْ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، يَقْدُمُهُمْ جَمَلٌ آدَمُ عَلَيْهِ مَسْحٌ أَسْوَدُ وَغِرَارَتَانِ سَوْدَاوَانِ، فَلَمَّا كَانَ ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون حين كان قريباً مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ، حَتَّى أَقْبَلَتِ الْعِيرُ يَقْدُمُهُمْ ذَلِكَ الْجَمَلُ الَّذِي وَصَفَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رَوَاهُ الترمذي والبيهقي وقال: إسناده صحيح، قال ابن كثير: وهذا الحديث مشتمل على ما هو صحيح كما قال البيهقي، وعلى ما هو منكر كالصلاة في بيت المقدس، وسؤال الصدّيق عن نعت بيت المقدس) .
قال البيهقي، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن عمر نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ رَجُلًا طُوَالًا جَعْدًا كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مريم عليه السلام مَرْبُوعَ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ سَبْطَ الرَّأْسِ» ، وَأَرَى مَالِكًا خَازِنَ جَهَنَّمَ، وَالدَّجَّالَ فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ، قَالَ: {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ} ، فَكَانَ قَتَادَةُ يُفَسِّرُهَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لَقِيَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} قَالَ: جَعَلَ مُوسَى هدى لبني إسرائيل (رواه البيهقي ومسلم وأخرجاه عن قتادة مختصراً) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أسري بي فأصحبت بمكة، عرفت أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِي» . فَقَعَدَ مُعْتَزِلًا حَزِينًا، فَمَرَّ بِهِ(2/361)
عَدْوَّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِن شَيْءٍ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: «إِنِّي أُسْرِيَ بِيَ اللَّيْلَةَ» ، قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: «إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ» . قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بين ظهرانينا؟! قال: «نعم» ، قال: فلم ير أن يكذبه مخافة أن يجحد الحديث إن دعا قومه إليه، قال: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ أَتُحَدِّثُهُمْ بِمَا حَدَّثْتَنِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نعم» ، فقال: يا معشر بني كعب بن لؤي، قال، فانفضت إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ وَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا، قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا حَدَّثْتَنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أُسْرِيَ بِيَ اللَّيْلَةَ» ، فَقَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: «إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ» ، قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» . قَالَ، فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَمِنْ بَيْنِ واضع يده على رأسه متعجباً للكذب، قالوا: وتستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ وفيهم مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ وَرَأَى المسجد، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ، قَالَ: فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ حتى وضع دون دار عقيل، فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، قَالَ: وَكَانَ مَعَ هذا نعت لم أحفظه، قَالَ، فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أصاب فيه" (أخرجه أحمد والبيهقي والنسائي) .
وقد روى البخاري ومسلم فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "حين أسري بي لقيت موسى عليه السلام - فنعته فإذا هو رَجُلٌ حَسِبْتُهُ قَالَ: مُضْطَرِبٌ، رجلُ الرَّأْسِ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، قَالَ: وَلَقِيتُ عِيسَى - فَنَعَتَهُ النبي صلى الله عليه وسلم قال: رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ - يَعْنِي حمام، قال: ولقيت إبراهيم وأشبه وَلَدِهِ بِهِ، قَالَ: وَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا لَبَنٌ وَفِي الْآخَرِ خَمْرٌ، قِيلَ لِي: خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُ، فَقِيلَ لِي: هُدِيتَ الْفِطْرَةَ، - أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ - أَمَا إِنَّكَ لو أخذت الخمر غوت أمتك". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وقريش تسألني مَسْرَايَ، فَسَأَلُونِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا فَكُرِبْتُ كَرْبًا مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قط، فرفعه الله إلي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا سَأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي وَإِذَا هُوَ رجل جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ،
وَإِذَا عِيسَى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس شبهاً به عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يصلي أقرب الناس شبهاً بِهِ صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ - فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغْتُ قَالَ قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا مالك خازن جهنم، فالتفت إليه فبدأني بالسلام" (أخرجه مسلم في صحيحه) .
قال ابن أبي حاتم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَيْتُ لَيْلَةَ أَسْرِيَ بي لما انتهيت إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَنَظَرْتُ فَوْقُ، فَإِذَا رَعْدٌ وَبَرْقٍ وَصَوَاعِقَ، قَالَ: وَأَتَيْتُ عَلَى قَوْمٍ بُطُونُهُمْ كَالْبُيُوتِ فِيهَا الْحَيَّاتُ تُرَى مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ آكلوا الرِّبَا، فَلَمَّا نَزَلْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا نَظَرْتُ أَسْفَلَ مِنِّي فَإِذَا أَنَا بِرَهَجٍ وَدُخَانٍ وَأَصْوَاتٍ، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم لا يتفكرون فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَرَأَوُا الْعَجَائِبَ" (وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أحمد وابن ماجه) .(2/362)
(يتبع ... )(2/363)
(تابع ... 3) : 1 - سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الحرام إلى ... ...
فَصْلٌ
وَإِذَا حَصَلَ الْوُقُوفُ عَلَى مَجْمُوعِ هَذِهِ الأحاديث يَحْصُلُ مَضْمُونُ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ مِنْ مِسْرَى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَنَّهُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، قال الزهري: كان الإسراء قبل الهجرة وَالْحَقُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُسْرِيَ بِهِ (يَقَظَةً) لَا (مَنَامًا) مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ راكباً على الْبُرَاقَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ رَبَطَ الدَّابَّةَ عِنْدَ الْبَابِ وَدَخَلَهُ فَصَلَّى فِي قِبْلَتِهِ تحية المسجد ركعتين، ثم أتي بالمعراج وَهُوَ كَالسُّلَّمِ ذُو دَرَجٍ يُرْقَى فِيهَا فَصَعِدَ فِيهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِلَى بَقِيَّةِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، فَتَلَقَّاهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا، وسلم على الأنبياء الَّذِينَ فِي السَّمَاوَاتِ بِحَسْبِ مَنَازِلِهِمْ وَدَرَجَاتِهِمْ، حَتَّى مَرَّ بِمُوسَى الْكِلِيمِ فِي السَّادِسَةِ، وَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ في السابعة، ثم جاوز منزلتيهما صلى الله وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمَا وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مُسْتَوًى يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ، أَيْ أَقْلَامَ الْقَدَرِ، بِمَا هُوَ كَائِنٌ، وَرَأَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَغَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَظَمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ فَرَاشٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَلْوَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وغشيتها الملائكة، ورأى هناك جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، وَرَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ. وَرَأَى الْبَيْتَ المعمور وإبراهيم الخليل يأتي الْكَعْبَةِ الْأَرْضِيَّةِ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ الْكَعْبَةُ السَّمَاوِيَّةُ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَرَأَى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَفَرَضَ الله عَلَيْهِ هُنَالِكَ الصَّلَوَاتِ خَمْسِينَ، ثُمَّ خَفَّفَهَا إِلَى خَمْسٍ رَحْمَةً مِنْهُ وَلُطْفًا بِعِبَادِهِ، وَفِي هَذَا اعْتِنَاءٌ عَظِيمٌ بِشَرَفِ الصَّلَاةِ وَعَظَمَتِهَا، ثُمَّ هَبَطَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهَبَطَ مَعَهُ الْأَنْبِيَاءُ فَصَلَّى بِهِمْ فِيهِ لَمَّا حَانَتِ الصَّلَاةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا الصبح يومئذٍ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَمَّهُمْ فِي السَّمَاءِ، وَالَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهُ ببيت الْمَقْدِسِ وَلَكِنْ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ دُخُولِهِ إِلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا مَرَّ بِهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْهُمْ جِبْرِيلَ وَاحِدًا وَاحِدًا وَهُوَ يُخْبِرُهُ بِهِمْ، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ، لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا مَطْلُوبًا إِلَى الْجَنَابِ الْعُلْوِيِّ لِيَفْرِضَ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ مَا يَشَاءُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ لَمَّا فرغ من الذي أريد به اجتمع به هو وإخوته من النبيين، ثُمَّ أَظْهَرَ شَرَفَهَ وَفَضْلَهُ عَلَيْهِمْ بِتَقْدِيمِهِ فِي الْإِمَامَةِ، وَذَلِكَ عَنْ إِشَارَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَرَكِبَ الْبُرَاقَ وَعَادَ إِلَى مَكَّةَ بِغَلَسٍ والله سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ كَانَ الْإِسْرَاءُ ببدنه عليه السلام وروحه أم بِرُوحِهِ فَقَطْ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ، فَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ أُسْرِيَ بِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ يَقَظَةً لَا مناما، ولا ينكرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قبل ذلك مناماً ثم رآه بعد ذلك يقظه لأنه كان عليه السلام لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصبح، والدليل على هذا قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} . فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام، فلو كَانَ مَنَامًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَبِيرُ شَيْءٍ وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعْظَمًا، وَلَمَا بَادَرَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ إلى تكذيبه، ولما ارتدت جماعة مما كَانَ قَدْ أَسْلَمَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَبْدَ عِبَارَةٌ عن مجموع الروح والجسد وقد قال: {أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} . وقال تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} قال ابن عباس: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةُ أسري به، والشجرة الملعونة هي شجرة الزقزم (رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما) . وَقَالَ تَعَالَى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} ، وَالْبَصَرُ مِنْ آلَاتِ الذَّاتِ لَا الرُّوحِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ حُمِلَ عَلَى الْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ بَيْضَاءُ بَرَّاقَةٌ لَهَا لَمَعَانٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا لِلْبَدَنِ لَا لِلرُّوحِ لِأَنَّهَا(2/363)
لَا تَحْتَاجُ فِي حَرَكَتِهَا إِلَى مَرْكَبٍ تَرْكَبُ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرُوحِهِ لا بجسده وقد تعقبه أبو جعفر ابن جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِالرَّدِّ وَالْإِنْكَارِ وَالتَّشْنِيعِ بِأَنَّ هذا خلاف ظاهر سياق القرآن.
فائدة
وَقَدْ ذَكَرَ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ، مِنْ طَرِيقِ أنَس، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الرِّوَايَاتُ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، عَنْ عمر ابن الخطاب، وعلي، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَمَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَشَدَّادِ بن أوس، وأُبي بن كعب، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وحذيفة، وَأَبِي أَيُّوبَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وصهيب الرومي، وأم هانئ، وعائشة، وأسماء رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، مِنْهُمْ مَنْ سَاقَهُ بِطُولِهِ وَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَصَرَهُ عَلَى مَا وَقَعَ فِي الْمَسَانِيدِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رِوَايَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى شَرْطِ الصِّحَّةِ، فَحَدِيثُ الْإِسْرَاءِ أَجْمَعَ عَلَيْهِ المسلمون وأعرض عنه الزَّنَادِقَةُ الْمُلْحِدُونَ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كره الكافرون} .(2/364)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
- 2 - وَآتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً
- 3 - ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَسْرَى بِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، عطف بذكر موسى عبده ورسوله وكليمه أَيْضًا، فَإِنَّهُ تَعَالَى كَثِيرًا مَا يُقْرِنُ بَيْنَ ذكر موسى ومحمد عليهما من الله الصلاة والسلام، وَبَيْنَ ذِكْرِ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْإِسْرَاءِ: {وَآتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ} يَعْنِي التَّوْرَاةَ، {وَجَعَلْنَاهُ} أَيِ الْكِتَابَ، {هُدًى} أَيْ هَادِيًا {لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ تَتَّخِذُواْ} أَيْ لِئَلَّا تَتَّخِذُواْ، {مِن دُونِي وَكِيلاً} أَيْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً وَلَا مَعْبُودًا دُونِي، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أَرْسَلَهُ أَنْ يَعْبُدَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} تَقْدِيرُهُ: يَا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ! فِيهِ تَهْيِيجٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْمِنَّةِ، أَيْ يَا سُلَالَةَ مَنْ نَجَّيْنَا فَحَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ تَشَبَّهُوا بِأَبِيكُمْ {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} فاذكروا نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بِإِرْسَالِي إِلَيْكُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وقد ورد في الأثر: أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَلِبَاسِهِ وَشَأْنِهِ كُلِّهِ، فَلِهَذَا سمي عبداً شكوراً. قال الطبراني، عَنْ سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ نُوحٌ عَبْدًا شَكُورًا لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا أكل أو شرب حمد الله. وفي الحديث: «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَ اللَّهَ عَلَيْهَا» (رواه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي) . وفي حديث الشفاعة، عن أبي هريرة مرفوعاً، قال: "فيأتون نوحاً، فيقولون: يا نوح إنك أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ سماك الله عبداً شكوراً فاشفع لنا إلى ربك" (أخرجه البخاري في حديث الشفاعة عن أبي هريرة مرفوعاً) .(2/364)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
- 4 - وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا
- 5 - فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً - 6 - ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ(2/364)
الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا
- 7 - إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً
- 8 - عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا
يخبر تَعَالَى إِنَّهُ قَضَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ، أَيْ تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ وَأَخْبَرَهُمْ فِي الْكِتَابِ الذي أنزله عليهم أنهم سيفدون فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَيَعْلُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، أَيْ يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس، كقوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ إليه الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} أَيْ تَقَدَّمْنَا إِلَيْهِ وَأَخْبَرْنَاهُ بِذَلِكَ وَأَعْلَمْنَاهُ بِهِ. وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} أَيْ أُولَى الْإِفْسَادَتَيْنِ {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} أَيْ سَلَّطْنَا عَلَيْكُمْ جُنْدًا مِنْ خَلْقِنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، أي قوة وعدة وسلطنة شَدِيدَةٍ، {فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ} أَيْ تَمَلَّكُوا بِلَادَكُمْ وسلكوا خلال بيوتكم، أي بينها ووسطها ذَاهِبِينَ وَجَائِينَ لَا يَخَافُونَ أَحَدًا، {وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} . وقد اختلف المفسرون فِي هَؤُلَاءِ الْمُسَلَّطِينَ عَلَيْهِمْ مَنْ هُمْ؟ فَعَنِ ابن عباس وقتادة: أنه (جالوت) وَجُنُودُهُ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا ثُمَّ أُدِيلُوا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ، وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ} الآية. وعن سعيد بن جبير وَعَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ (بُخْتُنَصَّرُ) مَلِكُ بَابِلَ. وَقَدْ أخبر الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُّوَهُمْ فَاسْتَبَاحَ بَيْضَتَهُمْ، وَسَلَكَ خِلَالَ بُيُوتِهِمْ، وَأَذَلَّهُمْ وَقَهَرَهُمْ، جَزَاءً وِفَاقًا {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ تَمَرَّدُوا، وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ. وَقَدْ رَوَى ابن جرير، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: ظَهَرَ بُخْتُنَصَّرُ عَلَى الشَّامِ فَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَقَتَلَهُمْ، ثُمَّ أَتَى دِمَشْقَ فَوَجَدَ بِهَا دَمًا يَغْلِي عَلَى كِبًا، فَسَأَلَهُمْ مَا هَذَا الدَّمُ؟ فَقَالُوا: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هذا، قَالَ: فَقَتَلَ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَسَكَنَ. وَهَذَا صَحِيحٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَأَنَّهُ قَتَلَ أَشْرَافَهُمْ وَعُلَمَاءَهُمْ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ من يحفظ التوراة، وأخذ معه منهم خلقاً كثيراً أَسْرَى مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَجَرَتْ أُمُورٌ وَكَوَائِنُ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَلَوْ وَجَدْنَا مَا هُوَ صَحِيحٌ أَوْ مَا يُقَارِبُهُ لَجَازَ كِتَابَتُهُ وَرِوَايَتُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أَيْ فَعَلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} ، وقوله: {فَإِذَا جَآءَ وعد الآخرة} (قال مجاهد: بعث عليهم بختنصر في الآخرة، كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم. وقوله: {عبادا لنا} قال ابن عباس وقتادة: بعث الله عليهم جالوت، أخرجه ابن أبي حاتم، وفي العجائب للكرماني: قيل هم (سنحاريب) وجنوده. وقيل: العمالقة، وقيل: قوم مؤمنون) أي الكرة الآخرة، أي إذا أفسدتم الكرة الثَّانِيَةَ وَجَاءَ أَعْدَاؤُكُمْ {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} : أَيْ يُهِينُوكُمْ وَيَقْهَرُوكُمْ، {وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ} أَيْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} : أَيْ فِي الَّتِي جَاسُوا فِيهَا خِلَالَ الدِّيَارِ، {وَلِيُتَبِّرُواْ} : أَيْ يُدَمِّرُوا وَيُخَرِّبُوا {مَا عَلَوْاْ} أَيْ مَا ظَهَرُوا عَلَيْهِ {تَتْبِيراً * عسى رَبُّكُمْ أَن يرحمكم} : أي فيصرفكم عَنْكُمْ، {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} أَيْ مَتَى عُدْتُمْ إِلَى الْإِفْسَادِ عُدْنَا إِلَى الْإِدَالَةِ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا نَدَّخِرُهُ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ من العذاب والنكال، ولهذا قال: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} أَيْ مُسْتَقَرًّا وَمَحْصَرًا وسجناً لا محيد عنه. قال ابن عباس {حَصِيراً} أي
سجناً. وقال الحسن: فراشاً ومهاداً، وَقَالَ قَتَادَةُ: قَدْ عَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْحَيَّ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَأْخُذُونَ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.(2/365)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
- 9 - إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا
- 10 - وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
يَمْدَحُ تَعَالَى كِتَابَهُ الْعَزِيزَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْقُرْآنُ، بِأَنَّهُ يَهْدِي لِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَوْضَحِ السُّبُلِ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ عَلَى مُقْتَضَاهُ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ: أَيْ وَيُبَشِّرُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، أَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً، أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .(2/366)
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
- 11 - وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَجَلَةِ الْإِنْسَانِ وَدُعَائِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ مَالِهِ بِالشَّرِّ، أَيْ بِالْمَوْتِ أَوِ الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ وَاللَّعْنَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَوِ اسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ لَهَلَكَ بِدُعَائِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله للناس الشر} الآية. وَكَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ: «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَا عَلَى أَمْوَالِكُمْ أَنْ تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ ساعة إجابة يستجيب فيها (أخرجه أبو داود عن جابر، بتغيير وزيادة) » وإنما يحمل ابن آدم على ذلك قلقه وعجلته، ولهذا قال تعالى: {وَكَانَ الإنسان عجولا} .(2/366)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
- 12 - وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا
يَمْتَنُّ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ بِآيَاتِهِ الْعِظَامِ، فَمِنْهَا مُخَالَفَتُهُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِيَسْكُنُوا في الليل وينتشروا في النهار للمعايش والصنائع وَالْأَعْمَالِ وَالْأَسْفَارِ، وَلِيَعْلَمُوا عَدَدَ الْأَيَّامِ وَالْجُمَعِ وَالشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ، وَيَعْرِفُوا مُضِيَّ الْآجَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِلدُّيُونِ وَالْعِبَادَاتِ والمعاملات والإجازات وَغَيْرِ
ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: {لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} : أَيْ فِي مَعَايِشِكُمْ وَأَسْفَارِكُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ، {وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الزَّمَانُ كُلُّهُ نَسَقًا وَاحِدًا وَأُسْلُوبًا مُتَسَاوِيًا لَمَا عُرِفَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ؟ أفلا تسمعون} ، وقال تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} ، وَقَالَ تعالى: {وَلَهُ اختلاف الليل والنهار} ، وَقَالَ: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الليل} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لِلَّيْلِ آيَةً، أَيْ عَلَامَةً يُعْرَفُ بِهَا، وَهِيَ الظَّلَامُ وَظُهُورُ الْقَمَرِ فيه، وللنهار علامة، وهي النور وطلوع(2/366)
الشمس النيرة فيه، وفاوت بين نور القمر وضياء الشَّمْسِ لِيُعْرَفَ هَذَا مِنْ هَذَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بالحق} ، وقال تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} الآية. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ فِي
قَوْلِهِ: {فَمَحَوْنَآ آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} قال" ظلمة الليل وسدف النهار، وعن مُجَاهِدٍ: الشَّمْسُ آيَةُ النَّهَارِ، وَالْقَمَرُ آيَةُ اللَّيْلِ. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْقَمَرُ يُضِيءُ كَمَا تُضِيءُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ آيَةُ اللَّيْلِ، وَالشَّمْسُ آيَةُ النَّهَارِ، فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ السَّوَادَ الَّذِي فِي الْقَمَرِ. وقال قتادة: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ مَحْوَ آيَةِ اللَّيْلِ سَوَادُ الْقَمَرِ الَّذِي فِيهِ، وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً أي منيرة، وخلق الشَّمْسِ أَنْوَرُ مِنَ الْقَمَرِ وَأَعْظَمُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} قَالَ: لَيْلًا وَنَهَارًا، كَذَلِكَ خَلَقَهُمَا اللَّهُ عزَّ وجلَّ.(2/367)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
- 13 - وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُورًا
- 14 - اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا
يَقُولُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ الزَّمَانِ وَذِكْرِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} ، وَطَائِرُهُ: هُوَ مَا طَارَ عَنْهُ مِنْ عَمَلِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عباس ومجاهد وغيرهما: من خير وشر، ويلزم بِهِ وَيُجَازَى عَلَيْهِ، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ لديه مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ، وقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَمَلَ ابْنِ آدَمَ مَحْفُوظٌ عَلَيْهِ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ، وَيُكْتَبُ عَلَيْهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، صَبَاحًا ومساء، وقال الإمام أحمد عَنْ جَابِرٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَطَائِرُ كُلِّ إِنْسَانٍ فِي عنقه» . وقوله: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} أَيْ نَجْمَعُ لَهُ عَمَلَهُ كُلَّهُ فِي كِتَابٍ، يُعْطَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِمَّا بِيَمِينِهِ إِنْ كَانَ سَعِيدًا، أَوْ بِشِمَالِهِ إِنْ كَانَ شَقِيًّا {مَنْشُوراً} أَيْ مَفْتُوحًا يَقْرَؤُهُ هُوَ وَغَيْرُهُ، فِيهِ جَمِيعُ عَمَلِهِ مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} أَيْ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّكَ لم تظلم ولم يكتب عليك إلاّ مَا عَمِلْتَ، لِأَنَّكَ ذَكَرْتَ جَمِيعَ مَا كَانَ مِنْكَ، وَلَا يَنْسَى أَحَدٌ شَيْئًا مِمَّا كَانَ مِنْهُ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَقْرَأُ كِتَابَهُ مِنْ كَاتِبٍ وأمي، وقوله: {أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} إِنَّمَا ذَكَرَ الْعُنُقَ لِأَنَّهُ عُضْوٌ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْجَسَدِ، وَمَنْ أُلْزِمَ بِشَيْءٍ فِيهِ فَلَا مَحِيدَ لَهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ مِنْ عَمَلِ يَوْمٍ إِلَّا وَهُوَ يُخْتَمُ عَلَيْهِ، فَإِذَا مَرِضَ الْمُؤْمِنُ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا عَبْدُكَ فُلَانٌ قَدْ حَبَسْتَهُ، فَيَقُولُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ: اخْتِمُوا لَهُ عَلَى مِثْلِ عمله حتى يبرأ أو يموت" (أخرجه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر وإسناده قوي جيد كذا قال ابن كثير) ، وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ {أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} قَالَ: عَمَلَهُ، {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قَالَ: نُخْرِجُ ذَلِكَ الْعَمَلَ {كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} قَالَ مَعْمَرٌ: وَتَلَا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ} يَا ابْنَ آدَمَ بَسَطْتُ لَكَ صَحِيفَتَكَ، وَوَكَلَ بِكَ مَلَكَانِ كَرِيمَانِ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِكَ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِكَ، فَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَمِينِكَ فَيَحْفَظُ حَسَنَاتِكَ، وَأَمَّا الذي عن شمالك فَيَحْفَظُ سَيِّئَاتِكَ، فَاعْمَلْ مَا شِئْتَ، أَقْلِلْ أَوْ أَكْثِرْ، حَتَّى إِذَا مِتَّ طُوِيَتْ صَحِيفَتُكَ فَجُعِلَتْ في(2/367)
عُنُقِكَ مَعَكَ فِي قَبْرِكَ، حَتَّى تَخْرُجَ يَوْمَ القيامة كتاباً تلقاه منشورا {اقرأ كتابك} الآية. فقد عدل والله من جعلك حسيب نفسك، هذا من أحسن كَلَامِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ.(2/368)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
- 15 - مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ مَنِ اهْتَدَى وَاتَّبَعَ الْحَقَّ واقتفى أثر النُّبُوَّةِ، فَإِنَّمَا يُحَصِّلُ عَاقِبَةَ ذَلِكَ الْحَمِيدَةَ لِنَفْسِهِ، {وَمَن ضَلَّ} أَيْ عَنِ الْحَقِّ وَزَاغَ عَنْ سَبِيلِ الرَّشَادِ، فَإِنَّمَا يَجْنِي عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَعُودُ وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وزر أخرى} (أخرج ابن عبد البر بسند ضعيف عن عائشة قالت: سألت خديخة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال: هم من آبائهم، ثم سألته بعد ذلك، فقال: الله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ عاملين، ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت الآية: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وزر أخرى} وقال: هم على الفطرة - أو قال في الجنة - كما في اللباب) أَيْ لَا يَحْمِلُ أَحَدٌ ذَنْبَ أَحَدٍ؟ وَلَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} ، ولا منافاة بين هذا وبين قوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مع أثقالهم} ، وقوله: {وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ علم} فإن الدعاة عليهم إثم ضلالتهم فِي
أَنْفُسِهِمْ، وَإِثْمٌ آخَرُ بِسَبَبِ مَا أَضَلُّوا من أضلوا، وَهَذَا مِنْ عَدْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} إِخْبَارٌ عَنْ عَدْلِهِ تَعَالَى؛ وَأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، بإرسال الرسول إليه كقوله تَعَالَى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} الآية، وقوله: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا؟ قَالُواْ: بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ على الكافرين} ، وقال تعالى: {أَوَ لم نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نصير} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُدْخِلُ أَحَدًا النَّارَ إلاّ بعد إرسال الرسول إليه.
مسْألة
بقي ههنا مَسْأَلَةٌ قَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فيها قديماً وحديثاً، هي الْوِلْدَانُ الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ صِغَارٌ وَآبَاؤُهُمْ كُفَّارٌ مَاذَا حُكْمُهُمْ! وَكَذَا الْمَجْنُونُ وَالْأَصَمُّ وَالشَّيْخُ الْخَرِفُ، ومن مات في الفترة ولم تبلغه دعوته. وقد ورد في شأنهم أحاديث أنا أذكرها لك بعون الله وَتَوْفِيقِهِ، ثُمَّ نَذْكُرُ فَصْلًا مُلَخَّصًا مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. (فَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ) : رواه الإمام أحمد عن الأسود بن سريع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَرْبَعَةٌ يَحْتَجُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رجلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرِمٌ، ورجل مات في فترة. فالأصم فَيَقُولُ رَبِّ قَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا، وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ قَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ، وَأَمَّا الْهَرِمُ فَيَقُولُ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئًا، وَأَمَّا الذي مات في الفطرة فَيَقُولُ: رَبِّ مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ. فَيَأْخُذُ مواثيقهم ليطيعنه فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنِ ادْخُلُوا النَّارَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ محمد بيده لو دخلوها لكانت برداً وسلاماً".(2/368)
(الحديث الثاني) : عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: «هُمْ مَعَ آبَائِهِمْ» ، وَسُئِلَ عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: «هُمْ مَعَ آبَائِهِمْ» ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يعملون؟ قال: «الله أعلم بهم» (أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي) . (الحديث الثالث) : عَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عظَّم شَأْنَ الْمَسْأَلَةِ قَالَ: "إِذَا كَانَ يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ تُرْسِلْ إِلَيْنَا رَسُولًا، وَلَمْ يَأْتِنَا لَكَ أَمْرٌ، وَلَوْ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً لَكُنَّا أَطْوَعَ عِبَادِكَ، فَيَقُولُ لَهُمْ رَبُّهُمْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ تُطِيعُونِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَعْمِدُوا إِلَى جَهَنَّمَ فَيَدْخُلُوهَا، فَيَنْطَلِقُونَ حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْهَا وَجَدُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا، فَرَجَعُوا إِلَى رَبِّهِمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا أَوْ أَجِرْنَا مِنْهَا، فَيَقُولُ لهم: ألم تزعموا أني إذا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ تُطِيعُونِي؟ فَيَأْخُذُ عَلَى ذَلِكَ مَوَاثِيقَهُمْ، فَيَقُولُ: اعْمَدُوا إِلَيْهَا فَادْخُلُوهَا، فَيَنْطَلِقُونَ حَتَّى إِذَا رأوها فرقوا منها ورجعوا، وقالوا: رَبَّنَا فَرِقْنَا مِنْهَا وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَدْخُلَهَا، فَيَقُولُ: ادْخُلُوهَا دَاخِرِينَ"، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ دَخَلُوهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ كانت عليهم برداً وسلاماً» (أخرجه الحافظ البزار في مسنده) . (الحديث الرابع) : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يمجسانه، كما تنتج البهيمة جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ صَغِيرًا، قَالَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ عاملين» :، وروى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ذَرَارِيُّ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ يَكْفُلُهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ أَنَّهُ قال: «إني خلقت عبادي حنفاء» . (الحديث الخامس) : عَنْ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» ، فَنَادَاهُ النَّاسُ: يَا رَسُولَ الله وأولاد المشركين، قال: «وأولاد المشركين» (رواه الحافظ البرقاني في المستخرج على البخاري) . وقال الطبراني عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: «هُمْ خَدَمُ أَهْلِ الْجَنَّةِ» . (الحديث السادس) : عن خنساء بِنْتِ مُعَاوِيَةَ، مَنْ بَنِي صَرِيمٍ قَالَتْ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «النَّبِيُّ فِي الْجَنَّةِ، وَالشَّهِيدُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْمَوْلُودُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْوَئِيدُ فِي الجنة» (أخرجه الإمام أحمد) . فمن العلماء من ذهب إلى الوقوف فِيهِمْ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَزَمَ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ لِحَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ الْمَنَامِ حِينَ مَرَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْخِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَحَوْلَهُ وِلْدَانٌ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَؤُلَاءِ أَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ» . وَمِنْهُمْ مَنْ جَزَمَ لَهُمْ بِالنَّارِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «هُمْ مَعَ آبَائِهِمْ» . وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعَرَصَاتِ، فَمَنْ أَطَاعَ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَانْكَشَفَ عَلِمَ اللَّهِ فِيهِمْ بِسَابِقِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ عَصَى دَخَلَ النَّارَ دَاخِرًا وَانْكَشَفَ عِلْمُ اللَّهِ فِيهِ بِسَابِقِ الشَّقَاوَةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا. وَقَدْ صَرَّحَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ الْمُتَعَاضِدَةُ الشَّاهِدُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ. وهذا القول الذي حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي «كِتَابِ الِاعْتِقَادِ» . وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنقاد. وقد ذكر الشيخ ابن عبد البر أن أحاديث هَذَا الْبَابِ لَيْسَتْ قَوِيَّةً وَلَا تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ يُنْكِرُونَهَا لِأَنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جزاء وليست(2/369)
بدار عَمَلٍ وَلَا ابْتِلَاءٍ فَكَيْفَ يُكَلَّفُونَ دُخُولَ النَّارِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي وُسْعِ الْمَخْلُوقِينَ، وَاللَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا.
(وَالْجَوَابُ) عَمَّا قَالَ: أَنَّ أَحَادِيثَ هَذَا الْبَابِ مِنْهَا مَا هُوَ صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها مَا هُوَ حَسَنٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَعِيفٌ يتقوى بِالصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ، وَإِذَا كَانَتْ أَحَادِيثُ الْبَابِ الْوَاحِدِ متصلة مُتَعَاضِدَةً عَلَى هَذَا النَّمَطِ أَفَادَتِ الْحُجَّةَ عِنْدَ الناظر فيها. وأما قوله: إن الدار الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا دَارُ جَزَاءٍ وَلَا يُنَافِي التَّكْلِيفَ فِي عَرَصَاتِهَا قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ كَمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجماعة من أمتحان الأطفال. وقد قال تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} الآية. وقد ثبت فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ يوم القيامة، وإن المنافق لا يستطيع ذلك ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طَبَقًا وَاحِدًا، كُلَّمَا أَرَادَ السُّجُودَ خَرَّ لِقَفَاهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي يَكُونُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، أَنَّ اللَّهَ يَأْخُذُ عهوده ومواثيقه أن لا يَسْأَلَ غَيْرَ مَا هُوَ فِيهِ، وَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ! ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الجنة، وأما قوله: فكيف يكفلهم الله دُخُولَ النَّارَ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي وُسْعِهِمْ، فَلَيْسَ هَذَا بِمَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَهُوَ جِسْرٌ عَلَى جَهَنَّمَ أَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ وَأَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ، وَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ عَلَيْهِ بِحَسْبِ أَعْمَالِهِمْ كَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ، وَالرِّكَابِ، وَمِنْهُمُ السَّاعِي وَمِنْهُمُ الْمَاشِي، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْبُو حَبْوًا، وَمِنْهُمُ الْمَكْدُوشُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ، وَلَيْسَ مَا وَرَدَ فِي أُولَئِكَ بِأَعْظَمَ مِنْ هَذَا بَلْ هَذَا أَطَمُّ وَأَعْظَمُ. وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّ الدَّجَّالَ يَكُونُ مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، وَقَدْ أَمَرَ الشَّارِعُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُدْرِكُونَهُ أَنْ يَشْرَبَ أَحَدُهُمْ مِنَ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ نَارٌ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، فَهَذَا نَظِيرُ ذاك؛ وأيضاً فإن الله تعالى أمر بني إسرئيل أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى قَتَلُوا فِيمَا قِيلَ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعِينَ أَلْفًا، يَقْتُلُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ وَهُمْ فِي عَمَايَةٍ غَمَامَةٍ أَرْسَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ عُقُوبَةٌ لَهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، وَهَذَا أَيْضًا شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ جِدًّا لَا يَتَقَاصَرُ عَمَّا وَرَدَ في الحديث المذكور، والله أعلم.
فصل
إذا تَقَرَّرَ هَذَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وِلْدَانِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَقْوَالٍ، (أَحَدُهَا) : أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ سَمُرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى مع إبراهيم عليه السلام أولاد المسلمين وأولاد المشركين، (والقول الثَّانِي) : أَنَّهُمْ مَعَ آبَائِهِمْ فِي النَّارِ: وَاسْتَدَلَّ عليه بما روي عن عبد الله بن أبي قيس، أَنَّهُ أَتَى عَائِشَةَ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَرَارِيِّ الْكُفَّارِ فَقَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ تَبَعٌ لِآبَائِهِمْ» . فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله بلا أعمال؟ فقال: «الله أَعْلَمُ بما كانوا عاملين» . (أخرجه الإمام
أحمد) . (وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ) : التَّوَقُّفُ فِيهِمْ، وَاعْتَمَدُوا عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ عاملين» . وهو في الصحيحين، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ، وَهَذَا القول يرجع إلى مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، لِأَنَّ الْأَعْرَافَ لَيْسَ دَارَ قَرَارٍ، وَمَآلَ أَهْلِهَا إِلَى الْجَنَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي سورة الأعراف، والله أعلم، وليعلم أن(2/370)
هَذَا الْخِلَافَ مَخْصُوصٌ بِأَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَأَمَّا وِلْدَانُ المؤمنين فلا خلاف بين العلماء أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ الَّذِي نَقْطَعُ بِهِ إِنْ شاء الله عزَّ وجلَّ.(2/371)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
- 16 - وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا
اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {أَمَرْنَا} ، فَالْمَشْهُورُ قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهَا، فَقِيلَ معناه: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا أَمْرًا قَدَرِيًّا، كَقَوْلِهِ تعالى: {أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نهاراً} {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} قَالُوا مَعْنَاهُ أَنَّهُ سَخَّرَهُمْ إِلَى فِعْلِ الْفَوَاحِشِ فَاسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ، وَقِيلَ معناه: أمرهم بالطاعات ففعلوا الفواحش، فاستحقوا العقوبة (روي هذا القول عن سعيد بن جبير وابن عباس وهو قول حسن ورأي سديد) . وقال ابن جرير: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ، قُلْتُ: إِنَّمَا يَجِيءُ هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ {أمَّرنا مُتْرَفِيهَا} ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} يَقُولُ: سَلَّطْنَا أَشْرَارَهَا فَعَصَوْا فِيهَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذلك أهلكهم الله بِالْعَذَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} الآية، وعنه قال: أكثرنا عددهم.(2/371)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
- 17 - وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً
يَقُولُ تَعَالَى مُنْذِرًا كُفَّارَ قُرَيْشٍ فِي تَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّهُ قَدْ أهلك أمماً من المكذبين للرسل بَعْدِ نُوحٍ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْقُرُونَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَلَى الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَمَعْنَاهُ أَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ لَسْتُمْ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ، وَقَدْ كَذَّبْتُمْ أَشْرَفَ الرُّسُلِ وَأَكْرَمَ الْخَلَائِقِ فعقوبتكم أولى وأحرى. وقوله: {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً} أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا خَافِيَةٌ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(2/371)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
- 18 - مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً
- 19 - وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ مَا كُلُّ من طلب الدنيا وما فيها من النعم يَحْصُلُ لَهُ، بَلْ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ أَرَادَ الله وما يَشَاءُ، وَهَذِهِ مُقَيَّدَةٌ لِإِطْلَاقِ مَا سِوَاهَا مِنَ الْآيَاتِ، فَإِنَّهُ قَالَ: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ} أي في الدار الْآخِرَةِ {يَصْلاهَا} أَيْ يَدْخُلُهَا حَتَّى تَغْمُرَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ، {مَذْمُوماً} أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهِ مَذْمُومًا عَلَى سُوءِ تَصَرُّفِهِ وَصَنِيعِهِ، إِذِ اخْتَارَ الْفَانِي عَلَى الْبَاقِي، {مَّدْحُوراً} مُبْعَدًا مُقْصِيًّا حَقِيرًا ذليلاً مهاناً. وفي الحديث: «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لَا
مَالَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لا عقل له» (أخرجه أحمد عن عائشة مرفوعاً) ، وقوله: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ} [ص:372]
وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} أَيْ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِهِ، وهو متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي قلبه مُؤْمِنٌ، أَيْ مُصَدِّقٌ بِالثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَشْكُورًا} .(2/371)
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
- 20 - كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً
- 21 - انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً
يَقُولُ تَعَالَى {كُلاًّ} أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الَّذِينَ أَرَادُوا الدُّنْيَا وَالَّذِينَ أرادوا الآخرة، نمدهم فيما فيه {مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ} أي هو التصرف الْحَاكِمُ الَّذِي لَا يَجُورُ فَيُعْطِي كُلًّا مَا يستحقه من السعادة والشقاوة، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} أَيْ لَا يَمْنَعُهُ أَحَدٌ وَلَا يَرُدُّهُ رَادٌّ، قال قتادة {مَحْظُوراً} ، أي منقوصاً، وقال الحسن وغيره: أي مَمْنُوعًا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي فِي الدُّنْيَا، فَمِنْهُمُ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْحَسَنُ وَالْقَبِيحُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَمَنْ يَمُوتُ صَغِيرًا، وَمَنْ يُعَمَّرُ حَتَّى يَبْقَى شَيْخًا كَبِيرًا، وَبَيْنَ ذَلِكَ {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} : أَيْ وَلَتَفَاوُتُهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ مِنَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فِي الدَّرَكَاتِ فِي جَهَنَّمَ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فِي الدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَنَعِيمِهَا وَسُرُورِهَا، ثُمَّ أَهْلُ الدَّرَكَاتِ يتفاتون فِيمَا هُمْ فِيهِ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ يَتَفَاوَتُونَ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ مِائَةُ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَوْنَ أَهْلَ عِلِّيِّينَ، كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الْغَابِرَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ» ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وأكبر تفضيلا} .(2/372)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
- 22 - لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا
يَقُولُ تَعَالَى وَالْمُرَادُ الْمُكَلَّفُونَ مِنَ الْأُمَّةِ، لَا تَجْعَلْ أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ فِي عِبَادَتِكَ ربك له شريكاً {فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً} أي على إشراكك به {مَّخْذُولاً} لِأَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَا يَنْصُرُكَ، بَلْ يَكِلُكَ إِلَى الَّذِي عَبَدْتَ مَعَهُ، وَهُوَ لَا يملك ضراً ولا نفعاً، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، ومن أنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل» (رواه أحمد وأبو داود والترمذي) .(2/372)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
- 23 - وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا
- 24 - وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، فإن القضاء ههنا بِمَعْنَى الْأَمْرِ. قَالَ مُجَاهِدٌ {وَقَضَى} يَعْنِي(2/372)
وصّى، وَلِهَذَا قَرَنَ بِعِبَادَتِهِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ فَقَالَ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} أي وأمر بالوالدين إحساناً، كقوله فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير} ، وَقَوْلُهُ: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} أَيْ لَا تسمعهما قولاً سيئاً حتى ولا التأفف الذي هُوَ أدنى مراتب القول السيء، {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} أَيْ وَلَا يَصْدُرْ مِنْكَ إِلَيْهِمَا فعل قبيح، كما قال عطاء: {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} أي لا تنفض يدك عليهما، وَلَمَّا نَهَاهُ عَنِ الْقَوْلِ الْقَبِيحِ وَالْفِعْلِ الْقَبِيحِ، أَمَرَهُ بِالْقَوْلِ الْحَسَنِ وَالْفِعْلِ الْحَسَنِ، فَقَالَ: {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} أَيْ لَيِّنًا طَيِّبًا حَسَنًا بِتَأَدُّبٍ وَتَوْقِيرٍ وَتَعْظِيمٍ، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} أَيْ تَوَاضَعَ لَهُمَا بِفِعْلِكَ، {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} أي في كبرهما وعند وفاتهما. وَقَدْ جَاءَ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، (مِنْهَا) الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أنَس وغيره أن النبي صلَّى الله عليه وسلم صعد المنبر ثم قال: «آمين آمين آمين» ، قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَامَ أَمَّنْتَ؟ قَالَ: "أَتَانِي جبريل، فقال: يا محمد رَغِمَ أَنْفُ رِجْلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عليك، قُلْ آمِينَ، فَقُلْتُ آمِينَ، ثُمَّ قَالَ رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ ثُمَّ خرج فلم يُغْفَرْ لَهُ، قُلْ آمِينَ، فَقُلْتُ آمِينَ، ثُمَّ قال رغم أنف رجل أدرك والديه أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ، قُلْ آمِينَ، فقلت آمين" (أخرجه الترمذي الحاكم عن أبي هريرة) . (حديث آخر) : روى الإمام أحمد عن أبي مَالِكٍ الْقُشَيْرِيِّ قَالَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا ثُمَّ دَخَلَ النَّارَ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ» (وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ شعبة وفيه زيادات أخر) . (حديث آخر) : روى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رَغِمَ أَنْفُ ثُمَّ رَغِمَ أنف ثم رغم أنف: رجل أدرك أحد أبويه أو كلاهما عنده الكبر ولكم يدخل الجنة". (حديث آخر) : عن مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيُّ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هل بقي مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ بَعْدَ مَوْتِهِمَا أَبَرُّهُمَا بِهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ خِصَالٌ أَرْبَعٌ: الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا رَحِمَ لَكَ إِلَّا مِنْ قبلهما، فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما" (رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة) . (حديث آخر) : عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ
جَاهِمَةَ السَّلَمِيِّ، أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتُ
الْغَزْوَ، وَجِئْتُكَ أَسْتَشِيرُكَ، فَقَالَ: «فَهَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟» قَالَ: نعم، قال: «فالزمها فإن الجنة عند رجليها» (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه) . (حديث آخر) : قال الحافظ البزار في مسنده عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا كَانَ فِي الطَّوَافِ حَامِلًا أُمَّهُ يَطُوفُ بِهَا، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَدَّيْتُ حَقَّهَا؟ قَالَ: «لَا، وَلَا بِزَفْرَةٍ واحدة» (قال ابن كثير: في سنده الحسن بن أبي جعفر وهو ضعيف) .(2/373)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
- 25 - رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الرَّجُلُ تَكُونُ مِنْهُ الْبَادِرَةُ إِلَى أَبَوَيْهِ وَفِي نِيَّتِهِ وَقَلْبِهِ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُرِيدُ إِلَّا الْخَيْرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ} ، وقوله: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً} [ص:374] قَالَ قَتَادَةُ: لِلْمُطِيعِينَ أهل الصلاة، وعن ابن عباس: المطيعين المحسنين. وعن ابن المسيب: الذين يصيبون الذنب ثم يتوبون، وعن عطاء بن يسار، وسعيد بن جبير، ومجاهد: هم الراجعون إلى الخير. وعن عبيد بن عمير قال: كنا نعد الأوَّاب من يَقُولَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَصَبْتُ فِي مَجْلِسِي هَذَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْأَوْلَى فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ هُوَ التَّائِبُ مِنَ الذنب، الرجّاع من الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، مِمَّا يَكْرَهُ اللَّهُ إِلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ الصَّوَابُ، لِأَنَّ الْأَوَّابَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَوْبِ وَهُوَ الرُّجُوعُ، يُقَالُ: آبَ فُلَانٌ إِذَا رَجَعَ، قَالَ تعالى: {إن إلينا إيابهم} . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَجَعَ مِنْ سَفَرٍ قَالَ: «آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» .(2/373)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
- 26 - وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا
- 27 - إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا
- 28 - وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى بِرَّ الْوَالِدَيْنِ، عَطَفَ بِذِكْرِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْقَرَابَةِ وَصِلَةِ الأرحام، وفي الْحَدِيثِ: «أُمَّكَ وَأَبَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ» . وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أحب أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقُهُ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَجَلِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» . وقوله: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} لَمَّا أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ نَهَى عَنِ الْإِسْرَافِ فِيهِ، بَلْ يَكُونُ وَسَطًا كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُوا} الآية، ثُمَّ قَالَ مُنَفِّرًا عَنِ التَّبْذِيرِ وَالسَّرَفِ: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} : أَيْ أَشْبَاهَهُمْ فِي ذلك، قال ابْنُ مَسْعُودٍ: التَّبْذِيرُ الْإِنْفَاقُ فِي غَيْرِ حَقٍّ، وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله فِي الْحَقِّ لَمْ يَكُنْ مُبَذِّرًا، وَلَوْ أَنْفَقَ مداً في غير حق كان مبذراً. وَقَالَ قَتَادَةُ: التَّبْذِيرُ النَّفَقَةُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تعالى، وفي غير الحق والفساد، وقوله: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} : أَيْ فِي التَّبْذِيرِ وَالسَّفَهِ، وَتَرْكِ طَاعَةِ اللَّهِ وَارْتِكَابِ مَعْصِيَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كُفُوراً} : أَيْ جُحُودًا، لِأَنَّهُ أَنْكَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِطَاعَتِهِ، بَلْ أَقْبَلَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ، وقوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} الآية: أي إذا سألك أقاربك ومن أمرناك بِإِعْطَائِهِمْ وَلَيْسَ عِنْدَكَ شَيْءٌ وَأَعْرَضْتَ عَنْهُمْ لِفَقْدِ النَّفَقَةِ {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} : أَيْ عِدْهُمْ وَعْدًا بِسُهُولَةٍ وَلِينٍ إِذَا جَاءَ رِزْقُ اللَّهِ فسنصلكم إن شاء الله" (هكذا فسره مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ فسروا القول الميسور بالوعد) .(2/374)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
- 29 - وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً
- 30 - إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا بِالِاقْتِصَادِ فِي الْعَيْشِ، ذَامًّا لِلْبُخْلِ، نَاهِيًا عَنِ السَّرَفِ: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} أَيْ لَا تَكُنْ بَخِيلًا مَنُوعًا لَا تُعْطِي أَحَدًا شَيْئًا، كَمَا قَالَتِ الْيَهُودُ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ الله (يَدُ الله مَغْلُولَةٌ) أَيْ نَسَبُوهُ إِلَى الْبُخْلِ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ الْكَرِيمُ الْوَهَّابُ، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} أَيْ وَلَا تُسْرِفْ فِي الْإِنْفَاقِ فَتُعْطِيَ فَوْقَ طَاقَتِكَ، وَتُخْرِجَ أَكْثَرَ مِنْ دَخْلِكَ {فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} ، وَهَذَا مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ، أَيْ فَتَقْعُدَ إن(2/374)
بخلت ملوماً يلومك الناس ويذمونك، وَمَتَى بَسَطْتَ يَدَكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ قَعَدْتَ بِلَا شيء تنفقه (فسر ابن عباس والحسن وقتادة وابن جريج الآية بأن المراد هنا البخل والسرف) فَتَكُونَ كَالْحَسِيرِ، وَهُوَ الدَّابَّةُ الَّتِي قَدْ عَجَزَتْ عَنِ السَّيْرِ فَوَقَفَتْ ضَعْفًا وَعَجْزًا، فَإِنَّهَا تُسَمَّى الْحَسِيرَ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكَلَالِ، كَمَا قَالَ تعالى: {ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} أي كليل عن أن يرى عيباً، وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ من ثديهما إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلَا يُنْفِقُ إِلَّا سَبَغَتْ، أَوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلَا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلَّا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا فَهُوَ يُوَسِّعُهَا فَلَا تَتَّسِعُ» (هَذَا لَفْظُ البخاري في الزكاة) . وفي الصحيحين عن أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَفِقِي هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ، وَلَا تُوكِي فَيُوكِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ» ، وَفِي لَفْظٍ: «وَلَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ» . وَفِي صَحِيحِ مسلم،
قال رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن اللَّهَ قَالَ لِي: أَنفق أُنفق عَلَيْكَ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا وَمَلَكَانِ يَنْزِلَانِ مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أعط ممسكاً تلفاً"، وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَا نَقَصَ مالٌ مِنْ صَدَقَةٍ، وَمَا زَادَ الله عبداً أنفق إلا عزً، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ» . وَفِي حَدِيثِ عبد الله بن عمر مَرْفُوعًا: «إِيَّاكُمْ وَالشُّحَ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وأمرهم بالفجور ففجروا» (الحديث أخرجه أبو داود والحاكم عن ابن عمرو) . وروى البيهقي عن الأعمش، عَنْ أَبِيهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُخْرِجُ رَجُلٌ صَدَقَةً حتى يفك لحي سبعين شيطاناً» . وروى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عال من اقتصد» ، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} إِخْبَارٌ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الرَّزَّاقُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ، الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، فَيُغْنِي مَنْ يشاء ويفقر مَنْ يَشَاءُ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} أي خبيراً بصيراً بمن يستحق الغنى ويستحق الْفَقْرَ. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْفَقْرُ وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدْتُ عَلَيْهِ دِينَهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدْتُ عَلَيْهِ دِينَهُ» . وَقَدْ يَكُونُ الْغِنَى فِي حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ اسْتِدْرَاجًا، وَالْفَقْرُ عُقُوبَةً عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ هذا وهذا.(2/375)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
- 31 - وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خطأ كَبِيرًا
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أرحمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ، لأنه نهى عن قتل الأولاد، كما أوصى الآباء بِالْأَوْلَادِ فِي الْمِيرَاثِ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ الْبَنَاتِ، بَلْ كَانَ أَحَدُهُمْ رُبَّمَا قَتَلَ ابْنَتَهُ لِئَلَّا تَكْثُرَ عَيْلَتُهُ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عن ذلك وقال: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} أَيْ خَوْفَ أَنْ تَفْتَقِرُوا فِي ثَانِي الْحَالِ، وَلِهَذَا قَدَّمَ الِاهْتِمَامَ بِرِزْقِهِمْ فَقَالَ: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} . وَفِي الْأَنْعَامِ: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ} : أَيْ من فقر {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} ، وقوله: {إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خطأ كَبِيراً} : أي ذنباً عظيماً، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ [ص:376] بْنِ مَسْعُودٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خلقك» ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ» .(2/375)
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
- 32 - وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا
يَقُولُ تَعَالَى ناهياً عباده عن الزنا، وعن مقاربته، ومخالطة أسبابه ودواعيه {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} أَيْ ذَنْبًا عَظِيمًا، {وَسَآءَ سَبِيلاً} أي وبئس طريقاً ومسلكاً، روى الإمام أحمد، عن أبي أمامة، إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لي بالزنا، فأقبل عليه القوم فَزَجَرُوهُ، وَقَالُوا: مَهْ مَهْ. فَقَالَ: «ادْنُهْ» ، فَدَنَا منه قريباً، فقال: «اجلس» فجلس، فقال: أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ " قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ» ، قَالَ:
«أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟» قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يحبونه لبناتهم» ، قال: «أفتحبه لِأُخْتِكَ؟» قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ» ، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟» قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ» ، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ خالتك؟» قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ» ، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ
عَلَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وأحصن فَرْجَهُ» ، قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتَى يلتفت إلى شيء (أخرجه الإمام أحمد في المسند) . وعن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ بَعْدَ الشِّرْكِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ نُطْفَةٍ وَضَعَهَا رَجُلٌ فِي رَحِمٍ لَا يحل له» (أخرجه ابن أبي الدنيا عن الهيثم بن مالك الطائي مرفوعاً) .(2/376)
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
- 33 - وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً
يَقُولُ تَعَالَى نَاهِيًا عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ شَرْعِيٍّ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق لجماعة". وفي السنن: «لزوال الدنيا عند الله أهون مِنْ قَتْلِ مُسْلِمٍ» . وَقَوْلُهُ: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} : أَيْ سُلْطَةً عَلَى الْقَاتِلِ، فَإِنَّهُ بِالْخِيَارِ فِيهِ، إِنْ شَاءَ قَتَلَهُ قَوْدًا، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ عَلَى الدِّيَةِ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ مَجَّانًا، كَمَا ثَبَتَتِ السنة بذلك، وقوله: {فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل} أي فَلَا يُسْرِفِ الْوَلِيُّ فِي قَتْلِ الْقَاتِلِ بِأَنْ يُمَثِّلَ بِهِ أَوْ يَقْتَصَّ مِنْ غَيْرِ الْقَاتِلِ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} : أَيْ أَنَّ الْوَلِيَّ منصور على القاتل شرعاً وقدراً.(2/376)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
- 34 - وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مسؤولا
- 35 - وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(2/376)
يَقُولُ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي لا تتصرفوا في مَالَ اليتيم إِلاَّ بالغبطة، {وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} . وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لَا تَأَمرنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ» . وقوله: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} أَيِ الَّذِي تُعَاهِدُونَ عَلَيْهِ النَّاسَ، وَالْعُقُودَ الَّتِي تُعَامِلُونَهُمْ بِهَا، فَإِنَّ الْعَهْدَ وَالْعَقْدَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُسْأَلُ صَاحِبُهُ عَنْهُ، {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} أي عنه. وقوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ} أَيْ مِنْ غَيْرِ تَطْفِيفٍ، وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ، {وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ} وهو الميزان، قال مُجَاهِدٌ هُوَ الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ، وَقَوْلُهُ: {الْمُسْتَقِيمِ} أَيْ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ، وَلَا اضْطِرَابَ: {ذَلِكَ خَيْرٌ} أَيْ لَكُمْ فِي مَعَاشِكُمْ وَمَعَادِكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أَيْ مَآلًا ومنقلباً في آخرتكم، قال قتادة: أي خير ثواباً وأحسن عاقبة، وكان ابن عباس يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمَوَالِي إِنَّكُمْ وُلِّيتُمْ أَمْرَيْنِ بِهِمَا هَلَكَ النَّاسُ قَبْلَكُمْ: هَذَا الْمِكْيَالَ، وَهَذَا الميزان.(2/377)
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
- 36 - وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً
قال ابن عباس: لا تقل، وقال العوفي: لَا تَرْمِ أَحَدًا بِمَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا تَقُلْ رَأَيْتُ وَلَمْ تَرَ، وَسَمِعْتُ وَلَمْ تُسْمِعْ، وَعَلِمْتُ وَلَمْ تَعْلَمْ، فَإِنَّ الله تعالى سَائِلُكَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَمَضْمُونُ مَا ذَكَرُوهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنِ الْقَوْلِ بِلَا عِلْمٍ، بَلْ بِالظَّنِّ الَّذِي هُوَ التَّوَهُّمُ وَالْخَيَالُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} . وَفِي الْحَدِيثِ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا» . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «إِنَّ أَفَرَى الفري أن يُري الرجل عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَيَا» . وَفِي الصَّحِيحِ: «مَنْ تَحَلَّمَ حُلْمًا كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَنْ يَعْقِدَ بين شعيرتين وليس بفاعل» . وَقَوْلُهُ: {كُلُّ أُولَئِكَ} أَيْ هَذِهِ الصِّفَاتُ مِنَ السمع والبصر والفؤاد {كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} أَيْ سَيُسْأَلُ الْعَبْدُ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتُسْأَلُ عنه.(2/377)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
- 37 - وَلاَ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا
- 38 - كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا
يَقُولُ تَعَالَى نَاهِيًا عِبَادَهُ عَنِ التَّجَبُّرِ وَالتَّبَخْتُرِ فِي الْمِشْيَةِ: {وَلاَ تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} أَيْ مُتَبَخْتِرًا مُتَمَايِلًا مَشْيَ الْجَبَّارِينَ، {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض} أي لن تقطع الأرض بمشيك، {وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} : أَيْ بِتَمَايُلِكَ وَفَخْرِكَ وَإِعْجَابِكَ بِنَفْسِكَ، بَلْ قَدْ يُجَازَى فَاعِلُ ذَلِكَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ يَتَبَخْتَرُ فِيهِمَا إِذْ خُسِفَ بِهِ الْأَرْضُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَارُونَ أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى
قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَسَفَ بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ
اللَّهُ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ حَقِيرٌ وعند الناس كبير» ، وَرَأَى الْبَخْتَرِيُّ الْعَابِدُ رَجُلًا مِنْ آلِ (عَلِيٍّ) يَمْشِي
وَهُوَ يَخْطِرُ فِي مِشْيَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا! إِنَّ الَّذِي أَكْرَمَكَ بِهِ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ مِشْيَتَهُ، قَالَ: فَتَرَكَهَا الرَّجُلُ بَعْدُ. وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ رَجُلًا يَخْطِرُ فِي مِشْيَتِهِ، فقال: إن للشياطين إخواناً، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا مشت أمتي المطيطاء(2/377)
وخدمتهم فارس والروم سلط بعضهم على بعض» (أخرجه ابن أبي الدنيا عن سعيد عن محسن) . وقوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ
مَكْرُوهاً} ، أي كُلُّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} إلى هنا، (فسيئه) أي فقبيحه مكروه عند الله.(2/378)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
- 39 - ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا
يَقُولُ تَعَالَى هَذَا الَّذِي أَمَرْنَاكَ بِهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، وَنَهَيْنَاكَ عنه من الصفات الرذيلة، مما حينا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ لِتَأْمُرَ بِهِ النَّاسَ، {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً} أَيْ تَلُومُكَ نَفْسُكَ، وَيَلُومُكَ اللَّهُ والخلق {مَّدْحُوراً} : أي مبعداً من كل خير، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: مَطْرُودًا، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ الْأُمَّةُ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ معصوم.(2/378)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
- 40 - أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً
يَقُولُ تَعَالَى رَادًّا عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْكَاذِبِينَ الزَّاعِمِينَ - عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ - أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، فَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً، ثُمَّ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ بنات الله، ثم عبدوهم فأخطأوا فِي كُلٍّ مِنَ الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثِ خَطَأً عَظِيمًا، فقال تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ} أَيْ خَصَّصَكُمْ بِالذُّكُورِ {وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثاً} أَيْ واختار لِنَفْسِهِ عَلَى زَعْمِكُمُ الْبَنَاتِ، ثُمَّ شَدَّدَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} أَيْ في زعمكم أن لِلَّهِ وَلَدًا ثُمَّ جَعْلِكُمْ وَلَدَهُ الْإِنَاثَ الَّتِي تَأْنَفُونَ أَنْ يَكُنَّ لَكُمْ وَرُبَّمَا قَتَلْتُمُوهُنَّ بِالْوَأْدِ، فتلك إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ولدا * ما يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فردا} .(2/378)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)
- 41 - وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا
يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} : أَيْ صَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ مَا فيه من الحجج والبينات والمواعظ؛ فينزجرون عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْإِفْكِ {وَمَا يَزِيدُهُمْ} أَيْ الظَّالِمِينَ مِنْهُمْ {إِلاَّ نُفُوراً} أي عن الحق وبعداً عنه.(2/378)
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)
- 42 - قُل لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا
- 43 - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً
يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الزَّاعِمِينَ أَنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا مِنْ خَلْقِهِ الْعَابِدِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ ليقربهم إليه [ص:379] زلفاً: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ وَأَنَّ مَعَهُ آلِهَةً تُعْبَدُ لِتُقَرِّبَ إِلَيْهِ وَتُشَفَّعَ لَدَيْهِ، لَكَانَ
أُولَئِكَ الْمَعْبُودُونَ يَعْبُدُونَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ وَيَبْتَغُونَ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَالْقُرْبَةَ، فَاعْبُدُوهُ أَنْتُمْ وَحْدَهُ كَمَا
يَعْبُدُهُ مَنْ تَدْعُونَهُ مِنْ دُونِهِ، وَلَا حَاجَةَ لَكُمْ إِلَى مَعْبُودٍ يَكُونُ وَاسِطَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُحِبُّ ذَلِكَ
وَلَا يَرْضَاهُ بَلْ يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ. وَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ وَقَدَّسَهَا، فَقَالَ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ} أَيْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الْمُعْتَدُونَ الظَّالِمُونَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ مَعَهُ آلِهَةً أُخرى {عُلُوًّا كَبِيرًا} : أَيْ تَعَالِيًا كبيراً، بَلْ هُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ.(2/378)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
- 44 - تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً
يقول تعالى تقدسه السماوات السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، أَيْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وتنزهه وتعظمه ووتبجله وَتَكَبِّرُهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، وَتَشْهَدُ لَهُ بالوحدانية في ربويته وَإِلَهِيَّتِهِ:
فَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةً * تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا للرحمن ولدا} . وَقَوْلُهُ: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} أَيْ وَمَا مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِ اللَّهِ {وَلَكِنْ لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أي لا تفهمون تسبيحهم لأنها بخلاف لغاتكم، وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ فِي يَدِهِ حَصَيَاتٍ فَسُمِعَ لَهُنَّ تَسْبِيحٌ كَحَنِينِ النَّحْلِ، وكذا في يَدُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (قال ابن كثير: وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ فِي الْمَسَانِيدِ) . وَقَالَ الْإِمَامُ أحمد عن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه دخل عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ وُقُوفٌ عَلَى دَوَابٍّ لَهُمْ وَرَوَاحِلَ، فَقَالَ لَهُمْ: «ارْكَبُوهَا سَالِمَةً وَدَعُوهَا سَالِمَةً، وَلَا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ لِأَحَادِيثِكُمْ فِي الطُّرُقِ وَالْأَسْوَاقِ، فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا، وَأَكْثَرُ ذِكْرًا مِنْهُ» . وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ، وَقَالَ: نقيقها تسبيح. وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ نُوحٌ
ابنه؟ إن نوح عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ آمُرُكَ أَنْ تَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ فَإِنَّهَا صَلَاةُ الْخَلْقِ، وَتَسْبِيحُ الْخَلْقِ، وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ"، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (أخرجه ابن جرير، قال ابن كثير: في إسناده ضعف) . وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} قَالَ: الْأُسْطُوَانَةُ تُسَبِّحُ، والشجرة تسبح، وقال بعض السلف: صرير الباب تسبيحه، وخرير الماء تسبيحه.
وقال آخرون: إنما يسبح من كان فيه روح من حيوان ونبات، قال قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} قال: كل شيء فيه روح يُسَبِّحُ مِنْ شَجَرٍ أَوْ شَيْءٍ فِيهِ، وَقَالَ الحسن والضحاك: كل شيء فيه الروح. وقد يستأنس(2/379)
لهذا القول بحديث ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لا يستنزه مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ» ، ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، ثُمَّ غَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً
ثُمَّ قَالَ: "لعله يخفف عنهما ما لم يبسا (أخرجه الشيخان عن ابن عباس مرفوعاً) ، قال بعض من تكلم عن هذا الحديث من العلماء، إما قَالَ مَا لَمْ يَيْبَسَا: لِأَنَّهُمَا يُسَبِّحَانِ مَا دَامَ فِيهِمَا خُضْرَةٌ فَإِذَا يَبِسَا انْقَطَعَ تَسْبِيحُهُمَا، والله أعلم. وقوله: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} أي أنه لَا يُعَاجِلُ مَنْ عَصَاهُ بِالْعُقُوبَةِ، بَلْ يُؤَجِّلُهُ وَيُنْظِرُهُ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَعِنَادِهِ أَخَذَهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} الآية. وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} الآية. وقال: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} : الآيتينن وَمَنْ أَقْلَعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ كُفْرٍ أَوْ عِصْيَانٍ وَرَجَعَ إِلَى اللَّهِ وَتَابَ إِلَيْهِ، تَابَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ} الآية. وقال ههنا: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} كَمَا قَالَ فِي آخِرِ فَاطِرٍ: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولاَ، وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُورًا} إِلَى أَنْ قَالَ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ} إلى آخر السورة.(2/380)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
- 45 - وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً
- 46 - وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِذَا قَرَأْتَ يَا محمد على هؤلاء المشركين القرآن (أخرج ابن المنذر عن ابن شِهَابٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إذا تلا القرآن على مشركي قريش ودعاهم إلى الكتاب قالوا - يهزؤن به - قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ، وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حجاب. فأنزل الله في ذلك من قوله: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن} الآية) ، جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ حِجَابًا مَسْتُورًا، قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الْأَكِنَّةُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} : أَيْ مَانِعٌ حَائِلٌ أَنْ يَصِلَ إِلَيْنَا مِمَّا تقول شيء وقوله: {حِجَاباً مَّسْتُوراً} بمعنى ساتر، وَقِيلَ مَسْتُورًا عَنِ الْأَبْصَارِ فَلَا تَرَاهُ، وَهُوَ مع ذلك حجاب بينهم وبين الهدى. عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنها قالت: لما نزلت {تبت يد أبي لهب} جَاءَتِ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ، وَلَهَا وَلْوَلَةٌ وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ، وَهِيَ تَقُولُ: مُذَمَّمًا أبيْنا، وَدِينَهُ قليْنا، وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا. وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وأبي بكر إلى جنبه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: لقد أقلبت هَذِهِ وَأَنَا أَخَافُ أَنْ تَرَاكَ، فَقَالَ: «إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي» ، وَقَرَأَ قُرْآنًا اعْتَصَمَ بِهِ مِنْهَا: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً} ، قَالَ: فَجَاءَتْ حَتَّى قَامَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَلَمْ تَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ يَا أَبَا بَكْرٍ: بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ، مَا هَجَاكِ، قَالَ فَانْصَرَفَتْ وَهِيَ تَقُولُ: لَقَدْ عَلِمَتْ قريش إني بنت سيدها (أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أسماء بنت أبي بكر) . وقوله: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً}(2/380)
وهي جَمْعُ كِنَانٍ: الَّذِي يَغْشَى الْقَلْبَ {أَن يَفْقَهُوهُ} : أَيْ لِئَلَّا يَفْهَمُوا الْقُرْآنَ {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} وَهُوَ الثِّقَلُ الَّذِي يَمْنَعُهُمْ مِنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ سماعاً ينفعهم ويهتدون به. وقوله تعالى: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ} أَيْ
إِذَا وَحَّدْتَ اللَّهَ فِي تِلَاوَتِكَ وَقُلْتَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ {وَلَّوْاْ} أَيْ أَدْبَرُوا رَاجِعِينَ {على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} الآية، قال قتادة: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، أنكر ذلك المشركون وكبرت عليهم فضاقها إِبْلِيسُ وَجُنُودُهُ، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُمْضِيَهَا ويعليها وينصرها وَيُظْهِرَهَا عَلَى مَنْ نَاوَأَهَا، إِنَّهَا كَلِمَةٌ مَنْ خَاصَمَ بِهَا فَلَجَ، وَمَنْ قَاتَلَ بِهَا نُصِرَ، إِنَّمَا يَعْرِفُهَا أَهْلُ هَذِهِ الْجَزِيرَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يَقْطَعُهَا الرَّاكِبُ فِي لَيَالٍ قَلَائِلَ، وَيَسِيرُ الدَّهْرَ فِي فِئَامٍ مِنَ النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَهَا ولا يقرون بها.(2/381)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
- 47 - نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً
- 48 - انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً
يخبر تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بما يتناجى بِهِ رُؤَسَاءُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، حِينَ جَاءُوا يَسْتَمِعُونَ قراءته سِرًّا مِنْ قَوْمِهِمْ بِمَا قَالُوا: مِنْ أَنَّهُ رجل مَسْحُورٌ لَهُ رِئًى يَأْتِيهِ بِمَا اسْتَمَعُوهُ مِنَ الكلام الذي يتلوه، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} أَيْ فَلَا يَهْتَدُونَ إِلَى الْحَقِّ وَلَا يَجِدُونَ إِلَيْهِ مَخْلَصًا، قال محمد بن إسحاق في السيرة: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَأَبَا جَهْلِ بن هشام، والأخنس بن شريق خَرَجُوا لَيْلَةً لِيَسْتَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فِي بَيْتِهِ، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا يَسْتَمِعُ فِيهِ، وَكُلٌّ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ صَاحِبِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، حتى إذا جمعتهم الطريق
تلاوموا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَعُودُوا فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ لَأَوْقَعْتُمْ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ عَادَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى مَجْلِسِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعتهم الطَّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مِثْلَ مَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، ثُمَّ انْصَرَفُوا حَتَّى إِذَا كَانَتِ الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطَّرِيقُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا نَبْرَحُ حَتَّى نَتَعَاهَدَ لَا نَعُودُ. فَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تَفَرَّقُوا. فَلَمَّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شُرَيْقٍ أَخَذَ عَصَاهُ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ، وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا، وَسَمِعْتُ أَشْيَاءَ مَا عَرَفْتُ مَعْنَاهَا وَلَا مَا يُرَادُ بِهَا، قَالَ الْأَخْنَسُ: وَأَنَا وَالَّذِي حَلَفْتَ بِهِ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ مَا رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: مَاذَا سَمِعْتُ؟ قال: تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ: أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حَتَّى إِذَا تَجَاثَيْنَا عَلَى الرُّكَبِ وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ، فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ؟ وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا وَلَا نُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَقَامَ عَنْهُ الْأَخْنَسُ وَتَرَكَهُ.(2/381)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
- 49 - وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً
- 50 - قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا
- 51 - أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ ويقولون متى(2/381)
هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا
- 52 - يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ الْمُسْتَبْعَدِينَ وُقُوعَ الْمَعَادِ، الْقَائِلِينَ اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ مِنْهُمْ لِذَلِكَ: {أئذا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً} أي تراباً، {أئنا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} أي يوم القيامة بعد ما بلينا وصرنا عدماً
لا نذكر، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ: {يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ * أَئِذَا كُنَّا
عِظَاماً نَّخِرَةً * قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} ، وقوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} الآية، فأمر الله سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يُجِيبَهُمْ، فَقَالَ: {قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} إذ هما أَشَدُّ امْتِنَاعًا مِنَ الْعِظَامِ وَالرُّفَاتِ، {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} ، عَنْ مُجَاهِدٍ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ فقال: هو الموت، وعن ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآية لو كنتم موتى لأحييتكم (وكذلك قال سعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحّاك وغيرهم) ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّكُمْ لَوْ فَرَضْتُمْ أَنَّكُمْ لَوْ صرتم إلى الموت الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْحَيَاةِ لَأَحْيَاكُمُ اللَّهُ إِذَا شَاءَ فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِذَا أراده. وَقَالَ مُجَاهِدٌ {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} : يَعْنِي السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ، وَفِي رِوَايَةٍ: مَا شِئْتُمْ فَكُونُوا فَسَيُعِيدُكُمُ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِكُمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا} : أَيْ مَنْ يُعِيدُنَا إِذَا كُنَّا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا آخَرَ شَدِيدًا {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أَيِ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا مَذْكُورًا، ثُمَّ صِرْتُمْ بَشَرًا تَنْتَشِرُونَ، فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِكُمْ وَلَوْ صِرْتُمْ إِلَى أَيِّ حَالٍ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه} الآية، وقوله تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} . قال ابن عباس وقتادة: يحركونها استهزاءً، والإنغاض هُوَ التَّحَرُّكُ مِنْ أَسْفَلَ إِلَى أَعْلَى، أَوْ من أعلى إلى أسفل، يقال نَغَضَتْ سِنُّهُ: إِذَا تَحَرَّكَتْ وَارْتَفَعَتْ مِنْ مَنْبَتِهَا. وقال الرَّاجِزُ: وَنَغَضَتْ مِنْ هَرَمٍ أَسْنَانُهَا.
وَقَوْلُهُ: {وَيَقُولُونَ متى هُو} إخبار عنهم بِالِاسْتِبْعَادِ مِنْهُمْ لِوُقُوعِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ
مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا} ، وَقَوْلُهُ: {قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً} أَيْ احْذَرُوا ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَرِيبٌ إِلَيْكُمْ سَيَأْتِيكُمْ لَا محالة، فكل ما هو آت قريب، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} أي الرب تبارك وتعالى، {إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَآ
أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} : أَيْ إِذَا أَمَرَكُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ، بَلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} ، {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فيكون} ، وقوله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} أَيْ إِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ بِانْتِهَارٍ، فَإِذَا النَّاسُ قَدْ خَرَجُوا مِنْ بَاطِنِ الْأَرْضِ إِلَى ظاهرها، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} : أَيْ تَقُومُونَ كُلُّكُمْ إجابة لأمره وطاعة لإرادته، قال ابن عباس {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} : أي بأمره، وَقَالَ قَتَادَةُ: بِمَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} : أَيْ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي كُلِّ حَالٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ عَلَى أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْشَةٌ في قبورهم، كأني بِأَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَقُومُونَ مِنْ قبورهم ينفضون التراب عن رؤوسهم يَقُولُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ يَقُولُونَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ» (الرواية الثانية: أخرجها الطبراني عن ابن عمر) ، وقوله تعالى {وَتَظُنُّونَ} : أَيْ يَوْمَ تَقُومُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ، {إِن لَّبِثْتُمْ} أَيْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، {إِلاَّ قَلِيلاً} كقوله تعالى:(2/382)
{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} . وقال تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يوما} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غير ساعة} .(2/383)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
- 53 - وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عدوا مبينا
يأمر تبارك وتعالى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرَ عباد الله المؤمنين، أن يقولوا في مخاطبتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن، والكلمة الطيبة، فإنهم إن لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمْ، وَأَخْرَجَ الْكَلَامَ إِلَى الْفِعَالِ، وَوَقَعَ الشَّرُّ وَالْمُخَاصَمَةُ وَالْمُقَاتَلَةُ، فإنه عَدُوٌّ لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ مِنْ حِينِ امْتَنَعَ مِنَ السجود لآدم، وعدواته ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ، وَلِهَذَا نَهَى أَنْ يُشِيرَ الرَّجُلُ إِلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ في يده فربما أصابه بها، ففي الحديث: «لَا يُشِيرَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزغ في يده فيقع في حفرة من النار» (رواه أحمد وأخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الرزاق) . وفي الحديث: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ؛ التقوى ههنا» ، قال حماد: وقال بيده إلى صدره: «وما تواد رجلان في الله ففرق بيبنهما إلاّ حدثٌ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا، وَالْمُحْدِثُ شَرٌّ، وَالْمُحْدِثُ شَرٌّ، وَالْمُحْدِثُ شر» (أخرجه الإمام أحمد) .(2/383)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
- 54 - رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
- 55 - وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زبورا
يقول تعالى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} أيها الناس، أي أعلم بمن يَسْتَحِقُّ مِنْكُمُ الْهِدَايَةَ وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ، {إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} بِأَنْ يُوَفِّقَكُمْ لِطَاعَتِهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، {أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ} يَا مُحَمَّدُ {عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} أَيْ إِنَّمَا أَرْسَلْنَاكَ نَذِيرًا، فَمَنْ أَطَاعَكَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاكَ دَخَلَ النَّارَ. وَقَوْلُهُ: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ بِمَرَاتِبِهِمْ فِي الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ} ، كما قال تعالى: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بعض} ، وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ» ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ التَّفْضِيلُ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالْعَصَبِيَّةِ، لا بمقتضى الدليل، فإن دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى شَيْءٍ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الرُّسُلَ أَفْضَلُ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، وأن أولي العزم منهم أفضل، وَهُمُ الْخَمْسَةُ الْمَذْكُورُونَ نَصًّا فِي آيَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نوح ومن إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم} . وَفِي الشُّورَى فِي قَوْلِهِ: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُهُمْ، ثُمَّ بَعْدَهُ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ مُوسَى، ثم عيسى عليهم السلام على المشهور، وقد بسطناه بِدَلَائِلِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وقوله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} تَنْبِيهٌ عَلَى فَضْلِهِ وَشَرَفِهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خفف على داود القرآن فكان يأمر بدوابه فتسرج فكان يقرؤه قبل أن يفرغ» (رواه البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً) يعني القرآن.(2/383)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
- 56 - قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا
- 57 - أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا
يَقُولُ تَعَالَى {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ فَارْغُبُوا إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ {لَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ} أَيْ بِالْكُلِّيَّةِ، {وَلاَ تَحْوِيلاً} أَيْ بأن يُحَوِّلُوهُ إِلَى غَيْرِكُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له الذي لَهُ الخلق والأمر، قال ابن عباس: كَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ يَقُولُونَ: نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَالْمَسِيحَ وَعُزَيْرًا، وَهُمُ الَّذِينَ يَدْعُونَ، يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، وَالْمَسِيحَ وعزيراً، وروى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قَالَ نَاسٌ مِنَ الْجِنِّ كَانُوا يُعْبَدُونَ فَأَسْلَمُوا، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعْبُدُونَ نَاسًا مِنَ الْجِنِّ فَأَسْلَمَ الْجِنُّ وَتَمَسَّكَ هؤلاء بدينهم. وقال قتادة، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} الآية قَالَ: نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَعْبُدُونَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ فَأَسْلَمَ الْجِنِّيُّونَ، وَالْإِنْسُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِإِسْلَامِهِمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: كَانُوا يَعْبُدُونَ صِنْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الجن فذكره، وقال ابن عباس: هُمْ عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عِيسَى وَالْعُزَيْرُ وَالْمَلَائِكَةُ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ لِقَوْلِهِ: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} وَهَذَا لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْمَاضِي، فَلَا يدخل فيه عيسى والعزير والملائكة، وقال: وَالْوَسِيلَةُ هِيَ الْقُرْبَةُ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ، وَلِهَذَا قال: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} ، وقوله تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} لَا تَتَمُّ الْعِبَادَةُ إِلَّا بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَبِالْخَوْفِ يَنْكَفُّ عَنِ الْمَنَاهِي، وبالرجاء يكثر من الطاعات، وقوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} أَيْ يَنْبَغِي أَنْ يُحَذَّرَ مِنْهُ وَيُخَافَ مِنْ وُقُوعِهِ وَحُصُولِهِ عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْهُ.(2/384)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
- 58 - وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا
هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ بِأَنَّهُ قَدْ حَتَمَ وَقَضَى بما قد كتب عِنْدَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَنَّهُ مَا مِنْ قرية إلاّ سيهلكها، بأن يبيد أهلها أَوْ يُعَذِّبَهُمْ {عَذَاباً شَدِيداً} إِمَّا بِقَتْلٍ أَوِ ابْتِلَاءٍ بِمَا يَشَاءُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِسَبَبِ ذنوبهم وخطاياهم، كما قال تعالى عَنِ الأُمم الْمَاضِينَ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} ، وقال تعالى: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} ، وقال: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} الآيات.(2/384)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
- 59 - وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصفا ذهباً، وأن ينحي لهم الْجِبَالَ عَنْهُمْ فَيَزْرَعُوا، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ أن نستأني بهم، وإن شئت أن يأتيهم الذي سألوا، فإن كفروا هلكوا، كما هلكت من كان(2/384)
قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ. قَالَ: «لَا، بَلِ اسْتَأْنِ بهم» ، وأنزل اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} (أخرجه أحمد والنسائي عن ابن عباس) الآية. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، وَنُؤْمِنُ بِكَ قَالَ: «وَتَفْعَلُونَ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ، فَدَعَا فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ
رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَكَ: إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، فمن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَذَّبْتُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم أبواب التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَقَالَ: «بَلْ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ» .
وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} صَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي قَبِيسٍ: «يَا آلَ عَبْدِ مُنَافٍ إِنِّي نَذِيرٌ» فَجَاءَتْهُ قُرَيْشٌ فَحَذَّرَهُمْ وَأَنْذَرَهُمْ، فَقَالُوا: تَزْعُمُ أَنَّكَ نَبِيٌّ يُوحَى إِلَيْكَ وَأَنَّ سُلَيْمَانَ سُخِّرَ لَهُ الرِّيحُ وَالْجِبَالُ، وَأَنَّ مُوسَى سُخِّرَ لَهُ الْبَحْرُ، وَأَنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُسَيِّرَ عَنَّا هَذِهِ الْجِبَالَ ويفجر لنا الأرض أنهاراً فنتخذ مَحَارِثَ فَنَزْرَعَ وَنَأْكُلَ، وَإِلَّا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يحيي لنا موتانا لنكلمهم وَيُكَلِّمُونَا، وَإِلَّا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُصَيِّرَ لَنَا هَذِهِ الصَّخْرَةَ الَّتِي تَحْتَكَ ذَهَبًا فَنَنْحَتَ مِنْهَا وَتُغْنِيَنَا عَنْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَإِنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّكَ كَهَيْئَتِهِمْ. قَالَ، فَبَيْنَا نَحْنُ حَوْلَهُ إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ أَعْطَانِي مَا سَأَلْتُمْ، وَلَوْ شِئْتُ لَكَانَ، وَلَكِنَّهُ خَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ تَدْخُلُوا بَابَ الرَّحْمَةِ فَيُؤَمَّنَ مُؤْمِنُكُمْ، وَبَيْنَ أَنْ يَكِلَكُمْ إِلَى مَا اخْتَرْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَتَضِلُّوا عَنْ بَابِ الرَّحْمَةِ فَلَا يُؤَمَّنَ مِنْكُمْ أَحَدٌ. فَاخْتَرْتُ باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم، وأخبرني أنه أَعْطَاكُمْ ذَلِكَ ثُمَّ كَفَرْتُمْ أَنَّهُ يُعَذِّبُكُمْ عَذَابًا لا يعذبه أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ» ، وَنَزَلَتْ: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} ، وقرأ ثلاث آيات، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ} أَيْ نَبْعَثُ الْآيَاتِ وَنَأْتِيَ بِهَا عَلَى ما سأل قومك منك، فإنه يَسِيرٌ لَدَيْنَا، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَذَّبَ بِهَا الأولون بعد ما سَأَلُوهَا، وَجَرَتْ سُنَّتُنَا فِيهِمْ وَفِي أَمْثَالِهِمْ أَنَّهُمْ لا يؤخرون إن كذبوا بها بعد نزولها، كما قال تَعَالَى فِي الْمَائِدَةِ: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أحدا من العالمين} ، وقال تعالى عن ثمود حين سألوا الناقة: {قال تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} ، ولهذا قال تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا} : أَيْ دَالَّةً عَلَى وَحْدَانِيَّةِ مَنْ خَلَقَهَا وَصَدَّقَ رسوله {فَظَلَمُواْ بِهَا} أَيْ كَفَرُوا بِهَا وَمَنَعُوهَا شُرْبَهَا وَقَتَلُوهَا، فَأَبَادَهُمُ اللَّهُ عَنْ آخِرِهِمْ، وَانْتَقَمَ مِنْهُمْ وأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً} قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الآيات لعلهم يعتبرون، ويذكرون ويرجعون، (أخرج أبو يعلى عن أم هانئ: أنه صلى الله عليه وسلم، لما أسري به أصبح يحدث نفراً من قريش يستهزئون به، فطلبوا منه آية فوصف لهم بيت المقدس وذكر لهم قصة العير، فقال الوليد بن المغيرة: هذا ساحر، فأنزل الله: {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا} الآية. وأخرج ابن المنذر عن الحسن ونحوه. وأخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح يوماً مهموماً، فقيل له: ما لك يا رسول الله؟ لا تهتم فإن رؤياك فتنة لهم فأنزل الله: {وجعلنا} الآية. وأخرج ابن جرير من حديث سهل بن سعد نحوه، وأخرج ابن أبي حاتم من حديث عمرو بن العاص، ومن حديث يعلى بن قرة، ومن مرسل
سعيد بن المسيب نحوها. قال السيوطي: وأسانيدها ضعيفة.) ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْكُوفَةَ رُجِفَتْ عَلَى عَهْدِ ابن مسعود رضي الله عنه، فقال:(2/385)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ رَبَّكُمْ يَسْتَعْتِبُكُمْ فَأَعْتِبُوهُ، وَهَكَذَا رُوِيَ أَنَّ الْمَدِينَةَ زُلْزِلَتْ عَلَى عَهْدِ عمر بن الخطاب رضي الله عنه مَرَّاتٍ، فَقَالَ عُمَرُ أَحْدَثْتُمْ وَاللَّهِ لَئِنْ عَادَتْ لأفعلن ولأفعلن، وفي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ؛ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ - ثُمَّ قَالَ - يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ مَا أَحَدٌ أغيرَ مِنَ اللَّهِ إِن يَزْنِيَ عَبْدَهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتَهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» .(2/386)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
- 60 - وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَرِّضًا لَهُ عَلَى إِبْلَاغِ رِسَالَتِهِ، وَمُخْبِرًا لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ عَصَمَهُ مِنَ النَّاسِ فَإِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي قبضته وتحت قهرة وغلبته. قال مجاهد والحسن
قتادة في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} أَيْ عَصَمَكَ مِنْهُمْ. قال البخاري، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القرآن} شجرة الزقوم (أخرجه البخاري والإمام أحمد) ، {إِلاَّ فِتْنَةً} : أَيْ اخْتِبَارًا وَامْتِحَانًا، وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الملعونة فهي شجرة الزقوم (أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال: لما ذكر الله هذا الزقوم، خوف به هذا الحي من قريش، قال أبو جهل: هل تدرون ما هذا الزقوم الذي خوفكم به محمد؟ قالوا: لا. قال: الثريد بالزبد، أما لئن أمكننا منها لنزقمنها زقماً، فأنزل الله تعالى: {والشجرة الملعونة} الآية، وأنزل:
{إن شجرة الزقوم طعام الأثيم} ) ، لما أَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى الْجَنَّةَ
وَالنَّارَ، وَرَأَى شَجَرَةَ الزَّقُّومِ فكذبوا بذلك، حتى قال أبو جهل عليه لعائن الله: هاتوا لنا تمراً
وزبداً، وجعل يأكل من هَذَا بِهَذَا وَيَقُولُ: تَزَقَّمُوا فَلَا نَعْلَمُ الزَّقُّومَ غير هذا (روي ذلك عن ابن عباس ومسروق وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ) ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ إِنَّهَا لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ فَسَّرَهُ كَذَلِكَ بِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ، واختار ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، قَالَ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى ذَلِكَ، أَيْ فِي الرُّؤْيَا وَالشَّجَرَةِ، وَقَوْلُهُ {وَنُخَوِّفُهُمْ} : أَيْ الْكَفَّارَ، بِالْوَعِيدِ وَالْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، {فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} : أَيْ تَمَادِيًا فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَذَلِكَ مِنْ خِذْلَانِ اللَّهِ لهم.(2/386)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
- 61 - وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا
- 62 - قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا
يذكر تبارك وتعالى عدواة إبليس لعنه الله لآدم وذريته وأنها عدواة قَدِيمَةٌ مُنْذُ خُلِقَ آدَمُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الملائكة بالسجود لآدم فَسَجَدُوا كُلُّهُمْ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَأَبَى أَنْ يَسْجُدَ لَهُ، افْتِخَارًا عَلَيْهِ وَاحْتِقَارًا لَهُ {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} ، وَقَالَ أَيْضًا: أَرَأَيْتَكَ، يَقُولُ لِلرَّبِّ جَرَاءَةً وَكُفْرًا، والرب يحلو وَيَنْظُرُ {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} الآية، قال [ص:387] ابن عباس {لأَحْتَنِكَنَّ} يَقُولُ: لَأَسْتَوْلِيَنَّ عَلَى ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَأَحْتَوِيَنَّ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَأُضِلَّنَّهُمْ، وَكُلُّهَا متقاربة، والمعنى: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي شَرَّفْتَهُ وَعَظَّمْتَهُ عَلَيَّ، لَئِنْ أَنْظَرَتْنِي لَأُضِلَّنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ.(2/386)
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
- 63 - قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا
- 64 - وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً
- 65 - إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً
لما سأل إبليس النَّظْرَةَ قَالَ اللَّهُ لَهُ {اذْهَبْ} فَقَدْ أَنْظَرْتُكَ، كما قال في الآية الأخرى {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} ، ثم أوعده ومن اتبعه من ذرية آدم جهنم {قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ} أَيْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ {جَزَاءً مَّوْفُوراً} قَالَ مجاهد: وافراً، وقال قتادة: موفوراً عليكم لا ينقص لكم منه، وقوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} قِيلَ: هُوَ الْغِنَاءُ. قَالَ مُجَاهِدٌ بِاللَّهْوِ وَالْغِنَاءِ، أَيْ اسْتَخِفَّهُمْ بِذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} قَالَ: كُلُّ دَاعٍ دعا إلى معصية الله عزَّ وجلَّ، واختاره ابن جرير، وقوله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} يَقُولُ: وَاحْمِلْ عَلَيْهِمْ بِجُنُودِكِ خَيَّالَتِهِمْ وَرَجْلَتِهِمْ، فَإِنَّ الرَّجْلَ جَمْعُ رَاجِلٍ، كما أن الركب جمع راكب، وَمَعْنَاهُ تُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ بِكُلِّ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ، وهذا أمر قدري، كقوله تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} أَيْ تُزْعِجُهُمْ إِلَى الْمَعَاصِي إِزْعَاجًا وَتَسُوقُهُمْ إِلَيْهَا سوقاً. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ لَهُ خَيْلًا وَرِجَالًا مِنَ الجن والإنس وهم الذين يطيعونه، تقول الْعَرَبُ: أَجْلَبَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ إِذَا صَاحَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ نَهَى فِي الْمُسَابَقَةِ عَنِ الْجَلَبِ وَالْجَنَبِ، وَمِنْهُ اشْتِقَاقُ الْجَلَبَةِ، وَهِيَ ارْتِفَاعُ الْأَصْوَاتِ، وقوله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: هُوَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ إِنْفَاقِ الأموال في معاصي الله تعالى، وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ الرِّبَا، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ جمعها من خبيث وإنفاقها في حرام، والآية تعمُّ ذلك كله، وقوله: {والأولاد} يعني أولاد الزنا (قاله ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ) ، وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ مَا كَانُوا قَتَلُوهُ مِنْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ علم، وقال الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: قَدْ وَاللَّهِ شَارَكَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، مجَّسوا وَهَوَّدُوا ونصَّروا وَصَبَغُوا غَيْرَ صِبْغَةِ الإسلام، وجزأوا من أموالهم جزءاً للشيطان، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ تسميتهم أولادهم عبد الحارث وعبد شمس وعبد فُلَانٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ كُلُّ مَوْلُودٍ وَلَدَتْهُ أُنْثَى عَصَى الله فيه بتسميته بما يَكْرَهُهُ اللَّهُ، أَوْ بِإِدْخَالِهِ فِي غَيْرِ الدِّينِ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ، أَوْ بِالزِّنَا بِأُمِّهِ، أَوْ بقتله أو وأده، أو غير ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَعْصِي اللَّهَ بِفِعْلِهِ به، فقد دخل في مشاركة إبليس فيه لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُخَصِّصْ بِقَوْلِهِ: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ} مَعْنَى الشَّرِكَةِ فِيهِ، بِمَعْنًى دُونَ مَعْنًى، فَكُلُّ مَا عُصِيَ اللَّهُ فِيهِ أَوْ به، أو أطيع الشيطان فيه أَوْ بِهِ فَهُوَ مُشَارَكَةٌ،(2/387)
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُتَّجَهٌ، وَكُلٌّ مِنَ السَّلَفِ رحمهم الله فسر بعض المشاركة، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أهله قال باسم الله، اللهم جنبا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقَتْنَا فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ الشيطان أبداً» ، وقوله تعالى: {وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} كَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ إِبْلِيسَ أَنَّهُ يَقُولُ، إِذَا حَصْحَصَ الْحَقُّ يَوْمَ يُقْضَى بِالْحَقِّ: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} الآية. وقوله تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} إِخْبَارٌ بِتَأْيِيدِهِ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَحِفْظِهِ إِيَّاهُمْ وَحِرَاسَتِهِ لهم من الشيطان الرجيم، ولهذا قال تعالى: {وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} أي حافظاً ومؤيداً ونصيراً. وفي الحديث: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُنْضِي شَيَاطِينَهُ كَمَا يُنْضِي أَحَدُكُمْ بعيره في السفر» (رواه أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً) يُنْضِي أَيْ يَأْخُذُ بِنَاصِيَتِهِ وَيَقْهَرُهُ.(2/388)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
- 66 - رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ لُطْفِهِ بِخَلْقِهِ فِي تَسْخِيرِهِ لعباده الفلك في البحر وتسهيله لِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، لِابْتِغَائِهِمْ مِنْ فَضْلِهِ فِي التِّجَارَةِ مِنْ إِقْلِيمٍ إِلَى إِقْلِيمٍ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} أَيْ إِنَّمَا فَعَلَ هَذَا بِكُمْ مِنْ فَضْلِهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتِهِ بِكُمْ.(2/388)
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)
- 67 - وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُوراً
يخبر تبارك وتعالى إن الناس إذا مسهم ضُرٌّ دَعَوْهُ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، ولهذا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} أَيْ ذَهَبَ عنقلوبكم كل ما تعبدون غير الله تعالى، كَمَا اتُّفِقَ لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ لَمَّا ذَهَبَ فَارًّا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَتَحَ مَكَّةَ، فَذَهَبَ هَارِبًا فَرَكِبَ فِي الْبَحْرِ لِيَدْخُلَ الْحَبَشَةَ فَجَاءَتْهُمْ رِيحٌ عَاصِفٌ فَقَالَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْكُمْ إِلَّا أَنْ تَدْعُوَ اللَّهَ وَحْدَهُ، فقال عكرمة في نفسه، والله إن كَانَ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَحْرِ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ، اللَّهُمَّ لَكَ علي عهد لئن أخرجتني منه لَأَذْهَبْنَ فَلَأَضَعَنَّ يَدِي فِي يَدِ مُحَمَّدٍ فَلَأَجِدَنَّهُ رؤوفاً رَحِيمًا، فَخَرَجُوا مِنَ الْبَحْرِ فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إسلامه رضي الله عنه وأرضاه، وقوله تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبِرِّ أَعْرَضْتُمْ} أَيْ نَسِيتُمْ مَا عَرَفْتُمْ مِنْ تَوْحِيدِهِ فِي الْبَحْرِ، وَأَعْرَضْتُمْ عَنْ دُعَائِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُوراً} أَيْ سَجِيَّتُهُ هَذَا، يَنْسَى النِّعَمَ وَيَجْحَدُهَا إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ.(2/388)
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)
- 68 - أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً
يقول تعالى أفحسبتم بخروجكم إِلَى الْبَرِّ، أَمِنْتُمْ مِنَ انْتِقَامِهِ وَعَذَابِهِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً، وَهُوَ الْمَطَرُ الَّذِي فِيهِ حِجَارَةٌ (قَالَهُ مجاهد وغير واحد من السلف) ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} ، وقال: {وأمطرنا عليهم حجارة من طين} ، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً} أَيْ ناصراً يرد ذلك عنكم وينقذكم منه.(2/388)
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
- 69 - أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تبيعا
يقول تبارك وتعالى: أَمْ أَمِنْتُمْ أَيُّهَا الْمُعْرِضُونَ عَنَّا، بَعْدَمَا اعْتَرَفُوا بِتَوْحِيدِنَا فِي الْبَحْرِ، وَخَرَجُوا إِلَى الْبَرِّ، أَنْ يُعِيدَكُمْ فِي الْبَحْرِ مَرَّةً ثَانِيَةً، {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ} أَيْ يَقْصِفُ الصَّوَارِيَ وَيُغْرِقُ الْمَرَاكِبَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الْقَاصِفُ رِيحُ الْبِحَارِ الَّتِي تَكْسِرُ الْمَرَاكِبَ وَتُغْرِقُهَا، وَقَوْلُهُ {فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ} : أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ وَإِعْرَاضِكُمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَصِيرًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَصِيرًا ثَائِرًا، أَيْ يَأْخُذُ بِثَأْرِكُمْ بِعْدَكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَلاَ نَخَافُ أَحَدًا يُتْبِعُنَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.(2/389)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
- 70 - وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَشْرِيفِهِ لبني آدم وتكريمهم إِيَّاهُمْ فِي خَلْقِهِ لَهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْهَيْئَاتِ وأكملها، كقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تقويم} أَيْ يَمْشِي قَائِمًا مُنْتَصِبًا عَلَى رِجْلَيْهِ، وَيَأْكُلُ بِيَدَيْهِ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ، وَيَأْكُلُ بِفَمِهِ، وَجَعَلَ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَفُؤَادًا يَفْقَهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الأشياء وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية، {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ} أَيْ عَلَى الدَّوَابِّ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ، وَفِي الْبَحْرِ أَيْضًا عَلَى السُّفُنِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} أَيْ مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ وَلُحُومٍ وَأَلْبَانٍ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الطُّعُومِ وَالْأَلْوَانِ الْمُشْتَهَاةِ اللَّذِيذَةِ، وَالْمَنَاظِرِ الْحَسَنَةِ، وَالْمَلَابِسِ الرَّفِيعَةِ مِنْ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا وَأَلْوَانِهَا وَأَشْكَالِهَا مِمَّا يَصْنَعُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ وَيَجْلِبُهُ إِلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ مِنْ أَقْطَارِ الْأَقَالِيمِ وَالنَّوَاحِي، {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} أَيْ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الآية الكريمة عَلَى أَفْضَلِيَّةِ جِنْسِ الْبَشَرِ عَلَى جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ: يَا رَبَّنَا! أَعْطَيْتَ بَنِي آدَمَ الدُّنْيَا، يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ وَيَلْبَسُونَ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَلَا نَأْكُلُ وَلَا نَشْرَبُ وَلَا نَلْهُو، فَكَمَا جَعَلْتَ لَهُمُ الدُّنْيَا فَاجْعَلْ لَنَا الْآخِرَةَ، قَالَ: لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذُرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدِي كَمَنْ قلت له كن فكان" (رواه الحافظ الطبراني وأخرجه عبد الرزاق عن زيد بن مسلم موقوفاً وابن عساكر عن أنَس بن مالك مرفوعاً) .(2/389)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
- 71 - يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فأولئك يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً
- 72 - وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا
يُخْبِرُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ يُحَاسِبُ كُلَّ أُمَّةٍ بِإِمَامِهِمْ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَيْ بِنَبِيِّهِمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط} الآية، وقال بعض(2/389)
السَّلَفِ: هَذَا أَكْبَرُ شَرَفٍ لِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، لِأَنَّ إِمَامَهُمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: بِكِتَابِهِمُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِمْ واختاره ابن جرير، وروى عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: بِكُتُبِهِمْ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون أراد ما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} أي بكتاب أعمالهم (وهو قول أبي الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ) ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَرْجَحُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} الآية، ويحتمل أن المراد {بِإِمَامِهِمْ} أي كل قوم بمن يأتمون به، فأهل الإيمان ائتموا بالأنبياء عليهم السلام، وأهل الكفر ائتموا بأئمتهم، كما قال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار} . وفي الصحيحين: «لتَّتبعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كان يعبد الطواغيت الطواغيت» الحديث، وقال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تعملون} . وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يُجَاءَ بِالنَّبِيِّ إِذَا حَكَمَ اللَّهُ بَيْنَ أُمَّتِهِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أن يكون شاهداً على أمته بأعمالها، كقوله تَعَالَى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بالنبيين والشهداء} .
وقوله تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شهيدا} ، ولكن المراد ههنا بِالْإِمَامِ هُوَ كِتَابُ الْأَعْمَالِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بيمينه فأولئك يقرأون كِتَابَهُمْ} أَيْ مِنْ فَرْحَتِهِ وَسُرُورِهِ بِمَا فِيهِ من العمل الصالح يقرؤه ويحب قراءته، كقوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتبه بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرأوا كتابيه} الآيات، وقوله تعالى: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} الْفَتِيلَ: هُوَ الْخَيْطُ الْمُسْتَطِيلُ فِي شِقِّ النَّوَاةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ الله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} ، قَالَ: "يُدْعَى أَحَدُهُمْ فَيُعْطَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَيُمَدُّ لَهُ فِي جِسْمِهِ، وَيُبَيَّضُ وَجْهُهُ، وَيُجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ من لؤلؤة يتلألأ، فَيَنْطَلِقُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَيَرَوْنَهُ مِنْ بَعِيدٍ فَيَقُولُونَ: اللهم أتنا بِهَذَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي هَذَا، فَيَأْتِيهِمْ فَيَقُولُ لَهُمْ: أَبْشِرُوا فَإِنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مِثْلَ هذا، وأما الكافرون فَيُسَوَّدُ وَجْهُهُ وَيُمَدُّ لَهُ فِي جِسْمِهِ، وَيَرَاهُ أَصْحَابُهُ فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ هَذَا أَوْ مِنْ شَرِّ هَذَا، اللَّهُمَّ لَا تَأْتِنَا بِهِ، فَيَأْتِيهِمْ فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ أَخْزِهِ، فَيَقُولُ: أَبْعَدَكُمُ اللَّهُ فإن لكل رجل منكم مثل هذا" (أخرج الحافظ أبو بكر البزار) . وقوله تعالى: {ومن كان في هذه أعمى} أي في الحياة الدنيا {أعمى} أي عن حجة الله وآياته وبينانه، {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} أَيْ كَذَلِكَ يَكُونُ {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} أَيْ وَأَضَلُّ مِنْهُ كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.(2/390)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
- 73 - وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا
- 74 - وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا
- 75 - إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا
يُخْبِرُ تعالى عن تأييده رسوله صلوات الله وسلامه عليه وَتَثْبِيتِهِ وَعِصْمَتِهِ وَسَلَامَتِهِ مِنْ شَرِّ الْأَشْرَارِ وَكَيْدِ الْفُجَّارِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلِّي أَمْرَهُ وَنَصْرَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَكِلُهُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، بل هو وليه وحافظه وناصره، وَمُظْهِرُ دِينَهُ عَلَى مَنْ عَادَاهُ وَخَالَفَهُ وَنَاوَأَهُ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.(2/390)
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
- 76 - وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا
- 77 - سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ رُّسُلِنَآ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا
قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ حين أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا أَنَّكَ نَبِيٌّ فَالْحَقْ بِالشَّامِ، فَإِنَّ الشَّامَ أَرْضُ المحشر، وأرض الأنبياء، فَغَزَا غَزْوَةَ تَبُوكَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الشَّامَ، فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا} فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَ: فِيهَا محياك ومماتك ومنها تبعث (أخرجه البيهقي عن عبد الله بن غنم، قال ابن كثير: وفي إسناده نَظَرٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزا تبوك عن أمر الله لا عن أمر اليهود) . وقيل: نزلت في كفار مكة لما هموا بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ فَتَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ أَخْرَجُوهُ لَمَا لَبِثُوا بَعْدَهُ بِمَكَّةَ إِلَّا يَسِيرًا، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ هِجْرَتِهِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ بَعْدَ مَا اشْتَدَّ أَذَاهُمْ لَهُ إِلَّا سَنَةٌ وَنِصْفٌ، حَتَّى جَمَعَهُمُ الله وإياه ببدر على مِيعَادٍ، فَأَمْكَنَهُ مِنْهُمْ وَسَلَّطَهُ عَلَيْهِمْ وَأَظْفَرَهُ بِهِمْ، فقتل أشرافهم وسبى ذراريهم، ولهذا قال تعالى: {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا} الآية أَيْ هَكَذَا عَادَتُنَا فِي الَّذِينَ كَفَرُوا بِرُسُلِنَا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم يأتيهم العذاب، ولولا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رَسُولُ الرَّحْمَةِ لَجَاءَهُمْ مِنَ النِّقَمِ فِي الدُّنْيَا ما لا قبل لأحد به، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} الآية.(2/391)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
- 78 - أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا
- 79 - وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً
يقول تبارك وتعالى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمِرًا لَهُ بِإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} قِيلَ: لِغُرُوبِهَا (قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ومجاهد وابن زيد) ، وقال ابن عباس: دلوكها زوالها (رواه نافع عن ابن عمر، وبه قال الحسن والضحاك وقتادة وهو الأظهر) ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ دَخَلَ فِيهَا أوقات الصلوات الخمس، فَمِنْ قَوْلِهِ: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} وهو ظلامه؛ أُخِذَ مِنْهُ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعَشَاءُ، وَقَوْلُهُ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} يَعْنِي صَلَاةَ الْفَجْرِ؛ وَقَدْ ثَبَتَتِ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَاتُرًا مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ بِتَفَاصِيلَ هَذِهِ الأوقات على ما عليه أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ مِمَّا تَلَقَّوْهُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ وَقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوَاضِعِهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} قَالَ: تَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النهار، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَضْلُ صَلَاةِ الْجَمِيعِ عَلَى صَلَاةِ الْوَاحِدِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً، وَتَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صلاة الفجر» . يقول أبي هريرة: اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (أخرجه البخاري في صحيحه) . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} قَالَ: «تَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وملائكة النهار» (أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه) .(2/391)
وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ، مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَفِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَيَعْرُجُ بالذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم - وَهُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ - كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: أَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وتركناهم وهم يصلون" (أخرجه البخاري ومسلم) . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يَجْتَمِعُ الْحَرَسَانِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَيَصْعَدُ هَؤُلَاءِ وَيُقِيمُ هَؤُلَاءِ. وقوله تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} أَمْرٌ لَهُ بِقِيَامِ اللَّيْلِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ، كَمَا وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ؟ قال: «صلاة الليل» (أخرجه مسلم عن أبي هريرة) ، وَلِهَذَا أَمَرَ تَعَالَى رَسُولَهُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَاتِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّ التَّهَجُّدَ مَا كَانَ بَعْدَ نَوْمٍ (قَالَهُ عَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ) ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يتهجد بعد نومه، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هُوَ مَا كَانَ بَعْدَ العشاء، ويحمل على ما كان بعد النوم، واختلف في معنى قوله تعالى: {نَافِلَةً لَّكَ} ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّكَ مَخْصُوصٌ بِوُجُوبِ ذَلِكَ وَحْدَكَ، فَجَعَلُوا قِيَامَ اللَّيْلِ وَاجِبًا فِي حَقِّهِ دُونَ الْأُمَّةِ، رَوَاهُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: إِنَّمَا جُعِلَ قِيَامُ اللَّيْلَ فِي حَقِّهِ نَافِلَةً عَلَى الْخُصُوصِ، لِأَنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَغَيْرُهُ مِنْ أُمَّتِهِ إِنَّمَا يُكَفِّرُ عن صلواته النوافل الذنوب التي عليه.
وقوله تَعَالَى: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} أَيْ افْعَلْ هَذَا الَّذِي أَمَرْتُكَ بِهِ لِنُقِيمَكَ يوم القيامة مقاماً محموداً، يحمدك فِيهِ الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ، وَخَالِقُهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، ذَلِكَ هو المقام الذي يقومه مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلشَّفَاعَةِ لِلنَّاسِ، لِيُرِيحَهُمْ رَبُّهُمْ مِنْ عَظِيمِ مَا هُمْ فيه من شدة ذلك اليوم، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: يُجْمَعُ النَّاسُ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، حُفَاةً عُرَاةً كَمَا خُلِقُوا، قِيَامًا لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، يُنَادَى: يَا مُحَمَّدُ، فَيَقُولُ: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، وَالْمَهْدِيُّ من هديت، وعبدك بين يديك ومنك وَإِلَيْكَ، لَا مَنْجَى وَلَا مَلْجَأَ مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ سُبْحَانَكَ رَبَّ الْبَيْتِ» . فَهَذَا المقام المحمود ذكره الله عزَّ وجلَّ، وقال ابن عباس: المقام المحمود مقام الشفاعة، وكذا قال مجاهد والحسن الْبَصْرِيُّ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عنه الأرض يوم القيامة وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَكَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنَّهُ المقام المحمود. قُلْتُ: لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْرِيفَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُشْرِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ، وَتَشْرِيفَاتٌ لَا يُسَاوِيهِ فِيهَا أَحَدٌ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَيُبْعَثُ رَاكِبًا إِلَى الْمَحْشَرِ، وَلَهُ اللِّوَاءُ الَّذِي آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِهِ، وَلَهُ الْحَوْضُ الَّذِي لَيْسَ فِي الْمَوْقِفِ أَكْثَرُ وَارِدًا مِنْهُ، وَلَهُ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى عِنْدَ اللَّهِ لِيَأْتِيَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، وذلك بعد ما يَسْأَلُ النَّاسُ آدَمَ ثُمَّ نُوحًا ثُمَّ إِبْرَاهِيمَ ثُمَّ مُوسَى ثُمَّ عِيسَى، فَكَلٌّ يَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، حَتَّى يَأْتُوا إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: «أَنَا لَهَا، أَنَا لَهَا» ، كَمَا سَنَذْكُرُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إن شاء الله تعالى، ومن ذلك، أن يُشَفَّعُ فِي أَقْوَامٍ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ فَيُرَدُّونَ عَنْهَا، وَهُوَ أَوَّلُ الْأَنْبِيَاءِ يُقْضَى بَيْنَ أُمَّتِهِ، وَأَوَّلُهُمْ إِجَازَةً عَلَى الصِّرَاطِ بِأُمَّتِهِ، وهو أول شفيع في الجنة، وَهُوَ أَوَّلُ دَاخِلٍ إِلَيْهَا وَأُمَّتُهُ قَبْلَ الْأُمَمِ كُلِّهِمْ، وَيُشَفَّعُ فِي رَفْعِ دَرَجَاتِ أَقْوَامٍ لَا تَبْلُغُهَا أَعْمَالُهُمْ، وَهُوَ صَاحِبُ الْوَسِيلَةِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى مَنْزِلَةٍ فِي الْجَنَّةِ لَا تَلِيقُ إِلَّا لَهُ، وَإِذَا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الشَّفَاعَةِ للعصاة(2/392)
شَفَّعَ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَيُشَفَّعُ هُوَ فِي خلائق لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى، وَلَا يُشَفَّعُ أَحَدٌ مِثْلَهُ وَلَا يُسَاوِيهِ فِي ذلك. ولنذكر الآن الأحاديث الواردة في المقام المحود وبالله المستعان.
روى البخاري، عن ابن عمر قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جثاء، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا يَقُولُونَ: يَا فُلَانُ اشْفَعْ، يَا فُلَانُ اشْفَعْ، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ الله مقاماً محموداً. وفي رواية: "إِنَّ الشَّمْسَ لَتَدْنُو حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الْأُذُنِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ، فَيَقُولُ: لست بصاحب ذَلِكَ، ثُمَّ بِمُوسَى فَيَقُولُ كَذَلِكَ، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيَشْفَعُ بَيْنَ الْخَلْقِ، فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنَّةِ، فيومئذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا، يحمده أهل الجمع كلهم. وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شفاعتي يوم القيامة" (أخرجه البخاري عن جابر بن عبد الله) وعن أُبي بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كَنْتُ إِمَامَ الْأَنْبِيَاءِ وَخَطِيبَهُمْ وَصَاحِبَ شَفَاعَتِهِمْ غَيْرَ فخر» (أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي بن كعب) .
حديث أنَس بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فيلهمون ذلك، فيقولون: لو شفعنا إِلَى رَبِّنَا فَأَرَاحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وعلَّمك أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا. فَيَقُولُ لَهُمْ آدَمُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ ذَنْبَهُ الَّذِي أَصَابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ عزَّ وجلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَيَقُولُ: ولكن ائتوا انوحاً فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَيَأْتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَةَ سُؤَالَهُ رَبَّهُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، فيستحيي ربه من ذلك، ويقول: ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن فيأتوه، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا كَلَّمَهُ اللَّهُ وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ، فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ لَهُمُ النَّفْسَ الَّتِي قَتَلَ بغير نفس، فيستحيي ربه من ذلك، ويقول: ولكن ائتوا عيسى، عبد الله وَكَلِمَتَهُ وَرُوحَهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، ولكن اتئوا محمداً غفر الله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِي - قَالَ الْحَسَنُ هَذَا الْحَرْفُ - فَأَقُومُ فَأَمْشِي بَيْنَ سِمَاطَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ أنَس: حَتَّى أَسْتَأْذِنَ عَلَى رَبِّي، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ لَهُ - أو خررت - ساجداً لربي، فيدعني مَا يَشَآءُ إِنَّ يَدَعَنِي، قَالَ، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قل تسمع، واشفَع تَشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهُ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعْلِمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ الثانيه، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ لَهُ - أَوْ خَرَرْتُ - سَاجِدًا لِرَبِّي فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعْلِمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثم أعود الثَّالِثَةِ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ - أَوْ خَرَرْتُ - سَاجِدًا لِرَبِّي، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قُلْ يُسْمَعْ، وسل تعطيه، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يُعْلِمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثم أعود الرابعة فقال: يَا رَبِّ مَا بَقِيَ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ". فَحَدَّثَنَا أنَس بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيْرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لا إله(2/393)
إلا الله، وكان في قلبه مَا يَزِنُ بُرَّةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً» (أخرجاه في الصحيحين ورواه أحمد واللفظ له) .
(الثاني) حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلٍّ، وَيَكْسُونِي رَبِّي عزَّ وجلَّ حُلَّةً خَضْرَاءَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي، فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أقول، فذلك المقام المحمود» (أخرجه الإمام أحمد عن كعب بن مالك) .
(الثالث) حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ بِالسُّجُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، فَأَنْظُرُ إِلَى مَا بَيْنَ يَدِي فَأَعْرِفُ أُمَّتِي مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ، وَمِنْ خَلْفِي مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ يَمِينِي مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ شِمَالِي مِثْلَ ذَلِكَ» ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَعْرِفُ أُمتك مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ فِيمَا بَيْنَ نُوحٍ إِلَى أُمَّتِكَ؟ قَالَ: «هُمْ غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، لَيْسَ أَحَدٌ كَذَلِكَ غَيْرُهُمْ، وَأَعْرِفُهُمْ أَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وأعرفهم تسعى من بين أيديهم ذريتهم» (أخرجه أحمد أيضاً عن أبي الدرداء) .
(الرابع) حديث أبي هريرة رضي الله عنه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلحم فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ثُمَّ قَالَ: "أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ ممَّ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه مما قَدْ بَلَغَكُمْ، أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم عليه السلام، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبْ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قد نهاني عن الشجرة فعصيت، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ سَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ نُوحٌ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله قط، وإنه قد كان لي دعوة دعوتها عَلَى قَوْمِي، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ؛ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبْ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، فَذَكَرَ كَذِبَاتِهِ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى؛ فيأتون موسى عليه السلام فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبْ بَعْدَهُ مثله، وإني قد قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا،(2/394)
نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى؛ فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ منه، وكلمت الناس فِي المهد صبيا، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنباً، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إلى محمداً صلى الله عليه وسلم؛ فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ الأنبياء، وقد غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَأَقُومُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عزَّ وجلَّ، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، فَيُقَالُ: يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه، واشفه تشفع، فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، أمتي يا رب؟ فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك مِنَ الْأَبْوَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ مَا بَيْنَ المصراعين مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ، أو كما بين مكة وبصرى" (أخرجه البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة مرفوعاً) .
وفي صحيح مسلم رحمه اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وأول من ينشق عنه القبر يوم القيامة، وأول شافع وأول مشفع» . وعن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} قَالَ: «هُوَ الْمَقَامُ الَّذِي أَشْفَعُ لِأُمَّتِي فِيهِ» . وفي الحديث: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَدَّ اللَّهُ الْأَرْضَ مَدَّ الْأَدِيمِ، حَتَّى لَا يَكُونَ لِبَشَرٍ مِنَ الناس إلاّ موضع قدميه - قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُدْعَى وَجِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ تبارك وتعالى - والله ما رآه قبلها - فأقول: أي رَبِّ إِنَّ هَذَا أَخْبَرَنِي أَنَّكَ أَرْسَلْتَهُ إِلَيَّ، فَيَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ صَدَقَ، ثُمَّ أُشَفَّعُ فَأَقُولُ يَا رَبِّ عِبَادُكَ عَبَدُوكَ فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ، قَالَ فَهُوَ الْمَقَامُ المحمود" (أخرجه عبد الرزاق وهو حديث مرسل) .(2/395)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
- 80 - وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا
- 81 - وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} ، وقال الحسن البصري: إِنَّ كُفَّارَ أَهْلِ مَكَّةَ لَمَّا ائْتَمَرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقْتُلُوهُ أَوْ يطروده أو يوثقوه، فأراد الله قتال أهل مكة، أمره أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} الآية. وقال قتادة: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} يَعْنِي الْمَدِينَةَ {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} يَعْنِي مَكَّةَ، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن زيد، وهذا القول هو أشهر الأقوال، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَقَوْلُهُ: {وَاجْعَلْ لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَعَدَهُ رَبُّهُ لَيَنْزَعَنَّ مُلْكَ فَارِسَ وَعِزَّ فَارِسَ، وَلَيَجْعَلَنَّهُ لَهُ، وَمُلْكَ الرُّومِ وَعِزَّ الرُّومِ وَلَيَجْعَلَنَّهُ له. وقال قتادة: أن نبي(2/395)
الله صلى الله عليه وسلم علم أن لا طَاقَةَ لَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ إِلَّا بِسُلْطَانٍ، فَسَأَلَ سُلْطَانًا نَصِيرًا لِكِتَابِ اللَّهِ، وَلِحُدُودِ اللَّهِ، وَلِفَرَائِضِ اللَّهِ، وَلِإِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ السُّلْطَانَ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ، جَعَلَهُ بَيْنَ أَظْهُرِ عِبَادِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَغَارَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَأَكَلَ شَدِيدُهُمْ ضَعِيفَهُمْ، قَالَ مُجَاهِدٌ: {سُلْطَاناً نَّصِيراً} حُجَّةً بَيِّنَةً، واختار ابن جرير الأول، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ الْحَقِّ مِنْ قَهْرٍ، لمن عاداه ناوأه، ولهذا يقول تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات - إلى قوله - وَأَنزَلْنَا الحديد} الآية. وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ» . أَيْ لَيَمْنَعُ بِالسُّلْطَانِ عَنِ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَالْآثَامِ مَا لَا يَمْتَنِعُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ الْأَكِيدِ وَالتَّهْدِيدِ الشَّدِيدِ، وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ، وَقَوْلُهُ: {وَقُلْ جَآءَ الحق وزهق الباطل} تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَلَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ، وَهُوَ مَا بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ وَزَهَقَ بَاطِلُهُمْ: أَيِ اضْمَحَلَّ وَهَلَكَ، فَإِنَّ الْبَاطِلَ لَا ثَبَاتَ لَهُ مَعَ الْحَقِّ وَلَا بَقَاءَ {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} . عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ وَحَوْلَ البيت ستون وثلثمائة نُصُبٍ، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: «جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا، جَآءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ» (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي) . وقال الحافظ أبو يعلى، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة وحول البيت ثلثمائة وستون صنماً تُعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأكبت على وجوهها، وَقَالَ: «جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زهوقاً» .(2/396)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
- 82 - وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّهُ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ يُذْهِبُ مَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ أَمْرَاضٍ مِنْ شَكٍّ وَنِفَاقٍ، وشرك وزيع وَمَيْلٍ، فَالْقُرْآنُ يَشْفِي مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَهُوَ أَيْضًا رَحْمَةٌ، يَحْصُلُ فِيهَا الْإِيمَانُ وَالْحِكْمَةُ وَطَلَبُ الْخَيْرِ وَالرَّغْبَةُ فِيهِ، وَلَيْسَ هَذَا إِلَّا لِمَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ، وَاتَّبَعَهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ شِفَاءً فِي حَقِّهِ وَرَحْمَةً، وَأَمَّا الْكَافِرُ الظَّالِمُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ؛ فَلَا يَزِيدُهُ سَمَاعُهُ الْقُرْآنَ إِلَّا بُعْدًا وَكُفْرًا، وَالْآفَةُ مِنَ الْكَافِرِ لَا مِنَ الْقُرْآنِ، كقوله تَعَالَى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ} . وقال تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} ، قال قتادة: إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ورعاه {وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً} : أي لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا يَحْفَظُهُ وَلَا يَعِيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ هَذَا الْقُرْآنَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ.(2/396)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
- 83 - وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر كان يؤوسا
- 84 - قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ نَقْصِ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ الله تعالى في حالتي السراء والضراء، فإنه إِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِمَالٍ وَعَافِيَةٍ وَفَتْحٍ وَرِزْقٍ وَنَصْرٍ، وَنَالَ مَا يُرِيدُ، أَعْرَضَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، وَنَأَى بِجَانِبِهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ:(2/396)
بَعُد عنا، وهذا كقوله تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أعرضتم} ، وَبِأَنَّهُ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ وَهُوَ الْمَصَائِبُ وَالْحَوَادِثُ والنوائب {كَانَ يؤوسا} أَيْ قَنَطَ أَنْ يَعُودَ، يَحْصُلُ لَهُ بَعْدَ ذلك خير، كقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا منه إنه ليؤس كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ، لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى نَاحِيَتِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَى حِدَّتِهِ وَطَبِيعَتِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: عَلَى نِيَّتِهِ، وقال ابن زيد: على دِينِهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَهَذِهِ الْآيَةُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَوَعِيدٌ لَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} الآية. وَلِهَذَا قَالَ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} أَيْ مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَسَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، فَإِنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ.(2/397)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
- 85 - وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ الله عنه، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ فِي الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُتَوَكِّئٌ عَلَى عسيب، فمر يقوم مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الروح، وقال بَعْضُهُمْ: لَا تَسْأَلُوهُ، قَالَ: فَسَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا الرُّوحُ؟ فَمَا زَالَ مُتَوَكِّئًا عَلَى الْعَسِيبِ، قَالَ: فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقَالَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} قال، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: قَدْ قُلْنَا لَكُمْ لَا تسألوه (أخرجه البخاري ورواه أحمد واللفظ له عن عبد الله بن مسعود) . وهذا السياق يقتضي أن هذه الآية مدنية، وأنها نَزَلَتْ حِينَ سَأَلَهُ الْيَهُودُ عَنْ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ، مَعَ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَقَدْ يُجَابُ عن هذا بأنه قد تكون نَزَلَتْ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ مَرَّةً ثَانِيَةً، كَمَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّهُ نَزَلَ عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوه بِالْآيَةِ الْمُتَقَدَّمِ إِنْزَالُهَا عَلَيْهِ، وَهِيَ هَذِهِ الْآيَةُ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَكَّةَ، مَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِيَهُودَ: أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ عَنْهُ هَذَا الرَّجُلَ، فَقَالُوا سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَسَأَلُوهُ فَنَزَلَتْ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} قَالُوا: أُوتِينَا عِلْمًا كَثِيرًا، أُوتِينَا التَّوْرَاةَ، وَمَنْ أُوتِيَ التَّوْرَاةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، قَالَ، وَأَنَزْلَ اللَّهُ: {قُل لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر} الآية. وقد روى ابن جرير عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّوحِ، فأنزل الله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح} الآية، فقالوا: تزعم أَنَّا لَمْ نُؤْتَ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وَقَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ وَهِيَ الْحِكْمَةُ {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} . قال: فنزلت: {ولو أن ما فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} الآية.
وقال محمد بن إسحاق، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: نَزَلَتْ بِمَكَّةَ {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَتَاهُ أَحْبَارُ يَهُودَ، وَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! أَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْكَ أَنَّكَ تَقُولُ {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} أَفَعَنَيْتَنَا أَمْ عنيت قومك؟ فقال: «كلاً قد عنيت» ، فقالوا: إِنَّكَ تَتْلُو أَنَّا أُوتِينَا التَّوْرَاةَ، وَفِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«هِيَ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ وقد أتاكم ما إن عملتم به انتفعتم» . وأنزل الله: {ولو أن ما فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ،(2/397)
وقد
اختلف المفسرون في المراد بالروح ههنا على أقوال: (أحدها) أن المراد أرواح بني آدم، عن ابن عباس أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبِرْنَا عَنِ الرُّوحِ وَكَيْفَ تَعَذَّبُ الرُّوحُ التي في الجسد؟ ولم يكن نزل عليه فيه شيء، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} . فَأَخْبَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك. فقالوا: من جاءك بهذا؟ قال: «جَاءَنِي بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» ، فَقَالُوا له: والله ما قاله لك إلاّ عدونا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قلبك مصدقا بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ، وقيل: المراد بالروم ههنا جبريل، قاله قتادة، وقيل: المراد به ههنا، ملك عظيم بقدر المخلوقات كلها.
وقوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} : أَيْ مِنْ شَأْنِهِ، وَمِمَّا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ دُونَكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} أَيْ وَمَا أَطْلَعَكُمْ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ عَلَى الْقَلِيلِ، فَإِنَّهُ لَا يُحِيطَ أَحَدٌ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَالْمَعْنَى أَنَّ عِلْمَكُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ، وَهَذَا الَّذِي تَسْأَلُونَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الرُّوحِ مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِهِ تَعَالَى وَلَمْ يُطْلِعْكُمْ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُطْلِعْكُمْ إِلَّا عَلَى الْقَلِيلِ مِنْ عِلْمِهِ تَعَالَى. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي قِصَّةِ موسى والخضر، أن الخضر قال: يَا مُوسَى مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ وَعِلْمُ الْخَلَائِقِ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا أَخَذَ هَذَا العصفور من هذا البحر، ولهذا قال تعالى: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} . وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ، قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَمْ يُجِبْهُمْ عَمَّا سألوا لأنهم سألوا من وجه التعنت، وقيل أجابهم، ثُمَّ ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ: الْخِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الرُّوحَ هِيَ النَّفْسُ أَوْ غَيْرُهَا، وَقَرَّرَ: أَنَّهَا ذَاتٌ لَطِيفَةٌ كَالْهَوَاءِ سَارِيَةٌ فِي الْجَسَدِ كسريان الماء في عروق الشجر، وحاصل القول: أن الروح هي أَصْلُ النَّفْسِ وَمَادَّتُهَا، وَالنَّفْسُ مُرَكَّبَةٌ مِنْهَا وَمِنَ اتِّصَالِهَا بِالْبَدَنِ، فَهِيَ هِيَ مَنْ وَجْهٍ، لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ، وَاللَّهُ أعلم.(2/398)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
- 86 - وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا
- 87 - إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا
- 88 - قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا
- 89 - وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا
يَذْكُرُ تَعَالَى نِعْمَتَهُ وَفَضْلَهُ الْعَظِيمَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ الكريم صلى الله عليه وسلم، فِيمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ الَّذِي لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، ثُمَّ نبَّه تَعَالَى عَلَى شَرَفِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ كُلُّهُمْ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ لَمَا أَطَاقُوا ذَلِكَ وَلَمَا اسْتَطَاعُوهُ، وَلَوْ تَعَاوَنُوا وَتَسَاعَدُوا وَتَظَافَرُوا فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يُسْتَطَاعُ، وَكَيْفَ يُشْبِهُ كَلَامُ الْمَخْلُوقِينَ كَلَامَ الْخَالِقِ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا مثال ولا عديل؟ وقوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ} الآية، أَيْ بَيَّنَّا لَهُمُ الْحُجَجَ، وَالْبَرَاهِينَ الْقَاطِعَةَ، ووضَّحنا لَهُمُ الْحَقَّ وَشَرَحْنَاهُ وَبَسَطْنَاهُ، وَمَعَ هَذَا {فَأَبَى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً} أي جحوداً للحق، ورداً للصواب.(2/398)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
- 90 - وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا
- 91 - أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا
- 92 - أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً
- 93 - أَوْ يَكُونَ لَكَ(2/398)
بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بشرا رسولا
قال ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ ربيعة، وأبا سفيان ابن حرب، وأبا البختري، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خلف، والعاص بن وائل، اجتمعوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ابْعَثُوا إِلَى مُحَمَّدٍ فَكَلِّمُوهُ وَخَاصِمُوهُ حَتَّى تُعْذَرُوا فِيهِ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ أَنَّ أَشْرَافَ قَوْمِكَ قَدِ اجْتَمَعُوا لَكَ لِيُكَلِّمُوكَ، فَجَاءَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُمْ فِي أَمْرِهِ بَدَاءٌ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ حَرِيصًا يُحِبُّ رُشْدَهُمْ وَيَعِزُّ عَلَيْهِ عَنَتُهُمْ، حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا قَدْ بَعَثْنَا إِلَيْكَ لِنُعْذَرَ فِيكَ، وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ أَدْخَلَ عَلَى قَوْمِهِ مَا أَدْخَلْتَ عَلَى قَوْمِكَ، لَقَدْ شَتَمْتَ الْآبَاءَ، وَعِبْتَ الدِّينَ، وَسَفَّهْتَ الْأَحْلَامَ، وَشَتَمْتَ الْآلِهَةَ، وَفَرَّقْتَ الْجَمَاعَةَ، فَمَا بَقِيَ من قَبِيحٍ إِلَّا وَقَدْ جِئْتَهُ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا جِئْتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَطْلُبُ بِهِ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالَنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تَطْلُبُ الشَّرَفَ فِينَا سوَّدناك عَلَيْنَا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ بِمَا يَأْتِيكَ رِئياً تَرَاهُ قَدْ غَلَبَ عَلَيْكَ - وَكَانُوا يُسَمُّونَ التَّابِعَ مِنَ الْجِنِّ الرِّئْيَ - فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ، بَذَلْنَا أَمْوَالَنَا فِي طَلَبِ الطِّبِّ حَتَّى نُبَرِّئَكَ مِنْهُ أَوْ نُعْذَرَ فِيكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بِي مَا تَقُولُونَ، مَا جِئْتُكُمْ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا الشَّرَفَ فِيكُمْ، ولا الملك عليكم، ولكن الله بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يحكم الله بيني وبينكم» . فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ فَإِنْ كُنْتَ غَيْرَ قَابِلٍ مِنَّا مَا عَرَضْنَا عَلَيْكَ، فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَضْيَقَ مِنَّا بِلَادًا، وَلَا أَقَلَّ مَالًا، وَلَا أَشَدَّ عَيْشًا مِنَّا، فَاسْأَلْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي بَعَثَكَ بِمَا بَعَثَكَ بِهِ، فَلْيُسَيِّرْ عَنَّا هَذِهِ الْجِبَالَ الَّتِي قَدْ ضَيَّقَتْ عَلَيْنَا، وَلْيَبْسُطْ لَنَا بِلَادَنَا، وَلْيُفَجِّرْ فِيهَا أنهاراً كأنهار الشام والعراق، ويبعث لَنَا مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِنَا، وَلْيَكُنْ فِيمَنْ يبعث لنا، منهم (قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ) فَإِنَّهُ كَانَ شَيْخًا صَدُوقًا، فَنَسْأَلُهُمْ عَمَّا تَقُولُ حَقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ؟ فَإِنْ صَنَعْتَ مَا سَأَلْنَاكَ وَصَدَّقُوكَ صَدَّقْنَاكَ وَعَرَفْنَا به مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ بَعَثَكَ رَسُولًا، كَمَا تَقُولُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بِهَذَا بُعِثْتُ، إِنَّمَا جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ، فَقَدْ بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فَإِنْ تَقْبَلُوهُ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» . قَالُوا: فَإِنْ لَمْ تفعل لنا هذا فخذ لنفسك فسل رَبَّكَ أَنْ يَبْعَثَ مَلَكًا يُصَدِّقُكَ بِمَا تَقُولُ ويراجعنا عنك، وتسأله فيجعل لك جنات وَكُنُوزًا وَقُصُورًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَيُغْنِيَكَ بِهَا عَمَّا نَرَاكَ تَبْتَغِي، فَإِنَّكَ تَقُومُ بِالْأَسْوَاقِ وَتَلْتَمِسُ المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف مَنْزِلَتِكَ مِنْ رَبِّكَ إِنْ كُنْتَ رَسُولًا كَمَا تَزْعُمُ! فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، مَا أَنَا بِالَّذِي يَسْأَلُ رَبَّهُ هَذَا، وَمَا بُعِثْتُ إِلَيْكُمْ بِهَذَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَإِنْ تَقْبَلُوا مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» . قَالُوا: فَأَسْقِطِ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ أَنَّ رَبَّكَ إِنْ شَاءَ فَعَلَ ذَلِكَ، فَإِنَّا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلَ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إن شاء فعل بك ذَلِكَ» ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! أَمَا عَلِمَ رَبُّكَ أَنَّا سَنَجْلِسُ مَعَكَ،(2/399)
وَنَسْأَلُكَ عَمَّا سَأَلْنَاكَ عَنْهُ، وَنَطْلُبُ مِنْكَ مَا نَطْلُبُ، فَيُقَدِّمَ إِلَيْكَ وَيُعَلِّمَكَ مَا تُرَاجِعُنَا بِهِ، وَيُخْبِرَكَ مَا هُوَ صَانِعٌ فِي ذَلِكَ بِنَا إِذَا لَمْ نَقْبَلْ مِنْكَ مَا جِئْتَنَا بِهِ، فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ إِنَّمَا يُعَلِّمُكَ هَذَا رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ يُقَالُ لَهُ الرَّحْمَنُ، وَإِنَّا وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِالرَّحْمَنِ أَبَدًا، فَقَدْ أَعْذَرْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، أَمَا وَاللَّهِ لَا نَتْرُكُكَ وَمَا فَعَلْتَ بنا حتى نهلكك أو تهلكنا.
فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ، وَقَامَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمِّيَّةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَهُوَ ابن عمته عاتكة بنة عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ عَرَضَ عَلَيْكَ قَوْمُكَ مَا عَرَضُوا فَلَمْ تَقْبَلْهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوكَ لِأَنْفُسِهِمْ أُمُورًا لِيَعْرِفُوا بِهَا مَنْزِلَتَكَ مِنَ اللَّهِ فَلَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ، ثُمَّ سَأَلُوكَ أَنْ تُعَجِّلَ لَهُمْ مَا تُخَوِّفُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، فَوَاللَّهِ لَا أُؤْمِنُ بِكَ أَبَدًا حَتَّى تَتَّخِذَ إِلَى السَّمَاءِ سُلَّمًا ثُمَّ تَرْقَى فِيهِ وَأَنَا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بصحيفة منشورة، ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أَنَّكَ كَمَا تَقُولُ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَظَنَنْتُ أَنِّي لَا أُصَدِّقُكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِهِ حَزِينًا أَسِفًا، لِمَا فَاتَهُ مِمَّا كَانَ طَمَعَ فِيهِ مِنْ قَوْمِهِ حِينَ دَعَوْهُ ولما رأى من مباعدتهم إياه (أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما) . وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ ذَلِكَ اسْتِرْشَادًا لَأُجِيبُوا إِلَيْهِ، وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَطْلُبُونَ ذلك كفراً وعناداً، فقيل لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ شِئْتَ أَعْطَيْنَاهُمْ مَا سَأَلُوا، فَإِنْ كَفَرُوا عَذَّبْتُهُمْ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ عَلَيْهِمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَقَالَ: «بل تقتح عليهم باب التوبة والرحمة» .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} الْيَنْبُوعُ: الْعَيْنُ الْجَارِيَةُ، سَأَلُوهُ أَنْ يُجْرِيَ لهم عيناً معيناً في أرض الحجاز ههنا وههنا، وذلك سهل على الله تعالى يسير لَوْ شَاءَ لَفَعَلَهُ وَلَأَجَابَهُمْ إِلَى جَمِيعِ مَا سَأَلُوا وَطَلَبُوا، وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ} أي أنك وعدتنا يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَنْشَقُّ فِيهِ السَّمَاءُ وَتَهِي وَتَدَلَّى أطرافها فعجّلْ ذلك في الدينا، وأسقطها كسفاً أي قطعاً، كذلك سألو قوم شعيب فَقَالُوا: {أَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} ، فعاقبهم الله بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وأما نبي الرحمة المبعوث رحمة للعالمين فسأل إنظارهم وتأجليهم، لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده ولا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ وَقَعَ، فَإِنَّ مَن هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذُكِرُوا مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ حَتَّى (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ) الَّذِي تَبِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ مَا قَالَ، أَسْلَمَ إِسْلَامًا وأناب إلى الله عزَّ وجلَّ، وقوله تعالى: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} . قَالَ ابن عباس ومجاهد: هو الذهب، أي يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ ذَهَبٍ، {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} أَيْ تَصْعَدُ فِي سُلَّمٍ، وَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَيْكَ، {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ} ، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ مَكْتُوبٌ فيه، إلى كل وَاحِدٍ صَحِيفَةٌ، هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ تُصْبِحُ مَوْضُوعَةً عِنْدَ رَأْسِهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} أَيْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ، أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ سُلْطَانِهِ وَمَلَكُوتِهِ، بَلْ هُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يشاء، وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ رَسُولٌ إِلَيْكُمْ أُبْلِغُكُمْ رِسَالَاتِ ربي، وأنصح لكم، وَأَمْرُكُمْ فِيمَا سَأَلْتُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وعن أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "عرض على رَبِّي عزَّ وجلَّ لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ(2/400)
ذَهَبًا، فَقُلْتُ: لَا يَا رَبِّ وَلَكِنْ أَشْبَعُ يوماً وأجوع يوماً - أو نحو ذلك - فإن جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ وشكرتك" (رواه أحمد والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن) .(2/401)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)
- 94 - وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً
- 95 - قُل لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً
يَقُولُ تَعَالَى: {وَمَآ مَنَعَ النَّاسَ} أَيْ أَكْثَرَهُمْ، {أَن يُؤْمِنُوا} وَيُتَابِعُوا الرُّسُلَ، إِلَّا اسْتِعْجَابُهُمْ من بعثة الْبَشَرَ رُسُلًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ} ؟ وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أبشرا يهدوننا} الآية. وَقَالَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عابدون} ؟ وَكَذَلِكَ قَالَتِ الْأُمَمِ لِرُسُلِهِمْ: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مبين} ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى لُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ، إِنَّهُ يَبْعَثُ إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ مِنْ جِنْسِهِمْ، لِيَفْقَهُوا عَنْهُ وَيَفْهَمُوا مِنْهُ، لِتَمَكُّنِهِمْ مِنْ مُخَاطَبَتِهِ وَمُكَالَمَتِهِ، وَلَوْ بَعَثَ إِلَى الْبَشَرِ رَسُولًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمَا اسْتَطَاعُوا مُوَاجَهَتَهُ، وَلَا الْأَخْذَ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تكونوا تعلمون} ، ولهذا قال ههنا: {قُل لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} أَيْ كَمَا أَنْتُمْ فِيهَا {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً} أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَلَمَّا كُنْتُمْ أَنْتُمْ بَشَرًا بَعَثْنَا فِيكُمْ رُسُلَنَا مِنْكُمْ لُطْفًا وَرَحْمَةً.(2/401)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
- 96 - قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا
يَقُولُ تَعَالَى مُرْشِدًا نبيّه صلى الله عليه وسلم إِلَى الْحُجَّةِ عَلَى قَوْمِهِ، فِي صِدْقِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ أَنَّهُ شَاهِدٌ عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ، عَالِمٌ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ، فَلَوْ كُنْتُ كَاذِبًا عَلَيْهِ لانتقم مِنِّي أَشَدَّ الِانْتِقَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} . وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} : أَيْ عليماً بهم، بمن يستحق الإنعام والإحسان والهداية، من يَسْتَحِقُّ الشَّقَاءَ وَالْإِضْلَالَ وَالْإِزَاغَةَ، وَلِهَذَا قَالَ:(2/401)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
- 97 - وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ تَصَرُّفِهِ فِي خَلْقِهِ وَنُفُوذِ حُكْمِهِ، وَأَنَّهُ لَا مُعَقِّبَ لَهُ بِأَنَّهُ مَنْ يَهْدِهِ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ، أَيْ يَهْدُونَهُمْ، كَمَا قَالَ: {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِدًا} ، وقوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ} ، عن أنَس بن مالك: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ(2/401)
النَّاسُ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ قَالَ: «الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ» (أخرجه الشيخان والإمام أحمد) . وعن حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ قَالَ، قَامَ أَبُو ذَرٍّ فَقَالَ: يَا بَنِي غِفَارٍ قُولُوا وَلَا تَحْلِفُوا فَإِنَّ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ حَدَّثَنِي: أَنَّ النَّاسَ يُحْشَرُونَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَفْوَاجٍ، فَوْجٍ رَاكِبِينَ طَاعِمِينَ كَاسِينَ، وَفَوْجٍ يَمْشُونَ وَيَسْعَوْنَ، وَفَوْجٍ تَسْحَبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى وجوههم وتحشرهم إلى النار (أخرجه الإمام أحمد) . وَقَوْلُهُ {عُمْياً} أَيْ لَا يُبْصِرُونَ {وَبُكْماً} يَعْنِي لَا يَنْطِقُونَ {وَصُمّاً} لَا يَسْمَعُونَ، وَهَذَا يَكُونُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، جَزَاءً لَهُمْ كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا، بُكْمًا وَعُمْيًا وَصُمًّا عَنِ الْحَقِّ، فَجُوزُوا فِي مَحْشَرِهِمْ بِذَلِكَ أَحْوَجَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، {مَّأْوَاهُمْ} أَيْ مُنْقَلِبُهُمْ وَمَصِيرُهُمْ {جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَكَنَتْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: طَفِئَتْ {زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} أَيْ لَهَبًا وَوَهَجًا وَجَمْرًا، كَمَا قَالَ: {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عذابا} .(2/402)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
- 98 - ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً
- 99 - أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا
يَقُولُ تَعَالَى هَذَا الَّذِي جَازَيْنَاهُمْ بِهِ مِنَ الْبَعْثِ عَلَى الْعَمَى وَالْبُكْمِ وَالصَّمَمِ جَزَاؤُهُمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ، لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا {بِآيَاتِنَا} أَيْ بأدلتنا وحجتنا، وَاسْتَبْعَدُوا وُقُوعَ الْبَعْثِ، {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً} ، أي بَالِيَةً نَخِرَةً {أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} أَيْ بَعْدَ مَا صِرْنَا إِلَى مَا صِرْنَا إِلَيْهِ، مِنَ الْبِلَى وَالْهَلَاكِ، وَالتَّفَرُّقِ وَالذَّهَابِ فِي الْأَرْضِ، نُعَادُ مَرَّةً ثَانِيَةً؟ فَاحْتَجَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَقُدْرَتُهُ عَلَى إِعَادَتِهِمْ أَسْهَلُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} ، وَقَالَ: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يحيي الموتى} الآية، وقال: {أو ليس الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى وَهُوَ الخلاق العليم، وقال ههنا: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعِيدُ أَبْدَانَهُمْ وَيُنَشِّئُهُمْ نَشْأَةً أُخْرَى، كَمَا بَدَأَهُمْ، وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لَا رَيْبَ فِيهِ} أَيْ جَعَلَ لِإِعَادَتِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَجَلًا مَضْرُوبًا وَمُدَّةً مُقَدَّرَةً لَا بُدَّ مِنَ انْقِضَائِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ معدود} ، وَقَوْلُهُ: {فَأَبَى الظَّالِمُونَ} أَيْ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ {إِلاَّ كُفُوراً} : إِلَّا تَمَادِيًا فِي بَاطِلِهِمْ وضلالهم.(2/402)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
- 100 - قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُوراً
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: لَوْ أَنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ فِي خَزَائِنِ اللَّهِ، لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق، قال ابن عباس: أَيِ الْفَقْرِ، أَيْ خَشْيَةَ أَنْ تُذْهبوها، مَعَ أَنَّهَا لَا تَفْرَغُ وَلَا تَنْفَدُ أَبَدًا؛ [ص:403] لِأَنَّ هَذَا مِنْ طِبَاعِكُمْ وَسَجَايَاكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُوراً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: أَيْ بَخِيلًا مَنُوعًا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} أَيْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ نَصِيبًا فِي مُلْكِ اللَّهِ لَمَا أَعْطَوْا أَحَدًا شَيْئًا، وَلَا مِقْدَارَ نَقِيرٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَصِفُ الْإِنْسَانَ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَهَدَاهُ، فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجَزَعَ وَالْهَلَعَ صِفَةٌ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ} وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ، وَيَدُلُّ هَذَا عَلَى كَرَمِهِ وَجُودِهِ وَإِحْسَانِهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ؟» .(2/402)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
- 101 - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إني لأظنك يا موسى مَسْحُورًا
- 102 - قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَؤُلَاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا
- 103 - فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً
- 104 - وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَ مُوسَى بِتِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَهِيَ الدَّلَائِلُ الْقَاطِعَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَصِدْقِهِ، فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَمَّنْ أَرْسَلَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَهِيَ «الْعَصَا، وَالْيَدُ، وَالسِّنِينَ، وَالْبَحْرُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، والقُمّل، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ» آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هِيَ الْيَدُ وَالْعَصَا والخمس في الأعراف والطمس والحجر، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد: (هِيَ يَدُهُ، وَعَصَاهُ، وَالسِّنِينَ، وَنَقْصُ الثَّمَرَاتِ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، والقُمّل، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ) ، وَهَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ حَسَنٌ قَوِيٌّ، وَجَعَلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: السِّنِينَ وَنَقْصَ الثَّمَرَاتِ وَاحِدَةً؛ وَعِنْدَهُ أَنَّ التَّاسِعَةَ هِيَ تلقف العصا ما يأفكون، {فاسكتبروا وكانوا قوما مجرمين} أَيْ وَمَعَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمُشَاهَدَتِهِمْ لَهَا كَفَرُوا بِهَا وَجَحَدُواْ بِهَا، وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً وَمَا نَجَعَتْ فِيهِمْ؛ فَكَذَلِكَ لَوْ أَجَبْنَا هَؤُلَاءِ الذي سألوا منك ما سَأَلُوا وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض ينبوعاً إِلَى آخِرِهَا، لَمَا اسْتَجَابُوا وَلَا آمَنُوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ، كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى - وَقَدْ شَاهَدَ مِنْهُ مَا شَاهَدَ مِنْ هَذِهِ الآيات - {إني لأظنك يا موسى مَسْحُوراً} قِيلَ: بِمَعْنَى سَاحِرٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ التِّسْعُ الَّتِي ذَكَرَهَا هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ هي المرادة ههنا، وَهِيَ الْمَعْنِيَّةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تخف - إلى قوله فِي تِسْعِ آيَاتٍ - إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} ، فَذَكَرَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْعَصَا وَالْيَدَ، وبيَّن الْآيَاتِ الْبَاقِيَاتِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَفَصَّلَهَا، وَقَدْ أُوتِيَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ آيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً: مِنْهَا ضربه الحجر بالعصا، وخروج الماء مِنْهُ، وَمِنْهَا تَظْلِيلُهُمْ بِالْغَمَامِ، وَإِنْزَالُ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وغير ذلك مما أوتيه بَنُو إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِمْ بِلَادَ مِصْرَ، وَلَكِنْ ذكر ههنا التِّسْعَ الْآيَاتِ الَّتِي شَاهَدَهَا فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مِنْ أهل مصر، فكانت حجة عليهم، فخالفوها وعاندوها كفراً وجحوداً.
وَلِهَذَا قَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَؤُلَاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَآئِرَ} أَيْ حُجَجًا وَأَدِلَّةً(2/403)
عَلَى صِدْقِ مَا جِئْتُكَ بِهِ، {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فرعون مَثْبُوراً} أَيْ هَالِكًا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَقَالَ ابن عباس: ملعوناً، وقال الضحّاك {مَثْبُوراً} : أي مغلوباً (وهو قول لابن عباس أيضاً) ، وَالْهَالِكُ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ، يَشْمَلُ هَذَا كُلَّهُ. ويدل عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتِّسْعِ الْآيَاتِ إِنَّمَا هِيَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْعَصَا وَالْيَدِ وَالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ وَالطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ والقُمّل وَالضَّفَادِعِ وَالدَّمِ، الَّتِي فِيهَا حُجَجٌ وَبَرَاهِينُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَخَوَارِقُ وَدَلَائِلُ عَلَى صِدْقِ مُوسَى وَوُجُودِ الفاعل المختار الذي أرسله، وَقَوْلُهُ: {فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الْأَرْضِ} أَيْ يُخْلِيَهُمْ مِنْهَا وَيُزِيلَهُمْ عَنْهَا {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ} ، وَفِي هَذَا بِشَارَةٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَتْحِ مَكَّةَ مَعَ أَنَّ السُّورَةَ مكية، نَزَلَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَكَذَلِكَ وَقَعَ فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ منها} الآيتين، وَلِهَذَا أَوْرَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ مَكَّةَ فَدَخَلَهَا عَنْوَةً وَقَهَرَ أَهْلَهَا ثُمَّ أَطْلَقَهُمْ حِلْمًا وَكَرَمًا، كَمَا أَوْرَثَ اللَّهُ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَأَوْرَثَهُمْ بِلَادَ فِرْعَوْنَ وَأَمْوَالَهُمْ وَزُرُوعَهُمْ وَثِمَارَهُمْ وَكُنُوزَهُمْ، كَمَا قَالَ: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إسرائيل، وقال ههنا: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} أَيْ جَمِيعُكُمْ أَنْتُمْ وَعَدُوُّكُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَفِيفاً} أي جميعاً (وهو قول مجاهد وقتادة والضحّاك) .(2/404)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
- 105 - وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا
- 106 - وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، أَنَّهُ بِالْحَقِّ نَزَلَ، أَيْ مُتَضَمِّنًا لِلْحَقِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والملائكة يَشْهَدُونَ} أَيْ مُتَضَمِّنًا عِلْمَ اللَّهِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يطلعكم عليه من أحكامه ونهيه، وقوله تعالى: {وبالحق نَزَلَ} أي ونزل إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مَحْفُوظًا مَحْرُوسًا، لَمْ يُشَبْ بِغَيْرِهِ وَلَا زِيدَ فِيهِ، وَلَا نَقُصَ مِنْهُ، بَلْ وَصَلَ إِلَيْكَ بِالْحَقِّ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِهِ شديد الْقَوِيُّ، الْأَمِينُ الْمَكِينُ الْمُطَاعُ فِي الْمَلَإِ الْأَعْلَى، وَقَوْلُهُ: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ} أَيْ يَا مُحَمَّدُ {إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} مُبَشِّرًا لِمَنْ أَطَاعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَذِيرًا لِمَنْ عصاك من الكافرين، وقوله: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} بالتخفيف، ومعناه فَصَّلْنَاهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَزَلَ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا في ثلاث وعشرين سنة، قاله ابن عباس، وعن ابن عباس {فرَّقناه} بِالتَّشْدِيدِ أَيْ أَنْزَلْنَاهُ آيَةً آيَةً مُبَيَّنًا مُفَسَّرًا، وَلِهَذَا قَالَ: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ} أَيْ لِتُبَلِّغَهُ النَّاسَ وَتَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ {عَلَى مُكْثٍ} أَيْ مهل {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ.(2/404)
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
- 107 - قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً
- 108 - وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا
- 109 - وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا(2/404)
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ {آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا} أَيْ سَوَاءٌ آمَنْتُمْ بِهِ أَمْ لَا، فَهُوَ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ أنزله الله، ونّوه بذكره فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رُسُلِهِ، وَلِهَذَا قَالَ {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ} أَيْ من صالحي أهل الكتاب الذين تمسكوا بكتابهم وَلَمْ يُبَدِّلُوهُ وَلَا حَرَّفُوهُ {إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} هَذَا الْقُرْآنُ {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} جَمْعُ ذَقْنٍ، وَهُوَ أَسْفَلُ الْوَجْهِ {سُجَّداً} أَيْ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، شكراً على ما أنعم به عليهم، وَلِهَذَا يَقُولُونَ {سُبْحَانَ رَبِّنَآ} أَيْ تَعْظِيمًا وَتَوْقِيرًا عَلَى قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، ولهذا قالوا: {إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} ، وَقَوْلُهُ: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ} أَيْ خُضُوعًا لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وإيماناً وتصديقاً بكتابه ورسوله، {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} أَيْ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا، كَمَا قَالَ: {وَالَّذِينَ اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} .(2/405)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
- 110 - قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا
- 111 - وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا
يَقُولُ تَعَالَى: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ صِفَةَ الرَّحْمَةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، الْمَانِعِينَ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِالرَّحْمَنِ، {ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الحسنى} أي لا فرق بين دعائكم به بِاسْمِ {اللَّهِ} أَوْ بِاسْمِ {الرَّحْمَنِ} فَإِنَّهُ ذُو الأسماء الحسنى، كما قال تعالى: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، يُسَبِّحُ لَّهُ مَا فِي السموات والأرض} الآية. وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: «يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ» ، فَقَالَ إِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَدْعُو وَاحِدًا وَهُوَ يَدْعُو اثْنَيْنِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ (أخرج البخاري عن ابن عباس قال: نزلت ورسول الله متخف بمكة، وكان إذا صلى بأصحابه ورفع صوته بالقرآن، فكان المشركون إذا سمعوا القرآن سبوه ومن أنزله ومن جاء به فنزلت. وأخرج البخاري أيضاً عن عائشة: أنها نزلت في الدعاء، وأخرج ابن جرير مثله، ثم رجح الأول لأنها أصح سنداً، وكذا رجحها النووي وغيره، وقال الحافظ ابن حجر: لكن يحتمل الجمع بينهما بأنها نزلت في الدعاء داخل الصلاة. وأخرج ابن جري والحاكم عن عائشة: أنها نزلت في التشهد، وهي مبينة لمرادها في الرواية السابقة) ، وقوله: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ورسول الله صلى الله عليه وسلم مُتَوَارٍ بِمَكَّةَ، {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} : قَالَ كَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَسَبُّوا مَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، قَالَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} : أَيْ بِقِرَاءَتِكَ فَيَسْمَعَ المشركون فيسبون الْقُرْآنَ، {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} عَنْ أَصْحَابِكَ فَلَا تُسْمِعُهُمُ الْقُرْآنَ حَتَّى يَأْخُذُوهُ عَنْكَ، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} (أخرجه البخاري ومسلم وأحمد عن ابن عباس) . وقال محمد بن إسحاق عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَهَرَ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ يُصَلِّي تَفَرَّقُوا عَنْهُ وَأَبَوْا أَنْ يَسْمَعُوا منه، وكان الرجل إذا أراد أن يسمع مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ مَا يَتْلُو وَهُوَ يُصَلِّي، اسْتَرَقَ(2/405)
السمع منهم دونهم فرقاً منهم، فإذا رَأَى أَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوا أَنَّهُ يَسْتَمِعُ ذَهَبَ خشية أذاهم فلم يسمع، فَإِنْ خَفَضَ صَوْتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يسمع الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ مِنْ قِرَاءَتِهِ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} فَيَتَفَرَّقُوا عَنْكَ {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} أي فلا يسمع من أراد أن يَسْمَعُ فَيَنْتَفِعَ بِهِ، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} . قال ابن جرير، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ إِذَا صَلَّى فَقَرَأَ خَفَضَ صَوْتَهُ، وَأَنَّ عُمَرَ كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ، فَقِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ لِمَ تَصْنَعُ هَذَا؟ قَالَ: أُنَاجِي رَبِّي عزَّ وجلَّ وَقَدْ عَلِمَ حَاجَتِي، فَقِيلَ أَحْسَنْتَ، وَقِيلَ لِعُمَرَ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا؟ قَالَ: أَطْرُدُ الشَّيْطَانَ وَأُوقِظُ الْوَسْنَانَ، قِيلَ: أَحْسَنْتَ فَلَمَّا نَزَلَتْ: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} قِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ: ارْفَعْ شَيْئًا، وَقِيلَ لِعُمَرَ: اخْفِضْ شَيْئًا. وَقَالَ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ، وَقَوْلُهُ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} لَمَّا أَثْبَتَ تَعَالَى لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ النَّقَائِصِ، فَقَالَ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} ، بَلْ هُوَ اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ، {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ} أَيْ لَيْسَ بذليل فيحتاج إلى أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلِيٌّ، أَوْ وَزِيرٌ أَوْ مشير، بل هو تعالى خالق الأشياء وحده لا شريك له، ومدبرها ومقدرها بِمَشِيئَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل} : لم يحالف أحداً، ولم يبتغ نَصْرَ أَحَدٍ، {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} أَيْ عَظِّمْهُ وَأَجِلَّهُ عما يقول الظالمون علواً كبيراً.(2/406)
- 18 - سورة الكهف(2/407)
[مقدمة]
«ذكر ما ورد في فضلها وأنها عصمة من الدجال»
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ» (رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي) ، طريق أخرى: قال الإمام أحمد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» . ورواه مسلم أيضاً والنسائي، وَفِي لَفْظِ النَّسَائِيِّ: «مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ من الكهف» فذكره. حديث آخر: عَنْ ثَوْبَانَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ فَإِنَّهُ عِصْمَةٌ لَهُ من الدجال» (أخرجه النسائي في سننه) .(2/407)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.(2/407)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
- 1 - الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا
- 2 - قَيِّمًا لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا
- 3 - مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً
- 4 - وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا
- 5 - مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا
قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ، أَنَّهُ تَعَالَى يَحْمَدُ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ، عِنْدَ فَوَاتِحَ الأمور وخواتمها عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، وَلِهَذَا حَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى إِنْزَالِهِ كِتَابَهُ الْعَزِيزَ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ، مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ نِعْمَةً أَنْعَمَهَا اللَّهُ على أهل الأرض، إذا أَخْرَجَهُمْ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، حَيْثُ جَعَلَهُ كِتَابًا مُسْتَقِيمًا لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم، واضحاً بيناً جلياً، نذيراً للكافرين بشيراً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} أَيْ لَمْ يَجْعَلْ فِيهِ اعْوِجَاجًا وَلَا زَيْغًا وَلَا مَيْلًا، بَلْ جَعَلَهُ مُعْتَدِلًا مُسْتَقِيمًا، وَلِهَذَا قَالَ: {قَيِّماً} أَيْ مُسْتَقِيمًا، {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ} أَيْ لِمَنْ خَالَفَهُ وَكَذَّبَهُ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، يُنْذِرُهُ بَأْسًا(2/407)
شَدِيدًا عُقُوبَةً عَاجِلَةً فِي الدُّنْيَا، وَآجِلَةً فِي الأخرى، {من لدنه} أي من عند الله، {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، الَّذِينَ صَدَّقُوا إِيمَانَهُمْ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ {أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} أَيْ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ جَمِيلَةً، {مَّاكِثِينَ فِيهِ} فِي ثَوَابِهِمْ عِندِ اللَّهِ، وَهُوَ الْجَنَّةُ، خَالِدِينَ فِيهِ {أَبَداً} دَائِمًا، لَا زَوَالَ لَهُ وَلَا انقضاء، وقوله: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، فِي قَوْلِهِمْ نَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ {مَا لَهُمْ بِهِ مِّنْ عِلْمٍ} ، أَيْ بِهَذَا الْقَوْلِ الذي افتروه وائتفكوه، {ولا لآبائهم} أي لأسلافهم، {كَبُرَتْ كَلِمَةً} كبرت كلمتهم هذه، وفي هَذَا تَبْشِيعٌ لِمَقَالَتِهِمْ وَاسْتِعْظَامٌ لِإِفْكِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أَيْ لَيْسَ لها مستند سوى قولهم ولا دليل عَلَيْهَا إِلَّا
كَذِبُهُمْ وَافْتِرَاؤُهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} .
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إسحاق في سبب نزول هذه السورة الكريمة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ (النَّضْرَ بن الحارث) و (عتبة بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ) إِلَى أَحْبَارِ يَهُودَ بِالْمَدِينَةِ:، فَقَالُوا لَهُمْ: سَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ وَصِفُوا لَهُمْ صِفَتَهُ وَأَخْبِرُوهُمْ بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُمْ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ، فخرجا حتى أتيا الْمَدِينَةَ، فَسَأَلُوا أَحْبَارَ يَهُودَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصَفُوا لَهُمْ أَمْرَهُ وَبَعْضَ قَوْلِهِ وَقَالَا: إِنَّكُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَقَدْ جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال، فقالوا: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ نَأْمُرُكُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بهن فهو نبي مرسل، وإلاّ فرجل متقول فتروا فِيهِ رَأْيَكُمْ، سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ عَجِيبٌ، وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ، بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا مَا كَانَ نَبَؤُهُ؟ وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ مَا هُوَ؟ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِذَلِكَ فَهُوَ نَبِيٌّ فَاتَّبِعُوهُ، وَإِنْ لم يخبركم فإنه رجل مقتول فَاصْنَعُوا فِي أَمْرِهِ مَا بَدَا لَكُمْ، فَأَقْبَلَ النَّضْرُ وَعُقْبَةُ حَتَّى قَدِمَا عَلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، قَدْ أَمَرَنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ أُمُورٍ؛ فَأَخْبَرُوهُمْ بِهَا، فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يا محمد! لأخبرنا، فَسَأَلُوهُ عَمَّا أَمَرُوهُمْ بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُخْبِرُكُمْ غَدًا عما سَأَلْتُمْ عَنْهُ» ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، وَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَ عشرة ليلة لا يحدث الله له فِي ذَلِكَ وَحْيًا، وَلَا يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى أَرْجَفَ أَهْلُ مَكَّةَ، وَقَالُوا: وَعَدَنَا محمد غداً واليوم خمس عشرة، قد أصحبنا فِيهَا لَا يُخْبِرُنَا بِشَيْءٍ عَمَّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ، وَحَتَّى أَحْزَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكْثُ الْوَحْيِ عَنْهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا يتكلم به أهل مكة. ثم جاءه جبرائيل عليه السلام من اللَّهِ عزَّ وجلَّ بِسُورَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فِيهَا مُعَاتَبَتُهُ إِيَّاهُ عَلَى حُزْنِهِ عَلَيْهِمْ، وَخَبَرُ مَا سألوه عنه من خبر الفتية والرجل والطواف، وقول الله عزَّ وجلَّ {يسألونك عَنِ الروح؟ قُلِ الروح} الآية.(2/408)
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
- 6 - فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا
- 7 - إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلًا
- 8 - وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً
يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِرَسُولِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه فِي حُزْنِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِتَرْكِهِمُ الْإِيمَانَ وَبُعْدِهِمْ عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عليهم حسرات} ، وقال: {وَلاَ تَحْزَنْ عليهم} ، وَقَالَ: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} ، بَاخِعٌ: أَيْ مَهْلِكٌ نَفْسَكَ بِحُزْنِكَ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قال: {فعلك بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ(2/408)
إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث} (أخرج ابن مردويه عن ابن عباس، قال: اجتمع عتبة بن ربيعة وأبو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كبر عليه ما يرى من خلاف قومه إياه، وإنكارهم ما جاء به من الفضيلة، فأحزنه حزناً شديداً، فأنزل الله: {فعلك بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثارهم} الآية) يَعْنِي الْقُرْآنَ، {أَسَفاً} يَقُولُ: لَا تُهْلِكْ
نَفْسَكَ أَسَفًا، قَالَ قَتَادَةُ: قاتلٌ نَفْسَكَ غَضَبًا وَحُزْنًا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: جَزَعًا، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ أَيْ: لَا تَأْسَفْ عَلَيْهِمْ بَلْ أَبْلِغْهُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ، وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عليها، ولا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ الدُّنْيَا دَارًا فَانِيَةً مُزَيَّنَةً بِزِينَةٍ زائلة، وإنما جعلها دار اختيار لَا دَارَ قَرَارٍ، فَقَالَ: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زينة لهم لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} . عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ مَاذَا تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» . ثُمَّ أَخْبَرَ تعالى بزوالها وفنائها وذهابها، وخرابها، فقال تَعَالَى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} أَيْ وَإِنَّا لَمُصَيِّرُوهَا بَعْدَ الزِّينَةِ إِلَى الْخَرَابِ وَالدَّمَارِ، فَنَجْعَلُ كُلَّ شَيْءٍ عَلَيْهَا هَالِكًا {صَعِيداً جُرُزاً} لَا يُنْبَتُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ، كَمَا قال ابن عباس: يَهْلَكُ كُلُّ شَيْءٍ عَلَيْهَا وَيَبِيدُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {صَعِيداً جُرُزاً} بَلْقَعًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: الصَّعِيدُ الْأَرْضُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَجَرٌ وَلَا نَبَاتٌ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الصَّعِيدُ الْأَرْضُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يبصرون} ؟.(2/409)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
- 9 - أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا
- 10 - إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا
- 11 - فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا
- 12 - ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا
هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف {أَمْ حَسِبْتَ} يَعْنِي يَا مُحَمَّدُ {أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} أَيْ لَيْسَ أَمْرُهُمْ عَجِيبًا فِي قُدْرَتِنَا وَسُلْطَانِنَا فَإِنَّ خلق السماوات والأرض وتسخير الشمس والقمر وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَإِنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَادِرٌ، وَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ - أَعْجَبُ مِنْ أَخْبَارِ أصحاب الكهف، كما قال مجاهد: قَدْ كَانَ مِنْ آيَاتِنَا مَا هُوَ أَعْجَبُ من ذلك، وقال ابن عباس: الَّذِي آتَيْتُكَ مِنَ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ وَالْكِتَابِ أَفْضَلُ مِنْ شَأْنِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: مَا أَظْهَرْتُ مِنْ حُجَجِي عَلَى الْعِبَادِ أَعْجَبَ مِنْ شَأْنِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ، وَأَمَّا الْكَهْفُ: فَهُوَ الْغَارُ فِي الْجَبَلِ، وَهُوَ الَّذِي لَجَأَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ الْمَذْكُورُونَ، وَأَمَّا الرقيم: فقال ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ وَادٍ قَرِيبٌ مِنْ أَيْلَةَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَمَّا الْكَهْفُ فَهُوَ غَارُ الْوَادِي، والرقيم اسم الوادي، وقال مجاهد: الرقيم كتاب بُنْيَانَهُمْ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ هُوَ الْوَادِي الَّذِي فِيهِ كهفهم. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: الرَّقِيمُ الْجَبَلُ الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الرَّقِيمُ لَوْحٌ مِنْ حِجَارَةٍ كَتَبُوا فِيهِ قِصَصَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ ثُمَّ وَضَعُوهُ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: الرَّقِيمُ الْكِتَابُ، ثُمَّ قرأ {كتاب مرقوم} وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابن جرير، قال الرقيم بمعنى مرقوم، كما يقال لِلْمَقْتُولِ قَتِيلٌ وَلِلْمَجْرُوحِ جَرِيحٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(2/409)
وقوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أُولَئِكَ الْفِتْيَةِ الَّذِينَ فَرُّوا بِدِينِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ لِئَلَّا يَفْتِنُوهُمْ عنه فهربوا منهم فلجأوا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ لِيَخْتَفُوا عَنْ قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا حِينَ دَخَلُوا سَائِلِينَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى رَحْمَتَهُ وَلُطْفَهُ بِهِمْ: {رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} أَيْ هَبْ لَنَا مِنْ عِنْدِكَ رَحْمَةً تَرْحَمُنَا بِهَا وَتَسْتُرُنَا عَنْ قَوْمِنَا، {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} أَيْ اجْعَلْ عَاقِبَتَنَا رَشَدًا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَمَا قَضَيْتَ لَنَا مِنْ قَضَاءٍ فاجعل عاقبته رشداً» . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو: «اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ النار وَعَذَابِ الْآخِرَةِ» ، وَقَوْلُهُ: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً} أَيْ أَلْقَيْنَا عَلَيْهِمُ النَّوْمَ حِينَ دَخَلُوا إِلَى الْكَهْفِ فَنَامُوا سِنِينَ كَثِيرَةً {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} أَيْ مِنْ رَقْدَتِهِمْ تِلْكَ، وَخَرَجَ أَحَدُهُمْ بِدَرَاهِمَ مَعَهُ لِيَشْتَرِيَ لَهُمْ بِهَا طَعَامًا يَأْكُلُونَهُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ} أَيِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِيهِمْ {أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً} قِيلَ: عَدَدًا، وقيل: غاية.(2/410)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
- 13 - نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى
- 14 - وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطًا
- 15 - هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
- 16 - وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أمركم مرفقا
من ههنا شَرَعَ فِي بَسْطِ الْقِصَّةِ وَشَرْحِهَا، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ فِتْيَةٌ وَهُمُ الشَّبَابُ، وَهُمْ أَقْبَلُ لِلْحَقِّ وَأَهْدَى لِلسَّبِيلِ مِنَ الشُّيُوخِ الَّذِينَ قَدْ عَتَوْا وانغمسوا فِي دِينِ الْبَاطِلِ، وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْمُسْتَجِيبِينَ لله تعالى وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَابًا. وَأَمَّا الْمَشَايِخُ مِنْ قُرَيْشٍ فَعَامَّتُهُمْ بَقُوا عَلَى دِينِهِمْ وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَهَكَذَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِتْيَةً شباباً. وقال مُجَاهِدٌ: بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ فِي آذَانِ بَعْضْهِمُ الْقِرَطَةُ، يَعْنِي الْحَلَقَ، فَأَلْهَمَهُمُ اللَّهُ رُشْدَهُمْ، وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ فَآمَنُوا بِرَبِّهِمْ، أَيْ اعْتَرَفُوا لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَشَهِدُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} استدل بهذه الآية وأمثالها على زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَتَفَاضُلِهِ، وَأَنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} ، كَمَا قَالَ: {وَالَّذِينَ اهتدوا زَادَهُمْ هدى تقواهم} ، وقد ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عِيسَى ابن مريم، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يَقُولُ تَعَالَى: وَصَبَّرْنَاهُمْ عَلَى مخالفة قومهم، وَمُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَيْشِ الرَّغِيدِ وَالسَّعَادَةِ وَالنِّعْمَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَبْنَاءِ مُلُوكِ الرُّومِ وَسَادَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ خَرَجُوا يَوْمًا فِي بَعْضِ أَعْيَادِ قَوْمِهِمْ، وَكَانَ لَهُمْ مجتمع في السنة يجتمعون فِي ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالطَّوَاغِيتَ ويذبحون لها، وكان لها مَلِكٌ جَبَّارٌ عَنِيدٌ يُقَالُ لَهُ (دَقْيَانُوسُ) وَكَانَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ وَيَحُثُّهُمْ عَلَيْهِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا خَرَجَ النَّاسُ لِمُجْتَمَعِهِمْ(2/410)
ذَلِكَ وَخَرَجَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ مَعَ آبَائِهِمْ وَقَوْمِهِمْ، وَنَظَرُوا إِلَى مَا يَصْنَعُ قَوْمُهُمْ بِعَيْنِ بَصِيرَتِهِمْ، عَرَفُوا أَنَّ هَذَا الَّذِي يَصْنَعُهُ
قَوْمُهُمْ مِنَ السُّجُودِ لِأَصْنَامِهِمْ وَالذَّبْحِ لَهَا لَا يَنْبَغِي إِلَّا للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ؛ فَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَتَخَلَّصُ مِنْ قومه وينحاز عنهم، واتخذوا لَهُمْ مَعْبَدًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فِيهِ، فَعَرَفَ بِهِمْ قَوْمُهُمْ فَوَشَوْا بِأَمْرِهِمْ إِلَى مَلِكِهِمْ، فَاسْتَحْضَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَسَأَلَهُمْ عَنْ أَمْرِهِمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ بِالْحَقِّ وَدَعَوْهُ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَلِهَذَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلَهًا} وَ «لَنْ» لِنَفْيِ التَّأْبِيدِ: أَيْ لَا يَقَعُ مِنَّا هَذَا أَبَدًا لِأَنَّا لَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لَكَانَ بَاطِلًا، وَلِهَذَا قَالَ عَنْهُمْ: {لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} أَيْ بَاطِلًا وَكَذِبًا وَبُهْتَانًا، {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} أَيْ هَلَّا أَقَامُوا عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ دَلِيلًا وَاضِحًا صَحِيحًا، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} ، يَقُولُونَ: بَلْ هُمْ ظَالِمُونَ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ، فَيُقَالُ إِنَّ مَلِكَهُمْ تهددهم وتوعدهم وأمر بنزع لباسهم عنهم وأجّلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه، وكان هذا لطف الله بهم فإنهم تَوَصَّلُوا إِلَى الْهَرَبِ مِنْهُ وَالْفِرَارِ بِدِينِهِمْ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ عِنْدَ وُقُوعِ الْفِتَنِ فِي النَّاسِ أَنْ يَفِرَّ الْعَبْدُ مِنْهُمْ خَوْفًا عَلَى دِينِهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ أَحَدِكُمْ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَغَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرَ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ» (الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود عن أبي سعيد) ، فَفِي هَذِهِ الْحَالِ تُشْرَعُ الْعُزْلَةُ عَنِ النَّاسِ وَلَا تُشْرَعُ فِيمَا عَدَاهَا، لِمَا يَفُوتُ بِهَا من ترك الجماعات والجمع، فلما عَزْمُهُمْ عَلَى الذَّهَابِ وَالْهَرَبِ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَاخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} : أَيْ وَإِذَا فَارَقْتُمُوهُمْ وَخَالَفْتُمُوهُمْ بِأَدْيَانِكُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ، فَفَارِقُوهُمْ أَيْضًا بِأَبْدَانِكُمْ، {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ} : أَيْ يَبْسُطْ عَلَيْكُمْ رَحْمَةً يَسْتُرُكُمْ بِهَا مِنْ قومكم {ويهيىء لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ} الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ، {مِّرْفَقاً} أَيْ أَمْرًا تَرْتَفِقُونَ به، فعند ذلك خرجوا هرباً إِلَى الْكَهْفِ، فَأَوَوْا إِلَيْهِ فَفَقَدَهُمْ قَوْمُهُمْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وَتَطَلَّبَهُمُ الْمَلِكُ، فَيُقَالُ إِنَّهُ لَمْ يَظْفَرْ بِهِمْ، وَعَمَّى اللَّهُ عَلَيْهِ خَبَرَهُمْ كَمَا فَعَلَ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبِهِ الصِّدِّيقِ حِينَ لَجَأَ إِلَى (غَارِ ثَوْرٍ) .(2/411)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
- 17 - وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الله مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً
أخبر تعالى أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا دَخَلَتْهُ عِنْدَ طُلُوعِهَا تَزَاوَرُ عنه {ذَاتَ اليمين} ، قال ابن عباس {تَّزَاوَرُ} : أَيْ تَمِيلُ، وَذَلِكَ أَنَّهَا كُلَّمَا ارْتَفَعَتْ في الأفق تقلص بِارْتِفَاعِهَا حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ عِنْدَ الزَّوَالِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} أَيْ تَدْخُلُ إِلَى غَارِهِمْ مِنْ شِمَالِ بَابِهِ وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ، وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ وَكَانَ لَهُ عِلْمٌ بِمَعْرِفَةِ الْهَيْئَةِ وَسَيْرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ. وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَابُ الْغَارِ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّرْقِ لَمَا دَخَلَ إِلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ لَمَا دَخَلَ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَلَا عِنْدَ الْغُرُوبِ وَلَا تَزَاوَرَ الْفَيْءُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا؛ وَلَوْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ لَمَا(2/411)
دَخَلَتْهُ وَقْتَ الطُّلُوعِ، بَلْ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَمْ تَزَلْ فِيهِ إِلَى الْغُرُوبِ، فَتَعَيَّنَ مَا ذَكَرْنَاهُ ولله الحمد. وقال ابن عباس ومجاهد: {تَّقْرِضُهُمْ} تَتْرُكُهُمْ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ وَأَرَادَ مِنَّا فَهْمَهُ وَتَدَبُّرَهُ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا بِمَكَانِ هَذَا الْكَهْفِ فِي أَيِّ الْبِلَادِ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ لَنَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ لَأَرْشَدْنَا الله تعالى ورسوله إليه، فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَرَكْتُ شَيْئًا يُقَرِّبُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا وَقَدْ أَعْلَمْتُكُمْ بِهِ» . فَأَعْلَمَنَا تَعَالَى بِصِفَتِهِ وَلَمْ يُعْلِمْنَا بِمَكَانِهِ فَقَالَ: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ} ، قال مالك: تَمِيلُ، {ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ} أَيْ فِي متسع منه داخلاً، بحيث لا تصيبهم، إِذْ لَوْ أَصَابَتْهُمْ لَأَحْرَقَتْ أَبْدَانَهُمْ وَثِيَابَهُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} حَيْثُ أرشدهم إِلَى هَذَا الْغَارِ الَّذِي جَعَلَهُمْ فِيهِ أَحْيَاءً وَالشَّمْسُ وَالرِّيحُ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِيهِ لِتَبْقَى أَبْدَانُهُمْ، ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} ثُمَّ قَالَ: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد} أَيْ هُوَ الَّذِي أَرْشَدَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ إِلَى الْهِدَايَةِ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ اهْتَدَى، وَمَنْ أَضَلَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ.(2/412)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
- 18 - وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً
ذكر أَنَّهُمْ لَمَّا ضَرَبَ اللَّهُ عَلَى آذَانِهِمْ بِالنَّوْمِ، لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع إليهم البلى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} ، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يُقَلَّبُونَ فِي الْعَامِ مَرَّتَيْنِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ لَمْ يُقَلَّبُوا لَأَكْلَتْهُمُ الأرض، وقوله: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} الوصيد الفناء، وقال ابن عباس: بالباب، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَحْرُسُ عَلَيْهِمُ الْبَابَ، وَهَذَا مِنْ سَجِيَّتِهِ وَطَبِيعَتِهِ حَيْثُ يَرْبِضُ بِبَابِهِمْ، كَأَنَّهُ يَحْرُسُهُمْ، وَكَانَ جُلُوسُهُ خَارِجَ الْبَابِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، كَمَا وَرَدَ في الصحيح، ولا صورة ولا جنب، وَشَمَلَتْ كَلْبَهُمْ بَرَكَتُهُمْ فَأَصَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ النوم على تلك الحال، وهذه فَائِدَةُ صُحْبَةِ الْأَخْيَارِ فَإِنَّهُ صَارَ لِهَذَا الْكَلْبِ ذكر وخبر وشأن، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى أَلْقَى عَلَيْهِمُ الْمَهَابَةَ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ نَظَرُ أَحَدٍ عَلَيْهِمْ إِلَّا هَابَهُمْ لِمَا أُلْبِسُوا مِنَ الْمَهَابَةِ وَالذُّعْرِ، لِئَلَّا يَدْنُوَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَلَا تَمَسَّهُمْ يَدُ لَامِسٍ، حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَالرَّحْمَةِ الواسعة.(2/412)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
- 19 - وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ
مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً
- 20 - إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أبداً
يقول تعالى: كما أَرْقَدْنَاهُمْ بَعَثْنَاهُمْ صَحِيحَةً أَبْدَانُهُمْ، وَأَشْعَارُهُمْ وَأَبْشَارُهُمْ، لَمْ يفقدوا من أحوالهم وهيآتهم شيئاً، وذلك بعد ثلثمائة سَنَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ، وَلِهَذَا تَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ {كَم لَبِثْتُمْ} ؟ أَيْ كَمْ رَقَدْتُمْ؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يوم} لأنه كَانَ دُخُولُهُمْ إِلَى الْكَهْفِ فِي أَوَّلِ نَهَارٍ، وَاسْتِيقَاظُهُمْ كَانَ فِي آخِرِ نَهَارٍ، وَلِهَذَا اسْتَدْرَكُوا فقالوا:(2/412)
{أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} أي أَعْلَمُ بِأَمْرِكُمْ، وَكَأَنَّهُ حَصَلَ لَهُمْ نَوْعُ تَرَدُّدٍ فِي كَثْرَةِ نَوْمِهِمْ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ عَدَلُوا إِلَى الْأَهَمِّ فِي أَمْرِهِمْ إِذْ ذَاكَ، وَهُوَ احْتِيَاجُهُمْ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَقَالُوا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} أَيْ فِضَّتِكُمْ هَذِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدِ اسْتَصْحَبُوا مَعَهُمْ دَرَاهِمَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا، فَتَصَدَّقُوا مِنْهَا وَبَقِيَ مِنْهَا؛ فَلِهَذَا قَالُوا {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} أَيْ مدينتكم التي خرجتم منها {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَاماً} أَيْ أَطْيَبُ طَعَامًا، كقوله: {ما زكى منكم أحد أبداً} ، وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ من تزكى} ، ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره. وقوله {وَلْيَتَلَطَّفْ} أي في خروجه وإيابه، يقولون وليختف كُلَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، {وَلاَ يُشْعِرَنَّ} أَيْ وَلَا يُعْلِمَنَّ {بِكُمْ أَحَداً * إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} أَيْ إِنْ عَلِمُوا بِمَكَانِكُمْ {يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} يَعْنُونَ أَصْحَابَ دَقْيَانُوسَ، يَخَافُونَ مِنْهُمْ أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَى مَكَانِهِمْ، فَلَا يزالون يعذبونكم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوكم فِي مِلَّتِهِمُ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا أَوْ يَمُوتُوا،
وإن وافقتموهم عَلَى الْعَوْدِ فِي الدِّينِ فَلَا فَلَاحَ لَكُمْ في الدينا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} .(2/413)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
- 21 - وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا
يَقُولُ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} : أَيْ أَطْلَعْنَا عَلَيْهِمُ النَّاسَ {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فيها} ذكر واحد من السلف، أنه قد حصل لأهل الزَّمَانِ شَكٌّ فِي الْبَعْثِ وَفِي أَمْرِ الْقِيَامَةِ، فَبَعَثَ اللَّهُ أَهْلَ الْكَهْفِ حُجَّةً وَدَلَالَةً وَآيَةً عَلَى ذَلِكَ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَحَدُهُمُ الْخُرُوجَ لِيَذْهَبَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ لَهُمْ لِيَأْكُلُوهُ، تَنَكَّرَ وَخَرَجَ يَمْشِي فِي غَيْرِ الجادة حتى انتهى إلى المدينة، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَرِيبُ الْعَهْدِ بِهَا، وَكَانَ النَّاسُ قَدْ تَبَدَّلُوا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَجِيلًا بعد جيل، فجعْل لَا يَرَى شَيْئًا مِنْ مَعَالِمِ الْبَلَدِ الَّتِي يَعْرِفُهَا، وَلَا يَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا لَا خَوَاصِّهَا وَلَا عَوَامِّهَا، فَجَعَلَ يَتَحَيَّرُ فِي نفسه، ويقول إن عَهْدِي بِهَذِهِ الْبَلْدَةِ عَشِيَّةَ أَمْسٍ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ تَعْجِيلَ الْخُرُوجِ من ههنا لَأَوْلَى لِي، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى رَجُلٍ مِمَّنْ يَبِيعُ الطَّعَامَ فَدَفَعَ إِلَيْهِ مَا مَعَهُ مِنَ النَّفَقَةِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِهَا طَعَامًا، فَلَمَّا رَآهَا ذَلِكَ الرَّجُلُ أَنْكَرَهَا وَأَنْكَرَ ضَرْبَهَا، فَدَفَعَهَا إِلَى جَارِهِ، وَجَعَلُوا يَتَدَاوَلُونَهَا بَيْنَهُمْ، وَيَقُولُونَ لَعَلَّ هذا وَجَدَ كَنْزًا، فَسَأَلُوهُ عَنْ أَمْرِهِ وَمِنْ أَيْنَ لَهُ هَذِهِ النَّفَقَةُ، لَعَلَّهُ وَجَدَهَا مِنْ كَنْزٍ، وممن أنت؟ فجعل يقول أنا من هذه البلدة، وَعَهْدِي بِهَا عَشِيَّةَ أَمْسٍ، وَفِيهَا دَقْيَانُوسُ فَنَسَبُوهُ إِلَى الْجُنُونِ، فَحَمَلُوهُ إِلَى وَلِيِّ أَمْرِهِمْ، فَسَأَلَهُ عن شأنه وخبره حتى أخبرهم بأمره، فَلَمَّا أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ قَامُوا مَعَهُ إِلَى الْكَهْفِ - ملك الْبَلَدِ وَأَهْلُهَا - حَتَّى انْتَهَى بِهِمْ إِلَى الْكَهْفِ، فَقَالَ دَعُونِي حَتَّى أَتَقَدَّمَكُمْ فِي الدُّخُولِ لِأُعْلِمَ أصحابي فدخل، فَيُقَالُ إِنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ كَيْفَ ذَهَبَ فِيهِ، وأخفى الله عليهم خبرهم، وَيُقَالُ: بَلْ دَخَلُوا عَلَيْهِمْ وَرَأَوْهُمْ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ الْمَلِكُ وَاعْتَنَقَهُمْ، وَكَانَ مُسْلِمًا فِيمَا قِيلَ، وَاسْمُهُ يندوسيس، ففرحوا به وآنسوه بالكلام، ثم دعوه وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَعَادُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَتَوَفَّاهُمُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، فالله أعلم. وَقَوْلُهُ {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} : أَيْ كَمَا أَرْقَدْنَاهُمْ وأيقظناهم بهيآتهم، أَطْلَعْنَا عَلَيْهِمْ أَهْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} أَيْ فِي أمر(2/413)
الْقِيَامَةِ، فَمِنْ مُثْبِتٍ لَهَا وَمِنْ منكِّر، فَجَعَلَ اللَّهُ ظُهُورَهُمْ عَلَى أَصْحَابِ الْكَهْفِ حُجَّةً لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ {فَقَالُواْ ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} أَيْ سُدُّوا عَلَيْهِمْ بَابَ كَهْفِهِمْ، وَذَرُوهُمْ عَلَى حَالِهِمْ {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً} . حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي الْقَائِلِينَ ذَلِكَ قَوْلَيْنِ (أَحَدُهُمَا) : إِنَّهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ، و (الثاني) : أهل الشرك منهم، والله أعلم.(2/414)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
- 22 - سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي عِدَّةِ أَصْحَابِ الكهف، فحكى ثلاثة أقوال، ولما ضعف القولين الأولين (القائلون بالثلاثة: اليهود، والقائلون بالخمسة: النصارى، كما ذكره السُّدي) بِقَوْلِهِ {رَجْماً بِالْغَيْبِ} أَيْ قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ كَمَنْ يَرْمِي إِلَى مَكَانٍ لَا يَعْرِفُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُصِيبُ وَإِنْ أَصَابَ فَبِلَا قَصْدٍ. ثُمَّ حَكَى الثَّالِثَ وَسَكَتَ عَلَيْهِ أَوْ قَرَّرَهُ بِقَوْلِهِ {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ وَأَنَّهُ هُوَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَقَوْلُهُ: {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ الْأَحْسَنَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ رَدُّ الْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَا احْتِيَاجَ إِلَى الْخَوْضِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِلَا عِلْمٍ، لَكِنْ إِذَا أَطْلَعَنَا عَلَى أَمْرٍ قُلْنَا بِهِ وَإِلَّا وَقَفْنَا، وَقَوْلُهُ: {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} : أَيْ مِنَ الناس. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا مِنَ الْقَلِيلِ الَّذِي اسْتَثْنَى اللَّهُ عزَّ وجلَّ، كَانُوا سَبْعَةً. وَكَذَا روى ابن جرير عن عطاء أنه كان يقول: عدتهم سبعة. فكانوا لَيْلَهُمْ وَنَهَارَهُمْ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، يَبْكُونَ وَيَسْتَغِيثُونَ بالله. قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً} أَيْ سَهْلًا هَيِّنًا، فَإِنَّ الْأَمْرَ فِي معرفة ذلك لا يترتب عليه فائدة كَبِيرُ فَائِدَةٍ، {وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً} : أَيْ فَإِنَّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا مَا يَقُولُونَهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ، أَيْ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى كَلَامٍ مَعْصُومٍ، وَقَدْ جَاءَكَ اللَّهُ يَا مُحَمَّدُ بِالْحَقِّ الَّذِي لا شك فيه ولا مرية فيه، فَهُوَ الْمُقَدِّمُ الْحَاكِمُ عَلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمُهُ مِنَ الْكُتُبِ وَالْأَقْوَالِ.(2/414)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
- 23 - وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا
- 24 - إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً
هَذَا إِرْشَادٌ مِنَ اللَّهِ تعالى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْأَدَبِ فِيمَا إِذَا عَزَمَ عَلَى شَيْءٍ ليفعله في المستقبل أن يرد إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَأَطُوفُنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً - وَفِي رِوَايَةٍ مِائَةِ امْرَأَةٍ - تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقِيلَ لَهُ - وفي رواية قال لَهُ الْمَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ، فَطَافَ بِهِنَّ فَلَمْ يَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ دَرْكًا لِحَاجَتِهِ". وَفِي رِوَايَةٍ: «وَلَقَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ في قول(2/414)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: «غَدًا أُجِيبُكُمْ» ، فَتَأَخَّرَ الوحي خمسة عشر يوماً، وَقَوْلُهُ، {وَاذْكُرْ رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} : قِيلَ مَعْنَاهُ إِذَا نَسِيتَ الِاسْتِثْنَاءَ فَاسْتَثْنِ عِنْدَ ذِكْرِكَ لَهُ (قاله أبو العالية والحسن البصري) ، وقال ابن عباس في الرجل يحلف، لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ وَلَوْ إِلَى سَنَةٍ، وَكَانَ يقول {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} ذلك، وَمَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَسْتَثْنِي وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ أَيْ إِذَا نَسِيَ أَنْ يَقُولَ في حلفه أو في كَلَامِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَذَكَرَ وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ فَالسُّنَّةُ لَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِيَكُونَ آتِيًا بِسُنَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الحنث. قاله ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ، لا أن يكون رَافِعًا لِحِنْثِ الْيَمِينِ وَمُسْقِطًا لِلْكَفَّارَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِحَمْلِ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ {وَاذْكُرْ رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} : إذا غضبت. وقال الطبراني، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {وَاذْكُرْ رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} أَنْ تَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وروى الطبراني أيضاً عنه استثن إِذَا ذَكَرْتَ، وَقَالَ هِيَ خَاصَّةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَ إِلَّا فِي صِلَةٍ مِنْ يَمِينِهِ، وَيَحْتَمِلُ فِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يكون الله تعالى قَدْ أَرْشَدَ مَنْ نَسِيَ الشَّيْءَ فِي كَلَامِهِ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ النِّسْيَانَ مَنْشَؤُهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، كَمَا قَالَ فَتَى مُوسَى: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أذكره} وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، فَإِذَا ذَهَبَ الشيطان ذهب النسيان، فذكرُ الله تعالى سَبَبٌ لِلذِّكْرِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَاذْكُرْ رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} . وقوله: {وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} أَيْ إِذَا سُئِلْتَ عَنْ شَيْءٍ لا تعلمه فاسأل الله تعالى فِيهِ، وَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ فِي أَنْ يُوَفِّقَكَ لِلصَّوَابِ والرشد في ذلك.(2/415)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
- 25 - وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا
- 26 - قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا
هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمِقْدَارِ مَا لَبِثَ أَصْحَابُ الْكَهْفِ فِي كَهْفِهِمْ، مُنْذُ أرقدهم إلى أن بعثهم الله، أعثر عَلَيْهِمْ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَأَنَّهُ كَانَ مِقْدَارُهُ ثلثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية. وهي ثلثمائة سَنَةٍ بِالشَّمْسِيَّةِ، فَإِنَّ تَفَاوُتَ مَا بَيْنِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ بِالْقَمَرِيَّةِ إِلَى الشَّمْسِيَّةِ ثَلَاثُ سِنِينَ، فلهذا قال بعد الثلثمائة وَازْدَادُوا تِسْعًا، وَقَوْلُهُ: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} أَيْ إِذَا سُئِلْتَ عَنْ لَبْثِهِمْ وَلَيْسَ عندك علي في ذلك وتوقيف من الله تعالى فَلَا تَتَقَدَّمْ فِيهِ بِشَيْءٍ، بَلْ قُلْ فِي مِثْلِ هَذَا {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إلا هو، ومن أطلعه عليه من خلقه (هذا قول جمهور المفسرين مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين} أنه قَوْلُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ رَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بقوله: {الله أعلم بما لبثوا} ، والظاهر أنه إخبار من الله لا حكاية عنهم كما قال ابن جرير) . وَقَوْلُهُ: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} أَيْ إِنَّهُ لَبَصِيرٌ بِهِمْ سَمِيعٌ لَهُمْ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذَلِكَ فِي مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَدْحِ كَأَنَّهُ قِيلَ مَا أَبْصَرَهُ وَأَسْمَعَهُ، وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: مَا أَبْصَرَ اللَّهَ لِكُلِّ مَوْجُودٍ وَأَسْمَعَهُ لِكُلِّ مَسْمُوعٍ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. ثُمَّ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} : فَلَا أَحَدَ أَبْصَرُ مِنَ اللَّهِ وَلَا أَسْمَعُ.
وَقَوْلُهُ {مَا لَهُمْ(2/415)
مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي لَهُ الخلق والأمر لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَيْسَ لَهُ وَزِيرٌ وَلَا نَصِيرٌ، وَلَا شَرِيكٌ وَلَا مُشِيرٌ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ.(2/416)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
- 27 - وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً
- 28 - وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلَاوَةِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَإِبْلَاغِهِ إِلَى النَّاسِ، {لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ} أَيْ لَا مُغَيِّرَ لَهَا وَلَا محرف ولا مزيل، وقوله: {وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} قال مجاهد: {مُلْتَحَداً} مَلْجَأً، وَعَنْ قَتَادَةَ: وَلِيًّا وَلَا مَوْلًى، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَقُولُ إِنْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ لَمْ تَتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ، فَإِنَّهُ لَا مَلْجَأَ لَكَ مِنَ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رسالته} ، وَقَوْلُهُ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أَيْ اجْلِسْ مَعَ الذين يَذْكُرُونَ الله ويحمدونه وييسبحونه ويكبرونه بِكُرَةً وَعَشِيًّا، مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، سَوَاءً كَانُوا فقراء أو أغنياء، يُقَالُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ حِينَ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُمْ وَحْدَهُ، وَلَا يُجَالِسَهُمْ بِضُعَفَاءِ أَصْحَابِهِ، كَبِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ وَخَبَّابٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلْيُفْرِدْ أُولَئِكَ بِمَجْلِسٍ عَلَى حِدَةٍ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ والعشي} الْآيَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُصَبِّرَ نَفْسَهُ فِي الْجُلُوسِ مَعَ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ والعشي} الآية. عن سعد بن أَبِي وَقَاصٍّ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ نَفَرٍ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اطْرُدْ هَؤُلَاءِ لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا، قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلَالٌ وَرَجُلَانِ نَسِيتُ اسمهما، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ، فحدث نفسه فأنزل الله عزَّ وجلّ: َ {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (أخرجه مسلم في صحيحه) .
وعن أنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مَا مِنْ قَوْمٍ اجْتَمَعُوا يُذْكُرُونَ اللَّهَ لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إِلَّا وَجْهَهُ إِلَّا نَادَاهُمْ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ قُومُوا مَغْفُورًا لَكُمْ، قَدْ بدلت سيئاتكم حسنات» (أخرجه الإمام أحمد في المسند) . وقال الطبراني، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، قَالَ: نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَعْضِ أَبْيَاتِهِ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} الآية، فَخَرَجَ يَلْتَمِسُهُمْ فَوَجَدَ قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى، منهم ثائر الرأس وجاف الْجِلْدِ، وَذُو الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، فَلَمَّا رَآهُمْ جَلَسَ مَعَهُمْ، وَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم» ، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَا تُجَاوِزْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ يَعْنِي تَطْلُبُ بَدَلَهُمْ أَصْحَابَ الشَّرَفِ وَالثَّرْوَةِ، {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} أَيْ شُغِلَ عَنِ الدِّينِ وَعِبَادَةِ(2/416)
ربه بالدنيا، {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} أَيْ أَعْمَالُهُ وَأَفْعَالُهُ سَفَهٌ وَتَفْرِيطٌ وَضَيَاعٌ، وَلَا تَكُنْ مطيعاًَ لَهُ وَلَا مُحِبًّا لِطَرِيقَتِهِ، وَلَا تَغْبِطْهُ، بِمَا هُوَ فِيهِ، كما قال: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خير وأبقى} .(2/417)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
- 29 - وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قل يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ هَذَا الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ رَبِّكُمْ، هُوَ الْحَقُّ الذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} ، هَذَا مِنْ بَابِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّا أَعْتَدْنَا} أَيْ أَرْصَدْنَا {لِلظَّالِمِينَ} وَهُمُ الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ {نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} أي سورها، وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَسُرَادِقُ النَّارِ أَرْبَعَةُ جُدُرٍ، كَثَافَةُ كُلِّ جِدَارٍ مَسَافَةَ أَرْبَعِينَ سنة» (أخرجه أحمد والترمذي فِي صِفَةِ النَّارِ وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ) . وقال ابْنُ عَبَّاسٍ {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} قَالَ: حَائِطٌ من نار، وَقَوْلُهُ: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الوجوه} الآية، قال ابن عباس: المهل الماء الغليظ، مِثْلُ دُرْدِيِّ الزَّيْتِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ كَالدَّمِ وَالْقَيْحِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي انْتَهَى حره، وقال الضحّاك: ماء جهنم وَهِيَ سَوْدَاءُ وَأَهْلُهَا سُودٌ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا يَنْفِي الْآخَرَ، فَإِنَّ الْمُهْلَ يَجْمَعُ هَذِهِ الْأَوْصَافَ الرَّذِيلَةَ كُلَّهَا، فَهُوَ أَسْوَدُ مُنْتِنٌ غَلِيظٌ حَارٌّ، وَلِهَذَا قَالَ: {يَشْوِي الْوُجُوهَ} : أَيْ من حره، إذا الْكَافِرُ أَنْ يَشْرَبَهُ وَقَرَّبَهُ مِنْ وَجْهِهِ شَوَاهُ، حتى تسقط جلده وجهه فيه، كما جاء فِي الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَاءٍ كَالْمُهْلِ، قَالَ: كَعَكْرِ الزَّيْتِ فَإِذَا قَرَّبَهُ إِلَيْهِ سَقَطَتْ فَرْوَةُ وجهه فيه" (أخرجه أحمد والترمذي) . وعن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ {وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} قَالَ: "يُقَرَّبُ إِلَيْهِ فَيَتَكَرَّهُهُ، فَإِذَا قُرِّبَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ، وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ، فَإِذَا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب} " (أخرجه عبد الله بن المبارك عن أبي أمامة مرفوعاً) . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا جَاعَ أَهْلُ النار استغاثوا فأغيثوا بشجرة الزقزم، فيأكلون منها فاجتثت جُلُودَ وُجُوهِهِمْ، فَلَوْ أَنَّ مَارًّا مَرَّ بِهِمْ لَعَرَفَ جُلُودَ وُجُوهِهِمْ فِيهَا، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَيْهِمُ الْعَطَشَ فَيَسْتَغِيثُونَ فَيُغَاثُونَ بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ، وَهُوَ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ، فَإِذَا أَدْنَوْهُ مِنْ أَفْوَاهِهِمُ اشْتَوَى مِنْ حَرِّهِ لُحُومُ وُجُوهِهِمُ الَّتِي قَدْ سَقَطَتْ عَنْهَا الْجُلُودُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ وَصْفِهِ هَذَا الشَّرَابَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ الْقَبِيحَةِ {بِئْسَ الشَّرَابُ} أَيْ بِئْسَ هَذَا الشَّرَابُ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أمعاءهم} ، وقال تعالى: {تسقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أي حازة، كما قال تعالى: {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} {وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} أَيْ وَسَاءَتِ النَّارُ مَنْزِلًا وَمَقِيلًا وَمُجْتَمَعًا وَمَوْضِعًا لِلِارْتِفَاقِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الأخرى {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً ومقاما} .(2/417)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
- 30 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا
- 31 - أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي(2/417)
مِن تَحْتِهِمْ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْأَشْقِيَاءِ، ثَنى بِذِكْرِ السُّعَدَاءِ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ فِيمَا جَاءُوا بِهِ وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرُوهُمْ بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَلَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ، وَالْعَدْنُ الْإِقَامَةُ {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ الْأَنْهَارُ} أَيْ من تحت غرفهم ومنازلهم، قال فرعون {وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي} الآية. {يُحَلَّوْنَ} أَيْ مِنَ الْحِلْيَةِ {فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} وَقَالَ فِي الْمَكَانِ الْآخَرِ {وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} وفصّله ههنا فَقَالَ: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} فالسندس ثياب رقاق كَالْقُمْصَانِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا، وَأَمَّا الْإِسْتَبْرَقُ فَغَلِيظُ الدِّيبَاجِ، وَفِيهِ بَرِيقٌ. وَقَوْلُهُ: {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} الِاتِّكَاءُ قِيلَ: الِاضْطِجَاعُ، وَقِيلَ: التَّرَبُّعُ فِي الجلوس، وهو أسبه بالمراد ههنا - ومنه الحديث الصحيح: «أما أنا فلا آكل متكئاً» ، وَالْأَرَائِكُ جَمَعَ أَرِيكَةٍ وَهِيَ السَّرِيرُ تَحْتَ الْحَجَلَةِ، عَنْ قَتَادَةَ {عَلَى الْأَرَائِكِ} قَالَ: هِيَ الْحِجَالُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ، وَقَوْلُهُ {نِعْمَ الثواب وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} : أي الْجَنَّةُ ثَوَابًا عَلَى أَعْمَالِهِمْ، {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} أَيْ حَسُنَتْ مَنْزِلًا وَمَقِيلًا وَمَقَامًا،
كَمَا قَالَ فِي النار: {بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مرتفقا} ، وَهَكَذَا قَابَلَ بَيْنَهُمَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي قوله: {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً ومقاما} ، ثم ذكر صفات المؤمنين فقال: {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً ومقاما} .(2/418)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
- 32 - وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا
- 33 - كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً
- 34 - وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً
- 35 - وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا
- 36 - وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَبًا
يَقُولُ تعالى بعد ذكره الْمُشْرِكِينَ، الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْ مُجَالَسَةِ الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَافْتَخَرُوا عَلَيْهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَحْسَابِهِمْ، فَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا بِرَجُلَيْنِ، جَعَلَ اللَّهُ لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ، أَيْ بساتين من أعناب محفوفتين بالنخيل الْمُحْدِقَةِ فِي جَنْبَاتِهِمَا وَفِي خِلَالِهِمَا الزُّرُوعُ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَشْجَارِ وَالزُّرُوعِ مُثْمِرٌ مُقْبِلٌ فِي غَايَةِ الجودة (نقل السهيلي: عن محمد ابن الحسن المقري: اسم الخيَّر من الرجلين (تمليخا) واسم الآخر (فوطيس) وأنهما كانا شريكين، ثم اقتسما المال، فصار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فاشترى المؤمن منهما عبيداً بألف وأعتقهم، وبالألف الثانية ثياباً وكسا العراة، وبالألف الثالثة طعاماً وأطعم الجياع، وبني أيضاً مساجد، وفعل خيراً - وأما الآخر: فنكح بماله نساء ذات يسار، واشترى دواب وبقراً فاستنتجها فنمت له نماء مفرطاً، واتجر بباقيها فربح حتى فاق أهل زمانه غنى. وأدركت الأول الحاجة فأراد أن يستأجر نفسه في جنة يخدمها فقال: لو ذهبت إلى شريكي وصاحبي فسألته أن يستخدمني في بعض جناته رجوت أن يكون ذلك أصلح لي، فجاء فلم يكد يصل إليه من غلظ الحجاب فلما دخل عليه وعرفه سأله حاجته، قال: ألم أكن قاسمتك المال شطرين، فما صنعت بمالك؟ قال: اشتريت به من الله، ما هو خير وأبقى. قال: أئنك لمن المصدقين، ما أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً، وما أراك إلا سفيهاً، وما جزاؤك عندي على سفاهتك إلا الحرمان. أو ما ترى ما صنعت أنا بمالي حتى آل إلى ما تراه من الثروة وحسن المال؟ وذلك أني كسبت وسفهت أنت، أخرج عني. ثُمَّ كَانَ مِنَ قصة هذا الغني ما ذكره الله في القرآن من الإحاطة بثمرها وذهابها أصلاً. وفي عجائب الكرماني، قيل: كانا أخوين في بني إسرائيل، أحدهما مؤمن اسمه (تمليخا) وقيل: (يهوذا) ، والآخر كافر اسمه (نطروس) وهما المذكروان في سورة الصافات {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يقول أئنك لمن المصدقين} الآية) . ولهذا قال:(2/418)
{كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا} أي أخرجت ثمرها {وَلَمْ تَظْلِم مِنْهُ شَيْئاً} أي لم تَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئًا {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} أَيْ والأنهار متفرقة ههنا وههنا {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} قِيلَ، الْمُرَادُ بِهِ الْمَالُ، وقيل: الثمار، وهو أظهر ههنا، {فَقَالَ} أَيْ صَاحِبُ هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ {لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} أَيْ يُجَادِلُهُ وَيُخَاصِمُهُ، يَفْتَخِرُ عَلَيْهِ وَيَتَرَأَّسُ {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} أَيْ أَكْثَرُ خَدَمًا وَحَشَمًا وَوَلَدًا، قَالَ قَتَادَةُ: تِلْكَ وَاللَّهِ أُمْنِيَةُ الْفَاجِرِ، كَثْرَةُ الْمَالِ، وَعِزَّةُ النَّفَرِ. وَقَوْلُهُ: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} أَيْ بكفره وتمرده وَتَجَبُّرِهِ وَإِنْكَارِهِ الْمَعَادَ، {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} وَذَلِكَ اغْتِرَارٌ مِنْهُ، لَمَّا رَأَى فِيهَا مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ الْمُطَّرِدَةِ فِي جَوَانِبِهَا وَأَرْجَائِهَا ظَنَّ أَنَّهَا لَا تَفْنَى وَلَا تَفْرَغُ وَلَا تَهْلَكُ وَلَا تُتْلَفُ، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ عَقْلِهِ وَضَعْفِ يَقِينِهِ بِاللَّهِ وَإِعْجَابِهِ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَكُفْرِهِ بِالْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً} أَيْ كَائِنَةً، {وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} أي ولئن كان معاد ورجعة إِلَى اللَّهِ ليكوننَّ لِي هُنَاكَ أَحْسَنَ مِنْ هذا الحظ عِنْدَ رَبِّي، وَلَوْلَا كَرَامَتِي عَلَيْهِ مَا أَعْطَانِي هَذَا، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى} ، وَقَالَ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مالا وولدا} .(2/419)
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
- 37 - قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سواك رجلا
- 38 - لكن هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا
- 39 - وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا
- 40 - فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً
- 41 - أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا
يقول تعالى مخبراً عما أجابه به صَاحِبُهُ الْمُؤْمِنُ وَاعِظًا لَهُ وَزَاجِرًا عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالِاغْتِرَارِ: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ من تراب} ، وَهَذَا إِنْكَارٌ وَتَعْظِيمٌ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ جُحُودِ رَبِّهِ الَّذِي خَلَقَهُ، وَابْتَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مَنْ طِينٍ وَهُوَ آدَمُ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَاءٍ مَهِينٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} الآية، أَيْ كَيْفَ تَجْحَدُونَ رَبَّكُمْ، وَدَلَالَتُهُ عَلَيْكُمْ ظَاهِرَةٌ جلية، ولهذا قال المؤمن {لكنَّ هُوَ الله رَبِّي} : أي لكن لا أقول بمقالتك بل اعترف لله بالواحدنية والربوبية، {وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} أَيْ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ، لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ(2/419)
مِنكَ مالا وولدا} ، هذا تخضيض وَحَثٌّ عَلَى ذَلِكَ، أَيْ هَلَّا إِذَا أَعْجَبَتْكَ حِينَ دَخَلْتَهَا وَنَظَرْتَ إِلَيْهَا حَمِدْتَ اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكَ، وَأَعْطَاكَ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ مَا لَمْ يُعْطَهُ غَيْرُكَ، وَقُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضَ السَّلَفِ مَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِنْ حاله أو ماله أو ولده فَلْيَقُلْ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وقد روي فيه حديث مرفوع عَنْ أنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عبدٍ نِعْمَةً مِنْ أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَيَرَى فِيهِ آفة دون الموت (أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي) . وَكَانَ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلا بالله} ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: «أَلَّا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بالله» .؟
وقال أبو هريرة، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «يا أبا هريرة أَلَّا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ تحت العرش؟» قال، قلت: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، قَالَ: «أَنْ تَقُولَ لَا قوة إلا بالله» . قال أبو بلخ وَأَحْسَبُ أَنَّهُ قَالَ: «فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ أَسْلَمَ عبدي واستسلم» (أخرجه الإمام أحمد في المسند) . وقوله: {فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا} أَيْ على جنتك في الدينا الَّتِي ظَنَنْتَ أَنَّهَا لَا تَبِيدُ وَلَا تَفْنَى {حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: أَيْ عَذَابًا مِنَ السَّمَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَطَرٌ عَظِيمٌ مُزْعِجٌ، يُقْلِعُ زَرْعَهَا وَأَشْجَارَهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} ، أَيْ بَلْقَعًا تُرَابًا أَمْلَسَ، لَا يَثْبُتُ فِيهِ قَدَمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَالْجُرُزِ الَّذِي لَا يُنْبِتُ شَيْئًا، وَقَوْلُهُ: {أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً} أَيْ غَائِرًا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ ضِدُّ النَّابِعِ الَّذِي يُطْلَبُ وَجْهَ الْأَرْضِ. فَالْغَائِرُ يُطْلَبُ أَسْفَلَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} أي جار وسائح، وقال ههنا: {أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} ، وَالْغَوْرُ مَصْدَرٌ. بِمَعْنَى غَائِرٍ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
تَظَلُّ جِيَادُهُ نَوْحًا عَلَيْهِ * تُقَلِّدُهُ أَعِنَّتَهَا صُفُوفَا
بِمَعْنَى نَائِحَاتٍ عَلَيْهِ.(2/420)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
- 42 - وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يا ليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً
- 43 - وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً
- 44 - هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْبًا
يَقُولُ تَعَالَى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} بأمواله وبثماره مَا كَانَ يَحْذَرُ مِمَّا خَوَّفَهُ بِهِ الْمُؤْمِنُ، مِنْ إِرْسَالِ الْحُسْبَانِ عَلَى جَنَّتِهِ الَّتِي اغْتَرَّ بِهَا وَأَلْهَتْهُ عَنِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا} ، وَقَالَ قَتَادَةُ: يُصَفِّقُ كَفَّيْهِ مُتَأَسِّفًا مُتَلَهِّفًا عَلَى الْأَمْوَالِ التي أذهبها عليها، {وَيَقُولُ يا ليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ فِئَةٌ} أَيْ عَشِيرَةٌ أَوْ وَلَدٌ كَمَا افْتَخَرَ بِهِمْ وَاسْتَعَزَّ {يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً * هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق} أي المولاة لله، أي هنالك كل أحد مُؤْمِنٍ أَوْ كَافِرٍ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى مولاته وَالْخُضُوعِ لَهُ إِذَا وَقَعَ الْعَذَابُ، كَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا(2/420)
رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا به مشركين} . وَكَقَوْلِهِ إِخْبَارًا عَنْ فِرْعَوْنَ {حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَسَرَ الْوَاوَ مِنْ {الوِلاية} أَيْ هنالك الحكم لله الحق، كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ} الآية. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً} : أَيْ جَزَاءً {وَخَيْرٌ عُقْباً} أَيْ الْأَعْمَالُ الَّتِي تَكُونُ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ ثَوَابُهَا خَيْرٌ، وَعَاقِبَتُهَا حَمِيدَةٌ رَشِيدَةٌ، كُلُّهَا خَيْرٌ.(2/421)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
- 45 - وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا
- 46 - الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلًا
يَقُولُ تَعَالَى: {وَاضْرِبْ} يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ {مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فِي زَوَالِهَا وَفَنَائِهَا وَانْقِضَائِهَا، {كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} أَيْ مَا فِيهَا مِنَ الْحَبِّ، فَشَبَّ وَحَسُنَ، وَعَلَاهُ الزَّهْرُ وَالنَّوْرُ، وَالنُّضْرَةُ، ثُمَّ بَعْدَ هذا كله {أصبح هَشِيماً} يَابِسًا {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أَيْ تُفَرِّقُهُ وَتَطْرَحُهُ ذَاتَ
الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً} أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ وَهَذِهِ الْحَالِ، وَكَثِيرًا مَا يَضْرِبُ اللَّهُ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِهَذَا الْمَثَلِ كَمَا قال تعالى فِي سُورَةِ يُونُسَ: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض مما يأكل الناس والأنعام} الآية، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} الآية. وفي الحديث الصحيح: «الدنيا خضرة حلوة» . وَقَوْلُهُ: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} كَقَوْلِهِ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ والقناطير المقنطرة من الذهب} الآية. وَقَالَ تَعَالَى: {أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} : أَيْ الْإِقْبَالُ عَلَيْهِ وَالتَّفَرُّغُ لِعِبَادَتِهِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ اشْتِغَالِكُمْ بِهِمْ وَالْجَمْعِ لَهُمْ وَالشَّفَقَةِ الْمُفْرِطَةِ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وسعيد ابن جُبَيْرٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ: الصلوات الخمس. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَهَكَذَا سُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَنْ {الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} مَا هِيَ؟ فَقَالَ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لله، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. وروي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ (سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بَاللَّهِ) وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ عَنْ عُمَارَةَ قَالَ: سَأَلَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ الباقيات الصالحات، فقلت: الصلاة والصيام، فقال: لَمْ تُصِبْ، فَقُلْتُ: الزَّكَاةُ وَالْحَجُّ، فَقَالَ: لَمْ تصب، ولكهن الْكَلِمَاتُ الْخَمْسُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا حَوْلَ ولا قوة إلا بالله. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ هنّ الباقيات الصالحات» (أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة) . وفي الحديث: «أَمَّا إِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ(2/421)
يَكْذِبُونَ وَيَظْلِمُونَ فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَمَالَأَهُمْ عَلَى ظلمهم فليس مني ولست مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُمَالِئْهُمْ على ظلمهم فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، أَلَا وَإِنَّ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ والله أكبر من الباقيات الصالحات» (أخرجه الإمام أحمد في المسند) . وقال ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} قَالَ: هِيَ ذِكْرُ اللَّهِ، قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَتَبَارَكَ الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَالصِّيَامُ وَالصَّلَاةُ وَالْحَجُّ وَالصَّدَقَةُ وَالْعِتْقُ وَالْجِهَادُ وَالصِّلَةُ وَجَمِيعُ أَعْمَالِ الْحَسَنَاتِ، وَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ الَّتِي تبقى لأهلها في الجنة ما دامت السماوات والأرض، وعنه: هي الْكَلَامُ الطَّيِّبُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ كُلُّهَا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.(2/422)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
- 47 - وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا
- 48 - وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً
- 49 - وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا ويلتنا ما لهذا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَهْوَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً} : أَيْ تَذْهَبُ مِنْ أَمَاكِنِهَا وَتَزُولُ كَمَا قَالَ تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال قل يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} ، يذكر تَعَالَى إِنَّهُ تَذْهَبُ الْجِبَالُ وَتَتَسَاوَى الْمِهَادُ، وَتَبْقَى الْأَرْضُ قَاعًا صَفْصَفًا، أَيْ سَطْحًا مُسْتَوِيًا لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا أَمْتًا، أَيْ لَا وَادِيَ وَلَا جَبَلَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} أَيْ بَادِيَةً ظَاهِرَةً، لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ وَلَا مَكَانٌ يُوَارِي أَحَدًا، بَلِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ ضَاحُونَ لِرَبِّهِمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} : لا حجر فيها ولا غيابة، وقال قَتَادَةُ: لَا بِنَاءَ وَلَا شَجَرَ، وَقَوْلُهُ: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} أَيْ وَجَمَعْنَاهُمْ الْأَوَّلِينَ مِنْهُمْ وَالْآخَرِينَ، فَلَمْ نَتْرُكْ مِنْهُمْ أَحَدًا لَا صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا. كَمَا قَالَ: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} ، وَقَالَ: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} ، وَقَوْلُهُ: {وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَّاً} يُحْتَمَلُ أَنْ يكون المراد أم جَمِيعَ الْخَلَائِقِ يَقُومُونَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ صَفًّا واحداً، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ يَقُومُونَ صُفُوفًا صُفُوفًا، كَمَا قَالَ: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صفا صفا} ، وَقَوْلُهُ: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} هَذَا تَقْرِيعٌ لِلْمُنْكِرِينَ لِلْمَعَادِ، وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ عَلَى رؤوس الأشهاد، ولهذا قال تعالى مُخَاطِبًا لَهُمْ: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً} أَيْ مَا كَانَ ظَنُّكُمْ أَنَّ هَذَا وَاقِعٌ بِكُمْ، وَلَا أَنَّ هَذَا كَائِنٌ. وَقَوْلُهُ: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} أَيْ كِتَابُ الْأَعْمَالِ، الَّذِي فِيهِ الْجَلِيلُ وَالْحَقِيرُ، وَالْفَتِيلُ وَالْقِطْمِيرُ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} أَيْ مِنْ أَعْمَالِهِمُ السيئة، وأفعالهم القبيحة، {ويقولون يا ويلتنا} أَيْ يَا حَسْرَتَنَا وَوَيْلَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي أعمارنا، {ما لهذا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} أَيْ لَا يَتْرُكُ ذَنْبًا صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا وَلَا عَمَلًا(2/422)
وَإِنْ صَغُرَ، إِلَّا أَحْصَاهَا أَيْ ضَبَطَهَا وَحَفِظَهَا، وَقَوْلُهُ: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا} أَيْ مِنْ خير وشر، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} وفي الحديث: «يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ
اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بن فلان» (أخرجاه في الصحيحين) . وَقَوْلُهُ: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} أَيْ فَيَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي أَعْمَالِهِمْ جَمِيعًا وَلَا يَظْلِمُ أحداً من خلقه، بل يعفو ويصفح ويغفر وَيَرْحَمُ، وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ بِقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، وَيَمْلَأُ النَّارَ مِنَ الْكُفَّارِ وَأَصْحَابِ الْمَعَاصِي، ثُمَّ ينجي أصحاب المعاصي ويخلد فيها الكافرين، وَهُوَ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} الآية، وَقَالَ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً - إلى قوله - حَاسِبِينَ} والآيات في هذا كثيرة.
روى الإمام أحمد، عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: بَلَغَنِي حَدِيثٌ عن رجل سمعه من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا ثُمَّ شددت عليه رحلاً فَسِرْتُ عَلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الشَّامَ، فَإِذَا (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ) ، فَقُلْتُ لِلْبَوَّابِ: قُلْ لَهُ جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ، فَقَالَ: ابْنُ عبد الله؟ قلت: نَعَمْ، فَخَرَجَ يَطَأُ ثَوْبَهُ فَاعْتَنَقَنِي وَاعْتَنَقْتُهُ، فَقُلْتُ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَصَاصِ فَخَشِيتُ أَنْ تَمُوتَ أَوْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَهُ، فَقَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَحْشُرُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - أَوْ قَالَ الْعِبَادَ - عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا» . قُلْتُ: وَمَا بُهْمًا؟ قَالَ: "لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعْدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ من أهل الجنة حق حتى أقضيه مِنْهُ، وَلَا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلَهُ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ أهل النار حق حتى أقضيه مِنْهُ، حَتَّى اللَّطْمَةُ قَالَ: قُلْنَا، كَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عزَّ وجلَّ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا بهماً؟ قال: «بالحسنات والسيئات» (أخرجه الإمام أحمد في المسند) .(2/423)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
- 50 - وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً
يَقُولُ تَعَالَى منبهاً بني آدم على عدواة إِبْلِيسَ لَهُمْ وَلِأَبِيهِمْ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَمُقَرِّعًا لِمَنِ اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ} أَيْ لِجَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ {اسْجُدُوا لأَدَمََ} أَيْ سُجُودَ تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ وَتَعْظِيمٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} ، وَقَوْلِهِ: {فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} أَيْ خَانَهُ أَصْلُهُ، فَإِنَّهُ خُلِقَ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَأَصْلُ خَلْقِ الملائكةُ مِنْ نُورٍ، كما ثبت في صحيح مسلم: (خُلِقت الملائكةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ إِبْلِيسُ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لكم) (أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً) . ونبَّه تعالى ههنا على أنه من الجن،(2/423)
أي على إِنَّهُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ كَمَا قَالَ: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَا كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ، وَإِنَّهُ لَأَصْلُ الْجِنِّ. كَمَا أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصْلُ الْبَشَرِ (رواه ابن جرير بإسناد صحيح عنه) . وَقَوْلُهُ: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أَيْ فَخَرَجَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ فَإِنَّ الْفِسْقَ هُوَ الْخُرُوجُ، يُقَالُ فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ أَكْمَامِهَا، وَفَسَقَتِ الْفَأْرَةُ مِنْ جُحْرِهَا، إِذَا خَرَجَتْ مِنْهُ لِلْعَيْثِ وَالْفَسَادِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُقَرِّعًا وَمُوَبِّخًا لمت اتَّبَعَهُ وَأَطَاعَهُ {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي} أَيْ بَدَلًا عَنِّي، وَلِهَذَا قَالَ: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} ، وَهَذَا الْمَقَامُ كَقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا، وَمَصِيرِ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ فِي سُورَةِ يس: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ - إلى قوله - أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ} .(2/424)
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
- 51 - مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا
يَقُولُ تَعَالَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذْتُمُوهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي، عَبِيدٌ أَمْثَالُكُمْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا، وَلَا أَشْهَدْتُهُمْ خلق السماوات وَالْأَرْضِ، وَلَا كَانُوا إِذْ ذَاكَ مَوْجُودِينَ، يَقُولُ تَعَالَى: أَنَا الْمُسْتَقِلُّ بِخَلْقِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَمُدَبِّرُهَا ومقدرها وحدي، وليس مَعِي فِي ذَلِكَ شَرِيكٌ وَلَا وَزِيرٌ، وَلَا مشير ولا نظير، كما قال: {قُلْ ادعو الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظهير} ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} قَالَ مَالِكٌ: أَعْوَانًا.(2/424)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
- 52 - وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً
- 53 - وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يُخَاطِبُ به المشركين يوم القيامة، على رؤوس الْأَشْهَادِ تَقْرِيعًا لَهُمْ وَتَوْبِيخًا {نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أَيْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، ادْعُوهُمُ الْيَوْمَ يُنْقِذُونَكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا نرى مَعَكُمْ من شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ، وَقَوْلُهُ: {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} ، كَمَا قَالَ: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} الآية، وَقَالَ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يستجيب له} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} ، وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مهلكاً، وَقَالَ قَتَادَةُ: مَوْبِقًا وَادِيًا فِي جَهَنَّمَ. وَقَالَ ابن جرير، عن أنَس بن مالك في قوله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً} قَالَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: موبقاً: عداوة، والظاهر من السياق ههنا أَنَّهُ الْمَهْلَكُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَادِيًا فِي جهنم أو غيره، والمعنى إن الله تعالى بين أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا وُصُولَ لَهُمْ إِلَى آلِهَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَزْعُمُونَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا فِي الْآخِرَةِ، فَلَا خَلَاصَ لِأَحَدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى الْآخَرِ، بَلْ بَيْنَهُمَا مَهْلَكٌ وَهَوْلٌ عَظِيمٌ وَأَمْرٌ كَبِيرٌ، قال تعالى: {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ(2/424)
مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} ، وَقَوْلُهُ: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً} أَيْ إِنَّهُمْ لَمَّا عَايَنُوا جَهَنَّمَ حِينَ جِيءَ بِهَا تُقَادُ بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، فَإِذَا رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ تَحَقَّقُوا لَا مَحَالَةَ أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَعْجِيلِ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ لَهُمْ، فَإِنَّ تَوَقُّعَ الْعَذَابِ والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز، وقوله: {وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ طَرِيقٌ يَعْدِلُ بِهِمْ عَنْهَا، وَلَا بُدَّ لَهُمْ منها. قال ابن جرير، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْكَافِرَ ليرى جهنم فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعمائة سنة» .(2/425)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
- 54 - وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا
ويقول تَعَالَى: وَلَقَدْ بَيَّنَّا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ وَوَضَّحْنَا لَهُمُ الْأُمُورَ وَفَصَّلْنَاهَا، كَيْلَا يَضِلُّوا عَنِ الْحَقِّ، وَيَخْرُجُوا عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى، وَمَعَ هَذَا البيان وهذا الفرقان فإن الْإِنْسَانُ كَثِيرُ الْمُجَادَلَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ وَالْمُعَارَضَةِ لِلْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، إِلَّا مَنْ هَدَى اللَّهُ وَبَصَّرَهُ لِطَرِيقِ النَّجَاةِ. قال الإمام أحمد،
عن عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً، فَقَالَ: «أَلَا تُصَلِّيَانِ» ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مولٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَيَقُولُ: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جدلا} (أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد) .(2/425)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
- 55 - وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا
- 56 - وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَمَرُّدِ الْكَفَرَةِ في قديم الزمان وحديثه، وتكذبيهم بِالْحَقِّ الْبَيِّنِ الظَّاهِرِ مَعَ مَا يُشَاهِدُونَ مِنَ الآيات وَالدَّلَالَاتِ الْوَاضِحَاتِ، وَأَنَّهُ مَا مَنَعَهُمْ مِنَ اتِّبَاعِ ذَلِكَ إِلَّا طَلَبُهُمْ أَنْ يُشَاهِدُوا الْعَذَابَ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ عَيَانًا كَمَا قَالَ أُولَئِكَ لِنَبِيِّهِمْ: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} ، وَآخَرُونَ قَالُوا: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أليم} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: {إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} مِنْ غِشْيَانِهِمْ بِالْعَذَابِ، وَأَخْذِهِمْ عَنْ آخِرِهِمْ {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} أَيْ يَرَوْنَهُ عَيَانًا مواجهة ومقابلة، ثم قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} أَيْ مبشرين من صدقهم وآمن بهم، ومنذرين لمن كَذَّبَهُمْ وَخَالَفَهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْكَفَّارِ بِأَنَّهُمْ {يُجَادِلُونَ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ} أَيْ لِيُضْعِفُوا بِهِ الْحَقَّ، الَّذِي جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَاصِلٍ لَهُمْ، {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً} أَيْ اتَّخَذُوا الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ وَخَوَارِقَ الْعَادَاتِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا الرُّسُلُ، وَمَا أَنْذَرُوهُمْ وَخَوَّفُوهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، {هُزُواً} : أَيْ سَخِرُوا مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَشَدُّ التَّكْذِيبِ.(2/425)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
- 57 - وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا
- 58 - وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلًا
- 59 - وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً
يَقُولُ تَعَالَى: وَأَيُّ عِبَادِ اللَّهِ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا، أَيْ تَنَاسَاهَا وَأَعْرَضَ عَنْهَا وَلَمْ يَصْغَ لَهَا، وَلَا أَلْقَى إِلَيْهَا بَالًا {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أَيْ مِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ وَالْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ، {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} أَيْ قُلُوبِ هَؤُلَاءِ {أَكِنَّةً} أَيْ أَغْطِيَةً وَغِشَاوَةً، {أَن يَفْقَهُوهُ} أَيْ لِئَلَّا يَفْهَمُوا هَذَا الْقُرْآنَ وَالْبَيَانَ، {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} : أي صمماً معنوياً عَنِ الرَّشَادِ، {وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} ، وَقَوْلُهُ: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} : أَيْ رَبَّكَ يَا مُحَمَّدُ غَفُورٌ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ، {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} ، كَمَا قَالَ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} ، وَقَالَ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} والآيات في هذا كثيرة شتى، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَحْلُمُ وَيَسْتُرُ وَيَغْفِرُ وَرُبَّمَا هَدَى بَعْضَهُمْ مِنَ الْغَيِّ إِلَى الرَّشَادِ، وَمَنِ اسْتَمَرَّ مِنْهُمْ فَلَهُ يَوْمٌ يَشِيبُ فِيهِ الْوَلِيدُ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً} : أي ليس لهم عنه محيص ولا محيد، وَلَا مَعْدِلٌ، وَقَوْلُهُ: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} أَيْ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ وَالْقُرُونُ الْخَالِيَةُ أَهْلَكْنَاهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً} : أَيْ جعلناه إلى مدة معلومة ووقت مُعَيَّنٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، أَيْ وَكَذَلِكَ أنتم أيها المشركون احذروا أن يصبيكم مَا أَصَابَهُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أَشْرَفَ رَسُولٍ وَأَعْظَمَ نَبِيٍّ، وَلَسْتُمْ بِأَعَزَّ عَلَيْنَا مِنْهُمْ فَخَافُوا عَذَابِي ونذري.(2/426)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
- 60 - وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً
- 61 - فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا
- 62 - فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً
- 63 - قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا
- 64 - قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا
- 65 - فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً
سبب قول موسى لفتاه ووهو (يُوشَعُ بْنُ نُونٍ) هَذَا الْكَلَامَ، أَنَّهُ ذَكَرَ له عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يُحِطْ بِهِ مُوسَى فأحب الرحيل إليه، وقال لفتاه ذلك {لا أَبْرَحُ} : أي لا أزال سائراً {حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين} أي هَذَا الْمَكَانَ الَّذِي فِيهِ مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ، قَالَ قتادة وغير واحد: هما (بحر فارس) مما يلي(2/426)
المشرق و (بحر الرُّومِ) مِمَّا يَلِي الْمَغْرِبَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كعب: مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ عِنْدَ طَنْجَةَ، يَعْنِي فِي أَقْصَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} أَيْ وَلَوْ أَنِّي أَسِيرُ حُقُبًا مِنَ الزمان، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: الْحُقُبُ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَبْعُونَ خَرِيفًا، وقال ابن عباس {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} قال: دهراً، وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أُمِرَ بِحَمْلِ حُوتٍ مَمْلُوحٍ مَعَهُ وَقِيلَ لَهُ مَتَى فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّةَ، فَسَارَا حَتَّى بَلَغَا مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ، وَكَانَ فِي مِكْتَلٍ مَعَ يُوشَعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَطَفَرَ مِنَ الْمِكْتَلِ إِلَى الْبَحْرِ، فَاسْتَيْقَظَ يُوشَعُ عليه السلام وسقط الحوت في البحر فجعل يسير في الماء وَالْمَاءُ لَهُ مِثْلُ الطَّاقِ لَا يَلْتَئِمُ بَعْدَهُ، ولهذا قال تعالى: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً} أَيْ مِثْلَ السرب في الأرض، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَارَ أَثَرُهُ كَأَنَّهُ حَجَرٌ، وقال قتادة: سرب من البحر حَتَّى أَفْضَى إِلَى الْبَحْرِ، ثُمَّ سَلَكَ فِيهِ فجعل لا يسلك فيه طريقاً إلاّ صار مَاءً جَامِدًا، وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا جَاوَزَا} : أَيِ الْمَكَانَ الذي نسيا الحوت فيه، {قَالَ} مُوسَى {لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا} أي المكان الذي جاوزا فيه المكان {نَصَباً} أي تَعَبًا، {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ} أَيْ طَرِيقَهُ {فِي البحر عَجَباً قَالَ ذَلِكَ ما كنا نبغي} أي هذا هو الَّذِي نَطْلُبُ {فَارْتَدَّا} أَيْ رَجَعَا {عَلَى آثَارِهِمَا} أي طريقهما {قَصَصاً} أي يقصان آثار مَشْيِهِمَا، وَيَقْفُوَانِ أَثَرَهُمَا {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} ، وَهَذَا هُوَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا دلت الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
روى البخاري، عَنْ أُبي بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "إن موسى قاك خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قَالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، هُوَ أَعْلَمُ منك. قال موسى: يا رب كيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله بِمِكْتَلٍ فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ، فَأَخَذَ حوتاً فجعله بمكتل وانطلق معه فتاه يوشع بن نون عليه السلام، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فَنَامَا، وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ فَخَرَجَ مِنْهُ فسقط في البحر، فاتخذ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جِرْيَةَ الْمَاءِ، فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلَ الطَّاقِ. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} ، وَلَمْ يجد موسى النصب حتى جاوز الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، قَالَ لَهُ فَتَاهُ: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً} ، قَالَ فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا، وَلِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا، فَقَالَ: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} قَالَ، فَرَجَعَا يَقُصَّانِ أَثَرَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَقَالَ الْخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ؟ فقال: أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} يَا مُوسَى، إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مَنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تعلمه أنت، وأنت على علم من اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ. فَقَالَ مُوسَى: {سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} ، قَالَ لَهُ الْخَضِرُ: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} ، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير نوال، فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إِلَّا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: قَدْ حَمَلُونَا(2/427)
بِغَيْرِ نَوْلٍ فَعَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا! لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً؟ قَالَ: لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} . قَالَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله - فكانت الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا، قَالَ، وَجَاءَ عُصْفُورٌ، فوقع عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ، ثُمَّ خرجا من السفينة فبينما هم يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلَامًا يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه، فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} ، قَالَ وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنَ الْأُولَى، {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي، قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} أي مائلاً فَقَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ {فَأَقَامَهُ} فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَلَيْهِ صَبْرًا} "، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وودنا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا» . قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كان ابن عباس يقرأ: {وكان وراءهم مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا} ، وَكَانَ يَقْرَأُ: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} (أخرجه البخاري في صحيحه عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنهما) .
وروى الزهري: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ، فِي صَاحِبِ مُوسَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى، الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، فَهَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "بينما مُوسَى فِي مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: تَعْلَمُ مَكَانَ رَجُلٍ أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ: لَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ له: إذا فقدت الحوت فَارْجِعْ: فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، فَكَانَ مُوسَى يَتْبَعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، قَالَ مُوسَى {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} فَوَجَدَا عَبْدَنَا خَضِرًا، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كتابه.(2/428)
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
- 66 - قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا
- 67 - قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً
- 68 - وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا
- 69 - قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً - 70 - قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قِيلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِذَلِكَ الرَّجُلِ الْعَالِمِ، وَهُوَ الْخَضِرُ الَّذِي خَصَّهُ اللَّهُ بِعِلْمٍ لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ مُوسَى، كَمَّا أَنَّهُ أَعْطَى مُوسَى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يُعْطِهِ الْخَضِرَ. {قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ} سؤال تلطف لَا عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ وَالْإِجْبَارِ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سُؤَالُ الْمُتَعَلِّمِ مِنَ الْعَالِمِ، وَقَوْلُهُ {أَتَّبِعُكَ} أي أصحبك وأرافقك، {على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} أَيْ مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ شَيْئًا أَسْتَرْشِدُ بِهِ فِي أَمْرِي مِنْ عِلْمٍ نَافِعٍ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ، فَعِنْدَهَا(2/428)
{قَالَ} الْخَضِرُ لِمُوسَى {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} أي إنك لا تقدر على مصاحبتي لِمَا تَرَى مِنِّي مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُخَالِفُ شَرِيعَتَكَ، لِأَنِّي عَلَى عِلْمٍ مَنْ عِلْمِ اللَّهِ مَا عَلَّمَكَهُ اللَّهُ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مَنْ عِلْمِ اللَّهِ مَا عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ، فَكُلٌّ مِنَّا مُكَلَّفٌ بِأُمُورٍ مِنَ اللَّهِ دُونَ صَاحِبِهِ، وَأَنْتَ لَا تَقْدِرُ عَلَى صُحْبَتِي {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} فَأَنَا أَعْرِفُ أَنَّكَ سَتُنْكِرُ عليَّ مَا أَنْتَ مَعْذُورٌ فِيهِ، وَلَكِنْ مَا اطَّلَعَتْ عَلَى حِكْمَتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ الْبَاطِنَةِ، التي اطلعت أنا عليها دونك، {قَالَ} أي مُوسَى {سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً} أَيْ عَلَى مَا أَرَى مِنْ أُمُورِكَ، {وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً} أَيْ وَلَا أُخَالِفُكَ فِي شَيْءٍ، فعند ذلك شارطه الخضر عليه السلام {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ} أَيْ ابْتِدَاءً {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} أَيْ حَتَّى أَبْدَأَكَ أَنَا بِهِ، قَبْلَ أَنْ تسألني. عن ابن عباس قَالَ: سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ عزَّ وجلَّ فقال: أي رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الَّذِي يَذْكُرُنِي وَلَا يَنْسَانِي، قَالَ فَأَيُّ عِبَادِكَ أَقَضَى؟ قَالَ: الَّذِي يَقْضِي بِالْحَقِّ وَلَا يَتَّبِعُ الْهَوَى، قَالَ: أَيْ رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ؟ قَالَ: الَّذِي يَبْتَغِي عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ عَسَى أَنْ يُصِيبَ كَلِمَةً تَهْدِيهِ إِلَى هُدًى أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى، قَالَ، أَيْ رَبٍّ: هَلْ فِي أَرْضِكَ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، قال: فمن هو؟ قال: الخضر، قال: وأين أَطْلُبُهُ؟ قَالَ: عَلَى السَّاحِلِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ الَّتِي يَنْفَلِتُ عِنْدَهَا الْحُوتُ، قَالَ، فَخَرَجَ مُوسَى يَطْلُبُهُ حَتَّى كَانَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ وَانْتَهَى مُوسَى إِلَيْهِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، فَسَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على صاحبه، فقال له موسى: إني أحب أن أصحبك، قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُطِيقَ صُحْبَتِي. قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَإِنْ صَحِبْتَنِي {فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} ، قَالَ فَسَارَ بِهِ فِي الْبَحْرِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَجْمَعِ البحرين، وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَكَانٌ أَكْثَرُ مَاءً مِنْهُ، قَالَ، وَبَعَثَ اللَّهُ الْخُطَّافَ، فَجَعَلَ يَسْتَقِي مِنْهُ بِمِنْقَارِهِ، فَقَالَ لِمُوسَى: كَمْ تَرَى هَذَا الْخُطَّافَ رَزَأَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ؟ قَالَ: مَا أَقَلَّ مَا رَزَأَ، قَالَ: يَا مُوسَى فَإِنَّ عِلْمِي وَعِلْمَكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَقَدْرِ مَا اسْتَقَى هَذَا الْخُطَّافُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ، وَكَانَ مُوسَى قَدْ حَدَّثَ نَفْسَهُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْهُ أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ، فَمِنْ ثَمَّ أُمِرَ أَنْ يَأْتِيَ الْخَضِرَ، وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فِي خَرْقِ السَّفِينَةِ، وَقَتْلِ الْغُلَامِ، وَإِصْلَاحِ الْجِدَارِ، وَتَفْسِيرِهِ له ذلك (أخرجه ابن جرير عن ابن عباس) .(2/429)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
- 71 - فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَآ رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا
- 72 - قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً
- 73 - قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى وَصَاحِبِهِ وَهُوَ الْخَضِرُ، أَنَّهُمَا انطلقا لما توافقا واصطحبا، واشترط عليه أن لا يَسْأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ أَنْكَرَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَبْتَدِئُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بِشَرْحِهِ وَبَيَانِهِ، فَرَكِبَا فِي السَّفِينَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ كَيْفَ رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ، وَأَنَّهُمْ عَرَفُوا الْخَضِرَ، فحملوهما بغير نول، يعني أُجْرَةٍ تَكْرِمَةً لِلْخَضِرِ، فَلَمَّا اسْتَقَلَّتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فِي الْبَحْرِ وَلَجَّجَتْ، أَيْ دَخَلَتِ اللُّجَّةَ، قَامَ الْخَضِرُ فَخَرَقَهَا، وَاسْتَخْرَجَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِهَا، ثُمَّ رَقَعَهَا، فَلَمْ يَمْلِكْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ مُنْكِرًا عَلَيْهِ {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} وَهَذِهِ اللَّامُ لَامُ الْعَاقِبَةِ. لَا لَامُ التَّعْلِيلِ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ
{لَقَدْ جِئْتَ شيئا إمرا} قال مجاهد: منكرا، وَقَالَ قَتَادَةُ: عَجَبًا، فَعِنْدَهَا قَالَ لَهُ الْخَضِرُ مُذَكِّرًا بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الشَّرْطِ(2/429)
{أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} ، يَعْنِي وَهَذَا الصَّنِيعُ فَعَلْتُهُ قَصْدًا، وَهُوَ مِنَ الأمور التي اشترطت معك أن لا تُنْكِرَ عَلَيَّ فِيهَا، لِأَنَّكَ لَمْ تُحِطْ بِهَا خبراً، ولها دخل هُوَ مَصْلَحَةٌ وَلَمْ تَعْلَمْهُ أَنْتَ، {قَالَ} أَيْ مُوسَى {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} : أَيْ لَا تُضَيِّقُ عَلَيَّ ولا تشدد عَلَيَّ، وَلِهَذَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا» .(2/430)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)
- 74 - فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَآ لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً
- 75 - قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً
- 76 - قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا
يَقُولُ تَعَالَى {فَانْطَلَقَا} أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ {حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ} ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فِي قَرْيَةٍ مِّن الْقُرَى، وَأَنَّهُ عَمَدَ إِلَيْهِ من بينهم، وكان أحسنهم وأجملهم فقتله، وروي أنه اجتز رأسه، وقيل رضخه بحجر، وفي رواية اقتلعه بِيَدِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَمَّا شَاهَدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا أَنْكَرَهُ أَشَدَّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَبَادَرَ فَقَالَ {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً} : أَيْ صَغِيرَةً، لَمْ تعمل الحنث، ولا عملت إِثْمًا بَعْدُ، فَقَتَلْتَهُ {بِغَيْرِ نَفْسٍ} : أَيْ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ لِقَتْلِهِ {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} : أَيْ ظَاهِرَ النَّكَارَةِ {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} فَأَكَّدَ أَيْضًا فِي التِّذْكَارِ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ، فَلِهَذَا قَالَ لَهُ مُوسَى {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا} : أَيْ إِنِ اعْتَرَضْتُ عَلَيْكَ بِشَيْءٍ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ {فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَّدُنِّي عُذْراً} : أَيْ قَدْ أَعْذَرْتَ إِلَيَّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، قَالَ ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ، عَنْ أُبي بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا فَدَعَا لَهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: "رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى لَوْ لَبِثَ مَعَ صَاحِبِهِ لَأَبْصَرَ الْعَجَبَ، لكنه قَالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَّدُنِّي عُذْراً".(2/430)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
- 77 - فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً
- 78 - قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَلَيْهِ صَبْرًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمَا؛ إِنَّهُمَا {انْطَلَقَا} بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} ، روي عن ابن سيرين أنها الإيكة، وَفِي الْحَدِيثِ: «حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ لِئَامًا» أَيْ بُخَلَاءَ؛ {فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} إِسْنَادُ الْإِرَادَةِ ههنا إِلَى الْجِدَارِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ فِي الْمُحْدَثَاتِ بِمَعْنَى الْمَيْلِ؛ وَالِانْقِضَاضُ هُوَ السُّقُوطُ، وَقَوْلُهُ: {فَأَقَامَه} أَيْ فَرَدَّهُ إِلَى حَالَةِ الِاسْتِقَامَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَدَّهُ بِيَدَيْهِ وَدَعَمَهُ حَتَّى رَدَّ مَيْلَهُ، وَهَذَا خَارِقٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى لَهُ {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} أَيْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يُضَيِّفُونَا كان ينبغي أن لا تَعْمَلَ لَهُمْ مَجَّانًا {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} ، أَيْ لِأَنَّكَ شَرَطْتَ عِنْدَ قَتْلِ الْغُلَامِ أَنَّكَ إِنْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي، فَهُوَ فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ} أَيْ بِتَفْسِيرِ {مَا لَمْ تَسْتَطِع عَلَيْهِ صَبْرًا} .(2/430)
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
- 79 - أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا
هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى عليه السلام وما كان أنكر ظاهره، وقد أظهر الله الخضر عليه السلام على حكمة باطنة، فقال: إن السفينة إنما خرقتها لأعيبها، لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ} صالحة أي جيدة {غَصْباً} فأردت أن أعيبها لأرده عنها لعيبها، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها، وقد قيل إنهم أيتام، وروى ابن جريج، أن اسم ذلك الملك، (هدد ابن بدد) ، وهو مذكور في التوراة في ذرية العيص بن إسحاق.(2/431)
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
- 80 - وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْرًا
- 81 - فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً
عَنْ أُبي بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْغُلَامُ الَّذِي قَتَلَهُ الخضر طبع يوم طبع كافراً» (أخرجه ابن جرير عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} أَيْ يَحْمِلُهُمَا حُبُّهُ عَلَى متابعته الْكُفْرِ، قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ فَرِحَ بِهِ أَبَوَاهُ حِينَ وُلِدَ وَحَزِنَا عَلَيْهِ حِينَ قُتِلَ، وَلَوْ بقي لكان فِيهِ هَلَاكُهُمَا، فَلْيَرْضَ امْرُؤٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ فَإِنَّ قَضَاءَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِ فِيمَا يَكْرَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ قَضَائِهِ فِيمَا يُحِبُّ، وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ: «لا يقضي الله لمؤمن قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ» ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ، وقوله: {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} أَيْ وَلَدًا أَزْكَى مِنْ هَذَا، وهما أرحم به منه، وقال قتادة: أبر بوالديه، وَقِيلَ لَمَّا قَتَلَهُ الْخَضِرُ كَانَتْ أُمُّهُ حَامِلًا بغلام مسلم، قاله ابن جريج.(2/431)
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
- 82 - وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا
فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى إِطْلَاقِ الْقَرْيَةِ عَلَى الْمَدِينَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا {حَتَّى إِذَا أتيا أهل قرية} ، وقال ههنا: {فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ في المدينة} (قال السيهلي في الغلامين اليتيمين: هما أصرم وصريم ابنا كاشح، والأب الصالح الذي حفظ كنزهما من أجله كان بينهما وبينه سبعة آباء، وقيل عشرة، ولم يكونا ابنيه من صلبه فيما ذكر عن ابن عباس، وذكر السيوطي: أن اسم الملك (هدد بن ندد) واسم أبوي الغلام المقتول (أبرأ) وأمه (سهواً) وقد أبدلهما الله خيراً منه بجارية ولدت نبياً كان بعد موسى اسمه (شمعون)) ، كما قال تعالى: فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أخرجتك} {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} يَعْنِي مَكَّةَ وَالطَّائِفَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ هَذَا الجدار إنما أصلحته لِأَنَّهُ كَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ تحته كنز لهما. قال عكرمة: كان تحته مال مدفون لهما، وهو(2/431)
ظَاهِرُ السِّيَاقِ مِنَ الْآيَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنُ جرير رحمة الله، وقال ابن عباس: كان تحته كنز علم، وعن الحسن البصري أنه قَالَ: لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ مَكْتُوبٍ فِيهِ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، عَجِبْتُ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ يَعْرِفَ الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا كَيْفَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» (أخرجه ابن جرير في تفسيره عن الحسن البصري، وورد في حديث مرفوع رواه الحافظ البزار عن أبي ذر بمثله) ، وَذُكِرَ أَنَّهُمَا حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا، وَلَمْ يُذْكَرْ مِنْهُمَا صَلَاحٌ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَبِ الَّذِي حُفِظَا بِهِ سَبْعَةُ آبَاءٍ، وَكَانَ نَسَّاجًا، وَهَذَا الذي ذكر - وَإِنْ صَحَّ - لَا يُنَافِي قَوْلَ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ كَانَ مَالًا، لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ لَوْحًا من ذهب، وفيه مال جزيل أكثر، كَانَ مُودَعًا فِيهِ عِلْمٌ وَهُوَ حِكَمٌ وَمَوَاعِظُ والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ الصَّالِحَ يَحْفَظُ فِي ذُرِّيَّتِهِ، وَتَشْمَلُ بَرَكَةُ عِبَادَتِهِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِشَفَاعَتِهِ فِيهِمْ، وَرَفْعِ دَرَجَتِهِمْ إِلَى أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ لِتَقَرَّ
عَيْنُهُ بِهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، ووردت به السنّة، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاحاً، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ الْأَبُ السَّابِعُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كنزهما} ههنا أَسْنَدَ الْإِرَادَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ بُلُوغَهُمَا الْحُلُمَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ فِي الْغُلَامِ: {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً منه زكاة} وَقَالَ فِي السَّفِينَةِ: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} فَاللَّهُ أعلم. وقوله تعالى: {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} أَيْ هَذَا الَّذِي فَعَلْتُهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثلاثة إنما هو رَحْمَةِ اللَّهِ بِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ أَصْحَابِ السَّفِينَةِ، وَوَالِدَيِ الْغُلَامِ، وَوَلَدَيِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، لَكِنِّي أُمِرْتُ بِهِ وَوُقِفْتُ عَلَيْهِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِمَنْ قَالَ بِنُبُوَّةِ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ
مِن لَّدُنَّا علما} ، وَذَهَبَ كَثِيرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا بل كان ولياً، فالله أعلم. وحكي فِي كَوْنِهِ بَاقِيًا إِلَى الْآنِ ثُمَّ إِلَى يوم القيامة قولان، ومال النووي وابن الصلاح إلى بقائه، وَرَجَّحَ آخَرُونَ مِنَ الْمُحْدَثِينَ وَغَيْرِهِمْ خِلَافَ ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ} ، وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: «اللَّهُمَّ إِنَّ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ» ، وَبِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا حَضَرَ عِنْدَهُ وَلَا قَاتَلَ مَعَهُ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا لَكَانَ مِنْ أَتْبَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى جَمِيعِ
الثَّقْلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَقَدْ قَالَ: «لَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّيْنِ لَمَا وَسِعَهُمَا إِلَّا اتِّبَاعِي» ، وَأَخْبَرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ أَنَّهُ لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِلَى مِائَةِ سَنَةٍ مِنْ لَيْلَتِهِ تِلْكَ عَيْنٌ تَطْرِفُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ (أخرجه البخاري وأحمد ورواه أيضاً عبد الرزاق) .
وفي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا سُمِّي الْخَضِرُ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ من تحته خضراء» (الراجح قول أهل الحديث بموت الخضر للأدلة المذكورة) والمراد بالفروة ههنا الحشيش اليابس، وهو الهشيم من النبات، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ وَجْهُ الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} أَيْ هَذَا تَفْسِيرُ مَا ضِقْتَ بِهِ ذَرْعًا، وَلَمْ تَصْبِرْ حَتَّى أُخْبِرَكَ بِهِ ابْتِدَاءً، وَلَمَّا أَنْ فسره له بينه ووضحه وأزال المشكل قال: {تَسْطِع} وَقَبْلَ ذَلِكَ كَانَ الْإِشْكَالُ قَوِيًّا ثَقِيلًا، فَقَالَ: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} فَقَابَلَ الْأَثْقَلَ بِالْأَثْقَلِ، وَالْأَخَفَّ بِالْأَخَفِّ، كَمَا قال: {فَمَا(2/432)
اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} وَهُوَ الصُّعُودُ إِلَى أَعْلَاهُ {وَمَا استطاعوا له نقبا} وَهُوَ أَشَقُّ مِنْ ذَلِكَ، فَقَابَلَ كُلًّا بِمَا يُنَاسِبُهُ لَفْظًا وَمَعْنَى وَاللَّه أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا بَالُ فَتَى مُوسَى ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالسِّيَاقِ إِنَّمَا هُوَ قِصَّةُ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ، وَذِكْرُ مَا كَانَ بَيْنَهُمَا، وَفَتَى مُوسَى مَعَهُ تَبَعٌ، وَقَدْ صُرِّحَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا، أَنَّهُ (يُوشَعُ بْنُ نُونٍ) وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَلِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بعد موسى عليه السلام.(2/433)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
- 83 - وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا
- 84 - إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَيَسْأَلُونَكَ} يَا مُحَمَّدُ {عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} أَيْ عَنْ خَبَرِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ بَعَثَ كُفَّارُ مَكَّةَ إِلَى أهل الكتاب، يسألون منهم ما يمتحون بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ فِي الْأَرْضِ، وَعَنْ فتية ما يُدْرَى مَا صَنَعُوا، وَعَنِ الرُّوحِ، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الكهف. وقد ذكر الْأَزْرَقِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلُ مَا بَنَاهُ وَآمَنَ به، وتبعه، وكان وزيره الخضر عليه السلام، وقد ذكرنا طرفاً صالحاً مِنْ أَخْبَارِهِ فِي كِتَابِ (الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ) بِمَا فيه كفاية والحمد لله. وقال بعض أهل الكتاب: سمي ذا القرنين لِأَنَّهُ مَلِكَ الرُّومَ وَفَارِسَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَانَ فِي رَأْسِهِ شِبْهُ الْقَرْنَيْنِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عن أبي الطفيل: سُئِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ ذِي القرنين فقال: كان عبداً ناصحاً لله فناصحه، دعا قومه لله فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ فَمَاتَ، فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ، ويقال إنه سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ لِأَنَّهُ بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّمْسِ وَيَغْرُبُ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} أَيْ أَعْطَيْنَاهُ ملكاً عظيماً، ممكناً فيه مِنْ جَمِيعِ مَا يُؤْتَى الْمُلُوكُ مِنَ التَّمْكِينِ والجنود وآلات الحرب والحضارات، وَلِهَذَا مَلِكَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ مِنَ الْأَرْضِ، وَدَانَتْ لَهُ الْبِلَادُ وَخَضَعَتْ لَهُ مَلُّوكُ الْعِبَادِ، وَخَدَمَتْهُ الْأُمَمُ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ إنه إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قَرْنَيِ الشَّمْسِ مَشْرِقَهَا وَمَغْرِبَهَا، وَقَوْلُهُ: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} ، قال ابن عباس: يعني علماً (وبه قال مجاهد وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ والسُّدي وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وغيرهم) ، وقال قتادة: مَنَازِلَ الْأَرْضِ وَأَعْلَامَهَا، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زيد، تعليم الألسنة، قال: كَانَ لَا يَغْزُو قَوْمًا إِلَّا كَلَّمَهُمْ بِلِسَانِهِمْ، وعن حبيب بن حماد قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسَأَلَهُ رجُل عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، كَيْفَ بَلَغَ المشرق والمغرب؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ سَخَّرَ لَهُ السَّحَابَ وَقَدَّرَ له الأسباب وبسط له اليد (ذكره الضياء المقدسي عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ حماد) .(2/433)
فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
- 85 - فَأَتْبَعَ سَبَبًا
- 86 - حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قلنا يا ذا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً
- 87 - قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ(2/433)
عَذَاباً نُكْرًا
- 88 - وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {فَأَتْبَعَ سَبَباً} : يَعْنِي بِالسَّبَبِ الْمُنَزَّلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ {فَأَتْبَعَ سَبَباً} : مُنَزَّلًا وطريقاً ما بين المشرق والمغرب، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ أَتْبَعَ مَنَازِلَ الْأَرْضِ وَمَعَالِمَهَا. وقال سعيد بن جبير: علماً، وَقَالَ مَطَرٌ: مَعَالِمُ وَآثَارٌ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} أَيْ فَسَلَكَ طَرِيقًا حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَقْصَى مَا يَسْلُكُ فِيهِ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَغْرِبِ وَهُوَ مَغْرِبُ الْأَرْضِ، وَأَمَّا الْوُصُولُ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ مِنَ السَّمَاءِ فَمُتَعَذِّرٌ، وَمَا يَذْكُرُهُ أَصْحَابُ الْقِصَصِ وَالْأَخْبَارِ مِنْ أَنَّهُ سَارَ فِي الْأَرْضِ مُدَّةً وَالشَّمْسُ تَغْرُبُ مِنْ وَرَائِهِ، فَشَيْءٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَأَكْثَرُ ذَلِكَ مِنْ خُرَافَاتِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاخْتِلَاقِ زَنَادِقَتِهِمْ وَكَذِبِهِمْ، وَقَوْلُهُ {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} : أَيْ رَأَى الشَّمْسَ فِي مَنْظَرِهِ تَغْرُبُ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مَنِ انْتَهَى إِلَى سَاحِلِهِ، يَرَاهَا كَأَنَّهَا تغرب فيه، وَالْحَمِئَةُ مُشْتَقَّةٌ عَلَى إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ مِنْ الْحَمْأَةِ وَهُوَ الطِّينُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} : أي من طِينٍ أَمْلَسَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَقَالَ ابْنُ جرير: كان ابن عباس يقول {فِي عَيْنٍ حمأة} ثُمَّ فَسَّرَهَا ذَاتُ حَمْأَةٍ، قَالَ نَافِعٌ: وَسُئِلَ عَنْهَا كَعْبُ الْأَحْبَارِ فَقَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِالْقُرْآنِ مني لكني أَجِدُهَا فِي الْكِتَابِ تَغِيبُ فِي طِينَةٍ سَوْدَاءَ. وبه قال مجاهد وغير واحد. وعن أُبي بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُ حَمِئَةٍ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَدَهَا تَغْرُبَ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ يَعْنِي حَارَّةً. وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَأَيَّهُمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَهُوَ مُصِيبٌ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مَعْنَيَيْهِمَا إِذْ قَدْ تَكُونُ حَارَّةً لِمُجَاوَرَتِهَا وَهْجِ الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا وَمُلَاقَاتِهَا الشعاع بلا حائل، وحمئة فِي مَاءٍ وَطِينٍ أَسْوَدَ كَمَا قَالَ كَعْبُ الأحبار وغيره.
وقوله تعالى: {وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً} : أَيْ أُمّة مِنَ الْأُمَمِ، ذَكَرُوا أَنَّهَا كَانَتْ أُمَّةً عَظِيمَةً مِنْ بَنِي آدم (قال السهيلي: هم أهل جابرص، ويقال لها بالسريانية: جرجيا يسكنها قوم من نسل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح) ، وقوله: {قلنا يا ذا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} مَعْنَى هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مكَّنه مِنْهُمْ، وحكَّمه فِيهِمْ وَأَظْفَرَهُ بِهِمْ، وَخَيَّرَهُ إِنْ شَاءَ قَتَلَ وَسَبَى، وَإِنْ شَاءَ منَّ أَوْ فَدَى، فَعُرِفَ عَدْلُهُ وَإِيمَانُهُ، فِيمَا أَبْدَاهُ عَدْلَهُ وَبَيَانَهُ فِي قَوْلِهِ: {أَمَّا مَن ظَلَمَ} أي اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَشِرْكِهِ بِرَبِّهِ {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} ، قَالَ قَتَادَةُ: بِالْقَتْلِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ يَحْمِي لهم النُّحَاسِ وَيَضَعُهُمْ فِيهَا حَتَّى يَذُوبُوا. وَقَالَ وَهْبُ ابن منبه: كان يسلط الظلمة فتدخل بيوتهم، وَتَغْشَاهُمْ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} أي شديداً بلغياً وجيعاً أليماً، وفي هذا إثبات المعاد والجزاء. وَقَوْلُهُ: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ} أَيْ تَابَعَنَا عَلَى مَا نَدْعُوهُ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عِندَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} قَالَ مُجَاهِدٌ: معروفاً.(2/434)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
- 89 - ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً
- 90 - حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً
- 91 - كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً(2/434)
يقول تعالى: ثُمَّ سَلَكَ طَرِيقًا فَسَارَ مِنْ مَغْرِبِ الشَّمْسِ إِلَى مَطْلَعِهَا، وَكَانَ كُلَّمَا مَرَّ بأُمّة قَهَرَهُمْ وَغَلَبَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فَإِنْ أَطَاعُوهُ وَإِلَّا أَذَلَّهُمْ وَأَرْغَمَ آنَافَهُمْ وَاسْتَبَاحَ أَمْوَالَهُمْ وأمتعتهم، واستخدم من كل أمة ما تستعين به جيوشه على قتال الْإِقْلِيمِ الْمُتَاخِمِ لَهُمْ. وَذُكِرَ فِي أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ عَاشَ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةِ سَنَةٍ يَجُوبُ الْأَرْضَ، طُولَهَا وَالْعَرْضَ، حَتَّى بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ، وَلَمَّا انْتَهَى إِلَى مَطْلَعِ الشَّمْسِ مِنَ الْأَرْضِ كما قال تَعَالَى: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ} أَيْ أُمَّةٍ {لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ بِنَاءٌ يُكِنَّهُمْ، وَلَا أَشْجَارٌ تُظِلُّهُمْ وَتَسْتُرُهُمْ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانُوا حُمْرًا قِصَارًا مَسَاكِنُهُمُ الْغِيرَانُ، أَكْثَرُ معيشتهم من السمك. وقال الحسن في قوله الله تَعَالَى: {لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} قَالَ: إِنَّ أَرْضَهُمْ لَا تَحْمِلُ الْبِنَاءَ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ تَغَوَّرُوا فِي الْمِيَاهِ، فَإِذَا غَرَبَتْ خرجوا يتراعون كما ترعى البهائم (أخرجه أبو داود الطيالسي عن الحسن البصري) ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ بِأَرْضٍ لَا تُنْبِتُ لَهُمْ شَيْئًا، فَهُمْ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ دَخَلُوا فِي أَسْرَابٍ، حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم. وقال ابن جرير: لَمْ يَبْنُوا فِيهَا بِنَاءً قَطُّ وَلَمْ يُبْنَ عَلَيْهِمْ فِيهَا بِنَاءٌ قَطُّ، كَانُوا إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ دَخَلُوا أَسْرَابًا لَهُمْ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، أَوْ دَخَلُوا الْبَحْرَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَرْضَهُمْ لَيْسَ فيها جبل. وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: عِلْمًا، أَيْ نَحْنُ مُطَّلِعُونَ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، وَأَحْوَالِ جَيْشِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِنْ تَفَرَّقَتْ أُمَمُهُمْ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى {لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} .(2/435)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
- 92 - ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً
- 93 - حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا
- 94 - قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا
- 95 - قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً
- 96 - آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} أَيْ ثُمَّ سَلَكَ طَرِيقًا مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَهُمَا جَبَلَانِ مُتَنَاوِحَانِ بَيْنَهُمَا ثَغْرَةٌ، يَخْرُجُ مِنْهَا يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ عَلَى بلاد الترك، فيعيثون فيها فَسَادًا وَيُهْلِكُونَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ مِنْ سُلَالَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا آدَمُ، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: ابعث بعث فِي النَّارِ، فَيَقُولُ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ، وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ، فحينئذٍ يَشِيبُ الصَّغِيرُ وَتَضَعُ كل ذات حمل حملها، فقال: إِنَّ فِيكُمْ أُمَّتَيْنِ مَا كَانَتَا فِي شَيْءٍ إلا كثّرتاه، يأجوج ومأجوج" (أخرجه البخاري ومسلم) . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: "وَلَدَ نُوحٌ ثَلَاثَةً: سَامٌ أَبُو الْعَرَبِ، وَحَامٌ أَبُو السُّودَانِ، وَيَافِثُ أَبُو التُّرْكِ"، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَؤُلَاءِ مِنْ نَسْلِ يَافِثَ أَبِي التُّرْكِ، وقال، إنما سمي هَؤُلَاءِ تُرْكًا لِأَنَّهُمْ تُرِكُوا مِنْ وَرَاءِ السَّدِّ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَإِلَّا فَهُمْ أَقْرِبَاءُ أُولَئِكَ، وَلَكِنْ كَانَ فِي أُولَئِكَ بَغْيٌ وَفَسَادٌ وَجَرَاءَةٌ، وقد ذكر ابن جرير ههنا عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَثَرًا طَوِيلًا عَجِيبًا في(2/435)
سَيْرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَبِنَائِهِ السَّدَّ وَكَيْفِيَّةِ مَا جَرَى لَهُ، وَفِيهِ طُولٌ وَغَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌ فِي أَشْكَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَطُولِهِمْ وَقِصَرِ بَعْضِهِمْ وَآذَانِهِمْ. وَرَوَى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك أحاديث غريبة لا تصح أسانيدها، والله أعلم.
وقوله تعالى {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} أَيْ لِاسْتِعْجَامِ كَلَامِهِمْ، وَبُعْدِهِمْ عَنِ النَّاسِ، {قَالُواْ يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَجْراً عَظِيماً، يَعْنِي أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا لَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ مَالًا يُعْطُونَهُ إِيَّاهُ حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ سَدًا، فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ بِعِفَّةٍ وَدِيَانَةٍ وَصَلَاحٍ وَقَصْدٍ لِلْخَيْرِ {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} أَيْ إِنَّ الَّذِي أَعْطَانِي اللَّهُ مِنَ الْمُلْكِ وَالتَّمْكِينِ خيرٌ لِي مِنَ الَّذِي تَجْمَعُونَهُ، كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} الآية. وَهَكَذَا قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ، الَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي تَبْذُلُونَهُ، وَلَكِنْ سَاعِدُونِي بِقُوَّةٍ، أَيْ بِعَمَلِكُمْ وَآلَاتِ الْبِنَاءِ {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} وَالزُّبَرُ، جَمْعُ (زُبْرَةٍ) وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنْهُ (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ) وَهِيَ كَاللَّبِنَةِ يُقَالُ كُلُّ لَبِنَةٍ زِنَةُ قِنْطَارٍ بِالدِّمَشْقِيِّ أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهِ {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} أَيْ وَضَعَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الْأَسَاسِ، حَتَّى إِذَا حَاذَى بِهِ رؤوس الجبلين طولاً وعرضاً (قال السيوطي عن الضحّاك: هما من قبل أرمينية وآذربيجان أخرجه ابن أبي حاتم) {قَالَ انْفُخُوا} أَيْ أَجَّجَ عَلَيْهِ النَّارَ، حَتَّى إذا صَارَ كُلُّهُ نَارًا {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} قال ابن عباس والسدي: هو النحاس (وهو قول مجاهد وعكرمة والضحّاك وقتادة) ، زاد بَعْضُهُمْ الْمُذَابُ، وَيَسْتَشْهِدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَأَيْتَ سَدَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. قَالَ: «انْعَتْهُ لِي» ، قَالَ كَالْبُرْدِ الْمُحَبَّرِ، طَرِيقَةٌ سَوْدَاءُ، وَطَرِيقَةٌ حَمْرَاءُ، قَالَ: «قَدْ رأيته» (أخرجه ابن جرير وهو حَدِيثٌ مُرْسَلٌ) ، وَقَدْ بَعَثَ الْخَلِيفَةُ الْوَاثِقُ فِي دولته بعض امرائه وجهز مَعَهُ جَيْشًا سِرِّيَّةً لِيَنْظُرُوا إِلَى السَّدِّ وَيُعَايِنُوهُ وينعتونه لَهُ إِذَا رَجَعُوا، فَتَوَصَّلُوا مِنْ بِلَادٍ إِلَى بِلَادٍ،
وَمِنْ مُلْكٍ إِلَى مُلْكٍ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَيْهِ، وَرَأَوْا بِنَاءَهُ مِنَ الْحَدِيدِ وَمِنَ النُّحَاسِ، وذكروا أنهم رأوا فيه باباً عظيمة، وَعَلَيْهِ أَقْفَالٌ عَظِيمَةٌ، وَرَأَوْا بَقِيَّةَ اللَّبَنِ وَالْعَمَلِ فِي بُرْجٍ هُنَاكَ، وَأَنَّ عِنْدَهُ حَرَسًا مِنَ الملوك المتاخمة له، وأنه عال منيف شَاهِقٌ، لَا يُسْتَطَاعُ، وَلَا مَا حَوْلَهُ مِنَ الْجِبَالِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ وَكَانَتْ غَيْبَتُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَشَاهَدُوا أَهْوَالًا وَعَجَائِبَ، ثُمَّ قال تعالى:(2/436)
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
- 97 - فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا
- 98 - قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا
- 99 - وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، أَنَّهُمْ مَا قدروا على أن يصعدوا من فَوْقَ هَذَا السَّدِّ، وَلَا قَدَرُوا عَلَى نَقْبِهِ مِنْ أَسْفَلِهِ، وَلَمَّا كَانَ الظُّهُورُ عَلَيْهِ أَسْهَلَ مِنْ نَقْبِهِ قَابَلَ كُلًّا بِمَا يُنَاسِبُهُ، فَقَالَ: {فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً} ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى نَقْبِهِ وَلَا عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، فَأُمَّا الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ(2/436)
أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَيَحْفِرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ، قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ، ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا، فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ كَأَشَدِّ مَا كَانَ، حَتَّى إِذَا بَلَّغَتْ مُدَّتُهُمْ وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ، حَفَرُوا حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ: ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فستثني فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ، وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ حِينَ تَرَكُوهُ فَيَحْفِرُونَهُ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ فَيُنَشِّفُونَ الْمِيَاهَ وَيَتَحَصَّنُ النَّاسُ مِنْهُمْ فِي حُصُونِهِمْ، فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، فترجع وعليها كهيئة الدَّمِ فَيَقُولُونَ قَهَرْنَا أَهْلَ الْأَرْضِ وَعَلَوْنَا أَهْلَ السماء، فيبعث الله عليهم نغفاً في رقابهم فَيَقْتُلُهُمْ بِهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفس محمد بِيَدِهِ إِنَّ دَوَابَّ الْأَرْضِ لَتَسْمَنُ وتَشْكر شُكْرًا من لحومهم ودمائهم» (وأخرجه ابن ماجه أيضاً والترمذي، وقال الترمذي: إسناده جيد قوي، واختار ابن كثير أن يكون موقوفاً) ، ففي رَفْعِهِ نَكَارَةٌ، لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ ارْتِقَائِهِ وَلَا مِنْ نَقْبِهِ لإحكام بنائه وصلابته، وشدته ويؤيد مَا قُلْنَاهُ، مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ نقبه، وَمِنْ نَكَارَةِ هَذَا الْمَرْفُوعِ، قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَوْمِهِ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ وَهُوَ يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بأصبعيه السبابة والإبهام» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث» .
{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} أَيْ لَمَّا بَنَاهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} ، أَيْ بِالنَّاسِ حَيْثُ جَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ حَائِلًا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْعَيْثِ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي} أَيْ إِذَا اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ {جَعَلَهُ دَكَّآءَ} أَيْ سَاوَاهُ بِالْأَرْضِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: نَاقَةٌ دَكَّاءُ إِذَا كَانَ ظَهْرُهَا مُسْتَوِيًا لَا سَنَامَ لَهَا، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} أَيْ مُسَاوِيًا لِلْأَرْضِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ} قَالَ: طَرِيقًا كَمَا كَانَ، {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} أَيْ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ. وَقَوْلُهُ: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ} أَيِ النَّاسَ {يَوْمَئِذٍ} أَيْ يَوْمَ يُدَكُّ هَذَا السَّدُّ وَيَخْرُجُ هَؤُلَاءِ فَيَمُوجُونَ فِي النَّاسِ، وَيُفْسِدُونَ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ، وَيُتْلِفُونَ أَشْيَاءَهُمْ، وَهَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ، فِي قَوْلِهِ: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قَالَ: ذَاكَ حِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ، وَهَذَا كُلُّهُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَبَعْدَ الدجال، كما سيأتي بيانه عِنْدَ قَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} الْآيَةَ. وهكذا قال ههنا، {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قَالَ: هَذَا أَوَّلُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} ، قال: إذا ماج الجن والإنس يوم القيامة يختلط الإنس والجن، وَقَوْلُهُ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} ، وَالصُّورُ كَمَا جَاءَ في الحديث، قون يُنْفَخُ فِيهِ، وَالَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ السلام، وفي الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ، وَاسْتَمَعَ مَتَى يُؤْمَرُ» ، قَالُوا: كَيْفَ نَقُولُ؟ قَالَ: «قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا» ، وَقَوْلُهُ: {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} أَيْ أَحْضَرْنَا الْجَمِيعَ لِلْحِسَابِ {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} ، {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ منهم أحدا} .(2/437)
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
- 100 - وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا
- 101 - الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا
- 102 - أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَآءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يَفْعَلُهُ بِالْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْهِمْ جَهَنَّمَ، أَيْ يُبْرِزُهَا لَهُمْ وَيُظْهَرُهَا لِيَرَوْا مَا فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ قَبْلَ دُخُولِهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ أبلغ في تعجيل الهم والجزن لَهُمْ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُقَادُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ ملك» (أخرجه مسلم عن ابن مسعود) ، ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُمْ {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي} أي تغافلوا وتعاموا عَنْ قَبُولِ الْهُدَى وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} ، وقال ههنا {وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} أَيْ لَا يَعْقِلُونَ عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، ثُمَّ قَالَ: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَآءَ} أَيِ اعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ يَصِحُّ لَهُمْ ذَلِكَ وينتفعون به {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} ولهذا أخبر الله تعالى أَنَّهُ قَدْ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ منزلاً.(2/438)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
- 103 - قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا
- 104 - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا
- 105 - أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً
- 106 - ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا
عَنْ مُصْعَبٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي، يَعْنِي سَعْدَ بن أبي وقاص، عن قول الله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} أَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ؟ قَالَ: لَا، هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَمَّا الْيَهُودُ فَكَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا النصارى فكفروا بِالْجَنَّةِ وَقَالُوا: لَا طَعَامَ فِيهَا وَلَا شَرَابَ، وَالْحَرُورِيَّةُ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ، فكان سعد رضي الله عنه يسميهم بالفاسقين (أخرجه البخاري في صحيحه في باب التفسير) ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُمُ الْحَرُورِيَّةُ، وَمَعْنَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ تَشْمَلُ الْحَرُورِيَّةَ كَمَا تَشْمَلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَغَيْرَهُمْ، لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَةٍ مَرْضِيَّةٍ يَحْسَبُ أَنَّهُ مُصِيبٌ فِيهَا، وَأَنَّ عَمَلَهُ مَقْبُولٌ، وَهُوَ مُخْطِئٌ وعمله مردود، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} ، وقال تعالى: {والذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يجده شيئا} ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم} أَيْ نُخْبِرُكُمْ {بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} ، ثُمَّ فَسَّرَهُمْ فَقَالَ: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ عَمِلُوا أَعْمَالًا بَاطِلَةً عَلَى غَيْرِ شَرِيعَةٍ مَشْرُوعَةٍ مَرْضِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} أَيْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَأَنَّهُمْ مَقْبُولُونَ مَحْبُوبُونَ، وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} :(2/438)
أي جحدوا آيات الله في الدينا، وَبَرَاهِينَهُ الَّتِي أَقَامَ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ وَكَذَّبُوا بِالدَّارِ الْآخِرَةِ، {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} أَيْ لَا نُثْقِلُ مَوَازِينَهُمْ لِأَنَّهَا خالية عن الخير، روى الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يزن عند الله جناح بعوضة - وقال - اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} » ، وقال ابن أبي حاتم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْأَكُولِ الشَّرُوبِ الْعَظِيمِ فَيُوزَنُ بِحَبَّةٍ فلا يزنها» ، قال قَرَأَ {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} ، عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَخْطُرُ فِي حُلَّةٍ لَهُ، فَلَمَّا قَامَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا بُرَيْدَةُ هذا ممن لا يقيم الله لَهُمْ يَوْمَ القيامة وزنا» (أخرجه الحافظ البزار) ، وعن كَعْبٍ قَالَ: يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِرَجُلٍ عَظِيمٍ طَوِيلٍ فَلَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، اقرأوا: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} (أخرجه ابن جرير في تفسيره) . وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ} أَيْ إنما جازيناهم بهذا الجزاء بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَاتِّخَاذِهِمْ آيَاتِ اللَّهِ وَرُسُلَهُ هُزُوًا استهزأوا بِهِمْ وَكَذَّبُوهُمْ أَشَدَّ التَّكْذِيبِ.(2/439)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
- 107 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا
- 108 - خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عِبَادِهِ السُّعَدَاءِ، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به، أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ الفردوس، قال مجاهد: هو البستان بالرومية، وقال الضحاك: هُوَ الْبُسْتَانُ الَّذِي فِيهِ شَجَرُ الْأَعْنَابِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُهَا وَأَفْضَلُهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْفِرْدَوْسُ ربوة الجنة أوسطها وأحسنها» (أخرجه ابن جرير عن سمرة مرفوعاً) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تفجَّر أَنْهَارُ الجنة» ، وقوله تعالى: {نُزُلاً} أي ضيافة فإن النزل الضِّيَافَةُ، وَقَوْلُهُ: {خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ مُقِيمِينَ سَاكِنِينَ فِيهَا، لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا أَبَدًا، {لَا يَبْغُونَ عنها حِوَلاً} اي لا يختارون عنها غَيْرَهَا، وَلَا يُحِبُّونَ سِوَاهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَحَلَّتْ سُوَيْدَا القَلْبِ لَا أنَا بَاغيًا * سِوَاهَا، ولا عن حبها أتحول.
وفي قوله تعالى: {لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} تَنْبِيهٌ عَلَى رَغْبَتِهِمْ فِيهَا وَحُبِّهِمْ لَهَا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ فِيمَنْ هُوَ مُقِيمٌ فِي الْمَكَانِ دَائِمًا أَنَّهُ قد يَسْأَمُهُ أَوْ يَمَلُّهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَعَ هَذَا الدَّوَامِ وَالْخُلُودِ السَّرْمَدِيِّ لَا يَخْتَارُونَ عَنْ مُقَامِهِمْ ذَلِكَ مُتَحَوَّلًا وَلَا انْتِقَالًا، وَلَا ظَعْنًا وَلَا رِحْلَةً وَلَا بَدَلًا.(2/439)
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
- 109 - قُل لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً
يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لَوْ كَانَ مَاءُ الْبَحْرِ مِدَادًا للقلم الذي يكتب به كلمات الله وحكمه وآياته الدالة عليه،(2/439)
لنفد البحر قبل أن يفرغ كِتَابَةِ ذَلِكَ {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ} أَيْ بِمِثْلِ الْبَحْرِ آخَرَ ثُمَّ آخَرَ، وَهَلُمَّ جَرًّا، بُحُورٌ تَمُدُّهُ وَيُكْتَبُ بِهَا لَمَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَس: إِنَّ مَثَلَ عِلْمِ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَقَطْرَةٍ مِنْ مَاءِ الْبُحُورِ كُلِّهَا، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ: {قُل لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} (أخرج الحاكم وغيره عن ابن عباس قال، قالت قريش لليهود: أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ عَنْهُ هَذَا الرَّجُلَ، فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَسَأَلُوهُ فَنَزَلَتْ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح - إلى - وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ، وَقَالَ اليهود: أُوتِينَا عِلْمًا كَثِيرًا أُوتِينَا التَّوْرَاةَ، وَمَنْ أُوتِيَ التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا، فنزلت: {قُل لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية) يقول: لو كانت تلك البحور مِدَادًا لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، وَالشَّجَرُ كُلُّهُ أَقْلَامٌ، لَانْكَسَرَتِ الْأَقْلَامُ وَفَنِيَ مَاءُ الْبَحْرِ، وَبَقِيَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ قَائِمَةً لَا يُفْنِيهَا شَيْءٌ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْدُرَ قَدْرَهُ وَلَا يُثْنِيَ عَلَيْهِ كَمَا يَنْبَغِي، حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُثْنِي عَلَى نَفْسِهِ، إِنَّ رَبَّنَا كَمَا يَقُولُ وَفَوْقَ ما نقول، إن مثل نعيم الدينا أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ كَحَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فِي خِلَالِ الْأَرْضِ كُلِّهَا.(2/440)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
- 110 - قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه {قُلْ} لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِرِسَالَتِكَ إِلَيْهِمْ {إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ، فَمَنْ زَعَمَ أَنِّي كَاذِبٌ فَلْيَأْتِ بِمِثْلِ مَا جِئْتُ بِهِ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ فِيمَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْمَاضِي، عَمَّا سَأَلْتُمْ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَخَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، مِمَّا هُوَ مُطَابِقٌ فِي نَفْسِ الأمر، لولا ما أطلعني الله عليه، وإنما أُخْبِرُكُمْ {أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ} الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ {إِلَهٌ وَاحِدٌ} لاَّ شَرِيكَ لَهُ، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ} أَيْ ثَوَابَهُ وَجَزَاءَهُ الصَّالِحَ {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} مَا كَانَ مُوَافِقًا لِشَرْعِ اللَّهِ، {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهَذَانَ رُكْنَا الْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ، لَا بدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ، صَوَابًا عَلَى شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد روى عن طاووس قَالَ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَقِفُ الْمَوَاقِفَ أُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، وَأُحِبُّ أَنْ يُرَى مَوْطِنِي، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، حَتَّى نَزَلَتْ هذه الآية {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} ، وجاء رَجُلٌ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَقَالَ أَنْبِئْنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا يُصَلِّي يَبْتَغِي وجه الله ويحب أن يحمد، ويصوم يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويتصدق يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويحج يبتغي وَجْهَ اللَّهِ وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ، فَقَالَ عُبَادَةُ: لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ، فَمَنْ كَانَ لَهُ مَعِي شريك فهو له كله ولا حاجة لي فيه.
وروى الإمام أحمد، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَأَبْكَانِي. سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ وَالشَّهْوَةَ الْخَفِيَّةَ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله!(2/440)
أَتُشْرِكُ أُمَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا حجراً ولا وثناً، ولكن يراؤون بِأَعْمَالِهِمْ، وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ أَنْ يُصْبِحَ أَحَدُهُمْ صَائِمًا فَتَعْرِضُ لَهُ شَهْوَةٌ مِنْ شَهَوَاتِهِ فَيَتْرُكُ صَوْمَهُ» (أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه) . (حديث آخر) : قال الإمام أحمد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يرويه عن الله عزَّ وجلَّ أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا خَيْرُ الشُّرَكَاءِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا بريء منه وهو للذي أشرك» . (حديث آخر) : قال الإمام أحمد، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عن الشرك" (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه) . (حديث آخر) : عَنْ أنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تُعْرَضُ أَعْمَالُ بَنِي آدَمَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، في صحف مختمة، فَيَقُولُ اللَّهُ: أَلْقُوا هَذَا وَاقْبَلُوا هَذَا، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُ إِلَّا خَيْرًا، فَيَقُولُ: إِنَّ عَمَلَهُ كَانَ لِغَيْرِ وَجْهِي، وَلَا أَقْبَلُ الْيَوْمَ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا ما أريد به وجهي" (أخرجه الحافظ أبو بكر البزار) . وَعَنِ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْسَنَ الصَّلَاةَ حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ وَأَسَاءَهَا حَيْثُ يَخْلُو فَتِلْكَ اسْتِهَانَةٌ اسْتَهَانَ بِهَا رَبَّهُ عزَّ وجلَّ» (رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي) .(2/441)
- 19 - سورة مريم(2/442)
[مقدمة]
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ مِنْ حَدِيثِ أُم سَلَمَةَ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قِصَّةِ الْهِجْرَةِ إِلَى أرض الحشبة مِنْ مَكَّةَ، أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرَأَ صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ.(2/442)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.(2/442)
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
- 1 - كهيعص
- 2 - ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ
- 3 - إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً
- 4 - قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيًّا
- 5 - وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً
- 6 - يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً
أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ البقرة. وقوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} أي هذا ذكر رحمة الله عبده زكريا، وزكريا يُمَدُّ وَيُقْصَرُ، قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَكَانَ نَبِيًّا عَظِيمًا مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، أنه كان نجاراً يأكل من عمل يده فِي النِّجَارَةِ، وَقَوْلُهُ: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّمَا أَخْفَى دُعَاءَهُ لِئَلَّا يُنْسَبَ فِي طَلَبِ الْوَلَدِ إِلَى الرُّعُونَةِ لكبره، حكاه الماوردي، وقال الآخرون: إِنَّمَا أَخْفَاهُ لِأَنَّهُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} : أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْقَلْبَ التَّقِيَّ، وَيَسْمَعُ الصَّوْتَ الْخَفِيَّ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: قَامَ مِنَ اللَّيْلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ نَامَ أَصْحَابُهُ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ يَقُولُ خُفْيَةً: يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، فَقَالَ اللَّهُ له: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ {قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} أَيْ ضَعُفَتْ وَخَارَتِ الْقُوَى {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} أَيِ اضْطَرَمَ الْمَشِيبُ فِي السَّوَادِ. وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الإخبارُ عَنِ الضَّعْفِ وَالْكِبَرِ، وَدَلَائِلِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} أَيْ وَلَمْ أَعْهَدْ مِنْكَ إِلَّا الْإِجَابَةَ فِي الدُّعَاءِ، وَلَمْ تَرُدَّنِي قَطُّ فِيمَا سَأَلْتُكَ، وَقَوْلُهُ: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي} ، قال مجاهد وقتادة والسدي: أراد بالموالي العصبة، ووجه خَوْفِهِ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَتَصَرَّفُوا مِنْ بَعْدِهِ فِي النَّاسِ تَصَرُّفًا سَيِّئًا، فَسَأَلَ اللَّهَ وَلَدَا يكون نبياً من بعده ليسوسهم بنبوته ما يُوحَى إِلَيْهِ، فَأُجِيبَ فِي ذَلِكَ، لَا أَنَّهُ خَشِيَ مِنْ وِرَاثَتِهِمْ لَهُ مَالَهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ أَعْظَمُ مَنْزِلَةً وَأَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يُشْفِقَ على ماله إلى ما هذا حده، وأن يأنف من ورائه عَصَبَاتِهِ لَهُ، وَيَسْأَلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ليحوز ميراثه(2/442)
دُونَهُمْ هَذَا وَجْهٌ. (الثَّانِي) أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ كَانَ ذَا مَالٍ بَلْ كَانَ نَجَّارًا يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدَيْهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يجمع مالاً ولا سيما الأنبياء، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَزْهَدَ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا. (الثَّالِثُ) أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا نُورَثُ، مَا تركناه صَدَقَةٌ» . وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: «نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» . وَعَلَى هَذَا فَتَعَيَّنَ حَمْلُ قَوْلِهِ: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي} عَلَى مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} كقوله: {وَوَرِثَ سليمان داود} أَيْ فِي النُّبُوَّةِ. إِذْ لَوْ كَانَ فِي الْمَالِ لَمَا خَصَّهُ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِ بِذَلِكَ، وَلَمَا كَانَ فِي الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ كَبِيرُ فَائِدَةٍ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ الْمُسْتَقِرِّ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ أَنَّ الْوَلَدَ يَرِثُ أَبَاهُ، فَلَوْلَا أَنَّهَا وِرَاثَةٌ خَاصَّةٌ لَمَا أَخْبَرَ بِهَا، وَكُلُّ هَذَا يُقَرِّرُهُ وَيُثْبِتُهُ مَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ: «نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكَنَا فَهُوَ صدقة» ، قال مجاهد: كان وراثته علماً وقال الْحَسَنِ: يَرِثُ نُبُوَّتَهُ وَعِلْمَهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَرِثُ نبوتي ونبوة آل يعقوب، وعن أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قَالَ: يَرِثُ مَالِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ في تفسيره. وَقَوْلُهُ: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} أَيْ مَرْضِيًّا عِنْدَكَ وَعِنْدَ خَلْقِكِ، تُحِبُّهُ وَتُحَبِّبُهُ إِلَى خَلْقِكَ فِي دينه وخلقه.(2/443)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
- 7 - يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً
هَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ مَحْذُوفًا، وَهُوَ أَنَّهُ أُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ فِي دُعَائِهِ فَقِيلَ لَهُ: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ} ، وَقَوْلُهُ: {لَمْ نَجْعَل لَهُ مِن قَبْلِ سَمِيّاً} . قال قتادة: أَيْ لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ قَبْلَهُ بِهَذَا الِاسْمِ (وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ) ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} أَيْ شَبِيهًا، أَخَذَهُ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} ؟ أي شبيهاً، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ لَمْ تَلِدِ الْعَوَاقِرُ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السلام كان لا يولد له، وكذلك كانت امرأته عَاقِرًا مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهَا، بِخِلَافِ إِبْرَاهِيمَ وَسَارَةَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنَّهُمَا إِنَّمَا تَعَجَّبَا مِنَ الْبِشَارَةِ بإسحاق لكبرهما، وَلِهَذَا قَالَ: {أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تبشرون} مَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ وُلِدَ لَهُ قَبْلَهُ إسماعيل بثلاث عشرة سنة.(2/443)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
- 8 - قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا
- 9 - قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هو علي هين وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا
هَذَا تَعَجُّبٌ مِنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ، وَبُشِّرَ بِالْوَلَدِ فَفَرِحَ فرحاَ شَدِيدًا وَسَأَلَ عَنْ كَيْفِيَّةِ مَا يُولَدُ لَهُ، وَالْوَجْهُ الَّذِي يَأْتِيهِ مِنْهُ الْوَلَدُ، مَعَ أَنَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ عَاقِرًا لَمْ تَلِدْ مِنْ أول عمرها مع كبرها (ذكر السهيلي: أن امرأته اسمها (إيشاع بنت قافوذ) ، وهي أخت حنة بنت قافوذ، قاله الطبري، وحنة هي أم مريم. وقال العتبي: امرأة زكريا هي (إيشاع بنت عمران) ، فعلى هذا القول يكون يحيى ابن خالة عيسى على الحقيقة، وعلى القول الأول يكون ابن خالة أمه، وفي حديث الإسراء قال عليه السلام: «فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى» ، وهذا شاهد للقول الأول) ، ومع أنه(2/443)
قَدْ كَبُرَ وَعَتَا، أَيْ عَسَا عَظْمُهُ، وَنَحُلَ، ولم يبق فيه لقاح ولا جماع، والعرب تقول للعود إذا يبس: عتا، وقال مجاهد: {عِتِيّاً} يعني قحول الْعَظْمِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، عِتِيًّا يَعْنِي الكبر، والظاهر أنه أخص من الكبر، {قَالَ} أَيِ الْمَلَكُ مُجِيبًا لِزَكَرِيَّا عَمَّا اسْتَعْجَبَ مِنْهُ {كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عليَّ هَيِّنٌ} أَيْ إِيجَادُ الْوَلَدِ مِنْكَ وَمَنْ زَوْجَتِكَ هَذِهِ لَا مِنْ غَيْرِهَا، {هَيِّنٌ} أَيْ يَسِيرٌ سَهْلٌ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ مَا هُوَ أَعْجَبُ مِمَّا سَأَلَ عَنْهُ فَقَالَ: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} ، كَمَا قَالَ تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حيناً مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} .(2/444)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
- 10 - قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً
- 11 - فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِن الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} أَيْ عَلَامَةً وَدَلِيلًا عَلَى وُجُودِ مَا وَعَدْتَنِي، لِتَسْتَقِرَّ نَفْسِي وَيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِمَا وَعَدْتَنِي، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى * قال أو لم تُؤْمِن؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ، {قَالَ آيَتُكَ} أَيْ عَلَامَتُكَ {أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} أي أن يُحبس لِسَانَكَ عَنِ الْكَلَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَأَنْتَ صَحِيحٌ سَوِيٌّ، مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ وَلَا عِلَّةٍ، قَالَ ابن عباس ومجاهد وَغَيْرُ وَاحِدٍ: اعْتُقِلَ لِسَانُهُ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ ولا علة. قال زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَانَ يَقْرَأُ وَيُسَبِّحُ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُكَلِّمَ قَوْمَهُ إِلَّا إِشَارَةً، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} أي متتابعات (القول الأول عن ابن عباس وعن الجمهور أصح كما في آل عمران {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا، وَاذْكُرْ رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ والإبكار} ) . وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} مِنْ غَيْرِ خَرَسٍ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ وَأَيَّامِهَا {إِلاَّ رَمْزاً} أَيْ إِشَارَةً، وَلِهَذَا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} أَيِ الَّذِي بُشِّرَ فِيهِ بِالْوَلَدِ {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} أَيْ أَشَارَ، إِشَارَةً خَفِيَّةً سَرِيعَةً {أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً} أَيْ مُوَافَقَةً لَهُ فِيمَا أُمِرَ بِهِ فِي هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله، شكراً لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَاهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} أي أشار (وهذا القول أرجح، وبه قال وهب وقتادة) . وقال مجاهد: أي كتب لَهُمْ فِي الأرض.(2/444)
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
- 12 - يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً
- 13 - وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا
- 14 - وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً
- 15 - وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً
وَهَذَا أَيْضًا تَضَمَّنَ مَحْذُوفًا، تَقْدِيرُهُ أَنَّهُ وَجَدَ هَذَا الْغُلَامَ الْمُبَشَّرَ بِهِ وَهُوَ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّمَهُ الْكِتَابَ وَهُوَ (التوراة) التي كانوا يتدارسونها بينهم، وَقَدْ كَانَ سِنُّهُ إِذْ ذَاكَ صَغِيرًا، فَلِهَذَا نَوَّهَ بِذِكْرِهِ وَبِمَا أَنْعَمَ(2/444)
بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْهِ، فَقَالَ {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} أَيْ تَعَلَّمِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ أَيْ بِجِدٍّ وَحِرْصٍ وَاجْتِهَادٍ {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} أَيِ الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ وَالْجِدَّ وَالْعَزْمَ، وَالْإِقْبَالَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْإِكْبَابَ عَلَيْهِ وَالِاجْتِهَادَ فِيهِ، وَهُوَ صَغِيرٌ حدث. قال عبد الله بن المبارك، قَالَ الصِّبْيَانُ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا: اذْهَبْ بِنَا نلعب، فقال: ما للعب خلقنا. وقوله: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا} قال ابن عباس: يقول ورحمة من عندنا. وزاد قتادة: رحم الله بِهَا زَكَرِيَّا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا} وتعطفاً من ربه عليه، وقال عكرمة: محبة عليه، وقال عطاء بن أبي رباح: تعظيماً من لدنا، والظاهر من السياق أن قوله: {وَحَنَاناً} مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} أَيْ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ وَحَنَانًا، وَزَكَاةً أَيْ وَجَعَلْنَاهُ ذَا حَنَانٍ وَزَكَاةٍ، فَالْحَنَانُ هُوَ الْمَحَبَّةُ فِي شَفَقَةٍ وَمَيْلٍ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: حَنَّتِ النَّاقَةُ عَلَى ولدها، وَحَنَّ الرَّجُلُ إِلَى وَطَنِهِ، وَمِنْهُ التَّعَطُّفُ وَالرَّحْمَةُ، وَفِي الْمُسْنَدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ أنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَبْقَى رَجُلٌ فِي النَّارِ يُنَادِي أَلْفَ سَنَةٍ يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ» . وقد يثنى كما قال طرفة:
أبا مُنْذِرٌ أفنيتَ فَاسْتَبْقِ بعضَنا * حَنَانَيْكَ بعضُ الشَّرِّ أهون من بعض
وقوله تعالى: {وَزَكَاةً} مَعْطُوفٌ عَلَى {وَحَنَاناً} فَالزَّكَاةُ الطَّهَارَةُ مِنَ الدَّنَسِ وَالْآثَامِ وَالذُّنُوبِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الزَّكَاةُ الْعَمَلُ الصالح، وقال الضحّاك: العمل الصالح الزكي، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {وَزَكَاةً} قَالَ: بَرَكَةً {وَكَانَ تَقِيّاً} طاهراً فلم يذنب، وَقَوْلُهُ: {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً} لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى طَاعَتَهُ لِرَبِّهِ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُ ذَا رَحْمَةٍ وَزَكَاةٍ، وَتُقًى، عَطَفَ بِذِكْرِ طَاعَتِهِ لِوَالِدَيْهِ وَبِرِّهِ بِهِمَا، وَمُجَانَبَتِهِ عُقُوقَهُمَا قَوْلًا وَفِعْلًا، أمراً وَنَهْيًا، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً} ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ جَزَاءً لَهُ عَلَى ذَلِكَ {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} أَيْ لَهُ الأمان في هذه الثلاثة الأحوال، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إِلَّا وَقَدْ أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ، لَيْسَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، وَمَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متى» (أخرجه الإمام أحمد، قال ابن كثير: وفي إسناده ضعف) ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، أن الحسن قَالَ: إِنَّ يَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ الْتَقَيَا، فَقَالَ لَهُ عِيسَى اسْتَغْفِرْ لِي أَنْتَ خَيْرٌ مني، فقال له الآخر: أنت خَيْرٌ مِنِّي، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي سلمتُ عَلَى
نَفْسِي وَسَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ، فَعُرِفَ وَاللَّهِ فَضْلُهُمَا.(2/445)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
- 16 - وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا
- 17 - فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَابًا فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا
- 18 - قالت إني أعوذ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً
- 19 - قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً
- 20 - قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً - 21 - قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هو علي هين وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ أَوْجَدَ مِنْهُ فِي حَالِ كِبَرِهِ وَعُقْمِ زَوْجَتِهِ وَلَدًا زَكِيًّا طَاهِرًا، مُبَارَكًا،(2/445)
عطف بذكر قصة مريم في إيجاد ولدها عيسى عليه السَّلَامُ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فَإِنَّ بَيْنَ القصتين مناسبة ومشابهة، لِتَقَارُبِ مَا بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى، لِيَدُلَّ عِبَادَهُ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَظَمَةِ سُلْطَانِهِ، وَأَنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَادِرٌ، فَقَالَ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} وَهِيَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، مِنْ سُلَالَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَتْ مِنْ بَيْتٍ طَاهِرٍ طَيِّبٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قصة ولادة أمها لها في سورة آلِ عِمْرَانَ، وَأَنَّهَا نَذَرَتْهَا مُحَرَّرَةً أَيْ تَخْدُمُ مسجد بيت المقدس، وكانوا يتقربون بذلك (ذكر السهيلي: إن القرآن لم يذكر امرأة باسمها إلا (مريم ابنة عمران) فإنه ذكر اسمها في نحو من ثلاثين موضعاً، لحكمة ذكرها بعض الأشياخ، وذكر أن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في ملأ ولا يبتذلون أسماءهن، بل يكنون عن الزوجة بالعرس والأهل والعيال، ولم يصونوا أسماء الإماء عن الذكر، فصرح الله باسم مريم لما قالت النصارى في مريم تأكيداً لعبوديتها، وإجراء الكلام على عادة العرب من ذكر إمائها، وتكرر ذكر عيسى منسوباً إلى أمه لتشعر القلوب بنفي أبوة الله وبنزاهة أمه الطاهرة عن مقالة اليهود) {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} ونشأت في بني إسرئيل نَشْأَةً عَظِيمَةً، فَكَانَتْ إِحْدَى الْعَابِدَاتِ النَّاسِكَاتِ، الْمَشْهُورَاتِ بالعبادة العظيمة والتبتل والدؤوب، وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبيّ بني إسرئيل إِذْ ذَاكَ وَعَظِيمِهِمُ الَّذِي يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي دِينِهِمْ، وَرَأَى لَهَا زَكَرِيَّا مِنَ الْكَرَامَاتِ الْهَائِلَةِ مَا بَهَرَهُ {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا؟ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، فَذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا ثَمَرَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَثَمَرَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ كَمَا تقدم بيانه في سورة آلِ عِمْرَانَ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَهُ الحكمة الْبَالِغَةُ - أَنْ يُوجِدَ مِنْهَا عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَحَدَ الرُّسُلِ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ الْعِظَامِ {انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} أَيِ اعتزلتهم، وتنحت عنهم وذهبت إلى شرقي المسجد المقدس؛
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ إِلَى الْبَيْتِ وَالْحَجُّ إِلَيْهِ، وما صرفهم عنه إلاّ قيل ربك {فانتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} قَالَ: خَرَجَتْ مَرْيَمُ مَكَانًا شَرْقِيًّا فَصَلُّوا قِبَلَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ (رَوَاهُ ابن أبي حاتم وابن جرير، وهذه هي العلة في توجه النصارى جهة المشرق) . وعنه قَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ لِأَيِّ شَيْءٍ اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ قِبْلَةً، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فانتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} وَاتَّخَذُوا مِيلَادَ عِيسَى قِبْلَةً، وَقَالَ قَتَادَةُ: {مَكَاناً شَرْقِياً} شَاسِعًا مُتَنَحِّيًا، وَقَوْلُهُ: {فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً} أَيِ اسْتَتَرَتْ مِنْهُمْ وَتَوَارَتْ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} أَيْ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ تَامٍّ كَامِلٍ.
قَالَ مُجَاهِدٌ والضحاك {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} : يعني جبرائيل عليه السلام، وهذا هو ظاهر القرآن، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قلبلك لِتَكُونَ مِنَ المنذرين} ، {قالت إني أعوذ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} أَيْ لَمَّا تَبَدَّى لَهَا الْمَلَكُ فِي صُورَةِ بَشَرٍ، وَهِيَ فِي مَكَانٍ مُنْفَرِدٍ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْمِهَا حِجَابٌ خَافَتْهُ وَظَنَّتْ أَنَّهُ يُرِيدُهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَقَالَتْ {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} أَيْ إِنْ كُنْتَ تَخَافُ الله تذكيراً له بالله، قال أبو وائل: قَدْ عَلِمَتْ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ، حِينَ قالت:
{إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ} أَيْ فقال لها الملك مجيباً لها ومزيلاً لما حَصَلَ عِنْدَهَا مِنَ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهَا، لَسْتُ مِمَّا تَظُنِّينَ، وَلَكِنِّي رَسُولُ رَبِّكِ أَيْ بَعَثَنِي الله إليك {لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً} ، {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غلام} أَيْ فَتَعَجَّبَتْ مَرْيَمُ مِنْ هَذَا، وَقَالَتْ كَيْفَ(2/446)
يَكُونُ لِي غُلاَمٌ، أَيْ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ يُوجَدُ هَذَا الْغُلَامُ مِنِّي وَلَسْتُ بِذَاتِ زَوْجٍ، وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنِّي الْفُجُورُ، وَلِهَذَا قَالَتْ: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أكُ بَغِيّاً} وَالْبَغِيُّ هِيَ الزانية، {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هو علي هَيِّنٌ} أَيْ فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ مُجِيبًا لَهَا عَمَّا سَأَلَتْ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ قَالَ إِنَّهُ سَيُوجَدُ مِنْكِ غُلَامًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَكِ بَعْلٌ ولا يوجد مِنْكِ فَاحِشَةٌ، فَإِنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَادِرٌ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ} أَيْ دَلَالَةً وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم {وَرَحْمَةً مِّنَّا} أَيْ وَنَجْعَلُ هَذَا الْغُلَامَ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ، نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابن مريم وجيها في الدينا والآخرة وَمِنَ المقربين} أي يدعو إلى عبادة رَبِّهِ فِي مَهْدِهِ وَكُهُولَتِهِ. قَالَ ابْنُ أَبِي حاتم، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ، قَالَتْ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ: كُنْتُ إِذَا خَلَوْتُ حَدَّثَنِي عِيسَى وَكَلَّمَنِي وَهُوَ فِي بَطْنِي وَإِذَا كُنْتُ مَعَ النَّاسِ، سَبَّحَ فِي بَطْنِي وَكَبَّرَ، وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً} يحتمل أن هذا من تمام كَلَامِ جِبْرِيلَ لِمَرْيَمَ، يُخْبِرُهَا أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مُقَدَّرٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهُ وَمَشِيئَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَبَرِ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ كَنَّى بِهَذَا عَنِ النَّفْخِ فِي فَرْجِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن روحنا} ، وَقَالَ: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ {وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً} : أَيْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَزَمَ عَلَى هَذَا فَلَيْسَ مِنْهُ بُدٌّ، وَاخْتَارَ هَذَا أَيْضًا ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَلَمْ يَحْكِ غَيْرَهُ، وَاللَّهُ أعلم.(2/447)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
- 22 - فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا
- 23 - فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مَرْيَمَ، أَنَّهَا لَمَّا قَالَ لَهَا جبريل ما قال، اسْتَسْلَمَتْ لِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ من علماء السلف، أن الملك وهو جبرائيل عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ ذَلِكَ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا، فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ حَتَّى وَلَجَتْ فِي الْفَرْجِ فَحَمَلَتْ بِالْوَلَدِ، بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا حَمَلَتْ به ضاقت ذرعاً، ولم تدر ماذا تقول للناس، فإنها لم تَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ لَا يُصَدِّقُونَهَا فِيمَا تُخْبِرُهُمْ بِهِ، غَيْرَ أَنَّهَا أَفْشَتْ سِرَّهَا وَذَكَرَتْ أَمْرَهَا لِأُخْتِهَا امْرَأَةِ زَكَرِيَّا، وَذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ سَأَلَ اللَّهَ الْوَلَدَ فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، فَحَمَلَتِ امْرَأَتُهُ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهَا مَرْيَمُ، فَقَامَتْ إِلَيْهَا فَاعْتَنَقَتْهَا وَقَالَتْ: أَشَعَرْتِ يَا مَرْيَمُ أَنِّي حُبْلَى؟ فَقَالَتْ لَهَا مَرْيَمُ: وَهَلْ عَلِمْتِ أَيْضًا أَنِّي حُبْلَى، وَذَكَرَتْ لَهَا شَأْنَهَا، وَمَا كَانَ مِنْ خَبَرِهَا، وَكَانُوا بَيْتَ إِيمَانٍ وَتَصْدِيقٍ، قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى ابن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام ابْنَا خَالَةٍ، وَكَانَ حَمْلُهُمَا جَمِيعًا مَعًا، فَبَلَغَنِي أَنَّ أُمَّ يَحْيَى قَالَتْ لِمَرْيَمَ: إِنِّي أَرَى مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ، قَالَ مَالِكٌ: أَرَى ذَلِكَ لِتَفْضِيلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبْرِئُ الأكمة والأبرص (أخرجه ابن أبي حاتم) . ثُمَّ اخْتَلَفَ
الْمُفَسِّرُونَ فِي مُدَّةِ حَمْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَالْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ، وقال ابن جريج، عن ابن عباس، وسئل عن حمل مَرْيَمَ، قَالَ: لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنْ حَمَلَتْ فوضعت (قال ابن كثير: هذا القول عن ابن عباس غريب، وكأنه مأخوذ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مكانا قصيا * فأجاءها المخاض} فالفاء للتعقيب ولكن تعقيب كل شيء بسببه) .(2/447)
والمشهور الظَّاهِرُ - وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ كَمَا تَحْمِلُ النِّسَاءُ بِأَوْلَادِهِنَّ، وَلِهَذَا لما ظهرت مخايل الحمل بها، وَكَانَ مَعَهَا فِي الْمَسْجِدِ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ قَرَابَاتِهَا يَخْدِمُ مَعَهَا الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ، يُقَالُ لَهُ يُوسُفُ النَّجَّارُ، فَلَمَّا رَأَى ثِقَلَ بَطْنِهَا وَكِبَرَهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا، ثُمَّ صَرَفَهُ مَا يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَتِهَا وَنَزَاهَتِهَا وَدِينِهَا وَعِبَادَتِهَا، ثُمَّ تَأَمَّلَ مَا هِيَ فِيهِ فَجَعَلَ أَمْرُهَا يَجُوسُ فِي فِكْرِهِ لَا يَسْتَطِيعُ صَرْفَهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَحَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ عرَّض لَهَا فِي الْقَوْلِ، فَقَالَ: يَا مَرْيَمُ إِنِّي سائِلك عَنْ أرم فَلَا تَعْجَلِي عليَّ، قَالَتْ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: هَلْ يَكُونُ قَطُّ شَجَرٌ مِنْ غَيْرِ حَبٍّ؟ وَهَلْ يَكُونُ زَرْعٌ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ؟ وَهَلْ يَكُونُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ أَبٍ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، وفهمت مَا أَشَارَ إِلَيْهِ، أَمَّا قَوْلُكَ هَلْ يَكُونُ شَجَرٌ مِنْ غَيْرِ حَبٍّ وَزَرْعٌ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ خَلَقَ الشَّجَرَ وَالزَّرْعَ أَوَّلَ مَا خَلَقَهُمَا مِنْ غَيْرِ حَبٍّ وَلَا بَذْرٍ، وَهَلْ يَكُونُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، فإن الله تعالى قَدْ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ فَصَدَّقَهَا، وَسَلَّمَ لَهَا حَالَهَا، وَلَمَّا اسْتَشْعَرَتْ مَرْيَمُ مِنْ قَوْمِهَا اتِّهَامَهَا بِالرِّيبَةِ، انْتَبَذَتْ مِنْهُمْ مَكَانًا قَصِيًّا، أَيْ قَاصِيًا مِنْهُمْ بَعِيدًا عَنْهُمْ لِئَلَّا تَرَاهُمْ وَلَا يَرَوْهَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا حَمَلَتْ بِهِ وَمَلَأَتْ قُلَّتَهَا وَرَجَعَتْ، اسْتَمْسَكَ عَنْهَا الدَّمُ وَأَصَابَهَا مَا يُصِيبُ الْحَامِلَ على الولد من الوصب والتوحم، وَتَغَيُّرِ اللَّوْنِ، حَتَّى فُطِرَ لِسَانُهَا، فَمَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ مَا دَخَلَ عَلَى آلِ زَكَرِيَّا وَشَاعَ الْحَدِيثُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: إِنَّمَا صَاحِبُهَا يُوسُفُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا فِي الكنسية غَيْرُهُ، وَتَوَارَتْ مِنَ النَّاسِ، وَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا، فَلَا يَرَاهَا أَحَدٌ وَلَا تَرَاهُ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} أَيْ فَاضْطَرَّهَا وألجأها إلى جذع النخلة، فِي الْمَكَانِ الَّذِي تَنَحَّتْ إِلَيْهِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ شَرْقِيَّ مِحْرَابِهَا الَّذِي تُصَلِّي فِيهِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ وَهْبُ بن منبه: كَانَ ذَلِكَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ مِنْ بَيْتِ المقدس، في قرية يقال لها بيت لحم، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، الَّذِي تَلَقَّاهُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَلَا يَشُكُّ فِيهِ النَّصَارَى أَنَّهُ ببيت لحم، وقوله تعالى إخباراً عنها: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَمَنِّي الْمَوْتِ عِنْدَ الْفِتْنَةِ، فَإِنَّهَا عَرَفَتْ أَنَّهَا سَتُبْتَلَى وَتُمْتَحَنُ بِهَذَا الْمَوْلُودِ الَّذِي لَا يَحْمِلُ النَّاسُ فيه أمرها على السداد ولا يصدقونها في خبرها، وبعد ما كَانَتْ عِنْدَهُمْ عَابِدَةً نَاسِكَةً تُصْبِحُ عِنْدَهُمْ فِيمَا يظنون عاهرة زانية، فقال {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} أَي قَبْلَ هذا الحمل {وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} أَي لَمْ أُخْلَقْ وَلَمْ أك شيئاَ قاله ابن عباس، وَقَالَ قَتَادَةُ {وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} : أَيْ شَيْئًا لا يعرف ولا يذكر، ولا يدري الناس من أنا، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَمْ أَكُنْ شَيْئًا قَطُّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى النَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ إِلَّا عِنْدَ الْفِتْنَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وتوفني مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} .(2/448)
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
- 24 - فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً
- 25 - وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً
- 26 - فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً(2/448)
اختلف الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ ابن عباس: {فَنَادَاهَا مِن تحتها} جبريل (وهو قول الضحاك والسدي وقتادة وسعيد بن جبير) ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عِيسَى حَتَّى أَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا، أَيْ نَادَاهَا مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ} قَالَ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وقال الحسن: هو ابنها (وهو رواية سعيد بن جبير واختاره ابن جرير) . قال أو لم تسمع الله يقول {فأشارت إليه} ، وقوله: {أن لا تَحْزَنِي} أَيْ نَادَاهَا قَائِلًا لَا تَحْزَنِي {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} ، عن البراء بن عازب، وعن ابن عباس: السري النهر، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْجَدْوَلُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ النَّهْرُ، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جرير، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِالسَّرِيِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (وبه قال الحسن وَالرَّبِيعُ بْنُ أنَس وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ، وهو ضعيف والقول الأول أظهر كما قال ابن كثير) ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أُظْهَرُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} أَيْ وَخُذِي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ، قِيلَ: كَانَتْ يَابِسَةً قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وقيل: مثمرة، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ شَجَرَةً، وَلَكِنْ لَمْ تَكُنْ فِي إِبَّانِ ثَمَرِهَا، قَالَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: ولهذا امتن عليها بذلك بأن جَعَلَ عِنْدَهَا طَعَامًا وَشَرَابًا فَقَالَ: {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} أَيْ طِيبِي نَفْسًا، وَلِهَذَا قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: مَا مِنْ شَيْءٍ خَيْرٌ لِلنُّفَسَاءِ مِنَ التَّمْرِ والرطب، ثم تلا هذه الآية الكريمة.
وقوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} أَيْ مَهْمَا رَأَيْتِ مِنْ أَحَدٍ، {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} ، الْمُرَادُ بِهَذَا الْقَوْلِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقَوْلُ اللَّفْظِيُّ، لِئَلَّا يُنَافِيَ {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} ، قَالَ أنَس بْنُ مَالِكٍ فِي قوله: {إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً} قال: صَمْتًا، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ، وَفِي رواية عن أنَس: صوماً وصمتاً، والمراد أنهم إِذَا صَامُوا فِي شَرِيعَتِهِمْ يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الطَّعَامُ والكلام. روى ابن إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَجَاءَ رَجُلَانِ فَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُسَلِّمِ الْآخَرُ فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ أَصْحَابُهُ: حَلَفَ أن لا يُكَلِّمَ النَّاسَ الْيَوْمَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مسعود: كلم الناس وسلم عليهم، فإن تِلْكَ امْرَأَةٌ عَلِمَتْ أَنَّ أَحَدًا لَا يُصَدِّقُهَا، أنهما حَمَلَتْ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ، يَعْنِي بِذَلِكَ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، لِيَكُونَ عُذْرًا لَهَا إِذَا سُئِلَتْ (رواه ابن إسحاق وابن أبي حاتم وابن جرير) . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: لَمَّا قَالَ عيسى لمريم {لاَّ تَحْزَنِي} قَالَتْ: وَكَيْفَ لَا أَحْزَنُ وَأَنْتَ مَعِي لَا ذَاتُ زَوْجٍ وَلَا مَمْلُوكَةٌ، أَيُّ شَيْءٍ عُذْرِي عِنْدَ النَّاسِ؟ {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} .(2/449)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
- 27 - فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا
- 28 - يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً
- 29 - فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا
- 30 - قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا
- 31 - وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً
- 32 - وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً
- 33 - وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً(2/449)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مَرْيَمَ حِينَ أُمِرَتْ أن تصوم يومها ذلك، ولا تُكَلِّمَ أَحَدًا مِنَ الْبَشَرِ، فَإِنَّهَا سَتُكْفَى أَمْرَهَا وَيُقَامُ بِحُجَّتِهَا، فَسَلَّمَتْ لِأَمْرِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ واستسلمت لقضائه، فأخذت وَلَدَهَا فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ، فَلَمَّا رَأَوْهَا كَذَلِكَ أَعْظَمُوا أَمْرَهَا وَاسْتَنْكَرُوهُ جِدًّا، وَقَالُوا {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيّاً} أَيْ أَمْرًا عَظِيمًا، {يَا أُخْتَ هَارُونَ} أَيْ يَا شَبِيهَةَ هَارُونَ فِي الْعِبَادَةِ، {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} أَيْ أَنْتِ مِنْ بَيْتٍ طَيِّبٍ طَاهِرٍ مَعْرُوفٍ بِالصَّلَاحِ وَالْعِبَادَةِ والزهادة، فكيف صدر هذا منك؟ قال السدي: قِيلَ لَهَا {يَا أُخْتَ هَارُونَ} أَيْ أَخِي مُوسَى وَكَانَتْ مِنْ نَسْلِهِ، كَمَا يُقَالُ لِلتَّمِيمِيِّ: يَا أَخَا تَمِيمٍ، وَلِلْمُضَرِيِّ: يَا أَخَا مُضَرٍ، وَقِيلَ: نُسِبَتْ إِلَى رَجُلٍ صَالِحٍ كَانَ فِيهِمُ اسمه
هارون (قال السهيلي: هارون رجل من عباد بني إسرائيل المجتهدين كانت مريم تشبه به في اجتهادها، ليس بهارون أخي موسى بن عمران، فإن بينهما من الدهر الطويل والقرون الماضية والأمم الخالية ما قد عرفه الناس) ، فكانت تقاس به في الزهادة والعبادة. وَقَدْ كَانُوا يُسَمُّوْنَ بِأَسْمَاءِ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ. كَمَا قال الإمام أحمد، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَجْرَانَ، فقالوا: أرأيت ما تقرأون {يَا أُخْتَ هَارُونَ} وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: فَرَجَعْتُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم» (وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب) .
وقال ابن جرير، عن قتادة قوله {يا أخت هَارُونَ} الآية قَالَ: كَانَتْ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يُعْرَفُونَ بِالصَّلَاحِ وَلَا يُعْرَفُونَ بِالْفَسَادِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْرَفُونَ بِالصَّلَاحِ وَيَتَوَالَدُونَ بِهِ، وَآخَرُونَ يُعْرَفُونَ بِالْفَسَادِ وَيَتَوَالَدُونَ بِهِ، وَكَانَ هَارُونُ مُصْلِحًا مُحَبَّبًا فِي عَشِيرَتِهِ، وَلَيْسَ بِهَارُونَ أَخِي مُوسَى، وَلَكِنَّهُ هَارُونُ آخَرُ، قَالَ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ شَيَّعَ جِنَازَتَهُ يَوْمَ مات أربعون ألفاً كلهم يسمون هَارُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَوْلُهُ: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} أَيْ إِنَّهُمْ لَمَّا اسْتَرَابُوا فِي أَمْرِهَا وَاسْتَنْكَرُوا قَضِيَّتَهَا، وَقَالُوا لَهَا مَا قَالُوا مُعَرِّضِينَ بقذفها ورميها بالفرية، وقد كانت يومها هذا صَائِمَةً صَامِتَةً، فَأَحَالَتِ الْكَلَامَ عَلَيْهِ، وَأَشَارَتْ لَهُمْ إِلَى خِطَابِهِ وَكَلَامِهِ، فَقَالُوا مُتَهَكِّمِينَ بِهَا ظَانِّينَ أَنَّهَا تَزْدَرِي بِهِمْ وَتَلْعَبُ بِهِمْ {كَيْفَ نُكَلِّمُ من كان في المهد صَبِيّاً} ؟ قال السُّدِّيُّ: لَمَّا أَشَارَتْ إِلَيْهِ غَضِبُوا وَقَالُوا لَسُخْرِيَّتُهَا بنا حتى تَأْمُرُنَا أَنَّ نُكَلِّمَ هَذَا الصَّبِيَّ أَشُدُّ عَلَيْنَا مِنْ زِنَاهَا {قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} أَيْ مَنْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي مَهْدِهِ فِي حَالِ صِبَاهُ وَصِغَرِهِ، كَيْفَ يَتَكَلَّمُ؟ {قَالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ نَزَّهَ جَنَابَ رَبِّهِ تَعَالَى وبرأه عَنِ الْوَلَدِ، وَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ الْعُبُودِيَّةَ لِرَبِّهِ، وَقَوْلُهُ: {آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} تَبْرِئَةٌ لِأُمِّهِ مِمَّا نُسِبَتْ إِلَيْهِ مِنَ الْفَاحِشَةِ، قَالَ نَوْفٌ الْبِكَالِيُّ: لَمَّا قَالُوا لِأُمِّهِ مَا قَالُوا كَانَ يَرْتَضِعُ ثَدْيَهُ، فَنَزَعَ الثَّدْيَ مِنْ فَمِهِ، وَاتَّكَأَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ وَقَالَ: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً - إِلَى قَوْلِهِ - مَا دُمْتُ حيا} .
وقوله تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وجعلني معلماً للخير، وفي رواية عنه: نفاعاً، وَقَوْلُهُ: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {واعبد رَبَّكَ حتى يأتيك اليقين} . وَقَوْلُهُ: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} أَيْ وَأَمَرَنِي بِبِرِّ وَالِدَتِي، ذكره بعد طاعة رَبِّهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَثِيرًا مَا يُقْرِنُ بَيْنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ وَطَاعَةِ الْوَالِدَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير} ، وَقَوْلُهُ: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً}(2/450)
أَيْ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً مُسْتَكْبِرًا عَنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَبِرِّ وَالِدَتِي فَأَشْقَى بِذَلِكَ، قَالَ سُفْيَانُ الثوري: الجبار الشقي الذي يقتل عَلَى الْغَضَبِ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا تُجِدُ أَحَدًا عَاقًّا لِوَالِدَيْهِ إِلَّا وَجَدْتَهُ جَبَّارًا شَقِيًّا، ثُمَّ قَرَأَ: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} . وَقَوْلُهُ: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} إِثْبَاتٌ مِنْهُ لِعُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَحْيَا وَيَمُوتُ وَيُبْعَثُ كَسَائِرِ الْخَلَائِقِ، وَلَكِنْ لَهُ السَّلَامَةَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ أَشَقُّ مَا يَكُونُ عَلَى الْعِبَادِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وسلامه عليه.(2/451)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
- 34 - ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ
- 35 - مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
- 36 - وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
- 37 - فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٌ
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه: ذلك الذي قصصناه عليك من خبر عيسى عليه السلام {قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ} أَيْ يَخْتَلِفُ المبطلون والمحققون ممن آمن به وكفر به، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَهُ عَبْدًا نَبِيًّا نَزَّهَ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ، فَقَالَ: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} أَيْ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ الظَّالِمُونَ الْمُعْتَدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، أَيْ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً فَإِنَّمَا يَأْمُرُ به، فيصير كما يشاء كما قال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أَيْ ومما أمر به عيسى قَوْمَهُ وَهُوَ فِي مَهْدِهِ أَنْ أَخْبَرَهُمْ إِذْ ذاك أن الله ربه وربهم، وَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ فَقَالَ {فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أَيْ هَذَا الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ عَنِ اللَّهِ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ أَيْ قَوِيمٌ مَنِ اتَّبَعَهُ رَشَدَ وَهَدَى وَمَنْ خَالَفَهُ ضَلَّ وَغَوَى، وَقَوْلُهُ: {فَاخْتَلَفَ الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ} أي اختلف قول أَهْلِ الْكِتَابِ فِي عِيسَى بَعْدَ بَيَانِ أَمْرِهِ وَوُضُوحِ حَالِهِ، وَأَنَّهُ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، فصممت طائفة منهم وَهُمْ جُمْهُورُ الْيَهُودِ عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ، عَلَى أَنَّهُ وَلَدُ زِنْيَةٍ، وَقَالُوا: كَلَامُهُ هَذَا سِحْرٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخرى: إِنَّمَا تَكَلَّمَ اللَّهُ، وَقَالَ آخرون: بل هُوَ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَ آخَرُونَ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وهذا هو قَوْلَ الحق الذي أرشد إِلَيْهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابن جُرَيْجٍ وقَتَادَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ (قُسْطَنْطِينَ) جَمَعَهُمْ فِي مَحْفَلٍ كَبِيرٍ مِنْ مَجَامِعِهِمُ الثَّلَاثَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَهُمْ، فَكَانَ جَمَاعَةُ الْأَسَاقِفَةِ مِنْهُمْ أَلْفَيْنِ وَمِائَةً وسبيعن أُسْقُفًا، فَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السلام اختلافاً متبانياً جداً، فقالت كل شرذمة فيه قولاً، وَلَمْ يَجْتَمِعْ عَلَى مَقَالَةٍ وَاحِدَةٍ أَكْثَرُ مِنْ ثلثمائة وَثَمَانِيَةٍ مِنْهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى قَوْلٍ وَصَمَّمُوا عَلَيْهِ فمال إِلَيْهِمُ الْمَلِكُ، وَكَانَ فَيْلَسُوفًا، فَقَدَّمَهُمْ وَنَصَرَهُمْ وَطَرَدَ مَنْ عَدَاهُمْ، فَوَضَعُوا لَهُ الْأَمَانَةَ الْكَبِيرَةَ بَلْ هِيَ الْخِيَانَةُ الْعَظِيمَةُ، وَوَضَعُوا لَهُ كُتُبَ الْقَوَانِينِ وَشَرَّعُوا لَهُ أَشْيَاءَ وَابْتَدَعُوا بِدَعًا كَثِيرَةً، وَحَرَّفُوا دين المسيح وغيروه، فابتنى لهم حينئذٍ الْكَنَائِسَ الْكِبَارَ فِي مَمْلَكَتِهِ كُلِّهَا، بِلَادِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَالرُّومِ، فَكَانَ مَبْلَغُ الْكَنَائِسِ فِي أَيَّامِهِ ما يقارب اثني عشر ألف كنيسة، وَقَوْلُهُ: {فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} تهديد(2/451)
وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَافْتَرَى، وَزَعَمَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا، وَلَكِنْ أَنْظَرَهُمْ تَعَالَى إلى يوم القيامة، وأجّلهم حلماً فَإِنَّهُ الَّذِي لَا يَعْجَلُ عَلَى مَنْ عَصَاهُ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ» وقد قَالَ تَعَالَى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وإليَّ المصير} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} ، ولهذا قال ههنا {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أَيْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حُقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ؛ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ من العمل» .(2/452)
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
- 38 - أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
- 39 - وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
- 40 - إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الكفار يوم القيامة: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} أَيْ مَا أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {لَكِنِ الظَّالِمُونَ اليوم} أي في الدينا {فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أَيْ: لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ، فَحَيْثُ يُطْلَبُ مِنْهُمُ الْهُدَى لَا يَهْتَدُونَ، وَيَكُونُونَ مُطِيعِينَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} أَيْ أَنْذِرِ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْحَسْرَةِ {إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} : أَيْ فَصَلَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النار، وصار كُلٌّ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ مُخَلَّدًا فِيهِ، {وَهُمْ} أَيِ الْيَوْمَ {فِي غَفْلَةٍ} عَمَّا أُنْذِرُوا به يوم الحسرة والندامة {وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} أَيْ: لَا يُصَدِّقُونَ بِهِ. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، يُجَاءُ بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ، فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هذا؟ قال، فيشرئبون وينظرون وَيَقُولُونَ، نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالَ، فَيَشْرَئِبُّونَ وينظرون وَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ، قَالَ، وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ وَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ وَلَا موت" ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ، وأشار بيده ثم قال: «أهل الدنيا في غفلة الدنيا» (رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري واللفظ له وأخرجه الشيخان عن ابن عمر ولفظهما قريب من ذلك) .
وقال السُّدي، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، أُتِيَ بِالْمَوْتِ فِي صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ حَتَّى يُوقَفَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَذَا الْمَوْتُ الَّذِي كَانَ يُمِيتُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي أَهْلِ عِلِّيِّينَ، وَلَا فِي أَسْفَلِ دَرَجَةٍ فِي الجنة إلاّ نظر إليه، ثم ينادي مناد: يَا أَهْلَ النَّارِ هَذَا الْمَوْتُ الَّذِي كَانَ يميت الناس في الدينا فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي ضِحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ وَلَا فِي أَسْفَلِ دَرْكٍ مِنْ جَهَنَّمَ إِلَّا نَظَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ يُذْبَحُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُنَادَى: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هُوَ الْخُلُودُ أَبَدَ الْآبِدِينَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ هُوَ الْخُلُودُ أَبَدَ الْآبِدِينَ، فَيَفْرَحُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرْحَةً لَوْ كان أحدا مَيِّتًا مِنْ فَرَحٍ مَاتُوا، وَيَشْهَقُ(2/452)
أَهْلُ النَّارِ شَهْقَةً لَوْ كَانَ أَحَدٌ مَيِّتًا من شهقة ماتوا، فذلك قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} : يَقُولُ إِذَا ذُبِحَ الْمَوْتُ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ في تفسيره) . وقال ابن عباس: {يَوْمَ الْحَسْرَةِ} مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، عظَّمه اللَّهُ وَحَذَّرَهُ عِبَادَهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زيد، فِي قَوْلِهِ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} قَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَرَأَ: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ الْخَالِقُ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ، وَأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ يَهْلَكُونَ وَيَبْقَى هُوَ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، وَلَا أَحَدَ يَدَّعِي مُلْكًا وَلَا تَصَرُّفًا، بَلْ هُوَ الْوَارِثُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ الْبَاقِي بَعْدَهُمْ، الْحَاكِمُ فِيهِمْ، فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ولا جناح بعوضة ولا مثقال ذرة.(2/453)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
- 41 - وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً
- 42 - إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا
- 43 - يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً
- 44 - يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا
- 45 - يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ إِنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَاذْكُرْ فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ} أي اتل على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام، خبر إبراهيم خليل الرحمن، وقد كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً مَعَ أَبِيهِ كَيْفَ نَهَاهُ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَقَالَ: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} أَيْ لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَدْفَعُ عَنْكَ ضَرَرًا، {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} يَقُولُ: وإن كنت من صلبك وتراني أَصْغَرُ مِنْكَ، لِأَنِّي وَلَدُكَ، فَاعْلَمْ أَنِّي قَدِ اطَّلَعْتُ مِنَ الْعِلْمِ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَا تَعْلَمْهُ أَنْتَ، وَلَا اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ وَلَا جَاءَكَ {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} أَيْ طَرِيقًا مُسْتَقِيمًا مُوَصِّلًا إِلَى نَيْلِ الْمَطْلُوبِ، وَالنَّجَاةِ مِنَ الْمَرْهُوبِ، {يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} أَيْ لَا تُطِعْهُ فِي عِبَادَتِكَ هَذِهِ الْأَصْنَامَ فَإِنَّهُ هُوَ الدَّاعِي إِلَى ذَلِكَ وَالرَّاضِي بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا يني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عدو مبين} ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} أَيْ مُخَالِفًا مُسْتَكْبِرًا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، فَطَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ، فلا تتبعه {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ إِنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ} : أَيْ عَلَى شِرْكِكَ وَعِصْيَانِكَ لِمَا آمُرُكَ بِهِ {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} يَعْنِي فَلَا يَكُونُ لَكَ مَوْلًى وَلَا نَاصِرًا وَلَا مُغِيثًا إِلَّا إِبْلِيسُ، وَلَيْسَ إِلَيْهِ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، بَلِ اتِّبَاعُكَ لَهُ مُوجِبٌ لإحاطة العذاب بك، كما قال تعالى: {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .(2/453)
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
- 46 - قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً
- 47 - قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا
- 48 - وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً(2/453)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ جَوَابِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ لِوَلَدِهِ إِبْرَاهِيمَ فِيمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} ؟ يَعْنِي إِنْ كُنْتَ لَا تُرِيدُ عِبَادَتَهَا وَلَا تَرْضَاهَا، فاتنه عَنْ سَبِّهَا وَشَتْمِهَا وَعَيْبِهَا، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ اقْتَصَصْتُ مِنْكَ وَشَتَمْتُكَ وَسَبَبْتُكَ، وهو قوله: {لأَرْجُمَنَّكَ} ، قاله ابن عباس (وقاله أيضاُ السدي وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ) ، وَقَوْلُهُ: {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} قال مجاهد: يَعْنِي دَهْرًا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: زَمَانًا طَوِيلًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} قَالَ: أَبَدًا. وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} قَالَ: سَوِيًّا سَالِمًا، قَبْلَ أَنْ تُصِيبَكَ مِنِّي عُقُوبَةٌ (وَكَذَا قَالَ الضحّاك وقتادة وأبو مالك، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ) ، فَعِنْدَهَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ {سَلاَمٌ عَلَيْكَ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ المؤمنين: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قالوا سلاما} ، وقال تعالى: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين} ، وَمَعْنَى قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ {سَلاَمٌ عَلَيْكَ} يَعْنِي: أَمَّا أَنَا فَلَا يَنَالُكَ مِنِّي مَكْرُوهٌ وَلَا أَذًى وَذَلِكَ لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} ، ولكن سأسأل الله فِيكَ أَنْ يَهْدِيَكَ وَيَغْفِرَ ذَنْبَكَ، {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: لَطِيفًا، أي في أن هداني لعبادته. وقال قتادة ومجاهد {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} قالا: عودة الْإِجَابَةَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْحَفِيُّ الَّذِي يَهْتَمُّ بِأَمْرِهِ، وقد استغفر إبراهيم صلى الله عليه وسلم لِأَبِيهِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَبَعْدَ أَنْ هَاجَرَ إِلَى الشَّامِ وَبَنَى الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَبَعْدَ أَنْ وُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب} ، وَقَدِ اسْتَغْفَرَ الْمُسْلِمُونَ لِقَرَابَاتِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ في ابتداء الإسلام، حتى أنزل الله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أسوة في إِبْرَاهِيمَ والذين معه إذا قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله - إِلَى قَوْلِهِ - إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِّن شَيْءٍ} الْآيَةَ، يَعْنِي إِلَّا فِي هَذَا الْقَوْلِ فَلَا تَتَأَسَّوْا بِهِ، ثُمَّ بيَّن تَعَالَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَقْلَعَ عن ذلك ورجع عنه، فقال تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} ، وَقَوْلُهُ: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي} أَيْ أَجْتَنِبُكُمْ وَأَتَبَرَّأُ مِنْكُمْ وَمِنْ آلِهَتِكُمُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، {وَأَدْعُو رَبِّي} أَيْ وَأَعْبُدُ رَبِّي وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً} وعسى هَذِهِ مُوجِبَةٌ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.(2/454)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
- 49 - فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا
- 50 - وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً
يقول تعالى: فَلَمَّآ اعْتَزَلَ الْخَلِيلُ أَبَاهُ وَقَوْمَهُ فِي اللَّهِ، أَبْدَلَهُ اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَوَهَبَ لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، يَعْنِي ابْنَهُ وَابْنَ إِسْحَاقَ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} ، وقال: {وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يعقوب} ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ إِسْحَاقَ وَالِدُ يَعْقُوبَ وَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي؟ قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} ولهذا إنما ذكر ههنا إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، أَيْ جَعَلْنَا لَهُ نَسْلًا وَعَقِبًا أَنْبِيَاءَ، أَقَرَّ اللَّهُ بِهِمْ عَيْنَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَكُلاًّ جَعَلْنَا(2/454)
نَبِيّاً} فلو لم يكن يعقوب عليه السلام قَدْ نُبِّئَ فِي حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ، لَمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَلَذَكَرَ وَلَدَهُ يُوسُفَ، فَإِنَّهُ نَبِيٌّ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ: {وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} ، قال ابن عباس: يعني الثناء الحسن، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّمَا قَالَ {عَلِيّاً} لِأَنَّ جَمِيعَ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ يُثْنُونَ عَلَيْهِمْ وَيَمْدَحُونَهُمْ، صَلَوَاتُ اللَّهِ
وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.(2/455)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
- 51 - وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً
- 52 - وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا
- 53 - وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، عَطَفَ بِذِكْرِ الْكَلِيمِ فَقَالَ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى
إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً} بكسر اللام من الإخلاص في العبادة، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ مُصْطَفًى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} ، {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} جمع الله لَهُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ الْكِبَارِ، أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ، وَهُمْ (نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ) صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ أَجْمَعِينَ، وَقَوْلُهُ: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جانب الطور} أي الجانب {الْأَيْمَنِ} مِنْ مُوسَى حِينَ ذَهَبَ يَبْتَغِي مِنْ تلك النار جذوة، فرآها تَلُوحُ فَقَصَدَهَا فَوَجَدَهَا فِي جَانِبِ الطُّوْرِ الْأَيْمَنِ منه، غربية عند شاطئ الوادي، فكلمه الله تعالى وناداه وقربه فناجاه. روى ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} قَالَ: أُدْنِيَ حتى سمع صريف القلم. وَقَالَ السُّدِّيُّ {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} قَالَ: أُدْخِلَ فِي السماء فكلم، وعن مجاهد نحوه، وروى ابن أبي حاتم، عن عمرو بن معد يكرب قَالَ: لَمَّا قَرَّبَ اللَّهُ مُوسَى نَجِيًّا بِطُورِ سَيْنَاءَ قَالَ: يَا مُوسَى إِذَا خَلَقْتُ لَكَ قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَزَوْجَةً تُعِينُ عَلَى الْخَيْرِ، فَلَمْ أُخَزِّنْ عَنْكَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا، وَمَنْ أُخَزِّنُ عَنْهُ هَذَا فَلَمْ أَفْتَحْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا، وَقَوْلُهُ: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} أَيْ وَأَجَبْنَا سُؤَالَهُ وَشَفَاعَتَهُ فِي أَخِيهِ فَجَعَلْنَاهُ نَبِيًّا، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ إِنْ يُكَذِّبُونِ} ، وقال: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا موسى} ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا شُفِّعَ أَحَدٌ شَفَاعَةً فِي الدُّنْيَا أَعْظَمُ مِنْ شَفَاعَةِ مُوسَى فِي هَارُونَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} ، قال ابن عباس: كَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى، وَلَكِنْ أَرَادَ وهب نبوته له (أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم) .(2/455)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
- 54 - وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً
- 55 - وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً
هَذَا ثَنَاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَهُوَ وَالِدُ عَرَبِ الْحِجَازِ كُلِّهِمْ بِأَنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ لَمْ يَعِدْ رَبَّهُ عِدَةً إِلَّا أنجزها، يعني ما التزم عبادة قط بِنَذْرٍ إِلَّا قَامَ بِهَا، وَوَفَّاهَا حَقَّهَا. وَقَالَ ابن جرير، عن سهل بن عقيل، أَنَّ (إِسْمَاعِيلَ) النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَدَ رَجُلًا مكاناً أن يأتيه فيه،(2/455)
فَجَاءَ وَنَسِيَ الرَّجُلُ فَظَلَّ بِهِ إِسْمَاعِيلُ، وَبَاتَ حَتَّى جَاءَ الرَّجُلُ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ: مَا برحت من ههنا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: إِنِّي نَسِيتُ، قَالَ: لَمْ أَكُنْ لِأَبْرَحَ حَتَّى تَأْتِيَنِي، فَلِذَلِكَ {كَانَ صَادِقَ الوعد} ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَمْسَاءِ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ فَبَقِيَتْ لَهُ عليَّ بَقِيَّةٌ، فَوَعَدْتُهُ أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ، قَالَ فَنَسِيتُ يَوْمِي وَالْغَدَ، فَأَتَيْتُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَهُوَ فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ، فَقَالَ لِي: «يا فتى لقد شققت عليّ أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك» ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا قِيلَ لَهُ {صَادِقَ الْوَعْدِ} لِأَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ {سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصابرين} فَصَدَقَ فِي ذَلِكَ، فصدقُ الْوَعْدِ مِنَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ، كَمَا أَنَّ خُلْفَهُ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حدَّث كَذَبَ، وَإِذَا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" (الحديث أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة) ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ صِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ، كَانَ التَّلَبُّسُ بِضِدِّهَا مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِهَذَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ إِسْمَاعِيلَ بِصِدْقِ الْوَعْدِ، وَكَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقَ الْوَعْدِ أَيْضًا، لَا يَعِدُ أَحَدًا شَيْئًا إِلَّا وَفَّى لَهُ بِهِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ زَوْجِ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ فقال: «حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي» .
وقوله تعالى: {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى شَرَفِ إِسْمَاعِيلَ عَلَى أَخِيهِ إِسْحَاقَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وُصِفَ بِالنُّبُوَّةِ فَقَطْ، وَإِسْمَاعِيلُ وُصِفَ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ» وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، فَدَلَّ
عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ، وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} ، هَذَا أَيْضًا مِنَ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ وَالصِّفَةِ الْحَمِيدَةِ وَالْخِلَّةِ السَّدِيدَةِ، حَيْثُ كَانَ صابراً على طاعة ربه عز وجل، آمِرًا بِهَا لِأَهْلِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عليها} الآية. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ» (أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ مِنَ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ الله كثيراً والذكرات» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ له) .(2/456)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
- 56 - وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نبياً
- 57 - وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً
ذِكْرُ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، بِأَنَّهُ كَانَ صدِّيقاً نَّبِيّاً، وَأَنَّ اللَّهَ رَفَعَهُ مَكَانًا عَلِيًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرَّ بِهِ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ، وَهُوَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ. وعن ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إِدْرِيسَ كَانَ خَيَّاطًا فَكَانَ لَا يَغْرِزُ إِبْرَةً إِلَّا قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَكَانَ يُمْسِي حِينَ يُمْسِي وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ أحد أفضل عملاً منه، وقال مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قَالَ: إِدْرِيسُ رُفِعَ وَلَمْ يَمُتْ كَمَا رُفِعَ عِيسَى. وقال سفيان، عن مجاهد {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قال: السماء الرابعة، وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قَالَ: الْجَنَّةُ.(2/456)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
- 58 - أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّواْ سُجَّدًا وَبُكِيًّا
يَقُولُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ النَّبِيُّونَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَقَطْ، بَلْ جِنْسُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، اسْتَطْرَدَ مِنْ ذِكْرِ الْأَشْخَاصِ إِلَى الْجِنْسِ، {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ} الْآيَةَ. قَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ (إِدْرِيسَ) ، وَالَّذِي عَنَى بِهِ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ (إِبْرَاهِيمَ) ، وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ (إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَإِسْمَاعِيلَ) ، وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْرَائِيلَ (مُوسَى وَهَارُونَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلِذَلِكَ فَرَّقَ أَنْسَابَهُمْ، وَإِنْ كَانَ يَجْمَعُ جَمِيعَهُمْ آدَمُ، لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْ وَلَدِ مَنْ كَانَ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ، وَهُوَ إِدْرِيسُ، فَإِنَّهُ جَدُّ نُوحٍ، (قُلْتُ) : هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، أَنَّ إِدْرِيسَ فِي عَمُودِ نَسَبِ نُوحٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدْ قِيلَ إنه من أنبياء بني إسرئيل، أَخْذًا مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، حَيْثُ قَالَ فِي سَلَامِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ، وَلَمْ يَقِلْ وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ، كَمَا قَالَ آدَمُ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِمَا السلام، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ: "أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَفِي {ص} سَجْدَةٌ؟ فقال: نعم، ثم تلا هذه الآية: {أولئك الذي هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} فَنَبِيُّكُمْ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ، قَالَ وَهُوَ مِنْهُمْ يَعْنِي دَاوُدَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} أَيْ إِذَا سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ الْمُتَضَمِّنَ حُجَجَهُ وَدَلَائِلَهُ وَبَرَاهِينَهُ سَجَدُوا لِرَبِّهِمْ خُضُوعًا واستكانة حمداً وَشُكْرًا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، وَالْبُكِيُّ جَمْعُ بَاكٍ فَلِهَذَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ على شرعية السجود ههنا اقْتِدَاءً بِهِمْ وَاتِّبَاعًا لِمِنْوَالِهِمْ. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُورَةَ مَرْيَمَ فَسَجَدَ، وَقَالَ هَذَا السُّجُودُ، فَأَيْنَ الْبُكِيُّ؟ يُرِيدُ الْبُكَاءَ" (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وابن جرير) .(2/457)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
- 59 - فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا
- 60 - إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حِزْبَ السُّعَدَاءِ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْقَائِمِيْنَ بِحُدُودِ اللَّهِ وَأَوَامِرِهِ الْمُؤَدِّينَ فَرَائِضَ اللَّهِ التَّارِكِينَ لِزَوَاجِرِهِ، ذَكَرَ أَنَّهُ {خَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} أي قرون أخر، {أَضَاعُواْ الصلاة} ، وَأَقْبَلُوا عَلَى شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَمَلَاذِّهَا، وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا، فَهَؤُلَاءِ سَيَلْقَوْنَ غَيًّا، أَيْ خَسَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بإضاعة الصلاة ههنا، فَقَالَ قَائِلُونَ: الْمُرَادُ بِإِضَاعَتِهَا تَرْكُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، قَالَهُ محمد بن كعب القرظي وَالسُّدِّيُّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَلِهَذَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالْأَئِمَّةِ كَمَا هُوَ مشهور عن الإمام أحمد، إِلَى تَكْفِيرِ تَارِكِ الصَّلَاةِ لِلْحَدِيثِ: «بَيْنَ الْعَبْدِ وبين الشرك ترك الصلاة» (الحديث: أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي عن جابر بلفظ «بين الرجل وبين الشرك الكفر ... » ) ، وَالْحَدِيثِ الْآخَرِ: «الْعَهْدُ الَّذِي(2/457)
بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» ، وَلَيْسَ هَذَا مَحَلُّ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ الأوزاعي: إِنَّمَا أَضَاعُوا الْمَوَاقِيتَ وَلَوْ كَانَ تَرْكًا كَانَ كفراً. وقيل لابن مسعود: إِنَّ اللَّهَ يُكْثِرُ ذِكْرَ الصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} ، وَ {عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} ، و {على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ، فقال ابْنُ مَسْعُودٍ: عَلَى مَوَاقِيتِهَا، قَالُوا: مَا كُنَّا نرى ذلك إلاّ على الترك، قال: ذلك الْكُفْرُ، وَقَالَ مَسْرُوقٌ: لَا يُحَافِظُ أَحَدٌ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَيُكْتَبُ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَفِي إِفْرَاطِهِنَّ الْهَلَكَةُ؛ وَإِفْرَاطِهِنَّ إِضَاعَتُهُنَّ عَنْ وَقْتِهِنَّ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: قرأ عمر بن عبد العزيز: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة} ، ثُمَّ قَالَ: لَمْ تَكُنْ إِضَاعَتُهُمْ تَرْكَهَا وَلَكِنْ أضاعوا الوقت، وقال مجاهد: ذلك عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَذَهَابِ صَالِحِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْزُو بَعْضُهُمْ عَلَى بعض في الأزقة. وقال ابن جرير عَنْ مُجَاهِدٍ {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} قَالَ: هُمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، يَتَرَاكَبُونَ تَرَاكُبَ الْأَنْعَامِ وَالْحُمُرِ فِي الطُّرُقِ، لَا يَخَافُونَ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ، وَلَا يَسْتَحْيُونَ من الناس في الأرض. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَجِدُ صِفَةَ الْمُنَافِقِينَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: شرَّابين للقهوات، ترَّاكين للصلوات، لعَّابين بالكعبات، رقَّادين على العتمات، مفرطين في الغدوات، تراكين للجماعات، قَالَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً} ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عطَّلوا الْمَسَاجِدَ ولزموا الضعيات. وقال أبو الأشهب: أوحى الله إلى داود عليه السلام: يَا دَاوُدُ حَذِّرْ وَأَنْذِرْ أَصْحَابَكَ أَكْلَ الشَّهَوَاتِ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ الْمُعَلَّقَةَ بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا عُقُولُهَا عَنِّي مَحْجُوبَةٌ، وَإِنَّ أَهْوَنَ مَا أَصْنَعُ بِالْعَبْدِ مِنْ عبيدي إذا آثر شهوة من شهواته أن أحرمه طاعتي، وقوله: {فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً} ، قال ابن عباس: أي خسراناً، وقال قتادة شراً، وقال عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ {فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً} قَالَ: وادٍ فِي جَهَنَّمَ بَعِيدُ الْقَعْرِ خَبِيثُ الطَّعْمِ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ فِي قَوْلِهِ {فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيًّا} قَالَ: وادٍ في جهنم من قيح ودم. وقوله {إِلاَّ مَن تَابَ وآمن وَعَمِلَ صَالِحاً} أَيْ إِلَّا مَنْ رَجَعَ عَنْ تَرْكِ الصَّلَوَاتِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ وَيُحْسِنُ عَاقِبَتَهُ وَيَجْعَلُهُ مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} ذلك لأنَّ التَّوْبَةَ تجبُّ مَا قَبْلَهَا. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» (أخرجه ابن ماجه عن ابن مسعود والحكيم الترمذي عن أبي سعيد الخدري) وَلِهَذَا لَا يُنْقَصُ هَؤُلَاءِ التَّائِبُونَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا شَيْئًا وَلَا قُوبِلُوا بِمَا عَمِلُوهُ قَبْلَهَا فَيُنْقَصُ لَهُمْ مِمَّا عَمِلُوهُ بَعْدَهَا لِأَنَّ ذَلِكَ ذَهَبَ هَدَرًا وَتُرِكَ نِسْيًا، وَذَهَبَ مَجَّانًا مِنْ كَرَمِ الْكَرِيمِ وَحِلْمِ الْحَلِيمِ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ ههنا كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بالحق - إلى قوله - وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} .(2/458)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
- 61 - جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا
- 62 - لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا
- 63 - تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا
يَقُولُ تَعَالَى: الْجَنَّاتُ الَّتِي يدخلها التائبون هِيَ {جَنَّاتِ عَدْنٍ} أَيْ إِقَامَةٍ {الَّتِي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ} بظهر الْغَيْبِ الَّذِي يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَا رَأَوْهُ، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ إِيقَانِهِمْ وَقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ كَانَ(2/458)
وَعْدُهُ مأتيا} تأكيداً لِحُصُولِ ذَلِكَ وَثُبُوتِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَلَا يُبَدِّلُهُ، كَقَوْلِهِ {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} أي كائناً لا محالة، وقوله ههنا {مَأْتِيّاً} أَيِ الْعِبَادُ صَائِرُونَ إِلَيْهِ وَسَيَأْتُونَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ {مَأْتِيّاً} بِمَعْنَى آتِيًا، لِأَنَّ كُلَّ مَا أَتَاكَ فَقَدْ أَتَيْتَهُ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: أَتَتْ عليَّ خَمْسُونَ سَنَةً وَأَتَيْتُ عَلَى خَمْسِينَ سَنَةً كِلَاهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} ، أَيْ هَذِهِ الْجَنَّاتُ لَيْسَ فِيهَا كَلَامٌ سَاقِطٌ تَافِهٌ لَا مَعْنًى لَهُ، كَمَا قد يوجد في الدينا، وَقَوْلُهُ {إِلاَّ سَلاَماً} اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، كَقَوْلِهِ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلَّا قليلا سلاما سلاما} ، وَقَوْلُهُ: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} أَيْ فِي مِثْلِ وَقْتِ البُكُرَاتِ وَوَقْتِ العَشِيَّاتِ، لَا أن هناك ليلاً ونهاراً، وَلَكِنَّهُمْ فِي أَوْقَاتٍ تَتَعَاقَبُ يَعْرِفُونَ مُضِيَّهَا بِأَضْوَاءٍ وأنهار، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ صُوَرُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا وَلَا يَتَمَخَّطُونَ فِيهَا، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، آنِيَتُهُمْ وَأَمْشَاطُهُمُ الذهب والفضة، ومجامرهم الأَلوَّة ورشهم الْمِسْكُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ يَرَى مُخَّ ساقها مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنَ الحُسْنِ، لَا اخْتِلَافَ بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد، يسبِّحون الله بكرة وعيشاً» (الحديث أخرجه البخاري ومسلم ورواه أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً) . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ، فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رزقهم من الجنة بكرة وعيشاً» (رواه الإمام أحمد في المسند". وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} قَالَ: مَقَادِيرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وقال ابن جرير، عن الوليد بن أسلم قَالَ: سَأَلْتُ زُهَيْرَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} قَالَ: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ لَيْلٌ، هُمْ فِي نور أبداً مِقْدَارُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، يَعْرِفُونَ مِقْدَارَ اللَّيْلِ بِإِرْخَاءِ الْحُجُبِ وَإِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ. وَيَعْرِفُونَ مِقْدَارَ النَّهَارِ، بِرَفْعِ الحجب وبفتح الأبواب. وقال قتادة: فِيهَا سَاعَتَانِ بَكَرَةٌ وَعَشِيٌّ، لَيْسَ ثَمَّ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، وَإِنَّمَا هُوَ ضَوْءٌ وَنُورٌ. وَقَالَ مجاهد: ليس بُكْرَةٌ وَلَا عَشِيٌّ، وَلَكِنْ يُؤْتَوْنَ بِهِ عَلَى ما كانوا يشتهون في الدنيا. وقوله: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} أَيْ هَذِهِ الْجَنَّةُ الَّتِي وَصَفْنَا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَظِيمَةِ هِيَ الَّتِي نُورِثُهَا عِبَادَنَا المتقين، وهم الميطعون لِلَّهِ عزَّ وجلَّ فِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالْكَاظِمُونَ الْغَيْظَ وَالْعَافُونَ عَنِ النَّاسِ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى في سورة المؤمنين: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .(2/459)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
- 64 - وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً
- 65 - رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سميا
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لجبرائيل: «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزرونا؟» قَالَ، فَنَزَلَتْ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} (أخرجه البخاري في باب التفسير ورواه الإمام أحمد) . وقال العوفي عن ابن عباس: احتبس جبرائيل عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك وحزن، فأتاه جبرائيل وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} الآية. وَقَوْلُهُ: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} ، قِيلَ: الْمُرَادُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا أَمْرُ الدُّنْيَا، وَمَا خَلْفَنَا أَمْرُ الْآخِرَةِ {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} ما بين النفختين، وهذا قول عكرمة ومجاهد والسدي، وقيل {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} : ما يستقبل مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، {وَمَا خَلْفَنَا}(2/459)
أَيْ مَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا، {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} أي ما بين الدنيا والآخرة، واختاره ابن جرير، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} ، قَالَ مُجَاهِدٌ والسُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ مَا نَسِيَكَ رَبُّكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَقَوْلِهِ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} ، وعن أَبِي الدَّرْدَاءِ يَرْفَعُهُ قَالَ: «مَا أَحَلَّ اللَّهُ في كتابه فهو حلال وما حرمه فَهُوَ حَرَامٌ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَافِيَةٌ فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا» ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} (رواه ابن أبي حاتم) ، وَقَوْلُهُ: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أَيْ خَالِقٌ ذَلِكَ وَمُدَبِّرُهُ، وَالْحَاكِمُ فِيهِ وَالْمُتَصَرِّفُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: هَلْ تَعْلَمُ لِلرَّبِّ مَثَلًا أَوْ شبيهاً (وهو قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وَغَيْرُهُمْ) . وَقَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ أَحَدٌ يُسَمَّى الرَّحْمَنَ غَيْرَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ اسمه.(2/460)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
- 66 - وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً
- 67 - أَوَلاَ يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا
- 68 - فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا
- 69 - ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا
- 70 - ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْإِنْسَانِ، أَنَّهُ يَتَعَجَّبُ وَيَسْتَبْعِدُ إِعَادَتَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا ترابا أئنا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} ، وَقَالَ: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وهي رميم} ، وقال ههنا: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلاَ يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} ، يَسْتَدِلُّ تَعَالَى بِالْبَدَاءَةِ عَلَى الْإِعَادَةِ، يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً، أَفَلَا يُعِيدُهُ؟ وَقَدْ صَارَ شَيْئًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، وَفِي الصَّحِيحِ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي، وَآذَانِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤْذِيَنِي، أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عليَّ مِنْ آخِرِهِ، وَأَمَّا أَذَاهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: إِنَّ لِي وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ" (أخرجه البخاري في صحيحه) ، وَقَوْلُهُ: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} أَقْسَمَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يحشرهم جميعاً، وشياطينهم الذي كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ، {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي قُعُودًا كَقَوْلِهِ: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جاثية} وقال السدي في قوله {جِثِيّاً} يعني قياماً، وروي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ. وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ} يَعْنِي مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} قال الثوري عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يَحْبِسُ الْأَوَّلَ عَلَى الْآخِرِ، حَتَّى إِذَا تَكَامَلَتِ الْعِدَّةُ أَتَاهُمْ جَمِيعًا، ثُمَّ بَدَأَ بِالْأَكَابِرِ فَالْأَكَابِرِ جُرْمًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ أَهْلِ كُلِّ دِينٍ قَادَتَهُمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ فِي الشَّرِّ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى، {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ(2/460)
رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النار} ، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً} ، المراد أَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنَ الْعِبَادِ أَنْ يَصْلَى بِنَارِ جَهَنَّمَ وَيُخَلَّدَ فِيهَا، وَبِمَنْ يستحق تضيف الْعَذَابِ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لاَّ تَعْلَمُونَ} .(2/461)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
- 71 - وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً
- 72 - ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَّنَذَرُ الظالمين فيها جثيا
روى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي سُمَيَّةَ قَالَ: اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ، فَقَالَ بَعْضُنَا: لَا يَدْخُلُهَا مُؤْمِنٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَدْخُلُونَهَا جَمِيعًا، ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا، فَلَقِيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّا اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ، فَقَالَ: يَرِدُونَهَا جَمِيعًا، وأهوى بأصبعه إِلَى أُذُنَيْهِ، وَقَالَ: صُمَّتَا إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَبْقَى بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ إِلَّا دَخَلَهَا، فَتَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، حَتَّى إِنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهِمْ، ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا ويذر الظالمين فِيهَا جِثِيّاً» . وعن قيس ابن أَبِي حَازِمٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَاضِعًا رَأْسَهُ فِي حِجْرِ امْرَأَتِهِ فَبَكَى، فبكت امرأته، قال: ما يبكيك؟ قالت: رَأَيْتُكَ تَبْكِي فَبَكَيْتُ، قَالَ إِنِّي ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} فلا أدري أنجو منها أم لا؟ وكان مريضاً (أخرجه عبد الرزاق) . وقال ابن جرير عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: كَانَ أَبُو مَيْسَرَةَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: يَا لَيْتَ أُمِّي لم تلدني، ثم يبكي، فقيل له: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا مَيْسَرَةَ؟ فَقَالَ: أُخْبِرْنَا أَنَّا وَارِدُوهَا وَلَمْ نُخْبَرْ أَنَّا صَادِرُونَ عَنْهَا، وعن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَجُلٌ لِأَخِيهِ: هَلْ أَتَاكَ أَنَّكَ وَارِدٌ النَّارَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ أَتَاكَ أَنَّكَ صَادِرٌ عَنْهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَفِيمَ الضَّحِكُ، قَالَ: فَمَا رُئِيَ ضَاحِكًا حتى لحق بالله، وقال عبد الرزاق خاصم ابن عباس نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْوُرُودُ الدُّخُولُ، فَقَالَ نَافِعٌ: لَا، فَقَرَأَ ابْنَ عَبَّاسٍ {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ، أَنتُمْ لها واردون} وَرَدُوا أَمْ لَا؟ وَقَالَ: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار} أوردهم أَمْ لَا؟ أَمَّا أَنَا وَأَنْتَ فَسَنَدْخُلُهَا، فَانْظُرْ هَلْ نَخْرُجُ مِنْهَا أَمْ لَا؟ وَمَا أَرَى الله مخرجك منها بتكذيبك، فضحك نافع. وقال: عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَتَاهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو رَاشِدٍ، وَهُوَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ. فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أرأيتِ قَوْلَ اللَّهِ: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} ، قَالَ: أَمَّا أَنَا وَأَنْتَ يَا أَبَا رَاشِدٍ فَسَنَرِدُهَا فانظر هل نصدر عنها أم لا؟ وعن عبد الله بن مَسْعُودٍ {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرِدُ النَّاسُ كلهم ثم يصدون عنها بأعمالهم» (رواه أحمد والترمذي) . وَقَدْ رَوَاهُ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: يَرِدُ النَّاسُ جَمِيعًا الصِّرَاطَ، وَوُرُودُهُمْ قِيَامُهُمْ حَوْلَ النَّارِ، ثم يصدون عَنِ الصِّرَاطِ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الطَّيْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَأَجْوَدِ الْخَيْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَأَجْوَدِ الْإِبِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَعَدْوِ الرجُل، حَتَّى إِنَّ آخرهم مراً رجل نوره على موضع قدميه يمر فيتكفأ بِهِ الصِّرَاطَ، وَالصِّرَاطُ دَحْضُ مَزَلَّةٍ، عَلَيْهِ حَسَكٌ كَحَسَكِ الْقَتَادِ، حَافَّتَاهُ مَلَائِكَةٌ مَعَهُمْ كَلَالِيبُ مِنْ نار يختطفون بها الناس (أخرجه ابن أبي حاتم) ، وقال ابن جرير، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَوْلُهُ(2/461)
{وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قَالَ: الصِّرَاطُ عَلَى جَهَنَّمَ مِثْلُ حَدِّ السَّيْفِ، فَتَمُرُّ الطَّبَقَةُ الْأُولَى كَالْبَرْقِ، وَالثَّانِيَةُ كَالرِّيحِ، وَالثَّالِثَةُ كَأَجْوَدِ الْخَيْلِ، وَالرَّابِعَةُ كَأَجْوَدِ الْبَهَائِمِ، ثُمَّ يَمُرُّونَ وَالْمَلَائِكَةُ يَقُولُونَ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَلِهَذَا شَوَاهِدُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. عَنْ أُمِّ مُبَشِّرٍ امْرَأَةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ فَقَالَ: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ» ، قَالَتْ حَفْصَةُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا} الآية، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ تَمَسُّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ القسم» يعني الورود. وقال قتادة قوله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} هُوَ الْمَمَرُّ عَلَيْهَا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زيد. ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهرانيها، وورود المشركين أن يدخلوها، والزالون والزالات يومئذٍ كثير، وقد أحاط يومئذٍ سِمَاطَانِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ دُعَاؤُهُمْ يَا أَللَّهُ سلم سلم" وقال السدي، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} قَالَ: قَسَمًا وَاجِبًا، وَقَالَ مجاهد: حتماً، قال قضاء، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} أَيْ إِذَا مر الخلائق كلهم إلى النار، وسقط من سقط من الكفار، والعصاة، نَجَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ مِنْهَا بِحَسْبِ أَعْمَالِهِمْ، فَجَوَازُهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ وَسُرْعَتُهُمْ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يُشَفَّعُونَ فِي أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَشْفَعُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ والمؤمنون، قيخرجون خلقاً كثيراً قد أكلتهم النار إلاّ دارت وجوههم، وهي مواضع السجود، وَلَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} .(2/462)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
- 73 - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً
- 74 - وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْيًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ حِينَ تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ اللَّهِ ظَاهِرَةَ الدَّلَالَةِ بَيِّنَةَ الْحُجَّةِ وَاضِحَةَ الْبُرْهَانِ، أَنَّهُمْ يَصُدُّونَ ويعرضون عن ذلك، وَيَقُولُونَ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا مُفْتَخِرِينَ عَلَيْهِمْ وَمُحْتَجِّينَ عَلَى صِحَّةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْبَاطِلِ بِأَنَّهُمْ {خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} أَيْ أَحْسَنُ مَنَازِلَ، وَأَرْفَعُ دُوْرًا، وَأَحْسَنُ نَدِيًّا، وَهُوَ مجتمع الرِّجَالِ لِلْحَدِيثِ، أَيْ نَادِيهِمْ أَعْمَرُ وَأَكْثَرُ وَارِدًا وطارقاً، يعنون فكيف نكون نحن بهذه المثابة على باطل؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} ، وَقَالَ قَوْمُ نُوحٍ، {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ منَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بالشاكرين} ؟ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى، رَادًّا عَلَيْهِمْ شُبْهَتَهُمْ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ} : أَيْ وَكَمْ مِنْ أمة وقرن من المكذبين، وقد أَهْلَكْنَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْيًا} أَيْ كَانُوا أَحْسَنَ مِنْ هَؤُلَاءِ أَمْوَالًا وَأَمْتِعَةً وَمَنَاظِرَ وأشكالاً. قال ابن عباس {خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} الْمَقَامُ: الْمَنْزِلُ، وَالنَّدِيُّ: الْمَجْلِسُ، وَالْأَثَاثُ: الْمَتَاعُ، وَالرِّئْيُ: المنظر، وهو كما قال الله تَعَالَى: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} فَالْمَقَامُ الْمَسْكَنُ وَالنَّعِيمُ، وَالنَّدِيُّ: الْمَجْلِسُ، وَالْمَجْمَعُ، الَّذِي كانوا يجتمعون فيه، وقال تعالى فِيمَا قَصَّ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَمْرِ قَوْمِ لوط {وَتَأْتُونَ في ناديكم المنكر} وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمَجْلِسَ النَّادِي، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا رَأَوْا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عيشهم خشونة وفيهم(2/462)
قشافة، فعرض أهل الشرك ما تَسْمَعُونَ {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي الْأَثَاثِ هُوَ الْمَالُ، ومنهم من قال الثياب، ومنهم من قال المتاع، والرئي المنظر كما قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَعْنِي الصوَر، وَكَذَا قَالَ مَالِكٌ {أَثَاثًا وَرِئْيًا} أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَحْسَنُ صُوَرًا، وَالْكُلُّ مُتَقَارِبٌ صحيح.(2/463)
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
- 75 - قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً
يَقُولُ تَعَالَى {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِرَبِّهِمُ، الْمُدَّعِينَ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّكُمْ عَلَى الْبَاطِلِ {مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ} أَيْ مِنَّا وَمِنْكُمْ {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً} أي فليمهله الرَّحْمَنُ فِيمَا هُوَ فِيهِ، حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ وينقضي أجله، {إِمَّا العذاب} يصيبه، و {إما السَّاعَةَ} بَغْتَةً تَأْتِيهِ، {فَسَيَعْلَمُونَ} حينئذٍ {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً} فِي مُقَابَلَةِ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ خَيْرِيَّةِ الْمَقَامِ وَحُسْنِ النَّدِيِّ، قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً} فليدعه في ظيغانه، هَكَذَا قَرَّرَ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ رحمه الله.(2/463)
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
- 76 - وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا
لَمَّا ذكر تَعَالَى إِمْدَادَ مَنْ هُوَ فِي الضَّلَالَةِ فِيمَا هُوَ فِيهِ، وَزِيَادَتَهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، أخبره بِزِيَادَةِ الْمُهْتَدِينَ هُدًى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إيمانا} الآيتين. وقوله: {والباقيات الصالحات} قد تقدم تفسيرها فِي سُورَةِ الْكَهْفِ {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً} أَيْ جَزَاءً {وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} أَيْ عَاقِبَةً وَمَرَدًّا على صاحبها. عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَخَذَ عُودًا يَابِسًا فَحَطَّ وَرَقَهُ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ قَوْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَحُطُّ الْخَطَايَا كَمَا تَحُطُّ وَرَقَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الرِّيحُ، خُذْهُنَّ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُنَّ، هُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ وَهُنَّ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ» . قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِذَا ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ لَأُهَلِّلَنَّ اللَّهَ وَلَأُكَبِّرَنَّ اللَّهَ وَلَأُسَبِّحَنَّ اللَّهَ، حَتَّى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون (رواه عبد الرزاق وظاهره أنه مرسل ولكن وقع في سنن ابن ماجه عن أبي سلمة عن أبي الدرداء فذكره وهو حديث مرفوع) .(2/463)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
- 77 - أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا
- 78 - أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا
- 79 - كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا
- 80 - وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فردا
روى الإمام أحمد، عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا قَيْنًا، وَكَانَ لِي عَلَى (الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ) دين فأتيته أتقاضاه منه، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ(2/463)
تُبْعَثَ، قَالَ: فَإِنِّي إِذَا مُتُّ ثُمَّ بُعِثْتُ جئتني ولي ثمَّ مال وولد فأعطيك، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً - إِلَى قَوْلِهِ - وَيَأْتِينَا فَرْدًا} (أخرجه الشيخان والإمام أحمد عن خباب بن الأرت) ، وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ: كُنْتُ قَيْنًا بِمَكَّةَ فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ سَيْفًا، فَجِئْتُ أَتَقَاضَاهُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} قال: موثقاً.
وروى عبد الرزاق، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ، قَالَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ: كُنْتُ قَيْنًا بِمَكَّةَ فَكُنْتُ أَعْمَلُ لِلْعَاصِ بْنِ وائل، فاجتمعت لي عليه دارهم، فجئت لأتقاضاها، فَقَالَ لِي: لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ، قَالَ: فَإِذَا بُعِثْتُ كَانَ لِي مَالٌ وَوَلَدٌ، قَالَ: فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} الآيات. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَطْلُبُونَ (العاص بن وائل) بِدَيْنٍ، فَأَتَوْهُ يَتَقَاضُونَهُ، فَقَالَ: أَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ ذَهَبًا وَفِضَّةً وَحَرِيرًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْآخِرَةُ فَوَاللَّهِ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا، وَلَأُوتَيَنَّ مِثْلَ كِتَابِكُمُ الَّذِي جِئْتُمْ بِهِ فَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَهُ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا - إِلَى قوله - وَيَأْتِينَا فَرْداً} ، وَقَوْلُهُ: {لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} ، قَرَأَ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ الْوَاوِ مِنْ {وَلَداً} وَقَرَأَ آخَرُونَ بِضَمِّهَا وَهُوَ بمعناه، وَقِيلَ: إِنَّ الْوُلْدَ بِالضَّمِّ جَمْعٌ، وَالْوَلَدَ بِالْفَتْحِ مُفْرَدٌ، وَهِيَ لُغَةُ قَيْسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} إِنْكَارٌ عَلَى هَذَا الْقَائِلِ {لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ أَعَلِمَ ماله فِي الْآخِرَةِ، حَتَّى تَأَلَّى وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} أَمْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ سَيُؤْتِيهِ ذَلِكَ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ عند البخاري أنه الموثق، وقال ابن عباس: {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} قَالَ: لَا إله إلا الله فيرجو بها، وقال القرظي: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ قرأ {ألا من اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} ، وَقَوْلُهُ: {كَلاَّ} هِيَ حَرْفُ رَدْعٍ لِمَا قَبْلَهَا، وَتَأْكِيدٌ لِمَا بَعْدَهَا {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} أَيْ مِنْ طَلَبِهِ ذَلِكَ، وحكمه بنفسه، بما يتمناه وَكَفْرِهِ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً} أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عَلَى قَوْلِهِ ذلك وكفره بالله في الدينا، {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} أَيْ مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ، نَسْلُبُهُ مِنْهُ عَكْسَ مَا قَالَ إِنَّهُ يُؤْتَى فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ مَالًا وَوَلَدًا، زِيَادَةً عَلَى الَّذِي لَهُ فِي الدُّنْيَا، بَلْ فِي الْآخِرَةِ يُسْلَبُ مِنَ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، ولهذا قال تعالى: {وَيَأْتِينَا فَرْداً} أَيْ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، قَالَ مجاهد {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} : ماله وولده، وقال قَتَادَةَ {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} قَالَ: مَا عِنْدَهُ، وهو قوله: {لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} {وَيَأْتِينَا فَرْداً} لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، وقال عبد الرحمن بن زيد {وَنَرِثُهُ مَا يقول} قال: من جمع من الدنيا وما عمل فيها، {وَيَأْتِينَا فَرْداً} قَالَ: فَرْدًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَتْبَعُهُ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ.(2/464)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
- 81 - وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً
- 82 - كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً
- 83 - أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً
- 84 - فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ بِرَبِّهِمْ، أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لِتَكُونَ لهم تِلْكَ الْآلِهَةُ {عِزّاً} يَعْتَزُّونَ بِهَا وَيَسْتَنْصِرُونَهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا وَلَا يَكُونُ مَا طَمِعُوا، فَقَالَ {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} : أي(2/464)
يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} أَيْ بِخِلَافِ ما ظنوا فيهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} ، وَقَالَ السُّدِّيُّ {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} : أَيْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَقَوْلُهُ: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} أَيْ بِخِلَافِ ما رجوا منهم. وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} قَالَ: أَعْوَانًا، قَالَ مُجَاهِدٌ: عَوْنًا عَلَيْهِمْ تُخَاصِمُهُمْ وَتُكَذِّبُهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: قُرَنَاءَ فِي النَّارِ، يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ويكفر بعضهم ببعض، وَقَالَ الضَّحَّاكُ {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} قَالَ: أَعْدَاءً. وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: تُغْوِيهِمْ إِغْوَاءً، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنْهُ: تُحَرِّضُهُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تُشْلِيهِمْ إِشْلَاءً، وَقَالَ قَتَادَةُ: تُزْعِجُهُمْ إِزْعَاجًا إِلَى مَعَاصِي اللَّهِ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: تُغْرِيهِمْ إِغْرَاءً وَتَسْتَعْجِلُهُمُ استعجالاً، وقال السدي: تطغيهم طيغاناً، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} ، وَقَوْلُهُ: {فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} أَيْ لَا تَعْجَلْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي وُقُوعِ الْعَذَابِ بِهِمْ، {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} أَيْ إِنَّمَا نُؤَخِّرُهُمْ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ومضبوط، وَهُمْ صَائِرُونَ لَا مَحَالَةَ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ ونكاله، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} ، {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لي ليزداوا إثما} ، {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} ، {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} ، وقال السُّدِّيُّ: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} السِّنِينَ وَالشُّهُورَ والأيام والساعات، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} قَالَ: نعد أنفاسهم في الدينا.(2/465)
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
- 85 - يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً
- 86 - وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا - 87 - لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ خَافُوهُ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، وَاتَّبَعُوا رُسُلَهُ، وَصَدَّقُوهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوهُمْ وأطاعوهم فينا أمروهم به، وانتهوا عما زَجَرُوهُمْ أَنَّهُ يَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفْدًا إِلَيْهِ، وَالْوَفْدُ هُمُ الْقَادِمُونَ رُكْبَانًا وَمِنْهُ الْوُفُودُ، وَرُكُوبُهُمْ عَلَى نَجَائِبَ مِنْ نُورٍ مِنْ مَرَاكِبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَهُمْ قَادِمُونَ عَلَى خَيْرِ مَوْفُودٍ إِلَيْهِ إِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ وَرِضْوَانِهِ، وَأَمَّا الْمُجْرِمُونَ الْمُكَذِّبُونَ الْمُخَالِفُونَ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ يُسَاقُونَ عُنْفًا إِلَى النَّارِ {وِرْداً} عطاشاً (قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد) ، وقال ابن أبي حاتم، عَنِ ابْنِ مَرْزُوقٍ {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} قَالَ: يَسْتَقْبِلُ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ قَبْرِهِ أَحْسَنُ صُورَةٍ رَآهَا وَأَطْيَبُهَا رِيحًا، فَيَقُولُ: أَمَا تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ طَيَّبَ رِيحَكَ وَحَسَّنَ وَجْهَكَ. فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ وَهَكَذَا كُنْتَ فِي الدُّنْيَا حَسَنَ الْعَمَلِ طَيِّبَهُ، فَطَالَمَا رَكِبْتُكَ فِي الدُّنْيَا، فَهَلُمَّ ارْكَبْنِي فَيَرْكَبُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً} (أخرجه ابن أبي حاتم) ، قال ابن عباس: ركباناً، وقال أبو هُرَيْرَةَ {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} قال: على الإبل. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَلَى الْإِبِلِ النُّوقِ، وَقَالَ قَتَادَةُ {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} قَالَ: إلى الجنة، عن ابن النعمان بن سعيد قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {يَوْمَ(2/465)
نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يُحْشَرُونَ، وَلَا يُحْشَرُ الْوَفْدُ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، وَلَكِنْ بِنُوقٍ لَمْ يَرَ الْخَلَائِقُ مِثْلَهَا، عَلَيْهَا رَحَائِلُ مِنْ ذَهَبٍ فَيَرْكَبُونَ عليها حتى يضربوا أبواب الجنة (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَزَادَ: عليها رحائل من ذهب وأزمتها الزبرجد) .
وقوله تعالى {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} أَيْ عِطَاشًا، {لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ كَمَا يَشْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} ، وَقَوْلُهُ: {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} هذا اسثناء مُنْقَطِعٌ، بِمَعْنَى: لَكِنْ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، والقيام بحقها. قال ابن عباس: الْعَهْدُ (شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ، وَيَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَلَا يَرْجُو إِلَّا اللَّهِ عَزَّ وجلَّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: قَرَأَ عَبْدُ الله بن مَسْعُودٍ هَذِهِ الْآيَةَ {إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} ثُمَّ قَالَ: اتَّخِذُوا عِندَ اللَّهِ عَهْداً، فإن الله يقول الْقِيَامَةِ: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ فَلْيَقُمْ، قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَعَلِّمْنَا، قَالَ قُولُوا: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَإِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الحياة الدنيا، أنك إن تكلني إلى عملي يقربني من الشر ويباعدني مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ فَاجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُؤَدِّيهِ إِلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. قَالَ الْمَسْعُودِيُّ: وَكَانَ يُلْحِقُ بِهِنَّ: خَائِفًا مُسْتَجِيرًا مُسْتَغْفِرًا رَاهِبًا راغباً إليك.(2/466)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
- 88 - وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً
- 89 - لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً
- 90 - تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً
- 91 - أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً
- 92 - وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً
- 93 - إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً
- 94 - لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا
- 95 - وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا
لَمَّا قَرَّرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الشَّرِيفَةِ عُبُودِيَّةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَكَرَ خَلْقَهُ مِنْ مَرْيَمَ بِلَا أَبٍ، شَرَعَ فِي مَقَامِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا فَقَالَ: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ} أَيْ فِي قَوْلِكُمْ، هَذَا {شَيْئاً إِدّاً} ، قال ابن عباس: أي عظيماً، وَقَوْلُهُ: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} أَيْ يَكَادُ يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ سَمَاعِهِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ فجَرَة بَنِي آدَمَ إِعْظَامًا لِلرَّبِّ وَإِجْلَالًا، لِأَنَّهُنَّ مَخْلُوقَاتٌ وَمُؤَسَّسَاتٌ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَأَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ، قال ابن جرير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} قَالَ: إِنَّ الشِّرْكَ فَزِعَتْ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ إلاّ الثقلين، وكادت تَزُولَ مِنْهُ لِعَظَمَةِ اللَّهِ، وَكَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ إِحْسَانُ الْمُشْرِكِ كَذَلِكَ نَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ ذُنُوبَ الْمُوَحِّدِينَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا عند موته وجبت له الجنة» ، فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ قَالَهَا فِي صِحَّتِهِ؟ قَالَ: «تِلْكَ أَوْجَبُ وَأَوْجَبُ» ، ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ جِيءَ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ وَمَا تَحْتَهُنَّ فَوُضِعْنَ فِي كفة الميزان ووضعا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى لَرَجَحَتْ بِهِنَّ» (هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ) ، وقال(2/466)
الضَّحَّاكُ {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} أَيْ يَتَشَقَّقْنَ فَرَقًا مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن زيد {وَتَنشَقُّ الأرض} أي غضباً له عزَّ وجلَّ، {وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَدْمًا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هَدًّا ينكسر بَعْضَهَا على بَعْضٍ متتابعات. عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ إِنَّ الجبل لينادي بِاسْمِهِ: يَا فُلَانُ هَلْ مَرَّ بِكَ الْيَوْمَ ذكر اللَّهَ عزَّ وجلَّ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ وَيَسْتَبْشِرُ، قَالَ عَوْنٌ: لَهِيَ لِلْخَيْرِ أَسْمَعُ، أَفَيَسْمَعْنَ الزُّورَ وَالْبَاطِلَ، إِذَا قِيلَ وَلَا يَسْمَعْنَ غَيْرَهُ؟ ثُمَّ قَرَأَ {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} (أخرجه ابن أبي حاتم) الآية وعن أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ إِن يشرك به ويُجعل له ولد، وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ وَيَرْزُقُهُمْ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي لَفْظٍ: «إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ» . وَقَوْلُهُ: {وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} أَيْ لَا يَصْلُحُ لَهُ وَلَا يَلِيقُ بِهِ لِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، لِأَنَّهُ لَا كُفْءَ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ عَبِيدٌ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} أَيْ قَدْ عَلِمَ عَدَدَهُمْ، مُنْذُ خَلْقَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ذَكَرَهُمْ وَأُنْثَاهُمْ وَصَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ، {وَكُلُّهُمْ
آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} أي لا ناصر وَلَا مُجِيرَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، فيحكم في خلقه بما يشاء، هو الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَلَا يظلم أحداً.(2/467)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
- 96 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً
- 97 - فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا
- 98 - وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً
يُخْبِرُ تَعَالَى: أَنَّهُ يَغْرِسُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ، في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة، وَقَدْ وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وجه فروى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ - قَالَ - فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، قَالَ: ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يحب فلاناً فأحبوه، قَالَ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِن اللَّهَ إِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أَبْغَضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، قَالَ فَيَبْغَضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ، إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ، فَيَبْغَضُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يوضع له البغضاء في الأرض" (أخرجه البخاري ومسلم وأحمد، واللفظ لأحمد) . وعن ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَلْتَمِسُ مرضاة الله عزَّ وجلَّ، فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ، فَيَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لِجِبْرِيلَ إِنَّ فُلَانًا عَبْدِي يَلْتَمِسُ أَنْ يُرْضِيَنِي أَلَا وَإِنَّ رَحْمَتِي عَلَيْهِ، فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ، وَيَقُولُهَا حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَيَقُولُهَا مَنْ حَوْلَهُمْ، حَتَّى يَقُولَهَا أَهْلُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، ثم يهبط إلى الأرض (أخرجه الإمام أحمد) وروى ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ ثُمَّ يُنَزِّلُ لَهُ الْمَحَبَّةَ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ(2/467)
آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} (ورواه مسلم والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح) ، وقال ابن عباس: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} قَالَ: حُبًّا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنْهُ {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} قَالَ: محبة في الناس في الدينا. وقال سعيد بن جبير: يحبهم ويحببهم يعني إلى خلقه المؤمنين، وقال العوفي، عن ابن عباس: الْوُدُّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ وَاللِّسَانُ الصَّادِقُ، وَقَالَ قَتَادَةُ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} إِي والله في قلوب أهل الإيمان، وذكر لَنَا أَنَّ هَرَمَ بْنَ حَيَّانَ كَانَ يَقُولُ: مَا أَقْبَلَ عَبْدٌ بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ إِلَّا أَقْبَلَ اللَّهُ بِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ، حَتَّى يَرْزُقَهُ مَوَدَّتَهُمْ وَرَحْمَتَهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَعْمَلُ خَيْرًا أَوْ شَرًّا إِلَّا كَسَاهُ الله عزَّ وجلَّ رداء عمله.
وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {بِلِسَانِكَ} : أَيْ يَا مُحَمَّدُ وَهُوَ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ الْمُبِينُ الْفَصِيحُ الْكَامِلُ، {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} أَيِ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلَّهِ الْمُصَدِّقِينَ لِرَسُولِهِ، {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً} : أَيْ عُوَّجًا عن الحق مائلين إلى الباطل، وقال مُجَاهِدٍ {قَوْماً لُّدّاً} لَا يَسْتَقِيمُونَ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً} : عوجاً عن الحق. وقال الضحّاك: الألد الخصيم، وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: الْأَلَدُّ الْكَذَّابُ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ {قَوْماً لُّدّاً} صُمًّا، وَقَالَ غَيْرُهُ: صُمُّ آذَانِ القلوب، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {قَوْمًا لُدًّا} : فُجَّارًا، وَكَذَا رَوَى عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأَلَدُّ الظَّلُومُ، وقرأ قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} ، وَقَوْلُهُ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ} : أَيْ مِنْ أُمَّةٍ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} : أَيْ هَلْ تَرَى مِنْهُمْ أَحَدًا أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وأبو العالية وعكرمة: يَعْنِي صَوْتًا، وَقَالَ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ: هَلْ تَرَى عَيْنًا أَوْ تَسْمَعُ صَوْتًا وَالرِّكْزُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: هُوَ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَتَوَجَّسَتْ رِكْزَ الْأَنِيسِ فَرَاعَهَا * عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ وَالْأَنِيسُ سقامها.(2/468)
- 20 - سورة طه(2/469)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - طه
- 2 - مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى
- 3 - إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى
- 4 - تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأرض والسماوات العلى
- 5 - الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى
- 6 - لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى
- 7 - وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى
- 8 - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {طه} يَا رَجُلُ، وهكذا روي عن مجاهد وعكرمة والضحّاك، وأسند القاضي عياض في كتابه «الشفاء» عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى قَامَ عَلَى رِجْلٍ وَرَفَعَ الْأُخْرَى، فأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {طه} يعني طأ الأرض يا محمد (هذا التفسير غريب ولم ينكره ابن كثير رحمه الله ولم يثبت في أحاديث صحيحة عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم على رجل واحدة وإنما ثبت أنه كان يقوم من الليل حتى تفطرت قدماه، فتفسير (طه) بمعنى طأها مستبعد، والله أعلم) {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} ثُمَّ قَالَ: وَلاَ يخفى ما فِي هَذَا مِنَ الْإِكْرَامِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ، وَقَوْلُهُ: {مَآ أنزلنا عليك القرآن لتشقى} قال الضَّحَّاكِ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ بِهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا أُنْزِلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى مُحَمَّدٍ إِلَّا لِيَشْقَى، فأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {طه مَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَهُ الْمُبْطِلُونَ، بَلْ من آتاه الْعِلْمَ فَقَدْ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا كَثِيرًا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُهُ فِي الدِّينِ» . وما أحسن الحديث الذي رواه الحافظ الطبراني، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْعُلَمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا قَعَدَ عَلَى كُرْسِيِّهِ لِقَضَاءِ عِبَادِهِ، إِنِّي لَمْ أَجْعَلْ عِلْمِي وَحِكْمَتِي فِيكُمْ إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْفِرَ لَكُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ وَلَا أُبَالِي» (قال ابن كثير: إسناده جيد، وثعلبة بن الحكم هو الليثي، نزل البصرة ثم تحول إلى الكوفة) . وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} هي كقوله: {فاقرأوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} وكانوا يعلقون الحبال بصدروهم في الصلاة. وقال قتادة: لا والله ما جعله(2/469)
شقاء ولكن رَحْمَةً وَنُورًا، وَدَلِيلًا إِلَى الْجَنَّةِ {إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ كِتَابَهُ وَبَعَثَ رسوله رحمة رحم بها عباده لِيَتَذَكَّرَ ذَاكِرٌ، وَيَنْتَفِعَ رَجُلٌ بِمَا سَمِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَهُوَ ذِكْرٌ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ، وَقَوْلُهُ: {تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ والسموات العلى} أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ هو تنزيل من رَبِّكَ، الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ بِانْخِفَاضِهَا وَكَثَافَتِهَا، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ العلى فِي ارْتِفَاعِهَا وَلَطَافَتِهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، أَنَّ سُمْكَ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَبُعْدَ مَا بَيْنَهَا، والتي تليها مسيرة خمسمائة عام.
وقوله تعالى: {الرحمن عَلَى العرش استوى} المسلك الأسلم طريقة السلف، وهو إِمْرَارُ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَحْرِيفٍ، وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، وَقَوْلُهُ: {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} أَيِ الْجَمِيعُ مِلْكُهُ وفي قبضته، وتحت تصرفه وَمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَحُكْمِهِ، وَهُوَ خَالِقٌ ذَلِكَ وَمَالِكُهُ، وإلهه لا إله سواه، وَقَوْلُهُ: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كعب: أي ما تحت الأرض السابعة، {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أَيْ أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ والسماوات العلى الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السموات والأرض، إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قَالَ: السِّرُّ ما أسره ابْنُ آدَمَ فِي نَفْسِهِ، {وَأَخْفَى} مَا أَخْفَى عَلَى ابْنِ آدَمَ مِمَّا هُوَ فَاعِلُهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَهُ، فَاللَّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَعِلْمُهُ فِيمَا مَضَى مِنْ ذَلِكَ، وَمَا بَقِيَ عِلْمٌ وَاحِدٌ، وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} . وَقَالَ الضَّحَّاكُ {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قَالَ: السِّرُّ مَا تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ، وَأَخْفَى مَا لَمْ تحدث نفسك به بَعْدُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنْتَ تَعْلَمُ مَا تُسِرُّ الْيَوْمَ، وَلَا تَعْلَمُ مَا تُسِرُّ غَدًا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّ الْيَوْمَ وَمَا تُسِرُّ غَدًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {وَأَخْفَى} يَعْنِي الْوَسْوَسَةَ، وقال أيضاً {وَأَخْفَى} أَيْ مَا هُوَ عَامِلُهُ مِمَّا لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} : أَيِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ القرآن هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ذو الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ والمنة.(2/470)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
- 9 - وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى
- 10 - إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ
هدى
من ههنا شَرَعَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي ذِكْرِ قِصَّةِ مُوسَى، وَكَيْفَ كَانَ ابْتِدَاءُ الْوَحْيِ إِلَيْهِ، وَتَكْلِيمُهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صِهْرِهِ فِي رِعَايَةِ الْغَنَمِ، وسار بأهله: قيل قاصداً بلاد مصر بعد ما طَالَتِ الْغَيْبَةُ عَنْهَا أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ، فَأَضَلَّ الطَّرِيقَ وَكَانَتْ لَيْلَةً شَاتِيَةً، وَنَزَلَ مَنْزِلًا بَيْنَ شِعَابٍ وَجِبَالٍ فِي بَرْدٍ وَشِتَاءٍ، وَسَحَابٍ وَظَلَامٍ وَضَبَابٍ، وَجَعَلَ يَقْدَحُ بِزَنْدٍ مَعَهُ لِيُوَرِّيَ نَارًا كَمَا جَرَتْ لَهُ الْعَادَةُ بِهِ، فَجَعَلَ لَا يَقْدَحُ شَيْئًا وَلَا يَخْرُجُ منه شرر ولا شيء، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطَّوْرِ نَارًا، أَيْ ظَهَرَتْ لَهُ نَارٌ مِنْ جَانِبِ الْجَبَلِ الَّذِي هُنَاكَ عَنْ يَمِينِهِ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ يُبَشِّرُهُمْ {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ} أَيْ شِهَابٍ مِنْ نَارٍ، وَفِي الْآيَةِ الأُخْرى {أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار} وَهِيَ الْجَمْرُ الَّذِي مَعَهُ لَهَبٌ {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} دَلَّ عَلَى وُجُودِ الْبَرْدِ، وَقَوْلُهُ: {بِقَبَسٍ} دَلَّ عَلَى وُجُودِ الظَّلَامِ، وَقَوْلُهُ: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} أَيْ مَنْ يَهْدِينِي الطَّرِيقَ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ(2/470)
تاه عن الطريق كما قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} قَالَ: مَنْ يَهْدِينِي إِلَى الطَّرِيقِ وَكَانُوا شَاتِّينَ وَضَلُّوا الطَّرِيقَ، فَلَمَّا رَأَى النَّارَ، قَالَ: إِنْ لَمْ أَجِدْ أَحَدًا يَهْدِينِي إِلَى الطريق أتيتكم بِنَارٍ تُوقِدُونَ بِهَا.(2/471)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
- 11 - فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى
- 12 - إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى
- 13 - وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى
- 14 - إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي
- 15 - إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى
- 16 - فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى
يَقُولُ تَعَالَى {فَلَمَّآ أَتَاهَا} أَيِ النَّارَ وَاقْتَرَبَ مِنْهَا {نُودِيَ يَا مُوسَى} ، وَفِي الْآيَةِ الأُخْرى: {نودي من شاطئ الوادي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا موسى إني أَنَا الله} ، وقال ههنا: {إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ} أَيِ الَّذِي يُكَلِّمُكَ وَيُخَاطِبُكَ {فاخلع نَعْلَيْكَ} قيل: كانتا من جلد حمار غير ذكي (قاله علي بن أبي طالب وغير واحد من السلف) ، وَقِيلَ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ تَعْظِيمًا لِلْبُقْعَةِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَمَا يُؤْمَرُ الرَّجُلُ أَنْ يَخْلَعَ نَعْلَيْهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْكَعْبَةَ، وَقِيلَ لِيَطَأَ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ بِقَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ مُنْتَعِلٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقوله: {طُوًى} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ اسْمٌ لِلْوَادِي، وَكَذَا قَالَ غير واحد، وقيل: عبارة عن الأمر بالوطء بقدميه، والأول أصح كقوله {إِذْ ناده ربه بالوادي المقدس طوى} ، وَقَوْلُهُ: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} ، كَقَوْلِهِ: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} أَيْ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ مِنَ الْمَوْجُودِينَ فِي زمانه، وقد قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: يَا مُوسَى أتدري لم اختصصتك بِالتَّكْلِيمِ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: لأني لم يتواضع إليَّ أَحَدٌ تَوَاضُعَكَ، وَقَوْلُهُ: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} أَيِ واستمع الْآنَ مَا أَقُولُ لَكَ، وَأُوحِيهِ إِلَيْكَ {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} ، هَذَا أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَقَوْلُهُ: {فَاعْبُدْنِي} أَيْ وَحِّدْنِي وَقُمْ بِعِبَادَتِي مِنْ غَيْرِ شَرِيكٍ، {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} قِيلَ مَعْنَاهُ: صَلِّ لِتَذْكُرَنِي، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ عِنْدَ ذِكْرِكَ لِي، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الثَّانِي مَا روي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: "إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ اللَّهَ تعالى قد قال: وأقم الصلاة لذكري" (أخرجه الإمام أحمد عن أنَس بن مالك) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أنَس قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ» (أخرجه الشيخان عن أنَسٍ أيضاً) .
وقوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} : أَيْ قَائِمَةٌ لَا مَحَالَةَ وَكَائِنَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ {أَكَادُ أُخْفِيهَا} قال ابن عباس: أي لَا أُطْلِعُ عَلَيْهَا أَحَدًا غَيْرِي، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ قد أخفى الله تعالى عَنْهُ عِلْمَ السَّاعَةِ؛ وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنِّي أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي، يَقُولُ: كتمتها من الْخَلَائِقِ، حَتَّى لَوِ اسْتَطَعْتُ أَنْ أَكْتُمَهَا مِنْ نفسي لفعلت. قال قتادة: لَقَدْ أَخْفَاهَا اللَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَمِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، قُلْتُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الغيب إلا الله} ، وقال: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ(2/471)
لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بغتة} أَيْ ثَقُلَ عِلْمُهَا عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} أَيْ أُقِيمُهَا لَا مَحَالَةَ؛ لِأَجْزِيَ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} ، {وإنما تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تعملون} ، وَقَوْلُهُ: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا} الآية. الْمُرَادُ بِهَذَا الْخِطَابِ آحَادُ الْمُكَلَّفِينَ، أَيْ لَا تَتَّبِعُوا سَبِيلَ مَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ، وَأَقْبَلَ عَلَى مَلَاذِّهِ فِي دُنْيَاهُ وَعَصَى مَوْلَاهُ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، فَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ {فَتَرْدَى} : أَيْ تَهْلَكُ وَتَعْطَبُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} .(2/472)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
- 17 - وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى
- 18 - قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى
- 19 - قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى
- 20 - فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى
- 21 - قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الْأُولَى
هَذَا بُرْهَانٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ وَخَرْقٌ لِلْعَادَةِ بَاهِرٌ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ هَذَا إِلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وَأَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهِ إِلَّا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَقَوْلُهُ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِينَاسِ لَهُ؛ وَقِيلَ وإنما قَالَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ، أَيْ أَمَّا هَذِهِ الَّتِي فِي يَمِينِكَ عَصَاكَ الَّتِي تَعْرِفُهَا؟ فَسَتَرَى مَا نَصْنَعُ بِهَا الْآنَ، {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} ؟ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} أَيْ أَعْتَمِدُ عَلَيْهَا، فِي حَالِ الْمَشْيِ، {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} أي أهز بها الشجرة ليتساقط ورقها لترعاه غنمي، قال الإمام مالك: الهش أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْمِحْجَنَ فِي الْغُصْنِ ثُمَّ يُحَرِّكُهُ حَتَّى يُسْقِطَ وَرَقَهُ وَثَمَرَهُ وَلَا يَكْسِرُ العود، فهذا الهش ولا يخبط، وَقَوْلُهُ: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} أَيْ مَصَالِحُ ومنافع وحاجات أُخر غير ذلك.
وقوله تعالى: {أَلْقِهَا يَا مُوسَى} أَيْ هَذِهِ الْعَصَا الَّتِي فِي يَدِكَ يَا مُوسَى أَلْقِهَا، {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} أَيْ صَارَتْ فِي الْحَالِ حَيَّةً عَظِيمَةً، ثُعْبَانًا طَوِيلًا يَتَحَرَّكُ حَرَكَةً سَرِيعَةً، فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ، وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَيَّاتِ حَرَكَةً، وَلَكِنَّهُ صَغِيرٌ، فَهَذِهِ فِي غَايَةِ الْكُبْرِ، وَفِي غَايَةِ سُرْعَةِ الْحَرَكَةِ، {تَسْعَى} أَيْ تمشي وتضطرب. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} ، وَلَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ حَيَّةً، فَمَرَّتْ بِشَجَرَةٍ فَأَكَلَتْهَا، وَمَرَّتْ بِصَخْرَةٍ فَابْتَلَعَتْهَا، فَجَعَلَ مُوسَى يَسْمَعُ وَقْعَ الصَّخْرَةِ فِي جَوْفِهَا، فَوَلَّى مُدْبِرًا، ونودي أن يا موسى خذها، ثُمَّ نُودِيَ الثَّانِيَةَ أَنْ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ، فَقِيلَ لَهُ
فِي الثَّالِثَةِ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ، فأخذها. وقال وهب بن منبه: ألقاها على وجه الارض، ثم حانت منه نَظْرَةٌ فَإِذَا بِأَعْظَمِ ثُعْبَانٍ نَظَرَ إِلَيْهِ النَّاظِرُونَ، يدب يَلْتَمِسُ كَأَنَّهُ يَبْتَغِي شَيْئًا يُرِيدُ أَخْذَهُ، يَمُرُّ بالصخرة فَيَلْتَقِمُهَا، وَيَطْعَنُ بِالنَّابِ مِنْ أَنْيَابِهِ فِي أَصْلِ الشجرة العظيمة فيجتثها، عيناه تتقدان ناراً، وقد عاد المحجن منها عرفاً، فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ مُوسَى ولَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ، فَذَهَبَ حَتَّى أَمْعَنَ، وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ أعجز الحية، ثم ذكر به فَوَقَفَ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، ثُمَّ نُودِيَ يَا مُوسَى أَنِ ارْجِعْ حَيْثُ كُنْتَ، فَرَجَعَ مُوسَى وَهُوَ شَدِيدُ الْخَوْفِ، فَقَالَ {خُذْهَا} بِيَمِينِكَ {وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الْأُولَى} ، وَعَلَى مُوسَى حينئذٍ مِدْرَعَةٌ مِنْ صُوفٍ، فَدَخَلَهَا بِخِلَالٍ مِنْ عِيدَانٍ، فَلَمَّا أمره بأخذها لف طرف المدرعة على يَدِهِ، ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى فَمِ الْحَيَّةِ حَتَّى سَمِعَ حِسَّ الْأَضْرَاسِ وَالْأَنْيَابِ، ثُمَّ قَبَضَ(2/472)
فَإِذَا هِيَ عَصَاهُ الَّتِي عَهِدَهَا وَإِذَا يَدُهُ فِي مَوْضِعِهَا الَّذِي كَانَ يَضَعُهَا، إِذَا تَوَكَّأَ بَيْنَ الشُّعْبَتَيْنِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الْأُولَى} أَيْ إِلَى حَالِهَا الَّتِي تُعْرَفُ قَبْلَ ذلك.(2/473)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
- 22 - وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى
- 23 - لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى
- 24 - اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى
- 25 - قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي
- 26 - وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي
- 27 - وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي
- 28 - يَفْقَهُواْ قَوْلِي
- 29 - وَاجْعَلْ لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي
- 30 - هَارُونَ أَخِي
- 31 - اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي
- 32 - وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي
- 33 - كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً
- 34 - وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا
- 35 - إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا
وَهَذَا بُرْهَانٌ ثَانٍ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى. وههنا عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} ، وَقَالَ فِي مَكَانٍ آخَرَ: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فرعون وملئه} ، وقال مجاهد: {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} : كفك تحت عضدك؛ وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا، تَخْرُجُ تَتَلَأْلَأُ كَأَنَّهَا فَلْقَةُ قَمَرٍ، وَقَوْلُهُ: {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أَيْ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ وَلَا أَذًى، وَمِنْ غَيْرِ شَيْنٍ (قَالَهُ ابْنُ عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحّاك وَغَيْرُهُمْ) ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَخْرَجَهَا وَاللَّهِ كَأَنَّهَا مِصْبَاحٌ، فَعَلِمَ مُوسَى أَنَّهُ قَدْ لَقِيَ رَبَّهُ عزَّ وجلَّ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} ، وَقَالَ وَهْبٌ، قَالَ لَهُ رَبُّهُ: أدنه، فلم يزل يدينه حتى أسند ظَهْرَهُ بِجِذْعِ الشَّجَرَةِ فَاسْتَقَرَّ، وَذَهَبَتْ عَنْهُ الرِّعْدَةُ، وَجَمَعَ يَدَهُ فِي الْعَصَا وَخَضَعَ بِرَأْسِهِ وَعُنُقِهِ. وَقَوْلُهُ {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} : أَيِ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ، الَّذِي خَرَجْتَ فَارًّا مِنْهُ وَهَارِبًا، فَادْعُهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَمُرْهُ فَلْيُحْسِنْ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ يُعَذِّبْهُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ طَغَى وَبَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَنَسِيَ الرَّبَّ الْأَعْلَى. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى: انطلق برسالتي فإنك بسمعي وعيني، وقد أَلْبَسْتُكَ جُنَّةً مِنْ سُلْطَانِي لِتَسْتَكْمِلَ بِهَا الْقُوَّةَ فِي أَمْرِي، فَأَنْتَ جُنْدٌ عَظِيمٌ مِنْ جُنْدِي، بَعَثْتُكَ إِلَى خَلْقٍ ضَعِيفٍ مِنْ خَلْقِي، بَطَرَ نِعْمَتِي وَأَمِنَ مَكْرِي، وَغَرَّتْهُ الدُّنْيَا عَنِّي، حَتَّى جَحَدَ حَقِّي وَأَنْكَرَ رُبُوبِيَّتِي، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُنِي فَإِنِّي أُقْسِمُ بِعِزَّتِي لَوْلَا الْقَدَرُ الَّذِي وَضَعْتُ بَيْنِي وَبَيْنَ خَلْقِي، لَبَطَشْتُ بِهِ بَطْشَةَ جَبَّارٍ، يَغْضَبُ لِغَضَبِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَالْبِحَارُ، فَإِنْ أَمَرْتُ السَّمَاءَ حَصَبَتْهُ، وَإِنْ أَمَرْتُ الْأَرْضَ ابْتَلَعَتْهُ، وَإِنْ أَمَرْتُ الْجِبَالَ دَمَّرَتْهُ، وَإِنْ أَمَرْتُ الْبِحَارَ غَرَّقَتْهُ، وَلَكِنَّهُ هَانَ عَلَيَّ وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِي، وَوَسِعَهُ حِلْمِي وَاسْتَغْنَيْتُ بِمَا عِنْدِي وَحَقِّي، إِنِّي أَنَا الْغَنِيُّ لَا غَنِيَّ غَيْرِي، فَبَلِّغْهُ رِسَالَتِي، وَادْعُهُ إِلَى عِبَادَتِي وَتَوْحِيدِي وَإِخْلَاصِي، وَذَكِّرْهُ أيامي، وحذره من نقمتي وبأسي، وَقُلْ لَهُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ قَوْلًا لَيِّنًا لعله يتذكر أو يخشى، وأخبره أَنِّي إِلَى الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ أَسْرَعُ مِنِّي إِلَى الْغَضَبِ وَالْعُقُوبَةِ، وَلَا يُرَوِّعَنَّكَ مَا أَلْبَسْتُهُ مِنْ لباس الدنيا، فإن ناصيته بيدي، أَفَيَظُنُّ الَّذِي يُحَارِبُنِي أَنْ يَقُومَ لِي، أَمْ يَظُنُّ الَّذِي يُعَادِينِي أَنْ يُعْجِزَنِي، أَمْ يَظُنُّ الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني (أخرجه ابن أبي حاتم من كلام وهب بن منبه، وهو طويل اقتصرنا على بعضه) .(2/473)
{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} هَذَا سُؤَالٌ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِرَبِّهِ عزَّ وجلَّ، أَنْ يَشْرَحَ لَهُ صَدْرَهُ فِيمَا بَعَثَهُ بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَمَرَهُ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَخَطْبٍ جَسِيمٍ، بَعَثَهُ إِلَى أَعْظَمِ مَلِكٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِذْ ذَاكَ، وَأَجْبَرِهِمْ وَأَشَدِّهِمْ كفراً وأكثرهم جنوداً، وأبلغهم تمرداً، هَذَا وَقَدْ مَكَثَ مُوسَى فِي دَارِهِ مُدَّةً وَلِيدًا عِنْدَهُمْ فِي حَجْرِ فِرْعَوْنَ عَلَى فِرَاشِهِ، ثُمَّ قَتَلَ مِنْهُمْ نَفْسًا فَخَافَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ فَهَرَبَ مِنْهُمْ، هَذِهِ الْمُدَّةَ بِكَمَالِهَا، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا بَعَثَهُ رَبُّهُ عزَّ وجلَّ إِلَيْهِمْ نَذِيرًا يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} أَيْ إِنْ لَمْ تَكُنْ أَنْتَ عَوْنِي وَنَصِيرِي وَعَضُدِي وَظَهِيرِي وَإِلَّا فَلَا طَاقَةَ لِي بِذَلِكَ {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي} . وَمَا سَأَلَ أَنْ يَزُولَ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ بِحَيْثُ يَزُولُ الْعَيُّ وَيَحْصُلُ لَهُمْ فَهْمُ مَا يُرِيدُ مِنْهُ، وَهُوَ قَدْرُ الْحَاجَةِ، وَلَوْ سَأَلَ الْجَمِيعَ لَزَالَ وَلَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَسْأَلُونَ إِلَّا بحسب الحاجة، ولهذا بقيت. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَالَ {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} أَيْ يُفْصِحُ بِالْكَلَامِ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي} قَالَ: حُلَّ عُقْدَةً وَاحِدَةً،
وَلَوْ سَأَلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أُعْطِيَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَكَا مُوسَى إِلَى رَبِّهِ مَا يتخوف من آل فرعون في القتيل، وعقدة لِسَانِهِ فَإِنَّهُ كَانَ فِي لِسَانِهِ عُقْدَةٌ تَمْنَعُهُ من كثير الْكَلَامِ، وَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُعِينَهُ بِأَخِيهِ هَارُونَ، يَكُونُ لَهُ رِدْءًا وَيَتَكَلَّمُ عَنْهُ بِكَثِيرٍ مِمَّا يُفْصِحُ بِهِ لِسَانُهُ، فَآتَاهُ سُؤْلَهُ، فَحَلَّ عُقْدَةً من لسانه.
وقوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} ، وهذا أيضاً سؤال من موسى عليه السلام فِي أَمْرٍ خَارِجِيٍّ عَنْهُ، وَهُوَ مُسَاعَدَةُ أَخِيهِ هارون له، قال ابن عباس: نبئ هارون ساعتئذ وحين نبئ موسى عليهما السلام. روي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا خَرَجَتْ فِيمَا كَانَتْ تَعْتَمِرُ، فنَزَلَتْ بِبَعْضِ الْأَعْرَابِ فَسَمِعَتْ رَجُلًا يَقُولُ: أَيُّ أَخٍ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَنْفَعَ لِأَخِيهِ؟ قَالُوا: لا ندري، قال أنا والله أَدْرِي! قَالَتْ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي فِي حَلِفِهِ لَا يَسْتَثْنِي، إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَيَّ أَخٍ كَانَ في الدينا أَنْفَعَ لِأَخِيهِ، قَالَ: (مُوسَى) حِينَ سَأَلَ لِأَخِيهِ النبوة، فقلت: صدق والله (أخرجه ابن أبي حاتم) . وَقَوْلُهُ: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} قَالَ مُجَاهِدٌ: ظَهْرِي، {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} أَيْ فِي مُشَاوَرَتِي، {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا حَتَّى يذكر الله قائماً ومضظجعاً، وَقَوْلُهُ: {إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} أَيْ فِي اصطفائك لنا وإعطائك إيانا النبوة وبعثك لَنَا إِلَى عَدُوِّكَ فِرْعَوْنَ، فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى ذلك.(2/474)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
- 36 - قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى
- 37 - وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى
- 38 - إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى
- 39 - أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي
- 40 - إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا
هَذِهِ إِجَابَةٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِيمَا سَأَلَ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَذْكِيرٌ لَهُ بِنِعَمِهِ السَّالِفَةِ عَلَيْهِ، فِيمَا(2/474)
كان من أمر أُمَّهُ، حِينَ كَانَتْ تُرْضِعُهُ وَتَحْذَرُ عَلَيْهِ، مِنْ فرعون وملئه أن يقتلوه، حيث كانوا يَقْتُلُونَ الْغِلْمَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذَرًا مِنْ وُجُودِ مُوسَى، فَحَكَمَ اللَّهُ - وَلَهُ السُّلْطَانُ الْعَظِيمُ والقدرة التامة - أن لا يُرَبَّى إِلَّا عَلَى فِرَاشِ فِرْعَوْنَ وَيُغَذَّى بِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، مَعَ مَحَبَّتِهِ وَزَوْجَتِهِ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تعالى: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ * وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} أي عدوك جعلته يحبك، قال سلمه بن كهبل {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} قَالَ: حَبَّبْتُكَ إِلَى عبادي، {وَلِتُصْنَعَ على عيني} : تُرَبَّى بِعَيْنِ اللَّهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: تُغَذَّى عَلَى عيني، وقال ابن أَسْلَمَ: يَعْنِي أَجْعَلُهُ فِي بَيْتِ الْمَلِكِ يَنْعَمُ ويترف، وغذاؤه عِنْدَهُمْ غِذَاءُ الْمَلِكِ، فَتِلْكَ الصَّنْعَةُ. وَقَوْلُهُ: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها} ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ عِنْدَ آلِ فِرْعَوْنَ، وعرضوا عليه المراضع فأباها، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ} ، فَجَاءَتْ أُخْتُهُ، وَقَالَتْ: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وهم له ناصحون} تعني هل أدلكم على من يرضعه لَكُمْ بِالْأُجْرَةِ، فَذَهَبَتْ بِهِ وَهُمْ مَعَهَا إِلَى أُمِّهِ، فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ ثَدْيَهَا فَقَبِلَهُ، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَاسْتَأْجَرُوهَا عَلَى إِرْضَاعِهِ، فَنَالَهَا بِسَبَبِهِ سعادة ورفعة وراحة في الدينا، وفي الآخرة أعظم وَأَجْزَلُ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَثَلُ الصَّانِعِ الَّذِي يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، كَمَثَلِ أَمِّ مُوسَى تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا» ، وَقَالَ تَعَالَى ههنا: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ} أَيْ عَلَيْكَ، {وَقَتَلْتَ نَفْساً} يَعْنِي الْقِبْطِيَّ {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} وَهُوَ مَا حَصَلَ لَهُ بِسَبَبِ عَزْمِ آلِ فِرْعَوْنَ عَلَى قَتْلِهِ، فَفَرَّ منهم هارباً حتى وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ، وقوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} .
(حديث الفتون) : روى الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النسائي في سننه، عن سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} ، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْفُتُونِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: اسْتَأْنِفِ النَّهَارَ يَا أبا جُبَيْرٍ، فَإِنَّ لَهَا حَدِيثًا طَوِيلًا، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنْتَجِزَ مِنْهُ مَا وَعَدَنِي مِنْ حَدِيثِ الْفُتُونِ، فَقَالَ: تَذَاكَرَ فِرْعَوْنُ وَجُلَسَاؤُهُ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام أن يجعل في ذريته أبناء وَمُلُوكًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَنْتَظِرُونَ ذلك لا يَشُكُّونَ فِيهِ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، فَلَمَّا هَلَكَ قَالُوا: لَيْسَ هَكَذَا كَانَ وعد إبراهيم عليه اسلام، فقال فرعون: كيف تَرَوْنَ؟ فَائْتَمَرُوا وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى أَن يَبْعَثَ رِجَالًا مَعَهُمُ الشِّفَارُ يَطُوفُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَا يَجِدُونَ مَوْلُودًا ذَكَرًا إِلَّا ذَبَحُوهُ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ بَنِي إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يذبحون، قالوا: ليوشكن أَنْ تُفْنُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَتَصِيرُوا إِلَى أَنْ تباشروا من الأعمال والخدمة التي يكفونكم، فاقتلوا عاماً كل مولود ذكر واتركوا بناتهم، وَدَعُوا عَامًا فَلَا تَقْتُلُوا مِنْهُمْ أَحَدًا. فَيَشِبُّ الصِّغَارُ مَكَانَ مَنْ يَمُوتُ مِنَ الْكِبَارِ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَكْثُرُوا بِمَنْ تَسْتَحْيُونَ مِنْهُمْ، فَتَخَافُوا مُكَاثَرَتَهُمْ إياكم، ولم يفنوا بمن يقتلون، وَتَحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ، فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَحَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِهَارُونَ فِي الْعَامِ الَّذِي لَا يُذْبَحُ فِيهِ الْغِلْمَانُ، فَوَلَدَتْهُ عَلَانِيَةً آمِنَةً، فَلَمَّا كَانَ مَنْ قَابِلٍ حَمَلَتْ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَقَعَ فِي قَلْبِهَا الْهَمُّ وَالْحُزْنُ، وَذَلِكَ مِنَ الفتون يا ابن جبير، ما دخل عليه وهو فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِمَّا يُرَادُ بِهِ.
فَأَوْحَى الله إِلَيْهَا أَنْ لَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين، فَأَمَرَهَا إِذَا وَلَدَتْ أَنْ تَجْعَلَهُ فِي تَابُوتٍ ثُمَّ تُلْقِيهِ فِي الْيَمِّ، فَلَمَّا وَلَدَتْ فَعَلَتْ ذَلِكَ، فَلَمَّا تَوَارَى عَنْهَا ابْنُهَا أَتَاهَا الشَّيْطَانُ، فقالت في نفسها: ما فعلت(2/475)
يا بني لَوْ ذُبِحَ عِنْدِي فَوَارَيْتُهُ وَكَفَّنْتُهُ كَانَ أَحَبَّ إليَّ مِنْ أَنْ
أُلْقِيَهُ إِلَى دَوَابِّ الْبَحْرِ وَحِيتَانِهِ، فَانْتَهَى الْمَاءُ بِهِ حَتَّى أَوْفَى بِهِ عند مرفعة مستقى جواري امرأة فرعون، فلما رأينه أخذته فأردن أَنْ يَفْتَحْنَ التَّابُوتَ، فَقَالَ بَعْضُهُنَّ إِنَّ فِي هَذَا مَالًا، وَإِنَّا إِنْ فَتَحْنَاهُ لَمْ تُصَدِّقْنَا امرأة الملك بما وجدنا فِيهِ، فَحَمَلْنَهُ كَهَيْئَتِهِ لَمْ يُخْرِجْنَ مِنْهُ شَيْئًا، حتى دفعنه إِلَيْهَا، فَلَمَّا فَتَحَتْهُ رَأَتْ فِيهِ غُلَامًا، فَأُلْقِيَ الله عليه منها محبة لم يلق عَلَى أَحَدٍ قَطُّ، وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا مِنْ ذِكْرِ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى، فَلَمَّا سَمِعَ الذَّبَّاحُونَ بِأَمْرِهِ أَقْبَلُوا بِشِفَارِهِمْ إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ لِيَذْبَحُوهُ، وَذَلِكَ مِنَ الفتون يا ابن جُبَيْرٍ. فَقَالَتْ لَهُمْ: أَقِرُّوهُ فَإِنَّ هَذَا الْوَاحِدَ لَا يَزِيدُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَتَّى آتِيَ فِرْعَوْنَ فَأَسْتَوْهِبَهُ مِنْهُ، فَإِنْ وَهَبَهُ لِي كُنْتُمْ قَدْ أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ، وَإِنْ أَمَرَ بِذَبْحِهِ لَمْ أَلُمْكُمْ، فَأَتَتْ فِرْعَوْنَ فَقَالَتْ: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: يَكُونُ لَكِ فَأَمَّا لِي فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي يُحلف بِهِ لَوْ أَقَرَّ فِرْعَوْنُ أَنْ يَكُونَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُ كَمَا أَقَرَّتِ امْرَأَتُهُ لَهَدَاهُ اللَّهُ كَمَا هَدَاهَا، وَلَكِنْ حَرَمَهُ ذَلِكَ» . فَأَرْسَلَتْ إِلَى مَنْ حَوْلَهَا إلى كل امرأة لها، لأن تختار لَهُ ظِئْرًا، فَجَعَلَ كُلَّمَا أَخَذَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ لِتُرْضِعَهُ لَمْ يُقْبِلْ عَلَى ثَدْيِهَا حَتَّى أَشْفَقَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ اللَّبَنِ فَيَمُوتَ، فَأَحْزَنَهَا ذَلِكَ فَأَمَرَتْ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى السُّوقِ وَمَجْمَعِ النَّاسِ، تَرْجُو أَنْ تَجِدَ لَهُ ظِئْرًا تَأْخُذُهُ مِنْهَا، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَأَصْبَحَتْ أُمُّ مُوسَى وَالِهًا فَقَالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّي أَثَرَهُ وَاطْلُبِيهِ، هَلْ تسمعين له ذكراً، حي ابْنِي أَمْ قَدْ أَكَلَتْهُ الدَّوَابُّ؟ وَنَسِيَتْ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا فِيهِ، فَبَصُرَتْ بِهِ أُخْتُهُ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَالْجُنُبُ أَنْ يَسْمُوَ بَصَرُ الْإِنْسَانِ إِلَى شَيْءٍ بَعِيدٍ، وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ، فَقَالَتْ مِنَ الْفَرَحِ حِينَ أَعْيَاهُمُ الظُّؤُرَاتِ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصحون، فأخذوها فقالوا: وما يدرك نصحهم له، هل تعرفينه؟ حَتَّى شَكُّوا فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ يا ابن جبير.
فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه ورغبتهم في صهر الملك، ورجاء منفعة الملك، فتركوها فَانْطَلَقَتْ إِلَى أُمِّهَا فَأَخْبَرَتْهَا الْخَبَرَ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ، فَلَمَّا وَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهَا نَزَا إِلَى ثَدْيِهَا، فمصه حتى امتلأ جنباه رياً، وانطلق البشير إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ يُبَشِّرُونَهَا أَن قَدْ وَجَدْنَا لِابْنِكِ ظِئْرًا، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهَا فَأَتَتْ بِهَا وَبِهِ، فَلَمَّا رَأَتْ مَا يَصْنَعُ بِهَا، قَالَتِ: امْكُثِي تُرْضِعِي ابْنِي هَذَا، فَإِنِّي لَمْ أُحِبَّ شَيْئًا حُبَّهُ قَطُّ، قَالَتْ أُمُّ مُوسَى: لَا أَسْتَطِيعُ أن أجع بَيْتِي وَوَلَدِي فَيَضِيعَ، فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُكِ أَنْ تُعْطِيَنِيهِ فَأَذْهَبَ بِهِ إِلَى بَيْتِي فَيَكُونَ مَعِي لا آلوه خيراً، فَإِنِّي غَيْرُ تَارِكَةٍ بَيْتِي وَوَلَدِي، وَذَكَرَتْ أُمُّ مُوسَى مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا فِيهِ، فَتَعَاسَرَتْ عَلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَأَيْقَنَتْ أَنَّ اللَّهَ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ، فَرَجَعَتْ بِهِ إِلَى بَيْتِهَا مِنْ يَوْمِهَا، وَأَنْبَتَهُ اللَّهُ نَبَاتًا حَسَنًا، وَحَفِظَهُ لِمَا قَدْ قَضَى فِيهِ. فَلَمْ يَزَلْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ فِي نَاحِيَةِ الْقَرْيَةِ مُمْتَنِعِينَ مِنَ السُّخْرَةِ وَالظُّلْمِ وما كَانَ فِيهِمْ.
فَلَمَّا تَرَعْرَعَ قَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ لأم موسى: أزيريني ابني، فوعدتها يوماً تزيرها إِيَّاهُ فِيهِ، وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ لِخُزَّانِهَا وَظُؤُرِهَا وَقَهَارَمَتِهَا: لَا يَبْقَيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا اسْتَقْبَلَ ابْنِي الْيَوْمَ بِهَدِيَّةٍ وَكَرَامَةٍ، لِأَرَى ذَلِكَ، وَأَنَا بَاعِثَةٌ أَمِينًا يُحْصِي مَا يَصْنَعُ كُلُّ إِنْسَانٍ منكم، فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تَسْتَقْبِلُهُ مِنْ حِينِ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ أُمِّهِ إِلَى أَنْ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا دخل عليها
بجلته وَأَكْرَمَتْهُ وَفَرِحَتْ بِهِ، وَنَحَلَتْ أُمَّهُ لِحُسْنِ أَثَرِهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَتْ: لَآتِيَنَّ بِهِ فِرْعَوْنَ فَلَيَنْحَلَنَّهُ وَلَيُكْرِمَنَّهُ، فَلَمَّا دَخَلَتْ بِهِ عَلَيْهِ جَعَلَهُ فِي حجره، فتناول موسى لحية فرعون فمدها إِلَى الْأَرْضِ، فَقَالَ الْغُوَاةُ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ لِفِرْعَوْنَ: أَلَا تَرَى مَا وَعَدَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ نَبِيَّهُ إِنَّهُ زَعَمَ أَنْ يَرِثَكَ وَيَعْلُوَكَ وَيَصْرَعَكَ، فأرسل إلى(2/476)
الذباحين ليذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جُبَيْرٍ. بَعْدَ كَلِّ بَلَاءٍ ابْتُلِيَ بِهِ، وَأُرِيدَ به فتوناً، فَجَاءَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ فَقَالَتْ: مَا بَدَا لَكَ فِي هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي وَهَبْتَهُ لِي؟ فَقَالَ: أَلَا تَرَيِنَهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَصْرَعُنِي وَيَعْلُونِي، فَقَالَتِ: اجعل بيني وبينك أمراً يعرف الحق به، ائت بجمرتين ولؤلؤتين، فقدمهن إليه، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين عرفت أَنَّهُ يَعْقِلُ، وَإِنْ تَنَاوَلَ الْجَمْرَتَيْنِ وَلَمْ يُرِدِ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ عَلِمْتَ أَنَّ أَحَدًا لَا يُؤْثِرُ الْجَمْرَتَيْنِ على اللؤلؤتين، وهو يعقل، فقرب إليه الجمرتين واللؤلؤتين فتناول الجمرتين، فاتنزعهما مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَحْرِقَا يَدَهُ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: أَلَا تَرَى؟ فَصَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَا كَانَ قَدْ هَمَّ بِهِ، وَكَانَ اللَّهُ بَالِغًا فِيهِ أَمْرَهُ.
فَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ، وَكَانَ مِنَ الرِّجَالِ، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَخْلُصُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ بِظُلْمٍ وَلَا سُخْرَةٍ حَتَّى امْتَنَعُوا كُلَّ الِامْتِنَاعِ، فبينما كان مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَمْشِي فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ إِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ، أَحَدُهُمَا فِرْعَوْنِيٌّ وَالْآخَرُ إِسْرَائِيلِيٌّ، فَاسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ فَغَضِبَ مُوسَى غَضَبًا شَدِيدًا لِأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَنْزِلَتَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَحِفْظَهُ لَهُمْ، لَا يَعْلَمُ النَّاسُ إِلَّا أَنَّمَا ذَلِكَ مِنَ الرَّضَاعِ، إِلَّا أم موسى، إلا أن يكون الله أَطْلَعَ مُوسَى مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، فَوَكَزَ مُوسَى الْفِرْعَوْنِيَّ فَقَتَلَهُ، وَلَيْسَ يَرَاهُمَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ وَالْإِسْرَائِيلِيُّ، فَقَالَ مُوسَى حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُّبِينٌ، ثُمَّ قَالَ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ، فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ الْأَخْبَارَ، فَأَتَى فِرْعَوْنَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا رَجُلًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فَخُذْ لَنَا بِحَقِّنَا وَلَا تُرَخِّصُ لَهُمْ، فَقَالَ: ابْغُونِي قَاتِلَهُ وَمَنْ يشهد عليه، فإن الملك وإن كان صفوة قَوْمِهِ لَا يَسْتَقِيمُ لَهُ أَنْ يُقِيدَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبْتٍ، فَاطْلُبُوا لِي عِلْمَ ذَلِكَ آخذ لكم بحقكم، فبينما هو يَطُوفُونَ وَلَا يَجِدُونَ ثَبْتًا إِذَا بِمُوسَى مِنَ الغد قد رأى الْإِسْرَائِيلِيَّ يُقَاتِلُ رَجُلًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ آخَرَ، فَاسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ فَصَادَفَ مُوسَى قَدْ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَكَرِهَ الَّذِي رَأَى، فَغَضِبَ الْإِسْرَائِيلِيُّ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْطِشَ بِالْفِرْعَوْنِيِّ، فَقَالَ لِلْإِسْرَائِيلِيِّ لِمَا فَعَلَ بِالْأَمْسِ وَالْيَوْمِ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ، فَنَظَرَ الْإِسْرَائِيلِيُّ إِلَى مُوسَى بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ مَا قَالَ، فَإِذَا هُوَ غَضْبَانُ كَغَضَبِهِ بِالْأَمْسِ الَّذِي قَتَلَ فِيهِ الْفِرْعَوْنِيَّ، فَخَافَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مَا قَالَ إنك لغوي مبين، أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ وَلَمْ يَكُنْ أَرَادَهُ إنما أَرَادَ الْفِرْعَوْنِيَّ، فَخَافَ الْإِسْرَائِيلِيُّ وَقَالَ: يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ، وإنما قال مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ مُوسَى لِيَقْتُلَهُ فَتَتَارَكَا، وَانْطَلَقَ الْفِرْعَوْنِيُّ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا سَمِعَ مِنَ الإسرائيلي من الخبر، حين يقول: يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ. فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ الذَّبَّاحِينَ لِيَقْتُلُوا مُوسَى، فَأَخَذَ رُسُلَ فِرْعَوْنَ فِي الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ يَمْشُونَ على هينتهم، يَطْلُبُونَ مُوسَى وَهُمْ لَا يَخَافُونَ أَنْ يَفُوتَهُمْ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ شِيعَةِ مُوسَى مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ، فَاخْتَصَرَ طَرِيقًا حَتَّى سَبَقَهُمْ إِلَى مُوسَى فأخبره، وذلك من الفتون يا ابن جرير.
فَخَرَجَ مُوسَى مُتَوَجِّهًا نَحْوَ مَدْيَنَ لَمْ يَلْقَ بَلَاءً قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ بِالطَّرِيقِ عِلْمٌ إِلَّا حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ عزَّ وجلَّ، فَإِنَّهُ قَالَ: {عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تذودان} يعني بذلك حابستين غنمها، فَقَالَ لَهُمَا: مَا خَطْبُكُمَا مُعْتَزِلَتَيْنِ لَا تَسْقِيَانِ مَعَ النَّاسِ؟ قَالَتَا: لَيْسَ لَنَا قُوَّةٌ نُزَاحِمُ القوم، وإنما نسقي من فُضُولَ حِيَاضِهِمْ، فَسَقَى لَهُمَا، فَجَعَلَ يَغْتَرِفُ فِي الدَّلْوِ مَاءً كَثِيرًا حَتَّى كَانَ أَوَّلَ الرِّعَاءِ، فانصرفتا بغنمها إِلَى أَبِيهِمَا وَانْصَرَفَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاسْتَظَلَّ بِشَجَرَةٍ، وَقَالَ: {رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ(2/477)
إِلَيَّ مِنْ خير فقير} ، واستنكر أبوهما سرعة صدورهما، بغنمها حُفَّلًا بِطَانًا، فَقَالَ: إِنَّ لَكُمَا الْيَوْمَ لَشَأْنًا، فَأَخْبَرَتَاهُ بِمَا صَنَعَ مُوسَى، فَأَمَرَ إِحْدَاهُمَا أَنْ تَدْعُوَهُ، فَأَتَتْ مُوسَى فَدَعَتْهُ، فَلَمَّا كَلَّمَهُ، قَالَ: لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، لَيْسَ لِفِرْعَوْنَ وَلَا لِقَوْمِهِ عَلَيْنَا سُلْطَانٌ، وَلَسْنَا فِي مَمْلَكَتِهِ، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين} فَاحْتَمَلَتْهُ الْغَيْرَةُ عَلَى أَنْ قَالَ لَهَا: مَا يُدْرِيكِ مَا قُوَّتُهُ، وَمَا أَمَانَتُهُ؟ فَقَالَتْ: أَمَّا قُوَّتُهُ فَمَا رَأَيْتُ مِنْهُ فِي الدَّلْوِ حِينَ سَقَى لَنَا، لَمْ أَرَ رَجُلًا قَطُّ أَقْوَى فِي ذَلِكَ السَّقْيِ مِنْهُ، وَأَمَّا الْأَمَانَةُ فَإِنَّهُ نَظَرَ إليَّ حِينَ أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ وَشَخَصْتُ لَهُ، فلم عَلِمَ أَنِّي امْرَأَةٌ صَوَّبَ رَأْسَهُ فَلَمْ يَرْفَعْهُ حَتَّى بَلَّغْتُهُ رِسَالَتَكَ، ثُمَّ قَالَ لِيَ: امْشِي خَلْفِي وَانْعُتِي لِيَ الطَّرِيقَ، فَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا إِلَّا وَهُوَ أَمِينٌ، فَسُرِّيَ عَنْ أَبِيهَا وَصَدَّقَهَا وَظَنَّ بِهِ الَّذِي قَالَتْ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ، وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ الله من الصالحين، ففعل، فكانت على نبي الله موسى ثمان حجج واجبة، وكانت سنتان عدة فَقَضَى اللَّهُ عَنْهُ عِدَتَهُ فَأَتَمَّهَا عَشْرًا. قَالَ سعيد بن جُبَيْرٍ: فَلَقِيَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى موسى؟ قلت: لا، وأنا يومئذٍ لا أدرري، فَلَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ ثَمَانِيًا كَانَتْ عَلَى نَبِيِّ الله واجبة لم يكن نبي الله لينقص مِنْهَا شَيْئًا، وَيَعْلَمُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ قَاضِيًا عن موسى عدته التي كان وَعَدَهُ، فَإِنَّهُ قَضَى عَشْرَ سِنِينَ، فَلَقِيتُ النَّصْرَانِيَّ فَأَخْبَرْتُهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: الَّذِي سَأَلْتَهُ فَأَخْبَرَكَ أَعْلَمُ منك بذلك، قلت: أجل وأولى.
(يتبع ... )(2/478)
(تابع ... 1) : 36 - قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سؤلك يا موسى ... ...
فاما سَارَ مُوسَى بِأَهْلِهِ كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّارِ وَالْعَصَا وَيَدِهِ مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ فِي القرآن، فشكا إلى الله تعالى ما يحذر من آل فرعون في القتل، وعقدة لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تَمْنَعُهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُعِينَهُ بِأَخِيهِ هَارُونَ يَكُونُ لَهُ رِدْءًا يتكلم عَنْهُ بِكَثِيرٍ مِمَّا لَا يُفْصِحُ بِهِ لِسَانُهُ، فَآتَاهُ اللَّهُ سُؤْلَهُ وَحَلَّ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِهِ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَارُونَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْقَاهُ، فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليه السَّلَامُ، فَانْطَلَقَا جَمِيعًا إِلَى فِرْعَوْنَ فَأَقَامَا عَلَى بابه حينا لا يؤذن لهما، ثم أذن لَهُمَا بَعْدَ حِجَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَا: {أَنَاْ رَسُولَا ربك} ، قال: فمن ربكما؟ فأخبراه بِالَّذِي قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ: فَمَا تُرِيدَانِ؟ وَذَكَّرَهُ الْقَتِيلَ فَاعْتَذَرَ بِمَا قَدْ سَمِعْتَ، قَالَ: أُريد أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَتُرْسِلَ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ. فأبى عليه، فقال: ائت بآية إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى عَظِيمَةً فَاغِرَةً فَاهَا مُسْرِعَةً إِلَى فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا رَآهَا فِرْعَوْنُ قَاصِدَةً إِلَيْهِ خَافَهَا فَاقْتَحَمَ عَنْ سَرِيرِهِ، وَاسْتَغَاثَ بِمُوسَى أَنْ يكفلها عَنْهُ، فَفَعَلَ، ثُمَّ أَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ فَرَآهَا بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، يَعْنِي مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ، ثُمَّ رَدَّهَا فَعَادَتْ إِلَى لَوْنِهَا الْأَوَّلِ، فَاسْتَشَارَ الْمَلَأَ حَوْلَهُ فِيمَا رَأَى، فَقَالُوا له: هذان ساحرن يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى، يَعْنِي مُلْكَهُمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَالْعَيْشَ، وَأَبَوْا عَلَى مُوسَى أَنْ يُعْطُوهُ شَيْئًا مما طلب، وقالوا له: اجمع لهما السَّحَرَةَ، فَإِنَّهُمْ بِأَرْضِكَ كَثِيرٌ حَتَّى تَغْلِبَ بِسِحْرِكَ سِحْرَهُمَا، فَأَرْسَلَ إِلَى الْمَدَائِنِ فَحُشِرَ لَهُ كُلُّ سَاحِرٍ مُتَعَالِمٍ، فَلَمَّا أَتَوْا فِرْعَوْنَ قَالُوا: بِمَ يَعْمَلُ هَذَا السَّاحِرُ؟ قَالُوا: يَعْمَلُ بِالْحَيَّاتِ، قَالُوا: فَلَا وَاللَّهِ مَا أَحَدٌ فِي الْأَرْضِ يَعْمَلُ بِالسِّحْرِ بِالْحَيَّاتِ وَالْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ الَّذِي نَعْمَلُ فَمَا أجرنا إن نحن غلبناه؟ قَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ أَقَارِبِي وَخَاصَّتِي وَأَنَا صَانِعٌ إِلَيْكُمْ كُلَّ شَيْءٍ أَحْبَبْتُمْ، فَتَوَاعَدُوا يَوْمَ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضَحًّى.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ يَوْمَ الزِّينَةِ اليوم الَّذِي أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ والسحرة(2/478)
هُوَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ. فَلَمَّا اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، قَالَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْطَلِقُوا فَلْنَحْضُرْ لهذا الْأَمْرَ {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الغاليبن} يَعْنُونَ مُوسَى وَهَارُونَ، اسْتِهْزَاءً بِهِمَا {فَقَالُوا يَا مُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نحن الملقين * قَالَ بَلْ أَلْقُواْ، فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} ، فَرَأَى مُوسَى مِنْ سِحْرِهِمْ مَا أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ أَلْقِ عصاك، فلما ألقاها صارت ثعباناً عظيماً فاغراً فاه فجعلت العصي تلتبس بالحبال حتى صارت جرزاً إِلَى الثُّعْبَانِ تَدْخُلُ فِيهِ، حَتَّى مَا أَبْقَتْ عصا ولا حبلاً إلا ابتعلته، فلما عرف السَّحَرَةُ ذَلِكَ قَالُوا: لَوْ كَانَ هَذَا سِحْرًا لم يبلغ من سحرنا كل هذا، ولكن هذا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ، آمَنَّا بِاللَّهِ وبما جاء به موسى من عند الله وَنَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا كُنَّا عَلَيْهِ، فَكَسَرَ اللَّهُ ظَهْرَ فِرْعَوْنَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ وَأَشْيَاعِهِ، وظهر الحق وبطل ما كانوا يعلمون {فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صاغرين} ، وَامْرَأَةُ فِرْعَوْنَ بَارِزَةٌ مُتَبَذِّلَةٌ تَدْعُو اللَّهَ بِالنَّصْرِ لِمُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ، فَمَنْ رَآهَا مِنْ آل فرعون ظن أنها ابْتُذِلَتْ لِلشَّفَقَةِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ وَإِنَّمَا كَانَ حُزْنُهَا وَهَمُّهَا لِمُوسَى.
فَلَمَّا طَالَ مُكْثُ مُوسَى بِمَوَاعِيدِ فِرْعَوْنَ الْكَاذِبَةِ، كُلَّمَا جَاءَ بِآيَةٍ وَعَدَهُ عِنْدَهَا أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِذَا مَضَتْ أَخْلَفَ مَوْعِدَهُ، وَقَالَ: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يَصْنَعَ غَيْرَ هَذَا؟ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى قَوْمِهِ: الطُّوفَانَ، وَالْجَرَادَ، والقُمّل، وَالضَّفَادِعَ، وَالدَّمَ، آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَشْكُو إِلَى مُوسَى وَيَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يَكُفَّهَا عَنْهُ وَيُوَاثِقُهُ عَلَى أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِذَا كَفَّ ذَلِكَ عنه أَخْلَفَ مَوْعِدَهُ وَنَكَثَ عَهْدَهُ، حَتَّى أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى بِالْخُرُوجِ بِقَوْمِهِ فَخَرَجَ بِهِمْ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ فِرْعَوْنُ وَرَأَى أَنَّهُمْ قَدْ مَضَوْا أَرْسَلَ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، فَتَبِعَهُ بِجُنُودٍ عَظِيمَةٍ كَثِيرَةٍ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْبَحْرِ إِذَا ضَرَبَكَ عَبْدِي مُوسَى بِعَصَاهُ فَانْفَلِقِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً حَتَّى يجوز موسى ومن معه، ثم التقي عَلَى مَنْ بَقِيَ بَعْدُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ، فَنَسِيَ مُوسَى أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِالْعَصَا وَانْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ وَلَهُ قَصِيفٌ، مَخَافَةَ أَنْ يَضْرِبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ وَهُوَ غَافِلٌ فَيَصِيرُ عَاصِيًا لِلَّهِ. فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ وَتَقَارَبَا، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، افْعَلْ مَا أَمَرَكَ بِهِ رَبُّكَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَمْ تَكْذِبْ. قَالَ وَعَدَنِي ربي إذا أتيت البحر انفلق اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً، حَتَّى أُجَاوِزَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَصَا، فَضَرَبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ حِينَ دَنَا أَوَائِلُ جُنْدِ فِرْعَوْنَ مِنْ أَوَاخِرِ جُنْدِ مُوسَى، فَانْفَرَقَ الْبَحْرُ كَمَا أَمَرَهُ رَبُّهُ وَكَمَا وَعَدَ مُوسَى، فَلَمَّا أَنْ جَازَ مُوسَى وَأَصْحَابُهُ كُلُّهُمُ الْبَحْرَ وَدَخَلَ فِرْعَوْنُ وَأَصْحَابُهُ، الْتَقَى عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ كَمَا أُمِرَ؛ فَلَمَّا جَاوَزَ مُوسَى الْبَحْرَ قال أصحابه: إنا نخاف أن لا يَكُونَ فِرْعَوْنُ غَرَقَ وَلَا نُؤْمِنُ بِهَلَاكِهِ، فَدَعَا رَبَّهُ فَأَخْرَجَهُ لَهُ بِبَدَنِهِ حَتَّى اسْتَيْقَنُوا بِهَلَاكِهِ.
ثُمَّ مَرُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ {قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فيه} الآية: قَدْ رَأَيْتُمْ مِنَ الْعِبَرِ، وَسَمِعْتُمْ مَا يَكْفِيكُمْ،
وَمَضَى فَأَنْزَلَهُمْ مُوسَى مَنْزِلًا، وَقَالَ: أَطِيعُوا هَارُونَ فَإِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُهُ عَلَيْكُمْ فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي، وَأَجَّلَهُمْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ فِيهَا، فَلَمَّا أَتَى رَبَّهُ وَأَرَادَ أَنْ يُكَلِّمَهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ صَامَهُنَّ لَيْلَهُنَّ وَنَهَارَهُنَّ، وَكَرِهَ أَنْ يُكَلِّمَ رَبَّهُ وَرِيحُ فِيهِ، رِيحُ فَمِ الصَّائِمِ، فَتَنَاوَلَ مُوسَى مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ شَيْئًا فَمَضَغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ حِينَ أَتَاهُ: لِمَ أَفْطَرْتَ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالَّذِي كَانَ! قَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُكَلِّمَكَ إِلَّا وَفَمِي طَيِّبُ الرِّيحِ، قَالَ: أَوَمَا عَلِمْتَ يَا مُوسَى أن ريح فم الصائم أطيب عندي مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، ارْجِعْ فَصُمْ عَشْرًا. ثُمَّ ائْتِنِي. فَفَعَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أُمِرَ به، فلما رأى قومه أنه لم(2/479)
يرجع إليهم في الأجل سائهم ذَلِكَ، وَكَانَ هَارُونُ قَدْ خَطَبَهُمْ، وَقَالَ: إِنَّكُمْ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنْ مِصْرَ وَلِقَوْمِ فِرْعَوْنَ عِنْدَكُمْ عوار وودائع ولكم فيهم مثل ذلك، فإني أَرَى أَنَّكُمْ تَحْتَسِبُونَ مَا لَكَمَ عِنْدَهُمْ، وَلَا أَحِلُّ لَكُمْ وَدِيعَةً اسْتُودِعْتُمُوهَا وَلَا عَارِيَةً، وَلَسْنَا بِرَادِّينَ إِلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا مُمْسِكِيهِ لِأَنْفُسِنَا، فَحَفَرَ حَفِيرًا وَأَمَرَ كُلَّ قَوْمٍ عِنْدَهُمْ من ذلك من متاع أو حلي أَنْ يَقْذِفُوهُ فِي ذَلِكَ الْحَفِيرِ، ثُمَّ أَوْقَدَ عليه النار فأحرقته، فَقَالَ: لَا يَكُونُ لَنَا وَلَا لَهُمْ. وَكَانَ السَّامِرِيُّ مَنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ، جِيرَانٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَاحْتَمَلَ مَعَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ احْتَمَلُوا. فَقُضِيَ لَهُ أَنْ رَأَى أَثَرًا فَقَبَضَ مِنْهُ قَبْضَةً فَمَرَّ بِهَارُونَ، فَقَالَ لَهُ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا سَامِرِيُّ أَلَا تُلْقِي مَا فِي يَدِكَ وهو قابض عليه لا يراه أحد طول ذَلِكَ، فَقَالَ: هَذِهِ قَبْضَةٌ مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ الذي جاوز بكم البحر، لا أُلْقِيهَا لِشَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَدْعُوَ اللَّهَ إِذَا ألقيتها أن يجعلها مَا أُرِيدُ، فَأَلْقَاهَا وَدَعَا لَهُ هَارُونُ، فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عِجْلًا، فَاجْتَمَعَ مَا كَانَ فِي الْحَفِيرَةِ مِنْ مَتَاعٍ أَوْ حِلْيَةٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ، فَصَارَ عِجْلًا أَجْوَفَ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ وَلَهُ خُوَارٌ! قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا وَاللَّهِ مَا كَانَ لَهُ صَوْتٌ قَطُّ إِنَّمَا كَانَتِ الرِّيحُ تَدْخُلُ فِي دُبُرِهِ وَتَخْرُجُ من فيه، وكان ذَلِكَ الصَّوْتُ مِنْ ذَلِكَ، فَتَفَرَّقَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِرَقًا، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: يَا سَامِرِيُّ مَا هَذَا وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ؟ قَالَ هَذَا رَبُّكُمْ، وَلَكِنَّ موسى أضل الطريق، فقالت فِرْقَةٌ: لَا نُكَذِّبُ بِهَذَا حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى، فَإِنْ كَانَ رَبَّنَا لَمْ نَكُنْ ضَيَّعْنَاهُ وعجزنا فيه حين رأينا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَبَّنَا، فَإِنَّا نَتَّبِعُ قَوْلَ موسى، وقالت فرقة: هذا من عمل الشيطان، وليس بربنا، ولا نؤمن وَلَا نُصَدِّقُ، وَأُشْرِبَ فِرْقَةٌ فِي قُلُوبِهِمُ الصِّدْقَ بِمَا قَالَ السَّامِرِيُّ فِي الْعَجَلِ، وَأَعْلَنُوا التَّكْذِيبَ بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} ، قَالُوا: فَمَا بَالُ مُوسَى وَعَدَنَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ أَخْلَفَنَا، هَذِهِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا قَدْ مَضَتْ، وقال سفهاؤهم: أخطأ ربه فهو يطلبه يتبعه.
فَلَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى وَقَالَ لَهُ مَا قَالَ، أَخْبَرَهُ بِمَا لَقِيَ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ، {فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غضبان أسفا} ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا سَمِعْتُمْ فِي الْقُرْآنِ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ مِنَ الْغَضَبِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَذَرَ أَخَاهُ بِعُذْرِهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ وَانْصَرَفَ إِلَى السَّامِرِيِّ، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: قَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ وَفَطِنْتُ لَهَا وَعَمِيَتْ عَلَيْكُمْ {فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ، وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ، وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً، لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً} . وَلَوْ كَانَ إِلَهًا لَمْ يَخْلُصْ إِلَى ذَلِكَ مِنْهُ، فَاسْتَيْقَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالْفِتْنَةِ، وَاغْتَبَطَ الَّذِينَ كَانَ رَأْيُهُمْ فِيهِ مِثْلَ رَأْيِ هَارُونَ، فَقَالُوا لجماعتهم: يا موسى سل لنا بك أَنْ يَفْتَحَ لَنَا بَابَ تَوْبَةٍ نَصْنَعُهَا، فَيُكَفِّرَ عَنَّا مَا عَمِلْنَا، فَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِذَلِكَ لَا يَأْلُو الْخَيْرَ، خِيَارُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَنْ لَمْ يُشْرِكْ فِي الْعِجْلِ، فَانْطَلَقَ بِهِمْ يَسْأَلُ لَهُمُ التَّوْبَةَ، فَرَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ فَاسْتَحْيَا نَبِيُّ اللَّهِ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ وَفْدِهِ حِينَ فُعِلَ بِهِمْ مَا فُعِلَ، فَقَالَ: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ} ؟ وفيهم من كان الله اطلع مِنْهُ عَلَى مَا أُشْرِبَ قَلْبُهُ مِنْ حُبِّ الْعِجْلِ وَإِيمَانِهِ بِهِ، فَلِذَلِكَ رَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ، فَقَالَ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل} ، فَقَالَ: يَا رَبِّ سَأَلْتُكَ التَّوْبَةَ لِقَوْمِي فَقُلْتَ إِنَّ رَحْمَتِي كَتَبْتُهَا لِقَوْمٍ غَيْرِ قَوْمِي، هَلَّا أَخَّرْتَنِي حَتَّى تُخْرِجَنِي فِي أُمَّةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْمَرْحُومَةِ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ تَوْبَتَهُمْ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَنْ لَقِيَ مِنْ وَالِدٍ وولد، فيقتله(2/480)
بالسيف ولا يبالي فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ، وَتَابَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانَ خفي أمرهم عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ، وَاطَّلَعَ اللَّهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ فَاعْتَرَفُوا بِهَا وَفَعَلُوا مَا أُمِرُوا وَغَفَرَ اللَّهُ لِلْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ.
ثُمَّ سَارَ بِهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَخَذَ الْأَلْوَاحَ بَعْدَ مَا سَكَتَ عَنْهُ الْغَضَبُ، فَأَمَرَهُمْ بِالَّذِي أمرهم بِهِ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ مِنَ الْوَظَائِفِ. فَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا بِهَا، فَنَتَقَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ كَأَنَّهُ ظُلَّةً وَدَنَا مِنْهُمْ حَتَّى خَافُوا أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ، فَأَخَذُوا الْكِتَابَ بِأَيْمَانِهِمْ وَهُمْ مُصْغُونَ، يَنْظُرُونَ إِلَى الْجَبَلِ وَالْكِتَابُ بِأَيْدِيهِمْ وَهُمْ مِنْ وَرَاءِ الْجَبَلِ مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ مَضَوْا حَتَّى أَتَوُا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، فَوَجَدُوا مَدِينَةً فِيهَا قَوْمٌ جَبَّارُونَ، خَلْقُهُمْ خَلْقٌ مُنْكَرٌ، وَذَكَرُوا مِنْ ثِمَارِهِمْ أَمْرًا عَجِيبًا مِنْ عِظَمِهَا، فَقَالُوا: يَا مُوسَى! إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ وَلَا نَدْخُلُهَا مَا دَامُوا فِيهَا، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ، قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ: قِيلَ ليزيد هكذا قرأت؟ قَالَ: نَعَمْ مِنَ الْجَبَّارِينَ آمَنَا بِمُوسَى، وَخَرَجَا إليه، قالوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِقَوْمِنَا إِنْ كُنْتُمْ إِنَّمَا
تَخَافُونَ مَا رَأَيْتُمْ مِنْ أَجْسَامِهِمْ وَعَدَدِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا قُلُوبَ لَهُمْ وَلَا مَنَعَةَ عِنْدَهُمْ، فَادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ. وَيَقُولُ أُنَاسٌ: إِنَّهُمْ مِنْ قَوْمِ مُوسَى، فَقَالَ الَّذِينَ يَخَافُونَ بني إِسْرَائِيلَ: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا ههنا قاعدون} ، فَأَغْضَبُوا مُوسَى فَدَعَا عَلَيْهِمْ وَسَمَّاهُمْ فَاسِقِينَ، وَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنْهُمْ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَإِسَاءَتِهِمْ، حَتَّى كَانَ يومئذٍ، فَاسْتَجَابَ الله له وسماهم كما سماهم موسى فاسقين، وحرمها عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ يُصْبِحُونَ كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار، وظلل عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ فِي التِّيهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَجَعَلَ لَهُمْ ثِيَابًا لَا تَبْلَى وَلَا تَتَّسِخُ، وَجَعَلَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ حَجَرًا مُرَبَّعًا وَأَمَرَ مُوسَى فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا في كل ناحية ثلاثة أَعْيُنٍ، وَأَعْلَمَ كُلَّ سِبْطٍ عَيْنَهُمُ الَّتِي يَشْرَبُونَ منها فلا يرتحلون من مكان إلاّ وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس (أخرجه النسائي في سننه وابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما، قال ابن كثير: وَهُوَ مَوْقُوفٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَيْسَ فِيهِ مَرْفُوعٌ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُ وَكَأَنَّهُ تَلَقَّاهُ ابن عباس مما أبيح نقله من الإسرائيليات) .(2/481)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى
- 41 - وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي
- 42 - اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي
- 43 - اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى
- 44 - فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُ لَبِثَ مُقِيمًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ فَارًّا مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، يَرْعَى عَلَى صِهْرِهِ حَتَّى انْتَهَتِ الْمُدَّةُ وَانْقَضَى الْأَجَلُ، ثُمَّ جَاءَ مُوَافِقًا لَقَدَرِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ مِيعَادٍ، وَالْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَهُوَ الْمُسَيَّرُ عِبَادَهُ وَخَلْقَهُ فِيمَا يَشَاءُ، وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ عَلَى مَوْعِدٍ، وقال قتادة: عَلَى قَدَرِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، وَقَوْلُهُ: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} أَيِ اصْطَفَيْتُكَ وَاجْتَبَيْتُكَ رَسُولًا لِنَفْسِي، أَيْ كَمَا(2/481)
أريد وأشاء، روى البخاري عند تفسيرها عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْتَقَى آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: أَنْتَ الَّذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، فَقَالَ آدَمُ: وَأَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَاصْطَفَاكَ لِنَفْسِهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ؟ قال: نعم، قال: فوجدته مكتوباً عليَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَجَّ آدم موسى" (أخرجه في الصحيحين) . وقوله: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} أَيْ بِحُجَجِي وَبَرَاهِينِي ومعجزاتي {وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تُبْطِئَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تَضْعُفَا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمَا لَا يَفْتُرَانِ فِي ذِكْرِ اللَّهِ، بَلْ يَذْكُرَانِ اللَّهَ فِي حَالِ مُوَاجَهَةِ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ ذِكْرُ اللَّهِ عَوْنًا لَهُمَا عَلَيْهِ، وَقُوَّةً لَهُمَا وَسُلْطَانًا كَاسِرًا لَهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ عَبْدِي كُلَّ عَبْدِيَ الَّذِي يَذْكُرُنِي وَهُوَ مناجزٌ قرنه» ، وقوله: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} أَيْ تَمَرَّدَ وعتا، وتجبر عَلَى اللَّهِ وَعَصَاهُ، {فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا عِبْرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهُوَ أَنَّ
فِرْعَوْنَ فِي غَايَةِ العتو والاسكتبار، وَمُوسَى صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ إِذْ ذَاكَ، ومع هذا أمر أن لا يخاطب فرعون إلاّ بالملاطفة واللين، وعن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} أَعْذِرَا إِلَيْهِ، قُولَا لَهُ: إِنَّ لَكَ رَبًّا وَلَكَ معاداً، وإن بين يديك جنة وناراً، وَالْحَاصِلُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ أَنَّ دَعْوَتَهُمَا لَهُ تَكُونُ بكلام رقيق، لين سهل رفيق، لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ وَأَبْلَغَ وَأَنْجَعَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، وقوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} أَيْ لَعَلَّهُ يَرْجِعُ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ وَالْهَلَكَةِ، أَوْ يَخْشَى - أَيْ يُوجِدُ طَاعَةً مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِ - كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ يَخْشَى} فَالتَّذَكُّرُ الرُّجُوعُ عَنِ الْمَحْذُورِ، وَالْخَشْيَةُ تحصيل الطاعة، وقال الحسن البصري: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} يَقُولُ: لَا تَقُلْ أَنْتَ يَا مُوسَى وَأَخُوكَ هَارُونُ أَهْلِكْهُ قَبْلَ أن أعذر إليه.(2/482)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
- 45 - قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَنْ يَطْغَى
- 46 - قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى
- 47 - فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى
- 48 - إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى
يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: أَنَّهُمَا قَالَا مُسْتَجِيرِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى شَاكِيَيْنِ إِلَيْهِ {إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى} يَعْنِيَانِ أَنْ يَبْدُرَ إِلَيْهِمَا بِعُقُوبَةٍ، أَوْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِمَا فَيُعَاقِبَهُمَا وَهُمَا لَا يَسْتَحِقَّانِ مِنْهُ ذَلِكَ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ {أَن يَفْرُطَ} يعجل، وقال مجاهد: يسلط علينا، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {أَوْ أَن يَطْغَى} يَعْتَدِيَ {قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى} أَيْ لَا تَخَافَا مِنْهُ فَإِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ كَلَامَكُمَا وَكَلَامَهُ، وَأَرَى مَكَانَكُمَا وَمَكَانَهُ، لَا يَخْفَى عَلَيَّ مِنْ أَمْرِكُمْ شَيْءٌ، وَاعْلَمَا أَنَّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِي فَلَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَتَنَفَّسُ وَلَا يَبْطِشُ إِلَّا بإذني، وأنا معكم بحفظي ونصري، وتأييدي. {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} قَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَكَثَا عَلَى بَابِهِ حِينًا لَا يُؤْذَنُ لهما، حتى أذن لهما بعد حجاب شديد. وَقَوْلُهُ: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِن رَّبِّكَ} أَيْ بِدَلَالَةٍ وَمُعْجِزَةٍ مِنْ رَبِّكَ، {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} أَيْ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ إِنِ اتَّبَعْتَ الْهُدَى، وَلِهَذَا لَمَّا كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ كِتَابًا كَانَ أَوَّلُهُ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ(2/482)
عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين» ، وَلِهَذَا قَالَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لِفِرْعَوْنَ {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أَيْ قَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ فِيمَا أَوْحَاهُ إِلَيْنَا مِنَ الْوَحْيِ الْمَعْصُومِ، أَنَّ الْعَذَابَ مُتَمَحِّضٌ لِمَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَتَوَلَّى عَنْ طَاعَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى} ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الْأَشْقَى * الذي كَذَّبَ وتولى} ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أَيْ كَذَّبَ بِقَلْبِهِ وَتَوَلَّى بِفِعْلِهِ.(2/483)
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)
- 49 - قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى
- 50 - قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى
- 51 - قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى
- 52 - قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ، أَنَّهُ قَالَ لِمُوسَى مُنْكِرًا وُجُودَ الصَّانِعِ الْخَالِقِ {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} أَيِ الَّذِي بَعَثَكَ وَأَرْسَلَكَ مَنْ هُوَ؟ فَإِنِّي لَا أَعْرِفُهُ وَمَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَقُولُ خَلَقَ لِكُلِّ شَيْءٍ زَوْجَةً، وعنه: جَعَلَ الْإِنْسَانَ إِنْسَانًا وَالْحِمَارَ حِمَارًا وَالشَّاةَ شَاةً. وقال مجاهد: أعطى كُلَّ شَيءٍ صورته، وسوّى خَلْقَ كُلِّ دَابَّةٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} قَالَ: أَعْطَى كُلَّ ذِي خَلْقٍ مَا يُصْلِحُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْإِنْسَانِ مِنْ خَلْقِ الدَّابَّةِ، وَلَا لِلدَّابَّةِ مِنْ خَلْقِ الْكَلْبِ، وَلَا لِلْكَلْبِ مِنْ خَلْقِ الشَّاةِ، وَأَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنَ النِّكَاحِ، وَهَيَّأَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى ذَلِكَ، لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِهِ فِي الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ والنكاح، {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} ؟ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ؛ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا أَخْبَرَهُ مُوسَى بِأَنَّ رَبَّهُ الَّذِي أَرْسَلَهُ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ وَرَزَقَ وَقَدَّرَ فَهَدَى، شَرَعَ يَحْتَجُّ بِالْقُرُونِ الْأُولَى، أَيِ الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوا اللَّهَ، أَيْ فما بالهم إذا كان الأمر كذلك، لَمْ يَعْبُدُوا رَبَّكَ بَلْ عَبَدُوا غَيْرَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى فِي جَوَابِ ذَلِكَ: هُمْ وَإِنْ لم يعبدوا فَإِنَّ عَمَلَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَضْبُوطٌ عَلَيْهِمْ، وَسَيَجْزِيهِمْ بِعَمَلِهِمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ وكتاب الأعمار، {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} أَيْ لَا يَشِذُّ عَنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَفُوتُهُ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ وَلَا يَنْسَى شَيْئًا، يَصِفُ عِلْمَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ، وَأَنَّهُ لَا يَنْسَى شيئاً تبارك وَتَقَدَّسَ، فَإِنَّ عِلْمَ الْمَخْلُوقِ يَعْتَرِيهِ نُقْصَانَانِ "أَحَدُهُمَا عَدَمُ الْإِحَاطَةِ بِالشَّيْءِ، وَالْآخَرُ نِسْيَانُهُ بَعْدَ عِلْمِهِ، فَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ.(2/483)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
- 53 - الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى
- 54 - كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى
- 55 - مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى
- 56 - وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى
هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ مُوسَى فِيمَا وَصَفَ بِهِ رَبَّهُ عزَّ وجلَّ، حِينَ سَأَلَهُ فِرْعَوْنُ عَنْهُ فَقَالَ: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} ، ثُمَّ اعْتُرِضَ الْكَلَامُ بَيْنَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً} أَيْ قَرَارًا تَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهَا وَتَقُومُونَ وَتَنَامُونَ عَلَيْهَا، وَتُسَافِرُونَ عَلَى ظَهْرِهَا، {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} أَيْ جَعَلَ لَكُمْ طُرُقًا تَمْشُونَ فِي مناكبها(2/483)
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} ، {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شتى} أي من أنواع النَّبَاتَاتِ مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ، وَمِنْ حَامِضٍ وَحُلْوٍ ومر، وَسَائِرِ الْأَنْوَاعِ، {كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} أَيْ شَيْءٌ لطعامكم وفاكهتكم، وشيء لأنعامكم لأقواتها خضراً ويبساً، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} أَيْ لَدَلَالَاتٍ وَحُجَجًا وَبَرَاهِينَ، {لأُوْلِي النُّهَى} أَيْ لِذَوِي الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ المستقيمة، {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} أَيْ مِنَ الْأَرْضِ مَبْدَؤُكُمْ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ آدَمَ مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ، وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ أَيْ وَإِلَيْهَا تَصِيرُونَ إِذَا مُتُّمْ وَبَلِيتُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى، {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فستجيبون بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} . وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} ، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَضَرَ جِنَازَةً، فَلَمَّا دُفِنَ الْمَيِّتُ أَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فألقاها في القبر، وقال: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ، ثُمَّ أَخَذَ أُخْرَى وَقَالَ: وَفِيهَا نعيدكم، ثم أُخْرَى وَقَالَ: وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى، وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} ، يَعْنِي فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَجُ وَالْآيَاتُ وَالدَّلَالَاتُ، وَعَايَنَ ذَلِكَ وَأَبْصَرَهُ فَكَذَّبَ بِهَا وَأَبَاهَا كُفْرًا وَعِنَادًا وَبَغْيًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} الآية.(2/484)
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
- 57 - قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى
- 58 - فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَانًا سُوًى
- 59 - قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ: أَنَّهُ قَالَ لِمُوسَى حِينَ أَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى وَهِيَ إِلْقَاءُ عَصَاهُ فَصَارَتْ ثُعْبَانًا عَظِيمًا، وَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ جَنَاحِهِ فَخَرَجَتْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، فَقَالَ: هَذَا سِحْرٌ جِئْتَ بِهِ لِتَسْحَرَنَا وَتَسْتَوْلِيَ بِهِ عَلَى النَّاسِ فَيَتَّبِعُونَكَ وَتُكَاثِرُنَا بِهِمْ، وَلَا يَتِمُّ هَذَا مَعَكَ، فَإِنَّ عِنْدَنَا سِحْرًا مِثْلَ سِحْرِكَ فَلَا يَغُرَّنَّكَ مَا أَنْتَ فِيهِ {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً} أَيْ يَوْمًا نَجْتَمِعُ نَحْنُ وَأَنْتَ فِيهِ، فَنُعَارِضُ مَا جِئْتَ به بما عندنا مِنَ السِّحْرِ، فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ وَوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ {قَالَ} لَهُمْ مُوسَى {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} (روي عن ابن عباس أنه يوم عاشوراء، أخرجه ابن أبي حاتم} ، وهو يوم عيدهم وتفرغهم من أعمالهم، واجتماع جَمِيعِهِمْ، لِيُشَاهِدَ النَّاسُ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَمُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، وَبُطْلَانَ مُعَارَضَةِ السِّحْرِ لِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ النَّبَوِيَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ} أَيْ جَمِيعُهُمْ {ضُحًى} أَيْ ضَحْوَةً مِنَ النَّهَارِ لِيَكُونَ أَظْهَرَ وَأَجْلَى وَأَبْيَنَ وَأَوْضَحَ، وَهَكَذَا شَأْنُ الأنبياء، كل أمرهم بيّن واضح لَيْسَ فِيهِ خَفَاءٌ وَلَا تَرْوِيجٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ: لَيْلًا، وَلَكِنْ نَهَارًا، ضُحًى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ يَوْمُ الزِّينَةِ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَقَالَ السدي: كان يوم عيدهم. قُلْتُ: وَفِي مِثْلِهِ أَهْلَكَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، قَالَ فِرْعَوْنُ: يَا مُوسَى اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ أَجَلًا نَنْظُرُ فِيهِ، قَالَ مُوسَى: لَمْ أؤمر بِهَذَا، إِنَّمَا أُمِرْتُ بِمُنَاجَزَتِكَ إِنْ أَنْتَ لَمْ تَخْرُجْ دَخَلْتُ إِلَيْكَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: أَنِ اجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَجَلًا، وَقُلْ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ هُوَ، قَالَ فِرْعَوْنُ اجْعَلْهُ إِلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَفَعَلَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ {مَكَاناً سُوًى} مُنَصَّفًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ عَدْلًا، وَقَالَ عَبْدُ الرحمن بن زيد: مستوٍ بين الناس، وما فيه لا يكون صوت وَلَا شَيْءَ، يَتَغَيَّبُ بَعْضُ ذَلِكَ عَنْ بَعْضٍ، مستوٍ حين يرى.(2/484)
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
- 60 - فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى
- 61 - قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى
- 62 - فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى
- 63 - قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى
- 64 - فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ أتوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ: أَنَّهُ لَمَّا تَوَاعَدَ هو وموسى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى وَقْتٍ وَمَكَانٍ مَعْلُومَيْنِ، تَوَلَّى: أَيْ شَرَعَ فِي جَمْعِ السَّحَرَةِ مِنْ مَدَائِنِ مملكته، كل من ينسب إلى السحر فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَقَدْ كَانَ السِّحْرُ فِيهِمْ كَثِيرًا نَافِقًا جِدًّا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عليم} ، ثُمَّ أَتَى: أَيِ اجْتَمَعَ النَّاسُ، لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ: وَهُوَ يَوْمُ الزِّينَةِ، وَجَلَسَ فِرْعَوْنُ عَلَى سَرِيرِ مَمْلَكَتِهِ، وَاصْطَفَّ لَهُ أَكَابِرُ دَوْلَتِهِ، وَوَقَفَتْ الرعايا يمنة ويسرة، وأقبل موسى عليه الصلاة والسلام متوكئاً على عصاه، ومعه أخوه هارون، ووقفت السَّحَرَةُ بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ صُفُوفًا وَهُوَ يُحَرِّضُهُمْ وَيَحُثُّهُمْ وَيُرَغِّبُهُمْ فِي إِجَادَةِ عَمَلِهِمْ فِي ذَلِكَ اليوم، ويتمنون عليه وهو يعدهم ويمنيهم، يقولون {أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لمن المقربين} . {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أَيْ لَا تُخَيِّلُوا لِلنَّاسِ بِأَعْمَالِكُمْ إِيجَادَ أَشْيَاءَ لَا حَقَائِقَ لَهَا، وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ وليست مخلوقة، فتكونون قَدْ كَذَبْتُمْ عَلَى اللَّهِ {فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} أَيْ يُهْلِكُكُمْ بِعُقُوبَةٍ هَلَاكًا لَا بَقِيَّةَ لَهُ، {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ تَشَاجَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَقَائِلٌ يَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِكَلَامِ سَاحِرٍ، إِنَّمَا هَذَا كَلَامُ نَبِيٍّ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: بَلْ هُوَ سَاحِرٌ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى} : أَيْ تَنَاجَوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ، {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} وهذه لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ، جَاءَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى إِعْرَابِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ {إِنْ هَذَيْنَ لَسَاحِرَانِ} ، وَالْغَرَضُ أَنَّ السَّحَرَةَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ وَأَخَاهُ - يَعْنُونُ مُوسَى وَهَارُونَ - سَاحِرَانِ عَالِمَانِ خَبِيرَانِ بِصِنَاعَةِ السِّحْرِ، يُرِيدَانِ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَنْ يَغْلِبَاكُمْ وَقَوْمَكُمْ وَيَسْتَوْلِيَا عَلَى الناس، وتتبعهما العامة ويقاتلا فرعون وجنوده فينصرا عَلَيْهِ، وَيُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ، وَقَوْلُهُ: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} أَيْ وَيَسْتَبِدَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَهِيَ السِّحْرُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُعَظَّمِينَ بِسَبَبِهَا، لَهُمْ أَمْوَالٌ وَأَرْزَاقٌ عليها، يقولون: إذا غلب هذان أهلكاهم وأخرجاكم من الأرض وتفردا بذلك وتمحضت لهم الرِّيَاسَةُ بِهَا دُونَكُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الفتون أن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى} يعني ملهكم الذي هُمْ فِيهِ والعيش، وعن عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} قَالَ: ييصرفا وجوه الناس إليهما (أخرجه ابن أبي حاتم) ، وقال مجاهد {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى} قال: أولو الشرف والعقل والأسنان. {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثم أتوا صَفّاً} أَيِ اجْتَمِعُوا كُلُّكُمْ صَفًّا وَاحِدًا، وَأَلْقُوا مَا فِي أَيْدِيكُمْ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِتَبْهَرُوا الْأَبْصَارَ وَتَغْلِبُوا هَذَا وَأَخَاهُ، {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} أَيْ مِنَّا وَمِنْهُ، أَمَّا نَحْنُ فَقَدَ وَعَدَنَا هَذَا الْمَلِكُ، الْعَطَاءَ الْجَزِيلَ، وَأَمَّا هُوَ فَيَنَالُ الرِّيَاسَةَ الْعَظِيمَةَ.(2/485)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
- 65 - قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى
- 66 - قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى
- 67 - فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى
- 68 - قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى
- 69 - وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى
- 70 - فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ السَّحَرَةِ حِينَ تَوَافَقُوا هُمْ وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ} : أَيْ أنت أولاً، {وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُواْ} : أي أنتم أولاً لنرى مَاذَا تَصْنَعُونَ مِنَ السِّحْرِ، وَلِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ جَلِيَّةً أَمْرُهُمْ، {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} ، وَفِي الْآيَةِ الأُخْرى أَنَّهُمْ لما ألقوا {قالوا بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لغالبون} ، وَقَالَ تَعَالَى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} ، وقال ههنا: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} .
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَوْدَعُوهَا مِنَ الزِّئْبَقِ مَا كَانَتْ تَتَحَرَّكُ بِسَبَبِهِ، وَتَضْطَرِبُ وَتَمِيدُ بِحَيْثُ يُخَيَّلُ لِلنَّاظِرِ أَنَّهَا تَسْعَى بِاخْتِيَارِهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ حيلة، وكانوا جماً غفيراً وجمعاً كثيراً، فَأَلْقَى كُلٌّ مِنْهُمْ عَصًا وَحَبْلًا حَتَّى صَارَ الْوَادِي مَلْآنَ حَيَّاتٍ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَقَوْلُهُ: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} أَيْ خَافَ على الناس أن يفتنوا بِسِحْرِهِمْ، وَيَغْتَرُّوا بِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَ مَا في يمنيه، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى
إِلَيْهِ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ، أن ألق ما في يمينك يعني عصاك فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا صَنَعُوا، وَذَلِكَ أَنَّهَا صارت تنيناً عظيماً هائلاً ذا قوائم وَعُنُقٍ وَرَأْسٍ وَأَضْرَاسٍ، فَجَعَلَتْ تَتْبَعُ تِلْكَ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ حَتَّى لَمْ تُبْقِ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا تَلَقَّفَتْهُ وَابْتَلَعَتْهُ، وَالسَّحَرَةُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَى ذَلِكَ عياناً جهرة نهاراً صحوة، فقامت المعجزة واتضح البرهان ووقع الحق وبطل السحر، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أتى} ، فَلَمَّا عَايَنَ السَّحَرَةُ ذَلِكَ وَشَاهَدُوهُ، وَلَهُمْ خِبْرَةٌ بِفُنُونِ السِّحْرِ وَطُرُقِهِ وَوُجُوهِهِ، عَلِمُوا عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ مُوسَى لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ وَالْحِيَلِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا إِلَّا الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ وَقَعُوا سُجَّدًا لِلَّهِ، وَقَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ، ولهذا قال ابن عباس: كانوا أول النهار سحرة وفي آخره شُهَدَاءَ بَرَرَةً، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: كَانُوا ثمانين أَلْفًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَمَّا خَرَّ السَّحَرَةُ سُجَّدًا رُفِعَتْ لَهُمُ الْجَنَّةُ حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهَا. قَالَ وَذُكِرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَوْلَهُ {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً} قال: رأوا منازلهم تبين لهم وهم في سجودهم.(2/486)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
- 71 - قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى
- 72 - قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
- 73 - إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا(2/486)
خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ كُفْرِ فِرْعَوْنَ وَعِنَادِهِ وَبَغْيِهِ، وَمُكَابَرَتِهِ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ حِينَ رَأَى مَا رَأَى مِنَ الْمُعْجِزَةِ الْبَاهِرَةِ، وَالْآيَةِ الْعَظِيمَةِ، وَرَأَى الَّذِينَ قَدِ اسْتَنْصَرَ بِهِمْ قَدْ آمَنُوا بِحَضْرَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَغُلِبَ كُلَّ الْغَلَبِ، شَرَعَ فِي الْمُكَابَرَةِ وَالْبَهْتِ، وَعَدَلَ إِلَى اسْتِعْمَالِ جاهه وسلطانه في السحرة فتهددهم وتوعدهم، وَقَالَ {آمَنتُمْ لَهُ} أَيْ صَدَّقْتُمُوهُ {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} أي وما أمرتكم بذلك، واتفقتم عَلَيَّ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ قَوْلًا يَعْلَمُ هُوَ وَالسَّحَرَةُ وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ أَنَّهُ بَهْتٌ وَكَذِبٌ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} أَيْ أَنْتُمْ إِنَّمَا أَخَذْتُمُ السِّحْرَ عَنْ مُوسَى، وَاتَّفَقْتُمْ أَنْتُمْ وَإِيَّاهُ عليّ وعلى رعيتي لتظهروه، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ، ثُمَّ أَخَذَ يَتَهَدَّدُهُمْ فَقَالَ: {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أَيْ لأجعلنكم مثلة، ولأقتلنكم ولأشهرنكم. {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} أَيْ أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي وَقُومِي عَلَى ضَلَالَةٍ، وَأَنْتُمْ مَعَ مُوسَى وَقَوْمِهِ عَلَى الْهُدَى، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَكُونُ لَهُ الْعَذَابُ
وَيَبْقَى فِيهِ، فَلَمَّا صَالَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَتَوَعَّدَهُمْ، هَانَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ فِي الله عزَّ وجلَّ {قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} أَيْ لَنْ نَخْتَارَكَ عَلَى مَا حَصَلَ لنا من الهدى واليقين {والذي فَطَرَنَا} يَعْنُونَ لَا نَخْتَارُكَ عَلَى فَاطِرِنَا وَخَالِقِنَا الَّذِي أَنْشَأْنَا مِنَ الْعَدَمِ، الْمُبْتَدِئِ خَلْقَنَا مِنَ الطِّينِ، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَالْخُضُوعِ لَا أَنْتَ {فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ} أَيْ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ، وَمَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ يَدُكَ {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أَيْ إِنَّمَا لَكَ تَسَلُّطٌ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَهِيَ دَارُ الزَّوَالِ، وَنَحْنُ قَدْ رَغِبْنَا فِي دَارِ الْقَرَارِ، {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} أَيْ مَا كَانَ مِنَّا مِنَ الْآثَامِ، خُصُوصًا مَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر، لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيّه. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} قَالَ: أَخَذَ فرعون أربعون غُلَامًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَمَرَ أَنْ يُعَلَّمُوا السحر بالفرماء، وَقَالَ عَلِّمُوهُمْ تَعْلِيمًا لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ فِي الْأَرْضِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَهُمْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ بموسى، وهم مِنَ الذين قالوا: {آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عليه من السحر} (رواه ابن أبي حاتم) . وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أَيْ خَيْرٌ لَنَا مِنْكَ {وَأَبْقَى} أَيْ أَدْوَمُ ثَوَابًا مِمَّا كُنْتَ وعدتنا ومنيتنا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ {وَاللَّهُ خَيْرٌ} : أَيْ لَنَا مِنْكَ إِنْ أُطِيعَ {وَأَبْقَى} : أَيْ منك عذاباً إن عصي، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ اللَّهُ صَمَّمَ عَلَى ذلك وفعله بهم رحمة لَهُم مِّنَ اللَّهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ السلف: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة.(2/487)
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
- 74 - إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى
- 75 - وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدرجات العلى
- 76 - جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّى
الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ مَا وَعَظَ بِهِ السَّحَرَةُ لِفِرْعَوْنَ، يُحَذِّرُونَهُ مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ وعذابه الدائم(2/487)
السَّرْمَدِيِّ، وَيُرَغِّبُونَهُ فِي ثَوَابِهِ الْأَبَدِيِّ الْمُخَلَّدِ، فَقَالُوا {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} أَيْ يَلْقَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ مُجْرِمٌ {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} ، كَقَوْلِهِ: {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} . عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فيها ولا يحيون، ولكن أناس تُصِيبُهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ، فَتُمِيتُهُمْ إِمَاتَةً، حَتَّى إِذَا صاروا فحماً وأذن فِي الشَّفَاعَةِ جِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ، فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ اقْبِضُوا عَلَيْهِمْ فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحَبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ"، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِالْبَادِيَةِ (الحديث رواه مسلم والإمام أحمد) . وقوله تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} أَيْ وَمَنْ لَقِيَ رَبَّهُ يَوْمَ الْمَعَادِ، مُؤْمِنَ الْقَلْبِ قَدْ صَدَقَ ضَمِيرَهُ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ، {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدرجات العلى} أَيِ الْجَنَّةُ ذَاتُ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ، وَالْغُرَفِ الْآمِنَاتِ والمساكن الطيبات، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْجَنَّةَ مِائَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا دَرَجَةً،
وَمِنْهَا تَخْرُجُ الْأَنْهَارُ الْأَرْبَعَةُ، وَالْعَرْشُ فَوْقَهَا، فَإِذَا سألتم الله فسألوه الفردوس» (الحديث أخرجه الإمام أحمد والترمزي) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "أَنَّ أَهْلَ عِلِّيِّينَ لَيَرَوْنَ مَنْ فَوْقَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الْغَابِرَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وصدَّقوا الْمُرْسَلِينَ" وَفِي السُّنَنِ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمِنْهُمْ وأنعما، وقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي إقامة وهي بَدَلٌ مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ مَاكِثِينَ أَبَدًا {وَذَلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّى} أَيْ طَهَّرَ نَفْسَهُ مِنَ الدَّنَسِ وَالْخَبَثِ وَالشِّرْكِ وَعَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شريك له، واتبع المرسلين فيما جاؤوا به منخير وطلب.(2/488)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)
- 77 - وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى
- 78 - فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ
- 79 - وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا: أَنَّهُ أَمَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَبَى فِرْعَوْنُ أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَسْرِيَ بِهِمْ فِي اللَّيْلِ، وَيَذْهَبَ بِهِمْ مِنْ قَبْضَةِ فرعون، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى لَمَّا خَرَجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَصْبَحُوا وَلَيْسَ مِنْهُمْ بِمِصْرَ لَا دَاعٍ وَلَا مجيب، فغضب فرعون غضباً شديداً، وأرسل من يجمعون له الجند من بلدانه، ثُمَّ لَمَّا جَمَعَ جُنْدَهُ وَاسْتَوْثَقَ لَهُ جَيْشُهُ، ساق في طلبهم فاتبعوهم مشرقين، أَيْ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} : أَيْ نَظَرَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى الْآخَرِ، {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إني مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} ووقف ببني إسرائيل أَمَامَهُمْ، وَفِرْعَوْنُ وَرَاءَهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: {أَنِ اضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً} فضرب البحر بعصاه، فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، أَيِ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ الرِّيحَ عَلَى أَرْضِ الْبَحْرِ، فَلَفَحَتْهُ حَتَّى صَارَ يَابِسًا كَوَجْهِ الْأَرْضِ، فَلِهَذَا قَالَ: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً} : أَيْ مِنْ فِرْعَوْنَ {وَلاَ تَخْشَى} يَعْنِي مِنَ الْبَحْرِ أَنْ يُغْرِقَ قَوْمَكَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ} : أَيِ الْبَحْرِ {مَا غَشِيَهُمْ} وَهَذَا يُقَالُ عِنْدَ الْأَمْرِ الْمَعْرُوفِ الْمَشْهُورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} .(2/488)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
- 80 - يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى
- 81 - كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى
- 82 - وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهْتَدَى
يَذْكُرُ تَعَالَى نِعَمَهُ - عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ - الْعِظَامَ، وَمِنَنَهُ الْجِسَامَ، حَيْثُ أنجاهم من عدوهم فرعون، وأقر عينهم مِنْهُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَإِلَى جُنْدِهِ قَدْ غَرِقُوا فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أحد، كما قال: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تنظرون} . عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وجد اليهود تَصُومُ عَاشُورَاءَ، فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي أَظْفَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ، فَقَالَ: «نحن أولى بموسى فصوموه» (الحديث أخرجه الشيخان عن ابن عباس) ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَاعَدَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ بعد هلاك فرعون، جانب الطور الأيمن، وهو الذي كلمه الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَأَلَ فِيهِ الرُّؤْيَةَ، وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ هنالك، وَفِي غُضُونِ ذَلِكَ عَبَدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْعِجْلَ، كما يقصه الله تَعَالَى قَرِيبًا، وَأَمَّا الْمَنُّ وَالسَّلْوَى فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا، فالمن حلوى كانت تتنزل عليهم مِنَ السَّمَاءِ، وَالسَّلْوَى طَائِرٌ يَسْقُطُ عَلَيْهِمْ، فَيَأْخُذُونَ مِنْ كُلٍّ قَدْرَ الْحَاجَةِ إِلَى الْغَدِ لُطْفًا مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةً بِهِمْ وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أَيْ كُلُوا مِنْ هَذَا الرِّزْقِ الَّذِي رَزَقْتُكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِي رِزْقِي، فَتَأْخُذُوهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وتخالفوا ما أمرتكم بِهِ، {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أَيْ أَغْضَبُ عَلَيْكُمْ، {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى} أي فقد شقي، وَقَوْلُهُ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أَيْ كُلُّ مَنْ تَابَ إليَّ تُبْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ، حَتَّى إِنَّهُ تعاب تعالى عَلَى مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وقوله تعالى: {تَابَ} أَيْ رَجَعَ عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنْ كفر أو شرك أو معصية أو نفاق، قوله: {وَآمَنَ} أَيْ بِقَلْبِهِ، {وَعَمِلَ صَالِحَاً} أَيْ بِجَوَارِحِهِ، وقوله: {ثُمَّ اهتدى} عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ ثُمَّ لَمْ يُشَكِّكْ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ {ثُمَّ اهْتَدَى} : أَيِ اسْتَقَامَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ (وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ) ، وَقَالَ قَتَادَةُ {ثُمَّ اهْتَدَى} : أَيْ لَزِمَ الْإِسْلَامَ حَتَّى يموت، و «ثم» ههنا لِتَرْتِيبِ الْخَبَرِ عَلَى الْخَبَرِ، كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمنوا وعملوا الصالحات} .(2/489)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
- 83 - وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى
- 84 - قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى
- 85 - قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ
- 86 - فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي
- 87 - قَالُوا مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى
السَّامِرِيُّ
- 88 - فَأَخْرَجَ(2/489)
لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ
- 89 - أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا
لَمَّا سَارَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون، وواعد ربه ثلاثين ليلة ثم أتبعها عشراً فتمت أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، أَيْ يَصُومُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ بَيَانُ ذَلِكَ، فَسَارَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُبَادِرًا إِلَى الطُّورِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَاهُ هَارُونَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي} أَيْ قَادِمُونَ يَنْزِلُونَ قَرِيبًا مِنَ الطُّورِ، {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} أَيْ لِتَزْدَادَ عَنِّي رِضًا، {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} ، أَخْبَرَ تَعَالَى نَبَيَّهُ مُوسَى بِمَا كَانَ بَعْدَهُ مِنَ الْحَدَثِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعِبَادَتِهِمُ الْعَجَلَ الذي عمله لهم ذلك السامري، وَقَوْلُهُ: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} أي رجع بَعْدَ مَا أَخْبَرَهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي غَايَةِ الغضب والحنق عليهم، وَالْأَسَفُ: شِدَّةُ الْغَضَبِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {غَضْبَانَ أَسِفاً} ، أي جزعاً، وقال قتادة والسدي: أسفاً حَزِينًا عَلَى مَا صَنَعَ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ، {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} أَيْ أَمَا وَعَدَكُمْ عَلَى لِسَانِي كُلَّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَحُسْنَ الْعَاقِبَةِ كَمَا شَاهَدْتُمْ مِنْ نُصْرَتِهُ إِيَّاكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ وَإِظْهَارِكُمْ عليه، وغير ذلك من أيادي الله، {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} أَيْ فِي انْتِظَارِ مَا وَعَدَكُمُ اللَّهُ وَنِسْيَانِ مَا سَلَفَ مِنْ نِعَمِهِ {أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ} «أم» ههنا بمعنى بل، هي لِلْإِضْرَابِ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَعُدُولٌ إِلَى الثَّانِي، كَأَنَّهُ يَقُولُ: بَلْ أَرَدْتُمْ بِصَنِيعِكُمْ هَذَا أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي، قَالُوا - أَيْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فِي جَوَابِ مَا أَنَّبَهُمْ مُوسَى وَقَرَّعَهُمْ - {مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} أَيْ عَنْ قُدْرَتِنَا وَاخْتِيَارِنَا، ثُمَّ شَرَعُوا يَعْتَذِرُونَ بِالْعُذْرِ الْبَارِدِ، يُخْبِرُونَهُ عَنْ تَوَرُّعِهِمْ عَمَّا كَانَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ حُلِيِّ الْقِبْطِ الَّذِي كَانُوا قَدِ اسْتَعَارُوهُ مِنْهُمْ حِينَ خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ، {فَقَذَفْنَاهَا} أي ألقيناها عنا، ودعا السامري أَنْ يَكُونَ عِجْلًا، فَكَانَ عِجْلًا {لَّهُ خُوَارٌ} أَيْ صَوْتٌ، اسْتِدْرَاجًا وَإِمْهَالًا وَمِحْنَةً وَاخْتِبَارًا وَلِهَذَا قال: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} .
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ هَارُونَ مَرَّ بِالسَّامِرِيِّ وَهُوَ يَنْحِتُ الْعِجْلَ، فَقَالَ لَهُ: مَا تَصْنَعُ؟ فَقَالَ: أَصْنَعُ مَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، فَقَالَ هارون: اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه، ومضى هارون وقال السَّامِرِيُّ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ يَخُورَ، فَخَارَ، فَكَانَ إِذَا خَارَ سَجَدُوا لَهُ، وَإِذَا خَارَ رفعوا رؤوسهم، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ يَخُورُ وَيَمْشِي، فَقَالُوا: أَيِ الضُلاّل مِنْهُمُ الَّذِينَ افْتُتِنُوا بِالْعِجْلِ وَعَبَدُوهُ {هَذَا إلهكم وإله موسى فنسي} أي نسيه ههنا وذهب يتطلبه، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ {فَنَسِيَ} أَيْ نَسِيَ أَنْ يُذَكِّرَكُمْ أن هذا إلهكم، فَعَكَفُوا عَلَيْهِ وَأَحَبُّوهُ حُبًّا لَمْ يُحِبُّوا شَيْئًا قط، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ وَتَقْرِيعًا لَهُمْ وبياناً لفضحيتهم وَسَخَافَةِ عُقُولِهِمْ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضراً ولا نفعا} أي العجل، فلا يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يُجِيبُهُمْ إِذَا سَأَلُوهُ، وَلَا إِذَا خَاطَبُوهُ، وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نفعا، أي في ديناهم ولا في أخراهم، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا وَاللَّهِ مَا كَانَ خُوَارُهُ إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ الرِّيحُ فِي دُبُرِهِ فيخرج من فمه فيسمع له صوت، وَحَاصِلُ مَا اعْتَذَرَ بِهِ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ أَنَّهُمْ تَوَرَّعُوا عَنْ زِينَةِ الْقِبْطِ فَأَلْقَوْهَا عَنْهُمْ، وَعَبَدُوا الْعِجْلَ فَتَوَرَّعُوا عَنِ الْحَقِيرِ وَفَعَلُوا الْأَمْرَ الْكَبِيرَ، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر، أنه(2/490)
سَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ، يَعْنِي هَلْ يُصَلِّي فِيهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما: انْظُرُوا إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ! قَتَلُوا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعني الحسين، وهم يسألون عن دم البعوضة.(2/491)
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)
- 90 - وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي
- 91 - قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا كَانَ مِنْ نَهْيِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لهم عن عبادتهم الْعِجْلِ، وَإِخْبَارِهِ إِيَّاهُمْ إِنَّمَا هَذَا فِتْنَةٌ لَكُمْ، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا. ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ الْفَعَّالُ لِمَا يريد، {فاتبعوني وأطيعوا أَمْرِي} : أَيْ فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ وَاتْرُكُوا مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ، {قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} : أَيْ لَا نَتْرُكَ عِبَادَتَهُ حَتَّى نَسْمَعَ كَلَامَ مُوسَى فِيهِ وَخَالَفُوا هَارُونَ فِي ذَلِكَ، وَحَارَبُوهُ وَكَادُوا أَنْ يَقْتُلُوهُ.(2/491)
قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
- 92 - قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا
- 93 - أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي
- 94 - قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
يخبر تعالى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَرَأَى مَا قَدْ حَدَثَ فِيهِمْ مِنَ الأمر العظيم، فامتلأ عند ذلك غضباً، وَأَلْقَى مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنَ الْأَلْوَاحِ الإلهية، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يجره إليه، فَقَالَ: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ} أَيْ فَتُخْبِرَنِي بِهَذَا الْأَمْرِ أَوَّلَ مَا وقع {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} : أي فيما كنت قدمت إِلَيْكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} ، قال {يا ابن أم} ترقق لَهُ بِذِكْرِ الْأُمِّ مَعَ أَنَّهُ شَقِيقُهُ لِأَبَوَيْهِ، لأن ذكر الأم ههنا أرق وأبلغ فِي الْحُنُوِّ وَالْعَطْفِ، وَلِهَذَا قَالَ: {يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} الآية. هَذَا اعْتِذَارٌ مِنْ هَارُونَ عِنْدَ مُوسَى فِي سَبَبِ تَأَخُّرِهِ عَنْهُ، حَيْثُ لَمْ يَلْحَقْهُ فَيُخْبِرْهُ بِمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْخَطْبِ الْجَسِيمِ، قَالَ: {إِنِّي خَشِيتُ} أَن أَتْبَعَكَ فَأُخْبِرَكَ بِهَذَا، فَتَقُولَ لي لما تَرَكْتَهُمْ وَحْدَهُمْ وَفَرَّقْتَ بَيْنَهُمْ، {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} : أَيْ وَمَا رَاعَيْتَ مَا أَمَرْتُكَ بِهِ، حَيْثُ اسْتَخْلَفْتُكَ فِيهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ هَارُونُ هائباً مطيعاً له.(2/491)
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
- 95 - قال فما خطبك يا سامري
- 96 - قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي
- 97 - قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً
- 98 - إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً
يَقُولُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلسَّامِرِيِّ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ وَمَا الَّذِي عَرَضَ لَكَ حتى فعلت ما فعلت؟(2/491)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ السَّامِرِيُّ رَجُلًا من أهل باجر، وَكَانَ مَنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ وَكَانَ حُبُّ عِبَادَةِ الْبَقَرِ فِي نَفْسِهِ، وَكَانَ قَدْ أَظْهَرَ الإسلام مع بني إسرائيل، وكان اسمه (مُوسَى بْنُ ظُفَرٍ) ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ مِنْ كَرْمَانَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كان من قرية سَامَرَّا، {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} : أَيْ رَأَيْتُ جِبْرِيلَ حِينَ جَاءَ لِهَلَاكِ فِرْعَوْنَ {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} أَيْ مِنْ أثر فرسه، هذا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، أَوْ أكثرهم، وقال مجاهد: مِنْ تَحْتِ حَافِرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ، قَالَ وَالْقَبْضَةُ مِلْءُ الْكَفِّ، وَالْقَبْضَةُ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: نبذ السامري، أي ألقى ما فِي يَدِهِ عَلَى حِلْيَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَانْسَبَكَ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ، حَفِيفُ الرِّيحِ فِيهِ خواره. وقال ابن أبي حاتم، عن عِكْرِمَةُ: أَنَّ السَّامِرِيَّ رَأَى الرَّسُولَ فَأُلْقِيَ فِي رَوْعِهِ أَنَّكَ إِنْ أَخَذْتَ مِنْ أَثَرِ هَذَا الْفَرَسِ قَبْضَةً فَأَلْقَيْتَهَا فِي شَيْءٍ فَقُلْتُ لَهُ كُنْ فَكَانَ، فَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَيَبِسَتْ أَصَابِعُهُ عَلَى الْقَبْضَةِ، فَلَمَّا ذَهَبَ مُوسَى للميقات، وكان بنو إسرائيل قد اسْتَعَارُوا حُلِيَّ آلِ فِرْعَوْنَ، فَقَالَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ: أن مَآ أَصَابَكُمْ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْحُلِيِّ، فَاجْمَعُوهُ فَجَمَعُوهُ، فَأَوْقَدُوا عَلَيْهِ فَذَابَ، فَرَآهُ السَّامِرِيُّ، فَأُلْقِيَ فِي رُوعِهِ: أَنَّكَ لَوْ قَذَفْتَ هَذِهِ الْقَبْضَةَ فِي هذه، فقلت كن فكان، فقذف القبضة وقال: كن فكان عجلاً جسدا لَهُ خُوَارٌ، فَقَالَ: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} ، وَلِهَذَا قَالَ {فَنَبَذْتُهَا} أَيْ أَلْقَيْتُهَا مَعَ مَنْ أَلْقَى، {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} : أَيْ حَسَّنَتْهُ وَأَعْجَبَهَا إِذْ ذَاكَ {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ} : أَيْ كما أحذت ومسست ما لم يكن لك أَخْذُهُ وَمَسُّهُ مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، فَعُقُوبَتُكَ فِي الدُّنْيَا أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ، أَيْ لَا تَمَاسُّ النَّاسَ وَلَا يَمَسُّونَكَ، {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لَّن تُخْلَفَهُ} أَيْ لَا مَحِيدَ لَكَ عَنْهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ {أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ} قَالَ: عُقُوبَةٌ لَهُمْ، وَبَقَايَاهُمُ الْيَوْمَ يَقُولُونَ لَا مِسَاسَ وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ} قال الحسن: لَنْ تَغِيبَ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} أَيْ مَعْبُودِكَ {الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} أَيْ أَقَمْتَ عَلَى عِبَادَتِهِ يَعْنِي الْعِجْلَ، {لَّنُحَرِّقَنَّهُ} قَالَ السدي: سَحَلَهُ بِالْمَبَارِدِ وَأَلْقَاهُ عَلَى النَّارِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتَحَالَ الْعِجْلُ مِنَ الذَّهَبِ لَحْمًا وَدَمًا، فَحَرَقَهُ بالنار، ثم ألقى رَمَادَهُ فِي الْبَحْرِ، وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً} . وقوله تعالى: {إِنَّمَآ إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} يَقُولُ لَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَيْسَ هَذَا إِلَهَكُمْ إِنَّمَا إلهكم الله الذي لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ عَلَى الْعِبَادِ إِلَّا هُوَ، وَلَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، فَإِنَّ كُلَّ شيء فقير إليه عبد له، وقوله: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، أَحَاطَ بِكُلِّ شيء علماً وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عدداً، فلا يغرب عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مبين} وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.(2/492)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)
- 99 - كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَدُنَّا ذِكْرًا
- 100 - مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً
- 101 - خَالِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ خَبَرَ مُوسَى، وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ عَلَى الْجَلِيَّةِ وَالْأَمْرِ الْوَاقِعِ، كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ الْأَخْبَارَ الْمَاضِيَةَ كَمَا وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، هذا {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِّن لَّدُنَّآ} أي من عِنْدِنَا {ذِكْراً} وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الذِي لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ(2/492)
حكيم حميد، الذي لم يعط نبي من الأنبياء كِتَابًا مِثْلَهُ، وَلَا أَكْمَلَ مِنْهُ وَلَا أَجْمَعَ لِخَبَرِ مَا سَبَقَ وَخَبَرِ مَا هُوَ كَائِنٌ منه، وقوله تَعَالَى: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} أَيْ كَذَّبَ بِهِ وَأَعْرَضَ عَنِ اتِّبَاعِهِ أَمْرًا وَطَلَبًا، وَابْتَغَى الْهُدَى من غَيْرِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ، وَلِهَذَا قَالَ: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً} أَيْ إِثْمًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} ، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ، كَمَا قال: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بلغ} ، فَكُلُّ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَهُوَ نَذِيرٌ لَهُ، وَدَاعٍ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ هُدِيَ، وَمَنْ خَالَفَهُ وَأَعْرَضَ عنه ضل وشقي في الدينا، وَالنَّارُ مَوْعِدُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ} أَيْ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ وَلَا انْفِكَاكَ، {وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} أَيْ بِئْسَ الْحِمْلُ حِمْلُهُمْ.(2/493)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
- 102 - يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقًا
- 103 - يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا
- 104 - نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً
ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الصُّورِ فَقَالَ: «قَرْنٌ يُنْفَخُ فيه» . وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ وَانْتَظَرَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ» ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَقُولُ؟ قَالَ: «قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا» ، وَقَوْلُهُ: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً} ، قِيلَ مَعْنَاهُ زُرْقُ الْعُيُونِ، مِنْ شِدَّةِ ما هو فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ،
{يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَتَسَارُّونَ بَيْنَهُمْ، أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} أَيْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا، لَقَدْ كَانَ لُبْثُكُمْ فِيهَا قَلِيلًا عَشَرَةُ أَيْامٍ أَوْ نَحْوُهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} : أَيْ فِي حَالِ تَنَاجِيهِمْ بَيْنَهُمْ، {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} : أَيِ الْعَاقِلُ الْكَامِلُ فِيهِمْ {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً} : أَيْ لِقِصَرِ مُدَّةِ الدُّنْيَا فِي أَنْفُسِهِمْ يَوْمَ الْمَعَادِ، لِأَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا وَإِنْ تَكَرَّرَتْ أَوْقَاتُهَا وَتَعَاقَبَتْ لياليها وأيامها وساعاتها كأنها يوم واحد، وكان غرضهم دَرْءَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لِقِصَرِ الْمُدَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لبثوا غير ساعة} ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير} الآية. وَقَالَ تَعَالَى: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسأل العادين} ولو كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَآثَرْتُمُ الْبَاقِيَ عَلَى الْفَانِي وَلَكِنْ تصرفتم فأسأتم التصرف.(2/493)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
- 105 - وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً
- 106 - فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً
- 107 - لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتًا
- 108 - يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا
يَقُولُ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} أَيْ هَلْ تَبْقَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ تَزُولُ؟ {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} أَيْ يُذْهِبُهَا عَنْ أَمَاكِنِهَا ويمحقها ويسيرها تسييراً (أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: قالت قريش: يا محمد كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة، فنزلت الآية) {فَيَذَرُهَا} أَيِ الْأَرْضَ {قَاعًا صَفْصَفًا} أَيْ بِسَاطًا واحداً، والقاع(2/493)
هُوَ الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ، وَالصَّفْصَفُ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى ذَلِكَ، وَقِيلَ الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ مُرَادًا أَيْضًا بِاللَّازِمِ، وَلِهَذَا قَالَ: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً} لَا تَرَى فِي الْأَرْضِ يومئذٍ وَادِيًا وَلَا رابية ولا مكاناً منخفضاً ولا مرتفعاً، كذا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ} : أَيْ يَوْمَ يَرَوْنَ هَذِهِ الأحوال، يَسْتَجِيبُونَ مُسَارِعِينَ إِلَى الدَّاعِي حَيْثُمَا أُمِرُوا بَادَرُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي الدُّنْيَا لَكَانَ أَنْفَعَ لَهُمْ، وَلَكِنْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} ، وقال: {مُّهْطِعِينَ
إِلَى الداع} وقال محمد الْقُرَظِيُّ: يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظُلْمَةٍ، وَتُطْوَى السَّمَاءُ وَتَتَنَاثَرُ النُّجُومُ وَتَذْهَبُ الشَّمْسُ والقمر، وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يؤمونه، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ له} (قال السهيلي: الداعي: هو إسرافيل عليه السلام، وهو المنادي المذكور في سورة (ق) في قوله تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} ) ، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا عِوَجَ لَهُ لَا يَمِيلُونَ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: لَا عِوَجَ لَهُ لا عوج عنه، {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَكَنَتْ، وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ، {فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يعني وطء الأقدام. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، وقال سعيد بن جبير: الْحَدِيثَ وَسِرَّهُ، وَوَطْءَ الْأَقْدَامِ، فَقَدْ جَمَعَ سَعِيدٌ كلا القولين، وهومحتمل، أَمَّا وَطْءُ الْأَقْدَامِ فَالْمُرَادُ سَعْيُ النَّاسِ إِلَى الْمَحْشَرِ وَهُوَ مَشْيُهُمْ فِي سُكُونٍ وَخُضُوعٍ، وَأَمَّا الْكَلَامُ الْخَفِيُّ فَقَدْ يَكُونُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ يكلم نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} .(2/494)
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
- 109 - يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا
- 110 - يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا
- 111 - وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً
- 112 - وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْمًا
يَقُولُ تَعَالَى {يَوْمَئِذٍ} : أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ} أَيْ عِنْدَهُ {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} ، كَقَوْلِهِ: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} . وقوله: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} ، وَقَالَ: {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ قَالَ: "آتِي تَحْتَ الْعَرْشِ وَأَخِرُّ لِلَّهِ سَاجِدًا، وَيَفْتَحُ عليَّ بِمَحَامِدَ لَا أُحْصِيهَا الْآنَ، فيدعني ما شاء أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ واشفَع تُشَفَّعْ، قَالَ: فَيَحِدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَعُودُ"، فَذَكَرَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَوْلُهُ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أَيْ يُحِيطُ عِلْمًا بِالْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} كَقَوْلِهِ: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شاء} ، وَقَوْلُهُ: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: خَضَعَتْ وَذَلَّتْ وَاسْتَسْلَمَتِ الْخَلَائِقُ لِجَبَّارِهَا الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، الْقَيُّومُ الَّذِي لَا يَنَامُ، وَهُوَ قَيِّمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، يُدَبِّرُهُ وَيَحْفَظُهُ، فَهُوَ الْكَامِلُ فِي نَفْسِهِ، الَّذِي كَلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ لَا قِوَامَ لَهُ إِلَّا بِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} : أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي كُلَّ حَقٍّ إِلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يَقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ(2/494)
مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ، وَفِي الْحَدِيثِ: "يَقُولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا يُجَاوِزُنِي الْيَوْمَ ظُلْمُ ظَالِمٍ". وَقَوْلُهُ: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً} لَمَّا ذَكَرَ الظَّالِمِينَ وَوَعِيدَهُمْ ثَّنى بِالْمُتَّقِينَ وَحُكْمِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَلَا يُهْضَمُونَ أَيْ لَا يُزَادُ فِي سَيِّئَاتِهِمْ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ، قَالَهُ ابن عباس ومجاهد وَغَيْرُ وَاحِدٍ، فَالظُّلْمُ الزِّيَادَةُ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ ذَنْبُ غَيْرِهِ، وَالْهَضْمُ: النَّقْصُ.(2/495)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
- 113 - وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا
- 114 - فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي علما
يقول تعالى: ولما كان يوم المعاد والجزاء وَاقِعًا لَا مَحَالَةَ أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا بلسان عربي مبين {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أَيْ يَتْرُكُونَ الْمَآثِمَ وَالْمَحَارِمَ وَالْفَوَاحِشَ {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} وَهُوَ إِيجَادُ الطَّاعَةِ وَفِعْلُ الْقُرُبَاتِ، {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} أَيْ تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ الْمَلِكُ الحق، الذي وعده حق ووعيده حق، وعدله تعالى أن لا يعذب أحداً قبل الإنذار وبعثه الرسل لِئَلَّا يَبْقَى لِأَحَدٍ حُجَّةٌ وَلَا شُبْهَةٌ، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} ، كقوله تَعَالَى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم كان يُعَالِجُ مِنَ الْوَحْيِ شِدَّةً، فَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ به لِسَانَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يَعْنِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ، كُلَّمَا قَالَ جِبْرِيلُ آيَةً قَالَهَا مَعَهُ، مِنْ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ فَأَرْشَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَا هُوَ الْأَسْهَلُ وَالْأَخَفُّ فِي حَقِّهِ لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أَيْ أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ ثُمَّ تَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} أَيْ بَلْ أَنْصِتْ، فَإِذَا فَرَغَ الْمَلَكُ مِنْ قِرَاءَتِهِ عَلَيْكَ فَاقْرَأْهُ بَعْدَهُ، {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} أَيْ زِدْنِي مِنْكَ عِلْمًا، وَلَمْ يَزَلْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زيادة حتى توفاه الله عزَّ وجلَّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي وَزِدْنِي عِلْمًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حال» (الحديث أخرجه ابن ماجه والترمذي والبزار عن أبي هريرة وزاد البزار فِي آخِرِهِ: وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النار) .(2/495)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
- 115 - وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا
- 116 - وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى
- 117 - فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى
- 118 - إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى
- 119 - وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى
- 120 - فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى
- 121 - فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى
- 122 - ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى(2/495)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانَ لأنه عهد إليه فنسي (أخرجه ابن أبي حاتم) ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: تَرَكَ. وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لأَدَمََ} يَذْكُرُ تَعَالَى تَشْرِيفَ آدَمَ وَتَكْرِيمَهُ وَمَا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خلق تفضيلاً، {فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى} أَيِ امْتَنَعَ وَاسْتَكْبَرَ، {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ} يَعْنِي حَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى} أي إياك أن تسعى فِي إِخْرَاجِكَ مِنْهَا، فَتَتْعَبَ وَتُعَنَّى وَتَشْقَى فِي طلب رزقك، فإنك ههنا في عيش رغيد هنيء بلا كُلْفَةَ وَلَا مَشَقَّةَ، {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى} إِنَّمَا قَرَنَ بَيْنَ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ
لِأَنَّ الْجُوعَ ذُلُّ الْبَاطِنِ وَالْعُرْيَ ذُلُّ الظَّاهِرِ، {وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى} وهذا أَيْضًا مُتَقَابِلَانِ، فَالظَّمَأُ حَرُّ الْبَاطِنِ وَهُوَ الْعَطَشُ، وَالضُّحَى حَرُّ الظَّاهِرِ. وَقَوْلُهُ: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى} قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ دلاَّهما بغرور {وقاسمها إني لكما من الناصحين} ، وقد تقدم أن الله تعالى عهد إلى آدم وزوجه أَنَّ يَأْكُلَا مِنْ كُلِّ الثِّمَارِ وَلَا يَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ الْمُعَيَّنَةَ فِي الْجَنَّةِ، فَلَمْ يَزَلْ بهما إبليس حتى أكلا منها. وقوله: {فَأَكَلاَ مِنْهَا فبدت لهما سوآتهما} ، روي إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ رَجُلًا طِوَالًا كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ، فَلَمَّا ذَاقَ الشَّجَرَةَ سَقَطَ عَنْهُ لِبَاسُهُ، فَأَوَّلُ مَا بَدَا مِنْهُ عَوْرَتُهُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى عَوْرَتِهِ جَعَلَ يشتد في الجنة، فَنَادَاهُ الرَّحْمَنُ: يَا آدَمُ مِنِّي تَفِرُّ؟ فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَ الرَّحْمَنِ قَالَ: يَا رَبِّ لَا وَلَكِنِ اسْتِحْيَاءً، أَرَأَيْتَ إِنْ تُبْتُ وَرَجَعْتُ أَعَائِدِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} (رواه ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب مرفوعاً، قال ابن كثير: وهو منقطع وفي رفعه نظر) .
وقوله تعالى: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} ، قَالَ مجاهد: يرقعان كهيئة الثوب، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَنْزِعَانِ وَرَقَ التِّينِ فَيَجْعَلَانِهِ عَلَى سَوْآتِهِمَا، وَقَوْلُهُ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى} ، روى البخاري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "حاجَّ مُوسَى آدَمَ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي أَخْرَجْتَ النَّاسَ مِنَ الْجَنَّةِ بِذَنْبِكَ وَأَشْقَيْتَهُمْ؟ قَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ؟ أَتَلُومُنِي عَلَى أمر كَتَبَهُ اللَّهُ عليَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي، أَوْ قَدَّرَهُ اللَّهُ عليَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَحَجَّ آدم موسى"، وفي رواية لابن أبي حاتم: "احتج آدَمُ وَمُوسَى عِنْدَ رَبِّهِمَا، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. قَالَ مُوسَى: أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَأَسْكَنَكَ فِي جَنَّتِهِ، ثُمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ إِلَى الْأَرْضِ بِخَطِيئَتِكَ! قَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَكَلَامِهِ، وَأَعْطَاكَ الْأَلْوَاحَ فِيهَا تبيان كل شيء، وقربك نجياً، فكم وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَامًا، قَالَ آدَمُ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلًا كَتَبَ اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فحجَّ آدم موسى" (الحديث له طرق في الصحيحين والمسانيد، وهذه الرواية لابن أبي حاتم عن أبي هريرة) .(2/496)
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)
- 123 - قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ(2/496)
وَلاَ يَشْقَى
- 124 - وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى
- 125 - قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتِنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا
- 126 - قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى
يَقُولُ تَعَالَى لِآدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً: أَيْ مِنَ الْجَنَّةِ كُلُّكُمْ {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ، وَإِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ، وَقَوْلُهُ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ وَالْبَيَانُ، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَضِلُّ فِي الدينا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} أَيْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَا أَنْزَلْتُهُ عَلَى رَسُولِي، أَعْرَضَ عَنْهُ وَتَنَاسَاهُ وَأَخَذَ مِنْ غَيْرِهِ هداه، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} أي ضنكاً فِي الدُّنْيَا فَلَا طُمَأْنِينَةَ لَهُ وَلَا انْشِرَاحَ لِصَدْرِهِ، بَلْ صَدْرُهُ ضَيِّقٌ حَرَجٌ لِضَلَالِهِ وَإِنْ تَنَعَّمَ ظَاهِرُهُ، وَلَبِسَ مَا شَاءَ وَأَكَلَ مَا شَاءَ وَسَكَنَ حَيْثُ شَاءَ، فَإِنَّ قَلْبَهُ مَا لَمْ يَخْلُصْ إِلَى الْيَقِينِ وَالْهُدَى فَهُوَ فِي قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ربية يتردد، فهذا من ضنك المعيشة. قال ابْنِ عَبَّاسٍ {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} قَالَ: الشقاء. وعنه: إِنْ قَوْمًا ضُلَّالًا أَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ، وَكَانُوا فِي سَعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا مُتَكَبِّرِينَ، فَكَانَتْ مَعِيشَتُهُمْ ضنكاً، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ يُكَذِّبُ بِاللَّهِ وَيُسِيءُ الظَّنَّ به والثقة به اشتدت عليه معشيته فذلك الضنك. وقال الضحاك: هو العمل السيء والرزق الخبيث. وروى سفيان عن عيينة، عَنِ أَبِي سَعِيدٍ فِي قَوْلِهِ {مَعِيشَةً ضَنكاً} قَالَ: يُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ فيه.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ في روضة خضراء ويفسح لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ قَبْرُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، أَتَدْرُونَ فِيمَ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} ؟ أَتَدْرُونَ مَا الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «عَذَابُ الْكَافِرِ فِي قَبْرِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينًا، أَتَدْرُونَ مَا التِّنِّينُ؟ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ حَيَّةً، لِكُلِّ حَيَّةٍ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ يَنْفُخُونَ فِي جِسْمِهِ وَيَلْسَعُونَهُ ويخدشونه إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» (الحديث رواه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعاً وفي رفعه نظر، قال ابن كثير: رفعه منكر جداً) . وروى البزار، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} قَالَ: «الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ الذي قال الله أَنَّهُ يُسَلَّطُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ حَيَّةً يَنْهَشُونَ لحمة حتى تقوم الساعة» . وَقَوْلُهُ: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: لَا حُجَّةَ لَهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: عُمِّيَ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا جَهَنَّمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون المراد أن يبعث أو يحشر إِلَى النَّارِ أَعْمَى الْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ أَيْضًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جهنم} الآية، وَلِهَذَا يَقُولُ: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتِنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً} ؟ أي في الدينا {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} أَيْ لَمَّا أَعْرَضْتَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وتناسيتها وأعرضت عنها، كذلك اليوم نعاملك مُعَامَلَةَ مَنْ يَنْسَاكَ، {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَأَمَّا نِسْيَانُ لَفْظِ الْقُرْآنِ مَعَ فَهْمِ مَعْنَاهُ وَالْقِيَامِ بِمُقْتَضَاهُ، فَلَيْسَ دَاخِلًا فِي هَذَا الْوَعِيدِ الْخَاصِّ، وَإِنْ كان متوعداً عليه من جهة أخرى، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «مَا مِنْ رَجُلٍ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَنَسِيَهُ إِلَّا لَقِيَ الله يوم يلقاه وهو أجذم» (الحديث أخرجه الإمام أحمد عن سعد بن عبادة) .(2/497)
وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
- 127 - وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى
يَقُولُ تَعَالَى: وَهَكَذَا نُجَازِي الْمُسْرِفِينَ، الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} أَيْ أَشَدُّ أَلَمًا مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَأَدْوَمُ عَلَيْهِمْ فَهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُتَلَاعِنِينَ: «إِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ» .(2/498)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
- 128 - أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى
- 129 - وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى - 130 - فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى
يَقُولُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَهْدِ} لهؤلاء المكذبين بمل جِئْتَهُمْ بِهِ يَا مُحَمَّدُ، كَمْ أَهْلَكْنَا مِن الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ قَبْلَهُمْ، فَبَادُوا فَلَيْسَ لَهُمْ بَاقِيَةٌ وَلَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ، كَمَا يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ مِنْ دِيَارِهِمُ الْخَالِيَةِ، الَّتِي خَلَّفُوهُمْ فِيهَا يَمْشُونَ فِيهَا، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} أَيِ الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَلْبَابِ الْمُسْتَقِيمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} ، وقال: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} الآية؛ ثم قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} أَيْ لَوْلَا الْكَلِمَةُ السَّابِقَةُ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ
أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَالْأَجَلُ المسمى الذي ضر به اللَّهُ تَعَالَى لِهَؤُلَاءِ
الْمُكَذِّبِينَ إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لَجَاءَهُمْ الْعَذَابُ بَغْتَةً، وَلِهَذَا قَالَ لِنَبِيِّهِ مُسَلِّيًا لَهُ: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أَيْ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ لَكَ، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} يَعْنِي صَلَاةَ الْفَجْرِ {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} يَعْنِي صلاة العصر، كما جاء في الصحيحين: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا» ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقبل غروبها» (رواه مسلم وأخرجه الإمام أحمد) . وفي الحديث الصحيح: «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً مَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ مَسِيرَةَ أَلْفَيْ سَنَةٍ، يَنْظُرُ إِلَى أَقْصَاهُ كَمَا يَنْظُرُ إِلَى أَدْنَاهُ، وَإِنَّ أَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى الله تعالى في اليوم مرتين» (الحديث أخرجه الإمام أحمد ورواه أصحاب السنن عن عبد الله بن عمر) . وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ آنَآءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ} : أَيْ مِنْ ساعته فَتَهَجَّدْ بِهِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ، {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} فِي مُقَابَلَةِ آنَاءِ اللَّيْلِ {لَعَلَّكَ تَرْضَى} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} . وفي الصحيح: "يقول الله تعالى: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: إِنِّي أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا".(2/498)
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
- 131 - وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى
- 132 - وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقبة للتقوى
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: لا تنظر إلى ما هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم فيه من النعيم، فَإِنَّمَا هُوَ زَهْرَةٌ زَائِلَةٌ وَنِعْمَةٌ حَائِلَةٌ لِنَخْتَبِرَهُمْ بِذَلِكَ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} : يعني الأغنياء، فقد آتاك خيراً مما آتاهم. ولهذا قال: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى} (أخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه، عن أبي رافع قَالَ: أَضَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضيفاً، فأرسلني إلى رجل من اليهود أن أسلفني دقيقاً إلى هلال رجب، فقال: لَا، إِلَّا بِرَهْنٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأمين في السماء أمين في الأرض فلم أخرج من عنده حتى نزلت الآية: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عينيك ... } كما في اللباب} . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ المَشْرُبة الَّتِي كَانَ قَدِ اعتزل فيها نساءه حين آلى منهن، فَرَآهُ مُتَوَسِّدًا مُضْطَجِعًا عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ، وَلَيْسَ في البيت إلاّ صُبْرة من قَرَظ (صبرة: مجموعة، قرظ: ورق السّلَم، وهو شجر شائك يستعمل ورقه في دبغ الجلود) واهية معلقة، فابتدرت عينا عمر بالبكاء، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما يبكيك يا عمر؟» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خلقه! فقال: «أو في شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا» ، فَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْهَدَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا إِذَا حَصَلَتْ لَهُ يُنْفِقُهَا هَكَذَا وَهَكَذَا فِي عِبَادِ اللَّهِ، وَلَمْ يَدَّخِرْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا لِغَدٍ.
عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَّا يَفْتَحِ الله لكم مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا» ، قَالُوا: وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا يا رسول الله؟ قال: «بركات الأرض» (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً) . وقال قتادة والسدي {زَهْرَةَ الحياة} : يَعْنِي زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا: وَقَالَ قَتَادَةُ {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لِنَبْتَلِيَهُمْ، وَقَوْلُهُ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} أَيِ اسْتَنْقِذْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِإِقَامِ الصلاة واصبر أَنْتَ عَلَى فِعْلِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} . وَقَوْلُهُ: {لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} يَعْنِي إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ أَتَاكَ الرِّزْقُ مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يحتسب} ، وَلِهَذَا قَالَ {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا: أَيْ لَا نكلفك الطلب. وقال ابن أبي حاتم، عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا
أَصَابَهُ خَصَاصَةٌ نَادَى أَهْلَهُ يَا أَهْلَاهُ صَلُّوا، صَلُّوا. قَالَ ثَابِتٌ: وَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ أَمْرٌ فَزِعُوا إِلَى الصلاة. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ» (الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة) . وعن زيد بن ثابت قَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وهي راغمة» ، وقوله {والعاقبة(2/499)
لِلتَّقْوَى} : أَيْ وَحُسْنُ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهِيَ الْجَنَّةُ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ: «رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ كَأَنَّا فِي دَارِ (عُقْبَةَ بن نافع) وَأَنَّا أُتِينَا بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابَ، فأوَّلت ذَلِكَ أَنَّ الْعَاقِبَةَ لَنَا فِي الدُّنْيَا وَالرِّفْعَةَ وَأَنَّ دِينَنَا قَدْ طَابَ» .(2/500)
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
- 133 - وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى
- 134 - وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى
- 135 - قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ {لَوْلاَ} أَيْ هَلَّا يَأْتِيَنَا مُحَمَّدٌ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ؟ أَيْ بِعَلَامَةٍ دَالَّةٍ عَلَى صِدْقِهِ فِي أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} يَعْنِي الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ اللَّهُ وَهُوَ أُمِّيٌّ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَلَمْ يُدَارِسْ أهل الكتاب، وهذه الآية كقوله تعالى: {أو لم يَكْفِهِمْ إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مَثَلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ الله تعالى إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القيامة» (أخرجه البخاري ومسلم) ، وإنما ذكر ههنا أَعْظَمَ الْآيَاتِ الَّتِي أُعْطِيَهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ القرآن، وإلاّ فله مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَا لَا يُحدُّ وَلَا يُحْصَرُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} أَيْ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَا هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ قَبْلَ أَنْ نُرْسِلَ إِلَيْهِمْ هَذَا الرَّسُولَ الْكَرِيمَ وَنُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْكِتَابَ الْعَظِيمَ لَكَانُوا قَالُوا {رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} قَبْلَ أَنْ تُهْلِكَنَا حَتَّى نُؤْمِنَ بِهِ وَنَتَّبِعَهُ، كَمَا قَالَ: {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} ، يبيّن تعالىأن هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ مُتَعَنِّتُونَ مُعَانِدُونَ لاَ يُؤْمِنُونَ {وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يرواالعذاب الأليم} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، وَقَالَ: {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بها} الآيتين؛ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ} : أَيْ يَا مُحَمَّدُ لِمَنْ كَذَّبَكَ وَخَالَفَكَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَعِنَادِهِ {كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ} أَيْ مِنَّا وَمِنْكُمْ، {فَتَرَبَّصُواْ} : أَيْ فَانْتَظِرُوا، {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} : أَيِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، {وَمَنِ اهْتَدَى} إِلَى الْحَقِّ وَسَبِيلِ الرَّشَادِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} ، وقال: {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر} .(2/500)
- 21 - سورة الأنبياء(2/501)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ
- 2 - مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ
- 3 - لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ
- 4 - قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
- 5 - بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ
- 6 - مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ
هَذَا تَنْبِيهٌ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ عَلَى اقْتِرَابِ السَّاعَةِ وَدُنُوِّهَا، وَأَنَّ النَّاسَ فِي غَفْلَةٍ عَنْهَا، أَيْ لَا
يَعْمَلُونَ لَهَا وَلَا يَسْتَعِدُّونَ مِنْ أجلها، رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} قال: «في الدنيا» (الحديث أخرجه النسائي عن أبي سعيد الخدري) . وَقَالَ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} . وقال أبو العتاهية:
الناس في غفلاتهم * ورحا المنية تطحن
وروي عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ رجل من العرب، فأكرم مَثْوَاهُ وَكَلَّمَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ: إِنِّي اسْتَقْطَعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادِيًا فِي الْعَرَبِ، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَقْطَعَ لَكَ مِنْهُ قِطْعَةً تَكُونُ لَكَ وَلِعَقِبِكَ مِنْ بَعْدِكَ، فَقَالَ عَامِرٌ: لَا حَاجَةَ لِي فِي قَطِيعَتِكَ نَزَلَتِ الْيَوْمَ سُورَةٌ أَذْهَلَتْنَا عَنِ الدُّنْيَا: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} ؛ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُصْغُونَ إِلَى الْوَحْيِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، والخطابُ مَعَ قُرَيْشٍ وَمَنْ شَابَهَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ فَقَالَ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِنْ رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ} أَيْ جَدِيدٌ إِنْزَالُهُ {إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكُمْ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَمَّا بِأَيْدِيهِمْ وَقَدْ حرَّفوه وَبَدَّلُوهُ وَزَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا مِنْهُ، وَكِتَابُكُمْ أَحْدَثُ الْكُتُبِ بالله تقرأونه محضاً لم يُشب (أخرجه البخاري بنحوه، ومعنى لم يُشَب: أي لم يخلط بغيره من الأباطيل والأضاليل) . وَقَوْلُهُ: {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أَيْ(2/501)
قَائِلِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ خُفْيَةً {هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} يَعْنُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَبْعِدُونَ كَوْنَهُ نَبِيًّا لِأَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ فَكَيْفَ اخْتُصَّ بِالْوَحْيِ دُونَهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} أَيْ أَفَتَتْبَعُونَهُ فَتَكُونُونَ كمن يأتي السِّحْرَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سِحْرٌ، فَقَالَ تَعَالَى مجيباً لهم عما اقترفوه وَاخْتَلَقُوهُ مِنَ الْكَذِبِ {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} : أَيِ الَّذِي يَعْلَمُ ذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى خَبَرِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ إِلَّا الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أَيِ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِكُمْ الْعَلِيمُ بأحوالكم، وفي هذا تهديد لكم وَوَعِيدٌ، وَقَوْلُهُ: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ} ، هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ تَعَنُّتِ الْكُفَّارِ وَإِلْحَادِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فِيمَا يَصِفُونَ بِهِ الْقُرْآنَ وَحَيْرَتِهِمْ فِيهِ وَضَلَالِهِمْ عَنْهُ؛ فَتَارَةً يَجْعَلُونَهُ سِحْرًا، وَتَارَةً يَجْعَلُونَهُ شِعْرًا، وَتَارَةً يَجْعَلُونَهُ أَضْغَاثَ أَحْلَامٍ، وَتَارَةً يَجْعَلُونَهُ مُفْتَرًى، كَمَا قَالَ: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} ، وَقَوْلُهُ: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} يَعْنُونَ كناقة صَالِحٍ وَآيَاتِ مُوسَى وَعِيسَى، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} الآية. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} (أخرج ابن جرير عن قتادة قال، قال أهل مكة للنبي عليه السلام: إن كان ما تقول حقاً ويسرك أن نؤمن، فحول لنا الصفا ذهباً، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن شئت كان الذي سألك قومك، ولكنه إن كان ثم لم يؤمنوا لم ينظروا، وإن شئت استأنيت بقومك. فنزلت الآية: {مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} ) أي ما آتينا قرية من القرى التي بعث فيها الرسل آية على أيدي نَبِيِّهَا فَآمَنُوا بِهَا بَلْ كَذَّبُوا فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذَلِكَ أَفَهَؤُلَاءِ يُؤْمِنُونَ بِالْآيَاتِ لَوْ رَأَوْهَا دُونَ أُولَئِكَ؟ كَلَّا، بَلْ {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ العذاب الأليم} هَذَا كُلُّهُ، وَقَدْ شَاهَدُوا مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَاتِ، وَالدَّلَائِلِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا هُوَ أَظْهَرُ وَأَجْلَى وَأَبْهَرُ وَأَقْطَعُ وَأَقْهَرُ مِمَّا شُوهِدَ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليهم أجمعين.(2/502)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
- 7 - وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ
- 8 - وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ
- 9 - ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ
يَقُولُ تَعَالَى رَادًّا عَلَى مَنْ أَنْكَرَ بِعْثَةَ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ} أَيْ جَمِيعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا كَانُوا رِجَالًا مِنَ الْبَشَرِ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى} ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} . وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَمَّنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَمِ لأنهم أنكروا ذلك فقالوا: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} ، أَيِ اسْأَلُوا أَهْلَ الْعِلْمِ مِنَ الْأُمَمِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَسَائِرِ الطَّوَائِفِ، هَلْ كَانَ الرُّسُلُ الَّذِينَ أَتَوْهُمْ بَشَرًا أَوْ مَلَائِكَةً؟ وَقَوْلُهُ: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} أَيْ بَلْ قَدْ كَانُوا أَجْسَادًا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ
مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسواق} : أي(2/502)
قَدْ كَانُوا بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ، يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ مثل الناس، ويدخلون في الْأَسْوَاقَ لِلتَّكَسُّبِ وَالتِّجَارَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِضَارٍّ لَهُمْ وَلَا نَاقِصٍ مِنْهُمْ شَيْئًا كَمَا تَوَهَّمَهُ الْمُشْرِكُونَ في قولهم: {مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نذيراً} . وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ} أَيْ فِي الدُّنْيَا، بَلْ كَانُوا يَعِيشُونَ ثُمَّ يَمُوتُونَ {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد} وَخَاصَّتُهُمْ أَنَّهُمْ يُوحَى إِلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ تَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ عَنِ اللَّهِ بِمَا يحكمه فِي خَلْقِهِ مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} أَيِ الَّذِي وَعَدَهُمْ ربهم ليهلكن الظالمين، صدقهم الله وعده وفعل ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ} أَيْ أَتْبَاعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} : أَيِ الْمُكَذِّبِينَ بما جاءت به الرسل.(2/503)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
- 10 - لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
- 11 - وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ
- 12 - فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ
- 13 - لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُوا إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ
- 14 - قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
- 15 - فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى شَرَفِ الْقُرْآنِ وَمُحَرِّضًا لَهُمْ عَلَى مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَرَفُكُمْ، وقال مجاهد: حديثكم، وقال الحسن: دينكم {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} : أي هذه النعمة وتتلقونها بالقبول، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تسألون} ، وَقَوْلُهُ: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} هَذِهِ صِيغَةُ تَكْثِيرٍ، كَمَا قَالَ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن القرون مِن بَعْدِ نوح} ، وقال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا ... } الآية، وَقَوْلُهُ: {وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ} أَيْ أُمَّةً أُخْرَى بَعْدَهُمْ، {فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ} أَيْ تَيَقَّنُوا أن العذاب واقع
بهم لا محالة كَمَا وَعَدَهُمْ نَبِيُّهُمْ {إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ} أَيْ يَفِرُّونَ هَارِبِينَ، {لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ} هَذَا تَهَكُّمٌ بِهِمْ نزراً، أي قيل لهم نزراً لَا تَرْكُضُوا هَارِبِينَ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ وَارْجِعُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالسُّرُورِ والمعيشة والمساكن الطيبة، قال قتاادة: اسْتِهْزَاءٌ بِهِمْ {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} : أَيْ عَمَّا كُنْتُمْ فيه من أداء شكر النعم. {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} : أَيْ مَا زَالَتْ تِلْكَ الْمَقَالَةُ وَهِيَ الِاعْتِرَافُ بِالظُّلْمِ هِجَّيَراهم (دأبهم وعادتهم وشأنهم) حَتَّى حَصَدْنَاهُمْ حَصْدًا، وَخَمَدَتْ حَرَكَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُهُمْ خُمُودًا.(2/503)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
- 16 - وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ
- 17 - لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ
- 18 - بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ
- 19 - وَلَهُ مَن فِي(2/503)
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ
- 20 - يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أَيْ بِالْعَدْلِ وَالْقِسْطِ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بالحسنى، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ ذَلِكَ عَبَثًا وَلَا لَعِبًا، كَمَا قَالَ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الذي كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِين} ، قَالَ مجاهد: يَعْنِي مِنْ عِنْدِنَا، يَقُولُ: وَمَا خَلَقْنَا جَنَّةً وَلَا نَارًا وَلَا مَوْتًا وَلَا بَعْثًا وَلَا حساباً. وقال الحسن وقتادة {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً} اللَّهْوُ: الْمَرْأَةُ بلسان أهل اليمن، وقال إبراهيم النخعي {لاَّتَّخَذْنَاهُ} مِنَ الْحُورِ الْعِينِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: والمراد باللهو ههنا الولد، وهذا الذي قَبْلَهُ مُتَلَازِمَانِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الواحد القهار} فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقاً ولا سِيَّمَا عَمَّا يَقُولُونَ مِنَ الْإِفْكِ وَالْبَاطِلِ مِنَ اتخاذ عيسى أو الملائكة {سُبْحَانَ الله وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كبيراً} ، وَقَوْلُهُ: {إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أَيْ مَا كُنَّا فَاعِلِينَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ «إنْ» فَهُوَ إِنْكَارٌ. وَقَوْلُهُ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} أَيْ نُبَيِّنُ الْحَقَّ فَيَدْحَضُ الْبَاطِلَ وَلِهَذَا قَالَ: {فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أَيْ ذَاهِبٌ مُضْمَحِلٌّ، {وَلَكُمُ الْوَيْلُ} أَيْ أَيْهَا الْقَائِلُونَ لِلَّهِ وَلَدٌ {مِمَّا تَصِفُونَ} أَيْ تَقُولُونَ وَتَفْتَرُونَ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ عُبُودِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَدَأْبِهِمْ فِي طَاعَتِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَقَالَ: {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} : أَيْ لَا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْهَا كَمَا قَالَ: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون} ، وقوله: {وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} أي لا يتبعون وَلَا يَمَلُّونَ، {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} فَهُمْ دَائِبُونَ فِي الْعَمَلِ لَيْلًا وَنَهَارًا مُطِيعُونَ قَصْدًا وَعَمَلًا، قَادِرُونَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يأمرون} . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَأَنَا غُلَامٌ، فَقُلْتُ لَهُ: أرأيتِ قول الله تعالى لِلْمَلَائِكَةِ: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} أَمَا يَشْغَلُهُمْ عَنِ التَّسْبِيحِ الْكَلَامُ وَالرِّسَالَةُ وَالْعَمَلُ؟ فَقَالَ: من هَذَا الْغُلَامُ؟ فَقَالُوا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قال: فقبّل رأسي ثم قال: يَا بُنَيَّ إِنَّهُ جَعَلَ لَهُمُ التَّسْبِيحَ كَمَا جَعَلَ لَكُمُ النَّفَسَ، أَلَيْسَ تَتَكَلَّمُ وَأَنْتَ تَتَنَفَّسُ وَتَمْشِي وَأَنْتَ تَتَنَفَّسُ؟.(2/504)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
- 21 - أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ
- 22 - لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ
- 23 - لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ
يُنْكِرُ تَعَالَى عَلَى مَنِ اتَّخَذَ مِن دُونِهِ آلِهَةً فَقَالَ {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ} أي يُحْيُونَ الْمَوْتَى وَيَنْشُرُونَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ؟ أَيْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ جَعَلُوهَا لِلَّهِ نِدًّا وَعَبَدُوهَا مَعَهُ؟ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْوُجُودِ آلِهَةٌ غَيْرُهُ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض، فقال {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله} أي في السماوات(2/504)
وَالْأَرْضِ {لَفَسَدَتَا} ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} ، وقال ههنا: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} أَيْ عما يقولون أن له ولدا وشريكاً. وَقَوْلُهُ: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} أَيْ هُوَ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ أَحَدٌ لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وعدله {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} أَيْ وَهُوَ سَائِلٌ خَلْقَهُ عَمَّا يَعْمَلُونَ، كَقَوْلِهِ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .(2/505)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
- 24 - أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ
- 25 - وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون
يقول تعالى: {أَمْ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ} يَا مُحَمَّدُ {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} أَيْ دَلِيلَكُمْ عَلَى مَا تَقُولُونَ، {هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ} يَعْنِي الْقُرْآنَ، {وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} يَعْنِي الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى خِلَافِ ما تقولونه وَتَزْعُمُونَ، فَكُلُّ كِتَابٍ أُنْزِلَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أُرْسِلَ، نَاطِقٌ بِأَنَّهُ {لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} وَلَكِنْ أَنْتُمْ أَيْهَا الْمُشْرِكُونَ لَا تَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} ، كَمَا قَالَ: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ؟ فَكُلُّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْفِطْرَةُ شَاهِدَةٌ بذلك أيضاً، والمشركون لا برهان لهم، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ.(2/505)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
- 26 - وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ
- 27 - لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ
- 28 - يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ
- 29 - وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ
يقول تعالى راداً على من زعم أن له وَلَدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، كَمَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنَ الْعَرَبِ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ فَقَالَ: {سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} أَيِ الْمَلَائِكَةُ عِبَادُ اللَّهِ مُكْرَمُونَ عِنْدَهُ، فِي مَنَازِلَ عَالِيَةٍ وَمَقَامَاتٍ سَامِيَةٍ، وَهُمْ لَهُ فِي غَايَةِ الطَّاعَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا، {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} أَيْ لَا يَتَقَدَّمُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِأَمْرٍ وَلَا يُخَالِفُونَهُ فيما أمرهم بِهِ بَلْ يُبَادِرُونَ إِلَى فِعْلِهِ، وَهُوَ تَعَالَى عِلْمُهُ مُحِيطٌ بِهِمْ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} ، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} ، كَقَوْلِهِ: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} ، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي مَعْنَى ذَلِكَ {وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ} أَيْ مِنْ خَوْفِهِ وَرَهْبَتِهِ {مُشْفِقُونَ * وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ} أي ادَّعَى مِنْهُمْ أَنَّهُ إِلَهٌ مَنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ مَعَ اللَّهِ، {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} أَيْ كُلُّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَهَذَا شَرْطٌ، وَالشَّرْطُ لَا يَلْزَمُ وُقُوعُهُ كَقَوْلِهِ: {قُلْ إِن كَانَ للرحمن ولداً فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} .(2/505)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
- 30 - أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ
- 31 - وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
- 32 - وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ
- 33 - وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ، فِي خَلْقِهِ الْأَشْيَاءَ وَقَهْرِهِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فَقَالَ: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيِ الجاهدون لِإِلَهِيَّتِهِ الْعَابِدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ الْمُسْتَبِدُّ بِالتَّدْبِيرِ، فَكَيْفَ يليق أن يعبد معه غيره أو يشرك به ما سواه؟ ألو يَرَوْا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ {كَانَتَا رَتْقًا} أَيْ كَانَ الْجَمِيعُ مُتَّصِلًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ مُتَلَاصِقٌ مُتَرَاكِمٌ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، فَفَتَقَ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ فَجَعَلَ السَّمَاوَاتِ سَبْعًا وَالْأَرْضَ سبعً، وفصل بين السماء الدُّنْيَا وَالْأَرْضِ بِالْهَوَاءِ، فَأَمْطَرَتِ السَّمَاءُ وَأَنْبَتَتِ الْأَرْضُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} أَيْ وَهُمْ يُشَاهِدُونَ الْمَخْلُوقَاتِ تحدث شيئاً فشيئاً عياناً، وذلك كله دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الْقَادِرِ على ما يشاء:
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةً * تَدُلُّ عَلَى أنه واحد
عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ، سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اللَّيْلُ كان قبل أو النهار؟ فقال: أرأيتم السماوت الأرض حِينَ كَانَتَا رَتْقًا هَلْ كَانَ بَيْنَهُمَا إِلَّا ظُلْمَةٌ؟ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّيْلَ قَبْلَ النَّهَارِ. وروى ابن أبي حاتم، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ يَسْأَلُهُ عن السماوات والأرض كانت رقتاً فَفَتَقْنَاهُمَا؟ قَالَ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْخِ، فَاسْأَلْهُ، ثُمَّ تَعَالَ فَأَخْبِرْنِي بِمَا قَالَ لَكَ، قَالَ، فَذَهَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَعَمْ، كَانَتِ السَّمَاوَاتُ رَتْقًا لَا تُمْطِرُ وَكَانَتْ الْأَرْضُ رَتْقًا لَا تُنْبِتُ، فَلَمَّا خَلَقَ لِلْأَرْضِ أَهْلًا فَتَقَ هَذِهِ بِالْمَطَرِ وَفَتْقَ هَذِهِ بِالنَّبَاتِ، فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فقال ابْنُ عُمَرَ، قَدْ كُنْتُ أَقُولُ: مَا يُعْجِبُنِي جراءة ابن عباس في تفسير القرآن فالآن عَلِمْتُ أَنَّهُ قَدْ أُوتِيَ فِي الْقُرْآنِ عِلْمًا، وقال عطية العوفي: كانت هذه رتقاً تُمْطِرُ فَأَمْطَرَتْ وَكَانَتْ هَذِهِ رَتْقًا لَا تُنْبِتُ فأنبتت، وقال سعيد بن جبير: كَانَتِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ مُلْتَزِقَتَيْنِ فَلَمَّا رَفَعَ السَّمَاءَ وَأَبْرَزَ مِنْهَا الْأَرْضَ كَانَ ذَلِكَ فَتْقَهُمَا الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: كَانَتَا جَمِيعًا فَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الْهَوَاءِ، وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أَيْ أصل كل الأحياء. عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي إِذَا رَأَيْتُكَ طَابَتْ نَفْسِي وَقَرَّتْ عَيْنِي، فَأَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، قَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِن مَّآءٍ» قَالَ، قُلْتُ: أَنْبِئْنِي عَنِ أمرٍ إِذَا عَمِلْتُ بِهِ دَخَلَتُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: «أَفْشِ السَّلَامَ، وَأَطْعِمِ الطَّعَامَ، وَصِلِ الْأَرْحَامَ، وَقُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، ثُمَّ ادْخُلِ الْجَنَّةَ بسلام» (الحديث أخرجه الإمام أحمد وإسناده على شرط الصحيحين، وأخرج ابن أبي حاتم بعضه) .
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} أَيْ جِبَالًا أَرْسَى الأرض بها وَثَقَّلَهَا لِئَلَّا تَمِيدَ بِالنَّاسِ أَيْ تَضْطَرِبَ(2/506)
وتتحرك فلا يحصل لهم قرار عليها لِأَنَّهَا غَامِرَةٌ فِي الْمَاءِ إِلَّا مِقْدَارَ الرُّبْعِ، فَإِنَّهُ بَادٍ لِلْهَوَاءِ وَالشَّمْسِ لِيُشَاهِدَ أَهْلُهَا السَّمَاءَ وَمَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ وَالْحِكَمِ وَالدَّلَالَاتِ، ولهذا قال: {أَن تَمِيدَ بِهِمْ} : وَقَوْلُهُ {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً} أَيْ ثَغْرًا فِي الْجِبَالِ يَسْلُكُونَ فِيهَا طُرُقًا، من قطر إلى قطر ومن إقليم إِلَى إِقْلِيمٍ، كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي الْأَرْضِ يَكُونُ الْجَبَلُ حَائِلًا بَيْنَ هَذِهِ الْبِلَادِ وَهَذِهِ الْبِلَادِ، فَيَجْعَلُ اللَّهُ فِيهِ فَجْوَةً ثَغْرَةً لِيَسْلُكَ الناس فيها من ههنا إلى ههنا، وَلِهَذَا قَالَ: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} ، وَقَوْلُهُ {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً} : أَيْ عَلَى الْأَرْضِ وَهِيَ كَالْقُبَّةِ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} ، وقال: {أفلم ينظرون إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فروج} ، وَالْبِنَاءُ هُوَ نَصْبُ الْقُبَّةِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُنِيَ
الْإِسْلَامُ على خمس» أي خمسة دَعَائِمَ وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْخِيَامِ كما تَعْهَدُهُ الْعَرَبُ، {مَّحْفُوظاً} أَيْ عَالِيًا مَحْرُوسًا أَنْ ينال، وقال مجاهد مرفوعاً، وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} كَقَوْلِهِ: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ في السموات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} أَيْ لَا يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا من الاتساع العظيم والاتفاع الْبَاهِرِ، وَمَا زُيِّنَتْ بِهِ مِنَ الْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ والسيارات في ليلها ونهارها، مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ الَّتِي تَقْطَعُ الْفَلَكَ بِكَمَالِهِ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَتَسِيرُ غَايَةً لَا يَعْلَمُ قدرها إلاّ الله، الذي قدّرها وسخّرها وسيّرها، ثُمَّ قَالَ مُنَبِّهًا عَلَى بَعْضِ آيَاتِهِ {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أَيْ هَذَا فِي ظَلَامِهِ وَسُكُونِهِ، وَهَذَا بِضِيَائِهِ وَأُنْسِهِ، يَطُولُ هَذَا تَارَةً ثُمَّ يَقْصُرُ أُخْرَى وَعَكْسُهُ الْآخَرُ، {وَالشَّمْسَ والقمر} هذه لها نور يخصها وحركة وسير خاص، وهذا بنور آخَرَ وَفَلَكٍ آخَرَ وَسَيْرٍ آخَرَ وَتَقْدِيرٍ آخَرَ، {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أَيْ يَدُورُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَدُورُونَ كَمَا يدرو المغزل في الفلكة، قَالَ مُجَاهِدٌ: فَلَا يَدُورُ الْمِغْزَلُ إِلَّا بِالْفَلْكَةِ وَلَا الْفَلْكَةُ إِلَّا بِالْمِغْزَلِ، كَذَلِكَ النُّجُومُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا يَدُورُونَ إِلَّا بِهِ وَلَا يَدُورُ إِلَّا بِهِنَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ العليم} .(2/507)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
- 34 - وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ
- 35 - كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: {وَمَآ جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ} أَيْ يا محمد {الخلد} أي في الدنيا (أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: نعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، فقال: «يا رب، فمن لأمتي» ، فنزلت: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ} الآية) بَلْ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} ، وَقَوْلُهُ: {أَفَإِنْ مِّتَّ} أَيْ يَا مُحَمَّدُ {فَهُمُ الْخَالِدُونَ} ؟ أَيْ يُؤَمِّلُونَ أَنْ يَعِيشُوا بَعْدَكَ! لَا يكون هذا بل كلٍّ إلى الفناء، ولهذا قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَنْشَدَ وَاسْتَشْهَدَ بِهَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ:
تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ * فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ
فَقُلْ لِلَّذِي يَبْغِي خِلَافَ الَّذِي مَضَى * تهيأْ لِأُخْرَى مِثْلِهَا فكأن قد
وقوله تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} أَيْ نَخْتَبِرُكُمْ بِالْمَصَائِبِ تارة، وبالنعم أخرى، فننظر من يشكر(2/507)
ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَنَبْلُوكُمْ} يَقُولُ: نَبْتَلِيكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَالصِّحَّةِ والسَّقَم، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَقَوْلُهُ: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أَيْ فَنُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ.(2/508)
وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
- 36 - وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ
- 37 - خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يَعْنِي كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَأَبِي جَهْلٍ وَأَشْبَاهِهِ {إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً} أَيْ يَسْتَهْزِئُونَ بِكَ، وينتقصونك؟؟؟ (أخرج ابن أبي حاتم: عن السدي قَالَ: مرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أبي جهل وأبي سفيان وهما يتحدثان، فلما رآه أبو جهل ضحك، وقال: ما أراك منتهياً حتى يصيبك مَآ أَصَابَ مِن غيَّر عهده، فنزلت: {وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا} الآية) ، يَقُولُونَ {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} ؟ يَعْنُونُ أَهَذَا الَّذِي يَسُبُّ آلِهَتَكُمْ وَيُسَفِّهُ أَحْلَامَكُمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} أَيْ وَهُمْ كَافِرُونَ بِاللَّهِ وَمَعَ هَذَا يَسْتَهْزِئُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يتخذوك إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} ؟ وقوله: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} كقوله: {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} أي في الأمور، والحكمة في ذكر عجلة الإنسان ههنا، أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَقَعَ فِي النُّفُوسِ سُرْعَةُ الِانْتِقَامِ منهم واستعجلت ذلك، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} لِأَنَّهُ تَعَالَى يُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، يُؤَجِّلُ ثُمَّ يُعَجِّلُ، وَيُنْظِرُ ثُمَّ لا يؤخر، ولهذا قال: {سأريكم آيَاتِي} أَيْ نَقْمِي وَحُكْمِي وَاقْتِدَارِي عَلَى مَنْ عَصَانِي {فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} .(2/508)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
- 38 - وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
- 39 - لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
- 40 - بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ يَسْتَعْجِلُونَ أَيْضًا بِوُقُوعِ الْعَذَابِ بهم، تكذبياً وجحوداً وكفراً وعناداً فَقَالَ: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ} أَيْ لَوْ تَيَقَّنُوا أَنَّهَا واقعة بهم لا محالة لما استعجلوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ حِينَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ} ، فَالْعَذَابُ مُحِيطٌ بِهِمْ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} أَيْ لَا نَاصِرَ لَهُمْ، كَمَا قَالَ: {وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} ، وَقَوْلُهُ: {بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً} أَيْ تَأْتِيهِمُ النَّارُ بَغْتَةً أَيْ فَجْأَةً، {فَتَبْهَتُهُمْ}(2/508)
أَيْ تَذْعَرُهُمْ فَيَسْتَسْلِمُونَ لَهَا، حَائِرِينَ لَا يَدْرُونَ مَا يَصْنَعُونَ {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ حِيلَةٌ فِي ذَلِكَ، {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أَيْ وَلَا يُؤَخَّرُ عَنْهُمْ ذَلِكَ سَاعَةً وَاحِدَةً.(2/509)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
- 41 - وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
- 42 - قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ
- 43 - أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مسلياً لرسوله عَمَّا آذَاهُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّكْذِيبِ {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يَعْنِي مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي كَانُوا يَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وأوذوا حاى أتاهم نصرنا} ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى نِعْمَتَهُ عَلَى عَبِيدِهِ فِي حِفْظِهِ لَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَكِلَاءَتِهِ وَحِرَاسَتِهِ لَهُمْ بِعَيْنِهِ الَّتِي لَا تَنَامُ، فَقَالَ: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} أَيْ بَدَلَ الرحمن يعني غيره، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ} أي لا يعترفون بنعمة الله عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، بَلْ يُعْرِضُونَ عَنِ آيَاتِهِ وَآلَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا} استفهام وَتَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ، أَيْ
أَلَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ وَتَكْلَؤُهُمْ غيرنا؟ ليس الأمر كما توهموا، لا، وَلَا كَمَا زَعَمُوا، وَلِهَذَا قَالَ: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} أَيْ هَذِهِ الْآلِهَةُ الَّتِي اسْتَنَدُوا إِلَيْهَا غَيْرَ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ، وقوله: {وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} قال ابن عباس: أَيْ يُجَارُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يُصْحَبُونَ مِنَ الله بخير، وقال غيره {يُصْحَبُونَ} يُمنعون.(2/509)
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
- 44 - بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ
- 45 - قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ
- 46 - وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
- 47 - وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّمَا غَرَّهُمْ وَحَمَلَهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ: أَنَّهُمْ مُتِّعُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَنُعِّمُوا، وَطَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فِيمَا هُمْ فِيهِ، فَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ؛ ثُمَّ قَالَ وَاعِظًا لَهُمْ: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ، وَقَدْ أَسْلَفْنَاهُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ، وَأَحْسَنُ مَا فُسِّرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي بِذَلِكَ ظُهُورَ الْإِسْلَامِ عَلَى الْكُفْرِ، وَالْمَعْنَى: أَفَلَا يَعْتَبِرُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ لِأَوْلِيَائِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ؟ وَإِهْلَاكِهِ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ وَالْقُرَى الظَّالِمَةَ وَإِنْجَائِهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ؟ وَلِهَذَا قَالَ: {أَفَهُمُ الغالبون} يعني بل هم المغلبون الْأَخْسَرُونَ الْأَرْذَلُونَ، وَقَوْلُهُ: {قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ} أَيْ إِنَّمَا أَنَا مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ مَا أُنْذِرُكُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، لَيْسَ ذَلِكَ(2/509)
إِلَّا عَمَّا أَوْحَاهُ اللَّهُ إليَّ وَلَكِنْ لَا يُجْدِي هَذَا عَمَّنْ أَعْمَى اللَّهُ بَصِيرَتَهُ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} ، وَقَوْلُهُ: {وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} ، أَيْ وَلَئِنْ مسَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، لَيَعْتَرِفُنَّ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} أَيْ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْعَدْلَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا هُوَ مِيزَانٌ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا جُمِعَ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْأَعْمَالِ الْمَوْزُونَةِ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: {فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} ، كَمَا قَالَ تعالى: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} ، وَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ، وَقَالَ لُقْمَانُ: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السموات أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ الله لَطِيفٌ خبير} .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقليتان فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وبحمده سبحان الله العظيم» (الحديث أخرجه الشيخان وختم البخاري رحمه الله صحيحه بهذا الحديث الشريف) ، وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يَسْتَخْلِصُ رَجُلًا مِنْ أمتي على رؤوس الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مَدُّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ قَالَ: لَا يَا رَبِّ، قَالَ: أفلك عذر أو حسنة؟ قال: فبهت الرَّجُلُ، فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً وَاحِدَةً لَا ظُلْمَ عليك اليوم، فَيُخْرِجُ لَهُ بِطَاقَةً فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، فَيَقُولُ: أَحْضِرُوهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ، قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، قَالَ: فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ، قال: ولا يثقل شيء مع بسم الله الرحمن الرحيم" (الحديث أخرجه الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ) ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يَكْذِبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي، وَأَضْرِبُهُمْ وَأَشْتُمُهُمْ فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وكذبوك وعقابك إياهم، فإن كان عقابك بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ كَانَ كَفَافًا لَا لَكَ وَلَا عليك، وإن كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ كَانَ فَضْلًا لك، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمْ اقْتُصَّ لهم منك الفضل الذي بقي قِبَلَكَ» ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَبْكِي بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَهْتِفُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما له لا يَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَجِدُ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ فِرَاقِ هَؤُلَاءِ - يَعْنِي عَبِيدَهُ - إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُمْ (أخرجه الإمام أحمد في المسند) .(2/510)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
- 48 - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ
- 49 - الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ
- 50 - وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ(2/510)
قَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كثيراً ما يقرن بيم ذِكْرِ مُوسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا وَبَيْنَ كِتَابَيْهِمَا وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} ، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْكِتَابَ، وَقَالَ قتادة: التوراة حلالهما وحرامهما وَمَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي النَّصْرَ، وَجَامِعُ الْقَوْلِ فِي ذلك أن الكتب السماوية مشتملة على التفرقة بين الحق والباطل، والهدى والظلال، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَعَلَى مَا يُحَصِّلُ نُورًا فِي الْقُلُوبِ، وَهِدَايَةً وَخَوْفًا، وَإِنَابَةً وَخَشْيَةً، وَلِهَذَا قَالَ: {الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ} أَيْ تدبيراً لَهُمْ وَعِظَةً، ثُمَّ وَصَفَهُمْ فَقَالَ: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ} ، كَقَوْلِهِ: {مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} ، {وَهُمْ مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} أَيْ خَائِفُونَ وَجِلُونَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} يَعْنِي الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الذِي لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أَيْ أَفَتُنْكِرُونَهُ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْجَلَاءِ وَالظُّهُورِ؟.(2/511)
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
- 51 - وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ
- 52 - إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ
- 53 - قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ
- 54 - قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
- 55 - قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ
- 56 - قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ آتَاهُ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ، أَيْ مِنْ صِغَرِهِ أَلْهَمَهُ الْحَقَّ وَالْحُجَّةَ عَلَى قَوْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ} ، والمقصود أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ آتَى إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ أَيْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} أَيْ وَكَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} هَذَا هُوَ الرُّشْدُ الَّذِي أُوتِيهِ مِنْ صِغَرِهِ الْإِنْكَارُ عَلَى قَوْمِهِ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ دُونِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فَقَالَ {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} : أَيْ مُعْتَكِفُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: مرَّ علي رضي الله عنه على قوم يلعبون الشطرنج، فَقَالَ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؟ لَأَنْ يَمَسَّ أَحَدُكُمْ جَمْرًا حَتَّى يُطْفَأَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّهَا، {قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ سِوَى صَنِيعِ آبَائِهِمُ الضُّلَّالِ، وَلِهَذَا قَالَ: {لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أَيِ الْكَلَامُ مَعَ آبَائِكُمُ الَّذِينَ احْتَجَجْتُمْ بِصَنِيعِهِمْ كَالْكَلَامِ مَعَكُمْ، فَأَنْتُمْ وَهُمْ فِي ضَلَالٍ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، فَلَمَّا سَفَّهَ أَحْلَامَهُمْ وَضَلَّلَ آبَاءَهُمْ وَاحْتَقَرَ آلِهَتَهُمْ {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} ؟ يَقُولُونَ: هَذَا الْكَلَامُ الصَّادِرُ عَنْكَ تَقُولُهُ لَاعِبًا أَوْ مُحِقًّا فِيهِ فَإِنَّا لَمْ نَسْمَعْ بِهِ قَبْلَكَ، {قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فطَرَهُنَّ} أَيْ رَبُّكُمْ الَّذِي لا إله غيره وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا حَوَتْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، الَّذِي ابْتَدَأَ خَلْقَهُنَّ وَهُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ {وَأَنَاْ عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} أَيْ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلَا رب سواه(2/511)
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
- 57 - وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ
- 58 - فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ(2/511)
- 59 - قَالُواْ مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ
- 60 - قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ
- 61 - قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ
- 62 - قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ
- 63 - قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يَنْطِقُونَ
ثُمَّ أَقْسَمَ الْخَلِيلُ قَسَمًا أَسْمَعَهُ بَعْضَ قَوْمِهِ لَيَكِيدَنَّ أَصْنَامَهُمْ، أَيْ ليحرضن عَلَى أَذَاهُمْ وَتَكْسِيرِهِمْ بَعْدَ أَنْ يُوَلُّوا مُدْبِرِينَ أَيْ إِلَى عِيدِهِمْ، وَكَانَ لَهُمْ عِيدٌ يَخْرُجُونَ إِلَيْهِ، قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا اقْتَرَبَ وَقْتُ ذَلِكَ الْعِيدِ قَالَ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ لَوْ خَرَجْتَ مَعَنَا إِلَى عِيدِنَا لَأَعْجَبَكَ دِينُنَا، فَخَرَجَ مَعَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَلْقَى نَفْسَهُ إِلَى الْأَرْضِ وَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ، فَجَعَلُوا يَمُرُّونَ عَلَيْهِ وَهُوَ صَرِيعٌ فَيَقُولُونَ: مَهْ، فَيَقُولُ: إِنِّي سَقِيمٌ، فَلَمَّا جَازَ عَامَّتُهُمْ وَبَقِيَ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: {تَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} ، فسمعه أولئك. وقال ابن إسحاق، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى عِيدِهِمْ مَرُّوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: يَا إِبْرَاهِيمُ أَلَا تَخْرُجُ مَعَنَا؟ قَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ وَقَدْ كَانَ بِالْأَمْسِ قَالَ: {تَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ} فَسَمِعَهُ نَاسٌ مِنْهُمْ، وَقَوْلُهُ: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} أَيْ حُطَامًا كَسَّرَهَا كُلَّهَا {إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ} يَعْنِي إِلَّا الصَّنَمَ الْكَبِيرَ عِنْدَهُمْ، كَمَا قَالَ: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} ، وَقَوْلُهُ: {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} ذَكَرُوا أَنَّهُ وَضَعَ الْقَدُومَ فِي يَدِ كَبِيرِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي غَارَ لِنَفْسِهِ، وَأَنِفَ أَنْ تُعْبَدَ مَعَهُ هَذِهِ الْأَصْنَامُ الصِّغَارُ فَكَسَّرَهَا، {قَالُواْ مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} ؟ أَيْ حِينَ رَجَعُوا وَشَاهَدُوا مَا فَعَلَهُ الْخَلِيلُ بِأَصْنَامِهِمْ، مِنَ الْإِهَانَةِ وَالْإِذْلَالِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ إِلَهِيَّتِهَا، وَعَلَى سَخَافَةِ عُقُولِ عَابِدِيهَا، {قَالُواْ مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} أَيْ فِي صنعيه هَذَا، {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} أَيْ قَالَ مَنْ سَمِعَهُ يَحْلِفُ أَنَّهُ لَيَكِيدَنَّهُمْ {سَمِعْنَا فَتًى} أَيْ شَابًّا يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ له إبراهيم. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا شَابًّا وَلَا أُوتِيَ الْعَلَمَ عَالِمٌ إِلَّا
وَهُوَ شَابٌّ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ له إبراهيم} (أخرجه ابن أبي حاتم) . وَقَوْلُهُ: {قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} أي على رؤوس الْأَشْهَادِ فِي الْمَلَإِ الْأَكْبَرِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم عليه السلام، إن يبين فِي هَذَا الْمَحْفِلِ الْعَظِيمِ كَثْرَةُ جَهْلِهِمْ وَقِلَّةُ عقلهم، في عبادة الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا ضَرًّا وَلَا تَمْلِكُ لَهَا نَصْرًا، فَكَيْفَ يُطْلَبُ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؟ {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} يَعْنِي الَّذِي تَرَكَهُ لَمْ يَكْسِرْهُ، {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا أَنْ يبادورا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ فَيَعْتَرِفُوا أَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ، وأن هَذَا لَا يَصْدُرُ عَنْ هَذَا الصَّنَمِ لِأَنَّهُ جماد.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكْذِبْ غَيْرَ ثَلَاثٍ: ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، قَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، وَقَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} . قَالَ: وَبَيْنَا هُوَ يَسِيرُ فِي أَرْضِ جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ وَمَعَهُ (سَارَةُ) إِذْ نَزَلَ مَنْزِلًا، فَأَتَى الْجَبَّارَ رَجُلٌ فَقَالَ: أنه قد نزل ههنا رجل بأرضك معه امرأة أحسن الناس، فأرسل إليه فجاءه، فقال: ما هذه المرأة منك؟ قال: أُخْتِي، قَالَ: فَاذْهَبْ فَأَرْسِلْ بِهَا إِلَيَّ، فَانْطَلَقَ(2/512)
إلى سارة فقال: إن هذا الجبار قد سَأَلَنِي عَنْكِ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي فَلَا تُكَذِّبِينِي عِنْدَهُ، فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ مُسْلِمٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ، فَانْطَلَقَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَلَمَّا أَنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ فَرَآهَا أَهْوَى إِلَيْهَا فَتَنَاوَلَهَا فأُخِذَ أَخْذًا شَدِيدًا، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ، فَدَعَتْ لَهُ فَأُرْسِلَ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا فَتَنَاوَلَهَا، فَأُخِذَ بِمِثْلِهَا أَوْ أَشَدَّ، فَفَعَلَ ذَلِكَ الثَّالِثَةَ، فَأُخِذَ، فَذَكَرَ مِثْلَ الْمَرَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ فَلَا أَضُرُّكِ، فَدَعَتْ لَهُ فَأُرْسِلَ، ثُمَّ دعا أدنى حجابه فقال: إنك لم تأتيني بإنسان ولكنك أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ أَخْرِجْهَا وَأَعْطِهَا هَاجَرَ، فَأُخْرِجَتْ وَأُعْطِيَتْ هَاجَرَ فَأَقْبَلَتْ، فَلَمَّا أَحَسَّ إِبْرَاهِيمُ بِمَجِيئِهَا انْفَتَلَ من صلاته وقال: مَهْيَم (مَهْيَم: كلمة استفهام معناها: ما الخبر، ماذا حدث لك) ، قالت: كفى الله كيد الكافر الفاجر فأخدمني هاجر"، قال محمد بن سيرين: فكان أَبُو هُرَيْرَةَ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: تلك أمكم يا بني ماء السماء (أخرجه الشيخان عن أبي هريرة) .(2/513)
فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
- 64 - فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ
- 65 - ثُمَّ نُكِسُواْ على رؤوسهم لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ
- 66 - قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ
- 67 - أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ قَالَ لَهُمْ مَا قال {فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ} أي بالملامة، فَقَالُوا {إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ} ، أَيْ فِي تَرْكِكِمْ لَهَا مُهْمَلَةً لَا حَافِظَ عِنْدَهَا، {ثُمَّ نُكِسُواْ على رؤوسهم} أَيْ ثُمَّ أَطْرَقُوا فِي الْأَرْضِ فَقَالُوا {لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ} ، قَالَ قَتَادَةُ: أَدْرَكَتِ الْقَوْمَ حَيْرَةُ سُوءٍ فَقَالُوا {لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ} ، وَقَالَ السُّدِّيُّ {ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رؤوسهم} : أي في الفتنة، وَقَوْلُ قَتَادَةَ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ حَيْرَةً وَعَجْزًا، وَلِهَذَا قَالُوا لَهُ {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ} فَكَيْفَ تَقُولُ لَنَا سَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَنْطِقُ، فَعِنْدَهَا قَالَ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ} ؟ أَيْ إذا كانت لا تنطق وهي لا تنفع ولا تضر فَلِمَ تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ {أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ؟! أَيْ أَفَلَا تَتَدَبَّرُونَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ الْغَلِيظِ، الَّذِي لَا يُرَوَّجُ إِلَّا عَلَى جَاهِلٍ ظَالِمٍ فَاجِرٍ؟ فَأَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ وَأَلْزَمَهُمْ بِهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ} الآية.(2/513)
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
- 68 - قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ
- 69 - قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ
- 70 - وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ
لَمَّا دُحِضَتْ حُجَّتُهُمْ وَبَانَ عَجْزُهُمْ وَظَهَرَ الْحَقُّ وَانْدَفَعَ الْبَاطِلُ، عَدَلُوا إِلَى اسْتِعْمَالِ جَاهِ مُلْكِهِمْ(2/513)
فَقَالُوا: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} فَجَمَعُوا حَطَبًا كَثِيرًا جِدًّا، قَالَ السُّدِّيُّ: حَتَّى إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَمْرَضُ فَتَنْذُرُ إِنْ عُوفِيَتْ أَنْ تَحْمِلَ حَطَبًا لِحَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ جَعَلُوهُ في جَوَبة (حفرة من من الأرض) مِنَ الْأَرْضِ وَأَضْرَمُوهَا نَارًا فَكَانَ لَهَا شَرَرٌ عظيم ولهب مرتفع لم توقد نار قط مِثْلُهَا، وَجَعَلُوا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كِفَّةِ الْمَنْجَنِيقِ بِإِشَارَةِ رَجُلٍ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسَ مِنَ الأكراد، فَلَمَّا أَلْقَوْهُ قَالَ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، روى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ {حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ في النار، وقالها محمد عليهما السلام حِينَ قَالُوا: «إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوكيل» ، وروى الحافظ أبو يعلى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي النَّارِ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ فِي السَّمَاءِ وَاحِدٌ وَأَنَا فِي الْأَرْضِ وَاحِدٌ أَعْبُدُكَ"، وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا جَعَلُوا يُوثِقُونَهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ لَكَ الْحَمْدُ ولك الملك لا شريك لك، وكان عمره إذ ذاك ستة عشرة سنة.
وَذَكَرَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّهُ عَرَضَ لَهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ فِي الْهَوَاءِ، فَقَالَ: أَلِكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ: أما إليك فلا، وأما من الله فلي. ويروى عن ابن عباس قَالَ: لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ جَعَلَ خَازِنُ الْمَطَرِ يَقُولُ: مَتَى أُومَرُ بِالْمَطَرِ فَأَرْسِلُهُ، قَالَ: فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ أَسْرَعَ مِنْ أَمْرِهِ، قَالَ اللَّهُ: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} ، قَالَ: لَمْ يَبْقَ نَارٌ فِي الْأَرْضِ إِلَّا طفئت، وقال كعب الأحبار: لم تُحْرِقِ النَّارُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ سِوَى وِثَاقِهِ، وَقَالَ ابن عباس: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قَالَ: {وَسَلَامًا} لآذى إبراهيم بردها، وقال أبو هريرة: إِنَّ أَحْسَنَ شَيْءٍ قَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ لَمَّا رُفِعَ عَنْهُ الطَّبَقُ وَهُوَ فِي النَّارِ وَجَدَهُ يَرْشَحُ جَبِينُهُ قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: نِعْمَ الرَّبُّ ربك يا إبراهيم (رواه أبو زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأخرجه ابن أبي حاتم) . وقال قتادة: لم يأت يؤمئذ دَابَّةٌ إِلَّا أَطْفَأَتْ عَنْهُ النَّارَ إِلَّا الوَزَغ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بقتله وسماه فويسقا، وعن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ دَابَّةٌ إِلَّا تُطْفِئُ النَّارَ غَيْرَ الْوَزَغِ فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ» ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ (أخرجه ابن أبي حاتم وفي بعض الروايات أن امرأة دخلت على عائشة فوجدت عندها رمحاً فقالت: مَا
تَصْنَعِينَ بِهَذَا الرُّمْحِ؟ فَقَالَتْ: نَقْتُلُ بِهِ الأوزاغ، وذكرت الحديث) ، وَقَوْلُهُ: {وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} ، أَيِ الْمَغْلُوبِينَ الْأَسْفَلِينَ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِنَبِيِّ اللَّهِ كَيْدًا، فَكَادَهُمُ اللَّهُ وَنَجَّاهُ مِنَ النَّارِ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ، وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّارِ جَاءَ مَلِكُهُمْ لِيَنْظُرَ إِلَيْهِ فَطَارَتْ شَرَارَةٌ فَوَقَعَتْ عَلَى إِبْهَامِهِ فَأَحْرَقَتْهُ مِثْلَ الصُّوفَةِ.(2/514)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
- 71 - وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ
- 72 - وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ
- 73 - وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ
- 74 - وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ
- 75 - وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّهُ سَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ نَارِ قَوْمِهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، مُهَاجِرًا إِلَى بلاد الشام(2/514)
إلى الأرض المقدسة منها، عن أبي كعب قال: هي الشَّامُ، وَمَا مِنْ مَاءٍ عَذْبٍ إِلَّا يَخْرُجُ من تحت الصخرة، وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ، فَأَنْجَاهُ اللَّهُ إلى الشام، وكان يقال للشام أعقار دار الهجرة، وما نقص من الأرض يزيد فِي الشَّامِ، وَمَا نَقَصَ مِنَ الشَّامِ زِيدَ فِي فِلَسْطِينَ، وَكَانَ يُقَالُ هِيَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ وَبِهَا يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السلام وبها يهلك المسيح الدجال، وقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} النَّافِلَةُ: وَلَدُ الْوَلَدِ يَعْنِي أَنَّ يَعْقُوبَ وَلَدَ إِسْحَاقَ، كَمَا قَالَ: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} ، وقال عبد الرحمن بْنِ أَسْلَمَ: سَأَلَ وَاحِدًا فَقَالَ: {رَبِّ هَبْ لِي من الصالحين} فَأَعْطَاهُ اللَّهُ إِسْحَاقَ وَزَادَهُ يَعْقُوبَ نَافِلَةً، {وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ} أَيِ الْجَمِيعُ أَهْلُ خَيْرٍ وَصَلَاحٍ، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} أَيْ يُقْتَدَى بِهِمْ {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أَيْ يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، {وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ} : أَيْ فَاعِلِينَ لِمَا يَأْمُرُونَ الناس به، وكان قد آمن إبراهيم عليه السلام وَاتَّبَعَهُ وَهَاجَرَ مَعَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} فَآتَاهُ اللَّهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَأَوْحَى إِلَيْهِ وَجَعَلَهُ نَبِيًّا وَبَعَثَهُ إِلَى (سَدُومَ) وَأَعْمَالِهَا فَخَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ وَدَمَّرَ عَلَيْهِمْ كَمَا قَصَّ خَبَرَهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ
الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} .(2/515)
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
- 76 - وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ
- 77 - وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ اسْتِجَابَتِهِ لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ دَعَا عَلَى قَوْمِهِ لَمَّا كَذَّبُوهُ، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مغلوب فانتصر} ، وَقَالَ نُوحٌ: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ ديارا} ، ولهذا قال ههنا: {إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ، كَمَا قَالَ: {وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} ، وَقَوْلُهُ: {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} أَيْ مِنَ الشِّدَّةِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْأَذَى فَإِنَّهُ لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وكانوا يتصدون لِأَذَاهُ وَيَتَوَاصَوْنَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ عَلَى خِلَافِهِ، وَقَوْلُهُ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} أَيْ وَنَجَّيْنَاهُ وَخَلَّصْنَاهُ مُنْتَصِرًا مِنَ الْقَوْمِ {الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ
قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} ، أَيْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِعَامَّةٍ، وَلَمْ يُبْقِ على وجه الارض منهم أحد كما دَعَا عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمْ.(2/515)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
- 78 - وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ
- 79 - فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ
- 80 - وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ
- 81 - وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ(2/515)
إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ
- 82 - وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ
قال ابن عباس: النفش الرعي، وقال قتادة: النفش لا يكون إلا بالليل، والهمل بالنهار، وعن ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} قَالَ: كَرْمٌ قَدْ أَنْبَتَتْ عَنَاقِيدُهُ فَأَفْسَدَتْهُ، قَالَ: فَقَضَى دَاوُدُ بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْكَرْمِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: غَيْرُ هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: تَدْفَعُ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ، فَيَقُومُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصب مِنْهَا حَتَّى إِذَا كَانَ الْكَرْمُ كَمَا كَانَ، دَفَعْتَ الْكَرْمَ إِلَى صَاحِبِهِ، وَدَفَعْتَ الْغَنَمَ إِلَى صاحبها، فذلك قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سليمان} (أخرجه ابن جرير، وكذا روي عن ابن عباس) وروى ابن أبي حاتم، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: الْحَرْثُ الَّذِي نَفَشَتْ فِيهِ الغنم إنما كان كرماً فَلَمْ تَدَعْ فِيهِ وَرَقَةً وَلَا عُنْقُودًا مِنْ عِنَبٍ إِلَّا أَكَلَتْهُ، فَأَتَوْا دَاوُدَ فَأَعْطَاهُمْ رِقَابَهَا، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: لَا؛ بَلْ تُؤْخَذُ الْغَنَمُ فَيُعْطَاهَا أَهْلُ الْكَرْمِ، فَيَكُونُ لَهُمْ لَبَنُهَا وَنَفْعُهَا، وَيُعْطَى أهل الغنم الكرم فيعمروه ويصلحوه حَتَّى يَعُودَ كَالَّذِي كَانَ لَيْلَةَ نَفَشَتْ فِيهِ الْغَنَمُ، ثُمَّ يُعْطَى أَهْلُ الْغَنَمِ غَنَمَهُمْ وَأَهْلُ الكرم كرمهم.
وقوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} قَالَ ابن أبي حاتم: أَنَّ (إِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ) لَمَّا اسْتَقْضَى أَتَاهُ الحسن فبكى، فقال: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ بَلَغَنِي أَنَّ الْقُضَاةَ: رَجُلٌ اجْتَهَدَ فَأَخَطَأَ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ مَالَ بِهِ الْهَوَى فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ فِيمَا قَصَّ اللَّهُ مَنْ نَبَأِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَالْأَنْبِيَاءِ حُكْمًا يَرُدُّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ النَّاسِ عَنْ قَوْلِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَى سُلَيْمَانَ ولم يذم داود، ثم قال الحسن: أَنَّ الله اتخذ على الحكام ثلاثاً: لا يشتروا به ثمناً قليلاً، ولا يتبعوا فيه الهوى ولا يخشوا فِيهِ أَحَدًا ثُمَّ تَلَا: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله} ، وقال: {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشوني} ، وقال: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وإذا اجتهد فأخطا فله أجر» ، وَفِي السُّنَنِ: الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ قَاضٍ فِي الْجَنَّةِ وَقَاضِيَانِ فِي النَّارِ: رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ ما رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابنان لهما إذ جَاءَ الذِّئْبُ فَأَخَذَ أَحَدَ الِابْنَيْنِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ، فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا، فَدَعَاهُمَا سُلَيْمَانُ، فقال: هاتوا السكين أشقه بينكما، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا لَا تشقه، فقضى به للصغرى" (الحديث أخرجه الإمام أحمد وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وبوَّب له النسائي في كتاب القضاء) .
وقوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مع داود الجبال يُسَبِّحْنَ والطير} الآية، وذلك لطيب صوته بتلاوة الزبور، وكان(2/516)
إِذَا تَرَنَّمَ بِهِ تَقِفُ الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ فَتُجَاوِبُهُ، وَتَرُدُّ عَلَيْهِ الْجِبَالُ تَأْوِيبًا، وَلِهَذَا لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ يَتْلُو الْقُرْآنَ مِنَ اللَّيْلِ، وَكَانَ لَهُ صَوْتٌ طَيِّبٌ جَدًا، فَوَقَفَ واستمع لقراءته، وقال: «لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ داود» ، وقال: يا رسول الله لو علمت أنك تستمع لحَبَّرْتُه (حسنته وزينته) لك تحبيراً، وَقَوْلُهُ: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ} يَعْنِي صَنْعَةَ الدُّرُوعِ، قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا كَانَتِ الدُّرُوعُ قَبْلَهُ صَفَائِحَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَرَدَهَا حَلَقًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وألنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي لا توسع الحلقة فتفلق الْمِسْمَارَ وَلَا تُغْلِظِ الْمِسْمَارَ فَتَقُدَّ الْحَلْقَةَ، وَلِهَذَا قَالَ: {لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ} يَعْنِي فِي الْقِتَالِ، {فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} أَيْ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ لِمَا أَلْهَمَ بِهِ عَبْدَهُ دَاوُدَ فَعَلَّمَهُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِكُمْ، وَقَوْلُهُ: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} أَيْ وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ الْعَاصِفَةَ {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} يَعْنِي أَرْضَ الشَّامِ {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ بِسَاطٌ مِنْ خَشَبٍ يُوضَعُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الْمَمْلَكَةِ وَالْخَيْلِ وَالْجِمَالِ وَالْخِيَامِ وَالْجُنْدِ، ثُمَّ يَأْمُرُ الرِّيحَ أَنْ تحمله فتدخل تحته ثم تحمله وترفعه وتسير به، وتظله الطير تقيه الْحَرِّ إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ مِنَ الْأَرْضِ، فَيَنْزِلُ وتوضع آلاته وحشمه، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أصاب} ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ يُوضَعُ لِسُلَيْمَانَ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ كُرْسِيٍّ فَيَجْلِسُ مِمَّا يَلِيهِ مُؤْمِنُو الْإِنْسِ، ثُمَّ يَجْلِسُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُؤْمِنُو الْجِنِّ، ثُمَّ يَأْمُرُ الطَّيْرَ فَتُظِلُّهُمْ، ثُمَّ يَأْمُرُ الريح فتحملهم صلى الله عليه وسلم (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) . وَقَوْلُهُ: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ} أَيْ في الماء يستخرجون له اللآلئ والجواهر وَغَيْرَ ذَلِكَ، {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ} أَيْ غَيْرَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} ، وَقَوْلُهُ: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} أَيْ يَحْرُسُهُ اللَّهُ أَنْ يَنَالَهُ أَحَدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ بِسُوءٍ، بَلْ كُلٌّ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى الدُّنُوِّ إِلَيْهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، بل هو يحكم فِيهِمْ إِنْ شَاءَ أَطْلَقَ وَإِنْ شَاءَ حَبَسَ مِنْهُمْ مَنْ يَشَاءُ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} .(2/517)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
- 83 - وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
- 84 - فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ
يَذْكُرُ تَعَالَى عَنْ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ أَصَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَسَدِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ شَيْءٌ كَثِيرٌ وَأَوْلَادٌ كَثِيرَةٌ وَمَنَازِلُ مَرْضِيَّةٌ، فَابْتُلِيَ في ذلك كله وذهب عن آخره. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ مَكَثَ فِي الْبَلَاءِ مُدَّةً طويلة ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ كَانَا مِنْ أَخَصِّ إِخْوَانِهِ له، كان يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: تَعَلَّمْ وَاللَّهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذَنَبَهُ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: مُنْذُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ اللَّهُ فَيَكْشِفَ مَا بِهِ، فَلَمَّا رَاحَا إِلَيْهِ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ، حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولُ غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فَيَذْكُرَانِ اللَّهَ، فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا كَرَاهِيَةَ أَنْ يذكرا الله إلا في حق (رواه ابن أبي حاتم عن أنَس بن مالك مرفوعاً وفي رفعه نظر، كما قال ابن كثير: رفع هذا غريب جداً) ، قال ابن عباس:(2/517)
ورد عليه ماله عِيَانًا وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أوحى الله إلى أيوب: قد رردت عَلَيْكَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، فَاغْتَسِلْ بِهَذَا الماء، فإن فيه شفاءك، وقرب عن صحابتك قُرْبَانًا وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ عَصَوْنِي فِيكَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمَّا عَافَى اللَّهُ أَيُّوبَ أَمْطَرَ عليه جراداً من ذهب، فجعل يأخذ منه بِيَدِهِ وَيَجْعَلُهُ فِي ثَوْبِهِ قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: يَا أَيُّوبُ أَمَا تَشْبَعُ؟ قَالَ: يَا رَبِّ ومن يشبع من رحمتك" (أصل هذا الحديث في الصحيحين) . وَقَوْلُهُ: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ} قَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: رُدُّوا عَلَيْهِ بأعينهم، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اسْمَ زَوْجَتِهِ (رَحْمَةُ) ويقال (ليا) بنت يعقوب عليه السلام، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قِيلَ لَهُ: يَا أَيُّوبُ إِنْ أهلك فِي الْجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ أَتَيْنَاكَ بِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْنَاهُمْ لَكَ فِي الْجَنَّةِ وَعَوَّضْنَاكَ مِثْلَهُمْ، قال: لا بل أتركهم فِي الْجَنَّةِ، فَتُرِكُوا لَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُوِّضَ مثلهم في الدنيا، وَقَوْلُهُ: {رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} أَيْ فَعَلْنَا بِهِ ذَلِكَ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ بِهِ {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} أَيْ وَجَعَلْنَاهُ فِي ذَلِكَ قُدْوَةً لِئَلَّا يَظُنَّ أَهْلُ الْبَلَاءِ أَنَّمَا فَعَلْنَا بِهِمْ ذَلِكَ لِهَوَانِهِمْ عَلَيْنَا، وَلِيَتَأَسَّوْا بِهِ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَقْدُورَاتِ اللَّهِ، وَابْتِلَائِهِ لِعِبَادِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي ذَلِكَ.(2/518)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
- 85 - وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ
- 86 - وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين
وأما إِسْمَاعِيلُ فَالْمُرَادُ بِهِ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، وكذا إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَمَّا ذُو الْكِفْلِ فَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّهُ مَا قُرِنَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَهُوَ نَبِيٌّ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا كَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَكَانَ مَلِكًا عَادِلًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا؛ وَتَوَقَّفَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قال مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَذَا الْكِفْلِ} قَالَ: رَجُلٌ صالح غير نبي تكفل لبني قَوْمِهِ أَنْ يَكْفِيَهُ أَمْرَ قَوْمِهِ، وَيُقِيمَهُمْ لَهُ، وَيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَسُمِّيَ ذَا الكفل. وقال ابن أبي حاتم، عن كِنَانَةَ بْنِ الْأَخْنَسِ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَشْعَرِيَّ وَهُوَ يَقُولُ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ: مَا كَانَ ذُو الْكِفْلِ بِنَبِيٍّ وَلَكِنْ كَانَ - يَعْنِي فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ - رَجُلٌ صَالِحٌ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ صَلَاةٍ، فَتَكَفَّلَ لَهُ ذُو الْكِفْلِ مِنْ بَعْدِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ صَلَاةٍ فَسُمِّيَ ذا الكفل (أخرجه ابن أبي حاتم) .(2/518)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
- 87 - وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
- 88 - فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ
هذه القصة مذكورة ههنا وفي الصَّافَّاتِ وَفِي سُورَةِ ن، وَذَلِكَ أَنَّ (يُونُسَ بْنَ مَتَّى) عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أهل نِينَوَى، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ، فَدَعَاهُمْ إلى الله تعالى، فَأَبَوْا عَلَيْهِ، وَتَمَادَوْا عَلَى كُفْرِهِمْ، فَخَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ مُغَاضِبًا لَهُمْ، وَوَعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَلَمَّا تَحَقَّقُوا مِنْهُ ذَلِكَ وَعَلِمُوا أَنَّ النَّبِيَّ لَا يَكْذِبُ، خَرَجُوا إِلَى الصَّحْرَاءِ بِأَطْفَالِهِمْ وأنعامهم ومواشيهم، ثُمَّ تَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَجَأَرُوا إليه فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} .(2/518)
وَأَمَّا يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ ذَهَبَ فَرَكِبَ مَعَ قَوْمٍ فِي سَفِينَةٍ، فَلَجَّجَتْ بِهِمْ، وَخَافُوا أَنْ يَغْرَقُوا، فَاقْتَرَعُوا عَلَى رَجُلٍ يُلْقُونَهُ مِنْ بينهم يتخففون منه، فوقععت الْقُرْعَةُ عَلَى يُونُسَ، فَأَبَوْا أَنْ يُلْقُوهُ، ثُمَّ أعادوها فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا، فَأَبَوْا، ثُمَّ أَعَادُوهَا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين} ، فَقَامَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ، ثُمَّ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ، وَقَدْ أَرْسَلَ الله سبحانه حُوتًا يَشُقُّ الْبِحَارَ، حَتَّى جَاءَ فَالْتَقَمَ (يُونُسَ) حِينَ أَلْقَى نَفْسَهُ مِنَ السَّفِينَةِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلى ذلك الحوت أن لا تَأْكُلَ لَهُ لَحْمًا وَلَا تُهَشِّمَ لَهُ عَظْمًا، فَإِنَّ يُونُسَ لَيْسَ لَكَ رِزْقًا، وَإِنَّمَا بَطْنُكَ تكون
له سِجْنًا، وَقَوْلُهُ: {وَذَا النُّونِ} يَعْنِي الْحُوتَ صَحَّتِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ، وَقَوْلُهُ: {إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً} قَالَ الضَّحَّاكُ لِقَوْمِهِ: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} أي نضيّق (هذا التفسير مروي عن ابن عباس ومجاهد وَغَيْرِهِمْ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله} أي ضيّق عليه في الرزق) عليه في بطن الحوت، وقال عطية العوفي: أي نقضي عليه، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: قَدَرَ وَقَدَّرَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قدر} : أَيْ قُدِّرَ، وَقَوْلُهُ: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ، وَظُلْمَةُ البحر، وظلمة الليل، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَهَبَ بِهِ الْحُوتُ فِي الْبِحَارِ يَشُقُّهَا حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى قَرَارِ الْبَحْرِ، فَسَمِعَ يُونُسُ تَسْبِيحَ الْحَصَى فِي قَرَارِهِ، فَعِنْدَ ذلك قَالَ: {لاَّ إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ
إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} وقيل: مكث في بطن الحوت أربعين يوماً، وقوله: {فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم} أَخْرَجْنَاهُ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ وَتِلْكَ الظُّلُمَاتِ {وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ إِذَا كَانُوا فِي الشَّدَائِدِ ودعونا منيبين إلينا. وقال صلى الله عليه وسلم: "دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ هُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: {لاَّ إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا مسلم ربه في شيء إلا استجاب له" (هذا الحديث جزء من حديث طويل ذكره الإمام أحمد وورواه الترمذي والنسائي) . وفي الحديث: «مَنْ دَعَا بِدُعَاءِ يُونُسَ اسْتُجِيبَ لَهُ» ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ يُرِيدُ بِهِ {وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} . وعن سعد بن أبي وقاص، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اسْمُ اللَّهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، دَعْوَةُ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هِيَ لِيُونُسَ خَاصَّةً أَمْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؟ قال: "هي ليونس بن متى خاصة، ولجماعة المؤمنين عَامَّةً إِذَا دَعَوْا بِهَا، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} ، فَهُوَ شَرْطٌ مِنَ اللَّهِ لمن دعاه به" (أخرجه ابن جرير عن سعيد بن أبي وقاص مرفوعاً ورواه ابن أبي حاتم بمثله) .(2/519)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
- 89 - وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ
- 90 - فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خَاشِعِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ زَكَرِيَّا حِينَ طَلَبَ أَنْ يَهَبَهُ اللَّهُ وَلَدًا يَكُونُ من بعده نبياً، {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} أَيْ خُفْيَةً عَنْ قَوْمِهِ {رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً} أَيْ لَا وَلَدَ لِي وَلَا وَارِثَ يَقُومُ بَعْدِي فِي النَّاسِ {وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} دُعَاءٌ وَثَنَاءٌ مُنَاسِبٌ لِلْمَسْأَلَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} أَيِ امْرَأَتَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ(2/519)
وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتْ عَاقِرًا لَا تلد فولدت، وقال عطاء: كان في لسانها طول، فأصحلها اللَّهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ فِي خَلْقِهَا شَيْءٌ فأصحلها الله، وَالْأَظْهَرُ مِنَ السِّيَاقِ؛ الْأَوَّلُ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} : أَيْ فِي عَمَلِ الْقُرُبَاتِ وَفِعْلِ الطَّاعَاتِ {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} قَالَ الثَّوْرِيُّ: رَغَبًا فِيمَا عِنْدَنَا، وَرَهَبًا مِمَّا عِنْدَنَا {وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ مُصَدِّقِينَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُؤْمِنِينَ حَقًّا، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: خائفين، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ {خاشِعِينَ} : أَيْ مُتَذَلِّلِينَ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ. وروى ابن أبي حاتم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ: خَطَبَنَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَتُثْنُوا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَتَخْلِطُوا الرَّغْبَةَ بِالرَّهْبَةِ، وَتَجْمَعُوا الْإِلْحَافَ بِالْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ أَثْنَى عَلَى زَكَرِيَّا وَأَهْلِ بَيْتِهِ فَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خَاشِعِينَ} .(2/520)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
- 91 - وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُوحِنَا وجعلناها وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ
هكذا يذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام، مقرونة بِقِصَّةِ زَكَرِيَّا وَابْنِهِ يَحْيَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَيَذْكُرُ أَوَّلًا قِصَّةَ زَكَرِيَّا، ثُمَّ يُتْبِعُهَا بِقِصَّةِ مَرْيَمَ، لأن تلك مربوطة بهذه، فَإِنَّهَا إِيجَادُ وَلَدٍ مِنْ شَيْخٍ كَبِيرٍ قَدْ طَعَنَ فِي السِّنِّ، وَمِنَ امْرَأَةٍ عَجُوزٍ عَاقِرٍ، لَمْ تَكُنْ تَلِدُ فِي حَالِ شَبَابِهَا، ثُمَّ يَذْكُرُ قِصَّةَ مَرْيَمَ، وَهِيَ أَعْجَبُ، فَإِنَّهَا إِيجَادُ ولد من أثنى بلا ذكر، قال تعالى: {والتي أَحْصَنَتْ فرجها} (يراد من الفرج: فرج القميص: أي لم يعلق بثوبها ريبة، أي أنها طاهرة الأثواب، قال السهيلي: فلا يذهبن وهمك إلى غير هذا من لطيف الكناية، لأن القرآن أنزه معنى، وأوزن لفظاً، وألطف إشارة، وأملح عبارة من أن يريد ما يذهب إليه وهم الجاهلين، ولا سيما والنفخ من روح القدس بأمر القدوس، فأضعف القدس إلى القدوس ونزه المقدسة المطهرة عن الظن الكاذب والحدس) يَعْنِي مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، كَمَا قَالَ فِي سورة التحريم: {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا من روحنا} ، وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} أَيْ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وأنه يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ، وَإِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كن فيكون، وهذا كقوله: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {لِّلْعَالَمِينَ} قَالَ: الْعَالَمِينَ الجن والإنس.(2/520)
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
- 92 - إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ
- 93 - وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ
- 94 - فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ
قَالَ ابْنُ عباس {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} يَقُولُ: دِينُكُمْ دين واحد، أَيْ هَذِهِ شَرِيعَتُكُمُ الَّتِي بَيَّنْتُ لَكُمْ وَوَضَّحْتُ لكم. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ» ، يَعْنِي أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِشَرَائِعَ مُتَنَوِّعَةٍ لِرُسُلِهِ، كَمَا قال تعالى: {لِكُلٍّ جعلنا شرعة ومنهاجا} ، وَقَوْلُهُ: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أَيِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ عَلَى رُسُلِهَا فَمِنْ بَيْنِ مُصَدِّقٍ لَهُمْ وَمُكَذِّبٍ، وَلِهَذَا قَالَ: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} أَيْ يَوْمَ [ص:521] الْقِيَامَةِ فَيُجَازَى كُلٌّ بِحَسَبِ عَمَلِهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مؤمن} أي قبله مُصَدِّقٌ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا {فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} ، كقوله: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ من أحس عملا} أَيْ لَا يُكْفَرُ سَعْيُهُ وَهُوَ عَمَلُهُ، بَلْ يُشْكَرُ فَلَا يُظْلَمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنَّآ لَهُ كَاتِبُونَ} أَيْ يُكْتَبُ جَمِيعُ عَمَلِهِ فَلَا يَضِيعُ عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ.(2/520)
وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
- 95 - وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ
- 96 - حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ
- 97 - وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ
يقول تعالى: {وَحَرَامٌ على القرية} قال ابن عباس: وجب، يعني قد قدر أَنَّ أَهْلَ كُلِّ قَرْيَةٍ أُهْلِكُوا أَنَّهُمْ لَا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ أَيْ لَا يَتُوبُونَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ مِنْ سُلَالَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَلْ هُمْ مِنْ نَسْلِ نُوحٍ أيضاً من أولاد (يافث) أي أبي الترك، والترك شرذمة منهم، {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} أَيْ يُسْرِعُونَ فِي الْمَشْيِ إِلَى الْفَسَادِ، وَالْحَدَبُ هُوَ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو صَالِحٍ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ) ، وَهَذِهِ صِفَتُهُمْ فِي حَالِ خُرُوجِهِمْ، كَأَنَّ السَّامِعَ مُشَاهِدٌ لِذَلِكَ {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} هذا إخبار الَّذِي يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إلا هو، وقال ابن جرير: رَأَى ابْنُ عَبَّاسٍ صِبْيَانًا يَنْزُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَلْعَبُونَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَكَذَا يَخْرُجُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ خُرُوجِهِمْ فِي أحاديث متعددة من السنّة النبوية، فروى الإمام أحمد، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "تفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس، كَمَا قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} فَيَغْشَوْنَ النَّاسَ وَيَنْحَازُ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ إِلَى مَدَائِنِهِمْ وَحُصُونِهِمْ وَيَضُمُّونَ إِلَيْهِمْ مَوَاشِيَهُمْ، وَيَشْرَبُونَ مِيَاهَ الْأَرْضِ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَيَمُرُّ بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يابساً، حَتَّى أَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ لَيَمُرُّ بِذَلِكَ النَّهْرِ فيقول: قد كان ههنا مَاءٌ مَرَّةً، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ إِلَّا أَحَدٌ فِي حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ، قَالَ قَائِلُهُمْ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْأَرْضِ قَدْ فَرَغْنَا مِنْهُمْ بَقِيَ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ: ثُمَّ يَهُزُّ أَحَدُهُمْ حَرْبَتَهُ ثُمَّ يَرْمِي بِهَا إِلَى السماء فترجع إليه مخضبة دَمًا لِلْبَلَاءِ وَالْفِتْنَةِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ بَعَثَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ دُودًا فِي أَعْنَاقِهِمْ كَنَغَفِ الْجَرَادِ الَّذِي يَخْرُجُ فِي أَعْنَاقِهِ، فَيُصْبِحُونَ مَوْتًى لَا يُسْمَعُ لَهُمْ حِسٌّ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: أَلَا رَجُلٌ يَشْرِي لَنَا نَفْسَهُ فَيَنْظُرُ مَا فعل هذا العدو، قال: فينحدر رَجُلٌ مِنْهُمْ مُحْتَسِبًا نَفْسَهُ قَدْ أَوْطَنَهَا عَلَى أَنَّهُ مَقْتُولٌ فَيَنْزِلُ، فَيَجِدُهُمْ مَوْتًى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَيُنَادِي: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَلَا أَبْشِرُوا إِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قَدْ كَفَاكُمْ عَدُوَّكُمْ، فَيَخْرُجُونَ مِنْ مَدَائِنِهِمْ وَحُصُونِهِمْ وَيُسَرِّحُونَ مَوَاشِيَهُمْ، فَمَا يكون لهم رعي إلا لحومهم فتشكر عنهم كَأَحْسَنِ مَا شَكَرَتْ عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّبَاتِ أصابته قط" (أخرجه الإمام أحمد ورواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري) .
وفي حديث الدجال: "فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ عزَّ وجلَّ إِلَى عيسى ابن مريم عليه السلام إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ(2/521)
عِبَادًا مِنْ عِبَادِي لَا يَدَانِ لَكَ بِقِتَالِهِمْ، فحرر عِبَادِي إِلَى الطُّورِ فَيَبْعَثُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ يأجوج ومأجوج، كما قال تعالى: {وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} فَيَرْغَبُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إلى الله عزَّ وجلَّ، فيرسل عليهم نغفاً في رقابهم فيصحبون فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَيَهْبِطُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ بَيْتًا إِلَّا قَدْ مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ، فَيَرْغَبُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى
الله عزَّ وجلَّ، فيرسل الله عَلَيْهِمْ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ البُخْت فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ"، قَالَ ابْنُ جَابِرٍ: فَحَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ السَّكْسَكِيُّ عَنْ كَعْبٍ أَوْ غَيْرِهِ قال: فتطرحهم بالمهيل، قَالَ ابْنُ جَابِرٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا يَزِيدَ وأين المهيل؟ قَالَ: مَطْلَعُ الشَّمْسِ، قَالَ: "وَيُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لَا يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَيَغْسِلُ الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كالزَّلَقَة، ويقال للأرض انبتي ثمرك ودري بَرَكَتَكِ، قَالَ: فيومئذٍ يَأْكُلُ النَّفَرُ مِنَ الرُّمَّانَةِ، فيستظلون بِقِحْفِهَا وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ، حَتَّى إِنَّ اللَّقْحَةَ مِنَ الْإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ، وَاللَّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ تَكْفِي الْفَخِذَ، وَالشَّاةَ مِنَ الْغَنَمِ تَكْفِي أَهْلَ الْبَيْتِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُسْلِمٍ - أَوْ كما قال مؤمن - ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة" (أخرجه مسلم وأحمد وأصحاب السنن، وقال الترمذي: حسن صحيح) .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مريم يحج البيت العتيق، وعن أَبِي سَعِيدٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «ليحجن هذا البيت وليعتمرون بعد خروج يأجوج ومأجوج» . وَقَوْلُهُ: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذا حصلت هَذِهِ الْأَهْوَالُ وَالزَّلَازِلُ وَالْبَلَابِلُ أَزِفَتِ السَّاعَةُ وَاقْتَرَبَتْ، فَإِذَا كَانَتْ وَوَقَعَتْ، قَالَ الْكَافِرُونَ: هَذَا يَوْمٌ عسر، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيْ مِنْ شِدَّةِ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، {يَا وَيْلَنَا} أَيْ يَقُولُونَ يَا وَيْلَنَا {قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا} أَيْ فِي الدُّنْيَا، {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} يَعْتَرِفُونَ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ.(2/522)
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
- 98 - إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ
- 99 - لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ
- 100 - لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ
- 101 - إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ
- 102 - لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ
- 103 - لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: مُخَاطِبًا لِأَهْلِ مَكَّةَ مِنْ مُشْرِكِي قريش {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ وَقُودُهَا، يَعْنِي كقوله: {وَقُودُهَا الناس والحجارة} . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} يَعْنِي حَطَبَ جهنم (وهو قول مجاهد وعكرمة وقتادة) . وَقَالَ الضَّحَّاكُ {حَصَبُ جَهَنَّمَ} : أَيْ مَا يُرْمَى به فيها، وَالْجَمِيعُ قَرِيبٌ، وَقَوْلُهُ: {أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} : أَيْ دَاخِلُونَ، {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا} يعني لو كانت هذه الأصنام والأنداد آلهة صحيحة(2/522)
لما وردوا النار وما دَخَلُوهَا، {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} : أَيِ الْعَابِدُونَ وَمَعْبُودَاتُهُمْ كُلُّهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} كَمَا قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وشهيق} ، وَالزَّفِيرُ: خُرُوجُ أَنْفَاسِهِمْ، وَالشَّهِيقُ وُلُوجُ أَنْفَاسِهِمْ {وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ} ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عن ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا بَقِيَ مَنْ يَخْلُدُ فِي النَّارِ جُعِلُوا فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ فِيهَا مَسَامِيرُ مِنْ نَارٍ، فَلَا يَرَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ غَيْرُهُ، ثُمَّ تَلَا عَبْدُ اللَّهِ: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ} ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى} قَالَ عِكْرِمَةُ: الرَّحْمَةُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: السَّعَادَةُ {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} . لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَهْلَ النَّارِ وَعَذَابَهُمْ بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ بِاللَّهِ، عَطَفَ بِذِكْرِ السُّعَدَاءِ من المؤمنين بالله ورسوله، وَهُمُ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ وَأَسْلَفُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ، وقال: {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} ، فَكَمَا أَحْسَنُوا الْعَمَلَ فِي الدُّنْيَا أَحْسَنَ اللَّهُ مآبهم وثوابهم ونجاهم مِنَ الْعَذَابِ وَحَصَلَ لَهُمْ جَزِيلُ الثَّوَابِ، فَقَالَ: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} أَيْ حريقها في الأجساد، عَنِ أَبِي عُثْمَانَ {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} قَالَ: حَيَّاتٌ عَلَى الصِّرَاطِ تَلْسَعُهُمْ، فَإِذَا لَسَعَتْهُمْ قَالَ حَسَ حَسَ، وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} فَسَلَّمَهُمْ مِنَ الْمَحْذُورِ وَالْمَرْهُوبِ، وَحَصَلَ لهم المطلوب والمحبوب.
قال ابن عباس: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} فَأُولَئِكَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ مَرًّا هُوَ أَسْرَعُ مِنَ الْبَرْقِ، وَيَبْقَى الْكُفَّارُ فِيهَا جِثِيًّا، فَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتِ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْمَعْبُودِينَ وَخَرَجَ مِنْهُمْ عُزَيْرٌ وَالْمَسِيحُ كَمَا قَالَ ابن عباس {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لها وَارِدُونَ} ، ثُمَّ اسْتَثْنَى، فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى} فَيُقَالُ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَعِيسَى وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وجل، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى} قَالَ: نَزَلَتْ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَعُزَيْرٍ عَلَيْهِمَا السلام. وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} قَالَ: عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ، وَقَالَ الضحّاك: عيسى ومريم والملائكة والشمس والقمر. والآية إِنَّمَا نَزَلَتْ خِطَابًا لِأَهْلِ مَكَّةَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ الَّتِي هِيَ جَمَادٌ لَا تَعْقِلُ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا لِعَابِدِيهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} فَكَيْفَ يُورِدُ عَلَى هَذَا الْمَسِيحَ وَالْعُزَيْرَ وَنَحْوَهُمَا مِمَّنْ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ وَلَمْ يَرْضَ بِعِبَادَةِ مَنْ عَبَدَهُ؟ وَعَوَّلَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ فِي الْجَوَابِ عَلَى أَنَّ (مَا) لِمَا لَا يعقل عند العرب. وَقَوْلُهُ: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} قِيلَ: الْمُرَادُ بذلك الموت، قاله عَطَاءٍ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْفَزَعِ الْأَكْبَرِ النَّفْخَةُ فِي الصور، قاله ابن عباس وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقِيلَ: حِينَ يُؤْمَرُ بِالْعَبْدِ إِلَى النَّارِ، قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ؛ وَقِيلَ: حِينَ تُطْبِقُ النَّارُ عَلَى أَهْلِهَا، قَالَهُ سعيد بن جبير وابن جريج، وَقَوْلُهُ: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} يَعْنِي تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ تُبَشِّرُهُمْ يَوْمَ مَعَادِهِمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ {هَذَا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} أي فأملوا ما يسركم.(2/523)
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
- 104 - يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: هَذَا كَائِنٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يشركون} .(2/523)
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ يوم القيامة الأرضين وتكون السماوات بيمينه» (أخرجه البخاري عن ابن عمر مرفوعاً) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَطْوِي اللَّهُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْخَلِيقَةِ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْخَلِيقَةِ يَطْوِي ذَلِكَ كُلَّهُ بِيَمِينِهِ يَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ خَرْدَلَةٍ (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس) . وَقَوْلُهُ: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} قِيلَ: الْمُرَادُ بِالسِّجِلِّ الكتاب، وقيل: المراد بالسجل ههنا ملك من الملائكة، وَالصَّحِيحُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السِّجِلَّ هِيَ الصحيفة، وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ؛ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: يَوْمَ نَطْوِي السمآء كطي السجل للكتاب، أي على الْكِتَابِ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ كَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ للجبين} أَيْ عَلَى الْجَبِينِ، وَلَهُ نَظَائِرُ فِي اللُّغَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} يَعْنِي هَذَا كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ يَوْمَ يُعِيدُ اللَّهُ الْخَلَائِقَ خَلْقًا جَدِيدًا كَمَا بَدَأَهُمْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِعَادَتِهِمْ، وَذَلِكَ وَاجِبُ الْوُقُوعِ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ وَعْدِ اللَّهِ الَّذِي لَا يُخْلَفُ وَلَا يُبَدَّلُ وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} . عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ: «إنكم محشورن إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إنا كنا فاعلين» ، وذكر تمام الحديث (الحديث أخرجاه في الصحيحين ورواه الإمام أحمد عن ابن عباس) ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خلق نعيده} قال: يهلك كُلَّ شَيْءٍ كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ.(2/524)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
- 105 - وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ
- 106 - إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ
- 107 - وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا حَتَّمَهُ وَقَضَاهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ مِنَ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَوِرَاثَةِ الْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} وَقَالَ: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدنيا وَيَوْمَ يقوم الأشهاد} ، وقال: {وَعَدَ الله الذين آمكنوا مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لهم} ، وأخبر تعالى إِنَّ هذا مسطور في الكتب الشرعية والقدرية وهو كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ} . قَالَ مجاهد: الزبور الكتاب، وقال ابن عباس والحسن: {الزبور} الذي أنزل على داود و {الذكر} التوراة، وعن ابن عباس: الذكر الْقُرْآنُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الذِّكْرُ الَّذِي فِي السمآء، وقال مجاهد: الزبور الكتب، وَالذِّكْرُ أُمُّ الْكِتَابِ عِنْدَ اللَّهِ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَذَا قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ هُوَ الْكِتَابُ الْأَوَّلُ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: الزبور الكتب التي أنزلت عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَالذِّكْرُ أُمُّ الْكِتَابِ الَّذِي يُكْتَبُ فيه الأشياء قبل ذلك، أخبر الله سبحانه وتعالى فِي التَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ وَسَابِقِ عِلْمِهِ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أَن يُوَرِّثَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَرْضَ، وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ وهم الصالحون (رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) . وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {أَنَّ(2/524)
الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} قَالَ: أَرْضُ الْجَنَّةِ، وقال أبو الدرداء: نحن الصالحون، وقال السدي: هم المؤمنون (وقال أبو الدرداء: الأرض هي الشام، والصالحون: الأمة المحمدية) . وَقَوْلُهُ {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} أي إن في هذا لقرآن الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ عَلَى عَبْدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَبَلاَغاً} لَمَنْفَعَةً وَكِفَايَةً {لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} وهم الذين عبدوا الله فيما شَرَعَهُ وَأَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ وَآثَرُوا طَاعَةَ اللَّهِ عَلَى طاعة الشيطان وشهوات أنفسهم. وقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ أَيْ أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لَهُمْ كُلِّهِمْ، فَمَنْ قَبِلَ هَذِهِ الرَّحْمَةَ وَشَكَرَ هَذِهِ النِّعْمَةَ سَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ رَدَّهَا وجحدها خسر الدينا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وبئس القرار} .
وقال تَعَالَى فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بعيد} . وقال مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: «إِنِّي لَمْ أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة» ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» (أخرجه الحافظ ابن عساكر عن أبي هريرة مرفوعاً، وسئل البخاري عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: كَانَ عِنْدَ حَفْصِ بن غياث مرسلاً، وروي عن ابن عمر مرفوعاً: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً مُهْدَاةً بُعِثْتُ بِرَفْعِ قوم وخفض آخرين» ) ، وفي الحديث الذي رواه الطبراني: "إِنِّي رَحْمَةٌ بَعَثَنِي اللَّهُ وَلَا يَتَوَفَّانِي حَتَّى يُظْهِرَ اللَّهُ دِينَهُ، لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا محمد، وأحمد، وأنا
الماحي الذي يمحو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قدمي، وأنا العاقب". وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد: «إيما رجل سببته فِي غَضَبِي أَوْ لَعَنْتُهُ لَعْنَةً، فَإِنَّمَا أَنَا رجل من ولد آدم، أغضب كما تغضبون وإنما بعثني الله رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَاجْعَلْهَا صَلَاةً عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (أخرجه الإمام أحمد وأبو داود ولفظه عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خطب فقال ... فذكره) ، فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ رَحْمَةٍ حَصَلَتْ لِمَنْ كَفَرَ به؟ فالجواب ما رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} قَالَ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كُتِبَ لَهُ الرَّحْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ عُوِفِيَ مما أصاب الْأُمَمِ مِنَ الْخَسْفِ وَالْقَذْفِ.(2/525)
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
- 108 - قُلْ إِنَّمَآ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُسْلِمُونَ
- 109 - فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ
- 110 - إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ
- 111 - وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ
- 112 - قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ {إِنَّمَآ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} ؟ أَيْ مُتَّبِعُونَ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَسْلِمُونَ مُنْقَادُونَ لَهُ، {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أَيْ تَرَكُوا مَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ {فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ} أَيْ أَعْلَمْتُكُمْ أني حرب لكم كما أنتم حرب لي، بريء منكم كما أنتم بُرَآءُ مِنِّي، كَقَوْلِهِ: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أنت برئيون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بريء مما تعملون} ، وَقَالَ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ(2/525)
خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سواء} ، أي ليكن عملك وعملهم بنذ العهود على السواء وهكذا ههنا {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ} أَيْ أَعْلَمْتُكُمْ بِبَرَاءَتِي مِنْكُمْ وَبَرَاءَتِكُمْ مِنِّي لِعِلْمِي بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} أَيْ هُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنْ لَا عِلْمَ لِي بِقُرْبِهِ وَلَا بِبُعْدِهِ، {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} أَيْ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ جَمِيعَهُ، وَيَعْلَمُ مَا يُظْهِرُهُ الْعِبَادُ وَمَا يُسِرُّونَ، يَعْلَمُ الظَّوَاهِرَ وَالضَّمَائِرَ، وَيَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَيَعْلَمُ مَا الْعِبَادُ عَامِلُونَ فِي أَجْهَارِهِمْ وَأَسْرَارِهِمْ، وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْقَلِيلِ وَالْجَلِيلِ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أَيْ وَمَا أَدْرِي لَعَلَّ هَذَا فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَعَلَّ تَأْخِيرَ ذَلِكَ عَنْكُمْ فتنة لكم ومتاع إلى أجل مسمى (وحكي هذا القول عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) ، {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} أَيِ افْصِلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قومنا المذكبين بالحق، قال قتادة: كانت الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَقُولُونَ: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} ، وَأَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ. وَعَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا شهد غزاة قَالَ: {رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} ، وَقَوْلُهُ: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أَيْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَيَفْتَرُونَ مِنَ الْكَذِبِ، وَيَتَنَوَّعُونَ فِي مَقَامَاتِ التَّكْذِيبِ وَالْإِفْكِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ.(2/526)
- 22 - سورة الحج(2/527)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ
- 2 - يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ بِتَقْوَاهُ، وَمُخْبِرًا لَهُمْ بِمَا يُسْتَقْبَلُونَ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَحْوَالِهِا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي زَلْزَلَةِ السَّاعَةِ، هَلْ هِيَ بَعْدَ قِيَامِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ نَشُورِهِمْ إِلَى عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، أَوْ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ زَلْزَلَةِ الْأَرْضِ قَبْلَ قِيَامِ النَّاسِ مَنْ أَجْدَاثِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة} الآية، فَقَالَ قَائِلُونَ: هَذِهِ الزَّلْزَلَةُ كَائِنَةٌ فِي آخِرِ عمر الدنيا وأول أحوال الساعة، عَنْ عَلْقَمَةَ فِي قَوْلِهِ {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} قال: قبل الساعة (ذكره ابن جرير وابن أبي حاتم عن إبراهيم عن علقمة) . وعن عامر الشعبي قَالَ: هَذَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وقد أورد الإمام ابن جرير في حادث الصور عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَمَّا فَرَغَ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، خَلَقَ الصُّورَ فَأَعْطَاهُ إِسْرَافِيلَ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ شَاخِصٌ بِبَصَرِهِ إِلَى الْعَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ» . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا الصُّورُ؟ قَالَ: «قَرْنٌ» ، قَالَ: فَكَيْفَ هُوَ؟ قَالَ: "قَرْنٌ عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات: الأول نَفْخَةُ الْفَزَعِ، وَالثَّانِيَةُ نَفْخَةُ الصَّعْقِ، وَالثَّالِثَةُ نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، يَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى، فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الْفَزَعِ، فَيَفْزَعُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيَأْمُرُهُ فَيَمُدُّهَا وَيُطَوِّلُهَا وَلَا يَفْتُرُ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فواق} ، فتسير الجبال فتكون تراباً، وَتُرَجُّ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا رَجًّا وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} ، فَتَكُونُ الْأَرْضُ كَالسَّفِينَةِ الْمُوبِقَةِ فِي الْبَحْرِ تَضْرِبُهَا الْأَمْوَاجُ تَكْفَؤُهَا بِأَهْلِهَا، وَكَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ بِالْعَرْشِ تُرَجِّحُهُ الْأَرْوَاحُ، فَيَمْتَدُّ النَّاسُ عَلَى ظَهْرِهَا، فَتَذْهَلُ الْمَرَاضِعُ وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ وَيَشِيبُ الْوِلْدَانُ، وَتَطِيرُ الشَّيَاطِينُ هَارِبَةً حَتَّى تَأْتِيَ الْأَقْطَارَ فَتَلَقَّاهَا الْمَلَائِكَةُ فَتَضْرِبُ وُجُوهَهَا فَتَرْجِعُ وَيُوَلِّي النَّاسُ مُدْبِرِينَ ينادي بعضُهم بعضاًن وهي التي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:(2/527)
{يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ من هاد} . فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذِ انْصَدَعَتِ الْأَرْضُ من قطر إلى قطر ورأوا أَمْرًا عَظِيمًا، فَأَخَذَهُمْ لِذَلِكَ مِنَ الْكَرْبِ مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، ثُمَّ نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا هِيَ كَالْمُهْلِ، ثم خسف شمسها وقمرها وَانْتَثَرَتْ نُجُومُهَا ثُمَّ كُشِطَتْ - عَنْهُمْ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «وَالْأَمْوَاتُ لَا يَعْلَمُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ» ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قمن اسْتَثْنَى اللَّهُ حِينَ يَقُولُ: {فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ} قَالَ: "أُولَئِكَ الشُّهَدَاءُ، وَإِنَّمَا يَصِلُ الْفَزَعُ إِلَى الأحياء، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون ووقاهم اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَآمَنَهُمْ، وَهُوَ عَذَابُ اللَّهِ يَبْعَثُهُ عَلَى شِرَارِ خَلْقِهِ وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى ولكن عَذَابَ الله شديد} " (الحديث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وغيرهم) . وهذا الحديث دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ كَائِنَةٌ قَبْلَ يوم الساعة، أضيفت إِلَى السَّاعَةِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بل ذلك هول وفزع وزلزال كائن قبل يوم القيامة في العرصات بعد القيام مِنَ الْقُبُورِ، وَاخْتَارَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَاحْتَجُّوا بأحاديث:
(الحديث الأول) : عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {يَا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ - إِلَى قَوْلِهِ - وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} قَالَ: نزلت عليه هذه الآية وَهُوَ فِي سَفَرٍ فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ ذلك؟» قالوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "ذَلِكَ يَوْمٌ يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: تِسْعُمِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ"، فَأَنْشَأَ الْمُسْلِمُونَ يَبْكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ إِلَّا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهَا جَاهِلِيَّةٌ، قَالَ فَيُؤْخَذُ الْعَدَدُ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنْ تَمَّتْ وإلا كملت من المنافقين، وما مثلكم ومثل الأمم إِلَّا كَمَثَلِ الرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ أَوْ كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ» ، ثُمَّ قَالَ: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ، فَكَبَّرُوا، ثُمَّ قَالَ: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» ، فَكَبَّرُوا، ثُمَّ قَالَ: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الجنة» ، فكبروا، ثم قَالَ: وَلاَ أَدْرِي أَقَالَ الثُّلُثَيْنِ أَمْ لَا؟ (الحديث أخرجه الترمذي والإمام أحمد عن عمران بن حصين، وقال الترمذي: حديث صحيح) .
(الحديث الثاني) : قال البخاري عند تفسير هذه الآية، عن أبي سعيد الخدري قَالَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادَى بِصَوْتٍ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ، قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ - أَرَاهُ قَالَ - تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذٍ تَضَعُ الْحَامِلُ حَمْلَهَا وَيَشِيبُ الْوَلِيدُ {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} "، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى تَغَيَّرَتْ وُجُوهُهُمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ ومنكم واحد، أَنْتُمْ فِي النَّاسِ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ، أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جَنْبِ الثور الأسود، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: ثُلُثُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرْنَا، ثم قال: شطر أهل الجنة"، فكبرنا (أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أبي سعيد الخدري) .(2/528)
(الحديث الثالث) : عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إنكم تحشرون إلى الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» ، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، قَالَ: «يَا عَائِشَةُ إِنَّ الْأَمْرَ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكَ» (أَخْرَجَاهُ فِي الصحيحين ورواه الإمام أحمد، وفي رواية: إن الأمر أعظم من أن ينظر بعضهم إلى بعض) .
(الحديث الرابع) : عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ يَذْكُرُ الْحَبِيبُ حَبِيبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ أَمَّا عِنْدَ ثَلَاثٍ فَلَا، أَمَّا عِنْدَ الْمِيزَانِ حَتَّى يِثْقُلَ أَوْ يَخِفَّ فَلَا، وأما عند تطاير الكتب إما يعطى بيمينه وإما يُعْطَى بِشَمَالِهِ فَلَا، وَحِينَ يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النار فيطوى عَلَيْهِمْ وَيَتَغَيَّظُ عَلَيْهِمْ وَيَقُولُ ذَلِكَ الْعُنُقُ: وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ، وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ، وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ، وُكِّلْتُ بِمَنِ ادَّعَى مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَوُكِّلْتُ بِمَنْ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، وَوُكِّلْتُ بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ - قَالَ: فَيَنْطَوِي عَلَيْهِمْ وَيَرْمِيهِمْ فِي غَمَرَاتٍ جهنم، ولجهنم جسر أرق مِنَ الشِّعْرِ وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ عَلَيْهِ كَلَالِيبُ وحسك يأخذان من شآء الله، والناس عليه كالبرق وكالطرف وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب، والملائكة يقولون: يا رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، فَنَاجٍ مسلَّم وَمَخْدُوشٌ مسلَّم، ومكور في النار على وجهه" (أخرجه الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) . وَالْأَحَادِيثُ فِي أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْآثَارُ كَثِيرَةٌ جداً لها موضع آخر، ولهذا قال الله تَعَالَى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} أَيْ أمر عظيم وخطب جليل، والزلزال هو ما يحصل للنفوس من الرعب والفزع، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} هَذَا مِنْ بَابِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، وَلِهَذَا قَالَ مُفَسِّرًا لَهُ: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ} أي فتشتغل لِهَوْلِ مَا تَرَى عَنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهَا، وَالَّتِي هِيَ أَشْفَقُ النَّاسِ عَلَيْهِ تَدْهَشُ عَنْهُ فِي حَالِ إِرْضَاعِهَا لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {كُلُّ مُرْضِعَةٍ} وَلَمْ يَقِلْ مُرْضِعٍ، وَقَالَ {عَمَّآ أَرْضَعَتْ} أي عن رضعيها وفطامه، وَقَوْلُهُ: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} أَيْ قَبْلَ تَمَامِهِ لِشِدَّةِ الْهَوْلِ {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} أَيْ مِنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ صَارُوا فِيهِ قَدْ دَهِشَتْ عُقُولُهُمْ، وَغَابَتْ أَذْهَانُهُمْ فَمَنْ رَآهُمْ حَسَبَ أَنَّهُمْ سُكَارَى {وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} .(2/529)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
- 3 - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ
- 4 - كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ
يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ وَأَنْكَرَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أَيْ عِلْمٍ صَحِيحٍ، {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ} قَالَ مُجَاهِدٌ يَعْنِي الشَّيْطَانَ، يَعْنِي كُتِبَ عَلَيْهِ كِتَابَةً قَدَرِيَّةً {أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ} أَيِ اتَّبَعَهُ وَقَلَّدَهُ {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} أَيْ يُضِلُّهُ فِي الدُّنْيَا وَيَقُودُهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ، وَهُوَ الحار المؤلم المزعج، قال السدي: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وروى أَبُو كَعْبٍ الْمَكِّيُّ قَالَ: قَالَ خَبِيثٌ مِنْ خُبَثَاءِ قُرَيْشٍ: أَخْبِرْنَا عَنْ رَبِّكُمْ مِنْ ذَهَبٍ هُوَ، أَوْ مِنْ فِضَّةٍ هُوَ، أَوْ مِنْ نحاس هو، فتقعقعت السَّمَاءُ قَعْقَعَةً - وَالْقَعْقَعَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الرَّعْدُ - فإذا قحف رأسه ساقط بين يديه (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب المكي) ، [ص:530] وقال مجاهد: جَاءَ يَهُودِيٌّ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ: أَخْبِرْنِي عَنْ رَبِّكَ، مَنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ؟ مِنْ دُرٍّ أَمْ مِنْ يَاقُوتٍ؟ قَالَ: فَجَاءَتْ صَاعِقَةٌ فَأَخَذَتْهُ.(2/529)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
- 5 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ
ثُمَّ مِنْ مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج
- 6 - ذلك بأن اللهو الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
- 7 - وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَّن فِي الْقُبُورِ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْمُخَالِفَ لِلْبَعْثِ الْمُنْكِرَ لِلْمَعَادِ، ذَكَرَ تَعَالَى الدَّلِيلَ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى الْمَعَادِ، بِمَا يُشَاهَدُ مِنْ بَدْئِهِ لِلْخَلْقِ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} أَيْ فِي شَكٍّ، {مِّنَ الْبَعْثِ} وَهُوَ الْمَعَادُ، وَقِيَامُ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ} أَيْ أَصْلُ بَرْئِهِ لَكُمْ مِنْ تُرَابٍ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} أَيْ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَاءٍ مَهِينٍ، {ثُمَّ من علقة ثم من مضغة} ، وذلك أَنَّهُ إِذَا اسْتَقَرَّتِ النُّطْفَةُ فِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ مَكَثَتْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَذَلِكَ يُضَافُ إِلَيْهِ مَا يَجْتَمِعُ إِلَيْهَا، ثُمَّ تَنْقَلِبُ عَلَقَةً حَمْرَاءَ بِإِذْنِ اللَّهِ فَتَمْكُثُ كَذَلِكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَسْتَحِيلُ فَتَصِيرُ مُضْغَةً قِطْعَةً مِنْ لَحْمٍ لَا شَكْلَ فِيهَا وَلَا تَخْطِيطَ، ثُمَّ يُشْرَعُ فِي التَّشْكِيلِ وَالتَّخْطِيطِ فَيُصَوَّرُ مِنْهَا رَأْسٌ وَيَدَانِ وَصَدْرٌ وَبَطْنٌ وَفَخْذَانِ وَرِجْلَانِ وَسَائِرُ الْأَعْضَاءِ، فَتَارَةً تُسْقِطُهَا الْمَرْأَةُ قَبْلَ التَّشْكِيلِ وَالتَّخْطِيطِ، وَتَارَةً تُلْقِيهَا وَقَدْ صَارَتْ ذَاتَ شَكْلٍ وَتَخْطِيطٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} أَيْ كَمَا تُشَاهِدُونَهَا، {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أَيْ وَتَارَةً تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ لَا تُلْقِيهَا الْمَرْأَةُ وَلَا تُسْقِطُهَا، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} قَالَ: هُوَ السَّقْطُ مَخْلُوقٌ وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَإِذَا مَضَى عَلَيْهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا وَهِيَ مضغة أرسل الله تعالى ملكاً إليها فَنَفَخَ فِيهَا الرَّوْحَ وسوَّاها كَمَا يَشَاءُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، من حسن وقبح وَذَكَرٍ وَأَنْثَى، وَكَتَبَ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا، وَشِقِّيٌ أَوْ سعيد، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: «إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أربعين ليلة نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلِكَ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وعمله وأجله وَشَقِّيٌ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ» .
وروى ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن مسعود قال: النطفة إذا استقرت في الرحم جاءها ملك بكفه، فقال: يَا رَبِّ مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ قِيلَ: غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ لَمْ تَكُنْ نَسَمَةٌ وَقَذَفَتْهَا الْأَرْحَامُ دَمًا، وَإنْ قِيلَ: مُخَلَّقَةٌ، قَالَ: أَيْ رب ذَكَرٍ أَوْ أنثى، شقي أو سعيد، مَا الْأَجَلُ وَمَا الْأَثَرُ؟ وَبِأَيِّ أَرْضٍ يَمُوتُ؟ قَالَ، فَيُقَالُ لِلنُّطْفَةِ مَنْ رَبُّكِ؟ فَتَقُولُ: اللَّهُ، فَيُقَالُ مَنْ رَازِقُكِ؟ فَتَقُولُ: اللَّهُ، فَيُقَالُ لَهُ: اذهب إلى الْكِتَابِ فَإِنَّكَ سَتَجِدُ فِيهِ قِصَّةَ هَذِهِ النُّطْفَةِ، قَالَ: فَتُخْلَقُ فَتَعِيشُ فِي أَجَلِهَا وَتَأْكُلُ رِزْقَهَا، وَتَطَأُ أَثَرَهَا حَتَّى إِذَا جَآءَ أَجَلُهَا مَاتَتْ فدفنت في ذلك؛ ثُمَّ تَلَا عَامِرٌ(2/530)
الشَّعْبِيُّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مخلقة} (أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حاتم، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بأربعين يوماً أَوْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ، وَيَكْتُبَانِ فَيَقُولُ: أَذَكَرٌ أَمْ أَنْثَى؟ فَيَقُولُ اللَّهُ، وَيَكْتُبَانِ، وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَثَرُهُ وَرِزْقُهُ وَأَجَلُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلَا يزاد على ما فيها ولا ينتقص" (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه مسلم بنحو معناه) . {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أَيْ ضَعِيفًا فِي بَدَنِهِ وسمعه وبصره وحواسه، ثُمَّ يُعْطِيهِ اللَّهُ الْقُوَّةَ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَيَلْطُفُ به ويحنن عليه والديه، ولهذا قال {ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ} أي بتكامل الْقُوَى، وَيَتَزَايَدُ وَيَصِلُ إِلَى عُنْفُوَانِ الشَّبَابِ وَحُسْنِ الْمَنْظَرِ، {وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى} أَيْ فِي حَالِ شَبَابِهِ وَقَوَاهُ، {وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} وَهُوَ الشَّيْخُوخَةُ وَالْهَرَمُ وَضَعْفُ الْقُوَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَتَنَاقُصُ الْأَحْوَالِ مِنَ الْخَرَفِ وَضَعْفِ الْفِكْرِ، وَلِهَذَا قَالَ: {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} .
وقوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، كَمَا يُحْيِي الأرض الميتة الهامدة وهي المقحلة التي لا ينبت فيها شَيْءَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: غَبْرَاءُ مُتَهَشِّمَةٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَيْتَةٌ، {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِ زَوْجٍ بَهِيجٍ} : أَيْ فَإِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْمَطَرَ {اهْتَزَّتْ} أَيْ تَحَرَّكَتْ بالنبات وَحَيِيَتْ بَعْدَ مَوْتِهَا، {وَرَبَتْ} أَيِ ارْتَفَعَتْ لَمَّا سَكَنَ فِيهَا الثَّرَى، ثُمَّ أَنْبَتَتْ مَا فِيهَا من ثمار وزروع، وأشتات النبات فِي اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا وَطَعُومِهَا، وَرَوَائِحِهَا وَأَشْكَالِهَا وَمَنَافِعِهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أَيْ حَسَنِ الْمَنْظَرِ طَيِّبِ الرِّيحِ، وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أَيِ الْخَالِقُ الْمُدَبِّرُ الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ، {وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى} أَيْ كَمَا أَحْيَا الْأَرْضَ الْمَيْتَةَ وَأَنْبَتَ مِنْهَا هَذِهِ الْأَنْوَاعَ {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كل شيء قدير} {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ له كن فيكون} ، {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا} أَيْ كَائِنَةٌ لَا شَكَّ فِيهَا وَلَا مِرْيَةَ، {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَّن فِي الْقُبُورِ} أَيْ يُعِيدُهُمْ بَعْدَ مَا صَارُوا فِي قُبُورِهِمْ رِمَمًا وَيُوجِدُهُمْ بعد العدم، كما قال تعالى: {قل يحيها الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مرة وهوبكل شيء عليم} والآيات في هذا كثيرة. وقد روى الإمام أحمد، عن لَقِيطُ بْنُ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكُلُّنَا يَرَى رَبَّهُ عزَّ وجلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَنْظُرُ إِلَى الْقَمَرِ مُخْلِيًا بِهِ؟» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَاللَّهُ أَعْظَمُ، قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ: «أَمَا مَرَرْتَ بوادي أهلك ممحلاً؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ: «ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ خَضِرًا» قَالَ: بَلَى، قَالَ: «فَكَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الموتى وذلك آيته في خلقه» (أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة) . وقال ابن أبي حاتم عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: مِنْ عِلْمٍ إِنْ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَّن فِي القبور؛ دخل الجنة (أخرجه ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل) .(2/531)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
- 8 - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ
- 9 - ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ
- 10 - ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الضلاَّل الجهَّال الْمُقَلِّدِينَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَن النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} ذَكَرَ فِي هَذِهِ حَالَ الدُّعَاةِ إلى الضلالة من رؤوس الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ، فَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} أَيْ بِلَا عَقْلٍ صَحِيحٍ، وَلَا نقل صَرِيحٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ وَالْهَوَى، وَقَوْلُهُ: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} قال ابن عباس: مُسْتَكْبِرًا عَنِ الْحَقِّ إِذَا دُعِيَ إِلَيْهِ، وَقَالَ مجاهد وقتادة: لاوي عطفة وَهِيَ رَقَبَتُهُ يَعْنِي يُعْرِضُ عَمَّا يُدْعَى إِلَيْهِ من الحق، ويثني رَقَبَتَهُ اسْتِكْبَارًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} الآية، وقال تعالى: {رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} ، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لووا رؤوسهم وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مستكبرون} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا} الآية، وَقَوْلُهُ: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ لَامُ الْعَاقِبَةِ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُقْصَدُ ذلك، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} وَهُوَ الْإِهَانَةُ وَالذُّلُّ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا اسْتَكْبَرَ عَنِ آيَاتِ اللَّهِ لَقَّاهُ اللَّهُ الْمَذَلَّةَ فِي الدُّنْيَا وَعَاقَبَهُ فِيهَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، لِأَنَّهَا أَكْبَرُ هَمِّهِ وَمَبْلَغُ عِلْمِهِ
{وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ. ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} أَيْ يُقَالُ لَهُ هَذَا تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} . عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ أَحَدَهُمْ يُحْرَقُ في اليوم سبعين ألف مرة (أخرجه ابن أبي حاتم) .(2/532)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
- 11 - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ
- 12 - يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ
- 13 - يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ
قال مجاهد: {على حَرْفٍ} على شك، وقال غيره: على طرف، ومنه حرف الجبل أي ظرفه، أَيْ دَخَلَ فِي الدِّينِ عَلَى طَرَفٍ، فَإِنْ وجد ما يحبه استقر وإلا انشمر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ الْمَدِينَةَ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا وَنُتِجَتْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ وَلَمْ تُنْتَجْ خَيْلُهُ قَالَ: هَذَا دِينٌ سوء (أخرجه البخاري في صحيحه) . وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسَلِّمُونَ، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، فَإِنْ وَجَدُوا عَامَ غَيْثٍ وَعَامَ خِصْبٍ، وَعَامَ وَلَادٍ حَسَنٍ قَالُوا: إِنَّ دِينَنَا هَذَا لَصَالِحٌ فَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَإِنْ وَجَدُوا عَامَ جُدُوبَةٍ وَعَامَ وِلَادٍ سُوءٍ وَعَامَ قَحْطٍ قَالُوا: مَا فِي دِينِنَا هَذَا خير، فأنزل(2/532)
اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} الآية. وَهَكَذَا ذَكَرَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ: هُوَ الْمُنَافِقُ إِنْ صَلُحَتْ لَهُ دُنْيَاهُ أَقَامَ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَإِنْ فَسَدَتْ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَتَغَيَّرَتْ انْقَلَبَ فَلَا يُقِيمُ عَلَى الْعِبَادَةِ إِلَّا لِمَا صَلُحَ مِنْ دُنْيَاهُ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ أَوْ شِدَّةٌ أَوِ اخْتِبَارٌ أَوْ ضِيقٌ تَرَكَ دِينَهُ ورجع إلى الكفر (في اللباب: وكذلك أخرج ابن مردويه: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده، فتشاءم بالإسلام، فقال: لم أصب من ديني هذا خيراً، فنزلت: {ومن الناس} الآية) ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} أَيِ ارْتَدَّ كَافِرًا، وَقَوْلُهُ: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} أَيْ فَلَا هُوَ حَصَلَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى شَيْءٍ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ فَهُوَ فِيهَا فِي غَايَةِ الشَّقَاءِ وَالْإِهَانَةِ، وَلِهَذَا قال تعالى: {ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين} أي هذه الْخَسَارَةُ الْعَظِيمَةُ وَالصَّفْقَةُ الْخَاسِرَةُ، وَقَوْلُهُ: {يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ} أَيْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ يَسْتَغِيثُ بِهَا وَيَسْتَنْصِرُهَا وَيَسْتَرْزِقُهَا وَهِيَ لَا تَنْفَعُهُ وَلَا تَضُرُّهُ {ذلك هُوَ الضلال البعيد} ، وقوله: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} أَيْ ضَرَرُهُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ فِيهَا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَضَرَرُهُ مُحَقَّقٌ مُتَيَقَّنٌ، وَقَوْلُهُ: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْوَثَنَ، يَعْنِي بِئْسَ هَذَا الَّذِي دعاه مِنْ دُونِ اللَّهِ مَوْلًى، يَعْنِي وَلِيًّا وَنَاصِرًا، {وبئس الْعَشِيرُ} وَهُوَ الْمُخَالِطُ وَالْمُعَاشِرُ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ: لَبِئْسَ ابْنُ الْعَمِّ وَالصَّاحِبُ، {مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وجهه} وقوله مُجَاهِدٍ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَثَنُ أَوْلَى وَأَقْرَبُ إِلَى سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(2/533)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
- 14 - إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
لَمَّا ذَكَرَ أَهْلَ الضَّلَالَةِ الْأَشْقِيَاءَ، عَطَفَ بِذِكْرِ الْأَبْرَارِ السُّعَدَاءِ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِقُلُوبِهِمْ وَصَدَّقُوا إِيمَانَهُمْ بِأَفْعَالِهِمْ، فَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ وَتَرَكُوا الْمُنْكَرَاتِ، فَأَوْرَثَهُمْ ذَلِكَ سُكْنَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ، ولما ذكر تعالى أَنَّهُ أَضَلَّ أُولَئِكَ وَهَدَى هَؤُلَاءِ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} .(2/533)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
- 15 - مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ
- 16 - وَكَذَلِكَ أَنْزَلَنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ أَيْ بِحَبْلٍ {إِلَى السَّمَاءِ} أَيْ سَمَاءِ بَيْتِهِ، {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} يَقُولُ: ثُمَّ لِيَخْتَنِقْ به، وقال عبد الرحمن بن زيد: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} ، أَيْ لِيَتَوَصَّلْ إِلَى بُلُوغِ السَّمَاءِ فَإِنَّ النَّصْرَ إِنَّمَا يَأْتِي مُحَمَّدًا مِنَ السَّمَاءِ، {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} ذَلِكَ عَنْهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ أَوْلَى وَأَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى وَأَبْلَغُ فِي التَّهَكُّمِ، فإن المعنى: من كان يظن أن الله ليس بناصر محمد وَكِتَابَهُ وَدِينَهُ فَلْيَذْهَبْ فَلْيَقْتُلْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ غَائِظَهُ فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُ لَا مَحَالَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:(2/533)
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدينا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد} الآية، وَلِهَذَا قَالَ: {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي مِنْ شَأْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: فَلْيَنْظُرْ هَلْ يَشْفِي ذَلِكَ مَا يَجِدُ فِي صَدْرِهِ مِنَ الْغَيْظِ، وَقَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ} أَيِ الْقُرْآنَ {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} أَيْ وَاضِحَاتٍ فِي لَفْظِهَا وَمَعْنَاهَا حُجَّةً مِنَ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ، {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ} أَيْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ وَالْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ فِي ذَلِكَ، {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يفعل وهم يسألون} .(2/534)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
- 17 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ أَهْلِ هَذِهِ الْأَدْيَانِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْيَهُودِ والصابئين (تقدم في سورة البقرة التعريف بهم واختلاف الأقوال فيهم فارجع إليه هناك) ، والنصارى والمجوس، والذين أشركوا فعبدوا مع الله غيره فَإِنَّهُ تَعَالَى {يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ، فَيُدْخِلُ مَنْ آمَنَ بِهِ الْجَنَّةَ وَمَنْ كَفَرَ بِهِ النَّارَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى شَهِيدٌ عَلَى أَفْعَالِهِمْ، حَفِيظٌ لِأَقْوَالِهِمْ، عَلِيمٌ بِسَرَائِرِهِمْ وَمَا تكن ضمائرهم.(2/534)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
- 18 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِنَّهُ يَسْجُدُ لِعَظَمَتِهِ كُلُّ شَيْءٍ طَوْعًا وَكَرْهًا، وَسُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ مما يختص به كما قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وهم داخرون} وقال ههنا {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} ، أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ، وَالْحَيَوَانَاتِ فِي جَمِيعِ الْجِهَاتِ، مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ، {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} ، وَقَوْلُهُ: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ} إِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ عَلَى التَّنْصِيصِ لِأَنَّهَا قَدْ عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَبَيَّنَ أَنَّهَا تَسْجُدُ لِخَالِقِهَا وَأَنَّهَا مَرْبُوبَةٌ مُسَخَّرَةٌ، {لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ} الآية. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ؟» قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ فَتَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ، ثُمَّ تُسْتَأْمَرُ فَيُوشِكُ أَنْ يُقَالَ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ» . وفي حَدِيثِ الْكُسُوفِ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ خَلْقَانِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ إِذَا تجلى لشيء من خلقه خشع له» (أخرجه الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَا فِي السَّمَاءِ نَجْمٌ وَلَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ إِلَّا يَقَعُ لِلَّهِ ساجداً حين يغيب ثم يَنْصَرِفُ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ(2/534)
فَيَأْخُذَ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَطْلَعِهِ، وَأَمَّا الْجِبَالُ وَالشَّجَرُ فَسُجُودُهُمَا بِفَيْءِ ظِلَالِهِمَا عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ وَأَنَا نَائِمٌ كَأَنِّي أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ فسجدتُ، فَسَجَدَتِ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا، وَضَعْ عَنِيَ بِهَا وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ، قال ابن عباس: فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجْدَةً، ثُمَّ سَجَدَ فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ مِثْلَ مَا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قَوْلِ الشَّجَرَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وابن حبان) . وَقَوْلُهُ: {وَالدَّوَابُّ} أَيِ الْحَيَوَانَاتُ، كُلُّهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ اتِّخَاذِ ظُهُورِ الدَّوَابِّ مَنَابِرَ، فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ وأكثر ذكراً لله تعالى مِنْ رَاكِبِهَا. وَقَوْلُهُ: {وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ} أَيْ يَسْجُدُ لِلَّهِ طَوْعًا مُخْتَارًا مُتَعَبِّدًا بِذَلِكَ، {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} أَيْ مِمَّنِ امْتَنَعَ وَأَبَى وَاسْتَكْبَرَ، {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} . وَقَالَ ابن أبي حاتم: قيل لعلي إن ههنا رَجُلًا يَتَكَلَّمُ فِي الْمَشِيئَةِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، خَلَقَكَ اللَّهُ كَمَا يَشَاءُ أَوْ كَمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلْ كَمَا شَاءَ، قَالَ: فَيُمَرِّضُكَ إِذَا شَاءَ أَوْ إِذَا شِئْتَ؟ قال: بل إذا شاء، قال: فشفيك إِذَا شَاءَ أَوْ إِذَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلْ إِذَا شَاءَ، قَالَ: فَيُدْخِلُكَ حَيْثُ شِئْتَ أَوْ حَيْثُ يَشَاءُ، قَالَ: بَلْ حَيْثُ يَشَاءُ. قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ قُلْتَ غَيْرَ ذَلِكَ لَضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاكَ بِالسَّيْفِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد لها اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بالسجود فأبيت فلي النار" (أخرجه مسلم في صحيحه) .(2/535)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
- 19 - هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رؤوسهم الْحَمِيمُ
- 20 - يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ
- 21 - وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ
- 22 - كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق
ثبت في الصحيحين عَنِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ قَسَمًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَعُتْبَةَ وَصَاحِبَيْهِ يوم برزوا في بدر (هذا لفظ البخاري في كتاب التفسير) ، وروى البخاري عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ قَيْسٌ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} قَالَ: هُمُ الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ: عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بن عتبة. وقال قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} قَالَ: اخْتَصَمَ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ فَنَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ، وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُبِ كُلِّهَا وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، فَنَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ فَأَفْلَجَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُ، وَأَنْزَلَ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ} . وقال مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَّثَلُ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ اختصما في البعث، وقال مجاهد وَعَطَاءٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ(2/535)
وَالْكَافِرُونَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} قَالَ: هِيَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، قَالَتِ النَّارَ: اجْعَلْنِي لِلْعُقُوبَةِ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: اجْعَلْنِي لِلرَّحْمَةِ، وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْكَافِرُونَ وَالْمُؤْمِنُونَ يَشْمَلُ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا، وَيَنْتَظِمُ فِيهِ قِصَّةُ يَوْمِ بَدْرٍ وَغَيْرُهَا، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُونَ نُصْرَةَ دِينِ الله عزَّ وجلَّ، وَالْكَافِرُونَ يُرِيدُونَ إِطْفَاءَ نُورِ الْإِيمَانِ وَخُذْلَانَ الْحَقِّ وَظُهُورَ الْبَاطِلِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ وَهُوَ حَسَنٌ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نار} أي فصللت لهم مقطعات من النار، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مِنْ نُحَاسٍ وَهُوَ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ حَرَارَةً إِذَا حَمِيَ {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رؤوسهم الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} أي إذا صب على رؤوسهم الْحَمِيمُ وَهُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ النُّحَاسُ الْمُذَابُ أَذَابَ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنَ الشَّحْمِ وَالْأَمْعَاءِ (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وغيرهم) ، وكذلك تذوب جلودهم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنْ الْحَمِيمَ لَيُصَبُّ عَلَى رؤوسهم فينفذ الْجُمْجُمَةَ حَتَّى يَخْلُصَ إِلَى جَوْفِهِ، فَيَسْلِتُ مَا فِي جَوْفِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَدَمَيْهِ، وَهُوَ الصِّهْرُ ثم يعاد كما كان» (رواه ابن جرير والترمذي وقال: حسن صحيح وأخرجه ابن أبي حاتم بنحوه) . وفي رواية: يَأْتِيهِ الْمَلَكُ يَحْمِلُ الْإِنَاءَ بِكَلْبَتَيْنِ مِنْ حَرَارَتِهِ، فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْ وَجْهِهِ تَكَرَّهَهُ، قَالَ: فَيَرْفَعُ مِقْمَعَةً مَعَهُ فَيَضْرِبُ بِهَا رَأْسَهُ، فَيُفْرِغُ دِمَاغَهُ، ثُمَّ يُفْرِغُ الْإِنَاءَ مِنْ دِمَاغِهِ فَيَصِلُ إِلَى جَوْفِهِ مِنْ دِمَاغِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} . وَقَوْلُهُ: {وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ مِقْمَعًا مِنْ حَدِيدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ فَاجْتَمَعَ لَهُ الثَّقَلَانِ مَا أَقَلُّوهُ من الأرض» (أخرجه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري) . وروى الإمام أحمد: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ ضُرِبَ الْجَبَلُ بِمِقْمَعٍ مِنْ حَدِيدٍ لَتَفَتَّتَ ثُمَّ عَادَ كَمَا كَانَ، وَلَوْ أَنَّ دَلْوًا مِنْ غسَّاق يُهْرَاقُ فِي الدُّنْيَا لأنتن أهل الدنيا» (أخرجه الإمام أحمد في المسند) ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} قَالَ: يُضْرَبُونَ بِهَا فَيَقَعُ كُلُّ عُضْوٍ عَلَى حِيَالِهِ فَيَدْعُونَ بِالثُّبُورِ، وَقَوْلُهُ: {كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا} ، قال سلمان: النَّارُ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ لَا يُضِيءُ لَهَبُهَا وَلَا جَمْرُهَا، ثُمَّ قَرَأَ: {كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا} ، وَقَالَ زَيْدُ بن أسلم في هذه الآية: بَلَغَنِي أَنَّ أَهْلَ النَّارِ فِي النَّارِ لَا يَتَنَفَّسُونَ، وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: وَاللَّهِ مَا طَمِعُوا فِي الْخُرُوجِ، إِنَّ الْأَرْجُلَ لَمُقَيَّدَةٌ وَإِنَّ الْأَيْدِيَ لَمُوثَقَةٌ، وَلَكِنْ يَرْفَعُهُمْ لَهَبُهَا وَتَرُدُّهُمْ مَقَامِعُهَا، وَقَوْلُهُ: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} ، كَقَوْلِهِ: {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُمْ يُهَانُونَ بِالْعَذَابِ قَوْلًا وَفِعْلًا.(2/536)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
- 23 - إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ
- 24 - وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ
لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حال أهل النار، وما هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، وَالْحَرِيقِ وَالْأَغْلَالِ، وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الثِّيَابِ مِنَ النَّارِ، ذكر حال أهل الْجَنَّةَ فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ(2/536)
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أَيْ تَتَخَرَّقُ فِي أَكْنَافِهَا وَأَرْجَائِهَا وَجَوَانِبِهَا، وَتَحْتَ أَشْجَارِهَا وَقُصُورِهَا يَصْرِفُونَهَا حيث شاءوا وأين أرادوا، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} مِنْ الحلية، {مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} أَيْ فِي أَيْدِيهِمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ» . وَقَوْلُهُ: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} فِي مُقَابَلَةِ ثِيَابِ أَهْلِ النَّارِ الَّتِي فُصِّلَتْ لَهُمْ، لِبَاسُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْحَرِيرِ إِسْتَبْرَقِهِ وَسُنْدُسِهِ، كَمَا قَالَ: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} ، وَفِي الصَّحِيحِ: «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ» ، وَقَالَ عبد الله بن الزبير: من لَمْ يَلْبَسِ الْحَرِيرَ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} ، وَقَوْلُهُ: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عليكم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار} ، وَقَوْلِهِ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما} فَهُدُوْا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَسْمَعُونَ فِيهِ الْكَلَامَ الطيب، {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وسلاما} لَا كَمَا يُهَانُ أَهْلُ النَّارِ بِالْكَلَامِ الَّذِي يوبخون فيه ويقرعون به، يقال لَهُمْ: {ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} ، وَقَوْلُهُ: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أَيْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَحْمَدُونَ فِيهِ رَبَّهُمْ عَلَى مَا أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَأَنْعَمَ بِهِ وَأَسْدَاهُ إليهم، كما جاء في الحديث الصَّحِيحِ: «إِنَّهُمْ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ» ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} أَيِ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقِيلَ: الْأَذْكَارُ الْمَشْرُوعَةُ، {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أَيِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ فِي الدُّنْيَا، وَكُلُّ هَذَا لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(2/537)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
- 25 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٌ
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْكُفَّارِ فِي صَدِّهِمُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ إِتْيَانِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وقضاء مناسكهم فيه، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ والمسجد الحرام} أي ومن صفتهم أنهم مع كفرهم يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَيْ وَيَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَنْ أَرَادَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ فِي نفس الأمر، وَقَوْلُهُ: {الذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} أي يمنعون عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَدْ جَعَلَهُ الله للناس لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْمُقِيمِ فِيهِ وَالنَّائِي عَنْهُ الْبَعِيدِ الدَّارِ مِنْهُ، {سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} ، وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِوَاءُ النَّاسِ فِي رِبَاعِ مكة وسكناها، كما قال ابن عباس: يَنْزِلُ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ وقال مجاهد: {سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ فيه سواء في المنازل، وقال قَتَادَةَ: سَوَاءٌ فِيهِ أَهْلُهُ وَغَيْرُ أَهْلِهِ؛ وَهَذِهِ المسألة هي التي اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن رَاهْوَيْهِ بِمَسْجِدِ الْخِيفِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَاضِرٌ أيضاً. فذهب رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى أَنَّ رِبَاعَ مَكَّةَ تُمَلَّكُ وتورث وتؤجر، واحتج بحديث الزهري عَنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنْزِلُ غَدًا فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ» ثُمَّ قَالَ: «لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَلَا المسلم الكافر» (هذا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ) ، وَبِمَا ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اشْتَرَى مِنْ (صَفْوَانَ بْنِ أُمية) دَارًا بِمَكَّةَ فَجَعَلَهَا سِجْنًا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ درهم، وذهب(2/537)
إسحاق بن راهوية إلى أنها لا تُوَرَّثُ وَلَا تُؤَجَّرُ، وَهُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنَ السلف، واحتج إسحاق بن راهوية بما روي عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا تُدْعَى رِبَاعُ مَكَّةَ إِلَّا السَّوَائِبَ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن (رواه ابن ماجه عن علقمة بن نضلة) . وقال عبد الله بن عمرو: لَا يَحِلُّ بَيْعُ دَوْرِ مَكَّةَ وَلَا كِرَاؤُهَا، وكان عطاء يهنى عن الكراء في الحرم. وقال عمر بن الخطاب: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَتَّخِذُوا لِدَوْرِكُمْ أَبْوَابًا لينزل البادي حيث يشاء، وروى الدارقطني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا: "مِنْ أَكَلَ كِرَاءَ بُيُوتِ مَكَّةَ أَكَلَ نَارًا:، وَتَوَسَّطَ الإمام أحمد فقال: تملك ولا تورث وَلَا تُؤَجَّرُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقوله تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} قال بعض المفسرين: الباء ههنا زائدة، كقوله: {تَنبُتُ بالدهن} أَيْ تُنْبِتُ الدُّهْنَ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} تقديره إلحاداً. والأجود أنه ضمن الفعل ههنا بمعنى يَهُمُّ، وَلِهَذَا عَدَّاهُ بِالْبَاءِ فَقَالَ: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} أَيْ يَهُمُّ فِيهِ بِأَمْرٍ فَظِيعٍ مِنَ الْمَعَاصِي الْكِبَارِ، وَقَوْلُهُ: {بِظُلْمٍ} أَيْ عَامِدًا قَاصِدًا أَنَّهُ ظلم ليس بمتأول، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: بِظُلْمٍ بِشِرْكٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ يُعْبَدَ فِيهِ غَيْرُ اللَّهِ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِظُلْمٍ هُوَ أَنْ تَسْتَحِلَّ مِنَ الْحَرَمِ مَا حرم الله عليك من إساءة أَوْ قَتْلٍ فَتَظْلِمَ مَنْ لَا يَظْلِمُكَ وَتَقْتُلَ مَنْ لَا يَقْتُلُكَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ لَهُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِظُلْمٍ يعلم فِيهِ عَمَلًا سَيِّئًا، وَهَذَا مِنْ خُصُوصِيَّةِ الْحَرَمِ أَنَّهُ يُعَاقَبُ الْبَادِي فِيهِ الشَّرَّ إِذَا كَانَ عَازِمًا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُوقِعْهُ كَمَا قَالَ ابن مسعود: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ وهو بعدن أبين لأذاقه الله من العذاب الأليم (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود موقوفاً) . وقال الثوري عن عبد الله بن مسعود قَالَ: مَا مِنْ رَجُلٍ يَهُمُّ بِسَيِّئَةٍ فَتُكْتَبُ عَلَيْهِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بِعَدَنِ أَبَيْنَ هَمَّ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا بِهَذَا الْبَيْتِ لَأَذَاقَهُ اللَّهُ من العذاب الأليم؛ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: شَتْمُ الْخَادِمِ ظُلْمٌ فما فوقه؛ وقال ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ مَعَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا مُهَاجِرٌ وَالْآخَرُ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَافْتَخَرُوا فِي الْأَنْسَابِ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ فَقَتَلَ الْأَنْصَارِيَّ، ثم ارتد عن الإسلام، ثم هرب إِلَى مَكَّةَ، فَنَزَلَتْ فِيهِ: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} يَعْنِي مَنْ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ بِإِلْحَادٍ يَعْنِي بِمَيْلٍ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَهَذِهِ الْآثَارُ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْإِلْحَادِ، وَلَكِنْ هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ فِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهَا؛ وَلِهَذَا لَمَّا هَمَّ أَصْحَابُ الْفِيلِ عَلَى تَخْرِيبِ الْبَيْتِ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ {طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} أَيْ دَمَّرَهُمْ وَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً وَنَكَالًا لِكُلِّ مَنْ أَرَادَهُ بِسُوءٍ، وَلِذَلِكَ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «يَغْزُو هَذَا الْبَيْتَ جَيْشٌ حَتَّى إِذَا كَانُوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم» وعن سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: أَتَى عبدُ اللَّهِ بن عمر عبدَ الله بن الزُّبَيْرِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْحِجْرِ فَقَالَ: يَا ابن الزُّبَيْرِ إِيَّاكَ وَالْإِلْحَادَ فِي الْحَرَمِ، فَإِنِّي أَشْهَدُ لَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَحِلُّهَا وَيَحِلُّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لو وُزِنَتْ ذُنُوبُهُ بِذُنُوبِ الثَّقَلَيْنِ لَوَزَنَتْهَا» قَالَ: فَانْظُرْ لا تكن هو (أخرجه الإمام أحمد) .(2/538)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
- 26 - وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
- 27 - وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فج عميق
ذكر تَعَالَى أَنَّهُ بَوَّأَ إِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَيْ أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ، وَسَلَّمَهُ لَهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي بِنَائِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ كَثِيرٌ مِمَّنْ قَالَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ أَوَّلُ مَنْ بَنَى البيت العتيق وأنه لم يبن قبله، كمت ثبت في الصحيحين عَنِ أَبِي ذَرٍّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «بَيْتُ الْمَقْدِسِ» قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً» ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ للَّذي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} الآيتين، وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ للطائفي والعاكفين والركع السجود} وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ مَا وَرَدَ فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ مِنَ الصِّحَاحِ وَالْآثَارِ بِمَا أَغْنَى عَنِ إعادته ههنا، وقال تعالى ههنا: {أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} أَيِ ابْنِهِ عَلَى اسْمِي وَحْدِي {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} قال مجاهد: مِّن الشِّرْكِ {لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أَيِ اجْعَلْهُ خَالِصًا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَالطَّائِفُ بِهِ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَخَصُّ الْعِبَادَاتِ عِنْدَ الْبَيْتِ، فَإِنَّهُ لَا يُفْعَلُ بِبُقْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ سِوَاهَا {وَالْقَائِمِينَ} أَيْ فِي الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فَقَرَنَ الطَّوَافَ بِالصَّلَاةِ لِأَنَّهُمَا لَا يُشْرَعَانِ إِلَّا مُخْتَصَّيْنِ بِالْبَيْتِ.
وقوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أَيْ نَادِ فِي الناس بالحج داعياً لهم لحج هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَمَرْنَاكَ بِبِنَائِهِ فَذُكِرَ أَنَّهُ قال: يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال: نَادِ وَعَلَيْنَا الْبَلَاغُ، فَقَامَ عَلَى مَقَامِهِ، وَقِيلَ عَلَى الْحَجَرِ، وَقِيلَ عَلَى الصَّفَا، وَقِيلَ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ رَبَّكُمْ قَدِ اتَّخَذَ بَيْتًا فَحُجُّوهُ، فَيُقَالُ: إِنَّ الْجِبَالَ تَوَاضَعَتْ حَتَّى بَلَغَ الصَّوْتُ أَرْجَاءَ الْأَرْضِ، وَأَسْمَعَ مَنْ فِي الْأَرْحَامِ وَالْأَصْلَابِ، وَأَجَابَهُ كُلُّ شَيْءٍ سَمِعَهُ مِنْ حَجَرٍ وَمَدَرٍ وَشَجَرٍ، وَمَنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَحُجُّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لبيك اللهم لبيك؛ هذا مضمون ما ورد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وأوردها ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مُطَوَّلَةً، وَقَوْلُهُ: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضامر} (الضامر: البعير الذي قد هزل من كثرة المشي) الآية. قَدْ يَسْتِدَلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ مَاشِيًا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْحَجِّ رَاكِبًا لِأَنَّهُ قَدَّمَهُمْ فِي الذِّكْرِ، فَدَلَّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهِمْ وَقُوَّةِ هممهم وشدة عزمهم، وقال ابن عباس: ما أساء على شَيْءٍ أَلاَ أني وددت أني كنت حججت ماشياً، لأنه الله يقول: {يَأْتُوكَ رِجَالاً} ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْحَجَّ رَاكِبًا أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ حَجَّ رَاكِبًا مَعَ كَمَالِ قُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَوْلُهُ: {يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ} يَعْنِي طَرِيقٍ، كَمَا قَالَ: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً} ، وقوله: {عَميِقٍ} أي بعيد، وهذه الآية كقوله تعالى: {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ} ، فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إِلَّا وَهُوَ يحن إلى رؤية الكعبة والطواف، والناس يَقْصِدُونَهَا مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ وَالْأَقْطَارِ.(2/539)
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
- 28 - لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ
- 29 - ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ(2/539)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ} ، قَالَ: مَنَافِعُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا مَنَافِعُ الْآخِرَةِ فَرِضْوَانُ الله تعالى، وَأَمَّا مَنَافِعُ الدُّنْيَا فَمَا يُصِيبُونَ مِنْ مَنَافِعِ البدن والذبائح وَالتِّجَارَاتِ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّهَا مَنَافِعُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَقَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أن تتبغوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} ، وَقَوْلُهُ: {وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} ، قَالَ ابن عباس: الأيام المعلومات أيام العشر، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورُ عَنِ أَحْمَدَ بْنِ حنبل، وقال البخاري عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا الْعَمَلُ فِي أَيْامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ» قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ يَخْرُجُ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بشيء» ، وروى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيْامٍ أعظم عند الله ولا أحب إليه العلم فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيْامِ الْعَشْرِ فَيُكَبِّرَانِ ويكبر الناس بتكبيرهما، وقد روى عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا إِنَّ هَذَا هُوَ الْعَشْرُ الَّذِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ} ؛ وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَأَتْمَمْنَاهَا بعشر} .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ هَذَا الْعَشْرَ، وَهَذَا الْعَشْرُ مُشْتَمِلٌ عَلَى يَوْمِ عَرَفَةَ، وقد سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ: أَحْتَسِبْ عَلَى الله أن يكفر السنة الماضية والآتية (أخرجه الإمام مسلم في صحيحه) ، وَيَشْتَمِلُ عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ الَّذِي هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَيْامِ عِنْدَ اللَّهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الْعَشْرُ قَدْ قِيلَ إِنَّهُ أَفْضَلُ أَيْامِ السَّنَةِ كَمَا نطق به الحديث، وفضّله كَثِيرٌ عَلَى عَشْرِ رَمَضَانَ الْأَخِيرِ، لِأَنَّ هَذَا يُشْرَعُ فِيهِ مَا يُشْرَعُ فِي ذَلِكَ مِنْ صلاة وصيام وصدقة وغيرها، وَيَمْتَازُ هَذَا بِاخْتِصَاصِهِ بِأَدَاءِ فَرْضَ الْحَجِّ فِيهِ، وقيل ذلك أَفْضَلُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ؛ وَتَوَسَّطَ آخَرُونَ فَقَالُوا: أَيْامُ هَذَا أَفْضَلُ وَلَيَالِي ذَاكَ أَفْضَلُ؛ وَبِهَذَا يَجْتَمِعُ شَمْلُ الْأَدِلَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (قَوْلٌ ثَانٍ) في الأيام المعلومات: قال ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَيْامُ الْمَعْلُومَاتُ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أيام بعده؛ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ عنه. (قول ثالث) : عن نافع عن ابن عمر كان يقول: الأيام المعلومات المعدوات هُنَّ جَمِيعُهُنَّ أَرْبَعَةُ أَيْامٍ، فَالْأَيْامُ الْمَعْلُومَاتُ يَوْمُ النحر ويومان بعده، والأيام المعدوات ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهو مذهب الإمام مالك بن أنَس. (قَوْلٌ رَابِعٌ) : إِنَّهَا يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمٌ آخَرُ بَعْدَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلُهُ: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} يَعْنِي الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ كَمَا فَصَّلَهَا تَعَالَى في سورة الْأَنْعَامِ. وَقَوْلُهُ: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الْأَكْلِ مِنَ الْأَضَاحِيِّ، وَهُوَ قَوْلٌ غَرِيبٌ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ أَوِ الِاسْتِحْبَابِ، كَمَا ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَحَرَ هَدْيَهُ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَتُطْبَخُ فَأَكَلَ مِنْ لحمها وحسا من مرقها، وقال مَالِكٌ أُحِبُّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ، لِأَنَّ الله يقول: {فَكُلُواْ مِنْهَا} ، وقال سفيان الثوري عن إبراهيم {فَكُلُواْ مِنْهَا} قال: الْمُشْرِكُونَ لَا يَأْكُلُونَ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، فَرُخِّصَ لِلْمُسْلِمِينَ، فمن شاء أكل ومن لم يشأ لم يأكل. وعن مجاهد في قوله:
{فَكُلُواْ مِنْهَا} قال: هي كقوله: {فإذا حللتم فاصطادوا} {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض} ، وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره.(2/540)
وقوله تعالى: {الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} قَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الْمُضْطَرُّ الَّذِي يظهر عليه البؤس وهو الفقير الْمُتَعَفِّفُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي لَا يَبْسُطُ يَدَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الزَّمِن. وَقَالَ مُقَاتِلُ: هُوَ الضَّرِيرُ، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} ، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ وَضْعُ الْإِحْرَامِ مِنْ حَلْقِ الرأس، ولبس الثيابن وقص الأظافر ونحو ذلك، وقوله: {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} يَعْنِي نَحْرَ مَا نَذَرَ مِنْ أَمْرِ الْبُدْنِ، وقال مُجَاهِدٍ {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} نَذْرَ الْحَجِّ وَالْهَدْيِ وَمَا نَذَرَ الْإِنْسَانُ مِنْ شَيْءٍ يَكُونُ فِي الْحَجِّ، وعنه: كل نذر إلى أجل، وَقَوْلُهُ: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الطواف الواجب يوم النحر، وقال أبو حَمْزَةَ قَالَ، قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَقْرَأُ سورة الحج، يقول الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ؟ فَإِنَّ آخِرَ الْمَنَاسِكِ الطَّوَافُ بالبيت العتيق (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس) ، قُلْتُ: وَهَكَذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إِلَى مِنى يوم النحر بدأ برمي الْجَمْرَةَ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ نَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ، ثُمَّ أَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَفِي الصحيحين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ الطَّوَافُ إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ، وَقَوْلُهُ: {بِالْبَيْتِ العتيق} ، قال الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} قال: لأنه أول بيت وضع للناس، وَقَالَ خَصِيفٌ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ لِأَنَّهُ لم يظهر عليه جبار قط. وعن مجاهد: لم يرده أحد بسوء إلا هلك، وفي الحديث: «إِنَّمَا سُمِّيَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عليه جبار» (أخرجه الترمذي عن عبد الله بن الزبير مرفوعاً وكذا رواه ابن جرير وقال الترمذي: حديث حسن غريب) . روي مرفوعاً ومرسلاً.(2/541)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
- 30 - ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ
- 31 - حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ
يَقُولُ تَعَالَى هَذَا الَّذِي أَمَرْنَا بِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ فِي أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ وما يلقى عليها مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ، {وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} أي ومن يجتنب معاصيه ومحارمه، {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} أَيْ فَلَهُ عَلَى ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَثَوَابٌ جَزِيلٌ، فَكَمَا فعل الطاعات ثواب كثير وأجر جزيل، كذلك على ترك المحرمات واجتناب المحظورات. قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله} قال: الحرمات مَكَّةُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ من معاصيه كلها، وَقَوْلُهُ: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي أحللنا لكم جميع الأنعام، وَقَوْلُهُ: {إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أَيْ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لغير الله به والمنخقة الآية، قَالَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ وَحَكَاهُ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَوْلُهُ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} ، أَيِ اجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ، وَقَرَنَ الشِّرْكَ بِاللَّهِ بِقَوْلِ الزُّورِ، كَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وَمِنْهُ شَهَادَةُ الزُّورِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟» قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ - وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ - فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ"؛ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى(2/541)
قلنا: ليته سكت. وعن خُرَيْمِ بْنِ فَاتَكٍ الْأَسَدِيِّ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَامَ قَائِمًا، فَقَالَ: «عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ عزَّ وجلَّ» ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ به} (أخرجه الإمام أحمد في المسند) ، وَقَوْلُهُ: {حُنَفَآءَ للَّهِ} : أَيْ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مُنْحَرِفِينَ عَنِ الْبَاطِلِ قَصْدًا إِلَى الْحَقِّ، وَلِهَذَا قَالَ: {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} ، ثُمَّ ضَرَبَ لِلْمُشْرِكِ مَثَلًا فِي ضَلَالِهِ وَهَلَاكِهِ وَبُعْدِهِ عَنِ الْهُدَى، فَقَالَ: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} أَيْ سَقَطَ مِنْهَا، {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} أَيْ تَقْطَعُهُ الطُّيُورُ فِي الْهَوَاءِ، {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أَيْ بَعِيدٍ، مُهْلِكٍ لِمَنْ هَوَى فِيهِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا تَوَفَّتْهُ مَلَائِكَةُ الْمَوْتِ وَصَعِدُوا بِرُوحِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَا تُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، بَلْ تُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا مِنْ هناك، ثم قرأ هذه الآية: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} .(2/542)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
- 32 - ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ
- 33 - لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
يَقُولُ تَعَالَى: هَذَا {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} أَيْ أَوَامِرَهُ، {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} ، وَمِنْ ذَلِكَ تعظيم الهدايا والبدن، كما قال ابن عباس: تعظيمها استسمانها واستحسانها. وقال أبو أمامة عن سَهْلٍ: كنَّا نسمِّن الْأُضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يسمِّنون (رواه البخاري في صحيحه) . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دَمُ عَفْرَاءَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ دَمِ سَوْدَاوَيْنِ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، قَالُوا: وَالْعَفْرَاءُ - هِيَ الْبَيْضَاءُ بَيَاضًا لَيْسَ بِنَاصِعٍ، فَالْبَيْضَاءُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا، وَغَيْرُهَا يُجْزِئُ أَيْضًا لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوئين، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن نستشرف العين والأذن، وأن لا نُضَحِّيَ بِمُقَابَلَةٍ وَلَا مُدَابَرَةٍ، وَلَا شَرْقَاءَ وَلَا خرقاء؛ وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ فِي الْأَضَاحِي: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، والعرجاء البيّن ضلعها، والكسيرة التي لا تنقي" (رواه أحمد وأصحاب السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ) ، وَهَذِهِ الْعُيُوبُ تَنْقُصُ اللَّحْمَ لضعفها وعجزها عن اسكتمال الرَّعْيِ، لِأَنَّ الشَّاءَ يَسْبِقُونَهَا إِلَى الْمَرْعَى، فَلِهَذَا لَا تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ بِهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ من الأئمة كما هو ظاهر الحديث، ولهذا جاء في الحديث: أمرنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ أَيْ أَنْ تَكُونَ الْهَدْيَةُ أَوِ الْأُضْحِيَّةُ سمينة حسنة ثمينة، كما روى عبد الله بن عمر: أهدي عمر نجيباً فأعطى بها ثلثمائة دِينَارٍ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَهْدَيْتُ نُجَيْبًا فأعطيت بها ثلثمائة دِينَارٍ، أَفَأَبِيعُهَا وَأَشْتَرِي بِثَمَنِهَا بُدْنًا؟ قَالَ: «لَا، إنحرها إياها» (رواه الإمام أحمد وأبو داود) . وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: الْبُدْنُ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُوسَى: الْوُقُوفُ وَمُزْدَلِفَةُ وَالْجِمَارُ والرمي والحلق والبدن مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ؛ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَعْظَمُ الشعائر البيت.(2/542)
وقوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} أَيْ لَكُمْ فِي الْبُدْنِ مَنَافِعُ مِنْ لَبَنِهَا وَصُوفِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَرُكُوبِهَا إلى أجل مسمى، قال مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} قَالَ: الرُّكُوبُ وَاللَّبَنُ وَالْوَلَدُ، فَإِذَا سُمِّيَتْ بَدَنَةً أَوْ هَدْيًا ذَهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ (كذا قال عطاء والضحاك وقتادة وَغَيْرُهُمْ) ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا وَإِنْ كَانَتْ هَدْيًا إِذَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً قَالَ: «ارْكَبْهَا» قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ: «ارْكَبْهَا وَيْحَكَ» فِي الثَّانيَةِ أو الثالثة، وفي رواية لمسلم: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها» . وعن عَلِيٍّ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً وَمَعَهَا وَلَدُهَا، فَقَالَ: لَا تَشْرَبْ مِنْ لَبَنِهَا إِلَّا مَا فَضُلَ عَنْ وَلَدِهَا فَإِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فَاذْبَحْهَا وَوَلَدَهَا، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أَيْ مَحِلُّ الْهَدْيِ وَانتِهَاؤُهُ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَهُوَ الْكَعْبَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هَدْياً بَالِغَ الكعبة} ، وقال: {والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} . وقال عَطَاءٍ، كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كُلُّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ فَقَدْ حَلَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} .(2/543)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
- 34 - وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ
- 35 - الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ ذَبْحُ الْمَنَاسِكِ وَإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ مَشْرُوعًا فِي جميع الملل، قال ابن عباس {مَنْسكا} : عِيدًا، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ذَبَحًا، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} : إنها مكة لَّمْ يَجْعَلِ الله لأمة مَنْسَكًا غَيْرَهَا، وَقَوْلُهُ: {لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ فسمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا، وقال الإمام أحمد بن حنبل عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ، قُلْتُ أَوْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الْأَضَاحِيُّ؟ قَالَ: «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ» ، قَالُوا: مَا لَنَا مِنْهَا؟ قَالَ: «بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ» ، قَالُوا: فَالصُّوفُ؟ قال: «بكل شعرة من الصوف حسنة» (أخرجه الإمام أحمد في المسند) ، وَقَوْلُهُ: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ} أَيْ مَعْبُودُكُمْ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُ الْأَنْبِيَاءِ وَنَسَخَ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَالْجَمِيعُ يَدْعُونَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن
قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون} ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَلَهُ أَسْلِمُواْ} أَيْ أَخْلِصُوا وَاسْتَسْلِمُوا لِحُكْمِهِ وَطَاعَتِهِ، {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُطْمَئِنِّينَ، وقال الضحاك: المتواضعين، وقال السدي: الوجلين، وقال الثوري: الْمُطْمَئِنِّينَ الرَّاضِينَ بِقَضَاءِ اللَّهِ الْمُسْتَسْلِمِينَ لَهُ، وَأَحْسَنُ مَا يُفَسَّرُ بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أَيْ خَافَتْ مِنْهُ قُلُوبُهُمْ، {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ} أَيْ من المصائب، قال الحسن البصري: والله لنصبرن أو لنهلكن، {والمقيمي الصلاة} أَيِ الْمُؤَدِّينَ حَقَّ اللَّهِ فِيمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أَيْ وَيُنْفِقُونَ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ طَيِّبِ الرِّزْقِ على أهليهم وأقاربهم وفقرائهم ومحاويجهم، ويحسنون إلى الخلق مع محافظتهم على حدود الله.(2/543)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
- 36 - وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عَبِيدِهِ فِيمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْبُدْنِ وَجَعَلَهَا مِنْ شَعَائِرِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَهَا تُهْدَى إِلَى بَيْتِهِ الحرام بل هي أفضل ما يهدى إليه. قال عطاء {والبدن} الْبَقَرَةُ وَالْبَعِيرُ (وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ) . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إنما البدن من الإبل، وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ إِطْلَاقِ الْبَدَنَةِ عَلَى الْبَقَرَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا ذَلِكَ شرعاً كما صح الْحَدِيثِ، ثُمَّ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ تُجْزِئُ الْبَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ، كَمَا ثبت عن جابر بن عبد الله قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْأَضَاحِيِّ: الْبَدَنَةُ عَنْ سبعة، والبقرة عن سبعة (أخرجه الإمام مسلم في صحيحه) ، وَقَوْلُهُ: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} أَيْ ثَوَابٌ فِي الدار الآخرة، لما روي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلًا أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إهراق دم وإنها لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَظْلَافِهَا وَأَشْعَارِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يقع من الْأَرْضِ فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا» (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ والترمذي وحسنه) ، وقال سفيان الثوري: كان أبو حازم يَسْتَدِينُ وَيَسُوقُ الْبُدْنَ، فَقِيلَ لَهُ: تَسْتَدِينُ وَتَسُوقُ الْبُدْنَ؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ {لَكُمْ فيها خَيْرٌ} ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} قَالَ: أَجْرٌ وَمَنَافِعُ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يَرْكَبُهَا وَيَحْلِبُهَا إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهَا، وَقَوْلُهُ: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ} ، وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِيدَ الْأَضْحَى، فَلَمَّا انصَرَفَ أَتَى بِكَبْشٍ فَذَبَحَهُ، فَقَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهِ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لَمَّ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي» (رَوَاهُ أَحْمَدُ وأبو داود والترمذي) . وروى محمد بن إسحاق عَنْ جَابِرٍ قَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَقَالَ حِينَ وَجَّهَهُمَا: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً، وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ له بذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ عن محمد وأمته» ، ثم سمَّى وَكَبَّرَ وَذَبَحَ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا ضَحَّى اشْتَرَى كَبْشَيْنِ سَمِينَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَإِذَا صَلَّى وَخَطَبَ النَّاسَ أُتِيَ بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ قَائِمٌ فِي مُصَلَّاهُ فَذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ بِالْمُدْيَةِ ثُمَّ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ أمتي جميعاً مَنْ شَهِدَ لَكَ بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لِي بِالْبَلَاغِ، ثُمَّ يُؤتى بِالْآخَرِ فَيَذْبَحُهُ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: «هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ» فَيُطْعِمُهَا جَمِيعًا للمساكين وَيَأْكُلُ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْهُمَا (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ ماجه) . وقال الاعمش عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {فَاذْكُرُوا اسْمَ
الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ} قال: قياماً عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ مَعْقُولَةٌ يَدُهَا الْيُسْرَى يَقُولُ: باسم الله والله أكبر لا إله إلا الله، اللهم منك ولك، وَقَالَ لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ: إِذَا عُقِلَتْ رِجْلُهَا اليسرى قامت عَلَى ثَلَاثٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنه أتى على رجل قد أناخ بدنة وَهُوَ يَنْحَرُهَا فَقَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سنَّة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم (أخرجه البخاري ومسلم) ، وعن جابر(2/544)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: كانوا ينحرون البدون مَعْقُولَةَ الْيُسْرَى قَائِمَةً عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ قوائمها (رواه أبو داود في سننه) . وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} يعني نحرت، وقال ابن أَسْلَمَ: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} يَعْنِي مَاتَتْ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ مُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنَ الْبَدَنَةِ إِذَا نُحِرَتْ حَتَّى تَمُوتَ وَتَبْرُدَ حَرَكَتُهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي حديث مرفوع: «لا تعجلوا النفوس أن تزهق» ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فأحسنوا الذبحة، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» (أخرجه مسلم في صحيحه) . وَقَوْلُهُ: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: قَوْلُهُ: {فَكُلُواْ مِنْهَا} أَمْرُ إِبَاحَةٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ، وَقَالَ غَيْرُهُ يَجِبُ، واختلفوا في المراد بالقانع والمعتر، فقال ابْنِ عَبَّاسٍ: الْقَانِعُ الْمُسْتَغْنِي بِمَا أَعْطَيْتَهُ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لَكَ وَيُلِمُّ بِكَ أَنْ تُعْطِيَهُ مِنَ اللَّحْمِ وَلَا يَسْأَلُ، وكذا قال مجاهد، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: الْقَانِعُ الْمُتَعَفِّفُ، وَالْمُعْتَرُّ السَّائِلُ (وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَمُجَاهِدٍ فِي رِوَايَةٍ عنه) ، وقال سعيد ابن جبير: القانع هو السائل، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّمَّاخِ:
لمَالُ المرءِ يُصْلِحُهُ فيغني * مفاقَره أعفُّ من القنوع
أي: يغني من السؤال، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْقَانِعُ الْمِسْكِينُ الَّذِي يطوف، والمعتر الصديق والضعيف الذي يزور، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَنَّ الْقَانِعَ هُوَ السَّائِلُ لِأَنَّهُ مَنْ أَقْنَعَ بِيَدِهِ إِذَا رَفَعَهَا لِلسُّؤَالِ، والمعتر من الاعتراء وهو الذي يتعرص لأكل اللحم، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلنَّاسِ: «إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَكَلُّوا وَادَّخِرُوا مَا بَدَا لَكُمْ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «فكلوا وادخروا وتصدقوا» .
مسْألة
عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فإنما هو لحم قدمه لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ» (أَخْرَجَاهُ في الصحيحين) ، فَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ أول وقت ذبح الأضاحي إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ النَّحْرِ وَمَضَى قَدْرُ صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْخُطْبَتَيْنِ، زَادَ أَحْمَدُ: وَأَنْ يَذْبَحَ الْإِمَامُ بَعْدَ ذَلِكَ، لِمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مسلم: وأن لا تَذْبَحُوا حَتَّى يَذْبَحَ الْإِمَامُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أما أهل السواد من القرى ونحوها فَلَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِذْ لا صلاة عيد تشرع عِنْدَهُ لَهُمْ، وَأَمَّا أَهْلُ الْأَمْصَارِ فَلَا يَذْبَحُوا حَتَّى يُصَلِّيَ الْإِمَامُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قِيلَ: لَا يُشْرَعُ الذَّبْحُ إِلَّا يَوْمَ النَّحْرِ وَحْدَهُ، وَقِيلَ: يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمٌ بَعْدَهُ لِلْجَمِيعِ، وَقِيلَ: ويومان بعده، وبه قال الإمام أَحْمَدُ، وَقِيلَ: يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، لِحَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «أيام التشريق كلها ذبح» (رواه الإمام أحمد وابن حبان) ، وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، يَقُولُ تَعَالَى مَّنْ أَجْلِ هَذَا {سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ} أَيْ ذللناها لكم وجعلناها مُنْقَادَةً لَكُمْ خَاضِعَةً إِنْ شِئْتُمْ رَكِبْتُمْ وَإِنْ شئتم حلبتم وإن شئتم ذبحتم {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .(2/545)
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
- 37 - لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ
يَقُولُ تعالى إنما شرع لكم نحر هذه الضحايا لتذكروه عند ذبحها، فإنه الخالق الرزاق لا يناله شيء من لحومها ولا دمائها، فهو الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ، وَقَدْ كَانُوا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ إِذَا ذَبَحُوهَا لِآلِهَتِهِمْ، وَضَعُوا عَلَيْهَا مِنْ لُحُومٍ قَرَابِينِهِمْ وَنَضَحُوا عَلَيْهَا مِنْ دِمَائِهَا، فَقَالَ تَعَالَى: {لَن يَنَالَ اللهَ لحومُها وَلاَ دِمَآؤُهَا} . عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَنْضَحُونَ الْبَيْتَ بِلُحُومِ الْإِبِلِ وَدِمَائِهَا، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَنْضَحَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى منكم} (أخرجه ابن أبي حاتم) أَيْ يَتَقَبَّلُ ذَلِكَ وَيَجْزِي عَلَيْهِ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قلوبكم وأعمالكم» . وجاء في الحديث: «أن الصدقة لتقع فِي يَدِ الرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ السَّائِلِ، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بمكان قبل أن يقع إلى الأرض» (تقدم الحديث عن عائشة مرفوعاً وقد رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه) ، وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَّكُمْ} أَيْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سَخَّرَ لَكُمُ الْبُدْنَ {لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى ما هَدَاكُمْ} أي لتعظموه على مَا هَدَاكُمْ لدينه وشرعه وما يحبه ويرضاه، وَنَهَاكُمْ عَنْ فِعْلِ مَا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ، وَقَوْلُهُ: {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} أَيْ وَبَشِّرْ يَا مُحَمَّدُ الْمُحْسِنِينَ فِي عَمَلِهِمُ، الْقَائِمِينَ بِحُدُودِ اللَّهِ، الْمُتَّبِعِينَ مَا شُرِعَ لَهُمُ، الْمُصَدِّقِينَ الرَّسُولَ فِيمَا أَبْلَغَهُمْ وَجَاءَهُمْ به من عند ربه عزَّ وجلَّ.(2/546)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
- 38 - إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِن اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ
يُخْبِرُ تَعَالَى: أَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ تَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَأَنَابُوا إِلَيْهِ، شَرَّ الْأَشْرَارِ وَكَيْدَ الْفُجَّارِ، وَيَحْفَظُهُمْ وَيَكْلَؤُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} ؟ وَقَالَ: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} أَيْ لَا يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذَا، وَهُوَ الْخِيَانةُ فِي الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، لا يفي بما قال، والكفر: والجحد لِلنِّعَمِ فَلَا يَعْتَرِفُ بِهَا.(2/546)
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
- 39 - أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ
- 40 - الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبَّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عزيز
قال ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ حِينَ أخرجوا من مكة، وقال مجاهد والضحاك وغير وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: هَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ في الجهاد، وقال ابن جرير عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أُخْرِجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجُوا نَبِيَّهُمْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ لَيُهْلَكُنَّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ(2/546)
عزَّ وجلَّ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ، قَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه: فعرفت أنه سيكون قتال، زاد أحمد: وهي أول آية نزلت في القتال (أخرجه الترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن) . وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى نَصْرِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَلَكِنْ هُوَ يُرِيدُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يبذلوا جهدهم في طاعته كما قال: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ، وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ الله أعمالهم} ، وَقَالَ تَعَالَى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مؤمنين} ، وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين} ، وقال: {ولنبلوكم حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} وقد فعل، وإنما شرع تَعَالَى الْجِهَادَ فِي الْوَقْتِ الْأَلْيَقِ بِهِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا بِمَكَّةَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَكْثَرَ عَدَدًا، فلو أمر المسلمون وهم أقل بِقِتَالِ الْبَاقِينَ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا لَمَّا بَايَعَ أَهْلُ يَثْرِبَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا نَيِّفًا وَثَمَانِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَمِيلُ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي، يَعْنُونَ أَهْلَ مِنًى لَيَالِيَ مِنًى فَنَقْتُلُهُمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني لم أومر بِهَذَا» ، فَلَمَّا بَغَى الْمُشْرِكُونَ وَأَخْرَجُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَهَمُّوا بقتله وشردوا أصحابه، فلما استقروا بالمدينة وَصَارَتْ لَهُمْ دَارُ إِسْلَامٍ، وَمَعْقِلًا يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ، شَرَعَ اللَّهُ جِهَادَ الْأَعْدَاءِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: {أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أُخْرِجُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ يَعْنِي مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، {إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبَّنَا اللَّهُ} أَيْ مَا كَانَ لَهُمْ إساءة ولا ذنب، إلا أنهم وحدوا الله وعبدوه لا شريك له، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} ، وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الحميد} .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي لولا أنه يدفع بقوم عن قوم، ويكف شرور أُنَاسٍ عَنْ غَيْرِهِمْ، بِمَا يَخْلُقُهُ وَيُقَدِّرُهُ مِنَ الأسباب لفسدت الأرض، ولأهلك القوي الضعيف، {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} وهي المعابد للرهبان (قاله ابن عباس ومجاهد وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ) ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَعَابِدُ الصابئين، وفي رواية عنه: صوامع المجوس، {وَبِيَعٌ} وهي أوسع منها وهي للنصارى أيضاً، وَحَكَى ابْنُ جُبَيْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهَا كنائس اليهود، وعن ابن عباس: أنها كنائس اليهود، وقوله: {وَصَلَوَاتٌ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: الصَّلَوَاتُ الْكَنَائِسُ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: إِنَّهَا كَنَائِسُ الْيَهُودِ وَهُمْ يُسَمُّونَهَا صلوات، وحكى السدي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا كَنَائِسُ النَّصَارَى، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُ: الصَّلَوَاتُ مَعَابِدُ الصَّابِئِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٍ: الصَّلَوَاتُ مَسَاجِدُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَلِأَهْلِ الْإِسْلَامِ بِالطُّرُقِ، وَأَمَّا الْمَسَاجِدُ فَهِيَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ: {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} ، فَقَدْ قِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {يُذْكَرُ فِيهَا} عَائِدٌ إِلَى الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْجَمِيعُ يُذْكَرُ فيها اللَّهِ كَثِيرًا، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الصَّوَابُ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ الرُّهْبَانِ وَبِيَعُ النَّصَارَى وَصَلَوَاتُ الْيَهُودِ وَهِيَ كَنَائِسُهُمْ وَمَسَاجِدُ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله(2/547)
كَثِيرًا، لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَذَا تَرَقٍ من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَهِيَ أَكْثَرُ عُمّاراً وَأَكْثَرُ عبَّاداً، وَهُمْ ذَوُو الْقَصْدِ الصَّحِيحِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} ، كقوله تعالى: {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ؛ فَبِقُوَّتِهِ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا وَبِعِزَّتِهِ لَا يَقْهَرُهُ قَاهِرٌ، وَلَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ ذَلِيلٌ لَدَيْهِ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ نَاصِرَهُ فَهُوَ الْمَنْصُورُ، وَعَدُوُّهُ هُوَ الْمَقْهُورُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} ، وَقَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ لقوي عزيز} .(2/548)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
- 41 - الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ ولله عاقبة الأمور
قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: فِينَا نَزَلَتْ {الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ} فَأُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ قُلْنَا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ مُكِّنَّا فِي الْأَرْضِ، فَأَقَمْنَا الصَّلَاةَ وَآتَيْنَا الزَّكَاةَ، وَأَمَرْنَا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَيْنَا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ، فَهِيَ لِي وَلِأَصْحَابِي (أخرجه ابن أبي حاتم عن عثمان رضي الله عنه) . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} ، وَقَوْلُهُ: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَاقِبَةُ للمتقين} ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} وَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ مَا صَنَعُوا.(2/548)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
- 42 - وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ
- 43 - وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ
- 44 - وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ
- 45 - فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ
- 46 - أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ
يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَكْذِيبِ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ قَوْمِهِ {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ - إِلَى أَنْ قَالَ - وَكُذِّبَ مُوسَى} أَيْ مَعَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الآيات وَالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَاتِ، {فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} أَيْ أَنْظَرْتُهُمْ وَأَخَّرْتُهُمْ، {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ} أَيْ فَكَيْفَ كَانَ إِنْكَارِي عليهم ومعاقبتي لهم؟! وذكر بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ قَوْلِ فِرْعَوْنَ لقومه {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} وَبَيْنَ إِهْلَاكِ اللَّهِ لَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَفِي الصحيحين عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» ، ثُمَّ قرأ {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إذ أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شديد} (أخرجه البخاري ومسلم) ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أي كم(2/548)
مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْتُهَا {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أَيْ مُكَذِّبَةٌ لرسلها، {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} ، قَالَ الضَّحَّاكُ: سُقُوفُهَا، أَيْ قَدْ خُرِّبَتْ مَنَازِلُهَا وَتَعَطَّلَتْ حَوَاضِرُهَا، {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} أَيْ لَا يُسْتَقَى مِنْهَا وَلَا يَرِدُهَا أَحَدٌ، بَعْدَ كَثْرَةِ وَارِدِيهَا وَالِازْدِحَامِ عَلَيْهَا، {وَقَصْرٍ مشيد} قال عكرمة: يعني المبيض بالجص، وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ الْمَنِيفُ الْمُرْتَفِعُ، وَقَالَ آخَرُونَ: المشيد الْمَنِيعُ الْحَصِينُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَحْمِ أهلَه شدةُ بِنَائِهِ وَلَا ارْتِفَاعُهُ وَلَا إِحْكَامُهُ وَلَا حَصَانَتُهُ عَنْ حُلُولِ بَأْسِ اللَّهِ بِهِمْ، كَمَا قَالَ تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يدركم الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} ، وَقَوْلُهُ: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ} أَيْ بِأَبْدَانِهِمْ وبفكرهم أيضاً، وذلك للاعتبار، أي انظروا مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ مِنَ النِّقَمِ وَالنَّكَالِ، {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أَيْ فَيَعْتَبِرُونَ بِهَا، {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} أَيْ لَيْسَ الْعَمَى عَمَى الْبَصَرِ، وَإِنَّمَا الْعَمَى عَمَى الْبَصِيرَةِ، وَإِنْ كَانتِ الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ سَلِيمَةً فَإِنَّهَا لَا تَنْفُذُ إِلَى الْعِبَرِ وَلَا تدري ما الخبر.(2/549)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
- 47 - وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ
- 48 - وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} أَيْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الْمُلْحِدُونَ الْمُكَذِّبُونَ بِاللَّهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ واليوم الآخر، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كان هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أليم} ، {وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب} ، وَقَوْلُهُ: {وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} أَيِ الَّذِي قَدْ وَعَدَ مِنْ إِقَامَةِ السَّاعَةِ، وَالِانتِقَامِ مِنْ أعدائه، والإكرام لأوليائه، وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} أَيْ هُوَ تَعَالَى لَا يُعَجِّلُ فَإِنَّ مِقْدَارَ أَلْفِ سَنَةٍ عِنْدَ خَلْقِهِ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حُكْمِهِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ عَلَى الِانتِقَامِ قَادِرٌ، وَأَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ، وإن أجّل وأنظر، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وإليَّ المصير} . عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ» (أخرجه ابن أبي حاتم والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حسن صحيح) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} قَالَ:
مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي خلق فيها السماوات والأرض. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تعدون} .(2/549)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
- 49 - قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
- 50 - فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
- 51 - وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ طَلَبَ مِنْهُ الْكَفَّارُ وُقُوعَ الْعَذَابِ وَاسْتَعْجَلُوهُ بِهِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أَيْ إِنَّمَا أَرْسَلَنِي اللَّهُ إِلَيْكُمْ نَذِيرًا لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، وَلَيْسَ إِلَيَّ مِنْ حِسَابِكُمْ مِنْ شَيْءٍ، أَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَجَّلَ لَكُمُ الْعَذَابَ وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَهُ عَنْكُمْ، وَإِنْ شَاءَ تَابَ عَلَى مَنْ يَتُوبُ إِلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ أَضَلَّ مَنْ كَتَبَ(2/549)
عليه الشقاوة وهو الفعال لما يشاء، {إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أَيْ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ وَصَدَقُوا إِيمَانَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ، {لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أَيْ مَغْفِرَةٌ لِمَا سَلَفَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ، وَمُجَازَاةٌ حَسَنَةٌ عَلَى القليل من حسناتهم، قال القرظي (هو محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه) : إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} فَهُوَ الْجَنَّةُ، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يُثَبِّطُونَ النَّاسَ عَنْ مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {مُعَاجِزِينَ} مُرَاغِمِينَ {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وَهِيَ النار الحارة الوجعة، الشديد عذابها ونكالها أجارنا الله منها.(2/550)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
- 52 - وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نبيٌّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
- 53 - لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
- 54 - وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مستقيم
قد ذكر كثير من المفسرين ههنا (قِصَّةَ الْغَرَانِيقِ) وَمَا كَانَ مِنْ رُجُوعِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُهَاجِرَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ظَنًّا مِنْهُمْ أن مشركي قريش قد أسلموا، وخلاصتها عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ «النَّجْمَ» فَلَمَّا بَلَغَ هَذَا الْمَوْضِعَ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} قَالَ: فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لسانه: «تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى» ، قَالُوا: مَا ذَكَرَ آلِهَتَنَا بِخَيْرٍ قَبْلَ الْيَوْمِ فَسَجَدَ وَسَجَدُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نبيٌّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ؛ وَقَدْ ذَكَرَهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ بنحو من هذا، وكلها مرسلات ومنقطعات والله أعلم. وقد ساقها البغوي في تفسيره ثم سأل ههنا سُؤَالًا: كَيْفَ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا مَعَ الْعِصْمَةِ المضمونة من الله تعالى لرسوله صلاة اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ؟ ثُمَّ حَكَى أَجْوِبَةً عَنِ النَّاسِ، مِنْ أَلْطَفِهَا: أَنَّ الشَّيْطَانَ أَوْقَعَ فِي مَسَامِعِ الْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ، فَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ صَدَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ إِنَّمَا كَانَ من صنيع الشيطان، لا عن رَسُولِ الرَّحْمَنِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ أعلم. وَقَوْلُهُ: {إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} هذا فيه تسلية من الله لرسوله صلاة الله وسلامه عليه، قَالَ الْبُخَارِيُّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {فِي أُمْنِيَّتِهِ} إِذَا حَدَّثَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي حَدِيثِهِ، فَيُبْطِلُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {إِذَا تَمَنَّى} يَعْنِي إِذَا قَالَ؛ ويقال أمنيته قراءته {إِلاَّ أَمَانِيَّ} يقرؤون وَلَا يَكْتُبُونَ. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: مَعْنَى قَوْلِهِ: {تَمَنَّى} أَيْ تَلَا وَقَرَأَ كِتَابَ اللَّهِ {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أَيْ فِي تِلَاوَتِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ فِي عُثْمَانَ حِينَ قُتِلَ:
تمنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ * وَآخِرَهَا لَاقَى حِمَام الْمَقَادِرِ
وَقَالَ الضَّحَّاكُ {إِذَا تَمَنَّى} : إِذَا تَلَا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بتأويل الكلام.
وقوله تعالى: {فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} حَقِيقَةُ النَّسْخِ لغة الإزالة والرفع، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ فَيُبْطِلُ(2/550)
الله سبحانه وتعالى ما ألقى الشيطان (قال السيوطي بعدما ذكر هذه الروايات في اللباب: وكلها إما ضعيفة وإما منقطعة، قال الحافظ ابن حجر: لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلاً، وقال ابن العربي: إن هذه الروايات باطلة لا أصل لها) ؛ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَسَخَ جِبْرِيلُ بِأَمْرِ اللَّهِ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ وَأَحْكَمَ اللَّهُ آيَاتِهِ، وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} أي بما يكون من الأمور والحوداث لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ {حَكِيمٌ} أَيْ فِي تَقْدِيرِهِ وَخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، لَهُ الْحِكْمَةُ التَّامَّةُ وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَلِهَذَا قَالَ: {لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أَيْ شَكٌّ وَشِرْكٌ وَكُفْرٌ وَنِفَاقٌ كَالْمُشْرِكِينَ حِينَ فَرِحُوا بِذَلِكَ واعتقدوا أنه صحيح من عند الله وَإِنَّمَا كَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ {لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} هُمُ الْمُنَافِقُونَ، {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} هم المشركون، وقال مقاتل بن حيان: هم الْيَهُودُ، {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أَيْ فِي ضَلَالٍ وَمُخَالَفَةٍ وَعِنَادٍ بَعِيدٍ أَيْ مِنَ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ} أَيْ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ النَّافِعَ الَّذِي يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الحق والباطل، والمؤمنون بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنَّ مَا أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ، هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الَّذِي أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَحِفْظِهِ، وَحَرَسَهُ أَنْ يَخْتَلِطَ بِهِ غَيْرُهُ، بَلْ هُوَ كتاب عَزِيزٌ {لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ، وَقَوْلُهُ: {فَيُؤْمِنُواْ بِهِ} أَيْ يُصَدِّقُوهُ وَيَنْقَادُوا لَهُ {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} أي تخضع وتذل لَهُ قُلُوبُهُمْ، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيُرْشِدُهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ وَيُوَفِّقُهُمْ لِمُخَالَفَةِ الْبَاطِلِ وَاجْتِنَابِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ يَهْدِيهِمْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُوصِلِ إِلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّاتِ، وَيُزَحْزِحُهُمْ عَنِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَالدَّرَكَاتِ.(2/551)
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
- 55 - وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ
- 56 - الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ
- 57 - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ فِي {مِرْيَةٍ} أَيْ فِي شَكٍّ وَرَيْبٍ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ زَيْدٍ {مِّنْهُ} أَيْ مِمَّا أَلْقَى الشَّيْطَانُ، {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} قَالَ مُجَاهِدٌ: فَجْأَةً، وَقَالَ قَتَادَةُ: {بَغْتَةً} بَغَتَ الْقَوْمَ أَمْرُ اللَّهِ، وَمَا أَخَذَ اللَّهُ قوماً إِلَّا عِنْدَ سَكْرَتِهِمْ وَغَرَّتِهِمْ وَنِعْمَتِهِمْ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِاللَّهِ، إِنَّهُ لَا يَغْتَرُّ بِاللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ، وَقَوْلُهُ: {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} قال ابن أبي كعب: هو يوم بدر؛ وقال عكرمة ومجاهد: هُوَ يَوْمَ القيامة لا ليل له، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَإِنْ كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ مِنْ جُمْلَةِ مَا أُوعِدُوا بِهِ لَكِنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ، وَلِهَذَا قَالَ: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} ، كَقَوْلِهِ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، وَقَوْلُهُ: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عسيرا} {فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أَيْ آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ وَصَدَّقُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَعَمِلُواْ بِمُقْتَضَى مَا عَلِمُوا مع توافق قلوبهم وأقوالهم {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أَيْ لَهُمُ النَّعِيمُ الْمُقِيمُ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ وَلَا يَبِيدُ، {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا} أَيْ كَفَرَتْ قُلُوبُهُمْ بالحق وجحدته، وَكَذَّبُوا بِهِ وَخَالَفُوا الرُّسُلَ، وَاسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِهِمْ، {فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أَيْ(2/551)
مقابلة استكبارهم وإبائهم عَنِ الْحَقِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي صاغرين.(2/552)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
- 58 - وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
- 59 - لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ
- 60 - ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّنْ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، وَطَلَبًا لِمَا عِنْدَهُ وَتَرَكَ الْأَوْطَانَ وَالْأَهْلِينَ وَالْخِلَّانَ، وَفَارَقَ بِلَادَهُ فِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَنُصْرَةً لِدِينِ اللَّهِ {ثُمَّ قُتِلُوا} أَيْ فِي الجهاد {أَوْ مَاتُواْ} أي حتف أنفهم مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ عَلَى فُرُشِهِمْ، فَقَدْ حَصَلُوا عَلَى الْأَجْرِ الْجَزِيلِ وَالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ على الله} ، وَقَوْلُهُ: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} أَيْ لَيُجْرِيَنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ فَضْلِهِ وَرِزْقِهِ مِنَ الْجَنَّةِ مَا تَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ} أَيِ الْجَنَّةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وجنة نعيم} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ الرَّاحَةُ وَالرِّزْقُ وَجَنَّةُ النعيم، كما قال ههنا: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} ، ثُمَّ قَالَ: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ} أَيْ بِمَنْ يُهَاجِرُ وَيُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، {حَلِيمٌ} أَيْ يَحْلُمُ وَيَصْفَحُ وَيَغْفِرُ لَهُمُ الذُّنُوبَ، فأما من قتل في سبيل الله فَإِنَّهُ حَيٌّ عِنْدَ رَبِّهِ يُرْزَقُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ؛ وَأَمَّا من توفي في سبيل الله فَقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مَعَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ إِجْرَاءَ الرِّزْقِ عَلَيْهِ، وَعَظِيمِ إِحْسَانِ اللَّهِ إليه، قال ابن أبي حاتم عَنِ ابْنِ عُقْبَةَ يَعْنِي أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ عقبة قال، قال شُرَحْبِيلُ بْنُ السِّمْطِ: طَالَ رِبَاطُنَا وَإِقَامَتُنَا عَلَى حِصْنٍ بِأَرْضِ الرُّومِ، فَمَرَّ بِي سَلْمَانُ يَعْنِي الْفَارِسِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا أَجْرَى اللَّهُ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ الْأَجْرِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ الرِّزْقَ وَأَمِنَ مِنَ الفتَّانين» واقرأوا إِنْ شِئْتُمْ {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} وعن عبد الرحمن بن جحدم الخولاني أَنَّهُ حَضَرَ (فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ) فِي الْبَحْرِ مَعَ جِنَازَتَيْنِ، أَحَدُهُمَا أُصِيبَ بِمَنْجَنِيقٍ وَالْآخَرُ تُوُفِّيَ، فَجَلَسَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ عِنْدَ قَبْرِ الْمُتَوَفَّى، فَقِيلَ لَهُ: تَرَكْتَ الشَّهِيدَ فَلَمْ تَجْلِسْ عِنْدَهُ، فَقَالَ: مَا أُبَالِي مِنْ أَيِّ حُفْرَتَيْهِمَا بُعِثْتُ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} الآيتين، فَمَا تَبْتَغِي أَيُّهَا الْعَبْدُ إِذَا أُدْخِلْتَ مُدْخَلًا تَرْضَاهُ وَرُزِقَتْ رِزْقًا حَسَنًا! وَاللَّهِ مَا أُبَالِي من أي حفرتيهما بعثت (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ بنحوه) . وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} الآية، نَزَلَتْ فِي سَرِيَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَقُوا جَمْعًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي شَهْرِ مُحَرَّمٍ، فَنَاشَدَهُمُ الْمُسْلِمُونَ لِئَلَّا يُقَاتِلُوهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَأَبَى الْمُشْرِكُونَ إِلَّا قِتَالَهُمْ وَبَغَوْا عَلَيْهِمْ، فَقَاتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَنَصَرَهُمُ الله عليهم {إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (ذكره مقاتل بن جيان وابن جرير) .(2/552)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
- 61 - ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
- 62 - ذلك بأن اللهو الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى أَنَّهُ الْخَالِقُ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، كَمَا قَالَ: {قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تشاء} الآية، وَمَعْنَى إِيلَاجِهِ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ، وَالنَّهَارَ فِي اللَّيْلِ، إِدْخَالُهُ مِنْ هَذَا فِي هَذَا، وَمِنْ هَذَا فِي هَذَا، فَتَارَةً يُطَوِّلُ اللَّيْلَ وَيُقَصِّرُ النَّهَارَ كَمَا فِي الشِّتَاءِ، وَتَارَةً يُطَوِّلُ النَّهَارَ وَيُقَصِّرُ اللَّيْلَ كَمَا فِي الصَّيْفِ، وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أَيْ سَمِيعٌ بِأَقْوَالِ عِبَادِهِ بَصِيرٌ بِهِمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ في أحوالهم وحركاتهم وسكناتهم، ولما تبين أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْوُجُودِ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ قَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أَيِ الْإِلَهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، لِأَنَّهُ ذُو السُّلْطَانِ الْعَظِيمِ، الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، ذَلِيلٌ لَدَيْهِ {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} أَيْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَوْثَانِ، وَكُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ، كَمَا قَالَ: {وَهُوَ العلي العظيم} ، وقال: {وهو الكبير المتعال} فَكُلُّ شَيْءٍ تَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ وَعَظْمَتِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، لِأَنَّهُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا أَعْظَمَ مِنْهُ، الْعَلِيُّ الَّذِي لَا أَعْلَى مِنْهُ، الْكَبِيرُ الَّذِي لَا أَكْبَرَ منه، تعالى وتقدس وتنزه عزَّ وجلَّ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ الْمُعْتَدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.(2/553)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
- 63 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
- 64 - لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ
- 65 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ الله بالناس لرؤوف رَحِيمٌ
- 66 - وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ
وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الدلالة على قدرته وعظيم سلطانه، وأنه يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيُمْطِرُ عَلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ، الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا وَهِيَ هَامِدَةٌ يابسة سوداء ممحلة {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وربت} ، وقوله: {فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} أَيْ خَضْرَاءَ بَعْدَ يُبْسِهَا ومحولها، {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} أَيْ عَلِيمٌ بِمَا في أرجاء الأرض وأقطارها وأجزائها، لا يخفى عليه خافية، كَمَا قَالَ لُقْمَانُ: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السموات أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ الله لَطِيفٌ خبير} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} ، وَقَوْلُهُ: {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أَيْ مُلْكُهُ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَمَّا سِوَاهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ عَبْدٌ لَدَيْهِ، وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ} أَيْ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ وَزُرُوعٍ وَثِمَارٍ كَمَا قَالَ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ} أَيْ مِنْ إِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ وَامْتِنَانِهِ {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} أَيْ بِتَسْخِيرِهِ وَتَسْيِيرِهِ، أَيْ فِي الْبَحْرِ الْعَجَاجِ وَتَلَاطُمِ الْأَمْوَاجِ، تَجْرِي الْفُلْكُ بأهلها بريح طيبة فيحملون فيها ما شاءوا من بضائع وَمَنَافِعَ، مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَقُطْرٍ(2/553)
إلى قطر {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ
أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} أَيْ لَوْ شَاءَ لَأَذِنَ لِلسَّمَاءِ فَسَقَطَتْ عَلَى الْأَرْضِ فَهَلَكَ مَنْ فِيهَا، وَلَكِنْ مِنْ لُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ الله بالناس لرؤوف رَحِيمٌ} أَيْ مَعَ ظُلْمِهِمْ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الأُخرى {وَإِن رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} ، وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} ، كَقَوْلِهِ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، وَقَوْلِهِ: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ} ، وَقَوْلِهِ: {قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} ومعنى الكلام كيف تجعلون لله أَنْدَادًا وَتَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَهُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالتَّصَرُّفِ، {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} أَيْ خَلَقَكُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا يُذْكَرُ فَأَوْجَدَكُمْ، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} أي جحود لربه.(2/554)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
- 67 - لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ
- 68 - وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ
- 69 - اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أنه جعل لكل قوم منسكاً، وَأَصِلُ الْمَنْسَكِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْمَوْضِعُ الذي يعتاده الإنسان ويتردد إليه، ولهذا سميت مناسك الحج بذلك، لتردد الناس إليها وعكوفهم عليها، والمراد لكل أمة نبي جعلنا منسكاً، {فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} أَيْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، {هُمْ نَاسِكُوهُ} أي فاعلوه، فالضمير ههنا عَائِدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَهُمْ مَنَاسِكُ وَطَرَائِقُ، فَلَا تَتَأَثَّرْ بِمُنَازَعَتِهِمْ لَكَ وَلَا يَصْرِفْكَ ذَلِكَ عَمَّا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} أَيْ طَرِيقٍ وَاضِحٍ مُسْتَقِيمٍ مُوصِلٍ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ: {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إليك} ، وَقَوْلِهِ: {وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ كَقَوْلِهِ: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شيهدا بيني وبينكم} ، وَلِهَذَا قَالَ: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} ، وهذه كقوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كتاب} الآية.(2/554)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
- 70 - أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ كَمَالِ عِلْمِهِ بِخَلْقِهِ، وَأَنَّهُ مُحِيطٌ بِمَا فِي السماوات وما في الأرض، وَأَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ الْكَائِنَاتِ كُلَّهَا قَبْلَ وُجُودِهَا وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قدَّر مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء» (أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو) ، وَفِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: "قَالَ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كائن إلى يوم القيامة"، وقال ابن عباس: خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مِائَةِ عَامٍ، وَقَالَ لِلْقَلَمِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: اكْتُبْ فقال الْقَلَمُ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ عِلْمِي فِي خَلْقِي إِلَى يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هو كائن(2/554)
فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَذَلِكَ قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ عِلْمِهِ تَعَالَى عَلِمَ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ كَوْنِهَا وَقَدَّرَهَا وَكَتَبَهَا أَيْضًا، فَيَعْلَمُ قَبْلَ الْخَلْقِ أَنَّ هَذَا يُطِيعُ بِاخْتِيَارِهِ وَهَذَا يَعْصِي بِاخْتِيَارِهِ وَكَتَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَهُوَ سَهْلٌ عَلَيْهِ يَسِيرٌ لَدَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .(2/555)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
- 71 - وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَّصِيرٍ
- 72 - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ المصير
يقول مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا جَهِلُوا وَكَفَرُوا، وَعَبَدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، يَعْنِي حُجَّةً وَبُرْهَانًا كَقَوْلِهِ: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} ، ولهذا قال ههنا {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} أَيْ وَلَا عِلْمَ لَهُمْ فِيمَا اخْتَلَقُوهُ وَائْتَفَكُوهُ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ تَلَقَّوْهُ عَنْ آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ، وَأَصْلُهُ مِمَّا سوَّل لَهُمُ الشَّيْطَانُ وَزَيَّنَهُ لَهُمْ، وَلِهَذَا تَوَعَّدَهُمْ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} أَيْ مِنْ نَاصِرٍ يَنْصُرُهُمْ مِنَ اللَّهِ فِيمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ؛ ثُمَّ قَالَ: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أَيْ وَإِذَا ذُكِرَتْ لَهُمْ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَالْحُجَجُ وَالدَّلَائِلُ الواضحات على توحيد الله {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أَيْ يَكَادُونَ يُبَادِرُونَ الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِمْ بِالدَّلَائِلِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الْقُرْآنِ وَيَبْسُطُونَ إِلَيْهِمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ {قُلْ} أَيْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ {أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَيِ النَّارُ وَعَذَابُهَا وَنَكَالُهَا أَشَدُّ وَأَشَقُّ، وَأَطَمُّ وَأَعْظَمُ مِمَّا تخَّوفون بِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَعَذَابُ الْآخِرَةِ عَلَى صَنِيعِكُمْ هَذَا أَعْظَمُ مِمَّا تَنَالُونَ مِنْهُمْ إِنْ نِلْتُمْ بِزَعْمِكُمْ وَإِرَادَتِكُمْ، وَقَوْلُهُ: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أَيْ وَبِئْسَ النَّارُ مقيلاً ومنزلاً ومرجعاً ومؤئلاً ومقاماً {إِنَّهَا سَآءَتْ مستقرا ومقاما} .(2/555)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
- 73 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ
- 74 - مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى حَقَارَةِ الْأَصْنَامِ وَسَخَافَةِ عُقُولِ عَابِدِيهَا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ} أَيْ لِمَا يَعْبُدُهُ الْجَاهِلُونَ بِاللَّهِ الْمُشْرِكُونَ بِهِ {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} أَيْ أَنْصِتُوا وَتَفَهَّمُوا {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} أَيْ لَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ مَا تَعْبُدُونَ مِن الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، عَلَى أَنْ يَقْدِرُوا عَلَى خَلْقِ ذُبَابٍ وَاحِدٍ مَا قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ؛ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي؟ فَلْيَخْلُقُوا(2/555)
ذرة، فليخلقوا شعيرة" (أخرجاه في الصحيحين ورواه الإمام أحمد) ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى أَيْضًا: {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} أَيْ هُمْ عَاجِزُونَ عَنْ خَلْقِ ذُبَابٍ وَاحِدٍ، بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ عَاجِزُونَ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ وَالِانتِصَارِ مِنْهُ، لَوْ سَلَبَهَا شَيْئًا مِنَ الَّذِي عَلَيْهَا مِنَ الطِّيبِ، ثم أرادت أن تستنفذه مِنْهُ لَمَا قَدَرَتْ عَلَى ذَلِكَ، هَذَا وَالذُّبَابُ مِنْ أَضْعَفِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ وَأَحْقَرِهَا، وَلِهَذَا قَالَ: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الطَّالِبُ الصنم، والمطلوب الذباب؛ واختاره ابن جرير، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: الطَّالِبُ الْعَابِدُ وَالْمَطْلُوبُ الصَّنَمُ، ثُمَّ قَالَ: {مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أَيْ مَا عَرَفُوا قَدْرَ اللَّهِ وَعَظَمَتَهُ حِينَ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ مِنْ هَذِهِ الَّتِي لَا تُقَاوِمُ الذُّبَابَ لِضَعْفِهَا وَعَجْزِهَا، {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} أَيْ هُوَ الْقَوِيُّ الَّذِي بِقُدْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ، {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ، وَقَوْلُهُ {عَزِيزٌ} أَيْ قَدْ عزَّ كُلَّ شَيْءٍ وَغَلَبَهُ، فَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُغَالَبُ، لِعَظْمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ.(2/556)
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
- 75 - اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
- 76 - يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَخْتَارُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً فِيمَا يَشَاءُ مِنْ شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ وَمِنَ النَّاسِ لإبلاغ رسالته، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أَيْ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ بَصِيرٌ بِهِمْ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ، وَقَوْلُهُ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أَيْ يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُ بِرُسُلِهِ فِيمَا أَرْسَلَهُمْ بِهِ، فَلَا يَخْفَى عليه شيء من أمورهم، فَهُوَ سُبْحَانَهُ رَقِيبٌ عَلَيْهِمْ شَهِيدٌ عَلَى مَا يُقَالُ لَهُمْ، حَافِظٌ لَهُمْ، نَاصِرٌ لِجَنَابِهِمْ.(2/556)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
- 77 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
- 78 - وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ
اختلف في هذه السجدة الثانية على قولين وقد قدمنا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ بِسَجْدَتَيْنِ فَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا» ، وَقَوْلُهُ: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} أَيْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ، كَمَا قَالَ تعالى: {اتقوا الله حَقَّ تقاته} ، وَقَوْلُهُ: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} أَيْ يَا هَذِهِ الْأُمَّةُ اللَّهُ اصْطَفَاكُمْ وَاخْتَارَكُمْ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَفَضَّلَكُمْ وَشَرَّفَكُمْ وَخَصَّكُمْ بِأَكْرَمِ رَسُولٍ وَأَكْمَلِ شَرْعٍ، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} أَيْ مَا كَلَّفَكُمْ مَا لَا تُطِيقُونَ، وَمَا أَلْزَمَكُمْ بشيء يشق عَلَيْكُمْ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، ولهذا قال عليه السلام: «بعثت بالحنيفة السَّمْحَةِ» وَقَالَ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى حِينَ بَعَثَهُمَا أَمِيرَيْنِ إِلَى الْيَمَنِ: «بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا» ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(2/556)
يَعْنِي مِنْ ضِيقٍ، وَقَوْلُهُ: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} قال ابن جرير: نصب على تقدير {ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} أَيْ مِنْ ضِيقٍ بَلْ وسَّعه عَلَيْكُمْ كَمِلَّةِ أَبِيكُمْ إبراهيم، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى تَقْدِيرِ الْزَمُوا مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ.
(قُلْتُ) : وَهَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} الآية، وَقَوْلِهِ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا} ، قال ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:
{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} قال: الله عزَّ وجلَّ. وقال ابن أَسْلَمَ {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلَ وَفِي هَذَا} قَالَ مُجَاهِدٌ: اللَّهُ سماكم المسلمين في قَبْلُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَفِي الذِّكْرِ، {وَفِي هَذَا} يَعْنِي الْقُرْآنَ وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ. (قُلْتُ) : وهذه هُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ثم حثهم وأغراهم على ماجاء بِهِ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ ملة إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنَّتَهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، بِمَا نَوَّهَ بِهِ مِنْ ذِكْرِهَا وَالثَّنَاءِ عَلَيْهَا، فِي سَالِفِ الدَّهْرِ وَقَدِيمِ الزَّمَانِ، فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ يُتْلَى عَلَى الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ، فَقَالَ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} أَيْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ {وَفِي هذا} ، روى النسائي عن الْحَارِثُ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جِثِيِّ جَهَنَّمَ» ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى؟ قَالَ: «نَعَمْ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى» فَادْعُوَا بِدَعْوَةِ اللَّهِ الَّتِي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله" (أخرجه النسائي في سننه) ، وَلِهَذَا قَالَ: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} أَيْ إِنَّمَا جَعَلْنَاكُمْ هَكَذَا أُمَّةً وَسَطًا، عُدُولًا خِيَارًا مَشْهُودًا بِعَدَالَتِكُمْ عِنْدَ جَمِيعِ الأُمم لِتَكُونُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ {شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} لِأَنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ مُعْتَرِفَةٌ يومئذٍ بِسِيَادَتِهَا وَفَضْلِهَا عَلَى كُلِّ أُمّة سِوَاهَا، فَلِهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فِي أَنَّ الرُّسُلَ بَلَّغَتْهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ، وَالرَّسُولُ يَشْهَدُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ بلَّغها ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسطا} ، وقوله: {أقيموا الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} أَيْ قَابِلُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ العظيمة بالقيام بشكرها، فأدوا حَقَّ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فِي أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ، وَتَرْكِ مَا حَرَّمَ، وَمِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ إِقَامُ الصلاة وإيتاء الزكاة، {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} أَيِ اعْتَضِدُوا بِاللَّهِ وَاسْتَعِينُوا بِهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَتَأَيَّدُوا بِهِ، {هُوَ مَوْلاَكُمْ} أَيْ حَافِظُكُمْ وَنَاصِرُكُمْ وَمُظَفِّرِكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ، {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} : يَعْنِي نِعْمَ الْوَلِيُّ، وَنِعْمَ النَّاصِرُ من الأعداء.(2/557)
- 23 - سورة المؤمنون(2/558)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ
- 2 - الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ
- 3 - وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ
- 4 - وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ
- 5 - وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
- 6 - إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
- 7 - فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ
- 8 - وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ
- 9 - وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ
- 10 - أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ
- 11 - الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال: كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْوَحْيُ يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ كدوي النحل، فلبثنا ساعة، فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: "اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا، وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وارض علينا وأرضِنا، ثم قال: لقد أنزل عليَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ" ثُمَّ قَرَأَ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} حَتَّى خَتَمَ العشر (أخرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي) . وقال النسائي في تفسيره عَنْ يَزِيدَ بْنِ بَابَنُوسَ، قَالَ، قُلْنَا لِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: كَيْفَ كَانَ خُلُقِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتِ: كَانَ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ، فَقَرَأَتْ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - حَتَّى انتَهَتْ إِلَى - وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} قَالَتْ: هَكَذَا كَانَ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خلق اللَّهُ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ لَبِنَةً مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، وَلَبِنَةً مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَلَبِنَةً مِنْ زَبَرْجَدَةٍ خَضْرَاءَ، مِلَاطُهَا الْمِسْكُ وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ، وَحَشِيشُهَا الزَّعْفَرَانُ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: انطِقِي، قَالَتْ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ، فَقَالَ اللَّهُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا يُجَاوِرُنِي فِيكِ بَخِيلٌ"؛ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (أخرجه ابن أبي الدنيا ورواه الحافظ البزار والطبراني بنحوه) ، وقوله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} أَيْ قَدْ فَازُوا وَسَعِدُوا وَحَصَلُوا عَلَى الْفَلَاحِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} قال ابن عباس: {خَاشِعُونَ}(2/558)
خائفون ساكنون، وعن علي: الخشوع خشوع القلب، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ خُشُوعُهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ، فَغَضُّوا بِذَلِكَ أَبْصَارَهُمْ، وَخَفَضُوا الْجَنَاحَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم، والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فَرَّغَ قَلْبَهُ لَهَا، وَاشْتَغَلَ بِهَا عَمَّا عَدَاهَا وَآثَرَهَا عَلَى غَيْرِهَا، وحينئذٍ تَكُونُ رَاحَةً لَهُ وَقُرَّةَ عَيْنٍ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُبِّبَ إليَّ الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصلاة» (الحديث أخرجه الإمام أحمد والنسائي عن أنس بن مالك مرفوعاً) وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «يا بلال، أرحنا بالصلاة» (أخرجه الإمام أحمد في المسند) .
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ} أَيْ عَنِ الْبَاطِلِ وَهُوَ يَشْمَلُ الشِّرْكَ كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَالْمَعَاصِي كَمَا قَالَهُ آخَرُونَ، وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كراما} ، قَالَ قَتَادَةُ: أَتَاهُمْ وَاللَّهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ما وقفهم عَنْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} الأكثرون على أن المراد بالزكاة ههنا زَكَاةُ الْأَمْوَالِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَإِنَّمَا فُرِضَتِ الزَّكَاةُ بِالْمَدِينَةِ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ من الهجرة، والظاهر أن أصل الزكاة كان واجباً بمكة، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حصاده} ؛ وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة ههنا زَكَاةُ النَّفْسِ مِنَ الشِّرْكِ وَالدَّنَسِ، كَقَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُرَادًا، وَهُوَ زَكَاةُ النُّفُوسِ وَزَكَاةُ الْأَمْوَالِ، فَإِنَّهُ مِنْ جملة زكاة النفوس، المؤمن الكامل هو الذي يفعل هَذَا وَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} أَيْ وَالَّذِينَ قَدْ حَفِظُوا فُرُوجَهُمْ مِنَ الْحَرَامِ فَلَا يَقَعُونَ فيما نهاهم الله عنه من زنا ولواط، لا يَقْرَبُونَ سِوَى أَزْوَاجَهُمُ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُمْ، أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ مِنَ السَّرَارِيِّ، وَمَنْ تَعَاطَى مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ فَلَا لَوْمَ عَلَيْهِ وَلَا حَرَجَ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ} أَيْ غَيْرَ الْأَزْوَاجِ وَالْإِمَاءِ {فأولئك هُمُ العادون} أي المعتدون. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} قَالَ: فَهَذَا الصَّنِيعُ خَارِجٌ عَنْ هَذَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَقَدْ قَالَ الله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} .
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} أَيْ إِذَا اؤْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا بَلْ يُؤَدُّونَهَا إِلَى أَهْلِهَا، وَإِذَا عَاهَدُوا أَوْ عَاقَدُوا أَوْفَوْا بِذَلِكَ، لَا كَصِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حدَّث كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤتمن خَانَ"، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أَيْ يُوَاظِبُونَ عَلَيْهَا فِي مَوَاقِيتِهَا كَمَا قَالَ ابن مسعود: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَلَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ) ، وَفِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ قَالَ: «الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا» ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَسْرُوقٌ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ(2/559)
يُحَافِظُونَ} يعني مواقيت الصلاة، وقال قتادة: على مواقيتها وروكوعها وَسُجُودِهَا، وَقَدِ افْتَتَحَ اللَّهُ ذِكْرَ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ بِالصَّلَاةِ وَاخْتَتَمَهَا بِالصَّلَاةِ، فَدَلَّ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهَا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مؤمن» . ولما وصفهم تَعَالَى بِالْقِيَامِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ وَالْأَفْعَالِ الرَّشِيدَةِ قَالَ: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، وثبت في الصَّحِيحَيْنِ: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تفجَّر أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلَانِ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَإِنْ مات ودخل النَّارَ وَرِثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أولئك هم الوارثون} (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة) ". وقال مجاهد: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلَانِ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُبْنَى بَيْتُهُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ، وَيُهْدَمُ بَيْتُهُ الَّذِي فِي النَّارِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُهْدَمُ بَيْتُهُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ، وَيُبْنَى بَيْتُهُ الَّذِي فِي النار، فالمؤمنون يرثون منازل الكفار لأنهم أَطَاعُوا رَبَّهُمْ عزَّ وجلَّ بَلْ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا أَيْضًا، وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مسلم عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللَّهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيُقَالُ هَذَا فِكَاكُكَ من النار» ، فاستخلف عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبَا بُرْدَةَ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، قال: فحلف له (أخرجه مسلم عن أبي بردة عن أبيه مرفوعاً) . قُلْتُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} ، وَكَقَوْلِهِ: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وقد قال مجاهد: الجنة هِيَ الْفِرْدَوْسُ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا يُسَمَّى البستان الفردوس إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهِ عِنَبٌ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.(2/560)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
- 12 - وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ
- 13 - ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ
- 14 - ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ
- 15 - ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ
- 16 - ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ ابْتِدَاءِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِن سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ، وَهُوَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ صَلْصَالٍ من حمإ مسنون، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ {مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} قَالَ: من صَفْوَةُ الْمَاءِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ سُلَالَةٍ أَيْ من مني بني آدم، وقال ابن جرير: إنما سمي طِينًا لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتُلَّ آدَمُ مِنَ الطِّينِ، وَهَذَا أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى وَأَقْرَبُ إِلَى السِّيَاقِ، فَإِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خلق مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ، وهو الصلصال الْحَمَأِ الْمَسْنُونِ، وَذَلِكَ مَخْلُوقٌ مِنَ التُّرَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، جَاءَ منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب وبين ذلك» (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ) . {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} هَذَا الضَّمِيرُ عائد(2/560)
عَلَى جِنْسِ الْإِنْسَانِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} أَيْ ضَعِيفٍ كَمَا قَالَ: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} يَعْنِي الرَّحِمُ مُعَدٌّ لِذَلِكَ مُهَيَّأٌ لَهُ {إِلَى قَدَرٍ
مَّعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون} أي مدة معلومة وأجل معين، حتى استحكم ونقل مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَصِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ، ولهذا قال ههنا {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} أَيْ ثُمَّ صَيَّرْنَا النُّطْفَةَ وَهِيَ الْمَاءُ الدَّافِقُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ وَهُوَ ظَهْرُهُ، وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ وَهِيَ عظام صدرها ما بين الترقوة إلى السرة، فَصَارَتْ عَلَقَةً حَمْرَاءَ عَلَى شَكْلِ الْعَلَقَةِ مُسْتَطِيلَةً، قَالَ عِكْرِمَةُ، وَهِيَ دَمٌ {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} وَهِيَ قِطْعَةٌ كَالْبَضْعَةِ مِنَ اللَّحْمِ لَا شَكْلَ فِيهَا وَلَا تَخْطِيطَ {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً} يَعْنِي شَكَّلْنَاهَا ذَاتَ رَأْسٍ وَيَدَيْنِ وَرِجْلَيْنِ بِعِظَامِهَا وَعَصَبِهَا وعروقها. وفي الصحيح: «كُلُّ جَسَدِ ابْنِ آدَمَ يَبْلَى إِلَّا عَجْب (ما استدق في مؤخره) الذَّنَب، منه خلق وفيه يركب» . {فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً} أي جعلنا عَلَى ذَلِكَ مَا يَسْتُرُهُ وَيَشُدُّهُ وَيُقَوِّيهِ، {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} أَيْ ثُمَّ نَفَخْنَا فِيهِ الرُّوحَ فَتَحَرَّكَ وَصَارَ خَلْقًا آخَرَ ذَا سَمْعٍ وبصر وإدراك وحركة واصظراب {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} . عن ابن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِذَا أتت على النطفة أربعة أشهر بعث الله إليهاً ملكاً فنفخ فيها الروح فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} يَعْنِي نفخنا فيه الروح، وقال ابن عباس: يعني فنفخنا فيه الروح (وكذا روي عن أبي سعيد الخدري، ومجاهد، وعكرمة، والشعبي، والضحاك، والحسن البصري) ؛ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} : يَعْنِي نَنْقُلُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، إِلَى أَنْ خَرَجَ طِفْلًا، ثُمَّ نَشَأَ صَغِيرًا، ثُمَّ احْتَلَمَ، ثُمَّ صَارَ شَابًّا، ثُمَّ كَهْلًا، ثُمَّ شَيْخًا، ثُمَّ هرماً، وفي الصحيح: "إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَهَلْ هُوَ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيُخْتَمُ له بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا" (أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ورواه الإمام أحمد) .
وقال عبد الله بن مَسْعُودٍ: إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ طَارَتْ فِي كُلِّ شَعْرٍ وَظُفْرٍ، فَتَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يوماً، ثم تنحدر في الرحم فتكون علقة (رواه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود موقوفاً) ، وفي الصحيح: «يدخل الملك على النطفة بعدما تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَيَقُولُ يَا رب ماذا؟ شقي أَمْ سَعِيدٌ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقُولُ اللَّهُ فَيَكْتُبَانِ، وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَثَرُهُ وَمُصِيبَتُهُ وَرِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصَّحِيفَةُ فَلَا يُزَادُ عَلَى مَا فِيهَا ولا ينقص» (الحديث رواه مسلم والإمام أحمد عن حذيفة بن أسيد الغفاري مرفوعاً) . وروى الحافظ أبو بكر البزار عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ، أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ، أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ خلقها قَالَ: أَيْ رَبِّ ذَكَرٍ أَوْ أَنْثَى؟ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ وَالْأَجَلُ؟ قَالَ: فَذَلِكَ يكتب في
بطن أمه" (الحديث أخرجاه في الصحيحين ورواه الحافظ البزار واللفظ له) . وقوله: {فَتَبَارَكَ(2/561)
اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} : يَعْنِي حِينَ ذَكَرَ قُدْرَتَهُ وَلُطْفَهُ فِي خَلْقِ هَذِهِ النُّطْفَةِ مِنْ حَالٍ إلى حال، ومن شكل إِلَى شَكْلٍ، حَتَّى تَصَوَّرَتْ إِلَى مَا صَارَتْ إِلَيْهِ مِنَ الْإِنْسَانِ السَّوِيِّ الْكَامِلِ الْخَلْقِ، قَالَ: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} ، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} يَعْنِي بَعْدَ هَذِهِ النَّشْأَةِ الْأُولَى مِنَ الْعَدَمِ تَصِيرُونَ إِلَى الْمَوْتِ {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} يَعْنِي النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ، {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخرة} يعني يوم المعاد، وقيام الأرواح إلى الأجساد، فَيُحَاسِبُ الْخَلَائِقَ، وَيُوَفِّي كُلَّ عَامِلٍ عَمَلَهُ إِنْ كان خيرا فخير وإن كان شراً فشر.(2/562)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
- 17 - وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى خَلْقَ الْإِنْسَانِ عَطَفَ بِذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَكَثِيرًا مَا يَذْكُرُ تَعَالَى خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَعَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ من خلق الناس} ، وقوله: {سَبْعَ طَرَآئِقَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وهذه كقوله تعالى: {تُسَبِّحُ له السموات السبع والأرض وَمَن فيهن} ، {أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سموات طباقا} ، {الله الذي خَلَقَ سبع سموات وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شيء علما} ، وهكذا قال ههنا {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ} أي أنه سبحانه لا يحجب عنه سماء ولا أرض، وَلَا جَبَلٌ إِلَّا يَعْلَمُ مَا فِي وَعْرِهِ، وَلَا بَحْرٌ إِلَّا يَعْلَمُ مَا فِي قَعْرِهِ، يَعْلَمُ عَدَدَ مَا فِي الْجِبَالِ وَالتِّلَالِ وَالرِّمَالِ وَالْبِحَارِ وَالْقِفَارِ وَالْأَشْجَارِ، {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مبين} .(2/562)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
- 18 - وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ
- 19 - فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
- 20 - وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ
- 21 - وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
- 22 - وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
يَذْكُرُ تَعَالَى نِعَمَهُ عَلَى عَبِيدِهِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى فِي إِنْزَالِهِ الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ بِقَدَرٍ، أَيْ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ لَا كَثِيرًا فَيُفْسِدُ الْأَرْضَ وَالْعُمْرَانَ، وَلَا قَلِيلًا فَلَا يَكْفِي الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ، بَلْ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ مِنَ السَّقْيِ وَالشُّرْبِ وَالِانتِفَاعِ بِهِ، حَتَّى إِنَّ الْأَرَاضِيَ الَّتِي تَحْتَاجُ مَاءً كَثِيرًا لِزَرْعِهَا وَلَا تَحْتَمِلُ دِمْنَتُهَا إِنْزَالَ الْمَطَرِ عَلَيْهَا يَسُوقُ إِلَيْهَا الْمَاءَ مِنْ بِلَادٍ أُخْرَى، كَمَا فِي أَرْضِ مِصْرَ، وَيُقَالُ لَهَا الْأَرْضُ الْجُرُزُ يَسُوقُ اللَّهُ إِلَيْهَا مَاءَ النِّيلِ مَعَهُ طِينٌ أَحْمَرُ يَجْتَرِفُهُ مِنْ بِلَادِ الْحَبَشَةِ فِي زَمَانِ أَمْطَارِهَا، فَيَأْتِي الْمَاءُ يَحْمِلُ طِينًا أَحْمَرَ، فَيَسْقِي أَرْضَ مِصْرَ، وَيَقَرُّ الطِّينُ عَلَى أَرْضِهِمْ لِيَزْرَعُوا فِيهِ، لِأَنَّ أَرْضَهُمْ سِبَاخٌ يَغْلِبُ عَلَيْهَا الرِّمَالُ، فَسُبْحَانَ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ الرَّحِيمِ الْغَفُورِ، وَقَوْلُهُ: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} أَيْ جَعَلَنَا الْمَاءَ إِذَا نَزَلَ مِنَ السَّحَابِ يَخْلُدُ فِي الْأَرْضِ، وجعلنا في الأرض قابلية إليه، تَشْرَبُهُ وَيَتَغَذَّى بِهِ مَا فِيهَا مِنَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} أي لو شئنا أن لا تمطر لفعلنا، ولو شئنا أذى لصرفناه عنكم إلى السباخ والبراري وَالْقِفَارِ لَفَعَلْنَا، وَلَوْ شِئْنَا لَجَعَلْنَاهُ أُجَاجًا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لِشُرْبٍ وَلَا لِسَقْيٍ لَفَعَلْنَا،(2/562)
ولو شئنا إِذَا نَزَلَ فِيهَا يَغُورُ إِلَى مَدًى لَا تَصِلُونَ إِلَيْهِ وَلَا تَنْتَفِعُونَ بِهِ لَفَعَلْنَا، وَلَكِنْ بلطفه ورحمته ينزل عليكم المطر مِنَ السَّحَابِ عَذْبًا فُرَاتًا زُلَالًا، فَيُسْكِنُهُ فِي الْأَرْضِ وَيَسْلُكُهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ، فَيَفْتَحُ الْعُيُونَ والأنهار، ويسقي به الزروع والثمار، تشربون منه ودوابكم وأنعامكم، وتغتسلون منه وتتطهرون منه وتتنظفون، فله الحمد والمنة.
وقوله تعالى: {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} يعني فأخرجنا لكم بما أنزلنا من السماء جَنَّاتٍ أَيْ بَسَاتِينَ وَحَدَائِقَ {ذَاتَ بَهْجَةٍ} أَيْ ذَاتَ مَنْظَرٍ حَسَنٍ، وَقَوْلُهُ: {مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} أَيْ فِيهَا نَخِيلٌ وَأَعْنَابٌ، وَهَذَا مَا كَانَ يَأْلَفُ أَهْلُ الْحِجَازِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّيْءِ وَبَيْنَ نَظِيرِهِ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ أَهْلِ إِقْلِيمٍ عِنْدَهُمْ مِنَ الثِّمَارِ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَا يَعْجِزُونَ عَنِ الْقِيَامِ بِشُكْرِهِ، وَقَوْلُهُ: {لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ} أَيْ مِنْ جَمِيعِ الثِّمَارِ، كَمَا قَالَ: {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ ومن كل الثمرات} ، وقوله: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} مَعْطُوفٌ عَلَى شَيْءٍ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: تَنْظُرُونَ إِلَى حُسْنِهِ وَنُضْجِهِ وَمِنْهُ تَأْكُلُونَ، وَقَوْلُهُ: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ} يَعْنِي الزَّيْتُونَةَ، وَالطُّورُ هُوَ الْجَبَلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا يُسَمَّى طُورًا إِذَا كان فيه شجر، فإذا عَرِيَ عَنْهَا سُمِّيَ جَبَلًا لَا طُورًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. {وَطُورُ سَيْنَآءَ} هُوَ طُورُ سِينِينَ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَآ حَوْلَهُ مِنَ الْجِبَالِ الَّتِي فِيهَا شَجَرُ الزَّيْتُونِ، وَقَوْلُهُ: {تَنبُتُ بِالدُّهْنِ} أي تَنْبُتُ الدُّهْنَ، كَمَا فِي قَوْلِ الْعَرَبِ: أَلْقَى فلان بيده أي يده، وَلِهَذَا قَالَ: {وَصِبْغٍ} أَيْ أُدْمٍ قَالَهُ قَتَادَةُ {لِّلآكِلِيِنَ} أَيْ فِيهَا مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنَ الدهن والاصطباغ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مباركة» (أخرجه الإمام أحمد عن مالك بن ربيعة الساعدي مرفوعاً) . وروى عبد بن حميد في مسنده عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ائْتَدِمُوا بِالزَّيْتِ وَادَّهِنُوا بِهِ، فإنه يخرج من شجرة مباركة» . وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} يَذْكُرُ تَعَالَى مَا جَعَلَ لِخَلْقِهِ فِي الْأَنْعَامِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَ مِنْ ألْبَانِهَا الْخَارِجَةِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ وَيَأْكُلُونَ مِنْ حُمْلَانِهَا، وَيَلْبَسُونَ مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ، وَيَرْكَبُونَ ظُهُورَهَا، وُيُحَمِّلُونَهَا الْأَحْمَالَ الثِّقَالَ إِلَى الْبِلَادِ النَّائِيَةِ عَنْهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لرؤوف رحيم} ، وقال تَعَالَى: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يشكرون} .(2/563)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
- 23 - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ
- 24 - فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَآئِنَا الْأَوَّلِينَ
- 25 - إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّى حِينٍ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى قَوْمِهِ، لِيُنْذِرَهُمْ عَذَابَ اللَّهِ وَبَأْسَهُ الشَّدِيدَ، وَانتِقَامَهُ مِمَّنْ أَشْرَكَ بِهِ وَخَالَفَ أَمْرَهُ وكذَّب رُسُلَهُ {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أَيْ أَلَا تَخَافُونَ مِنَ اللَّهِ فِي إِشْرَاكِكُمْ بِهِ؟ فَقَالَ الْمَلَأُ - وَهُمُ السَّادَةُ وَالْأَكَابِرُ مِنْهُمْ - {مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ}(2/563)
يَعْنُونَ يَتَرَفَّعُ عَلَيْكُمْ وَيَتَعَاظَمُ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ وَهُوَ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فَكَيْفَ أُوحِيَ إِلَيْهِ دُونَكُمْ؟! {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً} أَيْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ نَبِيًّا لَبَعَثَ مَلَكًا مِنْ عِنْدِهِ وَلَمْ يَكُنْ بَشَرًا {مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا} أَيْ بِبَعْثَةِ الْبَشَرِ {فِي آبَآئِنَا الْأَوَّلِينَ} يَعْنُونَ بِهَذَا أسلافهم وأجدادهم في الدهور الْمَاضِيَةَ، وَقَوْلُهُ: {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أَيْ مَجْنُونٌ فِيمَا يَزْعُمُهُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ إِلَيْكُمْ، وَاخْتَصَّهُ مِنْ بَيْنِكُمْ بِالْوَحْيِ {فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّى حِينٍ} أَيِ انتَظِرُوا بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، وَاصْبِرُوا عَلَيْهِ مُدَّةً حَتَّى تَسْتَرِيحُوا منه.(2/564)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
- 26 - قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ
- 27 - فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ
- 28 - فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
- 29 - وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ
- 30 - إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيات وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ
يخبر تعالى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ دَعَا رَبَّهُ ليستنصره عَلَى قَوْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر} ، وقال ههنا: {رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِصَنْعَةِ السَّفِينَةِ وَإِحْكَامِهَا وَإِتْقَانِهَا، وَأَنْ يَحْمِلَ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، أَيْ ذَكَرًا وَأُنْثَى مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْحَيَوَاناتِ وَالنَّبَاتَاتِ وَالثِّمَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِن يَحْمِلَ فِيهَا أهله {إِلاَّ مَن سَبَقَ عليه القول مِنْهُمْ} أي مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول بِالْهَلَاكِ، وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ كَابْنِهِ وَزَوْجَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} أَيْ عِنْدَ مُعَايَنَةِ إِنْزَالِ الْمَطَرِ الْعَظِيمِ لَا تَأْخُذَنَّكَ رَأْفَةٌ بِقَوْمِكَ وَشَفَقَةٌ عَلَيْهِمْ، وَطَمَعٌ فِي تَأْخِيرِهِمْ لعلَّهم يُؤْمِنُونَ، فَإِنِّي قَدْ قَضَيْتُ أَنَّهُمْ مُغْرَقُونَ على ما هم فيه مِنَ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْقِصَّةُ مَبْسُوطَةً فِي سُورَةِ هُودٍ بِمَا يُغْنِي عَنْ إِعَادَةِ ذلك ههنا، وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، كَمَا قَالَ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لتسووا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ، وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إِلَى ربنا لمنقلبون} ، وَقَدِ امْتَثَلَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مجريها ومرساها} ، فَذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ ابْتِدَاءِ سَيْرِهِ وَعِنْدَ انتهائه. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} أَيْ إِنَّ فِي هَذَا الصَّنِيعِ - وَهُوَ إِنْجَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِهْلَاكُ الْكَافِرِينَ - لِآيَاتٍ أَيْ لَحُجَجًا وَدَلَالَاتٍ وَاضِحَاتٍ عَلَى صِدْقِ الأنبياء بما جَاءُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ تَعَالَى فاعل لما يشاء قادر عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَقَوْلُهُ: {وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} أَيْ لَمُخْتَبِرِينَ لِلْعِبَادِ بِإِرْسَالِ المرسلين.(2/564)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
- 31 - ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ
- 32 - فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ
- 33 - وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ
- 34 - وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ(2/564)
- 35 - أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ
- 36 - هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ
- 37 - إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ
- 38 - إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ
- 39 - قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ
- 40 - قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ
- 41 - فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْشَأَ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ قَرْنًا آخَرِينَ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمْ عَادٌ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَخْلَفِينَ بَعْدَهُمْ، وقيل: المراد بهؤلاء ثمود، لقوله: {فأخذتهم الصحية بِالْحَقِّ} ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فكذبوه وخالفوه وأبوا اتباعه لكونه بشراً مثلهم، وكذبوا بلقاء الله، وَقَالُوا: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} أي بعد ذَلِكَ، {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أَيْ فِيمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنَ الرسالة وَالْإِخْبَارِ بِالْمَعَادِ، وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ * قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} أَيِ اسْتَفْتَحَ عَلَيْهِمُ الرَّسُولُ وَاسْتَنْصَرَ رَبَّهُ عَلَيْهِمْ فَأَجَابَ دُعَاءَهُ، {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} أَيْ بِمُخَالَفَتِكَ وَعِنَادِكَ فيما جئتهم به، {فأخذتهم الصحيه بِالْحَقِّ} أَيْ وَكَانُوا يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ بكفرهم وطيغانهم، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ صَيْحَةٌ مَعَ الرِّيحِ الصَّرْصَرِ الْعَاصِفِ الْقَوِيِّ الْبَارِدَةِ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بأمر بها، {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إلاّ مساكنهم} ، وَقَوْلُهُ: {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً} أَيْ صَرْعَى هَلْكَى كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَهُوَ الشَّيْءُ الْحَقِيرُ التَّافِهُ الْهَالِكُ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، {فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، كَقَوْلِهِ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ} أَيْ بِكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَمُخَالَفَةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَلْيَحْذَرِ السَّامِعُونَ أَنْ يُكَذِّبُوا رَسُولَهُمْ.(2/565)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
- 42 - ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ
- 43 - مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ
- 44 - ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تترا كلما جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ} أَيْ أَمَّمَا وَخَلَائِقَ {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} يعني بل يؤخذون على حَسْبَ مَا قَدَّرَ لَهُمْ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْمَحْفُوظِ وَعَلِمَهُ، قَبْلَ كَوْنِهِمْ أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ، وجيلاً بعد جيل، {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} ؟؟؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يعني يتبع بعضهم بعضاً، وهذا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} ، وقوله: {كلما جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ} يَعْنِي جُمْهُورَهُمْ وَأَكْثَرَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يِا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يأيتهم من رسول إلا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} ، وَقَوْلُهُ: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً} أَيْ أَهْلَكْنَاهُمْ، كَقَوْلِهِ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن الْقُرُونِ مَنْ بَعْدِ نُوحٍ} ، وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أَيْ أَخْبَارًا وَأَحَادِيثَ لِلنَّاسِ، كَقَوْلِهِ: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ ممزق} .(2/565)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
- 45 - ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
- 46 - إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ [ص:566]
- 47 - فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ
- 48 - فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ الْمُهْلَكِينَ
- 49 - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَ رَسُولَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَخَاهُ هَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، بِالْآيَاتِ وَالْحُجَجِ الدَّامِغَاتِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَاتِ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ اسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِهِمَا وَالِانقِيَادِ لِأَمْرِهِمَا، لِكَوْنِهِمَا بَشَرَيْنِ كَمَا أَنْكَرَتِ الْأُمَمُ الْمَاضِيَةُ بِعْثَةَ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ، تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ، فأهللك اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ وَأَغْرَقَهُمْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَجْمَعِينَ، وَأَنْزَلَ عَلَى مُوسَى الْكِتَابَ - وَهُوَ التَّوْرَاةُ - فيها أحكامه وأوامره ونواهيه، وذلك بعد أن قَصَمَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَالْقِبْطَ، وَأَخْذَهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، وَبَعْدَ أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ التَّوْرَاةَ لَمْ يُهْلِكْ أُمَّةً بِعَامَّةٍ، بَلْ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِقِتَالِ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لعلهم يتذكرون} .(2/565)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
- 50 - وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبَرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنَّهُ جَعَلَهُمَا آيَةً لِلنَّاسِ، أَيْ حُجَّةً قَاطِعَةً عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ، فَإِنَّهُ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ عِيسَى مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، وَخَلَقَ بَقِيَّةَ النَّاسِ مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى. وَقَوْلُهُ: {وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَى ربوة ذات قَرَارٍ وَمَعِينٍ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: الرَّبْوَةُ: الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ، وهو أحسن ما يكون فيه النيات، {ذَاتِ قَرَارٍ} يَقُولُ ذَاتُ خِصْبٍ {وَمَعِينٍ} يَعْنِي ماء ظاهراً (وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وقتادة) ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: رَبْوَةٌ مُسْتَوِيَةٌ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}
اسْتَوَى الْمَاءُ فِيهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ: {وَمَعِينٍ} الْمَاءُ الْجَارِي، ثُمَّ اختلف المفسرون في مكان هذه الربوة؟ فقال سعيد بن المسيب: هي دمشق، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} قَالَ: أَنْهَارُ دمشق، وقال مجاهد {وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ} قَالَ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَأُمُّهُ حِينَ أَوَيَا إِلَى غَوْطَةِ دِمَشْقَ وَمَا حَوْلَهَا، وَقَالَ عَبْدُ الرزاق عن أبي هريرة قال: هي الرملة من فلسطين، وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَعِينُ الْمَاءُ الْجَارِي وَهُوَ النَّهْرُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سريا} ، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وقَتَادَةُ: إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ، هُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، فَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الأخرى، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وهذا أَوْلَى مَا يُفَسَّرُ بِهِ، ثُمَّ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، ثم الآثار.(2/566)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
- 51 - يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
- 52 - وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ
- 53 - فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ
- 54 - فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ
- 55 - أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ
- 56 - نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ
يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجْمَعِينَ بِالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ، وَالْقِيَامِ بِالصَّالِحِ مِنَ الْأَعْمَالِ،(2/566)
فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْحَلَالَ عَوْنٌ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَقَامَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِهَذَا أَتَمَّ الْقِيَامِ، وَجَمَعُوا بَيْنَ كُلِّ خَيْرٍ قَوْلًا وَعَمَلًا وَدَلَالَةً وَنُصْحًا، فَجَزَاهُمُ اللَّهُ عَنِ الْعِبَادِ خَيْرًا، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} قَالَ: أمَا والله ما أمركم بِأَصْفَرِكُمْ وَلَا أَحْمَرِكُمْ وَلَا حُلْوِكُمْ وَلَا حَامِضِكُمْ، وَلَكِنْ قَالَ: انتَهُوا إِلَى الْحَلَالِ مِنْهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ {كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} : يعني الحلال، وكان عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ، وفي الصحيح: «وما مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ» قَالُوا: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ وأنا كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ» ، وَفِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَأْكُلُ منكسب يده» ، وقد ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طيِّب لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيَّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ، وَقَالَ: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، ومطعَمُه حرامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بالحرام فأنى يستجابه لذلك" (رواه مسلم والترمذي والإمام أحمد واللفظ له) ؟! وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أَيْ دِينُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينٌ وَاحِدٌ، وَمِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فاتقون} ، وَقَوْلُهُ: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً} أَيِ الْأُمَمُ التي بعثت إِلَيْهِمُ الْأَنْبِيَاءُ {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أَيْ يَفْرَحُونَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، وَلِهَذَا قَالَ مُتَهَدِّدًا لهم ومتوعداً {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} أَيْ فِي غَيِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ {حتى حِينٍ} أي إلى حين هلاكهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} ، وَقَالَ تَعَالَى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .
وقوله تَعَالَى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ}
يَعْنِي أَيُظَنُّ هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورُونَ أَنَّ مَا نُعْطِيهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، لِكَرَامَتِهِمْ عَلَيْنَا وَمَعَزَّتِهِمْ عِنْدَنَا، كَلَّا لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ فِي قَوْلِهِمْ {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} لقد أخطأوا فِي ذَلِكَ وَخَابَ رَجَاؤُهُمْ، بَلْ إِنَّمَا نَفْعَلُ بهم ذلك استدرجاً وَإِنْظَارًا وَإِمْلَاءً، وَلِهَذَا قَالَ: {بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا} الآية، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا لزلفى إلا من آمن وعمل صالحا} الآية، والآيات في هذا كثيرة. قال قتادة: مُكِرَ وَاللَّهِ بِالْقَوْمِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، يَا ابْنَ آدَمَ فَلَا تَعْتَبِرِ النَّاسَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدين فقد أحبه، والذي نفس محمد بِيَدِهِ لَا يُسْلم عَبْدٌ حَتَّى يُسْلِمَ قلبُه وَلِسَانُهُ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» قالوا: وما بوائقه يا رسول اللَّهِ؟ قَالَ: «غِشُّهُ وَظُلْمُهُ، وَلَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مالاً حَرَامٍ فَيُنْفِقَ مِنْهُ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلَ مِنْهُ، وَلَا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، وإن الخبيث لا يمحو الخبيث» (أخرجه الإمام أحمد في المسند عن ابن مسعود مرفوعاً) .(2/567)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
- 57 - إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ
- 58 - وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ
- 59 - وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ
- 60 - وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ
- 61 - أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ
يَقُولُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ} أَيْ هُمْ مَعَ إِحْسَانِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ، مُشْفِقُونَ مِنَ اللَّهِ خَائِفُونَ مِنْهُ، وَجِلُونَ مِنْ مَكْرِهِ بِهِمْ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ جَمَعَ إِحْسَانًا وَشَفَقَةً، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ جَمَعَ إِسَاءَةً وَأَمْنًا، {وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ} أَيْ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وكتبه} أي أيقنت أن ما كان إنما هُوَ عَنْ قَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ، وَمَا شَرَعَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِنْ كَانَ أَمْرًا فَمِمَّا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَإِنْ كَانَ نَهْيًا فَهُوَ مِمَّا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ، وَإِنْ كَانَ خَيْرًا فَهُوَ حَقٌّ، كَمَا قال الله: {وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ} أَيْ لَا يعبدون معه غيره بل يوحدنه ويعلمون أنه لا إله إلا الله،
وأنه لا نظير له ولا كفء. وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} أَيْ يُعْطُونَ الْعَطَاءَ وهم خائفون وجلون إِنَّ لا يُتَقَبَّلَ مِنْهُمْ، لِخَوْفِهِمْ أَنْ يَكُونُوا قَدْ قَصَّرُوا فِي الْقِيَامِ بِشُرُوطِ الْإِعَطَاءِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الإشفاق والاحتياط، كما قال الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ وَيَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ؟ قال: "لا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ! وَلَكِنَّهُ الَّذِي يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ (ورواه الترمذي وابن أبي حاتم بنحوه وقال: لا يا ابنة الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يخافون ألا يتقبل منهم) . {أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات} "، وَقَدْ قَرَأَ آخَرُونَ هَذِهِ الْآيَةَ {وَالَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} : أَيْ يَفْعَلُونَ مَا يفعلون وهو خَائِفُونَ، وَرُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قرأها كذلك، وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ قَالَ: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} فَجَعَلَهُمْ مِنَ السَّابِقِينَ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى لأوشك أن لا يَكُونُوا مِنَ السَّابِقِينَ بَلْ مِنَ الْمُقْتَصِدِينَ أَوِ المقصرين، والله أعلم.(2/568)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
- 62 - وَلَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
- 63 - بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ
- 64 - حَتَّى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب إِذَا هم يجأرون
- 65 - لاَ تَجْأَرُواْ الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنْصَرُونَ
- 66 - قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ
- 67 - مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَدْلِهِ فِي شَرْعِهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا، أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا: أَيْ إِلَّا مَا تُطِيقُ حَمْلَهُ وَالْقِيَامَ بِهِ، وَأَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُحَاسِبُهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ، الَّتِي كَتَبَهَا عَلَيْهِمْ فِي كِتَابٍ مَسْطُورٍ لَا يَضِيعُ مِنْهُ شيء، ولهذا(2/568)
قَالَ: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ} يَعْنِي كِتَابَ الْأَعْمَالِ، {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أَيْ لَا يُبْخَسُونَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا، وَأَمَّا السَّيِّئَاتُ فَيَعْفُو وَيَصْفَحُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهَا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ قَالَ مُنْكِرًا عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} أي في غَفْلَةٍ وَضَلَالَةٍ مِنْ هَذَا، أَيِ الْقُرْآنُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ
مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ} أَيْ سَيِّئَةٌ مِن دُونِ ذَلِكَ يَعْنِي الشِّرْكَ
{هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} ، قال: لا بد أن يعملوها، وَقَالَ آخَرُونَ {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} : أي قد كتبت عَلَيْهِمْ أَعْمَالٌ سَيِّئَةٌ لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلُوهَا قَبْلَ مَوْتِهِمْ لَا مَحَالَةَ لِتَحِقَّ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ العذاب (وروي نحو هذا عن مقاتل والسدي وابن أَسْلَمَ) ؛ وَهُوَ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ حَسَنٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا» ، وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} يعني حتى إِذَا جَآءَ مترفيهم - وهم الْمُنَعَّمُونَ فِي الدُّنْيَا - عذابُ اللَّهِ وبأسُه ونقمتُه بهم {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} أي يصرخون ويستغيثون، كما قال تعالى: {ذرني والمكذبين أُوْلِي النعمة ومهلهم قليلاً} ، وقال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قلبهم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مناص} ، وقوله: {لاَ تَجْأَرُواْ الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ} أَيْ لَا يجيركم أحد مِمَّا حَلَّ بِكُمْ سَوَاءٌ جَأَرْتُمْ أَوْ سَكَتُّمْ لَا مَحِيدَ وَلَا مَنَاصَ وَلَا وَزَرَ، لَزِمَ الْأَمْرُ وَوَجَبَ الْعَذَابُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَكْبَرَ ذُنُوبِهِمْ فَقَالَ: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} : أَيْ إِذَا دُعِيتُمْ أَبَيْتُمْ وَإِنْ طُلِبْتُمُ امْتَنَعْتُمْ، {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِيِّ الكبير} ، وقوله: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} الضمير للقرآن كَانُوا يَسْمُرُونَ وَيَذْكُرُونَ الْقُرْآنَ بِالْهَجْرِ مِنَ الْكَلَامِ: إِنَّهُ سِحْرٌ، إِنَّهُ شِعْرٌ، إِنَّهُ كَهَانَةٌ إِلَى غير ذلك من الأقوال الباطلة. وقيل: أَنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانُوا يَذْكُرُونَهُ فِي سَمَرِهِمْ بِالْأَقْوَالِ الْفَاسِدَةِ وَيَضْرِبُونَ لَهُ الْأَمْثَالَ الْبَاطِلَةَ، مِنْ أَنَّهُ شَاعِرٌ، أَوْ كَاهِنٌ، أو ساحر، أو كذاب، أو مجنون. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلُهُ: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} أَيْ بِالْبَيْتِ يفتخرون به وتعتقدون أنهم أولياءه وليسوا به، كما قال ابن عباس: إنما كره السمر حين نزلت الْآيَةُ {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} فَقَالَ: مُسْتَكْبِرِينَ بالبيت، يقولون: نحن أهله {سَامِراً} قال: كانوا يتكبرون ويسمرون فيه ولا يعمرونه ويهجرونه (أخرجه النسائي في التفسير عن ابن عباس) .(2/569)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
- 68 - أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ
- 69 - أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ
- 70 - أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ
- 71 - وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ
- 72 - أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
- 73 - وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
- 74 - وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ
- 75 - وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(2/569)
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فِي عَدَمِ تفهمهم للقرآن العظيم وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ خُصُّوا بِهَذَا الْكِتَابِ الَّذِي لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ عَلَى رَسُولٍ أكمل منه ولا أشرف، فَكَانَ اللَّائِقُ بِهَؤُلَاءِ أَنْ يُقَابِلُوا النِّعْمَةَ الَّتِي أسداها الله لهم بِقَبُولِهَا وَالْقِيَامِ بِشُكْرِهَا وَتَفَهُّمِهَا وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا آنَاءَ الليل وأطراف النهار، ثُمَّ قَالَ مُنْكِرًا عَلَى الْكَافِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أي أنهم لَا يَعْرِفُونَ مُحَمَّدًا وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَصِيَانَتَهُ الَّتِي نشأ بها فيهم، وَلِهَذَا قَالَ (جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلنَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إن الله بعث فينا رَسُولًا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ، وَهَكَذَا قَالَ (الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ) لِنَائِبِ كِسْرَى حِينَ بَارَزَهُمْ، وكذلك قال (أبو سفيان) لِمَلِكِ الرُّومِ هِرَقْلَ حِينَ سَأَلَهُ وَأَصْحَابَهُ عَنْ صِفَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَسَبِهِ وَصِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَكَانُوا بَعْدُ كَفَّارًا لَمْ يُسْلِمُوا، ومع هذا لم يمكنهم إِلَّا الصِّدْقُ فَاعْتَرَفُوا بِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} يَحْكِي قَوْلَ الْمُشْرِكِينَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ تقوَّل الْقُرْآنَ أي افتراه من عنده، وأن بِهِ جُنُونًا لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ، وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّ قُلُوبَهُمْ لَا تُؤْمِنُ بِهِ، وَهُمْ يعلمون بطلان ما يقولون في القرآن، وَقَدْ تَحَدَّاهُمْ وَجَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَأْتُوا بمثله إن اسْتَطَاعُوا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَبَدَ الْآبِدِينَ، وَلِهَذَا قَالَ: {بَلْ جَآءَهُمْ بالحق وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} ، قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ رَجُلًا فَقَالَ: «أَسْلِمْ» فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّكَ لَتَدْعُونِي إِلَى أَمْرٍ أَنَا لَهُ كَارِهٌ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ كُنْتَ كَارِهًا» . وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَقِيَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ» فَتَصَعَّدَهُ ذَلِكَ وَكَبُرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ كُنْتَ فِي طَرِيقٍ وَعِرٍ وَعِثٍ، فَلَقِيتَ رَجُلًا تَعْرِفُ وَجْهَهُ وَتَعْرِفُ نَسَبَهُ، فَدَعَاكَ إلى طريق واسع سهل أكنت تتبعه؟» قال: نعم، قال: «فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّكَ لَفِي أَوْعَرِ مِنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ لَوْ قَدْ كُنْتَ عَلَيْهِ، وإني لأدعوك لأسهل من ذلك لو دعيت إليه» . وَقَوْلُهُ: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} قال مجاهد وَالسُّدِّيُّ: الْحَقُّ هُوَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وَالْمُرَادُ لَوْ أَجَابَهُمُ اللَّهُ إِلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمْ من شرع الْهَوَى وَشَرَعَ الْأُمُورَ عَلَى وِفْقِ ذَلِكَ، لَفَسَدَتِ السموات والأرض ومن فيهن أي لفساد أهوائهم واختلافهم، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: {لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق} الآية.
فَفِي هَذَا كُلِّهِ تَبْيِينُ عَجْزِ الْعِبَادِ وَاخْتِلَافِ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْكَامِلُ فِي جميع صفاته وأقواله وأفعاله وتدبيره لخلقه تعالى وتقدس، ولهذا قال: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} أي الْقُرْآنَ {فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} ، وَقَوْلُهُ: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً} قَالَ الْحَسَنُ: أَجْرًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: جُعْلاً {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} أَيْ أَنْتَ لَا تَسْأَلُهُمْ أُجْرَةً وَلَا جَعْلًا وَلَا شَيْئًا عَلَى دَعْوَتِكَ إِيَّاهُمْ إِلَى الْهُدَى، بَلْ أَنْتَ فِي ذَلِكَ تَحْتَسِبُ عِنْدَ اللَّهِ جَزِيلَ ثَوَابِهِ، كَمَا قَالَ: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} ، وَقَالَ: {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين} ، وقال: {اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} ، وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ مَلَكَانِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَالْآخِرُ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيْهِ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِهِ: اضْرِبْ مَثَل هَذَا وَمَثَلَ أُمَّتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ مثل هذا وَمَثَلَ أُمَّتِهِ كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفَرٍ انْتَهَوْا إِلَى رَأْسِ مَفَازَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مِنَ الزَّادِ مَا يَقْطَعُونَ بِهِ الْمَفَازَةَ وَلَا مَا يَرْجِعُونَ بِهِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمْ رَجُلٌ فِي حُلَّةٍ حبرة، فقال: أرأيتم إن أوردتكم رِيَاضًا مُعْشِبَةً وَحِيَاضًا(2/570)
رواء تتبعوني؟ فقالوا: نعم، قال: فانطلق بهم وأوردهم رياضاً معشبة رُوَاءً، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا وَسَمِنُوا، فَقَالَ لَهُمْ: أَلَمْ ألفَكم عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَجَعَلْتُمْ لِي إِنْ وَرَدْتُ بكم رياضاً معشبة رِوَاءً أَنْ تَتَّبِعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ رِيَاضًا أَعْشَبُ مِنْ هَذِهِ، وَحِيَاضًا هِيَ أَرَوَى مِنْ هَذِهِ، فَاتَّبِعُونِي، قَالَ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: صَدَقَ وَاللَّهِ لنتبعنَّه، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: قَدْ رَضِينَا بِهَذَا نُقِيمُ عَلَيْهِ (أخرجه الإمام أحمد عن ابن عباس مرفوعاً) . وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي مُمْسِكٌ بِحَجْزِكُمْ هلَّم عَنِ النَّارِ، هلَّم عن النار وتغلبونني، تتقاحمون فِيهَا تَقَاحُمَ الْفَرَاشَ وَالْجَنَادِبِ، فَأُوشِكُ أَنْ أُرْسِلَ حَجْزَكُمْ وَأَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فترِدون عَلَيَّ مَعًا وَأَشْتَاتًا، أَعْرِفُكُمْ بِسِيمَاكُمْ وَأَسْمَائِكُمْ كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ الْغَرِيبَ مِنَ الْإِبِلِ فِي إِبِلِهِ، فَيُذْهَبُ بِكُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ، فَأُنَاشِدُ فِيكُمْ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَيْ رَبِّ قَوْمِي، أَيْ رَبِّ أُمَّتِي، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي ما أحدثوا بعدك، إنهم كانوا بعدك يمشون القهقرى على أعقابهم" (أخرجه الحافظ الموصلي وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنُ الإسناد) . وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} أَيْ لَعَادِلُونَ جَائِرُونَ مُنْحَرِفُونَ، تَقُولُ الْعَرَبُ: نَكَبَ فَلَانٌ عَنِ الطَّرِيقِ إِذَا زَاغَ عَنْهَا، وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ غِلَظِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ، بِأَنَّهُ لَوْ أزاح عنهم الضر وَأَفْهَمَهُمُ الْقُرْآنَ لَمَا انْقَادُوا لَهُ، وَلَاسْتَمَرُّوا عَلَى كفرهم وعنادهم وطيغانهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} فَهَذَا مِنْ بَابِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِمَا لَا يكون لو كان كيف يكون، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ مَا فِيهِ (لَوْ) فَهُوَ مِمَّا لَا يَكُونُ أَبَدًا.(2/571)
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
- 76 - وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ وما يَتَضَرَّعُونَ
- 77 - حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ
- 78 - وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ
- 79 - وَهُوَ الذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
- 80 - وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
- 81 - بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ
- 82 - قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
- 83 - لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} أَيِ ابْتَلَيْنَاهُمْ بِالْمَصَائِبِ وَالشَّدَائِدِ، {فَمَا اسْتَكَانوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أَيْ فَمَا رَدَّهُمْ ذَلِكَ عَمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمُخَالَفَةِ بَلِ استمروا على غيهم وضلالهم، ما اسْتَكَانُوا أَيْ مَا خَشَعُوا {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أَيْ مَا دَعَوْا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ فَقَدْ أَكَلْنَا الْعِلْهِزَ يَعْنِي الْوَبَرَ وَالدَّمَ - فَأَنْزَلَ الله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب فَمَا استكانوا} (أخرجه ابن أبي حاتم والنسائي، وأصله في الصحيحين) ، وأصله فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى قُرَيْشٍ حِينَ اسْتَعْصَوْا فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ» . وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا(2/571)
فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} ، أَيْ حَتَّى إِذَا جَاءَهُمْ أمر الله وجاءتهم الساعة بغتة، فأخذهم من عذاب اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أُبْلِسُوا مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَأَيِسُوا مِنْ كُلِّ رَاحَةٍ وَانقَطَعَتْ آمَالُهُمْ وَرَجَاؤُهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى نعمه على عباده بأن جَعَلَ لَهُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ وَهِيَ الْعُقُولُ التي يذكرون بِهَا الْأَشْيَاءَ، وَيَعْتَبِرُونَ بِمَا فِي الْكَوْنِ مِنَ الآيات الدالة على وحدانية الله، وَأَنَّهُ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ لِمَا يَشَاءُ، وَقَوْلُهُ: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي ما أَقَلَّ شُكْرِكُمْ لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عليكم، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ وَسُلْطَانِهِ الْقَاهِرِ، فِي بَرْئَةِ الْخَلِيقَةِ وَذَرْئِهِ لَهُمْ فِي سَائِرِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ الْأَوَّلِينَ مِنْهُمْ والآخرين لميقات يوم معلوم، وَلِهَذَا قَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أَيْ يُحْيِي الرِّمَمَ وَيُمِيتُ الْأُمَمَ، {وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أَيْ وَعَنْ أَمْرِهِ تَسْخِيرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَطْلُبُ الْآخَرَ طَلَبًا حَثِيثًا، يَتَعَاقَبَانِ لَا يَفْتُرَانِ وَلَا يَفْتَرِقَانِ بِزَمَانِ غَيْرِهِمَا كَقَوْلِهِ: {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ الْقَمَرَ ولا الليل سابق النهار} الآية، وَقَوْلُهُ: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أَيْ أَفَلَيِسَ لَكُمْ عُقُولٌ تَدُلُّكُمْ عَلَى الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ الَّذِي قَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وَخَضَعَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ؟ ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْ مُنْكِرِي الْبَعْثِ الَّذِينَ أَشْبَهُوا مَنْ
قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ {بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} يَعْنِي يَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَ ذَلِكَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِمْ إِلَى الْبِلَى، {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} يعنون الْإِعَادَةَ مُحَالٌ إِنَّمَا يُخْبِرُ بِهَا مَنْ تَلَقَّاهَا عن كتب الأولين واختلافهم، وهذا الإنكار والتكذيب منهم كقوله إِخْبَارًا عَنْهُمْ {أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كرة خاسرة} ، {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} الآيات.(2/572)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
- 84 - قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
- 85 - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
- 86 - قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
- 87 - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ
- 88 - قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
- 89 - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ
- 90 - بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
يُقَرِّرُ تَعَالَى وَحْدَانِيَّتَهُ وَاسْتِقْلَالَهُ بِالْخَلْقِ وَالتَّصَرُّفِ والملك {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَآ؟} أَيْ مَنْ مَالِكُهَا الَّذِي خَلَقَهَا وَمَنْ فِيهَا مِنَ الْحَيَوَاناتِ وَالنَّبَاتَاتِ، وَالثَّمَرَاتِ وَسَائِرِ صُنُوفِ الْمَخْلُوقَاتِ؟ {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أَيْ فَيَعْتَرِفُونَ لَكَ بِأَنَّ ذَلِكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِذَا كان ذلك {قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أَنَّهُ لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لِلْخَالِقِ الرزاق لَا لِغَيْرِهِ، {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ؟} أَيْ مَنْ هُوَ خَالِقُ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ بِمَا فِيهِ مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَاتِ، وَالْمَلَائِكَةِ الْخَاضِعِينَ لَهُ فِي سَائِرِ الْأَقْطَارِ مِنْهَا وَالْجِهَاتِ؟ وَمَنْ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ يَعْنِي الَّذِي هُوَ سَقْفُ الْمَخْلُوقَاتِ؟ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَاوَاتِهِ هَكَذَا» وَأَشَارَ بيده مثل القبة (أخرجه أبو داود في سننه) . وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ(2/572)
السبع وما بينهنَّ وما فيهن فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، وَإِنَّ الْكُرْسِيَّ بِمَا فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرْشِ كتلك الحلقة في تلك الفلاة» ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ عَرْشًا لِارْتِفَاعِهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي الْعَرْشِ إلا كحلقة في أرض فلاة، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْعَرْشُ لَا يَقْدِرُ قدره أحد إلا الله عزَّ وجلَّ. ولهذا قال ههنا: {ورب العرش العظيم} أي الكبير، وقال آخِرِ السُّورَةِ {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} أَيِ الْحَسَنِ الْبَهِيِّ فَقَدْ جَمَعَ الْعَرْشُ بَيْنَ الْعَظَمَةِ فِي الاتساع، والعلو والحسن الباهر، قال ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، نُورُ الْعَرْشِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ، وَقَوْلُهُ: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أَيْ إِذَا كُنْتُمْ تَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، أَفَلَا تَخَافُونَ عِقَابَهُ وَتَحْذَرُونَ عَذَابَهُ في عبادتكم معه غيره وإشراككم به؟
قوله: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} أَيْ بِيَدِهِ الْمُلْكُ {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ} أَيْ مُتَصَرِّفٌ فِيهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا وَالَّذِي نَفْسِي بيده» ، وكان إذا اجتهد باليمين قَالَ: «لَا وَمُقَلِّبَ الْقُلُوبِ» ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْخَالِقُ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ، {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} كَانتِ الْعَرَبُ إِذَا كَانَ السيد فيهم أجار أَحَدًا لَا يُخْفَرُ فِي جِوَارِهِ، وَلَيْسَ لِمَنْ دُونَهُ أَنْ يُجِيرَ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَفْتَاتَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} أَيْ وَهُوَ السَّيِّدُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا أَعْظَمَ مِنْهُ، الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَلَا معقب لحكمه، {لاَ يُسْأَلُ عما يفعل وهم يسألون} ، {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أَيْ سَيَعْتَرِفُونَ أَنَّ السَّيِّدَ الْعَظِيمَ الَّذِي يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أَيْ فَكَيْفَ تَذْهَبُ عُقُولُكُمْ فِي عِبَادَتِكُمْ مَعَهُ غَيْرَهُ مَعَ اعْتِرَافِكُمْ وَعِلْمِكُمْ بِذَلِكَ؟ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ} وَهُوَ الْإِعْلَامُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَقَمْنَا الْأَدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ الْوَاضِحَةَ الْقَاطِعَةَ عَلَى ذَلِكَ، {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أَيْ فِي عِبَادَتِهِمْ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} فالمشركون إنما يَفْعَلُونَ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِآبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمُ الْحَيَارَى الْجُهَّالِ كما قال الله عنهم {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} .(2/573)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
- 91 - مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ
- 92 - عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
يُنَزِّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ والتصرف والعبادة، فقال تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أَيْ لَوْ قُدِّرَ تَعَدُّدُ الْآلِهَةِ، لَانفَرَدَ كُلٌّ منهم بما خلق، فَمَا كَانَ يَنْتَظِمُ الْوُجُودُ، وَالْمُشَاهَدُ أَنَّ الْوُجُودَ منتظم متسق، غَايَةِ الْكَمَالِ {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} ، ثُمَّ لَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَطْلُبُ قَهْرَ الْآخَرِ وخلافه، فيعلو بعضهم على بعض، والمتكلمون عبروا عَنْهُ بِدَلِيلِ (التَّمَانُعِ) وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ صانعان فصاعداً فأراد واحد تحرريك جسم والآخر أراد سُكُونَهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ منهما كانا عاجزين، وَيَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ مُرَادَيْهِمَا لِلتَّضَادِّ، وَمَا جَاءَ هَذَا الْمُحَالُ إِلَّا مِنْ فَرْضِ التَّعَدُّدِ فَيَكُونُ مُحَالًا؛ فَأَمَّا إِنْ حَصَلَ مُرَادُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْوَاجِبُ، وَالْآخِرُ الْمَغْلُوبُ مُمْكِنًا، لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِصِفَةِ الْوَاجِبِ أَنْ يَكُونَ مقهوراً؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} أَيْ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ الْمُعْتَدُونَ فِي دَعْوَاهُمُ الْوَلَدَ أَوِ الشَّرِيكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أَيْ يَعْلَمُ مَا يَغِيبُ(2/573)
عَنِ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَا يُشَاهِدُونَهُ، {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أَيْ تَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ وَتَعَالَى وعزَّ وجلَّ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ.(2/574)
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
- 93 - قُلْ رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ
- 94 - رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
- 95 - وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ
- 96 - ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ
- 97 - وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ
- 98 - وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ يدعو بهذا الدُّعَاءَ عِنْدَ حُلُولِ النِّقَمِ {رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} أي إن عاقبتهم وأنا أشاهد ذَلِكَ فَلَا تَجْعَلُنِي فِيهِمْ؛ كَمَا جَاءَ فِي الحديث: «وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَتَوَفَّنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مفتون» (أخرجه أحمد والترمذي وصححه) . وقوله تعالى: {وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} أَيْ لَوْ شِئْنَا لَأَرَيْنَاكَ مَا نُحِلُّ بِهِمْ من النقم والبلاء والمحن، ثم قال تعالى مُرْشِدًا لَهُ إِلَى التِّرْيَاقِ النَّافِعِ فِي مُخَالَطَةِ الناس وهو الإحسان إلى من يسيء إليه لِيَسْتَجْلِبَ خَاطِرَهُ، فَتَعُودُ عَدَاوَتُهُ صَدَاقَةً وَبُغْضُهُ مَحَبَّةً، فقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} ، وَهَذَا كَمَا قال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وبينه عدوة كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} ، وقوله تعالى: {وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} أمره الله أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنَ الشَّيَاطِينِ لِأَنَّهُمْ لَا تَنْفَعُ معهم الحيل، ولا ينقادون بالمعروف، وفي الصحيح: «أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ من همزة ونفخه ونفثه» . وقوله تعالى: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} أَيْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِي، وَلِهَذَا أَمَرَ بِذِكْرِ اللَّهِ في ابتداء الأمور، وذلك لطرد الشيطان عِنْدَ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ وَالذَّبْحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأمور، ولهذا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَدْمِ، وَمِنَ الْغَرَقِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطَنِيَ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ» (أخرجه أبو داود في سننه) . وروى الإمام أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا كَلِمَاتٍ يَقُولُهُنَّ عِنْدَ النَّوْمِ من الفزع: «باسم اللَّهِ، أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَمِنْ شَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ» قَالَ: فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو يُعَلِّمُهَا مَنْ بَلَغَ مِنْ وَلَدِهِ أَنْ يَقُولَهَا عِنْدَ نَوْمِهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ أَنْ يَحْفَظَهَا كَتَبَهَا لَهُ فَعَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ. (وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ) .(2/574)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
- 99 - حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ
- 100 - لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِ المحتضر عند الموت من الكافرين، وَسُؤَالِهِمُ الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا لِيُصْلِحَ مَا كَانَ أَفْسَدَهُ فِي مُدَّةِ حَيَّاتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} كقوله: {وَلَوْ ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا موقنون} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ(2/574)
يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نعمل} الآية، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ فَلَا يُجَابُونَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ، وَيَوْمَ النُّشُورِ وَوَقْتَ الْعَرْضِ عَلَى الجبار، وهم في غمرات عذاب الجحيم، وقوله ههنا: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا} كَلَّا حَرْفُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ أَيْ لَا نُجِيبُهُ إِلَى مَا طلب ولا نقبل منه. وقوله تعالى: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا} قال ابن أَسْلَمَ: أَيْ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَهَا لَا مَحَالَةَ كُلُّ مُحْتَضِرٍ ظَالِمٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذلك علة لقوله {كَلاَّ} أَيْ سُؤَالُهُ الرُّجُوعَ لِيَعْمَلَ صَالِحًا هُوَ كَلَامٌ مِنْهُ وَقَوْلٌ لَا عَمَلَ مَعَهُ، وَلَوْ رُدَّ لَمَا عَمِلَ صَالِحًا وَلَكَانَ يَكْذِبُ فِي مَقَالَتِهِ هَذِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وإنهم لكاذبون} . قال قَتَادَةُ: وَاللَّهِ مَا تَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أهل ولا إلى عشيرة، ولا بأن يجمع الدنيا ويقضي الشهوات، وَلَكِنْ تَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فرحم الله امرأ عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب إلى النار. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى غُفْرَةَ: إذا قال الكافر رَبِّ ارجعون لعلي أعمل صالحاً يقول الله تعالى: كلا كذبت، وكان العلاء بن زياد يقول: لينزلن أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنَّهُ قَدْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَاسْتَقَالَ ربه فأقاله فليعمل بطاعة الله تعالى. وقال قتادة: والله ما تمنى إلا أَنْ يَرْجِعَ فَيَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، فَانظُرُوا أُمْنِيَّةَ الْكَافِرِ الْمُفَرِّطِ، فَاعْمَلُوا بِهَا وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بالله. وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِذَا وُضِعَ - يَعْنِي الْكَافِرَ - فِي قَبْرِهِ فَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، قَالَ: فَيَقُولُ رَبِّ ارْجِعُونِ أَتُوبُ وَأَعْمَلُ صَالِحًا، قَالَ: فَيُقَالُ: قَدْ عُمِّرْتَ مَا كُنْتَ مُعَمَّرًا، قَالَ: فيضيّق عليه قبره ويلتئم فَهُوَ كَالْمَنْهُوشِ يَنَامُ وَيَفْزَعُ تَهْوِي إِلَيْهِ هَوَامُّ الأرض وحيَّاتها وعقاربها (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة موقوفاً) . وعن عائشة رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: وَيْلٌ لِأَهْلِ الْمَعَاصِي مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ، تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِي قُبُورِهِمْ حَيَّاتٌ سُودٌ، أَوْ دُهْم. حَيَّةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَحَيَّةٌ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، يَقْرُصَانِهِ حَتَّى يَلْتَقِيَا فِي وَسَطِهِ، فَذَلِكَ الْعَذَابُ فِي الْبَرْزَخِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (أخرجه ابن أبي حاتم عن عائشة موقوفاً) . قال مُجَاهِدٌ: الْبَرْزَخُ الْحَاجِزُ مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الْبَرْزَخُ مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَيْسُوا مَعَ أَهْلِ الدُّنْيَا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَلَا مَعَ أَهْلِ الْآخِرَةِ يُجَازَوْنَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَقَالَ أَبُو صَخْرٍ: الْبَرْزَخُ الْمَقَابِرُ لَا هُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا هُمْ فِي الْآخِرَةِ فَهُمْ مقيمون إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، في قوله تعالى: {وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ} تَهْدِيدٌ لِهَؤُلَاءِ الْمُحْتَضَرِينَ مِنَ الظلمة بعذاب البرزخ، كما قال تعالى: {وَمِن وَرَآئِهِمْ جهنم} ، وقال تعالى: {وَمَن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} ، وقوله تعالى: {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أَيْ يَسْتَمِرُّ بِهِ الْعَذَابُ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «فَلَا يَزَالُ مُعَذَّبًا فِيهَا» أَيْ فِي الْأَرْضِ.(2/575)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
- 101 - فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ
- 102 - فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
- 103 - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ
- 104 - تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ إِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةُ النُّشُورِ، وَقَامَ الناس من القبور {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ}(2/575)
أي لا تنفع الإنسان يومئذٍ قرابة وَلَا يَرْثِي وَالِدٌ لِوَلَدِهِ وَلَا يَلْوِي عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ} أَيْ لَا يَسْأَلُ الْقَرِيبُ قَرِيبَهُ وَهُوَ يُبْصِرُهُ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْزَارِ مَا قَدْ أثقل ظهره، ولو كان أعز الناس عليه فِي الدُّنْيَا مَا الْتَفَتَ إِلَيْهِ وَلَا حَمَلَ عَنْهُ وَزْنَ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ} الآية. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ثُمَّ نَادَى مُنَادٍ: إلا من كان له مظلمة فليجيء فَلْيَأْخُذْ حَقَّهُ، قَالَ: فَيَفْرَحُ الْمَرْءُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْحَقُّ عَلَى وَالِدِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كتاب الله، قال الله تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ
بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يتساءلون} (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود) . وروى الإمام أحمد عن المسور بن مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مني يغيظني ما يغيظها وينشطني ما ينشطها، وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة ألا نسبي وسبي وصهري» ؛ وهذا الحديث له أصل في الصحيحين: «فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها ويؤذيني ما آذاها» . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مُسْنَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا تَزَوَّجَ (أُمَّ كُلْثُومٍ) بِنْتَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا بِي إِلَّا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ فَإِنَّهُ مُنْقَطِعٌ يوم القيامة ألا سبي ونسبي» (رواه الطبراني والبزار والبيهقي والحافظ الضياء في المختارة وذكر أنه أصدقها أربعين ألفاً إعظاماً وإكراماً) ، وروى الحافظ ابن عساكر عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ نَسَبٍ وَصِهْرٍ ينقطع يوم القيامة ألا نسبي وصهري» .
وقوله تعالى: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أَيْ مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ وَلَوْ بِوَاحِدَةٍ، قال ابْنُ عَبَّاسٍ {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أَيِ الَّذِينَ فازوا فنجوا من النار وأدخلوا الجنة، {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} : أَيْ ثَقُلَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ {فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} أَيْ خَابُوا وهلكوا وباءوا بالصفقة الخاسرة. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَرْفَعُهُ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَكًا مُوَكَّلًا بِالْمِيزَانِ فَيُؤْتَى بِابْنِ آدَمَ فَيُوقَفُ بَيْنَ كِفَّتَيِ الْمِيزَانِ، فَإِنْ ثَقُلَ مِيزَانُهُ نادى ملك بصوت يسمعه الْخَلَائِقَ: سَعِدَ فُلَانٌ سَعَادَةً لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا، وَإِنْ خَفَّ مِيزَانُهُ نَادَى مَلَكٌ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ: شَقِيَ فَلَانٌ شَقَاوَةً لَا يَسْعَدُ بعدها أبداً (رواه الحافظ البزار وفي إسناده ضعف) . وقال تعالى: {في جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} أي ماكثون فيها دائمون مقيمون فلا يَظْعَنُونَ {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وتغشى وُجُوهَهُمُ النار} ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ} الآية. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «إن جهنم لما سيق لها أهلها، تلقَّاهم لهبها ثم تلفحهم لفحة فلم يبق لهم لحم إلا سقط على العرقوب» (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة) . وعن أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} قَالَ: تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم (أخرجه ابن
مردويه عن أبي الدرداء) . وقوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قال ابن عباس: يعني عابسون، وقال ابن مَسْعُودٍ {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الرَّأْسِ الْمَشِيطِ الَّذِي قَدْ بَدَا أَسْنَانُهُ وقلصت شفتاه، وعن أبي سعيد(2/576)
الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قَالَ تَشْوِيهِ النَّارُ، فَتُقَلِّصُ شَفَتَهُ الْعُلْيَا حَتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأْسِهِ وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته» (أخرجه أحمد والترمذي، وقال الترمذي: حسن غريب) .(2/577)
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)
- 105 - أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تَكْذِبُونَ
- 106 - قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ
- 107 - رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ
هذا تقريع من الله وتوبيخ لأهل النار على ما ارتكبوه مِنَ الْكَفْرِ وَالْمَآثِمِ، وَالْمَحَارِمِ وَالْعَظَائِمِ الَّتِي أَوْبَقَتْهُمْ في ذلك فقال تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} أَيْ قَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمُ الرُّسُلَ وَأَنْزَلْتُ إليكم الْكُتُبَ وَأَزَلْتُ شُبَهَكُمْ وَلَمْ يَبْقَ لَكُمْ حُجَّةٌ، كما قال تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} ، وَقَالَ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ، ولهذا قال: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ} أَيْ قَدْ قَامَتْ عَلَيْنَا الْحُجَّةُ وَلَكِنْ كُنَّا أَشْقَى مِنْ أَنْ نَنْقَادَ لَهَا وَنَتَّبِعَهَا فَضَلَلْنَا عَنْهَا وَلَمْ نُرْزَقْهَا، ثُمَّ قَالُوا: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} أي أرددنا إلى الدُّنْيَا فَإِنْ عُدْنَا إِلَى مَا سَلَفَ مِنَّا فنحن ظالمون مستحقون للعقوبة، كما قال: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} ؟ أَيْ لَا سَبِيلَ إِلَى الْخُرُوجِ لِأَنَّكُمْ كُنْتُمْ تشركون بالله إذا وحده المؤمنون.(2/577)
قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
- 108 - قال اخسؤوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ
- 109 - إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ
- 110 - فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ
- 111 - إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ
هَذَا جَوَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْكُفَّارِ إِذَا سَأَلُوا الْخُرُوجَ مِنَ النَّارِ، وَالرَّجْعَةَ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ. يَقُولُ: {اخسؤوا فِيهَا} أَيِ امْكُثُوا فِيهَا صَاغِرِينَ مُهَانِينَ أَذِلَّاءَ {وَلاَ تُكَلِّمُونِ} أَيْ لَا تَعُودُوا إِلَى سُؤَالِكُمْ هَذَا فَإِنَّهُ لَا جَوَابَ لَكُمْ عِنْدِي، قَالَ ابن عباس {اخسؤوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} قَالَ: هَذَا قَوْلُ الرَّحْمَنِ حين انقطع كلامهم منه. وروى ابن أبي حاتم: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: إِنَّ أَهَّلَ جَهَنَّمَ يَدْعُونَ مَالِكًا فَلَا يُجِيبُهُمْ أَرْبَعِينَ عَامًا، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ، قَالَ: هَانَتْ دَعْوَتُهُمْ وَاللَّهِ عَلَى (مَالِكٍ) وَرَبِّ مَالِكٍ؛ ثُمَّ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ فَيَقُولُونَ: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ * رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} قَالَ: فَيَسْكُتُ عَنْهُمْ قدر الدنيا مرتين، ثم يرد عليهم: {اخسؤوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} قال: فوالله مَا نَبَسَ الْقَوْمُ بَعْدَهَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَا هُوَ إِلاَّ الزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، قَالَ: فَشُبِّهَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِأَصْوَاتِ الْحَمِيرِ أَوَّلُهَا زَفِيرٌ وآخرها شهيق، وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تعالى أن لا يُخْرِجَ مِنْهُمْ أَحَدًا يَعْنِي مِنْ جَهَنَّمَ غيَّر وُجُوهَهُمْ وَأَلْوَانَهُمْ، فَيَجِيءُ الرَّجُلُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَشْفَعُ، فيقول: يا رب، فيقول الله من عرف أحداً فليخرجه، فيجيء الرجل من المؤمنين فينظر، فلا يعرف أحداً فيناديه الرجل: يا فلان أَنَا فُلَانٌ، فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ، قَالَ: فَعِنْدَ ذلك يَقُولُونَ: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فعند ذلك يقول الله تعالى: {اخسؤوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} فإذا قال ذلك أطبقت عليهم النار فلا يخرج منهم أحد (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود موقوفاً) ؛ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى(2/577)
مُذَكِّرًا لَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَمَا كَانُوا يستهزئون بعباده المؤمنين وأوليائه، فقال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً} أَيْ فَسَخِرْتُمْ مِنْهُمْ فِي دُعَائِهِمْ إِيَّايَ وَتَضَرُّعِهِمْ إِلَيَّ {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} أَيْ حملكم بغضهم على أن أنسيتم مُعَامَلَتِي {وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} أَيْ مِنْ صَنِيعِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} أي يلمزونهم استهزاء؛ ثم أخبر تعالى عَمَّا جَازَى بِهِ أَوْلِيَاءَهُ وَعِبَادَهُ الصَّالِحِينَ، فَقَالَ تعالى: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ} أَيْ عَلَى أذاكم واستهزائكم بهم {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} أَيْ جَعَلْتُهُمْ هُمُ الْفَائِزِينَ بالسعادة والسلامة والجنة والنجاة من النار.(2/578)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
- 112 - قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ
- 113 - قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ
- 114 - قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
- 115 - أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ
- 116 - فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى مَا أَضَاعُوهُ فِي عُمْرِهِمُ الْقَصِيرِ فِي الدُّنْيَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَلَوْ صَبَرُوا فِي مُدَّةِ الدُّنْيَا الْقَصِيرَةِ لَفَازُوا كَمَا فَازَ أولياءه الْمُتَّقُونَ، {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} أَيْ كَمْ كَانَتْ إِقَامَتُكُمْ فِي الدُّنْيَا؟ {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} أَيِ الْحَاسِبِينَ، {قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} أَيْ مُدَّةً يَسِيرَةً عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ {لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ لَمَا آثَرْتُمُ الْفَانِيَ عَلَى الْبَاقِي، وَلَمَا تَصَرَّفْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ هَذَا التصرف السيء، ولا استحقتتم مِنَ اللَّهِ سُخْطَهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، فلو أَنَّكُمْ صَبَرْتُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ كَمَا فعل المؤمنون لفزتم كما فازوا، وفي الحديث: "إِنَّ اللَّهَ إِذَا أُدخِلَ أهلُ الجنةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلَ النَّارِ النَّارَ قَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قَالُوا: لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قَالَ: لَنِعْمَ مَا اتَّجَرْتُمْ فِي يَوْمٍ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، رَحْمَتِي وَرِضْوَانِي وَجْنَّتِي امْكُثُوا فِيهَا خَالِدِينَ مُخَلَّدِينَ. ثم قال: يَا أَهْلَ النَّارِ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ قَالُوا: لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فَيَقُولُ بِئْسَ مَا اتَّجَرْتُمْ
فِي يَوْمٍ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، نَارِي وَسُخْطِي امْكُثُوا فِيهَا خالدين مخلدين" (أخرجه ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي مرفوعاً) . وقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} أَيْ أَفَظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ مَخْلُوقُونَ عَبَثًا بِلَا قَصْدٍ وَلَا إِرَادَةٍ مِنْكُمْ ولا حكمة لنا؟ وقيل: للعبث لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب، وإنما خلقناكم للعبادة وإقامة أوامر الله عزَّ وجلَّ {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} أي لا تعوذون في الدار الآخرة، كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يترك سدى} يَعْنِي هَمَلًا، وَقَوْلُهُ: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} أَيْ تَقَدَّسَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا عَبَثًا فَإِنَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ، {لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} فَذَكَرَ الْعَرْشَ لِأَنَّهُ سَقْفُ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ أَيْ حَسَنُ الْمَنْظَرِ بَهِيُّ الشَّكْلِ، كَمَا قَالَ تعالى: {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زوج كريم} .
وكان آخر خطبة خطبها (عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) أَنْ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا الناس إنكم لَمْ تُخْلَقُوا عَبَثًا، وَلَنْ تُتْرَكُوا سُدًى، وَإِنَّ لَكُمْ مَعَادًا يَنْزِلُ اللَّهُ فِيهِ لِلْحُكْمِ بَيْنَكُمْ والفصل بينكم، فخاب وخسر وشقي(2/578)
عبد أخرجه الله من رحمته، وَحُرِمَ جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، أَلَمْ تَعْلَمُوا أنه لا يؤمن عذاب الله غَدًا إِلَّا مَنْ حَذِرَ هَذَا الْيَوْمَ وَخَافَهُ، وباع نافذاً بِبَاقٍ، وَقَلِيلًا بِكَثِيرٍ، وَخَوْفًا بِأَمَانٍ، أَلَا تَرَوْنَ أَنَّكُمْ مِنْ أَصْلَابِ الْهَالِكِينَ وَسَيَكُونُ مِنْ بَعْدِكُمُ الْبَاقِينَ، حَتَّى تُرَدُّونَ إِلَى خَيْرِ الْوَارِثِينَ؟ ثُمَّ إِنَّكُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ تُشَيِّعُونَ غَادِيًا وَرَائِحًا إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ قَدْ قَضَى نَحْبَهُ، وَانقَضَى أَجْلُهُ، حَتَّى تُغَيِّبُوهُ فِي صَدْعٍ مِنَ الْأَرْضِ، فِي بَطْنِ صَدْعٍ غَيْرِ مُمَهَّدٍ وَلَا مُوَسَّدٍ، قَدْ فَارَقَ الْأَحْبَابَ وَبَاشَرَ التُّرَابَ، وَوَاجَهَ الْحِسَابَ، مُرْتَهَنٌ بِعَمَلِهِ، غَنِيٌّ عَمَّا تَرَكَ، فَقِيرٌ إِلَى مَا قَدَّمَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ قَبْلَ انقِضَاءِ مَوَاثِيقِهِ وَنُزُولِ الْمَوْتِ بِكُمْ؛ ثُمَّ جَعَلَ طَرَفَ رِدَائِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَبَكَى
وَأَبْكَى من حوله (أخرجه ابن أبي حاتم عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ) . وروى أبو نعيم عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في سرية، وأمرنا أم نَقُولَ إِذَا نَحْنُ أَمْسَيْنَا وَأَصْبَحْنَا {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} ؟ قَالَ: فقرأناها فغنمنا وسلمنا، وروى ابن أبي حاتم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَانٌ أمتي من الغرق إذا ركبوا السفينة: باسم اللَّهِ الْمَلِكِ الْحَقِّ، وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يشركون، بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رحيم".(2/579)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
- 117 - وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ
- 118 - وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ
يَقُولُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا مَنْ أَشْرَكَ بِهِ غَيْرَهُ وَعَبَدَ مَعَهُ سِوَاهُ، وَمُخْبِرًا أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ لَا بُرْهَانَ لَهُ، أَيْ لَا دَلِيلَ لَهُ عَلَى قَوْلِهِ، فقال تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ} أَيِ اللَّهُ يُحَاسِبُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ ثُمَّ أَخْبَرَ {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} : أَيْ لَدَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا فَلَاحَ لَهُمْ وَلَا نَجَاةَ. قَالَ قَتَادَةَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ: «مَا تَعْبُدُ؟» قَالَ: أَعْبُدُ اللَّهَ وَكَذَا وَكَذَا حَتَّى عَدَّ أَصْنَامًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فأيهم إذا أصابك ضر كَشْفَهُ عَنْكَ؟» قَالَ: اللَّهُ عزَّ وجلَّ، قَالَ: «فَأَيُّهُمْ إِذَا كَانَتْ لَكَ حَاجَةٌ فَدَعَوْتَهُ أَعْطَاكَهَا؟» قَالَ: اللَّهُ عزَّ وجلَّ، قَالَ: «فَمَا يَحْمِلُكَ على أن تعبد هؤلاء معه أم حسبت أن تغلب عليه» قال: أردت شكره بعبادة هؤلاء معه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تعلمون ولا يعلمون» ، فقال الرجل بعدما أسلم: لقيت رجلاً خصمني (قال ابن كثير: هذا مرسل من هذا الوجه وقد رواه الترمذي مسنداً) . وقوله تعالى: {وَقُلْ رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} هذا إرشاد من الله تعالى إِلَى هَذَا الدُّعَاءِ، فَالْغَفْرُ إِذَا أُطْلِقَ، مَعْنَاهُ مَحْوُ الذَّنْبِ وَسَتْرُهُ عَنِ النَّاسِ، وَالرَّحْمَةُ مَعْنَاهَا أن يسدده ويوفقه في الأقوال والأفعال.(2/579)
- 24 - سورة النور(2/580)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
- 1 - سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
- 2 - الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
يَقُولُ تَعَالَى هَذِهِ السورة أَنْزلْنَاهَا، فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِهَا وَلَا ينفي ما عداها {وَفَرَضْنَاهَا} قال مجاهد: أَيْ بَيَّنَّا الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَالْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْحُدُودَ، وقال البخاري: ومن قرأ {فرضناها} يقول: فرضناها عَلَيْكُمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَكُمْ، {وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} أَيْ مُفَسَّرَاتٍ وَاضِحَاتٍ {لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مائة جَلْدَةٍ} يعني هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا حُكْمُ الزَّانِي فِي الحد وللعلماء فيه تفصيل، فَإِنَّ الزَّانِيَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِكْرًا وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَتَزَوَّجْ، أَوْ مُحْصَنًا وهو الذي وَطِئَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَهُوَ حُرٌّ بَالِغٌ عَاقِلٌ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ بِكْرًا لَمْ يَتَزَوَّجْ فَإِنَّ حَدَّهُ مِائَةُ جَلْدَةٍ كَمَا فِي الْآيَةِ، ويزاد على ذلك إما أَنْ يُغَرَّبَ عَامًا عَنْ بَلَدِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ عِنْدَهُ أَنَّ التَّغْرِيبَ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ إِنْ شَاءَ غَرَّبَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُغَرِّبْ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ فِي ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي الْأَعْرَابِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ الله أن ابن هذا كَانَ عَسِيفًا - يَعْنِي أَجِيرًا - عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَافْتَدَيْتُ ابْنِي مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بكتاب الله تعالى: الوليدة والغنم ردٌّ عليك، وعلى ابنك مائة جلدة وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ - لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ - إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا" فغدا عليها فاعترفت فرجمها (أخرجاه في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ) . وفي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى تَغْرِيبِ الزَّانِي مَعَ جِلْدِ مائة إذا كان بكراً؛ فأما إذا كان محصناً فإنه يرجم، كما روى الإمام مالك.(2/580)
عن ابن عباس أن عمر قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بعد أيها الناس فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى أَنْ يُطَولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ الله، فيضنوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ قَدْ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، فَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أحصن من الرجال ومن النساء إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوِ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ" (أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ مُطَوَّلًا) . وفي رواية عنه: «ولولا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم أَنَّ عُمَرَ زَادَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا ليس منه لأثبتها كما نزلت» (أخرجه الإمام أحمد والنسائي) . وقال ابن عمر: نُبِّئْتُ عَنْ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ قَالَ: كُنَّا عند مروان وفينا زيد فقال زيد بن ثابت: كنا نقرأ: الشيخ والشيخة إذا زنَيا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ، قَالَ مَرْوَانُ: أَلَا كَتَبْتَهَا فِي الْمُصْحَفِ؟ قَالَ: ذَكَرْنَا ذَلِكَ وَفِينَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: أَنَا أَشْفِيكُمْ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ، قُلْنَا: فَكَيْفَ؟ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَذَكَرَ كَذَا وكذا الرجم، فقال: يا رسول الله اكتب لي آيَةَ الرَّجْمِ، قَالَ: «لَا أَسْتَطِيعُ الْآنَ» ، هَذَا أو نحو ذلك (أخرجه الحافظ الموصلي عن محمد بن سيرين) . وهذه طرق كلها متعددة متعاضدة، وَدَالَّةٌ عَلَى أَنَّ آيَةَ الرَّجْمِ كَانَتْ مَكْتُوبَةً فنسخ تلاوتها وبقي حكمها معمولاً به والله أعلم. وَقَدْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برجم هذه المرأة لما زنت مع الأجير، وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ماعزاً) و (الغامدية) ولم يُنْقَلْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه جلدهم قبل الرجم، وَلِهَذَا كَانَ هَذَا مَذْهَبَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ؛ وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُجْمَعَ عَلَى الزَّانِي الْمُحْصَنِ بَيْنَ الْجَلْدِ لِلْآيَةِ وَالرَّجْمِ لِلسُّنَّةِ، كَمَا روى الإمام أحمد وأهل السنن عن عبادة ابن الصَّامِتِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ والرجم» .
وقوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} أي في حكم الله أي لا ترأفوا بِهِمَا فِي شَرْعِ اللَّهِ، وَلَيْسَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الرأفة الطبيعية عَلَى تَرْكِ الْحَدِّ، وَإِنَّمَا هِيَ الرَّأْفَةُ الَّتِي تَحْمِلُ الْحَاكِمَ عَلَى تَرْكِ الْحَدِّ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، قَالَ مُجَاهِدٌ {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} قَالَ: إِقَامَةُ الْحُدُودِ إِذَا رفعت إلى السلطان فتقام ولا تعطل، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «تَعَافَوُا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ» ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «لَحَدٌّ يُقَامُ فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ لِأَهْلِهَا مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} فَلَا تُقِيمُوا الْحَدَّ كَمَا يَنْبَغِي مِنْ شِدَّةِ الضَّرْبِ الزَّاجِرِ عَنِ الْمَأْثَمِ، وَلَيْسَ المراد الضرب المبرح، قال عامر الشعبي: رَحْمَةٌ فِي شِدَّةِ الضَّرْبِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: ضَرْبٌ ليس بالمبرح، وقال: هَذَا فِي الْحُكْمِ وَالْجَلْدِ يَعْنِي فِي إِقَامَةِ الحد وفي شدة الضرب، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ جَارِيَةً لِابْنِ عُمَرَ زَنَتْ فَضَرَبَ رِجْلَيْهَا، قَالَ نَافِعٌ: أَرَاهُ قَالَ: وَظَهْرَهَا، قَالَ، قُلْتُ: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} قَالَ: يَا بُنَيَّ وَرَأَيْتَنِي أَخَذَتْنِي بِهَا رَأْفَةٌ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنِي أَنْ أَقْتُلَهَا، وَلَا أَنْ أَجْعَلَ جَلْدَهَا فِي رَأْسِهَا، وَقَدْ أوجعت حين ضربتها، وقوله تَعَالَى: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أَيْ فافعلوا ذلك وأقيموا الْحُدُودَ عَلَى مَنْ زَنَى وَشَدِّدُوا عَلَيْهِ الضَّرْبَ، ولكن ليس مبرحاً،(2/581)
ليرتدع هو من يَصْنَعُ مِثْلَهُ بِذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ وَأَنَا أَرْحَمُهَا، فَقَالَ: «ولك في ذلك أجر» ، وقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} هَذَا فِيهِ تَنْكِيلٌ لِلزَّانِيَيْنِ إِذَا جُلِدَا بِحَضْرَةِ النَّاسِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَبْلَغَ فِي زَجْرِهِمَا، وَأَنْجَعَ فِي رَدْعِهِمَا، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا وَفَضِيحَةً إِذَا كَانَ النَّاسُ حُضُورًا، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} : يعني علانية، والطائفة الرجل فما فوقه، وقال مجاهد: الطائفة الرجل الواحد إِلَى الْأَلْفِ، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ: إِنَّ الطَّائِفَةَ تَصْدُقُ عَلَى وَاحِدٍ، وَقَالَ عطاء بن أبي رباح: اثنان، وقال الزهري ثلاثة نفر فصاعداً، وقال الإمام مالك: الطائفة أربعة نفر فصاعداً، لأنه لا يكفي شهادة في الزنا إلا أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَصَاعِدًا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عَشَرَةٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يَشْهَدَ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ: أَيْ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَكُونَ ذَلِكَ مَوْعِظَةً وَعِبْرَةً ونكالاً.(2/582)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
- 3 - الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ الزَّانِيَ لَا يَطَأُ إِلَّا زانية أومشركة، أي لا يطاوعه على مراده من الزنا إِلَّا زَانِيَةٌ عَاصِيَةٌ أَوْ مُشْرِكَةٌ لَا تَرَى حُرْمَةَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ {الزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ} أَيْ عَاصٍ بِزِنَاهُ {أَوْ مُشْرِكٌ} لَا يعتقد تحريمه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ليس هذا بالكناح إِنَّمَا هُوَ الْجِمَاعُ لَا يَزْنِي بِهَا إِلَّا زان أو مشرك (هذا إسناد صحيح عن ابن عباس وقد روي نحو ذلك عن مجاهد وعكرمة والضحاك ومقاتل وسعيد بن جبير) ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ تعاطيه والتزوج بالبغايا أو تزويج العفائف بالرجال الفجار، وقال أبو داود الطيالسي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} قال: حرم الله الزنا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: حرم الله عَلَى المؤمنين نكاح البغايا، وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أخدان} ، وَقَوْلُهُ: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} ألآية، ومن ههنا ذهب الإمام أحمد إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ مِنَ الرَّجُلِ الْعَفِيفِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْبَغِيِّ مَا دَامَتْ كَذَلِكَ حَتَّى تُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَتْ صَحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الْعَفِيفَةِ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ الْمُسَافِحِ حَتَّى يَتُوبَ تَوْبَةً صَحِيحَةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المؤمنين} . عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا أُم مَهْزُولٍ وَكَانَتْ تُسَافِحُ، فَأَرَادَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} (رواه النسائي والإمام أحمد) . وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ (مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ) وَكَانَ رَجُلًا يَحْمِلُ الْأُسَارَى مِنْ مَكَّةَ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِمُ الْمَدِينَةَ، قَالَ: وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهَا (عَنَاقُ) وَكَانَتْ صَدِيقَةً لَهُ، وَأَنَّهُ وَاعَدَ رَجُلًا مَنْ أُسَارَى مَكَّةَ يَحْمِلُهُ، قَالَ: فَجِئْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى ظِلِّ حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، قَالَ: فَجَاءَتْ عَنَاقُ فَأَبْصَرَتْ سَوَادَ ظل تحت الحائط، فلما انتهت إليَّ عرفتني، فَقُلْتُ: مَرْثَدٌ، فَقَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، هَلُمَّ فَبِتْ عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ، قَالَ، فَقُلْتُ: يَا عَنَاقُ حَرَّمَ الله الزنا، فَقَالَتْ: يَا أَهْلَ الْخِيَامِ هَذَا الرَّجُلُ يَحْمِلُ أسراكم، قال: فتبعني ثمانية ودخلت الحديقة، فَانْتَهَيْتُ إِلَى غَارٍ أَوْ كَهْفٍ، فَدَخَلْتُ فِيهِ فَجَاءُوا حَتَّى قَامُوا عَلَى رَأْسِي، فَبَالُوا، فَظَلَّ بَوْلُهُمْ عَلَى رَأْسِي، فَأَعْمَاهُمُ(2/582)
اللَّهُ عَنِّي، قَالَ: ثُمَّ رَجَعُوا فَرَجَعْتُ إِلَى صاحبي فحملته، وكان ثَقِيلًا حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى الْإِذْخَرِ، فَفَكَكْتُ عَنْهُ أحبله، فَجَعَلْتُ أَحْمِلُهُ وَيُعِينُنِي حَتَّى أَتَيْتُ بِهِ الْمَدِينَةَ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْكِحُ عَنَاقًا أَنْكِحُ عَنَاقًا - مَرَّتَيْنِ؟ - فَأَمْسَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَرُدَّ عليَّ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ {الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَرْثَدُ الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً فلا تنكحها» . (رواه الترمذي والنسائي وأبو داود واللفظ للترمذي) .
وقال الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ سَالِمًا يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديوث» وفي رواية: "ثَلَاثَةٌ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، والعاق لوالديه، والذي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخَبَثَ". وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطيالسي
في مسنده عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الجنة ديوث» (في الصحاح للجوهري الديوث: القنزع وهو الذي لا غيرة له على أهله) . وفي الحديث: «من أراد أن يلقى الله وهو طاهر متطهر فليتزوج الحرائر» (أخرجه ابن ماجه وفي إسناه ضعف) . فَأَمَّا إِذَا حَصَلَتْ تَوْبَةٌ فَإِنَّهُ يَحِلُّ التَّزْوِيجُ، لما روي عن ابن عباس وسأله رجل فقال: إِنِّي كُنْتُ أُلِمُّ بِامْرَأَةٍ آتِي مِنْهَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عَلَيَّ فَرَزَقَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ مِنْ ذَلِكَ تَوْبَةً، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَهَا، فَقَالَ أُنَاسٌ: إِنَّ الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ هَذَا فِي هَذَا، انكحها فما كان من إثم فعلي (أخرجه ابن أبي حاتم عن شعبة مولى ابن عباس رضي الله عنهما) ، وقد ادعى طائفة مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ. قَالَ ابن أبي حاتم عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَهُ {الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} قال: نسختها التي بعدها: {وأنكحوا الأيامى منكم} قال: كان يقال الأيامى من المسلمين (أخرجه ابن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ ونص عليه الإمام الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ) .(2/583)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
- 4 - وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
- 5 - إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا بَيَانُ جَلْدِ الْقَاذِفِ لِلْمُحَصَنَةِ وَهِيَ الْحُرَّةُ الْبَالِغَةُ الْعَفِيفَةُ، فَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ رَجُلًا فَكَذَلِكَ يُجْلَدُ قَاذِفُهُ أيضاً، وليس فيه نزاع بين العلماء، فإن أَقَامَ الْقَاذِفُ بَيِّنَةً عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ درأ عَنْهُ الْحَدُّ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ
لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فأوجب على القاذف إذا لم يقم البينة على صحة ما قال ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ: (أَحَدُهَا) أَنْ يُجْلَدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، (الثاني) أن ترد شهادته أبداً، (الثَّالِثُ) أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا لَيْسَ بِعَدْلٍ لَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَا عِنْدَ النَّاسِ؛ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وأصلحوا} الآية. واختلف الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ؛ هَلْ يَعُودُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، فَتَرْفَعُ التَّوْبَةُ(2/583)
الْفِسْقَ فَقَطْ، وَيَبْقَى مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ دَائِمًا وَإِنْ تَابَ، أَوْ يَعُودُ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ؟ وَأَمَّا الْجَلْدُ فَقَدْ ذَهَبَ وَانْقَضَى سَوَاءٌ تَابَ أَوْ أَصَرَّ، وَلَا حُكْمَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، بلا خلاف. فذهب (مالك وأحمد والشافعي) إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَارْتَفَعَ عنه حكم الفسق (نقل هذا عن سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ سَيِّدُ التَّابِعِينَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ أَيْضًا) ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّمَا يَعُودُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ فَيَرْتَفِعُ الفسق بالتوبة ويبقى مردود الشهادة أبداً (وبه قال شُرَيحٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَكْحُولٌ وغيرهم رَّضِيَ الله عَنْهُمْ) ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تاب إلاّ أن يتعرف على نفسه أنه قَدْ قَالَ الْبُهْتَانَ، فحينئذٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَاللَّهُ أعلم.(2/584)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
- 6 - وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إنه لمن الصادقين
- 7 - والخامسة أَن لَّعْنَةُ الله عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
- 8 - وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الكاذبين
- 9 - والخامسة أن غضب الله عليها إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ
- 10 - وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا فَرَجٌ لِلْأَزْوَاجِ وَزِيَادَةُ مَخْرَجٍ إِذَا قَذَفَ أَحَدُهُمْ زَوْجَتَهُ، وَتَعَسَّرَ عَلَيْهِ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ أَنْ يُلَاعِنَهَا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، وَهُوَ أَنْ يُحْضِرَهَا إِلَى الْإِمَامِ فَيَدَّعِيَ عَلَيْهَا بِمَا رَمَاهَا بِهِ، فَيُحَلِّفُهُ الْحَاكِمُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ فِي مُقَابَلَةِ أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ: أَيْ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزنا {وَالْخَامِسَةُ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ بَانَتْ مِنْهُ وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ أَبَدًا، وَيُعْطِيهَا مَهْرَهَا وَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا حد الزنا، وَلَا يَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ إِلَّا أَنْ تُلَاعِنَ، فَتَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لِمَنَ الْكَاذِبِينَ: أَيْ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ، {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} يَعْنِي الْحَدَّ، {أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ من الصادقين} فخصها بالعضب، كَمَا أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَتَجَشَّمُ فضحية أهله ورميها بالزنا إِلَّا وَهُوَ صَادِقٌ مَعْذُورٌ وَهِيَ تَعْلَمُ صِدْقَهُ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْخَامِسَةُ فِي حَقِّهَا أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ الْحَقَّ ثُمَّ يَحِيدُ عَنْهُ؛ ثم ذكر تعالى رأفته بخلقه ولطفه بهم فيما شرع لهم من الفرج والمخرج من شدة ما يكون بهم من الضيق، فقال تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أَيْ لَحَرِجْتُمْ وَلَشَقَّ عَلَيْكُمْ كَثِيرٌ مِنْ أُمُورِكُمْ {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} أَيْ عَلَى عِبَادِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْحَلِفِ وَالْأَيْمَانِ الْمُغَلَّظَةِ {حَكِيمٌ} فِيمَا يَشْرَعُهُ ويأمر به وفيما ينهى عنه.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} ، قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الأنصار رضي الله عنه: أهكذا أُنْزِلَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟» فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَلُمْهُ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ، وَاللَّهِ مَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً قَطُّ إِلَّا بكراً، وما طلق امرأة قَطُّ فَاجْتَرَأَ رَجُلٌ مِنَّا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ شِدَّةِ غَيْرَتِهِ، فَقَالَ(2/584)