وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)
{وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} أَي: يقرءونها بِمَا هُمْ عَلَيْهِ من الشّرك(4/19)
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من قبل قَوْمك يَا مُحَمَّد؛ يَعْنِي: مِنْ أُهْلِكَ مِنَ الْأُمَمِ السالفة.
{وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ} مَا بلغ هَؤُلّاءِ معشار؛ أَي: عشر {مَا آتَيْنَاهُمْ} من الدُّنْيَا؛ يَعْنِي: الْأُمَم السالفة.(4/19)
{فَكَيْفَ كَانَ نَكِيريِ} عقابي؛ أيْ: كَانَ شَدِيدا؛ يُحَذرهُمْ أَن ينزل بهم مَا نزل بهم.
قَالَ مُحَمَّد: (نَكِير) الْمَعْنى: نكيري، وحُذِفت الْيَاء؛ لِأَنَّهُ آخر آيَة.
سُورَة سبأ الْآيَات من الْآيَة 46 حَتَّى الْآيَة 50.(4/20)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
{قل إِنَّمَا أعظكم بِوَاحِدَة} ب (لَا إِلَه إِلَّا اللَّه) يَقُوله للْمُشْرِكين {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مثنى وفرادى} أَي: وَاحِدًا وَاحِدًا، أَو اثنيْن اثنيْن {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ من جنَّة} أَي: مَا بمحمدٍ من جُنُون {إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَين يَدي عَذَاب شَدِيد} .
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: ينذركم أَنكُمْ إِن عصيتم لَقِيتُم عذَابا شَدِيدا.(4/20)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} أَي: الَّذِي سألتكم من أجرٍ {فَهُوَ لكم إِن أجري} ثوابي {إِلا عَلَى اللَّهِ}(4/20)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} أَي: ينزل الْوَحْي {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} غيب السَّمَاء: مَا ينزل مِنْهَا من الْمَطَر وَغَيره، وغيب الأَرْض مَا يخرج مِنْهَا من النَّبَات وَغَيره.(4/20)
قَالَ محمدٌ: من قَرَأَ {عَلَّامُ الغيوب} بِالرَّفْع، فعلى معنى: هُوَ علام الغيوب.(4/21)
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)
{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِل} [يَعْنِي: إِبْلِيس] {وَمَا يُعِيد} أَي: مَا يخلق أحدا وَلَا يَبْعَثهُ(4/21)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفسِي وَإِن اهتديت} الْآيَة؛ أَي: أَنكُمْ أَنْتُم الضالون وَأَنا على الْهدى.
سُورَة سبأ الْآيَات من الْآيَة 51 حَتَّى الْآيَة 54.(4/21)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51)
{وَلَو ترى إِذْ فزعوا} تَفْسِير الْحَسَن: يَعْنِي النفخة الأولى الَّتِي يُهَلْكُ بِهَا كُفَّارُ آخِرِ هَذِه الْأمة {فَلَا فَوت} أَي: لَا يفوت أحدٌ مِنْهُم دون أَن يهْلك بِالْعَذَابِ {وَأُخِذُوا من مَكَان قريب} يَعْنِي: النفخة الْآخِرَة. قَالَ الْحَسَن: وَأي شيءٍ أقرب من أَن [كَانُوا] فِي بطن الأَرْض فَإِذا هُمْ عَلَى ظُهُورهَا.
قَالَ محمدٌ: قِيلَ: من مَكَان قريب: قريب على الله يَعْنِي: الْقُبُور.
(ل 279) وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحسن(4/21)
وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)
{وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التناوش من مَكَان بعيد} يَعْنِي: الْآخِرَة، والتناوش: التَّنَاوُل، قَالَ الْحَسَن يَعْنِي: وأنى(4/21)
لَهُم الْإِيمَان.
قَالَ مُحَمَّد: الْمَعْنى: وأنى لَهُم تنَاول مَا أَرَادوا من التَّوْبَة؛ أَي: إِدْرَاكه من مَكَان بعيد من الْموضع الَّذِي تقبل فِيهِ التوْبة، وَهُوَ معنى قَول الْحَسَن، والتناوش يُهْمزُ وَلَا يهمز يُقَال: نشت ونأشت.(4/22)
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)
{وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} كذبُوا [بِالْبَعْثِ] وَهُوَ الْيَوْم عِنْدهم بعيد؛ لأَنهم لَا يقرونَ بِهِ.(4/22)
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} تَفْسِير بَعضهم: مَا يشتهون من الْإِيمَان، وَلَا يقبل مِنْهُم عِنْد ذَلكَ.
{كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قبل} يَعْنِي: من كَانَ عَلَى دينهم - الشّرك - لما كذبُوا رسلهم جَاءَهُم الْعَذَاب، فآمنوا عِنْد ذَلكَ؛ فَلم يقبل مِنْهُم {أَنهم كَانُوا} قبل أَن يجيئهم الْعَذَاب {فِي شكّ مريب} من الرِّيبَة؛ وَذَلِكَ أَن جحودهم بالقيامة، وَبِأَن الْعَذَاب لَا يَأْتِيهم؛ إِنَّمَا ذَلكَ ظن مِنْهُم [وَشك لَيْسَ] عِنْدهم فِيهِ علمٌ.(4/22)
تَفْسِير سُورَة الْمَلَائِكَة
وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
سُورَة فاطر الْآيَات من الْآيَة 1 حَتَّى الْآيَة 2.(4/23)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
قَوْله: {الْحَمد لله} حَمَدَ نَفْسَهُ وَهُوَ أَهْلُ الْحَمْدِ {فاطر} خَالق {السَّمَاوَات وَالْأَرْض جَاعل الْمَلَائِكَة رسلًا} جعل من شَاءَ مِنْهُم لرسالته إِلَى الْأَنْبِيَاء {أولي} ذَوي {أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} تَفْسِير قَتَادَة: مِنْهُم من لَهُ جَنَاحَانِ، وَمِنْهُم من لَهُ ثَلَاثَة أَجْنِحَة، وَمِنْهُم من لَهُ أَرْبَعَة أَجْنِحَة.
قَالَ محمدٌ: (وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) فِي مَوضِع خفض، وَكَذَلِكَ (مَثْنَى) إِلَّا أَنَّهُ فتح ثَلَاث وَربَاع؛ لِأَنَّهُ ينْصَرف لعلّتين: إِحْدَاهمَا: أَنَّهُ معدول عَن ثَلَاثَة ثَلَاثَة، وَأَرْبَعَة أَرْبَعَة، واثنين اثْنَيْنِ، فَهَذِهِ عِلّة، وَالثَّانيَِة: أَن عدْله وَقع فِي حَال النكرَة.
{يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء} تَفْسِير الْحَسَن: يزِيد فِي أَجْنِحَة الْمَلَائِكَة مَا يَشَاء(4/23)
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
{مَا يفتح الله للنَّاس} تَفْسِير الْكَلْبِيّ: مَا يقسِمٌ اللَّه للنَّاس {من رَحْمَة} من الْخَيْر والرزق {فَلا مُمْسِكَ لَهَا} أَي: لَا أحد يَسْتَطِيع أَن يمسك مَا يقسم من(4/23)
رَحْمَة {وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ من بعده} يَعْنِي: نَفسه، تبَارك اسْمُه.
قَالَ مُحَمَّد: {يفتح} فِي مَوضِع جزْم عَلَى معنى الشَّرْط وَالْجَزَاء، وَجَوَاب الْجَزَاء {فَلا مُمْسك لَهَا} .
سُورَة فاطر الْآيَات من آيَة 3 إِلَى آيَة 4(4/24)
{يَا أَيهَا النَّاس اذْكروا نعْمَة اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْض} يَعْنِي: مَا ينزل من السَّمَاء من الْمَطَر، وَمَا ينْبت فِي الأَرْض من النَّبَات {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} يَقُوله للْمُشْرِكين يحْتَج بِهِ عَلَيْهِم، وَهُوَ اسْتِفْهَام؛ أَي: لَا خَالق وَلَا رَازِق غَيره، وَأَنْتُم تقرون بذلك وتعبدون من دونه الْآلهَة {
قَالَ مُحَمَّد: تقْرَأ {غير} بِالرَّفْع والكسْر؛ فَمن قَرَأَ بِالرَّفْع فعلى معنى: هَلْ خالقٌ غيرُ اللَّه وَتَكون {من} مُؤَكدَة، وَمن كسر جعله صفة للخالق.
{فَأَنَّى تؤفكون} يَقُول: فَكيف تُصرف عقولكم فتعبدون غير الله؟}(4/24)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ من قبلك} يعزيه بذلك، ويأمره بِالصبرِ.
تَفْسِير سُورَة فاطر الْآيَات من آيَة 5 إِلَى آيَة 8(4/24)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
{يَا أَيهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} يَعْنِي: مَا وعد من الثَّوَاب وَالْعِقَاب {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور} الشَّيْطَان(4/25)
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)
{إِنَّمَا يَدْعُو حزبه} يَعْنِي: الَّذين أضلّ ووسوس إِلَيْهِم بِعبَادة الْأَوْثَان {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وَالسَّعِيرُ اسْمُ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّم(4/25)
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حسنا} كمن آمن وَعمل صَالحا؛ أَي: لَا يستويان، وَفِيه إضمارٌ {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات} يَقُول: لَا تتحسر عَلَيْهِم إِذْ لم يُؤمنُوا.
تَفْسِير سُورَة فاطر الْآيَات من آيَة 9 إِلَى آيَة 11(4/25)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سحابا فسقناه} يَعْنِي: سقنا المَاء فِي السَّحَاب {إِلَى بلد ميت} أَي: إِلَى أَرض لَيْسَ فِيهَا نَبَات.
وَلما قَالَ: {إِلَى بَلَدٍ} قَالَ: {ميت} ؛ لِأَن الْبَلَد مذكّرٌ، وَالْمعْنَى عَلَى الأَرْض {كَذَلِك النشور} أَي: (هَكَذَا) تحْيَوْن بعد الْمَوْت بِالْمَاءِ يَوْم(4/25)
الْقِيَامَة كَمَا تحْيا الأَرْض بِالْمَاءِ فتنبت، يُرْسل اللَّه مَطَرا منيًّا كَمَنِيِّ الرِّجَالِ؛ فَتَنْبُتُ بِهِ جُسْمَانُهُمْ وَلُحْمَانُهُمْ كَمَا تَنْبُتُ الْأَرْضُ مِنَ الثرى يقوم ملك بالصور بَين السَّمَاء وَالْأَرْض فينفخ فِيهِ، فَينْطَلق كل روح (ل 280) إِلَى جسده حَتَّى يدْخل فِيهِ، فيجيبوا إِجَابَة رَجُل وَاحِد سرَاعًا إِلَى صَاحب الصُّور إِلَى بَيت الْمُقَدّس(4/26)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّة جَمِيعًا} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ يَقُولُ: مَنْ كَانَ يُرِيد الْعِزَّة؛ فليتعزّزْ بِطَاعَة اللَّه {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب} هُوَ التَّوْحِيد {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} التَّوْحِيد؛ لَا يرْتَفع الْعَمَل إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ {وَالَّذين يمكرون السَّيِّئَات} أَي: يعملونها {ومكر أُولَئِكَ} أَي: عمل أُولَئِكَ {هُوَ يَبُورُ} أَي: يفْسد عِنْد اللَّه؛ لِأَنَّهُ لَا يقبل الْعَمَل الصَّالح إِلَّا من الْمُؤمن(4/26)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
{وَالله خَلقكُم من تُرَاب} يَعْنِي: خلق آدم {ثمَّ من نُطْفَة} يَعْنِي: نسْل آدم {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} يَعْنِي: ذكرا وَأُنْثَى؛ وَالْوَاحد: زوج {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا ينقص من عمره} تَفْسِير الْحَسَن: وَمَا يعمر من معمر؛ حَتَّى يبلغ أرذل الْعُمر، وَلَا ينقص من آخر عُمَر المعمر فَيَمُوت قبل أَن يبلغ أرذل الْعُمر {إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} هيِّن.
قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر: كتب فِي أول الصفحة أَجله، ثمَّ كُتب أسْفل من ذَلِكَ ذَهَبَ يَوْمُ كَذَا، وَذَهَبَ يَوْمُ كَذَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى أَجله.
تَفْسِير سُورَة فاطر الْآيَات من آيَة 12 إِلَى آيَة 14(4/26)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فرات} أَي: حُلْو {سَائِغٌ شَرَابُهُ} {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أَي: مالحٌ مرٌّ {وَمِنْ كُلٍّ} يَعْنِي: من العَذْب والمالح {تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} يَعْنِي: اللؤلؤَ.
قَالَ محمدٌ: وَإِنَّمَا تستخرج الحليةُ من الْملح دون العذب، إِلَّا أَنَّهُمَا لما كَانَا مختلطيْن جَازَ أَن يُقَال: تستخرجون الْحِلْية مِنْهُمَا؛ كَقَوْلِه {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ والمرجان} .
{وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا من فَضله} يَعْنِي: طَلَبَ التِّجَارَةِ فِي السُّفُنِ(4/27)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَار فِي اللَّيْل} هُوَ أَخذ أَحدهمَا من الآخر {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِلأَجَلٍ مُّسَمًّى} لَا يعدوه، قَالَ السُّدي: وَهُوَ مطالع الشَّمْس وَالْقَمَر إِلَى غَايَة لَا يجاوزانها فِي شتاءٍ وَلَا صيف {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} يَقُوله للْمُشْرِكين يَعْنِي: أوثانهم {مَا يملكُونَ من قطمير} قَالَ مُجَاهِد: القِطْمير: لفافة النّواة.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: لِفَافةٌ وفُوفَة، والفوفة أفْصح.(4/27)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
{إِن تدعوهم} يَعْنِي: تنادوهم {لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} يَعْنِي: بعبادتكم إيَّاهُم {وَلا يُنَبِّئُكَ مثل خَبِير} يَعْنِي: نَفسه تبَارك وَتَعَالَى.
تَفْسِير سُورَة فاطر الْآيَات من آيَة 15 إِلَى آيَة 18(4/28)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16)
{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ بِعَذَاب الإستئصال (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} هُوَ أطوع لَهُ مِنْكُم(4/28)
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)
{وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أَي: لَا يشق عَلَيْهِ.(4/28)
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
{ولاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أَي: لَا تحمل حاملةٌ ذَنْب نفس أُخْرَى {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} أَي: من الذُّنُوب {إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} أَي: لَا يحمل قريبٌ عَن قَرِيبه شَيْئا من ذنُوبه.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى وَلَو كَانَ المدْعُو ذَا قربى.
{إِنَّمَا تُنذِرُ} أَي: إِنَّمَا يقبل نذارتك {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ} فِي السِّرّ حَيْثُ لَا يطلع عَلَيْهِم أحد {وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ} الْمَفْرُوضَة {وَمَن تَزَكَّى} أَي: عمل صَالحا {فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} أَي: يجد ثَوَابه.
تَفْسِير سُورَة فاطر الْآيَات من آيَة 19 إِلَى آيَة 26(4/28)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19)
{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير} وَهَذَا تبعٌ لقَوْله: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} ،(4/29)
وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)
{وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَات} هَذَا كُله مثل الْمُؤمن وَالْكَافِر؛ أَي: كَمَا لَا يَسْتَوِي مَا ذكر؛ فَكَذَلِك لَا يَسْتَوِي الْمُؤمن وَالْكَافِر.
قَالَ محمدٌ: الحرُور: (استيقاد) الْحر ولفحه بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار.
{إِنَّ الله يسمع من يَشَاء} أَي: يهديه للْإيمَان {وَمَا أَنْتَ بمسمع من فِي الْقُبُور} أَي: وَمَا أَنْت بمسمع الْكفَّار سَمِعَ قبُول؛ كَمَا أَن الَّذين فِي الْقُبُور لَا يسمعُونَ.(4/29)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)
{وَإِنَّ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِير} أَي: من أمة ممَّن أهلكها إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير، يحذر الْمُشْركين أَن ينزل بهم مَا نزل بهم إِن كذبُوا النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(4/29)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25)
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} قَالَ السّديّ: يَعْنِي الْآيَات (ل 281) الَّتِي كَانَت تَجِيء بهَا الْأَنْبِيَاء {وبالزبر} يَعْنِي أَحَادِيث [الْكتاب] مَا كَانَ [من قبلهم] من المواعظ {وَبِالْكِتَابِ الْمُنِير} البيِّن، يَعْنِي: الْكتاب الَّذِي يَجِيء بِهِ النَّبِيّ مِنْهُم إِلَى قومه(4/29)
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
{فَكيف كَانَ نَكِير} أَي: كَانَ شَدِيدا.(4/29)
تَفْسِير سُورَة فاطر الْآيَات من آيَة 27 إِلَى آيَة 30.(4/30)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَات مُخْتَلفا ألوانها} [وطعمها فِي الْإِضْمَار] {وَمِنَ الْجِبَالِ جدد بيض} أَي: [طرائق] بيض {وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ ألوانها وغرابيب سود} والغربيب: الشَّديد السّواد.
قَالَ محمدٌ: قَالُوا: أسْوَدُ غرْبيبٌ يؤكدون السوَاد، والجدد وَاحِدهَا: جدة.(4/30)
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
{وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ ألوانه كَذَلِك} أَي: كَمَا اخْتلفت ألوان مَا ذكر من الثِّمَار وَالْجِبَال ثمَّ انْقَطع الْكَلَام، ثمَّ اسْتَأْنف فَقَالَ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعلمَاء} وهم الْمُؤْمِنُونَ.
قَالَ ابْن عَبَّاس: يعلمُونَ أَن اللَّه عَلَى كل شَيْء قدير(4/30)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
{وَأَقَامُوا الصَّلَاة} الْمَفْرُوضَة {وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً} السِّر: التَّطَوُّع؛ وَالْعَلَانِيَة:(4/30)
الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، يستحبُّ أَن تُعْطى الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة عَلَانيَة، والتطوُّع سرًّا {يرجون تِجَارَة لن تبور} أَي: تفْسد(4/31)
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
{ليوفيهم أُجُورهم} يَعْنِي: ثوابهم فِي الْجنَّة {وَيَزِيدَهُمْ من فَضله} يُضَاعف لَهُم الثَّوَاب.
تَفْسِير سُورَة فاطر الْآيَات من آيَة 31 إِلَى آيَة 32.(4/31)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
{مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ} يَعْنِي: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل(4/31)
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} اخترنا {مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لنَفسِهِ} إِلَى قَوْله: {يدْخلُونَهَا} .
يَحْيَى: عَنِ النَّضْرِ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ زَيْدٍ وَذَكَرَ حَدِيثًا فِيهِ: أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ قَالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الآيَةِ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِي اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} إِلَى قَوْلِهِ: {جنَّات عدن يدْخلُونَهَا} إِلَى آخِرِ الآيَةِ، قَالَ: فَيَجِيءُ هَذَا السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلا حِسَابٍ، وَيَجِيءُ هَذَا الْمُقْتَصِدُ فَيُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ثُمَّ يَتَجَاوَزُ اللَّهُ عَنْهُ، وَيَجِيءُ هَذَا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ فَيُوقَفُ وَيُعَيَّرُ وَيُوَبَّخُ وَيُعَرَّفُ ذُنُوبَهُ، ثُمَّ يُدْخِلُهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفضل رَحمته، فهم الَّذِي قَالُوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شكور} غَفَرَ الذَّنْبَ الْكَبِيرَ، وَشَكَرَ الْعَمَلَ الْيَسِيرَ ".(4/31)
يَحْيَى: عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ سِيَاهٍ، عَنْ شَهْرِ بن حَوْشَب؛ أَن عمر ابْن الْخَطَّابِ قَالَ: " سَابِقُنَا سَابِقٌ، وَمُقْتَصِدُنَا نَاجٍ، وَظَالِمُنَا مَغْفُورٌ لَهُ ".
وَمن حَدِيث يحيى بْن مُحَمَّد، عَن إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَالِحٍ مولى التوءمة، عَن أَبِي الدَّرْدَاء قَالَ: " قَرَأَ رَسُول الله هَذِه الْآيَة، فَقَالَ: أما السَّابِق فَيدْخل الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب، والمقتصد يُحَاسب حسابا يَسِيرا، وَأما الظَّالِم لنفْسه فَيحْبس فِي طول الْمَحْشَر، ثمَّ يتَجَاوَز اللَّه عَنهُ ".
تَفْسِير سُورَة فاطر الْآيَات من آيَة 33 إِلَى آيَة 38.(4/32)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)
{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَحَدٌ إِلَّا وَفِي يَدَيْهِ ثَلَاثَة أَسْوِرة: سوار من ذهب، وسوارٌ من فضَّة، وسوارٌ من لُؤْلُؤ. وَقَالَ هَا هُنَا: {مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} وَقَالَ فِي آيَة أُخْرَى {وَحُلُّوا أساور من فضَّة} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ: (وَلُؤْلُؤًا) فعلى معنى: (يحلَّوْن لؤلؤًا) وأساور جمع: أسورة، وَاحِدهَا: سِوَارٌ.
{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}
يَحْيَى: عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَزَّمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " دَارُ الْمُؤْمِنِ دُرَّةٌ مُجَوَّفَةٌ فِي وَسَطِهَا شَجَرَةٌ تُنْبِتُ الْحُلَلَ، وَيَأْخُذُ بِأُصْبُعِهِ - أَوْ قَالَ:(4/33)
بِأَصَابِعِهِ - سَبْعِينَ حُلَّةً مُنَظَّمَةً بِاللُّؤْلُؤِ والمرجان ".(4/34)
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
{الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يمسنا فِيهَا لغوب} إعْيَاء.: قَالَ محمدٌ: المُقَامة والإِقَامة واحدٌ.(4/34)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يقْضى عَلَيْهِم فيموتوا} .
قَالَ محمدٌ: من قَرَأَ (فَيَمُوتُوا) يَجعله جَوَاب الْفَاء للنَّفْي فِي أَوله.(4/34)
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نعمل} أَي: ارْدُدْنا فِي الدُّنْيَا نعملْ صَالحا! قَالَ الله: {أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} يَعْنِي: النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم. [قَالَ قَتَادَة] (ل 282) نزلت هَذِه الْآيَة وفيهَا ابْن ثَمَانِي عشرَة.
تَفْسِير سُورَة فاطر الْآيَات من آيَة 39 إِلَى آيَة 40.(4/34)
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْض} أَي: خلفا بعد خلف(4/35)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)
{أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} قَالَ السُّدّي: يَعْنِي: فِي الأَرْض {أم لَهُم شرك فِي السَّمَاوَات} أَي: لم يخلقوا مِنْهَا مَعَ اللَّه شَيْئا {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا} بِمَا هُم عَلَيْهِ من الشّرك {فَهُمْ عَلَى بَيِّنَات مِّنْهُ} أَي: لم يفعل {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا} يَعْنِي: الشَّيَاطِين الَّتِي دعتهم إِلَى عبَادَة الْأَوْثَان، وَالْمُشْرِكين الَّذين دَعَا بَعضهم بَعْضًا إِلَى ذَلكَ.
قَالَ محمدٌ: (الْغرُور) الأباطيل الَّتِي تغرُّ، وَمعنى (إِنْ يَعِدُ) : مَا يعد و (بَعضهم) بدل من (الظَّالِمين) .
تَفْسِير سُورَة فاطر الْآيَات من آيَة 41 إِلَى آيَة 43.(4/35)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
{إِن الله يمسك السَّمَاوَات وَالْأَرْض أَن تَزُولَا} [يَعْنِي: لِئَلَّا تَزُولَا] {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بعده} وَهَذِه صفةٌ؛ يَقُولُ: إِن زالتا، وَلنْ تَزُولَا(4/36)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42)
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُم نَذِير} نبيٌّ {لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَم} كَقَوْلِه: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأَوَّلِينَ لَكنا عباد الله المخلصين} .
قَالَ اللَّه: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} مُحَمَّد {مَا زادهم} ذَلِك {إِلَّا نفورا} عَن الْإِيمَان(4/36)
اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
{استكبارا فِي الأَرْض} عَن عبَادَة اللَّه {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} يَعْنِي: الشّرك وَمَا يمكرون برَسُول اللَّه وبدينه {وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَ بِأَهْلِهِ} وَهَذَا وعيدٌ لَهُم.
قَالَ محمدٌ: (استكباراً) منصوبٌ مفعولٌ لهُ؛ الْمَعْنى: مَا زادهم إِلَّا نفورًا للاستكبارُ.
{فَهَلْ ينظرُونَ} ينتظرون {إِلَّا سنة الْأَوَّلين} أَي: سُنَّة اللَّه فِي الأوّلين أَنهم إِذا كذبُوا رسلهم أهلكهم {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} لَا يُبدل اللَّه بهَا غَيرهَا {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا} أَي: لَا تحول؛ وَأخر عَذَابَ كُفَّارِ آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى النفخة الأولى بالاستئصال؛ بهَا يكون هلاكهم، وَقد عذب أَوَائِل مُشْركي هَذِه الْأمة بِالسَّيْفِ يَوْم بدر.(4/36)
تَفْسِير سُورَة فاطر الْآيَات من آيَة 44 إِلَى آيَة 45.(4/37)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)
{أَو لم يَسِيرُوا فِي الأَرْض} أَي: بلَى قد سَارُوا {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قبلهم} كَانَ عاقبتهم أَن دمر الله عَلَيْهِم ثمَّ صيرهم إِلَى النَّار؛ يُحَذِّرُهُمْ أَنْ يُنَزِّلَ بِهِمْ مَا نزل بهم {وَمَا كَانَ اللَّهُ ليعجزه} ليسبقه {مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَات وَلَا فِي الأَرْض} حَتَّى لَا يقدر عَلَيْهِ(4/37)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كسبوا} بِمَا عمِلُوا {مَا تَرَكَ عَلَى ظهرهَا من دَابَّة} يَقُول: لَحَبَسَ عَنْهُمُ القَطْر فَهَلَك مَا فِي الأَرْض من دَابَّة {وَلَكِن يؤخرهم} يَعْنِي: الْمُشْركين {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} السَّاعَة بهَا يكون هلاكُ كفَّار آخر هَذِه الْأمة {فَإِذَا جَاءَ أَجلهم} السَّاعَة {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصيرًا} .(4/37)
تَفْسِير سُورَة يس وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة يس الْآيَات من آيَة 1 إِلَى آيَة 9.(4/38)
يس (1)
قَوْله: {يس} تَفْسِير قَتَادَة: يَا إِنْسَان، بقوله للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام. قَالَ محمدٌ: قيل: إِنَّهَا بلغَة طَيِّىء.(4/38)
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)
{وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} الْمُحكم(4/38)
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
{إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أقسم للنَّبِي بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ من الْمُرْسلين على دين مُسْتَقِيم(4/38)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
{تَنزِيلَ} أَي: هُوَ تنزيلٌ، يَعْنِي: الْقُرْآن {الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}(4/38)
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)
{لِتُنذِرَ قَوْمًا} يَعْنِي: قُريْشًا {مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ} قَالَ بَعضهم: يَعْنِي: الَّذِي أَنْذَرَ آبَاءَهُم {فَهُمْ غَافِلُونَ} يَعْنِي: فِي غفلةٍ من الْبَعْث(4/38)
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ} {سبق} (عَلَى أَكْثَرِهِمْ} يَعْنِي: من لَا يُؤمن مِنْهُم(4/38)
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)
{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ} [مغلولون] يَقُولُ: هُمْ فِيمَا ندعوهم إِلَيْهِ من الْهدى بِمَنْزِلَة الَّذِي فِي عُنقه(4/38)
الغُلُّ، فَهُوَ لَا يَسْتَطِيع أَن يبسط يَده، أَي: أَنهم لَا يقبلُونَ الْهدى و (المقمح) فِي تَفْسِير الْحَسَن: الطَّامح ببصره الَّذِي لَا يبصر حَيْثُ يطأُ بقدمه؛ أَي: أَنهم لَا يبصرون الهُدَى.
قَالَ محمدٌ: قَوْله: {فَهِيَ إِلَى الأذقان} (فَهِيَ) كِنَايَة عَن الْأَيْدِي لَا عَن الْأَعْنَاق؛ لِأَن الغلّ يَجْعَل الْيَد تلِي الذَّقن والعُنق. والمُقْمَح فِي كَلَام الْعَرَب: الرافع رَأسه الغاضُّ بَصَره. وَقيل أقماح؛ لِأَن الْإِبِل إِذا وَردت المَاء ترفعُ رءوسها لشدَّة برودته.
قَالَ الشَّاعِر - يذكُر سفينة -:
( [وَنحن عَلَى جوانبها قعُود] ... نغض الطّرف كَالْإِبِلِ القماح)
وَاحِد القماح: قامح (ل 283)(4/39)
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)
{وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّ ا} هُوَ كَقَوْلِه: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [قَالَ: كَانَ ناسٌ من الْمُشْركين من قُرَيْش يَقُولُ بَعضهم: لَو قد رأيتُ مُحَمَّدًا لقد فعلتُ كَذَا وَكَذَا {وَيَقُول بعضهُم: لَو قد رأيتُه لفعلتُ بِهِ كَذَا وَكَذَا} فَأَتَاهُم النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَلْقة من الْمَسْجِد، فَوقف عَلَيْهِم فَقَرَأَ عَلَيْهِم: (يس وَالْقُرْآن(4/39)
الْحَكِيمِ} حَتَّى بلغ: {فَهُمْ لَا يبصرون} ثمَّ أَخذ تُرَابا؛ فَجعل يذروه عَلَى رُءُوسهم، فَمَا رفع رَجُل إِلَيْهِ طرفه وَلَا تكلّم كلمة. ثمَّ جَاوز النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجعلُوا ينفضُون التُّرَاب عَن رُءُوسهم ولحاهم وهم يَقُولُونَ: وَالله مَا سمعنَا، وَمَا أبصرنا، وَمَا عقلنا!] .
تَفْسِير سُورَة يس الْآيَات من آيَة 10 إِلَى آيَة 12.(4/40)
وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)
{وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} يَعْنِي: الَّذين لَا يُؤمنُونَ(4/40)
إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
{إِنَّمَا تُنذِرُ} إِنَّمَا يقبل نذارَتَك {مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} {الْقُرْآن(4/40)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
2 -! (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} يَعْنِي: الْبَعْث {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} أَي: مَا عمِلُوا من خير أَو شَرّ {وَآثَارَهُمْ} تَفْسِير قَتَادَة: يَعْنِي الخُطَا، لَو كَانَ الله مُغْفِلًا شَيْئا من شَأْنك يَا ابْن آدم لَا تُحْصيه لأغفلَ هَذِه الآثارَ الَّتِي [تعفوها] الرِّيَاح {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} بيِّن؛ يَعْنِي: اللَّوْح الْمَحْفُوظ.
قَالَ محمدٌ: (كلّ) نُصِب عَلَى معنى: أحصينا كلَّ شيءٍ أحصيناه
{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} وَهِي أَنْطاكية {إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أَي: قويناهما بثالث.
تَفْسِير سُورَة يس الْآيَات من آيَة 13 إِلَى آيَة 19.(4/40)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
قَالَ محمدٌ: معنى قَوْله: {وَاضْرِبْ لَهُم مثلا} أَي: اذكر لَهُم مثلا و (أَصْحَاب الْقرْيَة) بدل من قَوْله: (مثلا) وَقَوله: (فعززنا) يُقَال: مِنْهُ عَزَّز من قلبه؛ أَي: قوَّى، وتعزّز لحم النَّاقة إِذا صَلُبَ.
وَفِي تَفْسِير مُجَاهِد: أَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَيْهِم نبيَّان قبل الثَّالِث فَقَتَلُوهُمَا ثمَّ أرسل اللَّه الثَّالِث قَالَ: فَقَالُوا: يَعْنِي: الْأَوَّلين قبل الثَّالِث، وَالثَّالِث بعدهمَا: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} .(4/41)
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)
{قَالُوا إِنَّا تطيرنا بكم} أَي: تشاءمنا {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لنرجمنكم} لنقتلنكم(4/41)
قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
{قَالُوا} قالتْ لَهُم رسلُهم {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [أَي عَمَلكُمْ مَعكُمْ.
قَالَ مُحَمَّد: شؤمكم مَعكُمْ أَي عَمَلكُمْ بِهِ تصابون] {أئن ذكرْتُمْ} يَعْنِي: ذكّرناكم بِاللَّه تطيَّرْتمْ بِنَا.
قَالَ محمدٌ: قِرَاءَة نَافِع (أَيْنَ) بِهَمْزَة بعْدهَا يَاء. وَاخْتلف عَلَيْهِ فِي الْمَدّ.(4/41)
تَفْسِير سُورَة يس الْآيَات من آيَة 20 إِلَى آيَة 27.(4/42)
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)
{وَجَاء من أقْصَى الْمَدِينَة} أنطاكية {رجل يسْعَى} يسْرع، وَهُوَ حبيب النَّجَّار.
تَفْسِير مُجَاهِد قَالَ: كَانَ [رجلا] من قوم يونُسَ وَكَانَ بِهِ جذامٌ، فَكَانَ يطِيف بآلهتهم يدعوها فَلم يُغن ذَلكَ عَنْهُ شَيْئا، فَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا إِذْ هُوَ بِجَمَاعَة فَدَنَا مِنْهُم؛ فَإِذا نَبِي يَدعُوهُم إِلَى اللَّه وَقد قتلوا قبله اثْنَيْنِ، فَدَنَا مِنْهُ، فَلَمَّا سَمِعَ كَلَام النَّبِيّ قَالَ: يَا عبْدَ اللَّه، إِن معي ذَهَبا، فَهَل أَنْت آخذه مني وأتبعك وَتَدْعُو اللَّه لي؟ قَالَ: لَا أُرِيد ذهبك وَلَكِن ابتعني فَلَمَّا رَأَى الَّذِي بِهِ دَعَا اللَّه لَهُ فبرأ، فَلَمَّا رَأَى مَا صُنع بِهِ قَالَ: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يسألكم أجرا} لما كَانَ عرض عَلَيْهِ من الذَّهَب فَلم يقبله مِنْهُ(4/42)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
{وَمَا لِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فطرني} إِلَى قَوْله: {فاسمعون} أَي: فاسمعو مني قولي، دعاهم إِلَى الْإِيمَان فَلَمَّا سَمِعُوهُ قَتَلُوهُ، فَقيل لَهُ: ادخل الْجنَّة. قَالَ مُجَاهِد: أَي:(4/42)
وَجَبت لَك الجنةُ {قَالَ يَا لَيْت قومِي يعلمُونَ} الْآيَة.
تَفْسِير سُورَة يس الْآيَات من آيَة 28 إِلَى آيَة 32.(4/43)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)
قَالَ اللَّه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ من السَّمَاء} يَعْنِي: رِسَالَة - فِي تَفْسِير مُجَاهِد -؛ أَي: انْقَطع عَنْهُمُ الْوَحْي؛ فاستوجبوا الْعَذَاب(4/43)
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
{إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} والصَّيْحَةُ عِنْد الْحَسَن: الْعَذَاب {فَإِذَا هم خامدون} قد هَلَكُوا(4/43)
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)
{يَا حسرة على الْعباد} أخبر اللَّه أَن تكذيبهم الرسلَ حسرةٌ عَلَيْهِم.
قَالَ محمدٌ: من قَرَأَ: (إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة) بالنصْب، فَالْمَعْنى: مَا كَانَت عقوبتُهم إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة.
والحسرةُ: أَن يركب الْإِنْسَان من شدَّة النّدم مَا لَا نِهَايَة بعده حَتَّى يبْقى قلبُه حسيرًا.
يُقَال مِنْهُ: حسر الرجل، وتحسر.(4/43)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)
{ألم يرَوا} يَعْنِي: مُشْركي قُرَيْش {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يرجعُونَ} أَي: لَا يرجعُونَ إِلَى الدُّنْيَا؛ يُحَذِّرُهُمْ أَنْ يُنَزِّلَ بِهِمْ مَا نزل بهم(4/43)
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
{وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا محضرون} يَوْم الْقِيَامَة.
قَالَ محمدٌ: من قَرَأَ (لَمَا) بِالتَّخْفِيفِ ف " مَا " زَائِدَة مؤكِّدة؛ الْمَعْنى: وَمَا كُلٌّ إِلَّا جَمِيع.
تَفْسِير سُورَة يس الْآيَات من آيَة 33 إِلَى آيَة 44.(4/44)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)
{وَآيَة لَهُم الأَرْض الْميتَة} يَعْنِي: الَّتِي لَا نَبَات فِيهَا أحييناها بالنبات؛ أَي: فَالَّذِي أَحْيَاهَا بعد مَوتهَا قادرٌ عَلَى أَن يحيى الْمَوْتَى.
قَالَ مُحَمَّد: {أيه} رفع بِالِابْتِدَاءِ، وخبرها {الأَرْضُ الْمَيْتَةُ} وَمعنى آيَة: عَلامَة.(4/44)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)
{لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْديهم} أَي: لم تعمله أَيْديهم(4/44)
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
(سُبْحَانَ الَّذِي(4/44)
خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} يَعْنِي: الْأَصْنَاف {مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} يَعْنِي: الذّكر وَالْأُنْثَى {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} مِمَّا خَلَق فِي البرّ وَالْبَحْر(4/45)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
{وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} {ل 284} أَي: نَذْهَب مِنْهُ النَّهَار(4/45)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)
{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} لَا تجاوزه، وَهَذَا بعد مسيرها، ثمَّ ترجع منازلَها إِلَى يَوْم الْقِيَامَة حَيْثُ تُكوَّرُ ويذهبُ ضوْؤُها(4/45)
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} أَي: يجْرِي عَلَى مَنَازِله؛ يَزِيدُ وينقُص {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} كعِذْق النَّخْلَة الْيَابِس؛ يَعْنِي: إِذا كَانَ هِلَالًا.
قَالَ محمدٌ: من قَرَأَ (وَالْقَمَر) بِالرَّفْع، فعلى معنى: وَآيَة لَهُم الْقَمَر.(4/45)
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
{لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ} تَفْسِير الْحَسَن: لَا الشَّمْس يَنْبَغِي لَهَا أَن تدْرك الْقَمَر لَيْلَة الْهلَال خَاصَّة لَا يَجْتَمِعَانِ فِي السَّمَاء، وَقد يُرَيَان جَمِيعًا ويجتمعان فِي غير لَيْلَة الْهلَال، وَهُوَ كَقَوْلِه: {وَالْقَمَر إِذا تَلَاهَا} إِذا تبعها لَيْلَة الْهلَال خَاصَّة {وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أَي: يَأْتِي عَلَيْهِ النهارُ، كَقَوْلِه: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} .
{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يَعْنِي: الشَّمْس وَالْقَمَر.
قَالَ الْحَسَن: الفَلَكُ: طاحونَةُ مستديرةُ كفَلْكَةِ المِغْزَل بَين السَّمَاء وَالْأَرْض تجْرِي فِيهَا الشمسُ وَالْقَمَر والنجوم، وَلَيْسَت بملتصقةٍ بالسماء، وَلَو كَانَت ملتصقةً مَا جرت.(4/45)
تَفْسِير سُورَة يس الْآيَات من آيَة 41 إِلَى آيَة 47.(4/46)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)
{وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّاتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} يَعْنِي: نوحًا وبنيه الثَّلَاثَة: سَام وَحَام وَيَافث، مِنْهُم ذرىء الْخلق بعد مَا غَرِقَ قومُ نوح؛ والمشحونُ: المُوقَر، يَعْنِي: مِمَّا حمل نوح مَعَه فِي السَّفِينَة(4/46)
{وخلقنا لَهُم من مثله} من مثل الْفلك {مَا يَرْكَبُونَ} يَعْنِي: الْإِبِل(4/46)
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)
{وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُم} أَي: فَلَا مُغِيث لَهُم {وَلا هم ينقذون} من الْعَذَاب(4/46)
إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
{إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِين} فبرحمتنا نمتّعهم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَلم نهلكهم بِعَذَاب الاستئصال، وسيهلك كفار آخر هَذِه الأمّة بالنفخة الأولى(4/46)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَين أَيْدِيكُم وَمَا خلفكم} تَفْسِير الْكَلْبِيّ: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} . من أَمْر الْآخِرَة اتقوها وَاعْمَلُوا بهَا، {وَمَا خلفكم} يَعْنِي: الدُّنْيَا إِذا كُنْتُم فِي الْآخِرَة فَلَا تغترُّوا بالدنيا؛ فَإِنَّكُم تأتون الْآخِرَة(4/46)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ} وَهَذَا تطوُّع {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاء الله أطْعمهُ} فَإِذا لم يَشَأْ الله أَن يطعمهُ لِمَ نطعمه؟ ! {إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} يَقُوله الْمُشْركُونَ للْمُؤْمِنين.(4/46)
تَفْسِير سُورَة يس الْآيَات من آيَة 48 إِلَى آيَة 54.(4/47)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
{وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد} . أيْ: هَذَا الْعَذَاب {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقين} يكذبُون بِهِ.(4/47)
مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
قَالَ الله {مَا ينظرُونَ} أَي: مَا ينْتَظر كفار آخر هَذِهِ الأُمَّةِ الدَّائِنِينَ بِدِينِ أَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابه {إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} يَعْنِي: النفخة الأولى من إسْرَافيل بهَا يكون هلاكهم {تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يخصمون} أَي: يختصمون فِي أسواقهم وحوائجهم(4/47)
فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
{فَلَا يَسْتَطِيعُونَ توصية} أَن يوصُوا {وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يرجعُونَ} من أسواقهم وَحَيْثُ كَانُوا(4/47)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)
{وَنفخ فِي الصُّور} هَذِه النفخةُ الْآخِرَة، والصُّور. قرنٌ تُجْعل الأرواحُ فِيهِ، ثمَّ يَنْفُخ فِيهِ صاحبُ الصُّور، فيذهبُ كلُّ روح إِلَى جسده {فَإِذَا هُمْ من الأجداث} الْقُبُور {إِلَى رَبهم يَنْسلونَ} أَي: يخرجُون سرَاعًا(4/47)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
{قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا من مرقدنا} قَالَ قَتَادَة: تكلّم بأوّل هَذِه الْآيَة أهلُ الضَّلَالَة، وبآخرها أهلُ الْإِيمَان. قَالَ أهل الضَّلَالَة: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَن وَصدق المُرْسَلُونَ}
وَقَوْلهمْ: {من مرقدنا} هُوَ مَا بَين النفختيْن لَا يُعَذَّبون فِي قُبُورهم مَا بَين النفختين، وَيُقَال: إِنَّهَا أَرْبَعُونَ سنة، الْأُولَى يُمِيتُ اللَّهُ بِهَا كُلَّ حَيٍّ، وَالْأُخْرَى يُحْيِي اللَّهُ بِهَا كل ميت(4/47)
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)
{إِن كَانَت} يَعْنِي: مَا كَانَت {إِلا صَيْحَةً وَاحِدَة} يَعْنِي: النفخة الثَّانِيَة {فَإِذَا هُمْ جَمِيع لدينا محضرون} الْمُؤْمِنُونَ والكافرون.(4/47)
قَالَ محمدٌ: من قَرَأَ (صَيْحَةً) بالنصْب، فعلى معنى: إِن كَانَت تِلْكَ إِلَّا صَيْحَة.
تَفْسِير سُورَة يس الْآيَات من آيَة 55 إِلَى آيَة 59.(4/48)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)
{إِن أَصْحَاب الْجنَّة الْيَوْم} يَعْنِي: فِي الْآخِرَة {فِي شُغُلٍ} قَالَ قَتَادَة فِي: افتضاض العذارى {فاكهون} أَي: مسرورون؛ فِي تَفْسِير الْحَسَن (ل 285)(4/48)
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56)
{هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأرائك} يَعْنِي: السُّرُر فِي الحجال.
يَحْيَى: عَنْ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَدْخُلُونَهَا كُلُّهُمْ نِسَاؤُهُمْ وَرِجَالُهُمْ مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ أَبْنَاءَ ثَلاثٍ وَثَلاثِينَ سَنَةً، عَلَى طُولِ آدَمَ؛ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا - اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَيِّ ذِرَاعٍ - جَرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلِينَ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَلا يَبُولُونَ وَلا يَتَغَوَّطُونَ وَلا يَمْتَخِطُونَ، وَالنِّسَاءُ عُرُبًا أَتْرَابًا لَا يَحِضْنَ، وَلا يَلِدْنَ وَلا يَمْتَخِطْنَ وَلا يَبُلْنَ وَلا يَقْضِينَ حَاجَة ".(4/48)
لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)
{لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يدعونَ} أَي: يشتهون قَالَ: يكون فِي فَم أحدهم الطعامُ، فيخطُر عَلَى باله آخرُ؛ فيتحوَّل ذَلكَ الطعامُ فِي فِيهِ، يأكلُ من ناحيةٍ البسْرةَ بُسرًا، ثمَّ يَأْكُل من النَّاحِيَة الْأُخْرَى عنبًا إِلَى عشرةِ ألوان، وَمَا شَاءَ(4/48)
اللَّه من ذَلكَ. وتصفُّ الطيرُ بَين يَدَيْهِ؛ فَإِذا اشْتهى الطَّائِر مِنْهَا اضْطربَ ثمَّ صَار بَين يَدَيْهِ نَضِيجًا بعْضُه شواءً وبعْضُه قَدِيدًا، وكلُّ مَا اشتهت أنفسهم وجدوه.(4/49)
سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
{سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} يَأْتِي المَلَكُ من عِنْد اللَّه إِلَى أحدهم فَلَا يدْخل عَلَيْهِ، حَتَّى يسْتَأْذن عَلَيْهِ يطْلب الإذْنَ من البواب الأول؛ فيذكره للبواب الثَّانِي، ثمَّ كَذَلِك حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى البواب الَّذِي يَلِيهِ، فَيَقُول البواب لَهُ: ملكٌ عَلَى الْبَاب يستأذنُ! فَيَقُول: ائْذَنْ لَهُ فَيدْخل بِثَلَاثَة أَشْيَاء: بِالسَّلَامِ من اللَّه، والتحيَّة، وبأنّ اللَّه عَنْهُ راضٍ.
قَالَ محمدٌ: قَوْله: {سَلامٌ قَوْلا} منصوبٌ عَلَى معنى: لَهُم سلامٌ يَقُوله الله قولا.(4/49)
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
{وامتازوا الْيَوْم أَيهَا المجرمون} الْمُشْركُونَ؛ أَي: تميزوا عَن أهل الجنَّة إِلَى النَّار.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى انْقَطَعُوا عَن الْمُؤمنِينَ، يُقَال: مِزْتُ الشَّيْء عَن الشَّيْء إِذا عزلته عَنْهُ، فانمازَ وامتاز وميّزته فتميز.
تَفْسِير سُورَة يس الْآيَات من آيَة 60 إِلَى آيَة 66.(4/49)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَلاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} لأَنهم عبدُوا الْأَوْثَان بِمَا وسوس إِلَيْهِم الشَّيْطَان؛ فَأَمرهمْ بعبادتهم فَإِنَّمَا عبدُوا الشَّيْطَان(4/50)
وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
{هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم} أَي: دين(4/50)
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)
{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا} أَي: خلقا كَثِيرَة(4/50)
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63)
{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} فِي الدُّنْيَا أَنْ لمْ تؤمنوا(4/50)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْديهم وَتشهد أَرجُلهم} تَفْسِير بَعضهم: لما قَالُوا: وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين. ختم اللَّه عَلَى أَفْوَاههم ثمَّ قَالَ للجوارح: انْطِقِي فأوّل مَا يتَكَلَّم من أحدهم فَخِذُه. قَالَ الْحَسَن: وَهَذَا آخر مَوَاطِن يَوْم الْقِيَامَة، إِذا ختمت أفواهم لم يكن بعد ذَلكَ إِلَّا دُخُول النَّار.(4/50)
وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)
{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} يَعْنِي: الْمُشْركين {فاستبقوا الصِّرَاط} الطَّرِيق {فَأنى يبصرون} فَكيف يبصرون إِذا أعميناهم؟ !
تَفْسِير سُورَة يس الْآيَات من آيَة 67 إِلَى آيَة 70.(4/50)
وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)
{وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} أَي: لأقعدناهم عَلَى أَرجُلهم {فَمَا اسْتَطَاعُوا مضيا وَلَا يرجعُونَ} أَي: إِذا فعلنَا ذَلكَ بهم لمْ يستطيعوا أَن يتقدَّموا وَلَا يتأخروا(4/50)
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
{وَمن نعمره} أَي: إِلَى أَرْذَل الْعُمر {نُنَكِّسْهُ فِي الْخلق} فَيكون(4/50)
بِمَنْزِلَة الصَّبِي الَّذِي لَا يَعْقِلُ {أَفلا يعْقلُونَ} يَعْنِي: الْمُشْركين، أَي: فَالَّذِي خَلقكُم ثمَّ جعلكُمْ شبَابًا ثمَّ جعلكُمْ شُيُوخًا ثمَّ نكَّسكم فِي الْخلق فردكم بِمَنْزِلَة الطِّفْل الَّذِي لَا يعقل شَيْئا - قادرٌ عَلَى أَن يبعثكم يَوْم الْقِيَامَة(4/51)
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)
{وَمَا علمناه الشّعْر} يَعْنِي: النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أَن يكون شَاعِرًا وَلَا يروي الشّعْر، هَذَا لقَولهم فِي النَّبِي أَنَّهُ شاعرٌ.
قَالَ قَتَادَة: وَقَالَت عَائِشَة: " لم يتكلَّم رَسُول الله بِبَيْت شعرٍ قطّ؛ غير أَنَّهُ أَرَادَ مرّة أَن يتمثَّل بِبَيْت شعرٍ فَلم يُقِمْه " وَقَالَ بَعضهم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قَاتل اللَّه طرفَة حيثُ يَقُولُ:
(سَتُبْدِي لَك الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلا ... ويَأْتِيكَ مَنْ لم تُزَوَّدِ بالأَخْبَارِ)
قِيلَ لَهُ: إِنَّه قَالَ: (ويأتيك بالأخبار من لم تزَود ... )
فَقَالَ: سَوَاء ".(4/51)
{إِن هُوَ إِلَّا ذكر وَقُرْآن مُبين} تَفْسِير بَعضهم: إِن هُوَ إِلَّا تفكر فِي ذَات الله {وَقُرْآن مُبين} بَين(4/52)
لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
{لينذر} يَا محمدُ {مَنْ كَانَ حَيًّا} أَي: مُؤمنا هُوَ الَّذِي يقبلُ نذارتك {ويحق القَوْل} الْغَضَب {على الْكَافرين} .
تَفْسِير سُورَة يس الْآيَات من آيَة 71 إِلَى آيَة 77.(4/52)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} {ل 286} أَي: قوتنا فِي تَفْسِير الْحَسَن كَقَوْلِه: {وَالسَّمَاء بنيناها بأيد} [أَي: بِقُوَّة](4/52)
وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)
{وذللناها لَهُم فَمِنْهَا ركوبهم} أَي: مَا يركبون.
قَالَ محمدٌ: (الرَّكُوب) بِفَتْح الرَّاء اسْمُ مَا يركب، والرُّكوب المصدرُ، وَيُقَال: مكانٌ ركُوب، يُرِيدُونَ الِاسْم.(4/52)
وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)
{وَلَهُم فِيهَا مَنَافِع} فِي أصوافها، وأوبارها، وَأَشْعَارهَا، ولحومها {ومشارب} يشربون من أَلْبَانهَا {أَفَلا يَشْكُرُونَ} أَي: فليشكروا(4/53)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُم ينْصرُونَ} يمْنَعُونَ(4/53)
لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)
{لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصرهم} لَا تَسْتَطِيع آلِهَتهم الَّتِي يعْبدُونَ نَصْرَهُمْ {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} مَعَهم فِي النَّار؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة(4/53)
فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
{فَلَا يحزنك قَوْلهم} إِنَّكَ سَاحِرٌ، وَإِنَّكَ شَاعِرٌ [وَإِنَّكَ كَاهِنٌ] وَأَنَّكَ مَجْنُونٌ، وَأَنَّكَ كَاذِبٌ {إِنَّا نعلم مَا يسرون} من عداوتهم لَك {وَمَا يُعْلِنُونَ} فيعصمك اللَّه مِنْهُم ويذلهم لَك، فَفعل الله ذَلِك بِهِ.
تَفْسِير سُورَة يس الْآيَات من آيَة 78 إِلَى آيَة 83.(4/53)
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} أَي: وَقد علم أَنَا خلقناه؛ أَي: فَكَمَا خلقناه كَذَلِك نعيده {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيم} أَي: رُفات.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: رمّ العظْمُ فَهُوَ رَمِيم ورِمَامٌ.
قَالَ مُجَاهِد: " أَتَى أُبيُّ بْن خلف إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعظْمٍ نَخِرٍ ففتَّه بِيَدِهِ؛ فَقَالَ: يَا محمدُ، أَيُحْيِي اللَّه هَذَا وَهُوَ رَمِيم؟ ! ".(4/53)
قَالَ يَحْيَى: فبلغني أَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: " نعم يُحْيِيك اللَّه بعد موتك، ثمَّ يدْخلك النَّار "؟ فَأنْزل اللَّه {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا} خلقهَا {أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} .(4/54)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَر نَارا} يَعْنِي: كُلّ عودٍ تزند مِنْهُ النَّار، فَهُوَ من شَجَرَة خضراء(4/54)
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
{الَّذِي بِيَدِهِ ملكوت} (أَي: ملك) {كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يَوْم الْقِيَامَة.(4/54)
تَفْسِير سُورَة الصافات وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الصافات الْآيَات من آيَة 1 إِلَى آيَة 10.(4/55)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)
قَوْله: {وَالصَّافَّات صفا} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: صُفُوف الْمَلَائِكَة.
يَحْيَى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلا وَعَلَيْهَا مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ ".
قَالَ مُحَمَّد: الأطيط: الصَّوْت.(4/55)
فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2)
{فالزاجرات زجرا} يَعْنِي: الْمَلَائِكَة، وَمِنْهُم الرَّعْد الْملك الَّذِي يزجُر السَّحَاب؛ وَقَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَة} يَعْنِي: النفخة(4/55)
الْآخِرَة ينفخها صَاحب الصُّور(4/56)
فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)
{فالتاليات ذكرا} الْمَلَائِكَة تتلو الْوَحْي الَّذِي تَأتي بِهِ الْأَنْبِيَاء؛ أقسم بِهَذَا كُله(4/56)
إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
{إِن إِلَهكُم لوَاحِد رب السَّمَاوَات وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} تَفْسِير قَتَادَة قَالَ: هِيَ ثَلَاثمِائَة وَسِتُّونَ مشرقاً، وثلاثمائة وَسِتُّونَ مغرباً.(4/56)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)
{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِب وحفظا} أَي: وجعلناها يَعْنِي: الْكَوَاكِب حِفْظًا للسماء(4/56)
وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)
{من كل شَيْطَان مارد} أَي: مجترئ على الْمعْصِيَة(4/56)
لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)
{لَا يسمعُونَ} أَي: لِئَلَّا يسمعُونَ {إِلَى الْمَلإِ الْأَعْلَى} يَعْنِي: الْمَلَائِكَة فِي السَّمَاء، وَكَانُوا يسمعُونَ قبل أَن يُبْعث النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارًا مِنْ أَخْبَارِ السَّمَاءِ، فَأَمَّا الْوَحْيُ فَلَمْ يَكُونُوا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يسمعوه {ويقذفون} أَي: يُرْمَوْن {مِنْ كُلِّ جَانِبٍ}(4/56)
دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9)
{دحورا} أَي: طَرْدًا {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} أَي: دَائِم(4/56)
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
{إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ} أَي: لحقه {شهَاب ثاقب} مضيء، رَجَعَ إِلَى أول الْكَلَام {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى} .
{إِلَّا من خطف الْخَطفَة} يَعْنِي: اسْتمع الاستماعة.
قَالَ ابْن عَبَّاس: إِذا رَأَيْتُمْ الْكَوْكَب قد رُمِيَ بِهِ فتوارى؛ فَإِنَّهُ يَحْرق مَا أصَاب وَلَا يقتل.
تَفْسِير سُورَة الصافات الْآيَات من آيَة 11 إِلَى آيَة 21.(4/56)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)
{فاستفتهم} يَعْنِي: الْمُشْركين، أَي: فاسألهم عَلَى الِاسْتِفْهَام؛ يُحاجُّهم بذلك {أَهُمْ أَشَدُّ خلقا أم من خلقنَا} أم السَّمَاء أَي: أَنَّهَا أَشد خلقا مِنْهُم {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طين لازب} واللازبُ: الَّذِي يلصقُ بِالْيَدِ؛ يَعْنِي: خلق آدم.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: لازب ولازم، بِمَعْنى وَاحِد.(4/57)
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)
{بل عجبت} يَا محمدُ أَن أَعْطَيْت هَذَا الْقُرْآن {ويسخرون} يَعْنِي: الْمُشْركين(4/57)
وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13)
{وَإِذا ذكرُوا} بِالْقُرْآنِ {لَا يذكرُونَ} (ل 287)(4/57)
وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)
{وَإِذا رَأَوْا آيَة} إِذا تليت عَلَيْهِم آيَة {يَسْتَسْخِرُونَ} من السخرية(4/57)
قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)
{قل نعم وَأَنْتُم داخرون} أَي: صاغرون(4/57)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَة وَاحِدَة} النفخة الْآخِرَة {فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} أَي: خَرجُوا من قُبُورهم [ينظرُونَ] .
تَفْسِير سُورَة الصافات الْآيَات من آيَة 22 إِلَى آيَة 50(4/57)
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)
{احشروا} أَي: سوقوا {الَّذين ظلمُوا} أشركوا {وَأَزْوَاجَهُمْ} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ دَعَوْا إِلَى عبَادَة الْأَوْثَان.
قَالَ محمدٌ: تَقُولُ الْعَرَب: زوّجْتُ إبلي إِذا قرنت وَاحِدًا بآخر.(4/58)
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)
{فاهدوهم} أَي: ادعوهُمْ {إِلَى صِرَاط} طَرِيق {الْجَحِيم} والجحيم اسْم من أَسمَاء جهنّم(4/58)
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)
{وقفوهم} أَي: احبسوهم، وَهَذَا قبل أَن يدخلُوا النَّار {إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} عَن لَا إِلَه إِلَّا اللَّه.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: وقفت الدَّابَّة وَقْفًا ووقُوفًا، وَمن هَذَا الْمَعْنى قَوْله: {وقفوهم} وَيُقَال: أوقفتُ الرجل عَلَى الْأَمر إيقافاً.(4/58)
مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)
{مَا لكم لَا تناصرون} يُقَال لَهُم: مَا لكم لَا ينصر بَعْضكُم بَعْضًا؟ !(4/58)
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
قَالَ اللَّه: {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مستسلمون} أَي: استسلموا(4/58)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)
(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ(4/58)
يَتَسَاءلُونَ} يَعْنِي: الْكفَّار وَالشَّيَاطِين(4/59)
قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28)
{قَالُوا} قَالَ الْكفَّار للشياطين: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} قَالَ مُجَاهِد: أَي: من قبل الدّين؛ فصددتمونا عَنهُ(4/59)
قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)
{قَالُوا} يَعْنِي: الشَّيَاطِين للْمُشْرِكين من الْإِنْس {بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} .(4/59)
وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30)
{وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ} نقهركم بِهِ عَلَى الشّرك {بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} أَي: ضَالِّينَ(4/59)
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)
{فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا} الشَّيَاطِين تَقُولُ هَذَا، قَالَ اللَّه:(4/59)
فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33)
{فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} يُقْرَنُ كل واحدٍ مِنْهُم هُوَ وشيطانه فِي سلسلة وَاحِدَة(4/59)
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)
{وَيَقُولُونَ} يَعْنِي: الْمُشْركين إِذا دعاهم النَّبِيّ إِلَى الْإِيمَان {أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} يَعْنُونَ: النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَي: لَا نَفْعل. قَالَ الله(4/59)
بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
{بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} {قبله(4/59)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)
{إِلاَ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} اسْتثْنى الْمُؤمنِينَ(4/59)
أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)
{أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ} الْجنَّة.
(عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ لَا ينظر بعضُهم إِلَى قَفَا بعضٍ.
تَفْسِير بَعضهم: وَهَذَا فِي الزِّيَارَة إِذا تزاوروا(4/59)
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)
{يُطَاف عَلَيْهِم بكأس} وَهِي الخَمْرُ.
قَالَ محمدٌ: الكأس اسْمٌ يَقع لكل إناءٍ مَعَ شرابه.
{من معِين} والمعين: الْجَارِي الظَّاهِر(4/59)
لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)
{لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا ينزفون} أَي: إِذا شَرِبُوهَا لَا يَسْكرون؛ فتذهب عقولُهم.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: الخمْر غَوْلٌ للحلْمِ، والحربُ غَوْلٌ للنفوس؛ أَي: تذْهب بهَا. وَذكر أَبُو عُبَيْد أَن قِرَاءَة نَافِع (ينزَفون) بِفَتْح الزَّاي فِي هَذِه، وَفِي(4/59)
الَّتِي هِيَ الْوَاقِعَة.
قَالَ محمدٌ: وَيُقَال: للسكران: نَزِيفٌ ومَنْزُوفٌ.
وَمن قَرَأَ (يُنْزَفُونَ) بِكَسْر الزَّاي فَهُوَ من: أنزفَ القومُ إِذا حَان مِنْهُم النَّزفُ وَهُوَ السُّكْر؛ كَمَا يُقَال: أحصد الزَّرعُ إِذا حَان حصادُه، وأقطف الْكَرم إِذا حَان قطافه.(4/60)
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)
قَوْله: {قاصرات الطّرف} يَعْنِي: الْأزْوَاج قَصْرن طرْفَهُنّ عَلَى أزواجهنّ لَا يُرِدْن غيْرهم. {عِينٌ} عِظَام الْعُيُون، الْوَاحِدَة مِنْهُنَّ، عَيْناء.(4/60)
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
{كأنهن بيض مَكْنُون} تَفْسِير بَعضهم يَعْنِي بالبيض: اللُّؤْلُؤ، كَقَوْلِه: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ} مَكْنُون فِي أصدافه.(4/60)
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بعض يتساءلون} يَعْنِي: أهل الْجنَّة.
تَفْسِير سُورَة الصافات الْآيَات من آيَة 51 إِلَى آيَة 60.(4/60)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)
{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لي قرين} صَاحب فِي الدُّنْيَا.(4/61)
يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)
{يَقُول أئنك لمن المصدقين} على الِاسْتِفْهَام(4/61)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)
{أئنا لمدينون} لمحاسبون؛ أَي: لَا نُبْعَثُ وَلَا نُحَاسب.
قَالَ يحيى: وهما اللَّذَان فِي سُورَة الْكَهْف فِي قَوْله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} إِلَى آخر قصتهما.(4/61)
قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)
{قَالَ} الْمُؤمن مِنْهُمَا: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} يَعْنِي: فِي وسط الْجَحِيم(4/61)
قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)
{قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} أَي: تباعدني من اللَّه.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: رَدِيَ الرجُل يَرْدَى رَدًى؛ إِذا هلك، وأرْدَيتُه: أهلكته.(4/61)
وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
{وَلَوْلَا نعْمَة رَبِّي} يَعْنِي: الْإِسْلَام {لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} مَعَك فِي النَّار(4/61)
أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)
{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلا مَوْتَتَنَا الأولى} وَلَيْسَ هِيَ إِلَّا موتَة وَاحِدَة الَّتِي كَانَت فِي الدُّنْيَا {وَمَا نَحن بمعذبين} عَلَى الِاسْتِفْهَام، وَهَذَا اسْتِفْهَام عَلَى سرُور (ل 288) ، قد أَمن ذَلكَ، ثمَّ [قَالَ] : {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} النجَاة الْعَظِيمَة من النَّار إِلَى الْجنَّة.
تَفْسِير سُورَة الصافات الْآيَات من آيَة 61 إِلَى آيَة 74.(4/61)
لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
قَالَ الله: {لمثل هَذَا} يَعْنِي: مَا [وصف فِيهِ] أهل الْجنَّة {فليعمل الْعَامِلُونَ}(4/62)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)
ثمَّ قَالَ: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلا أم شَجَرَة الزقوم} أَي: أَنه خير نزلا.(4/62)
إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63)
{إِنَّا جعلناها فتْنَة للظالمين} للْمُشْرِكين.(4/62)
إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64)
قَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة، جَاءَ أَبُو جهل بِتَمْر وزبد، وَقَالَ: تزقَّموا فَمَا نعلم الزقوم إِلَّا هَذَا، فَأنْزل اللَّه {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيم} .
قَالَ يحيى: [بَلغنِي] أَنَّهَا فِي الْبَاب السَّادِس، وَأَنَّهَا تَجِيء بلهب النَّار؛ كَمَا تَجِيء الشَّجَرَة بِبرد المَاء، فَلَا بُد لأهل النَّار من أَن ينحدروا إِلَيْهَا، أَعنِي: من كَانَ فَوْقهَا؛ فيأكلوا مِنْهَا.(4/62)
طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)
قَوْله {طلعها} يَعْنِي: ثَمَرَتهَا {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} يقبحها بذلك.
قَالَ محمدٌ: الشَّيْء إِذا استقبح يُقَال: كَأَنَّهُ وجهُ شَيْطَان، وَكَأَنَّهُ رَأس شَيْطَان، والشيطان لَا يُرَى، وَلكنه يستشعر أَنَّهُ أقبح مَا يكون من الْأَشْيَاء لَو نظر إِلَيْهِ، وَهَذَا كَقَوْل امْرِئ الْقَيْس.
(أَيَقْتُلُنِي وَالمَشْرَفيُّ مُضَاجِعِي ... وَسُمْر القَنَا حَوْلي كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ)(4/62)
وَلم يَرَ الغُولَ وَلَا نَابَهَا.(4/63)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)
{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا من حميم} أَي: لمزاجًا من حميم، وَهُوَ المَاء الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ من حَرِّه.
قَالَ محمدٌ: (الشّوبُ) المصدرُ، و (الشّوبُ) الِاسْم؛ الْمَعْنى: إِن لَهُم عَلَى أكلهَا لخلْطًا ومزَاجًا من حميم.(4/63)
فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
{فهم على آثَارهم يهرعون} يُسْرعون.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: هُرِعَ الرّجل وأُهرِعَ إِذا اسْتُحِثَّ وأسْرع.(4/63)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72)
{وَلَقَد أرسلنَا فيهم} فِي الَّذين قبلهم {منذرين} يَعْنِي: الرُّسُل(4/63)
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} أَي: كَانَ عاقبتهم أَن دمر الله عَلَيْهِم ثمَّ صيرهم إِلَى النَّار.
تَفْسِير سُورَة الصافات الْآيَات من آيَة 75 إِلَى آيَة 94.(4/63)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)
{وَلَقَد نادانا نوح} يَعْنِي: حَيْثُ دَعَا عَلَى قومه {فلنعم المجيبون} لَهُ(4/63)
أجبناه فأهلكناهم(4/64)
وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
{وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} يَعْنِي: الْغَرق.(4/64)
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)
{وَجَعَلنَا ذُريَّته هم البَاقِينَ} فَالنَّاس كلهم ولد سَام وَحَام وَيَافث(4/64)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)
{وَتَركنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين} يَعْنِي: أبقينا لَهُ الثّناءَ الْحَسَن(4/64)
سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)
{سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} يَعْنِي: مَا كَانَ بعد نوحٍ.(4/64)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)
{وَإِن من شيعته لإِبْرَاهِيم} تَفْسِير مُجَاهِد: عَلَى منهاجه وسُنَّته(4/64)
إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)
{إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من الشّرك(4/64)
أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)
{أئفكا} كذبا {آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} عَلَى الاسْتِفْهَامِ أَيْ قَدْ فَعَلْتُمْ؛ فعبدتموهم دونه(4/64)
فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)
{فَمَا ظنكم بِرَبّ الْعَالمين} أَي: مُعَذِّبكُمْ(4/64)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88)
{فَنظر نظرة فِي النُّجُوم} فِي الْكَوَاكِب(4/64)
فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)
{فَقَالَ إِنِّي سقيم} أَي: مطعون(4/64)
فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91)
{فتولوا عَنهُ مُدبرين} إِلَى عيدهم؛ وَذَلِكَ أَنهم استتبعوه لعيدهم - فِي تَفْسِير الْكَلْبِيّ - فعصب رَأسه، وَقَالَ: إِنِّي رأيتُ اللَّيْلَة فِي النُّجُوم أَنِّي سأطعن غَدا! وَكَانُوا ينظرُونَ فِي النُّجُوم، فَقَالَ لَهُم هَذَا كَرَاهِيَة مِنْهُ للذهاب مَعَهم، وَلما أَرَادَ أَن يفعل بآلهتهم كادهم بذلك(4/64)
فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)
{فرَاغ عَلَيْهِم} أَي: مَال عَلَى آلِهَتهم {ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} فَكَسرهَا إِلَّا كَبِيرهمْ، وَقد مضى تَفْسِيره فِي سُورَة الْأَنْبِيَاء(4/64)
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)
{فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ} إِلَى إِبْرَاهِيم {يزفون} أَي يبتدرونه.
قَالَ محمدٌ: من قَرَأَ (يزفون) بِفَتْح الْيَاء وَتَشْديد الْفَاء فَالْمَعْنى: يسرعون وَأَصله من: زَفِيفِ النَّعَام، يُقَال: زفَّت النعامُ تَزِفُّ زفيفًا، وَفِيه لُغَة أُخْرَى: أزفت زفافا.(4/64)
تَفْسِير سُورَة الصافات من آيَة 95 إِلَى آيَة 102(4/65)
قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95)
{قَالَ} لَهُم إِبْرَاهِيم {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} يَعْنِي: أصنامهم(4/65)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)
{وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ} أَي: خَلقكُم وَخلق ذَلكَ الَّذِي تنحتون بِأَيْدِيكُمْ(4/65)
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)
{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بنيانا} يَقُوله بعضُهم لبَعض {فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيم} أَي: فِي النَّار؛ فَجمعُوا الْحَطب زَمَانًا، ثُمَّ جَاءُوا بِإِبْرَاهِيمَ، فَأَلْقَوْهُ فِي تِلْكَ النَّار(4/65)
فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
{فأرادوا بِهِ كيدا} بحرقهم إِيَّاه {فجعلناهم الأسفلين} فِي النَّار(4/65)
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)
{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سيهدين} يَعْنِي: سيهديني الطَّرِيق، هَاجر من أَرْضِ الْعِرَاقِ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ(4/65)
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)
[ {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} يُرِيد: ولدا تقيا صَالحا(4/65)
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)
{فبشرناه بِغُلَام حَلِيم} يُرِيد إِسْمَاعِيل](4/65)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
{فَلَمَّا بلغ مَعَه السَّعْي} [يُرِيد الْعَمَل لله - تَعَالَى - وَهُوَ الِاحْتِلَام] ، تَفْسِير الْحَسَن يَعْنِي: سعي الْعَمَل وَقيام الْحجَّة.
[ {قَالَ} إِسْمَاعِيل {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمر} يُرِيد مَا أوحى إِلَيْك رَبك {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصابرين} على بلَاء الله.(4/65)
تَفْسِير سُورَة الصافات من آيَة 103 إِلَى آيَة 113.(4/66)
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
{فَلَمَّا أسلما} يُرِيد إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل، يُرِيد: أسلم إِبْرَاهِيم طَوْعًا لله - تبَارك وَتَعَالَى - أَن يذبح ابْنه وبكره وواحده؛ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي التَّوْرَاة: (جادلني) بكره وواحده. وَأسلم إِسْمَاعِيل نَفسه لله] ؛ أَي استسلما لأمر اللَّه، رَضِي إِبْرَاهِيم بِذبح ابْنه، وَرَضي ابْنه بِأَن يذبحه أَبُوهُ {وَتَلَّهُ للجبين} (ل 289) أَي: أضجعه؛ ليذبحه وَأخذ الشَّفْرَة وَعَلِيهِ قَمِيص أَبيض قَالَ: يَا أَبَت إِنِّي لَيْسَ لي ثوبٌ تكفنني فِيهِ [غير هَذَا] فاخلعه حَتَّى تكفنني فِيهِ. [ {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} يُرِيد: أضجعه عَلَى جنبه إِلَى الأَرْض] .(4/66)
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)
{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صدقت الرُّؤْيَا} . قَالَ يحيى: ناداه بِهِ الْملك من عِنْد اللَّه {أَنْ يَا إِبْرَاهِيم قد صدقت الرُّؤْيَا} بِوَحْي من اللَّه عز وَجل - {إِنَّا كَذَلِك نجزي الْمُحْسِنِينَ} يُرِيد: هَكَذَا نجزي الْمُوَحِّدين(4/66)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [يُرِيد الَّذِي ابتليتك بِهِ عَظِيم أَن تذبح لي بكرك وواحدك] يَعْنِي: النِّعْمَة البيِّنة عَلَيْك من اللَّه؛ إِذْ لم تذبح ابْنك.
قَالَ مُحَمَّد (وناديناه) ذكر بعض الْعلمَاء أَنَّهُ جَوَاب {فَلَمَّا أسلما وتله للجبين} وَالْوَاو زَائِدَة. وَالله أعلم.(4/66)
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
قَالَ: {وفديناه بِذبح عَظِيم} [يُرِيد الْكَبْش الَّذِي تقرب بِهِ هابيل ابْن آدم إِلَى اللَّه، فتقبله، وَكَانَ فِي الْجنَّة يرْعَى حَتَّى فدى اللَّه - جلّ ذِكْره - إِسْمَاعِيل] قَالَ مُجَاهِد: أَي متقبّل. قَالَ ابْن عَبَّاس: فَالْتَفت إِبْرَاهِيم؛ فَإِذا هُوَ بكبش أَبيض أقرن فذبحه.
قَالَ يحيى: وَابْنه الَّذِي أَرَادَ ذبحه: قَالَ الْحسن: هُوَ إِسْحَاق.(4/67)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108)
{وَتَركنَا عَلَيْهِ} أبقينا عَلَيْهِ {فِي الآخرين} الثَّنَاء الحَسَن؛ [يُرِيد الذّكر الْحَسَن لإكرامه لإسماعيل، أَلا يذكر من بعده إِلَّا بِخَير إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَذَلِكَ أَن إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي سُورَة باخع {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} يَقُول: لَا أذكر فِي جَمِيع الْأُمَم من بعدِي إِلَّا بذكرٍ حسن.(4/67)
سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)
{سَلام على إِبْرَاهِيم} فِي الْعَالمين(4/67)
كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110)
{كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} يُرِيد الْمُوَحِّدين(4/67)
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
{إِنَّه من عبادنَا الْمُؤمنِينَ} يُرِيد: المصدقين الْمُوَحِّدين(4/67)
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)
{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} يُرِيد: من صَالح الْأَنْبِيَاء(4/67)
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
(وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى(4/67)
إِسْحاَقَ} يُرِيد: عَلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق] {وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا} [يُرِيد: ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق] {مُحْسِنٌ} [يُرِيد: موحدًا، يَعْنِي:] مُؤمن (وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُشْرك [ {مُبين} بَين الشّرك.
تَفْسِير الْآيَات من 114 وَحَتَّى 122 من سُورَة الصافات(4/68)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114)
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} يُرِيد أعطينا مُوسَى وَهَارُون(4/68)
وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)
{ونجيناهما وقومهما} يُرِيد بني إِسْرَائِيل الاثْنَي عشر سبطاً {من الكرب الْعَظِيم} يُرِيد: الظُّلم الْعَظِيم(4/68)
وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116)
{ونصرناهم فَكَانُوا هم الغالبين} يُرِيد: لفرعون(4/68)
وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117)
{وآتيناهما الْكتاب المستبين} يُرِيد: التَّوْرَاة وَمَا فِيهَا من الْأَحْكَام(4/68)
وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)
{وهديناهما} يُرِيد: أرشدناهما {الصِّرَاط الْمُسْتَقيم} يُرِيد: الدّين القويم الْوَاضِح(4/68)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119)
{وَتَركنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخرين} يُرِيد: الثَّنَاء الْحسن(4/68)
سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120)
{سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} .(4/68)
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121)
{إِنَّا كَذَلِك نجزي الْمُحْسِنِينَ} يُرِيد: الْمُوَحِّدين(4/68)
إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
{إنَّهُمَا من عبادنَا الْمُؤمنِينَ} يُرِيد المصدقين بتوحيد الله.
تَفْسِير الْآيَات من 123 وَحَتَّى 132 من سُورَة الصافات(4/68)
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124)
{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُون} [يُرِيد: أَلا تخافون](4/69)
أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)
{أَتَدعُونَ بعلا} يُرِيد صنمًا مَا كَانَ لَهُم أَن يعبدوه، يُقَال لَهُ: البعل السَّيِّد.
تَفْسِير الْحَسَن: كَانَ اسْم صَنَمهمْ: بَعْلًا {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} .(4/69)
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)
{اللَّه ربكُم وربّ آبائكم الْأَوَّلين} من قَرَأَهَا بِالرَّفْع؛ فَهُوَ كَلَام مُسْتَقْبل، وَمن قَرَأَهَا بِالنّصب؛ فَالْمَعْنى وتذرون أحسن الْخَالِقِينَ اللَّه ربكُم وَرب آبائكم الْأَوَّلين.(4/69)
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)
{فَكَذبُوهُ فَإِنَّهُم لمحضرون} يُرِيد أَنهم لمبعوثون(4/69)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)
{إِلَّا عباد الله المخلصين} يُرِيد: الَّذين صدقُوا وَأَخْلصُوا لله بِالتَّوْحِيدِ(4/69)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129)
{وَتَركنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين} يُرِيد: الثَّنَاء الْحسن](4/69)
سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)
{سَلام على إل ياسين} [يُرِيد: إلْيَاس وَمن آمن مَعَه] ، من قَرَأَهَا موصوله يَقُولُ هُوَ اسْمه: آل ياسين، وإلياس، ومقرأ الْحَسَن: إلياسين قَالَ: يعنيه وَمن آمن من أمته.(4/69)
تَفْسِير الْآيَات من 133 وَحَتَّى 138 من سُورَة الصافات(4/70)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134)
{وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نجيناه وَأَهله أَجْمَعِينَ} يُرِيد بأَهْله: بَنَاته أَجْمَعِينَ](4/70)
إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135)
{إِلَّا عجوزا فِي الغابرين} يَعْنِي: الْبَاقِينَ فِي عَذَابِ اللَّهِ [يُرِيد: امْرَأَته، {فِي الغابرين} يُرِيد: الفانين، يُرِيد: بقيت حَتَّى أهلكتها فِيمَن أهلكت وَلم أنجها(4/70)
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136)
{ثمَّ دمرنا الآخرين} يُرِيد: دمرت عَلَى من بَقِي، ودمرت عَلَيْهَا مَعَهم](4/70)
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)
{وانكم} [يَا معشر الْمُشْركين] {لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ} [على مَنَازِلهمْ] {مصبحين} أَي: نَهَارا [يُرِيد: فِي النَّهَار إِلَى الشَّام فِي ذهابكم إِلَى الشَّام، وإقبالكم بِالتِّجَارَة وترون مَا صنعت بهم](4/70)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
{وبالليل} [يُرِيد: تمرون بهم أَيْضا] {أَفَلا تعقلون} يَقُوله للْمُشْرِكين، يُحَذرهُمْ أَن ينزل بهم مَا نزل بهم.
تَفْسِير الْآيَات من 139 وَحَتَّى 148 من سُورَة الصافات(4/70)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)
{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} {إِذْ أبق} أَي: فرَّ من قومه {إِلَى الْفلك المشحون} يَعْنِي: المُوقَرَ.
قَالَ يحيى: بلغنَا - وَالله أعلم - أَن يُونُس دَعَا قومه إِلَى اللَّه، فَلَمَّا طَال ذَلكَ عَلَيْهِ وأبوا أوحى اللَّه إِلَيْهِ أَن الْعَذَاب يَأْتِيهم يَوْم كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا دنا الْوَقْت تنحى عَنْهُمْ، فَلَمَّا كَانَ قبل الْوَقْت بِيَوْم جَاءَ فَجعل يطوف بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يبكي وَيَقُول: غَدا يأتيكم الْعَذَاب! فَسَمعهُ رجلٌ مِنْهُم، فَانْطَلق إِلَى الْملك(4/70)
فَأخْبرهُ أَن سَمِعَ يُونُس يبكي. وَيَقُول: يأتيكم الْعَذَاب غَدا، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلكَ الْملك دَعَا قومه، فَأخْبرهُم بذلك، وَقَالَ: إِن كَانَ هَذَا حقًّا فسيأتيكم الْعَذَاب غَدا، فَاجْتمعُوا حَتَّى نَنْظُر فِي أمرنَا، فَاجْتمعُوا فَخَرجُوا من الْمَدِينَة من الْغَد، فنظروا فَإِذا بِظُلمةٍ وريحٍ شَدِيدَة قد أَقبلت نحوهم، فَعَلمُوا أَنَّهُ الحقُّ، ففرّقوا بَين الصّبيان وأمهاتهم وَبَين الْبَهَائِم وَبَين أمهاتها، ولبسوا الشَّعر وَجعلُوا الرماد وَالتُّرَاب عَلَى رُءُوسهم تواضُعًا لله، وتضرَّعوا إِلَيْهِ وَبكوا وآمنوا، فصرف اللَّه عَنْهُمُ الْعَذَاب، وَاشْترط بعضُهم عَلَى بعضٍ أَلا يكذب أحدُهم كذبة إِلَّا قطعُوا لِسَانه، فجَاء يُونُس من الْغَد فَنظر فَإِذا الْمَدِينَة عَلَى حَالهَا، وَإِذا النَّاس داخلون وخارجون؛ فَقَالَ: أَمرنِي رَبِّي أَن أخبر قومِي أَن الْعَذَاب يَأْتِيهم غَدا فَلم يَأْتهمْ، فَكيف ألقاهم؟ {فَانْطَلق حَتَّى أَتَى سَاحل الْبَحْر؛ فَإِذا بسفينة فِي الْبَحْر؛ فَأَشَارَ إِلَيْهِم فَأتوهُ فَحَمَلُوهُ وَلَا يعرفونه، فَانْطَلق إِلَى نَاحيَة من السَّفِينَة فتقنَّع ورقد، فَمَا مضوا إِلَّا قَلِيلا حَتَّى جَاءَتْهُم ريحٌ كَادَت السفينةُ تغرق، فَاجْتمع أهلُ السَّفِينَة ودعوا اللَّه ثمَّ قَالُوا: أيقظوا الرجل يَدْعُو مَعنا} فَفَعَلُوا فَدفع اللَّه عَنْهُمْ تِلْكَ الرّيح، ثمَّ انْطلق إِلَى مَكَانَهُ فرقد، فَجَاءَت ريحٌ كَادَت السَّفِينَة تغرق، فأيقظوه ودعوا اللَّه فارتفعت الرّيح، فتفكر العَبْد الصَّالح فَقَالَ: هَذَا من خطيئتي! أَو كَمَا قَالَ، فَقَالَ لأهل السَّفِينَة (شُدوني) وثاقًا وألقوني فِي الْبَحْر، فَقَالُوا: مَا كُنَّا لنفعل وحالُك حالُك، وَلَكنَّا نقترع فَمن أَصَابَته القرعةُ ألقيناه فِي الْبَحْر، فاقترعوا فأصابته الْقرعَة، فَقَالَ: قد أَخْبَرتكُم. فَقَالُوا: مَا كُنَّا لنفعل وَلَكِن اقترعوا، فاقترعوا الثَّانِيَة فأصابته الرعة، ثمَّ اقترعوا الثَّالِثَة؛ فأصابته الْقرعَة وَهُوَ قَول اللَّه: {فَسَاهَمَ فَكَانَ من المدحضين} [يُرِيد: المسهومين] أَي: وَقع السهْم عَلَيْهِ.(4/71)
(ل 290) قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: فقورع فَكَانَ من المقروعين وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ يحيى، وأصل الْكَلِمَة من قَوْلهم: أدحض اللَّه حُجَّته فدحضتْ؛ أَي: أزالها فَزَالَتْ.
قَالَ يحيى: فَانْطَلق إِلَى صدر السَّفِينَة ليلقي بنفْسه فِي الْبَحْر؛ فَإِذا هُوَ بحوتٍ فاتحٍ فَاه، فَانْطَلق إِلَى ذَنَب السَّفِينَة؛ فَإِذا هُوَ بالحوت فاتحًا فَاه ثمّ جَاءَ إِلَى جَانب السَّفِينَة؛ فَإِذا هُوَ بالحوت فاتحًا فَاه، ثمَّ جَاءَ إِلَى الْجَانِب الآخر،؛ فَإِذا هُوَ بالحوت فاتحًا فَاه، فَلَمَّا رَأَى ذَلكَ ألْقى نَفسه، فالتقمه الحوتُ، وَهُوَ قَول اللَّه: {فالتقمه الْحُوت وَهُوَ مليم} [يُرِيد: أَن اللَّه كَانَ لَهُ لائمًا حَيْثُ أبق] .
قَالَ محمدٌ: يُقَال: قد ألام الرجلُ إلامةً فَهُوَ مليمٌ، إِذا أَتَى مَا يجب أَن يُلَام عَلَيْهِ.: قَالَ يحيى: فَأوحى اللَّه إِلَى الْحُوت أَلا يَأْكُل عَلَيْهِ وَلَا يشرب، وَقَالَ: إِنِّي لم أجعلْه لَك رزقا، وَلَكِنِّي جعلت بَطْنك لَهُ سِجْنًا. فَمَكثَ فِي بطْن الْحُوت أَرْبَعِينَ لَيْلَة {فَنَادَى فِي الظُّلُمَات} كَمَا قَالَ اللَّه: {أَنْ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين} والظلمات: ظلمةُ اللَّيْل، وظلمة الْبَحْر، وظلمة بطن الْحُوت، قَالَ اللَّه: {فاستجبنا لَهُ} الْآيَة، وَقَالَ: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ من المسبحين} الْآيَة [يُرِيد: فِي بطن الْحُوت] قَالَ الْحَسَن: أما وَالله(4/72)
مَا هُوَ التَّسْبِيح قبل ذَلكَ، وَلكنه لما التقمه الحوتُ جعل يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّه، سُبْحَانَ اللَّه ... وَيَدْعُو اللَّه.
قَالَ يحيى: فَأوحى اللَّه إِلَى الْحُوت أَن يلقيه إِلَى الْبر، وَهُوَ قَوْله: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} [يُرِيد عَلَى سَاحل قَرْيَة من قرى الْموصل يُقَال لَهَا: بَلَد {بالعراء} عُرْيَان قد بلي لَحْمه، وكل شَيْء مِنْهُ، مثل الصَّبِي الْمَوْلُود {وَهُوَ سقيم} يُرِيد الصَّبِي الْمَوْلُود] .
قَالَ محمدٌ: العَراء ممدودٌ وَهُوَ الْمَكَان الْخَالِي، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: عراءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا شجر فِيهِ وَلَا شَيْء يغطيه، وَكَأَنَّهُ من: عَرِيَ الشيءُ، والعَرَى - مقصورٌ -: النَّاحِيَة.
قَالَ يحيى: فأصابته حرارةُ الشَّمْس؛ فأنبت اللَّه عَلَيْهِ شَجَرَة من يَقْطِين - وَهُوَ القرع [تظله بورقها، وَيشْرب من لَبنهَا] فأظلته، فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ [وَقَامَ من نَومه] وَقد يَبِسَتْ فَحزن عَلَيْهَا، فأوحَى اللَّه إِلَيْهِ، أحزنت عَلَى هَذِه الشَّجَرَة وَأَرَدْت أَن أهلك مائَة ألف من خلقي [كَمَا قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} يُرِيد أَكثر من مائَة ألف، اللَّه أعلم الْأَكْثَرين مِنْهُم] {أَوْ يزِيدُونَ} أَي: بل يزِيدُونَ.
قَالَ محمدٌ: قِيلَ: الْمَعْنى: وَيزِيدُونَ، الأَلِفُ صلةٌ زَائِدَة.(4/73)
قَالَ يحيى: وبلغنا أَنهم كَانُوا عشْرين وَمِائَة ألف، فَعلم عِنْد ذَلكَ أَنَّهُ قد ابْتُلِي فَانْطَلق، فَإِذا هُوَ بذود من غنم فَقَالَ لِلرَّاعِي: اسْقِنِي لَبَنًا. فَقَالَ: لَيْسَ هَا هُنَا شاةٌ لَهَا لبنٌ، فَأخذ شَاة مِنْهَا، فَمسح بِيَدِهِ عَلَى ضرْعهَا فدرَّت فَشرب من لَبنهَا؛ فَقَالَ لَهُ الرَّاعِي: من أَنْت يَا عَبْد اللَّه؟ ! قَالَ: أَنَا يُونُس؛ فَانْطَلق الرَّاعِي إِلَى قومه فبشرهم بِهِ فَأَخَذُوهُ وَجَاءُوا مَعَه إِلَى مَوضِع الْغنم، فَلم يَجدوا يُونُس؛ فَقَالُوا: إِنَّا شرطنا أَلا يكذب أحدٌ إِلَّا قَطعنَا لِسَانه؛ فتكلمت الشَّاة بِإِذن اللَّه؛ فَقَالَت: قد شرب من لبني. وَقَالَت شَجَرَة - كَانَ استظل تحتهَا -: قد استظلّ بظلي. فطلبوه فأصابوه فَرجع إِلَيْهِم، فَكَانَ فيهم حَتَّى قَبضه اللَّه، وَكَانُوا بِمَدِينَة يُقَال لَهَا: نِينَوَى، من أَرض الْموصل، وَهِي عَلَى دجلة.(4/74)
وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)
قَوْله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَو يزِيدُونَ} قَالَ الْحَسَن: فَأَعَادَ اللَّه لَهُ الرسَالَة، فآمنوا [يُرِيد: صدقُوا] كلهم(4/74)
فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
قَالَ اللَّه: {فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} يَعْنِي: إِلَى آجالهم، وَلم يُهْلِكهُمْ.
تَفْسِير الْآيَات من 149 وَحَتَّى 153 من سُورَة الصافات(4/74)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)
{فاستفتهم} [يَا مُحَمَّد، أهل مَكَّة]- يَعْنِي: الْمُشْركين - يَقُولُ: فاسألهم {أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُم البنون} وَذَلِكَ لقَولهم أَن الْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه [يَقُولُ اللَّه سُبْحَانَهُ: أَنى يكون لَهُ ولد، وَقَالَ](4/74)
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)
{أم خلقنَا الْمَلَائِكَة إِنَاثًا}(4/74)
[يُرِيد تَسْأَلهُمْ يَا مُحَمَّد: أخلقنا الْمَلَائِكَة إِنَاثًا] ؟ ! {وهم شاهدون} لخَلْقهم [كَمَا قَالَ فِي الزخرف: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتهم ويسألون} ] .
{أَلا إِنَّهُم من إفكهم} كذبهمْ {ليقولون}(4/75)
وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)
{ولد الله} أَي: ولد الْبَنَات؛ يعنون: الْمَلَائِكَة(4/75)
أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
{اصطفي} أخْتَار {الْبَنَات على الْبَنِينَ} أَي: لمْ يفعل.
قَالَ محمدٌ: تَفْسِير يحيى يدل عَلَى أَن قِرَاءَته (أصطفى) مَهْمُوز، وَفِي هَذَا الْحَرْف اخْتِلَاف بَين الْقُرَّاء.
تَفْسِير الْآيَات من 154 وَحَتَّى 170 من سُورَة الصافات(4/75)
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154)
[ {مَا لكم كَيفَ تحكمون} يُرِيد: هَكَذَا تحكمون؟ ! تَجْعَلُونَ لأنفسكم الْبَنِينَ، وتجعلون لله الْبَنَات(4/75)
أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155)
{أَفلا تذكرُونَ} يُرِيد: تتعظون](4/75)
{أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبين} حجَّة بَيِّنَة.(4/75)
فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)
{فَأتوا بِكِتَابِكُمْ} الَّذِي فِيهِ حجتكم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقين} إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ؛ أَيْ: لَيْسَ لكم بذلك حجَّة(4/76)
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} تَفْسِير بَعضهم: يَقُولُ: قَالَ مشركو الْعَرَب: إِنَّه صاهر إِلَى الْجِنّ، وَالْجِنّ صنف من الْمَلَائِكَة، فَكَانَت لَهُ مِنْهُم بَنَات {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجنَّة إِنَّهُم لمحضرون} [يُرِيد: لمعذبهم عَلَى هَذَا] ؛ أَي: مدخلون فِي النَّار(4/76)
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)
{سُبْحَانَ الله} ينزه نَفسه {عَمَّا يصفونَ} [عَمَّا يَقُولُونَ من الْكَذِب] (إِلاَ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. وَهَذَا من مقاديم الْكَلَام وَلَقَدْ علمت الْجنَّة إِنَّهُم لَمُحْضَرُونَ إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ(4/76)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
[ {إِلَّا عباد الله المخلصين} يُرِيد: الْمُوَحِّدين، يُرِيد: أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمن آمن مثلهم] .(4/76)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161)
{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} {ل 291} الْآيَة، يَقُول: {فَإِنَّكُم} يَعْنِي: الْمُشْركين {وَمَا تَعْبدُونَ} يَعْنِي: مَا عبدُوا [يُرِيد: فَإِنَّكُم وآلهتكم الَّتِي تَعْبدُونَ من دون الله](4/76)
مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162)
{مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} على مَا تَعْبدُونَ [ {بِفَاتِنِينَ} يُرِيد: مَا تقدرون لَا أَنْتُم، وَلَا من تَعْبدُونَ أَن تضلوا أحدا من عبَادي إِلَّا من كَانَ فِي سَابق علمي وقضائي وقدرتي](4/76)
إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)
{إِلاَ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [يُرِيد: أَنَّهُ قد كَانَ فِي سَابق علمي أَنَّهُ يصلى الْجَحِيم] .
قَالَ محمدٌ: الْقِرَاءَة فِي (صَالِ الْجَحِيم) بِكَسْر اللَّام عَلَى معنى: صالي - بِالْيَاءِ - وَالْيَاء محذوفة فِي الْمُصحف.(4/76)
وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)
{وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُوم} [يُرِيد: مُنْذُ خلقُوا إِلَى النفخة الأولى، يسبحون اللَّه ويهللونه، ويحمدونه، ويسجدون لَهُ، لَا يعْرفُونَ من يداني عِبَادَتهم وَقَالَت الْمَلَائِكَة: {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} أَي: إِلَّا لَهُ مَكَان يعبد اللَّه فِيهِ. هَذَا قَول الْمَلَائِكَة؛ أَي: ينزهون اللَّه، حَيْثُ جعلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا(4/77)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)
[ {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون} فِي التَّسْبِيح والتهليل وَالتَّكْبِير(4/77)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)
{وَإِنَّا لنَحْنُ المسبحون} يُرِيد: أَصْحَاب التَّسْبِيح](4/77)
وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167)
{وَإِن كَانُوا ليقولون} يَعْنِي [وَإِن كَانَ أهل مَكَّة ليقولون قبل أَن يبْعَث محمدٌ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم](4/77)
لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)
{لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلين} [يُرِيد: قُرْآنًا من لدن إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل] أَي: كتابا مثل كتاب مُوسَى وَعِيسَى(4/77)
لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)
{لَكنا عباد الله المخلصين} الْمُؤمنِينَ [يُرِيد: التَّوْحِيد](4/77)
فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
قَالَ الله: {فَكَفرُوا بِهِ} بِالْقُرْآنِ؛ [يُرِيد: بِمَا جَاءَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] {فَسَوْفَ يعلمُونَ} [تهديدًا] .
قَالَ محمدٌ: ذكر قطرب أَن بعض الْقُرَّاء قَرَأَ (مخلِصين) كل مَا فِي الْقُرْآن بِكَسْر اللَّام. قَالَ: وَقَرَأَ بَعضهم كل مَا فِي الْقُرْآن {مخلَصين} {إِنَّه كَانَ مخلَصًا} كل ذَلكَ بِالْفَتْح إِلَّا {مُخلصين لَهُ الدّين} حَيْثُ [وَقع] فَإِنَّهُ مكسور.
تَفْسِير الْآيَات من 171 وَحَتَّى 182 من سُورَة الصافات(4/77)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُم لَهُم المنصورون} فِي الدُّنْيَا، وبالحجة فِي الْآخِرَة. تَفْسِير الْحَسَن: لمْ يُقْتَلْ من الرُّسُل من أَصْحَاب الشَّرَائِع أحدٌ قطّ.(4/78)
وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)
[ {وَإِن جندنا لَهُم الغالبون} يُرِيد: حزبه، مِثْلَمَا قَالَ فِي (قد سمع الله) : {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حزب الله هم المفلحون} ] .(4/78)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174)
{فتول عَنْهُم حَتَّى حِين} نسختها آيَة الْقِتَال [يُرِيد: الْقَتْل ببدرٍ، وَهُوَ مَنْسُوخ بِآيَة السَّيْف](4/78)
وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)
{وأبصرهم فَسَوف يبصرون} أَي: فَسَوف يرَوْنَ الْعَذَاب [أَيْضا يَقُولُوا: أنْتَظر بهم](4/78)
فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)
{فَإِذا نزل بِسَاحَتِهِمْ} [أَي: نزل بدارهم] {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذرين} [يُرِيد: قُرَيْظَة وَالنضير] تَفْسِير الْحَسَن: يَعْنِي: النفخة الأولى؛ بهَا يهْلك اللَّه كفار آخر هَذِه الْأمة(4/78)
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178)
{وتول عَنْهُم} [يَا مُحَمَّد] {حَتَّى حِين} إِلَى آجالهم؛ [يُرِيد: يَوْم بدر] ، وَهَذَا مَنْسُوخ نسخه الْقِتَال(4/78)
وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)
{وَأبْصر} انْتظر {فَسَوف يبصرون} [وعيدًا من اللَّه وتهديدًا، أَي: فَسَوف] يرَوْنَ الْعَذَاب.(4/78)
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)
{سُبْحَانَ رَبك} ينزِّه نَفسه {رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يصفونَ} يكذبُون يَا مُحَمَّد، إِنَّه سيعزك وَأَصْحَابك [يُرِيد: من اتِّخَاذ الْبَنَات وَالنِّسَاء](4/78)
وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)
(وَسَلاَمٌ عَلَى(4/78)
الْمُرْسَلِينَ} [الَّذين يبلغون رسالتي وَقَامُوا بديني وحجتي](4/79)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
{وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يُرِيد: وَالْحَمْد لله، وَأَنا رب الْعَالمين، يُرِيد الْأَوَّلين والآخرين] .
يَحْيَى: عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ قَالَ: " سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ: بِمَ كَانَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتِمُ صَلاتَهُ؟ فَقَالَ: بِهَذِهِ الآيَةِ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين} .(4/79)
تَفْسِير سُورَة ص وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير الْآيَات من 1 وَحَتَّى 8 من سُورَة ص.(4/80)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)
قَوْله: {ص وَالْقُرْآن ذِي الذّكر} الْبَيَان , أقسم بِالْقُرْآنِ [ {ذِي الذِّكْرِ} ذِي الشّرف , مثل قَوْله: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} وَيُقَال: فِيهِ ذكر مَا قبله من الْكتب](4/80)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وشقاق} يَعْنِي: فِي حمية وفراق للنَّبِي؛ هَذَا تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: ذكر قطرب أَن الْحَسَن كَانَ يقْرَأ (صادِ) بالخفضِ من المصاداة وَهِي الْمُعَارضَة؛ الْمَعْنى: صادِ الْقُرْآن بعملك؛ أيْ: عارضْه بِهِ , قَالَ: وَتقول الْعَرَب: صاديتك بِمَعْنى عارضتك , وتصدّيتُ لَك؛ أَي: تعرّضت.(4/80)
[ {شقَاق} يُرِيد عَدَاوَة ومباعدة] .(4/81)
كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
{كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ} مِنْ قبل قَوْمك يَا محمدٌ {فَنَادَوْا} بِالتَّوْبَةِ {ولات حِين مناص} أَي: لَيْسَ حِين فرار , وَلَا حِين تقبل التَّوْبَة فِيهِ , [ {وَلاتَ حِين مناص} يُرِيد لَا حِين مهرب , والنوص: التَّأَخُّر فِي كَلَام الْعَرَب , والبوص: التَّقَدُّم قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(أَمِنْ ذِكْرِ ليلى إذْ نَأَتْكَ تَنُوصُ ... وتَقْصُر عَنها خَطوةً وتَبُوصُ)
قَالَ ابْن عَبَّاس: لَيْسَ حِين نزوٍ وَلَا فرار] .(4/81)
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)
{وعجبوا} رَجَعَ إِلَى قَوْله: {كَمْ أَهْلَكْنَا من قبلهم من قرن} أخبر كَيفَ أهلكهم , ثمَّ قَالَ: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} يَعْنِي: مُحَمَّدًا، ينذر من النَّار وَمن عَذَاب اللَّه فِي الدُّنْيَا {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} يعنون: مُحَمَّدًا(4/81)
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)
{أجعَل الْآلهَة} عَلَى الِاسْتِفْهَام مِنْهُم {إِلَهًا وَاحِدًا} أَي: قد فعل حِين دعاهم إِلَى عبَادَة اللَّه وَحده {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} عجب [عُجاب وَعَجِيب وَاحِد , مثل طوال وطويل , وعراض وعريض , وكبار وكبير] .(4/81)
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)
{وَانْطَلق الْمَلأ مِنْهُم} الْآيَة وَذَلِكَ أَن رهطًا من أَشْرَاف قُرَيْش مَشوا إِلَى أَبِي طَالِب؛ فَقَالُوا: أَنْت شَيخنَا وَكَبِيرنَا وَسَيِّدنَا , وَقد رَأَيْت مَا فَعَلَتْ هَذِه السفهةُ - يعنون: الْمُؤمنِينَ - وَقد أَتَيْنَاك لِتَقضي بَيْننَا وَبَين ابْن أَخِيك! فَأرْسل أَبُو طَالِب إِلَى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَؤُلّاءِ قَوْمك يَسْأَلُونَك السوَاء؛ فَلَا تمل(4/81)
كل الْميل عَلَى قَوْمك , فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: مَاذَا تسألونني؟ فَقَالُوا لَهُ: اُرْفُضْنَا من ذكرك وَارْفض آلِهَتنَا , وَنَدَعك وَإِلَهك، فَقَالَ رَسُول الله: أمُعْطيّ أَنْتُم كلمة وَاحِدَة تدين لكم بهَا الْعَرَب والعجم؟ فَقَالَ أَبُو جهل: لله أَبوك نعَمْ , وَعشرا مَعهَا. فَقَالَ رَسُول الله: قُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه. فنفروا مِنْهَا وَقَامُوا وَقَالُوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لشَيْء عُجاب} . وَانْطَلَقُوا وهم يَقُولُونَ: [من علم أَن نبيًّا يخرج فِي زَمَاننَا هَذَا](4/82)
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)
{أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} تَفْسِير الْحَسَن يَقُولُوا: مَا كَانَ عندنَا [من هَذَا من علم أَن] يخرج (ل 292) فِي زَمَاننَا هَذَا {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاق} أَي: كذب اختلقه مُحَمَّد(4/82)
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)
{أأنزل عَلَيْهِ الذّكر} يعنون: الْقُرْآن عَلَى الِاسْتِفْهَام {مِنْ بَيْننَا} أَي: لم ينزل عَليّ , قَالَ اللَّه: {بَلْ هُمْ فِي شكّ من ذكري} من الْقُرْآن {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَاب} أَي: لم يَأْتهمْ عَذَابي بعد , وَقد أخر عَذَاب كفار آخر هَذِهِ الأُمَّةِ إِلَى النَّفْخَةِ الأُولَى , وَقد أهلك أوائلهم بِالسَّيْفِ يَوْم بدر.
تَفْسِير الْآيَات من 9 وَحَتَّى 16 من سُورَة ص.(4/82)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
{أَمْ أعِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} قَالَ السُّدي: يَعْنِي: مفاتح النُّبُوَّة , فيعطوا النُّبُوَّة من شَاءُوا , ويمنعوا من شَاءُوا؛ أَي: لَيْسَ ذَلكَ عِنْدهم.(4/83)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)
{أم لَهُم ملك السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا} عَلَى الِاسْتِفْهَام؛ أَي: لَيْسَ لَهُم من ذَلِك شَيْء {فليرتقوا} فليصعدوا {فِي الْأَسْبَاب} قَالَ السُّدي: يَعْنِي: فِي الْأَبْوَاب؛ أَبْوَاب السَّمَاوَات إِن كَانُوا يقدرُونَ عَلَى ذَلكَ؛ أَي: لَا يقدرُونَ عَلَيْهِ.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى إِذا ادّعوا شَيْئا من هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي لَا يملكهَا إِلَّا اللَّه فليصعدوا فِي الْأَسْبَاب الَّتِي توصلهم إِلَى السَّمَاء.(4/83)
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
{جند مَا هُنَالك} أَي: جند هُنَالك , و " مَا " صلَة زَائِدَة {مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ} يُخْبر بأنْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيهزمهم يَوْم بدر(4/83)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفرْعَوْن ذُو الْأَوْتَاد} تَفْسِير قَتَادَة: كَانَ إِذا غضب عَلَى أحدٍ أوتد لَهُ أَرْبَعَة أوتاد على يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ(4/83)
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13)
{وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ} يَعْنِي: قوم شُعَيْب , والأيكة: الغيضة {أُولَئِكَ الْأَحْزَاب} يَعْنِي بِهِ كفار من ذكر تحزبوا على أَنْبِيَائهمْ(4/83)
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)
{إِن كُلّ} يَعْنِي: من أَهْلَكَ مِمَّن (مضى) من الْأُمَم السالفة.
{إِلا كَذَّبَ الرُّسُل فَحق عِقَاب} يَعْنِي: عُقُوبَته إيَّاهُم بِالْعَذَابِ(4/83)
وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)
{وَمَا ينظر هَؤُلَاءِ} يَعْنِي: كفار آخر هَذِه الْأمة {إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة} يَعْنِي: النفخة الأولى بهَا يكون هلاكهم {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} قَالَ الْكَلْبِيّ: يَعْنِي مَا لَهَا من نظرة؛ أَي: من تَأْخِير.
قَالَ محمدٌ: تُقرأ (فُواق) بِضَم الْفَاء وَفتحهَا وَهُوَ مَا بَين حلبتي النَّاقة ,(4/83)
وَذَلِكَ أَن تُحلَب وتترك سَاعَة؛ حَتَّى ينزل شَيْء من اللَّبن , ثمَّ تحلب فَمَا بَين الحلبتين فُواق؛ فاستُعير الفُواق فِي مَوضِع الِانْتِظَار.(4/84)
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)
{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قبل يَوْم الْحساب} تَفْسِير الْكَلْبِيّ: قَالُوا ذَلكَ حِين ذكر اللَّه فِي كِتَابه: (فَمن أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ , وَمن أُوتِيَ كِتَابه بِشمَالِهِ) والقِطُّ: الصَّحِيفَة الْمَكْتُوبَة؛ أَي: عجل لنا كتَابنَا الَّذِي يَقُولُ محمدٌ حَتَّى نعلم أبأيماننا نَأْخُذ كتبنَا أم بشمائلنا - إنكارًا لذَلِك واستهزاءً.
قَالَ محمدٌ: وَجمع القط: قطوط.
تَفْسِير الْآيَات من 17 وَحَتَّى 20 من سُورَة ص.(4/84)
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)
{اصبر على مَا يَقُولُونَ} يَأْمر نبيه بذلك {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُد ذَا الأيد} يَعْنِي: ذَا الْقُوَّة فِي أَمر اللَّه؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة {إِنَّهُ أواب} أَي: رجاع منيب(4/84)
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)
{يسبحْنَ بالْعَشي وَالْإِشْرَاق} قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ اللَّهُ قَدْ سخّر مَعَ دَاوُد جَمِيع جبال الدُّنْيَا تسبح مَعَه وَكَانَ يفقه تسبيحها(4/84)
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)
{وَالطير محشورة} أَي: تحْشر بِالْغَدَاةِ والعشي تسبح مَعَه.
قَالَ محمدٌ: الْإِشْرَاق: طلوعُ الشَّمْس وإضاءتها , يُقَال: شَرقَتْ الشَّمْس إِذَا(4/84)
طلعت , وأشرقت إِذا أَضَاءَت؛ هَذَا الِاخْتِيَار عِنْد أهل اللُّغَة.
{كُلٌّ لَهُ أواب} أَي: مُطِيع.
قَالَ مُحَمَّد: وَقيل الْمَعْنى كل يُرَجِّعُ التَّسْبِيح مَعَ دَاوُد؛ أَي: يجِيبه كلما سبّح سبحت؛ يَعْنِي: الْجبَال وَالطير(4/85)
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
{وشددنا ملكه وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَة} يَعْنِي النُّبُوَّة {وَفصل الْخطاب} قَالَ الْحَسَن: يَعْنِي: الْعدْل فِي الْقَضَاء. تَفْسِير الْآيَات من 20 وَحَتَّى 26 من سُورَة ص.(4/85)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
{وَهل أَتَاك نبأ الْخصم} خبر الْخصم أَي: أَنَّك لم تعلَمْه؛ حَتَّى أعلمتك {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} الْمَسْجِد إِلَى قَوْله: {وَأَنَابَ} تَفْسِير الْحَسَن: أَن دَاوُد جمع عُبَّاد بني إِسْرَائِيل؛ فَقَالَ: أَيّكُم كَانَ يمْتَنع من الشَّيْطَان يَوْمًا لَو وَكله اللَّه إِلَى نفْسه؟ فَقَالُوا: لَا أحد إِلَّا أَنْبيَاء اللَّه؛ فكأنّه عرض فِي الْهم بِشَيْء فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي إِذا بطائر حسن قد وَقع عَلَى شُرفة من شرفِ الْمِحْرَاب.(4/85)
قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ بَعضهم يَقُولُ: طَائِر جؤجؤه من ذهب، وجناحاه ديباجٌ، وَرَأسه ياقوته حَمْرَاء فأعجبه - وَكَانَ لَهُ بني يُحِبهُ - فَلَمَّا أعجبه حُسْنه وَقع فِي نَفسه أَن يَأْخُذهُ وَيُعْطِيه ابْنه. قَالَ الْحسن: فَلَمَّا انْصَرف إِلَيْهِ (ل 293) , فَجعل يطير فِي شُرْفةٍ إِلَى شُرْفةٍ وَلَا يؤيسه؛ حَتَّى ظهر فَوق الْمِحْرَاب، وَخلف الْمِحْرَاب حَائِط تَغْتَسِل فِيهِ النِّسَاء الحُيّض إِذا طهُرن لَا يشرف عَلَى ذَلكَ الْحَائِض أحدٌ إِلَّا من صعد فَوق الْمِحْرَاب. لَا يصْعَدُه أحدٌ من النَّاس قَالَ: فَصَعدَ داودُ خلف ذَلكَ الطَّائِر ففاجأته امرأه جَاره لم يعرفهَا تَغْتَسِل , فرآها فَجْأَة ثمَّ غضّ بَصَره عَنْهَا وأعجبته؛ فَأتى بَابهَا , فَسَأَلَ عَنْهَا وَعَن زَوجهَا قَالُوا: زَوجهَا فِي أجناد دَاوُد فَلم يلبث إِلَّا يَسِيرا حَتَّى بَعثه عَامله بريدًا إِلَى دَاوُد فَأتى دَاوُد بكتبه ثمَّ انْطلق إِلَى أَهله فَأخْبر أنَّ نَبِي اللَّه دَاوُد أَتَى بَابه فَسَأَلَ عَنْهُ وَعَن أَهله , فَلم يصل الرجل إِلَى أَهله حَتَّى رَجَعَ إِلَى دَاوُد مَخَافَة أَن يكون حدث من اللَّه فِي أَهله أمرٌ فَأتى دَاوُد وَقد فرغ من كتبه , وَكتب إِلَى عَامل ذَلكَ الْجند أَن يَجعله عَلَى مُقَدّمَة الْقَوْم؛ فَأَرَادَ أَن يقتل الرجل شَهِيدا ويتزوج امْرَأَته حَلَالا، إِلَّا أَن النيّة كَانَت مدْخولة , فَجعله عَلَى مقدّمة الْقَوْم فَقتل ذَلكَ الرجل قَالَ: فَبَيْنَمَا دَاوُد فِي محرابه والحرس حوله إِذْ تسوّر عَلَيْهِ المحرابُ ملكان فِي صُورَة آدميين , فَفَزعَ مِنْهُمَا فَقَالَا: {لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْننَا بِالْحَقِّ وَلَا تشطط} أَي: لَا تجر {واهدنا} أرشدنا {إِلَى سَوَاء الصِّرَاط} أيْ: إِلَى قصْد الطَّرِيق؛ فَقَالَ: قُصّا قصّتكما , فَقَالَ أَحدهمَا: {إِنَّ هَذَا أخي} يَعْنِي: صَاحِبي {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أكفلنيها} أَي: ضمهَا إِلَيّ {وعزني} قهرني {فِي الْخطاب} فِي الْخُصُومَة(4/86)
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نعاجه} .
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: مَضْمُومَة إِلَى نعاجة؛ فاختصر مَضْمُومَة وَإِنَّمَا سُمِّيت: نعجة؛ لأنّها رخوةٌ , النعجُ فِي اللُّغَة اللين , والنعجُ أَيْضا الفتونُ فِي الْعين.
{وَظن دَاوُد} أَي: علم.
قَالَ مُحَمَّد: معنى {ظن} أَيقَن , إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِيَقِين عيان؛ فَأَما العيان فَلَا يُقَال فِيهِ إِلَّا: علم.
{أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} ابتليناه {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا} أَي: سَاجِدا أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا يرفع رَأسه إِلَّا لصلاةٍ مَكْتُوبَة يقيمها أَو لحَاجَة لَا بُدّ لَهُ مِنْهَا أَو لطعام يتبلَّغ بِهِ،(4/87)
فَأَتَاهُ ملكٌ من عِنْد اللَّه فَقَالَ: يَا دَاوُد، ارْفَعْ رَأسك , فقد غفر اللَّه لَك. فَعلم أنّ اللَّه قد غفر لَهُ، ثمَّ أَرَادَ أَن يعلم كَيفَ يغْفر لَهُ؛ فَقَالَ: أيْ رب، كَيفَ تغْفر لي وَقد قتلته - يَعْنِي: بالنيّة؟ ! فَقَالَ: أستوهبه نفسَهُ فيهبها لي فأغفرها لَك. فَقَالَ: أَي رب , قد علمت أَنَّك قد غفرت لي.(4/88)
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
قَالَ اللَّه: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِن} {لَهُ عندنَا لزلفى} يَعْنِي: لقربةٌ فِي الْمنزلَة {وَحُسْنَ مَآبٍ} مرجع(4/88)
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْض} إِلَى قَوْله: {فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الله} يَعْنِي: فيستزلّك الْهوى عَن طَاعَة اللَّه فِي الحكم، وَذَلِكَ من غير كُفْرٍ {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} أَي: تَرَكُوهُ وَلم يُؤمنُوا بِهِ. تَفْسِير الْآيَات من 27 وَحَتَّى 29 من سُورَة ص.(4/88)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَينهمَا بَاطِلا} أَي: مَا خلقناهما إِلَّا للبعث والحساب , وَالْجنَّة وَالنَّار، وَكَانَ الْمُشْركُونَ يَقُولُونَ: إِن اللَّه خلق هَذِه الْأَشْيَاء لغير بعثٍ. قَالَ: {ذَلِكَ ظن الَّذين كفرُوا} أَنهم لَا يبعثون وأنّ اللَّه خَالق هَذِه الْأَشْيَاء بَاطِلا(4/88)
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)
{أم نجْعَل الْمُتَّقِينَ كالفجار} كالمشركين فِي الْآخِرَة أَي: لَا نَفْعل.(4/88)
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
{كتاب} أَي: هَذَا كتابٌ , يَعْنِي: الْقُرْآن {أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك} .
{أُوْلُو الأَلْبَابِ} أَي: ذَوُو الْعُقُول وهم الْمُؤْمِنُونَ.(4/88)
تَفْسِير الْآيَات من 30 وَحَتَّى 33 من سُورَة ص.(4/89)
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)
{الصافنات الْجِيَاد} يَعْنِي: الْخَيل السراع الْوَاحِد مِنْهَا: جواد , والصافن فِي تَفْسِير مُجَاهِد: الْفَرَسُ إِذَا رَفَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ؛ حَتَّى تكون عَلَى طرف الْحَافِر. عُرِضتْ عَلَى سُلَيْمَان فجعلتْ تجْرِي بَين يَدَيْهِ فَلَا يستبين مِنْهَا قَلِيلا وَلَا كثيرا من سرعتها وَجعل يَقُولُ: ردُّوها عليّ؛ ليستبين مِنْهَا شَيْئا(4/89)
فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)
{حَتَّى تَوَارَتْ} غَابَتْ؛ يَعْنِي: الشَّمْس {بالحجاب} ففاتته صَلَاة الْعَصْر(4/89)
رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
قَالَ الْحَسَن: فَقَالَ سُلَيْمَان فِي آخر ذَلِك (ل 294) {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ والأعناق} فَضرب أعناقها وعراقيبها أَنَّهَا شغلته عَن اللَّه.
قَالَ محمدٌ: معنى (فَطَفِقَ) أَي أقبل , والسوق جمع سَاق , والصافنُ من الْخَيل: الْقَائِم الَّذِي لَا يثني إِحْدَى يَدَيْهِ أَو إِحْدَى رجلَيْهِ حِين يقف بهَا عَلَى سُنْبُكِه وهُوَ طرف الْحَافِر.
{إِنِّي أَحْبَبْت حب الْخَيْر} يَعْنِي: الْخَيل , وَكَذَلِكَ فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: (إِنِّي أَحْبَبْت حبّ الْخَيل) .
قَالَ محمدٌ: معنى أَحْبَبْت: آثرت.(4/89)
تَفْسِير الْآيَات من 34 وَحَتَّى 40 من سُورَة ص.(4/90)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)
{وَلَقَد فتنا سُلَيْمَان} أَي: ابتلينا {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جسدا} يَعْنِي: الشَّيْطَان الَّذِي خَلفه فِي ملكه؛ تِلْكَ الْأَرْبَعين لَيْلَة , قَالَ بَعضهم: كَانَ اسْمُه صخرًا. قَالَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ للشَّيْطَان الَّذِي خَلفه -: كَيفَ تفتنون النَّاس؟ قَالَ: أَرِنِي خاتمك أخْبرك , فَلَمَّا أعطَاهُ إِيَّاه شده فِي الْبَحْر , فساح سُلَيْمَان. قَالَ الْكَلْبِيّ: كَانَت لَهُ امْرَأَة من أكْرم نِسَائِهِ عَلَيْهِ وأحبهنّ إِلَيْهِ، فَقَالَت: إِن بَين أَبِي وَبَين رجلٌ خُصُومَة فزَّينت حُجّة أَبِيهَا فَلَمَّا جَاءَا يختصمان إِلَيْهِ جعل يحب أَن تكون الحجّة لختنه، فابتلاه اللَّه بِمَا كَانَ من أَمر الشَّيْطَان الَّذِي خَلفه وأذهب ملك سُلَيْمَان , وَذَلِكَ [أَنَّهُ] كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يدْخل الْخَلَاء فَدفع الْخَاتم إِلَى امرأةٍ من نِسَائِهِ كَانَ يَثِق بهَا فَدفعهُ إِلَيْهَا يَوْمًا ثمَّ دخل الْخَلَاء , فَجَاءَهَا ذَلكَ الشَّيْطَان فِي صورته فَأخذ الْخَاتم مِنْهَا , فَلَمَّا خرج سُلَيْمَان طلب الْخَاتم مِنْهَا فَقَالَت: قد أعطيتكه , وَذهب الْخَبيث وَجلسَ عَلَى كرْسِي سُلَيْمَان وأُلْقي عَلَيْهِ شَبَهُ سُلَيْمَان وبهْجته وهيئته , فَخرج سُلَيْمَان فَإِذا هُوَ بالشيطان عَلَى كرسيه , فَذهب فِي الأَرْض وَذهب ملكه.
قَالَ يحيى: فِي تَفْسِير الْحَسَن: إِن الشَّيْطَان قعد عَلَى كرْسِي سُلَيْمَان - وَهُوَ سَرِير ملكه - لَا يَأْكُل وَلَا يشرب وَلَا يَأْمر وَلَا ينْهَى وأذهب اللَّه ذَلكَ من(4/90)
أذهان النَّاس؛ فَلَا يرَوْنَ إِلَّا أَن سُلَيْمَان فِي مَكَانَهُ يُصَلِّي بهم وَيَقْضِي بَينهم.
قَالَ يحيى: وَفِي تَفْسِير مُجَاهِد: أَن الشَّيْطَان مُنِعَ نسَاء سُلَيْمَان أَن يقربهن.
قَالَ الْكَلْبِيّ: فَلَمَّا انْقَضتْ أَيَّام الشَّيْطَان وَنزلت الرَّحْمَة من اللَّه لِسُلَيْمَان عمد الشَّيْطَان إِلَى الْخَاتم؛ فَأَلْقَاهُ فِي الْبَحْر فَأَخذه حوتٌ , وَكَانَ سُلَيْمَان يُؤَاجر نَفسه من أَصْحَاب السفن ينْقل السّمك من السفن إِلَى الْبر عَلَى سمكتيْن كل يَوْم , فَأخذ فِي أجْره يَوْمًا سمكتيْن فَبَاعَ إِحْدَاهمَا , بِرَغِيفَيْنِ , وأمَّا الْأُخْرَى فشقّ بَطنهَا وَجعل يغسلهَا؛ فَإِذا هُوَ بالخاتم فَأَخذه فَعرفهُ النَّاس , وَاسْتَبْشَرُوا بِهِ وَأخْبرهمْ أَنَّهُ إِنَّمَا فعله بِهِ الشَّيْطَان , فَاسْتَغْفر سُلَيْمَان ربه {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا} الْآيَة. {فسخرنا لَهُ الرّيح} .
{وَالشَّيَاطِين} وسُخر لَهُ الشَّيْطَان الَّذِي فعل بِهِ الفعْل , فَأَخذه سُلَيْمَان فَجعله فِي نحْتٍ من رُخَام ثمَّ أطبق عَلَيْهِ وشدّ عَلَيْهِ بِالنُّحَاسِ ثمَّ أَلْقَاهُ فِي عُرض الْبَحْر، فَمَكثَ سُلَيْمَان فِي ملكه رَاضِيا مطمئنًا؛ حَتَّى قَبضه اللَّه إِلَيْهِ.(4/91)
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)
قَوْله: {تجْرِي بأَمْره رخاء} قَالَ الْحَسَن: لَيست بالعاصف الَّتِي تؤذيه , وَلَا بالبطيئة الَّتِي تقصُر بِهِ دون حَاجته.
قَالَ محمدٌ: معنى رخاءً فِي اللُّغَة: لينَة , وَيُقَال: ريحٌ رِخوةٌ , بِكَسْر الرَّاء وَفتحهَا , والكسْر أفْصَح.(4/92)
{حَيْثُ أصَاب} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: حَيْثُ أَرَادَ , وَهِي بِلِسَان هجر(4/93)
وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)
{وَالشَّيَاطِين كل بِنَاء وغواص} يغوصون فِي الْبَحْر يستخرجون لَهُ اللُّؤْلُؤ(4/93)
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38)
{وَآخَرين مُقرنين فِي الأصفاد} فِي السلَاسِل , وَلم يكن يُسَخَّر مِنْهُم وَيسْتَعْمل فِي هَذِه الْأَشْيَاء وَلَا يصفَّد إِلَّا الْكفَّار؛ فَإِذا آمنُوا حلَّهم من تِلْكَ الأصفاد(4/93)
هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)
{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْر حِسَاب} تَفْسِير بَعضهم: فامْنُنْ فأعط من شِئْت أَو أمسك عمَّن شِئْت بِغَيْر حِسَاب (ل 295) أَي: فَلَا حِسَاب عَلَيْك فِي ذَلِك وَلَا حرج(4/93)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
{وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى} يَعْنِي: الْقرْبَة فِي الْمنزلَة {وَحُسْنَ مَآبٍ} أَي: وَحسن مرجع؛ يَعْنِي الْجنَّة.
تَفْسِير الْآيَات من 41 وَحَتَّى 43 من سُورَة ص.(4/93)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى ربه} الْآيَة , قَالَ الْحَسَن: إِن إِبْلِيس قَالَ: يَا رب هَلْ من عبيدك عبدٌ إِن سلّطتني عَلَيْهِ امْتنع مني؟ قَالَ: نعم؛ عَبدِي أَيُّوب. فَسَلَّطَهُ اللَّه عَلَيْهِ؛ ليجهد جهده ويضِله , فَجعل يَأْتِيهِ بوساوسه وحبائله وَهُوَ يرَاهُ عيَانًا؛ فَلَا يقدر مِنْهُ عَلَى شيءٍ، فَلَمَّا امْتنع مِنْهُ قَالَ الشَّيْطَان: أَي رب , إِنَّه قد امْتنع مني؛ فسلطني عَلَى مَاله {فَسَلَّطَهُ اللَّه عَلَى مَاله فَجعل يهْلك مَاله صنفا صنفا , فَجعل يَأْتِيهِ وَهُوَ يرَاهُ عيَانًا فَيَقُول: يَا أَيُّوب , هلك مَالك فِي كَذَا وَكَذَا} فَيَقُول: الْحَمد لله اللَّهم أَنْت أعطيْتنيه وَأَنت أخذتهُ مني , إِن تبْق لي نَفسِي أحمدك عَلَى بلائك. فَفعل ذَلكَ حَتَّى أهلك مَا لَهُ كُله , فَقَالَ إِبْلِيس: يَا رب , إِن أَيُّوب لَا يُبَالِي بِمَالِه فسلطني عَلَى جسده! فَسَلَّطَهُ اللَّه عَلَيْهِ , فَمَكثَ سبع سِنِين وأشهرًا حَتَّى وَقعت الْأكلَة فِي جسده.(4/93)
قَالَ يحيى: وَبَلغنِي أَن الدودة كَانَت تقع من جسده فيردّها مَكَانهَا , وَيَقُول: كلي مِمَّا رزقك اللَّه.
قَالَ الْحَسَن: فَدَعَا ربَّه {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} يَعْنِي: فِي جسده , وَقَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ} .
قَالَ محمدٌ: النُّصْبُ والنَّصَبُ واحدٌ مثل حُزْن وحَزَن , وَهُوَ العياء والتعب.(4/94)
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43)
قَالَ الْحَسَن: فَأوحى اللَّه إِلَيْهِ أَن اركض برجلك , فركض برجْله ركضة وَهُوَ لَا يَسْتَطِيع الْقيام؛ فَإِذا عينٌ فاغتسل مِنْهَا , فَأذْهب اللَّه ظَاهر دائه ثمَّ مَشى عَلَى رجليْه أَرْبَعِينَ ذِرَاعا , ثمَّ قِيلَ لَهُ: اركض برجلك أَيْضا , فركض ركضةً أُخْرَى , فَإِذا عينٌ فَشرب مِنْهَا , فَأذْهب اللَّه بَاطِن دائه وردّ عَلَيْهِ أَهله وَولده وأمواله من الْبَقر وَالْغنم وَالْحَيَوَان وكل شيءٍ هلك بِعَيْنِه , ثمَّ أبقاه اللَّه فِيهَا حَتَّى وهب لَهُ من نسولها أَمْثَالهَا , فَهُوَ قَوْله: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهم رَحْمَة منا} وَكَانُوا مَاتُوا غير الْمَوْت الَّذِي أَتَى عَلَى آجالهم تسليطًا من اللَّه للشَّيْطَان؛ فأحياهم اللَّه فوفَّاهم آجالهم.
تَفْسِير الْآيَات من 44 وَحَتَّى 48 من سُورَة ص.(4/94)
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} قَالَ الْحَسَن: إِن امْرَأَة أَيُّوب [كَانَت] قاربت الشَّيْطَان فِي بعض الْأَمر , ودعت أَيُّوب إِلَى مُقَاربته؛ فَحلف بِاللَّه لَئِن اللَّه عافاه أَن يجلدها مائَة جلدَة , ولمْ تكن لَهُ نِيَّة بِأَيّ شيءٍ يجلدُها , فَمَكثَ فِي ذَلكَ الْبلَاء حَتَّى أذن اللَّه لَهُ فِي الدُّعَاء , وتمَّتْ لَهُ النعْمة من اللَّه والأجْر , فَأَتَاهُ الْوَحْي من اللَّه , وَكَانَت امرأتُه مسلمة قد أَحْسَنت القيامَ عَلَيْهِ , وَكَانَت لَهَا عِنْد اللَّه منزلَة , فَأوحى اللَّه إِلَيْهِ أَن يَأْخُذ بِيَدِهِ ضغثًا - والضِّغْثُ: أَن يَأْخُذ قَبْضَة , قَالَ بَعضهم: من (السُّنْبل وَكَانَت مائَة سُنبلة) وَقَالَ بَعضهم: من الأَسَل , والأسل: السَّمَارُ - فيضربها بِهِ ضَرْبَة وَاحِدَة فَفعل.
قَالَ محمدٌ: روى أَن امْرَأَة أَيُّوب قَالَتْ لَهُ: لَو تقرّبْتَ إِلَى الشَّيْطَان فذبحت لَهُ عنَاقًا. فَقَالَ: وَلَا كفًّا من تُرَاب , فَلهَذَا حلف أَن يجلدها إِن عوفي.(4/95)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)
{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا} يَقُولُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم {أُوْلِي الأَيْدِي} يَعْنِي: الْقُوَّة فِي أَمر اللَّه {وَالأَبْصَارِ} فِي كتاب اللَّه.
قَالَ محمدٌ: (الْأَيْدِي) بِالْيَاءِ وَهُوَ الِاخْتِيَار فِي الْقِرَاءَة.(4/95)
إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)
{إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} يَعْنِي: الدَّار الْآخِرَة , والذكرى: الْجنَّة.(4/95)
قَالَ محمدٌ: الِاخْتِيَار فِي الْقِرَاءَة (بخالصة) غير منونة وعَلى هَذِه الْقِرَاءَة فسر يحيى الْآيَة.(4/96)
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)
{وَإِنَّهُم عندنَا لمن المصطفين} يَعْنِي: المختارين , اخْتَارَهُمْ اللَّه للنبوة.(4/96)
وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)
{وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ} قَالَ مُجَاهِد: إِن ذَا الكفل كَانَ رجلا صَالحا وَلَيْسَ بِنَبِي تكفّل لنَبِيّ بِأَن يكفل لَهُ أَمر قومه , وَيَقْضِي بَينهم بِالْعَدْلِ.
تَفْسِير الْآيَات من 49 وَحَتَّى 54 من سُورَة ص.(4/96)
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)
(ل 296) {هَذَا ذكر} يَعْنِي: الْقُرْآن {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مآب} مرجع(4/96)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)
{جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ} .
قَالَ مُحَمَّد: (جنَّات عدن) بدل من (حسن مآب) وَمعنى (مفتحة لَهُم الْأَبْوَاب) : أَي مِنْهَا.(4/96)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51)
{متكئين فِيهَا} أَي: عَلَى السرر فِيهَا إِضْمَار(4/96)
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)
{وَعِنْدهم قاصرات الطّرف} يقصرن طرفَهُن عَلَى أَزوَاجهنَّ لَا ينظرن إِلَى غَيرهم {أتراب} عَلَى سنٍّ وَاحِدَة بَنَات ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة(4/96)
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53)
{هَذَا مَا توعدون} يَعْنِي: مَا وُصِفَ فِي الْجنَّة(4/96)
إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
{مَا لَهُ من نفاد} انْقِطَاع.(4/96)
تَفْسِير الْآيَات من 55 وَحَتَّى 61 من سُورَة ص.(4/97)
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55)
{هَذَا وَإِن للطاغين} (للْمُشْرِكين) {لشر مآب} أَي: مرجع(4/97)
هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)
{هَذَا فليذوقوه حميم وغساق} فِيهَا تقديمٌ: هَذَا حميمٌ وغساقٌ فليذوقوه " الْحَمِيم: الحارُ الَّذِي لَا يُسْتَطاع من حرِّه , قَالَ عبد الله بْن عَمْرو: والغَسَّاق: القيْح الغليظ لَو أَن جَرَّة مِنْهُ تُهراق فِي الْمغرب لأنتنت أهْلَ الْمشرق , وَلَو أَن تهراق فِي الْمشرق لأنتنت أهل الْمغرب(4/97)
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)
{وَأخر} يَعْنِي: الزَّمْهَرِير {من شكله} من نَحوه؛ أَي: من نَحْو الْحَمِيم {أَزوَاج} ألوان.(4/97)
هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60)
{هَذَا فَوْج مقتحم مَعكُمْ} إِلَى قَوْله {فبئس الْقَرار} تَفْسِير بَعضهم يَقُولُ: جَاءَت الْمَلَائِكَة بفوج إِلَى النَّار فَقَالَت للفوج الأول الَّذين دخلُوا قبلهم: هَذَا فوجٌ مقتحم مَعكُمْ! قَالَ الفوج الأول: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صالوا النَّار} قَالَ الفوج الآخر: {بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لنا فبئس الْقَرار}(4/97)
قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)
قَالَ اللَّه: {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضعفا فِي النَّار} .
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: {مَا قدم لنا هَذَا} أَي: من سَنَّهُ وشرعه.(4/97)
وَقَوله: {فزده عذَابا ضعفا} أَي: زده عَلَى عَذَابه عذَابا آخر.
تَفْسِير الْآيَات من 62 وَحَتَّى 70 من سُورَة ص.(4/98)
وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62)
{وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رجَالًا} لما دخلُوا النَّار لمْ يَرْوهم مَعَهم فِيهَا فَقَالُوا: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ من الأشرار} فِي الدُّنْيَا(4/98)
أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)
{أتخذناهم سخريا} فأخطأنا {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ} أَي: أم هُمْ فِيهَا وَلَا نراهُم؟ هَذَا تَفْسِير مُجَاهِد. قَالَ: علمُوا بعد أَنهم لَيْسُوا مَعَهم فِيهَا.
قَالَ محمدٌ: تقْرَأ (سخريًّا) بِضَم السِّين وَكسرهَا بِمَعْنى واحدٍ من الهُزْء. وَقد قِيلَ: من ضمَّ أَوله جعله من السُّخرة , وَمن كسر جعله من الهُزْءِ. وَقَرَأَ نَافِع {أتخذناهم} بِأَلف الِاسْتِفْهَام(4/98)
إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
قَالَ اللَّه: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تخاصم أهل النَّار} يَعْنِي: قَول بَعضهم لبعضٍ فِي الْآيَة الأولى(4/98)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65)
{قل إِنَّمَا أَنا مُنْذر} من النَّار {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا الله الْوَاحِد القهار} قهر الْعباد بِالْمَوْتِ , وَبِمَا شَاءَ من أمره(4/98)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)
{رب السَّمَاوَات وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} لمن آمن.(4/99)
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)
{قل هُوَ نبأ عَظِيم} يَعْنِي: الْقُرْآن(4/99)
أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)
{أَنْتُم عَنهُ معرضون} يَعْنِي: الْمُشْركين(4/99)
مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
{مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بالملإ الْأَعْلَى} يَعْنِي: الْمَلَائِكَة {إِذْ يختصمون} تَفْسِير الْحَسَن: اخْتَصَمُوا فِي خلق آدم؛ قَالُوا فِيمَا بَينهم: مَا اللَّه خالقٌ خَلْقًا هُوَ أكْرم عَلَيْهِ منا.(4/99)
إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
قَوْله: {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنما أَنا نَذِير مُبين} كَقَوْلِه: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قوم هاد} النَّبِي الْمُنْذر , وَالله الْهَادِي.
تَفْسِير الْآيَات من 71 وَحَتَّى 85 من سُورَة ص.(4/99)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} إِلَى قَوْله: {وَكَانَ من الْكَافرين} قَدْ مَضَى تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة(4/99)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)
(قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن(4/99)
تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ كَعْبًا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ بِيَدِهِ إِلَّا ثَلَاثَة: خلق آدم بِيَدِهِ , وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ , وَغَرَسَ الْجَنَّةَ بِيَدِهِ {أَسْتَكْبَرْتَ} يَعْنِي: تكبّرت.
قَالَ محمدٌ: الِاخْتِيَار فِي الْقِرَاءَة (أستكبرت) بِفَتْح الْألف على الِاسْتِفْهَام.(4/100)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)
{فَاخْرُجْ مِنْهَا} {من السَّمَاء} (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} أَي: مَلْعُون (رجم باللعنة)(4/100)
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)
{وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} وأبدا فِي مَلْعُون(4/100)
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)
{قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي} أَي: أخرْني {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} .(4/100)
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)
قَالَ محمدٌ: {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} يَعْنِي: النفخة الأولى , وَأَرَادَ عَدو اللَّه أَن يُؤَخر إِلَى النفخة الْآخِرَة.(4/100)
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)
(إِلاَ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.
قَالَ محمدٌ: من قَرَأَ {المخلصين} بِكَسْر اللَّام أَرَادَ: الَّذين أَخْلصُوا دينهم لله , وَمن قَرَأَ بِالْفَتْح؛ فَالْمَعْنى: الَّذين أخلصهم الله لعبادته.(4/100)
قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)
{قَالَ فَالْحق وَالْحق أَقُول} تَفْسِير الْحَسَن هَذَا قسمٌ , يَقُول: (ل 297) حقًّا حقًّا لأملأن جهنَّم.
وَقَرَأَ الحكم بْن عتيبة: {قَالَ فالحقُّ والحقّ أَقُول} بِمَعْنى: اللَّه الحقّ ,(4/100)
وَيَقُول الحقَّ وَهُوَ قسمٌ أَيْضا.
تَفْسِير الْآيَات من 86 وَحَتَّى 88 من سُورَة ص.(4/101)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)
{قل مَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ} عَلَى الْقُرْآن {مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنا من المتكلفين}(4/101)
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87)
{إِن هُوَ} أَي: الْقُرْآن {إِلَّا ذكر} أَي: تفكر {للْعَالمين} يَعْنِي الغافلين(4/101)
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
{ولتعلمن نبأه بعد حِين} (أَي ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة) .(4/101)
سُورَة الزمر وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الزمر من الْآيَة 1 إِلَى آيَة 3.(4/102)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
قَوْله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيز الْحَكِيم} يَعْنِي: الْقُرْآن أنزلهُ مَعَ جِبْرِيل عَلَى محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ محمدٌ: يجوزُ الرّفْع فِي {تَنْزِيل} على معنى: هَذَا تَنْزِيل.(4/102)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)
{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} أَي: لَا تشرك بِهِ شَيْئا(4/102)
أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} يَعْنِي: الْإِسْلَام {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دونه أَوْلِيَاء} أَي: يتخذونهم آلِهَة يَعْبُدُونَهُمْ من دون اللَّه {مَا نَعْبُدُهُمْ} أَي: قَالُوا مَا نعبدهم , فِيهَا إِضْمَار {إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زلفى} قربى؛ زَعَمُوا أَنهم يَتَقَرَّبُون إِلَى اللَّه بِعبَادة الْأَوْثَان لكَي يصلح لَهُم مَعَايشهمْ فِي الدُّنْيَا , وَلَيْسَ يقرونَ بِالآخِرَة.
قَالَ مُجَاهِد: قُرَيْش يَقُولُونَهُ للأوثان , وَمن قبلهم يَقُولُونَهُ للْمَلَائكَة ولعيسى ابْن مَرْيَم ولعُزَير.
{إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} يحكم بَين الْمُؤمنِينَ(4/102)
وَالْمُشْرِكين يَوْم الْقِيَامَة , فَيدْخل الْمُؤمنِينَ الْجنَّة , وَيدخل الْمُشْركين النَّار {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِب كفار} يَعْنِي: من يَمُوت عَلَى كفره.
تَفْسِير سُورَة الزمر من الْآيَة 4 إِلَى آيَة 5.(4/103)
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ ولدا لاصطفى} لاختار {مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ} ينزه نَفسه أَن يكون لَهُ ولد {الْوَاحِد القهار} قهر الْعباد بِالْمَوْتِ وَبِمَا شَاءَ من أمره.(4/103)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
{خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ} أَي: للبعث والحساب وَالْجنَّة وَالنَّار {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَار على اللَّيْل} يَعْنِي: أَخذ كل واحدٍ مِنْهُمَا من صَاحبه {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كل يجْرِي لأجل مُسَمّى} يَعْنِي: إِلَى يَوْم الْقِيَامَة {أَلا هُوَ الْعَزِيز الْغفار} لمن آمن.
تَفْسِير سُورَة الزمر من الْآيَة 6 إِلَى آيَة 7.(4/103)
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
{خَلقكُم من نفس وَاحِدَة} آدم {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} حَوَّاء؛ من ضلعٍ(4/103)
من أضلاعه القُصيري من جنبه الْأَيْسَر {وَأنزل لكم} أَي: وَخلق لكم {مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَة أَزوَاج} أَصْنَاف الْوَاحِد مِنْهَا زوجٌ , هِيَ الْأزْوَاج الثَّمَانِية الَّتِي ذكر فِي سُورَة الْأَنْعَام {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خلقا من بعد خلق} يَعْنِي: نُطْفَة ثمَّ علقَة ثمَّ مُضْغَة ثمَّ عظامًا ثمَّ يُكسي الْعِظَام اللَّحْم ثمَّ الشّعْر ثمَّ ينْفخ فِيهِ الرّوح {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاث} يَعْنِي: الْبَطن والمشيمة وَالرحم {فَأَنَّى تصرفون} أيْ: أَيْنَ يُذْهَبُ بكُمْ فتعبدون غَيره وَأَنْتُم تعلمُونَ أَنَّهُ خَلقكُم وَخلق هَذِه الْأَشْيَاء؟ !(4/104)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُم} أَي: عَن عبادتكم {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكفْر وَإِن تشكروا} تؤمنوا {يَرْضَهُ لَكُمْ} .
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وزر أُخْرَى} يَعْنِي: لَا يحمل أحدٌ ذَنْبِ أحدٍ {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} يَعْنِي: بِمَا فِي الصُّدُور.
تَفْسِير سُورَة الزمر من الْآيَة 8 إِلَى آيَة 10.(4/104)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
{وَإِذا مس الْإِنْسَان ضرّ} يَعْنِي: مَرضا {دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} أَي: دَعَاهُ بالإخلاص أَن يكْشف عَنْهُ {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ} أَي: عافاه من ذَلكَ الْمَرَض {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ من قبل} هُوَ كَقَوْلِه: (مَرَّ كَأَنْ لَمْ يدعنا إِلَى(4/104)
ضرّ مَسّه} .
قَالَ محمدٌ: كل شيءٍ أُعطيته فقد خُوِّلْتَه وَمن هَذَا قَول زُهَيْر:
(هُنَالك إِن يستخولوا المَال يُخولوا ... وَإِن يسْأَلُوا يُعْطوا وَإِن يَيْسِرُوا يُغْلوا)
وَيُقَال: فلَان يخول أَهله إِذا رعى غَنمهمْ، أَو مَا أشبه ذَلكَ.
{وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا} يَعْنِي: الْأَوْثَان؛ الندُّ فِي اللُّغَة: الْعدْل {لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ} أَي: يتبعهُ عَلَى ذَلكَ غَيره {قُلْ} يَا مُحَمَّد للمشرك: {تَمَتَّعْ} {فِي الدُّنْيَا} (بِكُفْرِكَ قَلِيلاً} أَي أَن بَقَاءَك فِي الدُّنْيَا قَلِيل {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} .(4/105)
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} يَعْنِي (مصل) {آنَاء اللَّيْلِ} يَعْنِي: سَاعَات اللَّيْل {سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ} أَي: يخَاف عَذَابهَا {وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} يَعْنِي: الْجنَّة يَقُولُ: {أَمَّنْ هُوَ قَانِت} إِلَى آخر الْآيَة , كَالَّذي جعل لله أندادًا فعبد الْأَوْثَان دوني , لَيْسَ مثله.
قَالَ محمدٌ: أصل الْقُنُوت الطَّاعَة , وَقَرَأَ نَافِع (أَمن) بِالتَّخْفِيفِ.
(ل 298) {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} أَي: هَلْ يَسْتَوِي هَذَا الْمُؤمن الَّذِي يعلم أَنَّهُ ملاقٍ ربه , وَهَذَا الْمُشرك الَّذِي جعل لله(4/105)
الأنداد؛ أَي: أَنَّهُمَا لَا يستويان {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} إِنَّمَا (يقبل) التَّذْكِرَة {أولُوا الْأَلْبَاب} أَصْحَاب الْعُقُول؛ وهم الْمُؤْمِنُونَ.(4/106)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
{للَّذين أَحْسنُوا} آمَنُوا {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} أَي: فِي الْآخِرَة؛ وَهِي الْجنَّة {وَأَرْض الله وَاسِعَة} هُوَ كَقَوْلِه: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فاعبدون} فِي الأَرْض الَّتِي أَمركُم أَن تهاجروا إِلَيْهَا؛ يَعْنِي: الْمَدِينَة {إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ} يَعْنِي: الَّذين صَبَرُوا عَلَى طَاعَة الله {أجرهم} الْجنَّة {بِغَيْر حِسَاب} . يَقُول: لَا حِسَاب عَلَيْهِم فِي الْجنَّة، كَقَوْلِه: {يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَاب} .
تَفْسِير سُورَة الزمر من الْآيَة 11 إِلَى آيَة 16.(4/106)
وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)
{وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} من هَذِه الْأمة.(4/106)
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)
{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} بمتابعتكم عَلَى مَا تدعونني إِلَيْهِ من عبَادَة الْأَوْثَان {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم} يَعْنِي: جَهَنَّم(4/106)
فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)
{فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} وَهَذَا وَعِيد؛ أَي: أَنكُمْ إِن عَبدْتُمْ من دونه عذّبكم {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} الْآيَة , جعل اللَّه لكل أحدٍ منزلا فِي الْجنَّة وَأهلا؛ فَمن عمل(4/106)
بِطَاعَة اللَّه كَانَ لَهُ ذَلكَ الْمنزل والأهل، وَمن عمل بِمَعْصِيَة اللَّه صيَّره اللَّه إِلَى النَّار , وَكَانَ ذَلكَ الْمنزل والأهل مِيرَاثا لمن عمل بِطَاعَة اللَّه إِلَى مَنَازِلهمْ وأهليهم الَّتِي جعل اللَّه لَهُم , فَصَارَ جَمِيع ذَلكَ لَهُم.(4/107)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)
{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّار وَمن تَحْتهم ظلل} كَقَوْلِهِ: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمن فَوْقهم غواش} .
{ذَلِك} الَّذِي {يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عباد فاتقون} .
قَالَ محمدٌ: قَوْله: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ الله بِهِ عباده} مَوضِع (ذَلِك) رفعٌ بِالِابْتِدَاءِ الْمَعْنى ذَلكَ الَّذِي ذكرنَا من الْعَذَاب يخوف اللَّه بِهِ عباده , وَقَوله (يَا عِبَادِ) قِرَاءَة نَافِع بِحَذْف الْيَاء؛ وَهُوَ الِاخْتِيَار عِنْد أهل الْعَرَبيَّة.
تَفْسِير سُورَة الزمر من الْآيَة 17 إِلَى آيَة 21.(4/107)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)
{وَالَّذين اجتنبوا الطاغوت} (يَعْنِي: الشَّيَاطِين) {أَن يعبدوها} وَذَلِكَ أَن الَّذين يعْبدُونَ الْأَوْثَان إِنَّمَا يعْبدُونَ الشَّيَاطِين؛ لأَنهم هُمْ دعوهم إِلَى عبادتها(4/107)
{وأنابوا إِلَى الله} أَقبلُوا مُخلصين إِلَيْهِ {لَهُمُ الْبُشْرَى} يَعْنِي الْجنَّة {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه} اي: بشرهم بِالْجنَّةِ ,(4/108)
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
وَالْقَوْل كتاب اللَّه , واتِّباعهم لأحسنه أَن يعملوا بِمَا أَمرهم اللَّه بِهِ فِيهِ , وينتهوا عَمَّا نَهَاهُم الله عَنهُ فِيهِ.(4/108)
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
{أَفَمَن حق عَلَيْهِ} أَي: سبقت عَلَيْهِ {كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} أَي: تهدي من وَجب عَلَيْهِ الْعَذَاب؛ اي: لَا تهديه(4/108)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
{لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّة} .
قَالَ محمدٌ: قِيلَ الْمَعْنى: لَهُم؛ منَازِل فِي الْجنَّة رفيعة وفوقها منَازِل أرفع مِنْهَا {وَعْدَ اللَّهِ} الَّذِي وعد الْمُؤمنِينَ , يَعْنِي الْجنَّة.
قَالَ محمدٌ: الْقِرَاءَة {وَعَدَ اللَّهَ} بِالنّصب بِمَعْنى وعدهم اللَّه وَعدا.(4/108)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
{فسلكه ينابيع فِي الأَرْض} والينابيع: الْعُيُون {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} كَقَوْلِه: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هشيما تَذْرُوهُ الرِّيَاح} .
قَالَ محمدٌ: قَوْله: {ثُمَّ يَهِيجُ} أَي: يجفُّ، يُقَال للنبت إِذا تمّ جفافه. قد هاج النبت يهيج , وهاجت الأَرْض إِذا ذَوَى مَا فِيهَا من الخُضَر والحطام: مَا تفتت وتكسَّر من النبت وَغَيره.(4/108)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الْأَلْبَاب} الْعُقُول؛ وهم الْمُؤْمِنُونَ يتذكرون فيعلمون أنّ مَا فِي الدُّنْيَا ذاهبٌ.
تَفْسِير سُورَة الزمر من الْآيَة 22 إِلَى آيَة 26.(4/109)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} : أَي: وسَّع {فَهُوَ عَلَى نُورٍ من ربه} أَي: ذَلكَ النُّور فِي قلبه {فويل للقاسية قُلُوبهم} الْآيَة؛ أَي: أَن الَّذِي شرح اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نور من ربه لَيْسَ كالقاسي قلبه الَّذِي هُوَ فِي ضلال مُبين عَن الْهدى؛ يَعْنِي: الْمُشرك وَهَذَا عَلَى الِاسْتِفْهَام يَقُولُ: {هَلْ يستويان} أَي: أَنَّهُمَا لَا يستويان.(4/109)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
{الله نزل أحسن الحَدِيث} يَعْنِي: الْقُرْآن {كتابا متشابها} يَعْنِي: يشبه بعضه بَعْضًا فِي نوره وَصدقه وعدله {مثاني} يَعْنِي: ثنى اللَّه فِيهِ الْقَصَص عَن الْجنَّة فِي هَذِه السُّورَة , وثنى ذكرهَا فِي سُورَة أُخْرَى , وَذكر النَّار فِي هَذِه (ل 299) السُّورَة ثمَّ ذكرهَا فِي غَيرهَا من السُّور؛ هَذَا تَفْسِير الْحَسَن.
قَالَ مُحَمَّد: {مثاني} نعت قَوْله (كتابا) وَلم ينْصَرف؛ لِأَنَّهُ جمع لَيْسَ عَلَى(4/109)
مِثَال الْوَاحِد.
{تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذين يَخْشونَ رَبهم} إِذا ذكرُوا وَعِيد اللَّه [فِيهِ] {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذكر الله} إِذا ذكرُوا أَعْمَالهم الصَّالِحَة , لانت قُلُوبهم وجلودهم إِلَى وعد اللَّه الَّذِي وعدهم.
قَالَ محمدٌ: وَقيل: الْمَعْنى: إِذا ذكرت آيَات الْعَذَاب , اقشعرَّت جُلُود الْخَائِفِينَ لله , ثمَّ تلين جلودُهم وَقُلُوبهمْ إِذا ذكرت آيَات الرَّحْمَة.(4/110)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)
{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ} أَي: شدته أول مَا تصيب مِنْهُ النَّار إِذا أُلقي فِيهَا وَجهه؛ لِأَنَّهُ يكبُّ عَلَى وَجهه {خير أَمن يَأْتِي آمنا} أَي: أَنَّهُمَا لَا يستويان {وَقِيلَ للظالمين} الْمُشْركين: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} أَي: جَزَاء مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ(4/110)
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25)
{كذب الَّذين من قبلهم} يَعْنِي: من قبل قَوْمك يَا محمدُ.
{فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} جَاءَهُم فَجْأَة(4/110)
فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
{ولعذاب الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا {لَو كَانُوا يعلمُونَ} لعلموا أَن عَذَاب الْآخِرَة أكبر من عَذَاب الدُّنْيَا.
تَفْسِير سُورَة الزمر من الْآيَة 27 إِلَى آيَة 31.(4/110)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يتذكرون} لِكَيْ(4/110)
يَتَذَكَّرُوا؛ فَيَحْذَرُوا أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نزل بالذين من قبلهم(4/111)
قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
{قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} أَي: لَيْسَ [فِيهِ عوج] {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} لكَي يتقوا.
قَالَ محمدٌ: (عَرَبِيًّا) منصوبٌ عَلَى الْحَال , الْمَعْنى: ضربنا للنَّاس فِي هَذَا الْقُرْآن فِي حَال عربيته وَبَيَانه , وَذكر (قُرْآنًا) توكيدا.(4/111)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
{ضرب الله مثلا رجلا} يَعْنِي: الْمُشرك {فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} يَعْنِي: أوثانًا؛ هُمْ شَتَّى.
{وَرَجُلا سلما لرجل} يَعْنِي: الْمُؤمن يعبد اللَّه وَحده {هَل يستويان مثلا} أَيْ: أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ.
قَالَ مُحَمَّد: {متشاكسون} مَعْنَاهُ: مُخْتَلفُونَ لَا يتفقون.
وَيُقَال للعسير: شَكِس الرجل شَكْسًا , وَمن قَرَأَ (ورجلا سلما) فَالْمَعْنى: ذَا سلمٍ وَهُوَ مصدر وُصِفَ بِهِ , وأصلُ الْكَلِمَة من الاستسلام.(4/111)
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ ربكُم تختصمون} تَفْسِير الْحَسَن: يُخَاصم النَّبِي والمؤمنون الْمُشْركين.(4/111)
تَفْسِير سُورَة الزمر من الْآيَة 32 إِلَى آيَة 37.(4/112)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى الله} فعبد الْأَوْثَان , وَزعم أَن عبادتها تقرب إِلَى اللَّه {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} يَعْنِي: الْقُرْآن الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّد؛ أَي: لَا أحد أظلم مِنْهُ {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى} أَي: منزلا {للْكَافِرِينَ} أَي: بلَى فِيهَا منزل للْكَافِرِينَ(4/112)
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)
{وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ} محمدٌ جَاءَ بِالْقُرْآنِ {وَصَدَّقَ بِهِ} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ؛ صدَّقوا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} .(4/112)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)
{أَلَيْسَ الله بكاف عَبده} يَعْنِي: مُحَمَّدًا؛ يَكْفِيهِ الْمُشْركين حَتَّى لَا يصلُوا إِلَيْهِ {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ من دونه} يَعْنِي: الْأَوْثَان.
تَفْسِير سُورَة الزمر من الْآيَة 38 إِلَى آيَة 40.(4/112)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دون الله} يَعْنِي: أوثانهم , الْآيَة.(4/112)
يَقُولُ: لَا يقدرن أَن يكشفن ضرا، وَلَا يمسكن رَحْمَة {لَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله} أَي: فَكيف تَعْبدُونَ الْأَوْثَان من دونه , وَأَنْتُم تعلمُونَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض(4/113)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39)
{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مكانتكم} أَي: عَلَى شرككم {إِنِّي عَامِلٌ} عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ من الْهدى {فَسَوف تعلمُونَ} وَهَذَا وَعِيد(4/113)
مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)
{من يَأْتِيهِ عَذَاب يخزيه} يَعْنِي: النَّفْخَةَ الأُولَى الَّتِي يَهْلِكُ بِهَا كُفَّارُ آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ {وَيحل عَلَيْهِ عَذَاب مُقيم} فِي الْآخِرَة.
تَفْسِير سُورَة الزمر من الْآيَة 41 إِلَى آيَة 44.(4/113)
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
{وَمَا أَنْت عَلَيْهِم بوكيل} أَي: بحفيظ لأعمالهم حَتَّى تجازيهم بهَا , وَالله هُوَ الَّذِي يجزيهم بهَا(4/113)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
{وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} أَي ويتوفى الَّتِي لمْ تمت؛ أَي: يتوفاها فِي منامها {فَيُمْسِكُ الَّتِي قضى عَلَيْهَا الْمَوْت} أَي: فيميتها.
قَالَ محمدٌ: (فَيُمْسِكُ) بِالرَّفْع هِيَ قِرَاءَة نَافِع.
{وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أجل مُسَمّى} إِلَى الْمَوْت؛ وَذَلِكَ أَن الْإِنْسَان إِذا نَام خرجت النَّفس وَتبقى الرّوح فَيكون بَينهمَا مثل شُعَاع الشَّمْس , وبلغنا أَن(4/113)
الأحلام الَّتِي يرى النَّائِم هِيَ فِي تِلْكَ الْحَال؛ فَإِن كَانَ مِمَّن كتب اللَّه عَلَيْهِ الْمَوْت فِي مَنَامه خرجت الرّوح إِلَى النَّفس، وَإِن كَانَ مِمَّن لم يحضر أَجله رجعت النَّفس إِلَى الرّوح فَاسْتَيْقَظَ.
{إِنَّ فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون} وهم الْمُؤْمِنُونَ(4/114)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء} أَي: قد اتخذوهم؛ ليشفعوا لَهُم (ل 300) زَعَمُوا ذَلكَ لدنياهم ليصلحها لَهُم وَلَا يقرونَ بِالآخِرَة {قل} يَا مُحَمَّد: {أَوَ لَوْ كَانُوا} {يَعْنِي: أوثانهم} {لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يعْقلُونَ} [أَي: أَنهم لَا يملكُونَ شَيْئا وَلَا يعْقلُونَ)(4/114)
{قل لله الشَّفَاعَة جَمِيعًا} أَي: لَا يشفع أحدٌ يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا بِإِذْنِهِ , يَأْذَن لمن يَشَاء من الْمَلَائِكَة والأنبياء وَالْمُؤمنِينَ أَن يشفعوا للْمُؤْمِنين فيشفعهم فيهم.
تَفْسِير سُورَة الزمر من الْآيَة 45 إِلَى آيَة 48.(4/114)
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ} انقبضت {قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دونه} أَي: الَّذين يعْبدُونَ من دونه؛ يَعْنِي: الْأَوْثَان {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} .(4/114)
قَالَ محمدٌ: يُقَال لمن ذُعر من شَيْء: اشمأز اشمئزازا.(4/115)
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
{عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة} الْغَيْب: السِّرّ , وَالشَّهَادَة: الْعَلَانِيَة {أَنْتَ تحكم بَين عِبَادك} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ وَالْمُشْرِكين؛ فَيكون حكمه بَينهم أَن يدْخل الْمُؤمنِينَ الْجنَّة وَيدخل الْمُشْركين النَّار.(4/115)
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)
{وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لم يَكُونُوا يحتسبون} يَعْنِي: لم يَكُونُوا يحتسبون أَنهم مبعوثون ومعذبون.(4/115)
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)
{وحاق بهم} وَجب عَلَيْهِم {مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون} أَي: جَزَاء ذَلكَ الِاسْتِهْزَاء وَهِي جَهَنَّم بعد عَذَاب الدُّنْيَا.
تَفْسِير سُورَة الزمر من الْآيَة 49 إِلَى آيَة 52.(4/115)
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)
{ثمَّ إِذا خولناه} أعطيناه {نعْمَة منا} أَي: عَافِيَة {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ} أَعْطيته {على علم} تَفْسِير مُجَاهِد يَقُولُ: هَذَا [بعلمي] (كَقَوْلِه: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لي} أَي: أَنَا محقوقٌ بِهَذَا) .(4/115)
قَالَ اللَّهُ: {بَلْ هِي فِتْنَةٌ} يَعْنِي: بليّة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يعلمُونَ} يَعْنِي: جمَاعَة الْمُشْركين.
قَالَ مُحَمَّد: قِيلَ: الْمَعْنى: تِلْكَ العطيَّة بلوى من اللَّه يَبْتَلِي بهَا العَبْد ليشكر أَو يكفر.(4/116)
قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50)
{قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من الْمُشْركين؛ يَعْنِي: هَذِه الْكَلِمَة. {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من أَمْوَالهم(4/116)
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)
{فَأَصَابَهُمْ سيئات مَا كسبوا} مَا عمِلُوا من الشّرك، يَقُولُ: نزل بهم جَزَاء أَعْمَالهم؛ يَعْنِي: الَّذِي أهلك من الْأُمَم {وَالَّذِينَ ظلمُوا} أشركوا {من هَؤُلَاءِ} يَعْنِي: هَذِه الْأمة {سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كسبوا} يَعْنِي: الَّذِينَ تَقُومُ عَلَيْهِمُ السَّاعَةُ كفار آخر هَذِه الْأمة , وَقد أهلك أوائلهم؛ أَبَا جهل وَأَصْحَابه بِالسَّيْفِ يَوْم بدر {وَمَا هُمْ بمعجزين} أَي: بالذين يَسْبِقُونَنَا حَتَّى لَا نقدر عَلَيْهِم فنبعثهم ثمَّ نعذبهم(4/116)
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
{أَوَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ} أَي: بلَى قد علمُوا.
تَفْسِير سُورَة الزمر من الْآيَة 53 إِلَى آيَة 56.(4/116)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا على أنفسهم} بالشرك {لَا تقنطوا} تيأسوا. الْآيَة.
تَفْسِير الْحَسَن قَالَ: لما نزل فِي قَاتل الْمُؤمن وَالزَّانِي وغَير ذَلكَ مَا نزل(4/116)
خَافَ قوم أَن يؤاخذوا بِمَا عمِلُوا فِي الْجَاهِلِيَّة , فَقَالُوا: أَيّنَا لم يفعل فَأنْزل اللَّه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا على أنفسهم} [بالشرك] {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} الَّتِي كَانَت فِي الشّرك {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرَّحِيم} وَأنزل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر} أَي: بعد إسْلَامهمْ {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} أَي: بعد إسْلَامهمْ {وَلا يَزْنُونَ} أَي: بعد إسْلَامهمْ إِلَى قَوْله: {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عملا صَالحا} الْآيَة , وَقد مضى تَفْسِيرهَا(4/117)
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)
{وأنيبوا إِلَى ربكُم} يَقُوله للْمُشْرِكين: أَقْبِلُوا إِلَى ربكُم بالإخلاص لَهُ(4/117)
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)
{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من ربكُم} وَهُوَ أَن يَأْخُذُوا بِمَا أَمرهم اللَّه بِهِ , وينتهوا عَمَّا نَهَاهُم اللَّه عَنْهُ {مِنْ قَبْلِ أَنْ يأتيكم الْعَذَاب بَغْتَة} فَجْأَة {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} .(4/117)
{أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} أَي: فِي أَمر اللَّه {وَإِنْ كنت لمن الساخرين} أَي: كنت أسخر فِي الدُّنْيَا بِالنَّبِيِّ وَالْمُؤمنِينَ.
قَالَ محمدٌ: {أَنْ تَقول نفس} مَعْنَاهُ: خَوْفَ أَن تَقُولُ نفسٌ إِذا صَارَت إِلَى (حَال) الندامة، وَالِاخْتِيَار فِي الْقِرَاءَة: (يَا حسرتا) .
تَفْسِير سُورَة الزمر من الْآيَة 57 إِلَى آيَة 63.(4/117)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)
{أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ} حِين تدخل فِي الْعَذَاب: {لَوْ أَن لي كرة} إِلَى الدُّنْيَا {فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ ,(4/118)
بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
قَالَ اللَّه: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آياتي} الْآيَة.(4/118)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا على الله وُجُوههم مسودة} .
[قَالَ مُحَمَّد: {وُجُوههم مسودة} رفع عَلَى الِابْتِدَاء , وَلم يعْمل الْفِعْل وَالْخَبَر {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مثوى للمتكبرين} (ل 301) عَن عبَادَة اللَّه بلَى لَهُم فِيهَا مثوى يثوون فِيهَا أبدا.(4/118)
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} بمنجاتهم(4/118)
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} حفيظ(4/118)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)
{لَهُ مقاليد السَّمَاوَات وَالْأَرْض} يَعْنِي: مَفَاتِيح.
قَالَ محمدٌ: وَاحِد المقاليد: إقليد.(4/118)
تَفْسِير سُورَة الزمر من الْآيَة 64 إِلَى آيَة 67.(4/119)
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)
{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيهَا الجاهلون} يَعْنِي: الْمُشْركين دَعَوْهُ إِلَى عبَادَة الْأَوْثَان.
قَالَ محمدٌ: قد مضى فِي سُورَة الْأَنْعَام ذكر الِاخْتِلَاف فِي قِرَاءَة {تأمروني} .(4/119)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} مَا عظموا اللَّه حق عَظمته إِذْ عبدُوا الْأَوْثَان من دونه {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَات مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ} .
يَحْيَى: عَنْ عُثْمَانَ الْبُرِّيِّ , قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ , قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُول الله يَقُول: " إِن الرَّحْمَن يطوي السَّمَاوَات يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِيَمِينِهِ , وَالأَرَضِينَ بِالأُخْرَى ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ , أَنَا الْملك , أَنا الْملك ".(4/119)
{سُبْحَانَهُ} ينزه نَفسه {وَتَعَالَى} ارْتَفع {عَمَّا يشركُونَ} .
تَفْسِير سُورَة الزمر من الْآيَة 68 إِلَى آيَة 70(4/120)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)
{وَنفخ فِي الصُّور} وَالصُّورِ قَرْنٌ يَنْفُخُ فِيهِ صَاحِبُ الصُّور {فَصعِقَ} أَي: فَمَاتَ {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْض} وَهَذِه النَّفْخة الأولى {إِلا مَنْ شَاءَ الله} تَفْسِير الْحَسَن: اسْتثْنى طوائف من أهل السَّمَاء يموتون بَين النفختين.
قَالَ يحيى: وَبَلغنِي أَن آخر من يبْقى مِنْهُم جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل وَملك الْمَوْت , ثمَّ يَمُوت جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل , ثمَّ يَقُولُ اللَّه لملك الْمَوْت: مُتْ فَيَمُوت.(4/120)
{ثمَّ نفخ فِيهِ أُخْرَى} وَهَذِه النفخة الْآخِرَة {فَإِذَا هُمْ قيام ينظرُونَ} وَبَين النفختين أَرْبَعُونَ سنة(4/121)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)
{وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكتاب} الَّذِي كتبته الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ} الَّذين بعثوا إِلَيْهِم {وَالشُّهَدَاء} يَعْنِي: الْمَلَائِكَة الْحفظَة {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وهم لَا يظْلمُونَ} .
قَالَ يحيى: بلغنَا أَنهم يقومُونَ مِقْدَار ثَلَاثمِائَة سنة قبل أَن يفصل بَينهم.(4/121)
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} أما الْمُشْركُونَ فَلَيْسَ يعطوْن فِي الْآخِرَة بأعمالهم الْحَسَنَة شَيْئا: قد جوزوا بهَا فِي الدُّنْيَا , وَأما الْمُؤْمِنُونَ فَيُوَفَّوْنَ حسناتهم فِي الْآخِرَة , وَأما سيئاتهم فَإِنَّهُ يُحَاسب العَبْد بِالْحَسَنَاتِ(4/121)
والسيئات؛ فَإِن فضلت حَسَنَاته سيئاته بحسنة وَاحِدَة ضاعفها اللَّه لَهُ , وَهُوَ قَوْله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَة يُضَاعِفهَا} وَإِن اسْتَوَت حَسَنَاته وسيئاته فَهُوَ من أَصْحَاب الْأَعْرَاف يصير إِلَى الْجنَّة , وَإِن زَادَت سيئاتُه عَلَى حَسَنَاته فَهُوَ فِي مَشِيئَة اللَّه.
تَفْسِير سُورَة الزمر من الْآيَة 71 إِلَى آيَة 72.(4/122)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)
{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} أَي: فوجًا فوجًا , إِلَى قَوْله:(4/122)
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
{بئس مثوى المتكبرين} يَعْنِي: عَن عبَادَة الله.
تَفْسِير سُورَة الزمر من الْآيَة 73 إِلَى آيَة 75.(4/122)
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)
{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} إِلَى قَوْله: {سَلامٌ عَلَيْكُم طبتم} .
يَحْيَى: عَنْ نُعَيْمِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ , عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ(4/122)
الْهَمْدَانِيِّ , عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ , عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: " إِذَا تَوَجَّهُوا إِلَى الْجَنَّةِ مَرُّوا بِشَجَرَةٍ يَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ سَاقِهَا عَيْنَانِ؛ فَيَشْرَبُونَ مِنْ إِحْدَاهِمَا , فَتَجْرِي عَلَيْهِمْ بِنَضْرَةِ النَّعِيمِ , فَلا تُغَبَّرُ أَبْشَارُهُمْ وَلا تُشَعَّثُ أَشْعَارُهُمْ بَعْدَهَا أَبَدًا , ثُمَّ يَشْرَبُونَ مِنَ الأُخْرَى فَيَخْرُجُ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنْ أَذًى , ثُمَّ تَسْتَقْبِلُهُمُ الْمَلائِكَةُ - خَزَنَةُ الْجَنَّةِ - فَتَقُولُ لَهُمْ: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدين} .(4/123)
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)
{وأورثنا الأَرْض} يَعْنِي: أَرض الْجنَّة {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجنَّة حَيْثُ نشَاء} أَي: ننزل: {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} فِي الدُّنْيَا(4/124)
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
{وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْش} أَي: مُحْدِقين {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} أَي: فُصِلَ {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رب الْعَالمين} قَالَه الْمُؤْمِنُونَ؛ حمدوا اللَّه عَلَى مَا أَعْطَاهُم.(4/124)
تَفْسِير سُورَة حم الْمُؤمن وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تَفْسِير سُورَة غَافِر من الْآيَة 1 إِلَى آيَة 4.(4/125)
حم (1)
قَوْله: {حم} قَالَه الْحَسَن: مَا أَدْرِي مَا تَفْسِير (حم) و (طسم) وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ , غَيْرَ أَنَّ قَوْمًا مِنَ السَّلَفِ كَانُوا يَقُولُونَ: أَسْمَاءُ السُّور وفواتحها.(4/125)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)
{تَنْزِيل الْكتاب} الْقُرْآن {من الله الْعَزِيز} فِي ملكه {الْعَلِيم} بخلقه(4/125)
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعقَاب} لمن لمْ يُؤمن {ذِي الطَّوْلِ} الْغنى(4/125)
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)
{مَا يُجَادِل} (ل 302) يُمَارِي {فِي آيَات الله} فيجحدها {إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يغررك تقلبهم} إقبالهم وإدبارهم {فِي الْبِلَاد} يَعْنِي: الدُّنْيَا بِغَيْر عَذَاب؛ فَإِن الله معذبهم.
تَفْسِير سُورَة غَافِر من الْآيَة 5 إِلَى آيَة 6.(4/125)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)
{كذبت قبلهم} قبل قَوْمك يَا مُحَمَّد {قَوْمُ نوح والأحزاب من بعدهمْ} يَعْنِي: عادًا وَثَمُود , وَمن بعدهمْ الَّذين أخبر بهلاكهم لتكذيبهم رسلهم(4/125)
{وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} فيقتلوه {وجادلوا} خاصموا {بِالْبَاطِلِ} بالشرك جادلوا بِهِ الْأَنْبِيَاء وَالْمُؤمنِينَ {ليدحضوا بِهِ} أَي: يذهبوا بِهِ {الْحق} يَعْنِي: الْإِيمَان.
{فَأَخَذْتُهُمْ بِالْعَذَابِ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} أَي: كَانَ شَدِيدا(4/126)
وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
{وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِماَتُ رَبِّكَ} أَي: سبقت.
تَفْسِير سُورَة غَافِر من الْآيَة 7 إِلَى آيَة 12.(4/126)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} أَي: وَمن حول الْعَرْش {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} {يَقُولُونَ} (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ} أَي: مَلَأت كل شيءٍ {رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} من الشّرك {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} يَعْنِي: الْإِسْلَام.(4/126)
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)
{وَمَن صَلَحَ} أَي: من آمن {مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} .(4/127)
وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
{وقهم السَّيِّئَات} يَعْنِي: جَهَنَّم هِيَ جَزَاء الشّرك {وَمن تق السَّيِّئَات} أَي: تصرف عَنهُ(4/127)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)
{إِن الَّذين كفرُوا ينادون} وهم فِي النَّار: {لَمَقْتُ اللَّهِ أكبر من مقتكم أَنفسكُم} أَي: لمقت اللَّه إيَّاهُم فِي مَعْصِيَته أكبر من مقتهم أنفسهم فِي النَّار، وَذَلِكَ أَن أحدهم يمقت نَفسه {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَان} فِي الدُّنْيَا {فَتَكْفُرُونَ}(4/127)
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)
{قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} وَهُوَ قَوْله فِي سُورَة الْبَقَرَة: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} .
يَقُولُ: كُنْتُم أَمْوَاتًا فِي أصلبة آبائكم نطفاً {فأحياكم} يَعْنِي: هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا {ثُمَّ يميتكم} يَعْنِي: مَوْتهمْ {ثمَّ يُحْيِيكُمْ} يَعْنِي: الْبَعْث.
{فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ من سَبِيل} تَفْسِير الْحَسَن: فِيهَا إِضْمَار (قَالَ الله: لَا)(4/127)
ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
ثمَّ قَالَ: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرك بِهِ تؤمنوا} تصدقوا بِعبَادة الْأَوْثَان.
تَفْسِير سُورَة غَافِر من الْآيَة 13 إِلَى آيَة 16.(4/127)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13)
قَوْله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} مَا أرَاهُ العبادَ من قدرته {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} الْمَطَر؛ يَعْنِي: فِيهِ أرزاق الْعباد {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ} يخلص لله(4/127)
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)
{رفيع الدَّرَجَات} هُوَ رفيع الدَّرَجَات دَرَجَات الْمُؤمنِينَ فِي الْجنَّة(4/127)
{ذُو الْعَرْش} رب الْعَرْش {يلقِي الرّوح} ينزل الْوَحْي {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [يَوْم الْقِيَامَة] يَوْم يلتقي فِيهِ الْخَلَائق: أهل السَّمَاء وَأهل الأَرْض عِنْد اللَّه.
قَالَ مُحَمَّد: الِاخْتِيَار فِي الْقِرَاءَة بِالْيَاءِ , وَقَرَأَ نَافِع بِغَيْر يَاء.(4/128)
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)
{يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} يَقُول: لمن الْملك الْيَوْم؟ يسْأَل الْخَلَائق فَلَا يجِيبه أحد , فَيرد عَلَى نَفسه فَيَقُول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ القهار} قهر الْعباد بِالْمَوْتِ , وَبِمَا شَاءَ من أمره قَالَ بَعضهم: هَذَا بَين النفختين حِين لَا يبْقى أحد غَيره.
تَفْسِير سُورَة غَافِر من الْآيَة 17 إِلَى آيَة 20.(4/128)
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
{الْيَوْم} يَعْنِي: فِي الْآخِرَة {تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} سَمِعْتُ بَعْضَ الْكُوفِيِّينَ يَقُولُ: يَفْرَغُ من حِسَاب الْخَلَائق فِي مِقْدَار نِصْفِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا إِذا أَخذ فِي حِسَاب الْخَلَائق وعرضهم.(4/128)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)
{وَأَنْذرهُمْ يَوْم الآزفة} يَعْنِي: الْقِيَامَة {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِر كاظمين} قَالَ قَتَادَة: انتزعت الْقُلُوب فغصّت بهَا الْحَنَاجِر , فَلَا هِيَ تخرج وَلَا هِيَ ترجع إِلَى أماكنها.(4/128)
يَحْيَى: عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ , عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ , عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: " يَجِيءُ الرَّبُّ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي مَلائِكَةِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ , لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلا اللَّهُ , فَيُؤْتَى بِالْجَنَّةِ مُفْتَحَةٌ أَبْوَابُهَا يَرَاهَا كُلُّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ , عَلَيْهَا مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ حَتَّى تُوضَعَ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ , فَيُوجَدُ رِيحُهَا مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسمِائَة عَامٍ. قَالَ: وَيُؤْتَى بِالنَّارِ تُقَادُ بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ يَقُودُ كُلَّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ (مُفْتَحَةٌ) أَبْوَابُهَا , عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ سُودٌ، مَعَهُمْ السَّلاسِلُ الطِّوَالُ , وَالأَنْكَالُ الثِّقَالُ وَسَرَابِيلُ الْقَطِرَانِ، وَمُقَطِّعَاتُ النِّيرَانِ , لأَعْيُنِهِمْ لَمْعٌ كَالْبَرْقِ , وَلِوُجُوهِهِمْ لَهَبٌ كَالنَّارِ , شَاخِصَةٌ أَبْصَارُهُمْ , لَا يَنْظُرُونَ إِلَى ذِي الْعَرْش [تَعْظِيمًا لَهُ] , فَإِذا (ل 303) دَنَتِ النَّارُ فَكَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخَلَائق مسيرَة خَمْسمِائَة سَنَةٍ زَفَرَتْ زَفْرَةً , فَلا يَبْقَى أَحَدٌ إِلا جَثَا عَلَى رُكْبَتِهِ , وَأَخَذَتْهُ الرَّعْدَةُ وَصَارَ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا فِي حَنْجَرَتِهِ لَا يَخْرُجُ وَلا يَرْجِعُ إِلَى مَكَانِهِ , وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} وَيُنَادِي إِبْرَاهِيمُ: رَبِّ لَا تُهْلِكْنِي بِخَطِيئَتِي! وَيُنَادِي نُوحٌ وَيُونُسُ , وَتُوضَعُ النَّار على يَسَارِ الْعَرْشِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِيزَانِ فَيُوضَعُ بَيْنَ يَدَيِ الْجَبَّارِ، ثُمَّ يُدْعَى الْخَلائِقُ لِلْحِسَابِ ".
قَالَ محمدٌ: إِنَّمَا قِيلَ للقيامة: آزفة؛ لِأَنَّهَا قريبةٌ وَإِن استبعد النَّاس مداها. يُقَال: أَزِفَت تَأْزَف أَزَفًا , وَقد أزف الْأَمر إِذا قرُب , وكاظمين منصوبٌ عَلَى الْحَال , وأصل الكظم: الْحَبْس.(4/129)
{مَا للظالمين} للْمُشْرِكين {من حميم} أَي: شفيق يحمل عَنْهُمْ من ذنوبهم شَيْئا {وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} أَي: لَا يشفع لَهُم أحدٌ؛ إِنَّمَا الشَّفَاعَة للْمُؤْمِنين(4/130)
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
{يعلم خَائِنَة الْأَعْين} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي: نظر الْعين إِلَى مَا نهى عَنْهُ.
قَالَ مُحَمَّد: الخائنة والخيانة وَاحِد.(4/130)
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} يَعْنِي: أوثانهم {لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} .
تَفْسِير سُورَة غَافِر من الْآيَة 21 إِلَى آيَة 25.(4/130)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)
{كَانُوا هم أَشد مِنْهُم} من مُشْركي الْعَرَب {قُوَّة} أَي: بطشًا {وَآثَارًا فِي الأَرْضِ} يَعْنِي: مَا عمِلُوا من الْمَدَائِن وَغَيرهَا من آثَارهم {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} يقيهم من عَذَاب الله(4/130)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
{إِنَّه قوي شَدِيد الْعقَاب} للْمُشْرِكين.(4/130)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} حجَّة بَيِّنَة(4/130)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)
{قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَه} أَي: صدقوه {واستحيوا نِسَاءَهُمْ} أَي: لَا تقتلوهن {وَمَا كَيْدُ الْكَافرين إِلَّا فِي ضلال} يذهب فَلَا يكون شَيْئا؛ أَي: فِي الْعَاقِبَة.(4/130)
تَفْسِير سُورَة غَافِر من الْآيَة 26 إِلَى آيَة 28.(4/131)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} يَقُوله لأَصْحَابه؛ أَي: خلوا بيني وَبَينه فَأَقْتُلهُ وَلم يخف أَن يمْتَنع مِنْهُ {وليدع ربه} أَي: وليسْتعن ربه؛ أَي إِن ربه لَا يُغني عَنْهُ شَيْئا {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} قَالَ الْحَسَن: كَانُوا عَبدة أوثان {وَأَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ} يَعْنِي: أَرض مصر {الْفَسَادَ} .
)(4/131)
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْن} من قوم فِرْعَوْن {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} قَالَ الْحَسَن: قد كَانَ مُؤمنا قبل أَن يَأْتِيهم مُوسَى.
{وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ من ربكُم} ؛ يَعْنِي: الْآيَات الَّتِي جَاءَهُم بهَا مُوسَى.
{يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} كَانَ مُوسَى يعدهم عَذَاب اللَّه فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ إِنْ لَمْ يُؤمنُوا , وَقد كَانَ مُؤمن آل فِرْعَوْن علم أَن مُوسَى عَلَى الْحق.
تَفْسِير سُورَة غَافِر من الْآيَة 29 إِلَى آيَة 33.(4/131)
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
{ظَاهِرين فِي الأَرْض} يَعْنِي: غَالِبين عَلَى أَرض مصر فِي الْقَهْر لَهُم {فَمَنْ يَنْصُرُنَا} يمنعنا {من بَأْس الله} عَذَابه {إِن جَاءَنَا} يَقُوله عَلَى الِاسْتِفْهَام - أَي: أَنَّهُ لَا يمنعنا مِنْهُ أحد.
{قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أرى} أَي: مَا أرى لنَفْسي {وَمَا أهديكم إِلَّا سَبِيل الرشاد} يَعْنِي: جحود مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى والتمسُّك بِمَا هُمْ عَلَيْهِ.(4/132)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)
{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَاب} يَعْنِي: مثل عَذَاب الْأُمَم الخالية , ثمَّ أخبر عَن يَوْم الْأَحْزَاب) {فَقَالَ(4/132)
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)
2 -! (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} الْآيَة الدأْبُ: الْفِعْل؛ الْمَعْنى: إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم مثل عُقُوبَة فعلهم وَهُوَ مَا أهلكهم اللَّه بِهِ.
قَالَ محمدٌ: (الدأب) عِنْد أهل اللُّغَة: الْعَادة؛ الْمَعْنى: إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم أَن تُقِيمُوا عَلَى كفركم , فَينزل بكم من الْعَذَاب مثل مَا نزل بالأمم السَّالفة المكذبة رسلهم؛ وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ يحيى.(4/132)
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)
{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} قَالَ قَتَادَة: يَوْم يُنَادي أهل الْجنَّة أهل النَّار أَن قد وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا , وينادي أهل النَّار أهل الْجنَّة أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ.
قَالَ محمدٌ: من قَرَأَ (التناد) مخفَّفة؛ فَهِيَ بِلَا يَاء فِي الْوَصْل وَالْوَقْف ,(4/132)
وَقد قُرِئت أَيْضا بِالْيَاءِ فِي الْوَصْل وَالْوَقْف.(4/133)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
{يَوْم تولون مُدبرين} يَعْنِي: عَن النَّار , أَي فارِّين غير معجزين اللَّه , فِي تَفْسِير مُجَاهِد.
تَفْسِير سُورَة غَافِر من الْآيَة 34 إِلَى آيَة 37.(4/133)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ} أَي: من قبل مُوسَى {بِالْبَيِّنَاتِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً} أَي: أَنَّهُ لم يكن برَسُول , فَلَنْ (ل 304) يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِف} مُشْرك {مرتاب} فِي شكّ من الْبَعْث.(4/133)
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
{بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُم} بِغَيْر حجَّة أَتَتْهُم من اللَّه بِعبَادة الْأَوْثَان {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ الله} .(4/133)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36)
{ابْن لي صرحا} قَالَ الكَلْبي: يَعْنِي: قصرًا {لَعَلِّي أبلغ الْأَسْبَاب} يَعْنِي: الْأَبْوَاب(4/134)
أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
{فَأطلع إِلَى إِلَه مُوسَى} الَّذِي يزْعم {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} مَا فِي السَّمَاء أحدٌ تعمد الْكَذِب.
قَالَ اللَّه: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيل} عَن طَرِيق الْهدى {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْن إِلَّا فِي تباب} خسار.
تَفْسِير سُورَة غَافِر من الْآيَة 38 إِلَى آيَة 40.(4/134)
يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)
{إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} يُسْتمتع بِهِ , ثمَّ يذهب فَيصير الْأَمر إِلَى الْآخِرَة.(4/134)
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
{من عمل سَيِّئَة} والسيئة هَا هُنَا: الشّرك {فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا} النَّار {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} لَا يقبل اللَّه الْعَمَل الصَّالح إِلَّا من الْمُؤمن.
{يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْر حِسَاب} قَالَ السُّدي: يَعْنِي: بِغَيْر متابعةٍ وَلَا مَنِّ عَلَيْهِم فِيمَا يُعْطَوْن.
تَفْسِير سُورَة غَافِر من الْآيَة 41 إِلَى آيَة 44.(4/134)
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41)
{مالِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} إِلَى الْإِيمَان بِاللَّه {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّار} إِلَى الْكفْر الَّذِي يدْخل بِهِ صَاحبه النَّار.(4/135)
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
{وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} أَي: لَيْسَ عِنْدِي علمٌ بأنَّ مَعَ اللَّه شَرِيكا , وَلكنه اللَّه وَحده لَا شريك لَهُ {وَأَنَا أدعوكم إِلَى الْعَزِيز الْغفار} لمن آمن(4/135)
لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)
{لاَ جَرَمَ أَنَّ مَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} أَن أعبده {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ} أَي: لَا يُجيب من دَعَاهُ فِي الدُّنْيَا , وَلَا يَنْفَعهُ فِي الْآخِرَة.
قَالَ محمدٌ: قد مضى تَفْسِير {لَا جرم} .
{وَأَن المسرفين} الْمُشْركين {هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}(4/135)
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)
{فستذكرون مَا أَقُول لكم} إِذا صرتم إِلَى النَّار {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى الله} أَي: أتوكل عَلَى اللَّه {إِنَّ الله بَصِير بالعباد} أَي: بأعمالهم ومصيرهم.
تَفْسِير سُورَة غَافِر من الْآيَة 45 إِلَى آيَة 48.(4/135)
فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)
{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} أَي: عصمه من ذَلكَ الْكفْر الَّذِي دَعوه إِلَيْهِ ,(4/135)
وَعَصَمَهُ من الْقَتْل والهلاك الَّذِي هَلَكُوا بِهِ {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ} وَجب عَلَيْهِم {سوء الْعَذَاب} يَعْنِي: شدته(4/136)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
{النَّارِ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي: مَا كَانَت الدُّنْيَا.
يَحْيَى: عَنْ حَمَّادٍ (عَنْ) أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ , عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ فِي حَدِيثِ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ " أَنَّهُ أَتَى عَلَى سَابِلَةِ آلِ فِرْعَوْنَ , حَيْثُ يُنْطَلَقُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا؛ فَإِذَا رَأَوْهَا قَالُوا: رَبَّنَا لَا تَقُومَنَّ السَّاعَةُ! لِمَا يَرَوْنَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ ".
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أدخلُوا آل فِرْعَوْن} يَعْنِي: أهل مِلَّته , وَفرْعَوْن مَعَهم {أَشَدَّ الْعَذَابِ} .(4/136)
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47)
{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء} يَعْنِي: السفلة {للَّذين استكبروا} يَعْنِي: الرؤساء فِي الضَّلَالَة {إِنَّا كُنَّا لكم تبعا} أَي: دعوتمونا إِلَى الضَّلَالَة فأطعناكم {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا} أَي: جُزْءا {من النَّار} .
تَفْسِير سُورَة غَافِر من الْآيَة 49 إِلَى آيَة 52.(4/136)
وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)
{ادعوا ربكُم} أَي: سلوه {يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا من الْعَذَاب قَالُوا} يَعْنِي: خَزَنَة جَهَنَّم {أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ} الْآيَة {قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضلال} .
يَحْيَى: عَنِ الْحَارِثِ بْنِ نَبْهَانَ , عَن سلميان التَّيْمِيّ قَالَ: " إِن أهل النَّار يدعونَ خَزَنَة النَّار , فَلَا يجيبونهم مِقْدَار أَرْبَعِينَ سنة , ثمَّ يكون جوابهم إيَّاهُم:(4/137)
قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
{أَو لم تَكُ تَأْتيكُمْ رسلكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} الْآيَة , ثمَّ ينادون مَالِكًا فَلَا يُجِيبهُمْ مِقْدَار ثَمَانِينَ سنة , ثمَّ يكون جَوَاب مَالك إيَّاهُم: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} ثمَّ يدعونَ رَبهم فَلَا يُجِيبهُمْ مِقْدَار الدُّنْيَا مرَّتَيْنِ ثمَّ يكون جَوَابه إيَّاهُم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تكَلمُون} .
(كل كَلَام ذكر فِي الْقُرْآن من كَلَامهم كُله فَهُوَ قبل أَن يَقُولُ: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تكَلمُون} ) وَقد مضى تَفْسِيره.(4/137)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)
{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} يَعْنِي: النَّصْر وَالظفر عَلَى عدوِّهم {وَيَوْم يقوم الأشهاد} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة , والأشهاد: الْمَلَائِكَة الحَفَظَةُ يشْهدُونَ للأنبياء بالبلاغ , وَعَلَيْهِم بالتكذيب(4/137)
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
{يَوْم لَا ينفع الظَّالِمين} الْمُشْركين {معذرتهم} .
تَفْسِير سُورَة غَافِر من الْآيَة 53 إِلَى آيَة 55.(4/137)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53)
{وأورثنا بني إِسْرَائِيل الْكتاب} بعد الْقُرُون الأولى.(4/138)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} يَعْنِي: مَا وعده أَن يُعْطِيهِ فِي الْآخِرَة (ل 305) , وَيُعْطِي من آمن بِهِ {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَار} وَهِي صَلَاة مَكَّة قبل أَن تفترض الصَّلَوَات الْخمس حِين كَانَت الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ غَدْوَةً وَرَكْعَتَيْنِ عَشِيَّةً.
تَفْسِير سُورَة غَافِر من الْآيَة 56 إِلَى آيَة 58.(4/138)
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
{بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُم} بِغَيْر حجَّة أَتَتْهُم {إِنْ فِي صُدُورهمْ} أَي: لَيْسَ فِي صُدُورِهِمْ {إِلا كِبْرٌ مَا هم ببالغيه} يَعْنِي: أملَهم فِي محمدٍ وَأهل دينه أَن يهْلك ويهلكوا.(4/138)
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)
{لخلق السَّمَاوَات وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} أَي: أَشد , يَعْنِي: شدَّة خلقهَا وكثافتها وعرضها وطولها؛ أَي: فَأنْتم أَيهَا الْمُشْركُونَ تقرون بِأَن اللَّه هُوَ الَّذِي خلقهَا , وتجحدون بِالْبَعْثِ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أَنهم مبعوثون(4/138)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)
{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى} الْكَافِر عمي عَن الْهدى {وَالْبَصِيرُ} الْمُؤمن(4/138)
أبْصر الْهدى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِيءُ} الْمُشرك {قَلِيلاً مَّا يتَذَكَّرُونَ} أَي: أقلهم المتذكر؛ يَعْنِي: من يُؤمن.
قَالَ محمدٌ: (وَلا الْمُسِيءُ) الْمَعْنى: والمسيء و (لَا) زَائِدَة.
تَفْسِير سُورَة غَافِر من الْآيَة 59 إِلَى آيَة 60.(4/139)
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)
{إِن السَّاعَة} الْقِيَامَة {لآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا} لَا شكّ فِيهَا {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاس لَا يُؤمنُونَ} بالساعة.(4/139)
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} إِلَى قَوْله: {داخرين} يَعْنِي: صاغرين.
يَحْيَى: عَنْ أَبِي الأَشْهَبِ , عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمُسْلِمُ مِنْ دُعَائِهِ عَلَى إِحْدَى ثَلاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعْطَى مَسْأَلَتَهُ وَإِمَّا أَنْ يُعْطَى مِثْلَهَا مِنَ الْخَيْرِ , وَإِمَّا أَنْ يُصْرَفَ عَنْهُ مِثْلَهَا مِنَ الشَّرِّ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ يَسْتَعْجِلُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ , إِذًا نُكْثِرُ. قَالَ: اللَّهُ أَكْثَرُ ".(4/139)
الْحَسَنُ بْنُ دِينَارٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ ذَلكَ قَالَ: " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ , كَيْفَ يَسْتَعْجِلُ؟ قَالَ: يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ اللَّهَ فَمَا أَجَابَنِي وَسَأَلْتُهُ فَمَا أَعْطَانِي الله ".
تَفْسِير سُورَة غَافِر من الْآيَة 61 إِلَى آيَة 65.(4/140)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} يَعْنِي: تستقروا من النصب {وَالنَّهَار مبصرا} أَي: مضيئًا {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يشكرون} لَا يُؤمنُونَ(4/140)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)
{فَأنى تؤفكون} فَكيف تصرفون عَن الْهدى؟ !(4/140)
كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)
{كَذَلِك يؤفك} يصرف {الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} .(4/140)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)
{اللَّهُ الَّذِي خلَقَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا} مثل قَوْله: {بساطا} و {مهادا} {وَالسَّمَاء بِنَاء} كَقَوْلِه: {وَالسَّمَاء بنيناها بأيد} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: كُلُّ مَا ارْتَفَعَ عَلَى الأَرْض فالعرب تسميه بِنَاء.
{وصوركم فَأحْسن صوركُمْ} أَي: جعل صوركُمْ أحسن من صور الْبَهَائِم وَالطير.
{وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَات} قَالَ السُّدي: يَقُولُ جعل رزقكم أَطْيَبَ مِنْ رِزْقِ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ وَالْجِنّ {فَتَبَارَكَ الله} تبَارك من الْبركَة.
تَفْسِير سُورَة غَافِر من الْآيَة 66 إِلَى آيَة 68.(4/141)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} يَعْنِي: خلق آدم {ثُمَّ مِنْ نُطْفَة} نسل آدم {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} الِاحْتِلَام {ثمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} يَعْنِي: من يبلغ حَتَّى يكون شَيخا {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} مِنْ قَبْلُ أَن يكون شَيخا {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمّى} الْمَوْت {ولعلكم تعقلون} لكَي تعقلوا.(4/141)
تَفْسِير سُورَة غَافِر من الْآيَة 69 إِلَى آيَة 77.(4/142)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَات الله} يَعْنِي: يجحدون بآيَات اللَّه {أَنَّى يصرفون} كَيفَ يصرفون عَنْهَا؟ ! {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}(4/142)
إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71)
{إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يسْحَبُونَ} تسحبهم الْمَلَائِكَة؛ أَي: تجرُّهم عَلَى وُجُوههم(4/142)
فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)
{فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يسجرون} أَي: توقد بهم النَّار.(4/142)
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73)
{أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} كَقَوْلِه: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ من دون الله}(4/142)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)
{قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بل لم نَكُنْ ندعوا من قبل شَيْئا} ينفعنا وَلَا يضرنا , قَالَ اللَّه: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}(4/142)
ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75)
ثمَّ رَجَعَ إِلَى قصَّتهم فَقَالَ: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تمرحون} الْفَرح والمرح وَاحِد؛ أَي: بِمَا كُنْتُم بطرين أشرين(4/142)
ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
{فبئس مثوى} منزل {المتكبرين} .(4/142)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)
{فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} من الْعَذَاب {أَو نتوفينك} فَيكون بعد وفاتك {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} يَوْم الْقِيَامَة.(4/142)
تَفْسِير سُورَة غَافِر من الْآيَة 78 إِلَى آيَة 81.(4/143)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
{وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَ بِإِذْنِ اللَّهِ} أَي: حَتَّى يَأْذَن اللَّه لَهُ فِيهَا , وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يسْأَلُون النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يَأْتِيهم بِآيَة وَأَن الْآيَة إِذا جَاءَت فَلم يُؤمن الْقَوْم أهلكهم اللَّه.
قَالَ: {فَإِذَا جَاءَ أَمر الله} قَضَاؤُهُ {قضي بِالْحَقِّ} أَي: أهلكهم اللَّه بتكذيبهم {وَخَسِرَ هُنَالك المبطلون} [حِين جَاءَهُم] (ل 306) الْعَذَاب {المبطلون} الْمُشْركُونَ.(4/143)
وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)
{وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَة فِي صدوركم} يَعْنِي: الْإِبِل وَالْحَاجة: السّفر(4/143)
وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
{ويريكم آيَاته} يَعْنِي: من السَّمَاء وَالْأَرْض , وَالْخَلَائِق وَمَا فِي أَنفسكُم من الْآيَات , وَمَا سخر لكم من شيءٍ {فَأَي آيَات الله تنكرون} أَنه لَيْسَ من خلقه.
تَفْسِير سُورَة غَافِر من الْآيَة 82 إِلَى آيَة 85.(4/143)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)
{فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} يَعْنِي: علمهمْ عِنْد أنفسهم هُوَ قَوْلهم لن نبعث وَلنْ نعذب {وحاق بهم} وَجب عَلَيْهِم {مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} أَي: عِقَاب استهزائهم.(4/144)
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84)
{فَلَمَّا رَأَوْا بأسنا} عذابنا فِي الدُّنْيَا {قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكين} أَي: بِمَا كُنَّا بِهِ مُصدقين من الشّرك.(4/144)
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
قَالَ اللَّه: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانهم لما رَأَوْا بأسنا} عذابنا {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خلت فِي عباده} الْمُشْركين أَنهم إِذا كذبُوا رسلهم أهلكهم بِالْعَذَابِ , وَلَا يقبل إِيمَانهم عِنْد نزُول الْعَذَاب , قَالَ: {وخسر هُنَالك الْكَافِرُونَ} .
قَالَ مُحَمَّد: {سنة الله} منصوبٌ عَلَى معنى: سنّ اللَّه هَذِه السنةَ فِي الْأُمَم كلهَا؛ أَلا يَنْفَعهُمْ الْإِيمَان إِذا رَأَوْا الْعَذَاب.(4/144)
32S
تَفْسِير (حم السَّجْدَة)
وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تَفْسِير سُورَة فصلت من الْآيَة 1 إِلَى آيَة 7.(4/145)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
قَوْله: {تَنْزِيل من الرَّحْمَن الرَّحِيم} يَعْنِي: الْقُرْآن(4/145)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
{كتاب فصلت} أَي: فسرت {آيَاتُهُ} بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ , وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ {قُرْآنًا عَرَبيا لقوم يعلمُونَ} يُؤمنُونَ(4/145)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)
{بشيرا} بِالْجنَّةِ {وَنَذِيرا} من النَّار.
قَالَ مُحَمَّد: {تَنْزِيل} رفع بِالِابْتِدَاءِ , وَخَبره {كتاب} وَجَائِز أَن يرفع بإضمار هَذَا تَنْزِيل و {قُرْآنًا عَرَبيا} نصْبٌ عَلَى الْحَال.
{فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} أَي: عَنْهُ {فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} الْهدى؛ سمع قبُول(4/145)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
{وَقَالُوا قُلُوبنَا فِي أكنة} أَي: فِي غُلُفٍ {مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} يَا محمدُ؛ فَلَا نعقله {وَفِي آذاننا وقر} صَمَمٌ عَنْهُ فَلَا نَسْمَعهُ (وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ(4/145)
حِجَابٌ} فَلَا نفقه مَا تَقُولُ {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} ؛ أَي: اعْمَلْ بِدينِك؛ فَإنَّا عاملون بديننا.(4/146)
ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
قَالَ الله للنَّبِي: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} غير أَنَّهُ يُوحى إليَّ {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} أَي: فوحدوه {وَاسْتَغْفِرُوهُ} من الشّرك {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} فِي النَّار.(4/146)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)
{الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أَي: لَا يوحدون الله.
تَفْسِير سُورَة فصلت من الْآيَة 8 إِلَى آيَة 11.(4/146)
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} تَفْسِير الْحَسَن: أَي لَا يمنُّ عَلَيْهِم من أَذَى.(4/146)
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} يَقُوله عَلَى الِاسْتِفْهَام؛ أَي: قد فَعلْتُمْ {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا} أعدالًا تعدلونهم بِهِ؛ فتعبدونهم دونه(4/146)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا} يَعْنِي: فَوق الأَرْض , والرواسي: الْجبَال حَتَّى لَا تحرّك بكم {وَبَارَكَ فِيهَا} أَي: جعل فِيهَا الْبركَة؛ يَعْنِي: الأرزاق {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} أرزاقها {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} فِي تَتِمَّة أَرْبَعَة أَيَّام , يَعْنِي: خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ , وأقواتها فِي يَوْمَيْنِ , ثمَّ جمع الْأَرْبَعَة الْأَيَّام فَقَالَ: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ} يَعْنِي: لمن كَانَ سَائِلًا عَن ذَلكَ , وَهِي تقْرَأ(4/146)
(فِي أَرْبَعَة أَيَّام سواءٍ) أَي: مستوياتٍ , يَعْنِي: الْأَيَّام.
قَالَ محمدٌ: من نصب {سَوَاء} فعلى الْمصدر اسْتَوَت اسْتِوَاء.(4/147)
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)
{ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} قَالَ محمدٌ: يَعْنِي: عمد لَهَا وَقصد {وَهِي دُخان} ملتصقة بِالْأَرْضِ؛ فِي تَفْسِير الْحَسَن {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَو كرها} عَلَى وجْه السخرة وَالْقُدْرَة؛ قَالَ هَذَا لَهما قبل خلقه إيَّاهُمَا {قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} يَعْنِي: بِمَا فيهمَا. قَالَ محمدٌ: {طَوْعًا أَو كرها} بِمَنْزِلَة: أطيعا طَاعَة، أَو تكرهان كرها.
تَفْسِير سُورَة فصلت الْآيَة 12.(4/147)
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
{فقضاهن} يَعْنِي: خَلقهنَّ {سبع سماوات} فِي يَوْمَيْنِ {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أمرهَا} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي: أمره الَّذِي جعل فِيهَا مِمَّا أَرَادَ {وزينا السَّمَاء الدُّنْيَا بمصابيح} يَعْنِي: النُّجُوم {وحفظا} أَي: جعلنَا النُّجُوم حفظا للسماء من الشَّيَاطِين لَا يسمعُونَ الْوَحْي , وَذَلِكَ بعد بعث محمدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم.(4/147)
تَفْسِير سُورَة فصلت من الْآيَة 13 إِلَى آيَة 16.(4/148)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)
{فَإِن أَعرضُوا} يَعْنِي: الْمُشْركين {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مثل صَاعِقَة عَاد وَثَمُود} يَعْنِي: الْعَذَاب(4/148)
إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)
{إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْديهم وَمن خَلفهم} أَي: أنذروهم عَذَاب الدُّنْيَا وَعَذَاب الْآخِرَة.
{قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنزل مَلَائِكَة} أَي: يخبروننا أَنكُمْ رسل اللَّه؛ يَقُوله كل قوم لرسولهم.(4/148)
فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)
قَالَ الله: (ل 307) {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ منا قُوَّة} عجبوا من شدتهم، قَالَ اللَّه {أَو لم يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} .(4/148)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)
{فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم ريحًا صَرْصَرًا} يَعْنِي: شَدِيدَة الْبرد؛ وَهِي الدبور.
قَالَ مُحَمَّد: الصرصر: الشَّدِيدَة الْبرد الَّتِي لَهَا صوتٌ , وَهِي الصَّرَّة أَيْضا.(4/148)
{فِي أَيَّام نحسات} أَي: مشئومات , وَهِي الثَّمَانِية الْأَيَّام الَّتِي فِي الحاقة , كَانَ أَولهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء إِلَى الْأَرْبَعَاء الآخر.
قَالَ محمدٌ: قِرَاءَة نَافِع (نحْسات) بتسكين الْحَاء , وَاحِدهَا نَحْسٌ الْمَعْنى: هِيَ نحسات عَلَيْهِم.
تَفْسِير سُورَة فصلت من الْآيَة 17 إِلَى آيَة 20.(4/149)
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)
{وَأما ثَمُود فهديناهم} أَي: بيَّنا لَهُم سَبِيل الْهدى وسبيل الضلال {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهدى} أَي: اخْتَارُوا الضَّلَالَة عَلَى الْهدى {فَأَخَذتهم صَاعِقَة الْعَذَاب الْهون} من: الهوان(4/149)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)
{فهم يُوزعُونَ} قَالَ قَتَادَةُ: لَهُمْ وَزَعَةٌ تَرُدُّ أولاهم عَلَى أخراهم.
قَالَ محمدٌ: وأصل الْكَلِمَة من: وزعته إِذا كففته.(4/149)
حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)
{يَوْم يشَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ} جوارحهم.
قَالَ محمدٌ: وأصل الْكَلِمَة: أَن الْجُلُود كنايةٌ عَن الْفروج.(4/149)
تَفْسِير سُورَة فصلت من الْآيَة 21 إِلَى آيَة 24.(4/150)
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)
{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} انْقَطع ذكر كَلَامهم هَا هُنَا , قَالَ اللَّه: {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مرّة} يَقُوله للأحياء {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(4/150)
وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)
{وَمَا كُنْتُم تستترون} أَي: تَتَّقُون؛ فِي تَفْسِير مُجَاهِد {أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ} حسبتم {أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كثيرا مِمَّا تَعْمَلُونَ}(4/150)
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أرداكم} أهلككم {فأصبحتم} يَعْنِي: فصرتم {مِنَ الْخَاسِرِينَ} .(4/150)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
{وَإِن يستعتبوا} أَي: يطلبوا إِلَى اللَّه أَن يخرجهم من النَّار؛ فيردّهم إِلَى الدُّنْيَا ليؤمنوا {فَمَا هُمْ مِنَ المعتبين} أَي: لَا يستعتبون.
تَفْسِير سُورَة فصلت من الْآيَة 25 إِلَى آيَة 29.(4/150)
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
{وقيضنا لَهُم قرناء} يَعْنِي: شياطين {فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم} قَالَ الْحَسَن: مَا بَين أَيْديهم , يَعْنِي: حب مَا كَانَ عَلَيْهِ آباؤهم من الشّرك وتكذيبهم الرُّسُل، وَمَا خَلفهم: تكذيبهم بِالْبَعْثِ {وَحَقَّ عَلَيْهِم القَوْل} أَي: وَجب عَلَيْهِم الْغَضَب؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة {فِي أُمَمٍ قَدْ خلت من قبلهم} أَي: مَعَ أُمَم.(4/151)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)
{لَا تَسْمَعُوا لهَذَا الْقُرْآن والغوا فِيهِ} قَالَ السُّدي: نزلت فِي أَبِي جهل بْن هِشَام كَانَ يَقُولُ لأَصْحَابه: إِذا سَمِعْتُمْ قِرَاءَة محمدٍ؛ فارفعوا أَصْوَاتكُم بالأشعار حَتَّى تَلْتَبِس عَلَى محمدٍ قِرَاءَته {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} لَعَلَّ دينكُمْ يغلب دين محمدٍ.
قَالَ محمدٌ: اللَّغْو فِي اللُّغَة: الْكَلَام الَّذِي لَا يحصل مِنْهُ على نفع وَلَا على فَائِدَة، وَلَا تفهم حَقِيقَته، يُقَال مِنْهُ لَغَا، وَفِيه لُغَة أُخْرَى: لغي.(4/151)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
{وَقَالَ الَّذين كفرُوا} فِي النَّار {رَبنَا أرنا} يَعْنِي: الرُّؤْيَة , وَمن قَرَأَهَا (أرنا) بتسكين الرَّاء، فَالْمَعْنى: أعطنا {الَّذَيْنِ أضلانا من الْجِنّ وَالْإِنْس} يعنون إِبْلِيس , وَقَاتل ابْن آدم الَّذِي قتل أَخَاهُ {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أقدامنا ليكونا من الأسفلين} فِي النَّار يَقُولُونَ ذَلِك من شدَّة الغيظ عَلَيْهِم.(4/151)
تَفْسِير سُورَة فصلت من الْآيَة 30 إِلَى آيَة 32.(4/152)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} مُخلصين لَهُ {ثمَّ استقاموا} عَلَيْهَا {تتنزل عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة} عِنْد الْمَوْت {أَلا تخافوا} الْآيَة.
تَفْسِير الْحسن: أَن قَول الْمَلَائِكَة لَهُم: لَا تخافوا وَلَا تحزنوا؛ تستقبلهم بِهَذَا إِذا خَرجُوا من قُبُورهم(4/152)
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)
{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَي: نَحن كُنَّا أولياءكم إِذْ كُنْتُم فِي الدُّنْيَا , وَنحن أولياؤكم فِي الْآخِرَة , قَالَ بَعضهم: هم الْمَلَائِكَة الَّذين كَانُوا يَكْتُبُونَ أَعْمَالهم {وَلكم فِيهَا مَا تدعون} أَي: مَا تشتهون(4/152)
نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
{نزلا من غَفُور رَحِيم} .
قَالَ مُحَمَّد: (نزلا) مَنْصُوب بِمَعْنى أَبْشِرُوا بِالْجنَّةِ تنزلونها نزلا , وَمعنى نزلا: رزقا.
تَفْسِير سُورَة فصلت من الْآيَة 33 إِلَى آيَة 38.(4/152)
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)
{وَمن أحسن قولا} الْآيَة , وَهَذَا على الِاسْتِفْهَام؛ أَي: لَا أحد أحسن قولا مِنْهُ(4/153)
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
{وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} الْحَسَنَة فِي هَذَا الْموضع الْعَفو والصفح , والسيئة مَا يكون بَين النَّاس من الشتم والبغضاء.
قَالَ مُحَمَّد: الْمَعْنى: وَلَا تستوي الْحَسَنَة والسيئة و (لَا) زَائِدَة.
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (ل 308) يَقُولُ: ادْفَعْ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ الْقَوْلَ الْقَبِيح والأذى , كَانَ ذَلِك فِيمَا بَينهم وَبَين الْمُشْركين قبل أَن يؤمروا بقتالهم.
يَحْيَى: عَنْ فِطْرٍ , عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ , عَنِ أَبِي الأَحْوَصِ , عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " قلت: يَا رَسُول الله , إِنَّ لِي جَارًا وَإِنَّهُ يُسِيءُ مُجَاوَرَتِي؛ أَفَأَفْعَلُ بِهِ كَمَا يَفْعَلُ بِي؟ قَالَ: لَا , إِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى.(4/153)
{فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ ولي حميم} أَي: قريب قرَابَته(4/154)
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا} فَيَقُول: لَا يعْفُو الْعَفو الَّذِي يقبله الله إِلَّا أهل الْجنَّة , وَهِي الْحَظ الْعَظِيم(4/154)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} قَالَ قَتَادَة: النزغ: الْغَضَب.(4/154)
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)
{وَمن آيَاته} من عَلَامَات توحيده {اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلقهنَّ} خلق آيَاته(4/154)
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
{فَإِن استكبروا} يَعْنِي: الْمُشْركين عَن السُّجُود لله {فَالَّذِينَ عِنْد رَبك} يَعْنِي: الْمَلَائِكَة {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وهم لَا يسأمون} أَي: يملون.
قَالَ (مجاهدٌ) : سَأَلت ابْن عَبَّاس عَن السَّجْدَة فِي " حم " فَقَالَ: اسجدوا بِالآخِرَة من الْآيَتَيْنِ. قَالَ ابْن عَبَّاس: وَلَيْسَ فِي الْمفصل سُجُود.
تَفْسِير سُورَة فصلت من الْآيَة 39 إِلَى آيَة 42.(4/154)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
قَوْله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْض خاشعة} يَعْنِي: غبراء متهشمة {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاء اهتزت وربت} يَعْنِي: انتفخت [فِيهَا تَقْدِيم {ربت} ] للنبات {واهتزت} بنباتها إِذا أنبتت {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لمحيي الْمَوْتَى} وَهَذَا مثل للبعث(4/155)
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} قَالَ الْكَلْبِيّ: يَعْنِي: يميلون إِلَى غير الْحق.
قَالَ محمدٌ: معنى يلحدون يجْعَلُونَ الْكَلَام على غير جِهَته , وَهُوَ مَذْهَب الْكَلْبِيّ , وَمن هَذَا اللَّحْد؛ لِأَنَّهُ الْحفر فِي جَانب الْقَبْر , يُقَال: لحد وألحد [بِمَعْنى] وَاحِد.
{أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أمَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَي إِن الَّذِي يَأْتِي آمنا خير {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} وَهَذَا وَعِيد(4/155)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41)
{إِن الَّذين كفرُوا بِالذكر} يَعْنِي: الْقُرْآن.
{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} أَي: منيع(4/155)
لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل} يَعْنِي: إِبْلِيس {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه} تَفْسِير الْكَلْبِيّ {لَا يَأْتِيهِ من بَين يَدَيْهِ} يَعْنِي: من قبل(4/155)
التَّوْرَاة، وَلَا من قبل الْإِنْجِيل وَلَا الزبُور، لَيْسَ مِنْهَا شَيْء يكذب بِالْقُرْآنِ وَلَا يُبطلهُ {وَلا من خَلفه} لَا يَأْتِيهِ من بعده كتاب يُبطلهُ {تَنْزِيل من حَكِيم} فِي أمره {حميد} استحمد إِلَى خلقه؛ أَي: اسْتوْجبَ عَلَيْهِم أَن يحمدوه.
تَفْسِير سُورَة فصلت من الْآيَة 43 إِلَى آيَة 46.(4/156)
مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
{مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} يَعْنِي: مَا قَالَ لَهُم قَومهمْ من الْأَذَى , كَانُوا يَقُولُونَ للرسول: إِنَّكَ مَجْنُونٌ , وَإِنَّكَ سَاحِرٌ , وَإِنَّكَ كَاذِب {إِن رَبك لذُو مغْفرَة} لمن آمن {وَذُو عِقَاب} لمن لم يُؤمن.(4/156)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
{وَلَو جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أعجميا لقالوا لَوْلَا} هلا {فصلت آيَاته} أَي: بيّنت {أعجمي وعربي} أَي: بالعجمية والعربية على مقرأ من قَرَأَهَا بِغَيْر اسْتِفْهَام وَمن قَرَأَهَا على الِاسْتِفْهَام مدّها {أعجمي وعربي} أَي: لقالوا: كتاب أعجمي (وَنَبِي) عَرَبِيّ يحتجون بذلك؛ أَي: كَيفَ يكون هَذَا؟ !(4/156)
قَالَ محمدٌ: من قَرَأَهَا بِلَا مدٍّ فَالْمَعْنى: جعل بعضه بَيَانا للعجم , وَبَعضه بَيَانا للْعَرَب.
قَالَ الله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هدى وشفاء} لصدورهم يشفيهم مِمَّا كَانُوا فِيهِ من الشَّك والشرك {وَالَّذِينَ لَا يُؤمنُونَ فِي آذانهم وقر} أَي: صممٌ عَن الْإِيمَان {وَهُوَ عَلَيْهِم عمى} [يزدادون عمى] إِلَى عماهم إِذْ لم يُؤمنُوا {أُولَئِكَ ينادون} بِالْإِيمَان {من مَكَان بعيد} تَفْسِير بَعضهم [بعيد من] قُلُوبهم.(4/157)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
{وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب} التَّوْرَاة {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} عمل بِهِ قوم , وَكفر بِهِ قَوْمٌ {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبك} أَلا يُحَاسِبَ بِحِسَابِ الآخِرَةِ فِي الدُّنْيَا لحاسبهم فِي الدُّنْيَا , فَأَدْخَلَ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجنَّة , وَأهل النَّار النارَ , وَهَذَا تَفْسِير الْحسن {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} من الْعَذَاب {مريب} من الرِّيبَة.
تَفْسِير سُورَة فصلت من الْآيَة 47 إِلَى آيَة 50.(4/157)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)
{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} تَفْسِير الْحسن هَذَا فِي النّخل خَاصَّة حِين (ل 309) يطلع لَا يعلم أحدٌ كَيفَ يُخرجهُ الله {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ} (يَقُول: لَا يعلم وَقت قيام السَّاعَة , وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا , وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تضع؛ إِلَّا هُوَ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: الِاخْتِيَار فِي الْقِرَاءَة " وَمَا يخرج " بِالْيَاءِ؛ لِأَن مَا ذكر مُذَكّر , الْمَعْنى: وَالَّذِي يخرج.
قَوْله: {مِنْ أكمامها} يَعْنِي: الْمَوَاضِع الَّتِي كَانَت فِيهِ مستترة , وغلاف كل شَيْء كُمُّه , وَمن هَذَا قيل: كم الْقَمِيص.
{وَيَوْم يناديهم} يَعْنِي: الْمُشْركين {أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذين زعمتم} أَنهم شركائي {قَالُوا آذَنَّاكَ} سمعناك {مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} يشْهد الْيَوْم أَن مَعَك آلِهَة.(4/158)
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
قَالَ الله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يدعونَ من قبل} فِي الدُّنْيَا؛ ضلت عَنْهُم أوثانهم الَّتِي كَانُوا يعْبدُونَ , فَلَنْ تَسْتَجِيب لَهُم.
قَالَ مُحَمَّد: (آذناك) حَقِيقَته فِي اللُّغَة: أعلمناك.
{وَظَنُّوا} علمُوا {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} من ملْجأ.(4/158)
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)
{لَا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْر} أَي: لَا يملُّ {وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} فالخير عِنْد الْمُشرك: الدُّنْيَا وَالصِّحَّة فِيهَا والرخاء {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ} فِي ذهَاب مالٍ، أَو مرضٍ لم تكن لَهُ حِسْبة , وَلم يرجُ ثَوابًا فِي الْآخِرَة , وَلَا أَن يرجع إِلَى مَا كَانَ فِيهِ من الرخَاء(4/159)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
{وَلَئِن أذقناه رَحْمَة} يَعْنِي: رخاء وعافية {مِنْ بَعْدِ ضراء} أَي: شدَّة {مسته} فِي ذهَاب مالٍ , أَو مرضٍ {ليَقُولن هَذَا لي} أَي: بعلمي , وَأَنا محقوق بِهَذَا! {وَمَا أَظن السَّاعَة قَائِمَة} أَي: لَيست بقائمة {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي} كَمَا يَقُولُونَ {إِنَّ لِي عِنْدَهُ للحسنى} للجنة؛ إِن كَانَت جنَّة.
تَفْسِير سُورَة فصلت من الْآيَة 51 إِلَى آيَة 54.(4/159)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)
{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ ونأى بجانبه} أَي: تبَاعد {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} الضّر {فذو دُعَاء عريض} أَي: كَبِير.(4/159)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْد الله} يَعْنِي: الْقُرْآن {ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شقَاق} فِي فِرَاق للنَّبِي وَمَا جَاءَ بِهِ {بعيد} من الْحق , أَي: لَا أحد أضلّ مِنْهُ.(4/159)
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أنفسهم} قَالَ الْحسن: يَعْنِي: مَا أهلك بِهِ(4/159)
الْأُمَم السالفة فِي الْبلدَانِ , فقد رَأَوْا آثَار ذَلِك {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} أخبر بِأَنَّهُم تصيبهم البلايا , فَكَانَ ذَلِك كَمَا قَالَ فأظهره الله عَلَيْهِم , وابتلاهم بِمَا ابْتَلَاهُم بِهِ.
قَالَ يحيى: يَعْنِي: من الْجُوع بِمَكَّة , وَالسيف يَوْم بدر.
{حَتَّى يتَبَيَّن لَهُم أَنه الْحق} يَعْنِي: الْقُرْآن {أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أَي: شاهدٌ على كفرهم وأعمالهم , أَي: بلَى كفى بِهِ شَهِيدا عَلَيْهِم.
قَالَ مُحَمَّد: الْمَعْنى: أَو لم يكف [بِرَبِّك] .(4/160)
أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
{أَلا إِنَّهُم فِي مرية} فِي شكٍّ {مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} يَقُولُونَ: لَا نبعث وَلَا نلقى الله {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} أحَاط علمه بِكُل شيءٍ.(4/160)
S42
تَفْسِير سُورَة " حم عسق "
وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الشورى من الْآيَة 1 إِلَى آيَة 6.(4/161)
حم (1) عسق (2)
قَوْله: {حم عسق} قَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي حُرُوفِ المعجم(4/161)
كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
{كَذَلِك يوحي إِلَيْك} أَي: هَكَذَا يوحي إِلَيْك {وَإِلَى الَّذين من قبلك} من الْأَنْبِيَاء {الله الْعَزِيز} فِي نقمته {الْحَكِيم} فِي أمره(4/161)
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
{يَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ} أَي: يتشققن {من فوقهن} يَعْنِي: من مَخَافَة من فوقهن , وَبَلغنِي أَن ابْن عَبَّاس كَانَ يقْرؤهَا {ينْفَطِرْنَ من فوقهن} .
{وَيَسْتَغْفِرُونَ لمن فِي الأَرْض} أَي: من الْمُؤمنِينَ.(4/161)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} يَعْنِي: آلِهَة يعبدونها من دون الله (الله(4/161)
حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} أَي: يحفظُ عَلَيْهِم أَعْمَالهم؛ حَتَّى يجازيهم بهَا {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} بحفيظ تحاسبهم وتجازيهم بأعمالهم.
تَفْسِير سُورَة الشورى من الْآيَة 7 إِلَى آيَة 10.(4/162)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
{لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} مكَّة مِنْهَا دُحِيتِ الأرضُ {وَمَنْ حَوْلَهَا} يَعْنِي: الْآفَاق كلهَا {وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} يَوْم الْقِيَامَة؛ يجْتَمع فِيهِ الْخَلَائق: أهل السَّمَاوَات، وَأهل الأَرْض(4/162)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)
{وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} {على الْإِيمَان} (وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ} يَعْنِي: فِي دينه؛ وَهُوَ الْإِسْلَام {وَالظَّالِمُونَ} {الْمُشْركُونَ} (مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ} يمنعهُم (ل 310) من عَذَاب الله.(4/162)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
{أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} أَي: قد فعلوا {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} يَعْنِي: الرب دون الْأَوْثَان {وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى} وأوثانهم لَا تحيي الْمَوْتَى.(4/162)
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ} يَعْنِي: مَا اختلفتم فِيهِ من الْكفْر وَالْإِيمَان {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} فَيُدْخِلُ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ، وَيُدْخِلُ الْمُشْرِكِينَ النَّار {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي} يَقُولُوا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قل لَهُم: ذَلِكُم الله رَبِّي.
قَالَ محمدٌ: ذكر ابْنُ مُجَاهِد أَن الْيَاء ثَابِتَة فِي {رَبِّي} لِأَنَّهَا إِضَافَة قَالَ:(4/162)
وَلم يخْتَلف القراءُ فِي ثُبُوتهَا.
تَفْسِير سُورَة الشورى من الْآيَة 11 إِلَى آيَة 13.(4/163)
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
{جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} يَعْنِي: النِّسَاء.
{وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا} ذكرا وَأُنْثَى، الْوَاحِد مِنْهَا زوجٌ.
{يذرؤكم فِيهِ} أَي: يخلقكم فِيهِ نَسْلًا بعد نسل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
قَالَ محمدٌ: هَذِه الْكَاف مُؤَكدَة؛ الْمَعْنى: لَيْسَ مثله شَيْء.(4/163)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
{لَهُ مقاليد} مَفَاتِيح؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة.(4/163)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
{شرع لكم} أَي: فرض؛ فِي تَفْسِير الْحسن {مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ} مَا أَمر بِهِ {نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ} أمرنَا بِهِ (إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى(4/163)
وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} يَعْنِي: الْإِسْلَام.
{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} من عبَادَة الله وَترك عبَادَة الْأَوْثَان. {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء} أَي: يخْتَار لنَفسِهِ؛ يَعْنِي: الْأَنْبِيَاء {وَيَهْدِي إِلَيْهِ} إِلَى دينه {مَن يُنِيبُ} من يخلص لَهُ.
تَفْسِير سُورَة الشورى من الْآيَة 14 إِلَى آيَة 15.(4/164)
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
{وَمَا تَفَرَّقُوا} يَعْنِي: أهل الْكتاب {إِلاَ مِن بَعْدِ مَا جَآءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أَي: حسدا فِيمَا بَينهم , أَرَادوا الدُّنْيَا ورخاءها؛ فغيّروا كِتَابهمْ، فأحلوا فِيهِ مَا شَاءُوا وحرموا مَا شَاءُوا، فترأَّسوا على النَّاس يستأكلونهم؛ فاتبعوهم على ذَلِك.
قَالَ محمدٌ: قَوْله: {إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُم الْعلم} الْمَعْنى إِلَّا عَن علم بِأَن الْفرْقَة ضَلَالَة، وَلَكنهُمْ فعلوا ذَلِك بغيًا؛ أَي: للبغي.
{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} يَعْنِي: الْقِيَامَة أُخروا إِلَيْهَا {لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ} فِي الدُّنْيَا؛ فأَدْخَلَ الْمُؤمنِينَ الْجنَّة , وَأدْخل الْكَافرين النَّار {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ} يَعْنِي: الْيَهُود وَالنَّصَارَى من بعد اوائلهم {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} {من الْقُرْآن} (مُرِيبٍ} من الرِّيبَة(4/164)
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
{فَلِذَلِكَ} لما شكوا فِيهِ وارتابوا من الْإِسْلَام وَالْقُرْآن {فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} على الْإِسْلَام.(4/164)
{وَأمرت لأعدل بَيْنكُم} أَي: لَا نظلم مِنْكُم أحدا {لَا حجَّة بَيْننَا وَبَيْنكُم} تَفْسِير مُجَاهِد: لَا خُصُومَة بَيْننَا وَبَيْنكُم فِي الدُّنْيَا {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْننَا} يَوْم الْقِيَامَة {وَإِلَيْهِ الْمصير} المرْجع؛ نَجْتَمِع عِنْده فيجزينا ويجزيكم.
تَفْسِير سُورَة الشورى من الْآيَة 16 إِلَى آيَة 18.(4/165)
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
{وَالَّذين يحاجون فِي الله} يَعْنِي: الْمُشْركين؛ يحاجون الْمُؤمنِينَ {مِنْ بعد مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} يَعْنِي: من بعد مَا اسْتَجَابَ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ {حجتهم} خصومتهم {داحضة} بَاطِلَة {عِنْد رَبهم} قَالَ مجاهدٌ: طَمِع رجالٌ بِأَن تعود الْجَاهِلِيَّة.(4/165)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)
{الله الَّذِي أنزل الْكتاب} الْقُرْآن {بِالْحَقِّ وَالْمِيزَان} يَعْنِي: الْعدْل {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَة قريب} .
قَالَ مُحَمَّد: {قريب} يجوز أَن يكون على معنى: لَعَلَّ مجيءَ السَّاعَة قريبٌ , وَقد يكون بِمَعْنى: لَعَلَّ الْبَعْث قريب. وَالله أعلم بِمَا أَرَادَ.(4/165)
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)
{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بهَا} استهزاءً وتكذيبًا {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} أَي: خائفون {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يمارون فِي السَّاعَة} يكذبُون بهَا {لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} من الْحق.(4/165)
تَفْسِير سُورَة الشورى من الْآيَة 19 إِلَى آيَة 22.(4/166)
{الله لطيف بعباده} أَي: فبلطفه وَرَحمته خُلِقَ الْكَافِر ورزق وعوفي وَاقْبَلْ وَأدبر.(4/166)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ} يَعْنِي: الْعَمَل الصَّالح {نَزِدْ لَهُ فِي حرثه} وَهُوَ تَضْعِيف الْحَسَنَات؛ فِي تَفْسِير الْحسن {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَة} يَعْنِي: فِي الْجنَّة {مِنْ نَصِيبٍ} وَهُوَ الْمُشْرِكُ لَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا وَقَوله: {نؤته مِنْهَا} يَعْنِي: من الدُّنْيَا وَلَيْسَ كل مَا أَرَادَ من الدُّنْيَا , لَا يُؤْتى , كَقَوْلِه {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نشَاء لمن نُرِيد} .(4/166)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الله} هَذَا على (ل 311) الِاسْتِفْهَام - أَي: نعم لَهُم شُرَكَاء؛ يَعْنِي: الشَّيَاطِين - جعلوهم شُرَكَاء فعبدوهم؛ لأَنهم دعوهم إِلَى عبَادَة الْأَوْثَان {وَلَوْلَا كلمة الْفَصْل} لَا يعذب بِعَذَاب الْآخِرَة فِي الدُّنْيَا {لقضي بَينهم} فَأدْخل الْمُؤمنِينَ الْجنَّة ,(4/166)
وَأدْخل الْمُشْركين النَّار(4/167)
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
{ترى الظَّالِمين} الْمُشْركين {مشفقين} خَائِفين {مِمَّا كسبوا} عمِلُوا فِي الدُّنْيَا {وَهُوَ وَاقِعٌ بهم} أَي: الَّذِي خَافُوا مِنْهُ - من عَذَاب الله.
تَفْسِير سُورَة الشورى من الْآيَة 23 إِلَى آيَة 26.(4/167)
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
{ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذين آمنُوا} يبشرهم فِي الدُّنْيَا بروضات الجنات.
{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} تَفْسِير الْحسن قَالَ: إِلَّا أَن يتقربوا إِلَى الله بِالْعَمَلِ الصَّالح.
قَالَ يحيى: كَقَوْلِه {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَا شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا} بِطَاعَتِهِ.
{وَمن يقترف} أَي: يعْمل {حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حسنا} يَعْنِي: تَضْعِيف الْحَسَنَات {إِنَّ اللَّهَ غَفُور} للذنب {شكور} للْعَمَل(4/167)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
{أم يَقُولُونَ افترى} مُحَمَّد {على الله كذبا} أَي: قد قَالُوهُ {فَإِنْ يَشَإِ الله يخْتم على قَلْبك}(4/167)
فَيذْهب عَنْك النُّبُوَّة الَّتِي أعطاكها , هَذَا على الْقُدْرَة؛ وَلَا ينتزع مِنْهُ النُّبُوَّة {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِل} فَلَا يَجْعَل لأَهله فِي عاقبته خيرا {ويحق الله الْحق بكلماته} فينصر النَّبِي وَالْمُؤمنِينَ.
قَالَ محمدٌ: {ويمحوا} الْوُقُوف عَلَيْهَا بواو وَألف , الْمَعْنى: وَالله يمحو الْبَاطِل على كل حالٍ , وكُتبت فِي الْمُصحف بِغَيْر وَاو؛ لِأَن الْوَاو تسْقط فِي اللَّفْظ؛ لالتقاء الساكنين على الْوَصْل , وَلَفظ الْوَاو ثَابت.(4/168)
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عباده} إِذا تَابُوا.(4/168)
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)
{ويستجيب الَّذين آمنُوا} أَي: يستجيبون لرَبهم يُؤمنُونَ بِهِ {ويزيدهم من فَضله} يَعْنِي: تَضْعِيف الْحَسَنَات.
تَفْسِير سُورَة الشورى من الْآيَة 27 إِلَى آيَة 31.(4/168)
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
{وَلَو بسط الله الرزق} الْآيَة.
يَحْيَى: عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ مُرَّةَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: " إِنَّ هَذَا الرِّزْقَ يَتَنَزَّلُ مِنَ السَّمَاءِ كَقَطْرِ الْمَطَرِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كتب الله لَهَا ".(4/168)
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
{وَهُوَ الَّذِي ينزل الْغَيْث} الْمَطَر {مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} يئسوا (وَيَنشُرُ(4/168)
رَحْمَتَهُ} وَهُوَ الْمَطَر {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} الرب المستحمد إِلَى خلقه(4/169)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)
{وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ} يَعْنِي: أَنه يجمعهُمْ يَوْم الْقِيَامَة(4/169)
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)
{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} فبمَا عملت أَيْدِيكُم {وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} .
قَالَ محمدٌ: قَرَأَ يحيى {فَبِمَا} وَأهل الْمَدِينَة يقرءُون {بِمَا} بِغَيْر فَاء.(4/169)
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
{وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} يَقُوله للْمُشْرِكين مَا أَنْتُم بسابقي الله حَتَّى لَا يبعثكم ثمَّ يعذبكم {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ} يمنعكم من عَذَابه {وَلاَ نَصِيرٍ} ينتصر لكم.
تَفْسِير سُورَة الشورى من الْآيَة 32 إِلَى آيَة 39.(4/169)
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32)
{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ} السفن {فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ} كالجبال. قَالَ محمدٌ: ذكر ابْن مُجَاهِد أَن نَافِعًا قَرَأَ {الْجَوَارِي} بياء فِي الْوَصْل وَبِغير يَاء فِي الْوَقْف.(4/169)
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)
{إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّياحَ فَيَظْلَلْنَ} يَعْنِي: السفن {رواكد} سواكن {على ظَهره} على ظهر الْبَحْر {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أَي: لكل مُؤمن(4/170)
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)
{أَو يوبقهن} يغرقْهُن؛ يَعْنِي: السفن {بِمَا كَسَبُوا} عمِلُوا؛ يَعْنِي: أهل السفن.(4/170)
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
{وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا} يجحدونها {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} أَي: ملْجأ يلجئون إِلَيْهِ من عَذَاب الله.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: حَاص عَن الشَّيْء؛ أَي: تنحى عَنهُ , وتقرأ: {ويعلمُ} بِرَفْع الْمِيم , وتقرأ بالنصْب , وَقِرَاءَة نَافِع بِالرَّفْع.(4/170)
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)
{فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ} يَعْنِي: الْمُشْركين {فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ينْفد وَيذْهب {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خير وَأبقى} يَعْنِي: الْجنَّة.(4/170)
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} أَي: ويجتنبون الْفَوَاحِش {وَإِذَا مَا غضبوا هم يغفرون} يَعْنِي: يغفرون للْمُشْرِكين , وَهُوَ مَنْسُوخ نسخه الْقِتَال , وَصَارَ ذَلِك الْعَفو بَين الْمُؤمنِينَ.(4/170)
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
{وَالَّذين اسْتَجَابُوا لرَبهم} أَي: آمنُوا {وَأَقَامُوا الصَّلَاة} كَانَت الصَّلَاة يَوْم نزلت هَذِه الْآيَة رَكْعَتَيْنِ غدْوَة , وَرَكْعَتَيْنِ عَشِيَّة قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ {وَأمرهمْ شُورَى بَينهم} تَفْسِير الْحسن أَي: يتشاورون فِي(4/170)
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ} وَلم يكن يومئذٍ شَيْء مؤقتًا. (ل 312)(4/171)
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
{وَالَّذين إِذا أَصَابَهُم الْبَغي} إِذا بغى عَلَيْهِم الْمُشْركُونَ فظلموهم {هم ينتصرون} بألسنتهم لم يَكُونُوا أمروا بقتالهم يَوْمئِذٍ.
تَفْسِير سُورَة الشورى من الْآيَة 40 إِلَى آيَة 44.(4/171)
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
{وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} يَعْنِي: مَا يسيء إِلَيْهِم الْمُشْركُونَ أَن يَفْعَلُوا بهم مَا يَفْعَلُونَ هم.
قَالَ محمدٌ: قَوْله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} فَالْأولى سَيِّئَة فِي اللَّفْظ وَالْمعْنَى , وَالثَّانيَِة سَيِّئَة فِي اللَّفْظ وعاملها لَيْسَ بمسيء وَلكنهَا سميت سَيِّئَة؛ لِأَنَّهَا مجازاة لسوء على مَذْهَب الْعَرَب فِي تَسْمِيَة الشَّيْء باسم الشَّيْء إِذا كَانَ من سَببه.
{فَمن عَفا وَأصْلح} يَقُول: فَمن ترك مظلمته {فَأَجْرُهُ} ثَوَابه {عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يحب الظَّالِمين} الْمُشْركين(4/171)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)
{وَلمن انتصر بعد ظلمه} بعد مَا ظُلِمَ {فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم من سَبِيل} أَي: من حجَّة.(4/171)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)
{إِنَّمَا السَّبِيل} الْحجَّة {عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} يَعْنِي: بكفرهم وتكذيبهم {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَاب أَلِيم} موجع(4/172)
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لمن عزم الْأُمُور} وَهَذَا كُله منسوخٌ فِيمَا بَينهم وَبَين الْمُشْركين نسخه الْقِتَال.(4/172)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)
{فَمَا لَهُ من ولي من بعده} من بعد الله يمنعهُم من عَذَاب الله {وَترى الظَّالِمين} الْمُشْركين {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَل إِلَى مرد} إِلَى الدُّنْيَا {من سَبِيل} فنؤمن.
تَفْسِير سُورَة الشورى من الْآيَة 45 إِلَى آيَة 48.(4/172)
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)
{ينظرُونَ من طرف خَفِي} أَي: يسارقون النّظر {الَّذِينَ خَسِرُوا أنفسهم وأهليهم يَوْم الْقِيَامَة} خسروا أنفسهم أَن يغنموها؛ فصاروا فِي النَّار , وخسروا أَهْليهمْ من الْحور الْعين , وَقد فسرناه فِي سُورَة الزمر(4/172)
وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ من سَبِيل} إِلَى الْهدى(4/172)
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)
{اسْتجِيبُوا لربكم} أَي: آمنُوا (مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ(4/172)
لاَ مَرَدَّ لَهُ} يَوْم الْقِيَامَة , أَي: لَا يردهُ أحدٌ بعد مَا حكم الله بِهِ وَجعله أَََجَلًا ووقتا.
{وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ} أَي: نصير(4/173)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)
{فَإِنْ أَعْرَضُوا} أَي: لمْ يُؤمنُوا.
{فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} تَحْفَظُ عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ؛ حَتَّى تُجَازِيَهُمْ بهَا {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَ الْبَلاَغُ} وَلَيْسَ عَلَيْك أَن تكرههم وَقد أمروا بقتالهم بعد.
{وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنسَانَ} يَعْنِي: الْمُشرك {مِنَّا رَحْمَةً} وَهَذِه رَحْمَة الدُّنْيَا , وَمَا فِيهَا من الرخَاء والعافية {فَرِحَ بِهَا} كَقَوْلِه: {وفرحوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} لَا يُقِرُّونَ بِالْآخِرَةِ {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} من ذهَاب مالٍ , أَو مرضٍ {بِمَا قَدَّمَتْ} {عملت} (أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ} يَعْنِي: الْمُشرك لَيْسَ لَهُ صبرٌ على الْمُصِيبَة وَلَا حسبَة؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْجُو ثَوَاب الْآخِرَة.
تَفْسِير سُورَة الشورى من الْآيَة 49 إِلَى آيَة 53.(4/173)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)
{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا} يَعْنِي: الْجَوَارِي {وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ}(4/173)
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
(أَوْ(4/173)
يُزَوِّجُهُمْ} يَعْنِي: يخلط بَينهم.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: يَجْعَل بَعضهم ذُكُورا وَبَعْضهمْ إِنَاثًا؛ تَقول الْعَرَب: زوجت إبلي إِذا قرنت بَعْضهَا إِلَى بعض , وزوجت الصغار بالكبار إِذا قرنت كَبِيرا بصغير وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ مُجَاهِد.(4/174)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} فَكَانَ مُوسَى مِمَّن كَلمه الله وَرَاءِ حِجَابٍ {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} {جِبْرِيل} (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} .
قَالَ محمدٌ: قيل: {إِلا وَحْيًا} يَعْنِي: إلهامًا , وتقرأ: {أَو يرسلُ} بِالرَّفْع وَالنّصب؛ فَمن قَرَأَهَا بِالنّصب فَالْمَعْنى: مَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا بِأَن يوحي أَو أَن يُرْسل، وَمن قَرَأَ بِالرَّفْع فَالْمَعْنى: أَو هُوَ يرسلُ.(4/174)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا} يَعْنِي: الْقُرْآن {مِّنْ أَمْرِنَا} .
قَالَ مُحَمَّد: معنى {روحا} أَي: مَا يَهْتَدِي بِهِ الخَلْق؛ فَيكون حَيَاة [من الضلال] .
{مَا كُنتَ تَدْرِي} قبل أَن نوحيه إِلَيْك {مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ} يَعْنِي: الْقُرْآن {نُورًا} أَي: ضِيَاء من الظُّلْمة {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} {لتدعو} (إِلَى صِرَاطٍ) {طَرِيق} {مُّسْتَقِيم ٍ}(4/174)
صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
{صِرَاطِ اللَّهِ} طَرِيق الله {أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} يَعْنِي: أُمُور الْخَلَائق.(4/174)
S43
تَفْسِير سُورَة الزخرف وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة 1 إِلَى آيَة 5.(4/175)
وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
قَوْله: {وَالْكتاب الْمُبين} الْبَين وَهَذَا قسم(4/175)
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)
{إِنَّا جَعَلْنَاهُ} يَعْنِي: الْقُرْآن {قُرْآنًا عَرَبيا لَعَلَّكُمْ تعقلون} لكَي تعقلوا(4/175)
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
{وَإنَّهُ} يَعْنِي: الْقُرْآن {فِي أُمِّ الْكِتَابِ لدينا} عندنَا {لعَلي} رفيع {حَكِيم} مُحكم , و {أم الْكتاب} : (ل 313) اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ , وَتَفْسِيرُ أُمِّ الْكِتَابِ: جملَة الْكتاب وَأَصله.
قَالَ محمدٌ: وَمعنى {جَعَلْنَاهُ} بَيناهُ , كَذَلِك قَالَ غير يحيى.(4/175)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
{أفنضرب عَنْكُم الذّكر} يَعْنِي: الْقُرْآن {صفحا} تَفْسِير الْكَلْبِيّ يَقُول: أَنَذَرُ الذّكْرَ من أجلكم؟ ! {أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مسرفين} مُشْرِكين أَي: لَا نَذَرُه.
قَالَ مُحَمَّد: تقْرَأ {إِن كُنْتُم} بِالْفَتْح وبالكسر , فَمن فتح فَالْمَعْنى: لِأَن كُنْتُم وَمن كسر فعلى الِاسْتِقْبَال؛ الْمَعْنى: إِن تَكُونُوا مسرفين نضرب عَنْكُم الذّكر.
وَيُقَال: ضربْتُ عَنهُ الذّكر وأضْربتُ بِمَعْنى وَاحِد إِذا امسكت. وَقَوله:(4/175)
{صفحا} أَي: إعْرَاضًا يُقَال: صفحت عَن فلانٍ أَي: أَعرَضت عَنهُ , وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَنَّك توليه صفحة عُنُقك.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة 6 إِلَى آيَة 10.(4/176)
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6)
{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلين} أَي: كثيرا(4/176)
فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
{فأهلكنا أَشد مِنْهُم بطشا} يَعْنِي: أشدّ من مُشْركي الْعَرَب قُوَّة {وَمضى مثل الْأَوَّلين} يَعْنِي: وقائعه فِي الْأُمَم السَّالفة بتكذيبهم رسلهم(4/176)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)
{وَلَئِن سَأَلتهمْ} يَعْنِي: الْمُشْركين {من خلق السَّمَاوَات وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}(4/176)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)
ثمَّ قَالَ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مهادًا} أَي: بساطًا وفراشًا {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سبلا} طرقا {لَعَلَّكُمْ تهتدون} لكَي تهتدوا الطّرق.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة 11 إِلَى آيَة 14.(4/176)
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11)
{وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقدر} .
يَحْيَى: عَنْ عَاصِمِ بْنِ حَكِيمٍ , عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ , عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ ,(4/176)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " مَا عَامٌ بِأَكْثَرِ مَطَرًا مِنْ عَامٍ - أَوْ قَالَ: مَاءٌ - وَلَكِنَّ اللَّهَ يَصْرِفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ ".
{فَأَنْشَرْنَا بِهِ} يَعْنِي: فأحيينا بِهِ {بَلْدَةً مَيْتًا} الْيَابِسَة الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نَبَات {كَذَلِك تخرجُونَ} يَعْنِي: الْبَعْثَ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا مَنِيًا؛ كَمَنِيِّ الرِّجَالِ فَتَنْبُتُ بِهِ جسمانهم ولحمانهم؛ كَمَا ينْبت الأَرْض الثرى(4/177)
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)
{وَالَّذِي خلق الْأزْوَاج كلهَا} تَفْسِير الْحسن: يَعْنِي: الشتَاء والصيف , وَاللَّيْل وَالنَّهَار , وَالسَّمَاء وَالْأَرْض , وكل اثْنَيْنِ , فالواحد مِنْهُمَا زوج. قَالَ محمدٌ: وَقيل: معنى الْأزْوَاج: الْأَصْنَاف , تَقول: عِنْدِي من كل زوجٍ أَي: من كل صنف.
{وَجَعَلَ لكم} أَي: خلق لكم {مِنَ الْفُلْكِ والأنعام مَا تَرْكَبُونَ}(4/177)
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)
{لتستووا على ظُهُوره} ظُهُور مَا سخر لكم؛ أَي: تركبوه.
{وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} يَعْنِي: مطيقين , قَالَ: تَقول: أَنا مقرنٌ لَك؛ أَي مطيقٌ لَك؛ وَقيل: إِن اشتقاق اللَّفْظَة من قَوْلهم: أَنا قِرْنٌ لفُلَان إِذا كنت مثله فِي الشدَّة , فَإِذا أردْت السنّ قلت: قَرْنُه بِفَتْح الْقَاف.(4/177)
قَالَ قَتَادَة: قد بيَّن الله لكم مَا تَقُولُونَ إِذَا رَكِبْتُمْ فِي الْبر , وَمَا تَقولُونَ إِذا ركبتم فِي الْبَحْرِ؛ إِذَا رَكِبْتُمْ فِي الْبَرِّ قَلْتُمْ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} وَإِذَا رَكِبْتُمْ فِي الْبَحْرِ قُلْتُمْ: {بِسم الله مجْراهَا وَمرْسَاهَا} الْآيَةَ.
يحيى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: إِذَا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ ازْوِ لَنَا الأَرْضَ وَهَوِّنْ عَلَيْنَا السَّفَرَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ وعثاء السّفر وكآبة المنقلب وَسُوء المنظر فِي الْأَهْل وَالْمَال ".(4/178)
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة 15 إِلَى آيَة 20.(4/179)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)
{وَجعلُوا لَهُ} يَعْنِي: الْمُشْركين {مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي: الْمَلَائِكَة حَيْثُ جعلوهم بَنَات الله {إِنَّ الإِنْسَانَ لكفور مُبين} يَعْنِي: الْكَافِر(4/179)
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16)
{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} على الِاسْتِفْهَام {وأصفاكم بالبنين} أَي: لم يفعل(4/179)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ للرحمن مثلا} أَي: بِالْأُنْثَى لما كَانُوا يَقُولُونَ أَن الْمَلَائِكَة بَنَات الله؛ فألحقوا الْبَنَات بِهِ , فيقتلون بناتهم {ظَلَّ وَجهه مسودا} أَي: مغيرا {وَهُوَ كظيم} يَعْنِي: كُظِم على الغيظ والحزن , أَي: رَضوا لله مَا كَرهُوا لأَنْفُسِهِمْ.
قَالَ محمدٌ: الكظم أَصله فِي اللُّغَة: الْحَبْس.(4/179)
أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
{أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} وَهَذَا تبعٌ للْكَلَام الأول {أَمِ اتخذ مِمَّا يخلق بَنَات} يَقُول: أنتخذ من ينشأ فِي الحُلى - يَعْنِي: النِّسَاء - بَنَات؟ ! {وَهُوَ فِي الْخِصَام} الْخُصُومَة.
{غير مُبين} أَي: لَا تبين عَن نَفسهَا من ضعفها (ل 314} (وأصفاكم(4/179)
بالبنين} اي: لم يفعل(4/180)
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)
{وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ} قَالَ السّديّ: يَعْنِي: وصفوا.
قَالَ مُحَمَّد: الْجعل هَا هُنَا فِي معنى القَوْل، وَالْحكم تَقول: جعلت فلَانا أعلم النَّاس؛ أَي: قد وَصفته بذلك وحكمت بِهِ.
{الَّذِينَ هُمْ عِند الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} , كَقَوْلِه: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته} وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: {الَّذِينَ هُمْ عباد الرَّحْمَن} كَقَوْلِه سُبْحَانَهُ: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} أَي: أَنهم لم يشْهدُوا خلقهمْ {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} عَنْهَا يَوْم الْقِيَامَة(4/180)
وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)
{وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم} أَي: لَو كره الله هَذَا الدّين الَّذِي نَحن عَلَيْهِ لحوَّلنا عَنهُ إِلَى غَيره , ولكنَّ الله لم يكرههُ. قَالَ الله: {مَّا لَهُم بِه مِنْ عِلْمٍ} بِأَنِّي أمرت أَن يعبدوا غَيْرِي، إِنَّمَا قَالُوا ذَلِك على الشَّك وَالظَّن.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة 21 إِلَى آيَة 23.(4/180)
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)
{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ} من قبل الْقُرْآن فِيهِ مَا يدّعون من قَوْلهم أَن الْمَلَائِكَة بَنَات الله [وَقَوْلهمْ] : لَو كره اللَّهُ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ لَحَوَّلَنَا عَنهُ إِلَى غَيره(4/180)
{فهم} بذلك الْكتاب {مستمسكون} يحاجوننا بِهِ أَي: لم نؤتهم كتابا فِيهِ مَا يَقُولُونَ(4/181)
بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا على أمة} مِلَّة , وَهِي ملَّة الشّرك {وَإِنَّا على آثَارهم مهتدون} أَي: أَنهم كَانُوا على هدى وَنحن نتبعهم على ذَلِك الْهدى ,(4/181)
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
قَالَ الله: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِير} نَبِي ينذرهم الْعَذَاب {إِلا قَالَ مترفوها} وهم أهل السُّمعَة والقادة فِي الشّرك {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} أَي: أَنهم كَانُوا مهتدين فَنحْن نقتدي بهداهم.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة 24 إِلَى آيَة 30.(4/181)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)
قَالَ اللَّه للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ} ثمَّ رَجَعَ إِلَى قصَّة الْأُمَم , فَأخْبر بِمَا قَالُوا لأنبيائهم {قَالُوا} لَهُم: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون} .
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: {قل أَو لَو جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُم} الْمَعْنى: أتتبعون مَا وجدْتُم عَلَيْهِ آبَاءَكُم وَإِن جِئتُكُمْ بأهدى مِنْهُ؟ !(4/181)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
{فانتقمنا مِنْهُم} يَعْنِي: الَّذين كذبُوا رسلهم (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ(4/181)
الْمُكَذِّبِينَ} أَي: كَانَ عاقبتهم أَن دمر الله عَلَيْهِم ثمَّ صيرهم إِلَى النَّار(4/182)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26)
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ}
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله {برَاء} بِمَعْنى بريءٌ , وَالْعرب تَقول للْوَاحِد مِنْهَا: أَنا البراءُ مِنْك , وَكَذَلِكَ الِاثْنَان وَالْجَمَاعَة , وَالذكر وَالْأُنْثَى يَقُولُونَ: نَحن الْبَراء مِنْك , والخَلاء مِنْك , لَا يَقُولُونَ: نَحن البراآن مِنْك وَلَا نَحن البراءون مِنْك , الْمَعْنى: أَنا ذُو الْبَراء مِنْك , وَنحن ذَوُو الْبَراء مِنْك , كَمَا تَقول: رجلٌ عَدْلٌ , وامرأةٌ عدْلٌ , وَقوم عدل؛ الْمَعْنى: ذُو عدل , و [ذَات] عدل هَذَا أفْصح اللُّغَات.(4/182)
إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)
{إِلاَ الَّذِي فَطَرَنِي} لَكِن أعبد الَّذِي فطرني: خلقني {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} أَي: يثيبني على الْإِيمَان.(4/182)
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً} يَعْنِي: لَا إِلَه إِلَّا الله {بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} تَفْسِير مُجَاهِد: فِي وَلَده {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لكَي يرجِعوا إِلَى الْإِيمَان(4/182)
بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29)
{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَء وَآبَاءهُمْ} يَعْنِي: قُريْشًا لم أعذبهم {حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ} مُحَمَّد صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة 31 إِلَى آيَة 33.(4/182)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)
{وَقَالُوا لَوْلاَ} هلا {نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} القريتين: مَكَّة والطائف أَي لَو كَانَ هَذَا الْقُرْآن حقًّا لَكَانَ هَذَانِ الرّجلَانِ أَحَق(4/182)
بِهِ مِنْك يَا مُحَمَّد؛ يعنون: الْوَلِيد بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي وَأَبا مَسْعُود الثَّقَفِيّ؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة.
قَالَ محمدٌ: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ القريتين} الْمَعْنى: على رجل من رَجُلَيِ القريتين عَظِيم.(4/183)
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
قَالَ الله: {أهم يقسمون رَحْمَة رَبك} يَعْنِي: النُّبُوَّة؛ أَي: لَيْسَ ذَلِك فِي أَيْديهم فيضعون النُّبُوَّة حَيْثُ شَاءُوا {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَات} فِي الرزق {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سخريا} أَي: يملك بَعضهم من بَاب السخرة {وَرَحْمَة رَبك} النُّبُوَّة {خير مِمَّا يجمعُونَ} خير مِمَّا يجمع الْمُشْركُونَ من الدُّنْيَا.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: فَكَمَا فضلنَا بَعضهم على بعضٍ فِي الرزق وَفِي الْمنزلَة كَذَلِك (ل 315) اصْطَفَيْنَا للرسالة من نشَاء.(4/183)
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)
{وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَة} تَفْسِير الْحسن: لَوْلَا أَن تجتمعوا على الْكفْر.
{لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا من فضَّة ومعارج عَلَيْهَا} اي: درج {عَلَيْهَا يظهرون} أَي: يرقون إِلَى ظُهُور بُيُوتهم.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة 34 إِلَى آيَة 39.(4/183)
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34)
{ولبيوتهم} أَي: لجعلنا لبيوتهم {أبوابا} من فضَّة {وسررا} من فضَّة {عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ}(4/184)
وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
{وَزُخْرُفًا} والزخرف: الذَّهَب {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لما مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا} يُسْتَمتع بِهِ ثمَّ يذهب {وَالآخِرَةُ} يَعْنِي: الْجنَّة {عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} .
قَالَ محمدٌ: واحدُ المعارج: مَعْرَجٌ، وَيُقَال: ظَهرت على الْبَيْت إِذا عَلَوْت سطحه.(4/184)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)
{وَمن يَعش عَن ذكر} أَي: وَمن يعم عَن ذكر {الرَّحْمَن} أَي: الْمُشرك.
قَالَ محمدٌ: قِرَاءَة يحيى {يغش} بِفَتْح الشين، وَمن قَرَأَ {يَعْشُ} بِضَم الشين فَالْمَعْنى: وَمن يعرض عَن ذكر الرَّحْمَن، هَذَا قَول الزّجاج، قَالَ ابْن قُتَيْبَة المعني: يظلم بَصَره كَقَوْلِه: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} قَالَ: وَالْعرب تَقول: عشوت إِلَى النَّار؛ إِذا استدللت إِلَيْهَا ببصر ضَعِيف، وَأنْشد للحُطيْئة.(4/184)
(مَتى تأته تَفْشُو إِلَى ضوْء ناره ... تَجِد خير نَار عِنْدهَا خير موقد)(4/185)
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)
قَوْله: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} سَبِيل الْهدى(4/185)
حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)
{حَتَّى إِذا جَاءَنَا} يَعْنِي: هُوَ وقرينه: شَيْطَانه {قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين فبئس القرين} .
يَحْيَى: عَنْ أَبِي الأَشْهَبِ، عَنِ أبي مَسْعُود الجُرَيْري قَالَ: " إِن الْكَافِرَ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ، وجد عِنْد رَأسه شَيْطَانه، فَيَأْخُذ بِيَدِهِ فَيَقُول: أَنا قرينك حَتَّى أَدخل أَنا وَأَنت جَهَنَّم ".
قَالَ محمدٌ: عِنْد ذَلِك يَقُول: يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فبئس القرين!
قَالَ محمدٌ: قيل: معنى المشرقين هَا هُنَا الْمشرق وَالْمغْرب؛ كَمَا قَالُوا: سُنَّة العمرين؛ يُرَاد أَبُو بكر وَعمر، وَمثل هَذَا من الشّعْر:
(لنا قمراها والنجوم الطوالع ... )(4/185)
يُرِيد: الشَّمْس وَالْقَمَر.(4/186)
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
قَوْله {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظلمتم} إِذْ أشركتم {أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مشتركون} يقرن هُوَ وشيطانه فِي سلسلة وَاحِدَة، يتبرأ كل واحدٍ مِنْهُمَا من صَاحبه، ويلعن كل واحدٍ مِنْهُمَا صَاحبه.
قَالَ مُحَمَّد: ذكر مُحَمَّد بن يزِيد المبَرِّد أَن معنى هَذِه الْآيَة: أَنهم مُنِعُوا روحَ التأسِّي؛ لِأَن التأسِّي يُسَهِّل الْمُصِيبَة، فأعلموا أَنه لَا يَنْفَعهُمْ الِاشْتِرَاك فِي الْعَذَاب. وَأنْشد للخنساء.
(وَلَوْلَا كَثْرَة الباكين حَولي ... على إخْوَانهمْ لقتلتُ نَفسِي)
(فَمَا يَبْكُونَ مثلَ أخي وَلَكِن ... أُعزِّي النَّفس عَنهُ بالتأسي)
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة 40 إِلَى آيَة 47.(4/186)
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40)
قَوْله: {أفأنت تسمع الصم} يَعْنِي النَّبِي، تسمع الصم عَن الْهدى {أَوْ تهدي الْعمي} عَن الْعَمى، يَقُوله على الِاسْتِفْهَام، أَي: أَنَّك لَا تسمعهم وَلَا تهديهم يَعْنِي: من لَا يُؤمن.(4/186)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41)
{فإمَّا نذهبن بك} أَي: نتوفينك إِلَى قَوْله: {مُقْتَدِرُونَ} أنزل الله آيَات فِي الْمُشْركين هَذِه وأشباهها مِمَّا وعدهم بِهِ من الْعَذَاب؛ فَكَانَ بعض ذَلِك يَوْم بدر، وَبَعضه يكون مَعَ قيام السَّاعَة بالنفخة الأولى؛ بهَا يكون هلاكُ كفَّار آخر هَذِه الْأمة.(4/187)
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)
{فَاسْتَمْسك بِالَّذِي أُوحِي إِلَيْك} الْقُرْآن {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَهُوَ الْإِسْلَام.(4/187)
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)
{وَإنَّهُ لذكر لَك ولقومك} يَعْنِي: قُريْشًا، أَي شرفٌ لَك ولقومك {وسوف تسْأَلُون} يَوْم الْقِيَامَة، قَالَ بَعضهم: عَن أَدَاء شكره.(4/187)
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ من رسلنَا} تَفْسِير بَعضهم: كَانَ هَذَا لَيْلَة أسرِي بِهِ.(4/187)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإهِ} يَعْنِي: قومه.(4/187)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)
{إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} استهزاء وتكذيبا.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة 48 إِلَى آيَة 56.(4/187)
وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48)
{وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أكبر من أُخْتهَا} تَفْسِير الْحسن: كَانَت اليدُ أكبر من الْعَصَا {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ} لَعَلَّ مَنْ بعدهمْ ممّن كَانَ على دينهم من الْكفَّار {يَرْجِعُونَ} إِلَى الْإِيمَان(4/188)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49)
{وَقَالُوا يَا أَيهَا السَّاحر ادْع لنا رَبك} سَلْ لنا رَبك {بِمَا عَهِدَ عنْدك} فِيمَن آمن مِمَّن كشف الْعَذَاب عَنْهُم لَعَلَّهُم يُؤمنُونَ(4/188)
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هم ينكثون} (ل 316) أَي: ينقضون عَهدهم.(4/188)
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
{ونادى فِرْعَوْن فِي قومه} حِين جَاءَهُ مُوسَى يَدعُوهُ إِلَى الله {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تجْرِي من تحتي} أَي: فِي ملكي {أَفَلا تُبْصِرُونَ}(4/188)
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)
ثمَّ اسْتَأْنف الْكَلَام فَقَالَ: {أَمْ أَنا خير} أَي: بل أَنا خيرٌ {مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مهين} ضَعِيف {وَلَا يكَاد يبين} يَعْنِي: الْعقْدَة الَّتِي كَانَت فِي لِسَانه من الْجَمْرَة الَّتِي أَلْقَاهَا فِي فِيهِ وَهُوَ صَغِير حِين تنَاول لحية فِرْعَوْن، وَقد ذكرنَا ذَلِك قبل هَذَا(4/188)
فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)
{فلولا} فَهَلا، يَقُوله فِرْعَوْن {أُلْقِيَ عَلَيْهِ} على مُوسَى {أَسْاوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ} تَفْسِير الْحسن: مالٌ من الذَّهَب.
قَالَ محمدٌ: قيل: أَسَاورة جمعُ: أَسْوِرَة.
{أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مقترنين} يَمْشُونَ جَمِيعًا عيَانًا يصدقونه بمقالته بِأَنَّهُ رَسُول الله.(4/188)
فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
{فَلَمَّا آسفونا} أغضبونا(4/188)
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
{فجعلناهم سلفا ومثلا} قَالَ مُجَاهِد: يَقُول: جعلنَا كفارهم سلفا لكفار أمة مُحَمَّد {وَمَثَلا للآخرين} أَي: عِبْرَة لمن بعدهمْ.(4/188)
قَالَ مُحَمَّد: وَمعنى {سلفا} أَي: قدمًا تقدَّموا؛ فِي قِرَاءَة من قَرَأَهَا بِفَتْح السِّين وَاللَّام.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة 57 إِلَى آيَة 60.(4/189)
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)
{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذا قَوْمك مِنْهُ يصدون} أَي: يَضْحَكُونَ؛ فِي قِرَاءَة من قَرَأَهَا بِكَسْر الصَّاد، وَمن قَرَأَهَا برفعها {يصُدُّون} فَهُوَ من الصدود؛ أَي: يفرون.
تَفْسِير الْكَلْبِيّ: " لما نزلت {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} قَامَ رَسُول الله مُقَابِلَ بَابِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِه الْآيَة، فوجَد مِنْهَا أهل مَكَّة وجدا شَدِيدا؛ فَدخل عَلَيْهِم ابْن الزِّبَعْرَى الشَّاعِر وقريش يَخُوضُونَ فِي ذكر هَذِه الْآيَة، فَقَالَ: أمحمدٌ تكلم بِهَذِهِ؟ {قَالُوا: نعم، قَالَ: وَالله إِن اعْترف لي بِهَذَا لأَخْصُمَنَّه، فَلَقِيَهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَرَأَيْتَ الْآيَةَ الَّتِي قَرَأْتَ آنِفا، أفينا وَفِي آلِهَتنَا نزلت خَاصَّةً أَمْ فِي الْأُمَمِ وَآلِهَتِهِمْ؟ قَالَ: لَا؛ بَلْ فِيكُمْ وَفِي آلِهَتكُم وَفِي الْأُمَم وآلهتهم: فقالي: خصمتُك وربِّ الْكَعْبَة} أَلَيْسَ تُثْنِي على عِيسَى وَمَرْيَم وَالْمَلَائِكَة خيرا، وَقد علمت أَن النَّصَارَى تعبد عِيسَى(4/189)
وَأُمِّهِ، وَإِنَّ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةِ، أَفَلَيْسَ هَؤُلَاءِ مَعَ أَلِهَتِنَا فِي النَّارِ؟ ! فَسَكَتَ رَسُولُ الله وضحكت قُرَيْش وضجوا،(4/190)
وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)
وَقَالُوا: {ءآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُو} يعنون عِيسَى.(4/190)
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
قَالَ اللَّه للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جدلا} وَأنزل فِي عِيسَى وَأمه وَالْمَلَائِكَة {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون} .
وَقد مضى تَفْسِير هَذَا.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله {إِلَّا جدلا} أَي: طلبا للمجادلة، يُقَال: جَدِلَ الرجل جَدَلًا فَهُوَ صَاحب جَدَلٍ.
{إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} بِالنُّبُوَّةِ؛ يَعْنِي: عِيسَى {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا} يَعْنِي: عِبْرَة {لبني إِسْرَائِيل} تَفْسِير مُجَاهِد: جعله الله عِبْرَة لَهُم بِمَا كَانَ يصنع من تِلْكَ الْآيَات، مِمَّا يبرىء الأكمه والأبرص وَمِمَّا علمه الله.(4/190)
وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)
{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْض يخلفون} أَي: يعْمرون الأَرْض بَدَلا مِنْكُم.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة 61 إِلَى آيَة 66.(4/190)
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
{وَإنَّهُ لعلم للساعة} رَجَعَ إِلَى ذكر عِيسَى، قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: نزُول عِيسَى {فَلا تمترن بهَا} لَا تشكن فِيهَا.
قَالَ محمدٌ: قَوْله: {لعلم للساعة} فِي قِرَاءَة من قَرَأَ بِكَسْر الْعين، الْمَعْنى: نُزُوله؛ يُعْلَم بِهِ قرب السَّاعَة.
قَوْله {وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم} وَهُوَ الْإِسْلَام(4/191)
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63)
{وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بعض الَّذِي تختلفون فِيهِ} يَعْنِي: من تبديلهم التَّوْرَاة، وَكَانَ من الْبَينَات إحياؤه الْمَوْتَى بِإِذن الله وإبراؤه الأكمه والأبرص، وَمَا كَانَ يُخْبِرهُمْ بِهِ مِمَّا كَانُوا يَأْكُلُون ويدَّخرون فِي بُيُوتهم، وَمن البيِّنات الَّتِي جَاءَ بهَا أَيْضا: الْإِنْجِيل؛ فِيهِ مَا أُمروا بِهِ ونهوا عَنهُ، قَالَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وأطيعون} يَقُوله عِيسَى لَهُم(4/191)
إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم} يَعْنِي: الْإِسْلَام(4/191)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)
{فَاخْتلف الْأَحْزَاب من بَينهم} يَعْنِي: النَّصَارَى.
قَالَ قَتَادَة: " ذُكر لنا أَنه لما رُفع عِيسَى انتخبت بَنو إِسْرَائِيل أَرْبَعَة من فقهائهم فَقَالُوا للْأولِ: مَا تَقول فِي عِيسَى؟ قَالَ: هُوَ الله هَبَط إِلَى الأَرْض، فخلق مَا خلق، وَأَحْيَا مَا أَحْيَا، ثمَّ صعد إِلَى السَّمَاء. فتابعه على ذَلِك أنَاس (ل 317) فَكَانَت اليعقوبية من النَّصَارَى، فَقَالَ الثَّلَاثَة الْآخرُونَ: نشْهد أَنَّك كاذبٌ! فَقَالُوا للثَّانِي: مَا تَقول فِي عِيسَى؟ فقالي هُوَ ابْن الله فتابعه على ذَلِك(4/191)
أناسٌ، فَكَانَت النسطورية من النَّصَارَى، فَقَالَ الِاثْنَان الْآخرَانِ: نشْهد إِنَّك كاذبٌ {فَقَالُوا للثَّالِث: مَا تَقول فِي عِيسَى؟ فَقَالَ: هُوَ إِلَه وَأمه إِلَه وَالله إِلَه. فتابعه على ذَلِك أناسٌ من النَّاس، فَكَانَت الإسرائيلية من النَّصَارَى، فَقَالَ الرَّابِع: أشهد أَنَّك كاذبٌ} وَلكنه عبد الله وَرَسُوله وَكلمَة الله وروحه. فاختصم الْقَوْم، فَقَالَ المسلمُ: أنْشدكُمْ الله، هَل تعلمُونَ أَن عِيسَى كَانَ يَطِعم الطَّعَام، وَأَن الله لَا يَطعم الطَّعَام؟ {قَالُوا: اللَّهُمَّ نعَمْ. قَالَ: هَل تعلمُونَ أَن عِيسَى كَانَ ينَام، وَأَن الله لَا ينَام؟} قَالُوا: اللَّهُمَّ نعم. فخصمهم الْمُسلم؛ فاقتتل الْقَوْم، فذُكر لنا أَن اليعقوبية ظَهرت يَوْمئِذٍ وَأُصِيب الْمُسلم ".
قَالَ الله: {فويل للَّذين ظلمُوا} أشركوا، الْآيَة.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة 67 إِلَى آيَة 73.(4/192)
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)
{الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} اسْتثْنى من الأخلاء الْمُتَّقِينَ، فَقَالَ: إِلَّا الْمُتَّقِينَ مِنْهُم؛ فَإِنَّهُم لَيْسُوا بأعداء بَعضهم لبَعض(4/192)
يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)
(يَا(4/192)
عِبَاديِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} يَقُوله يَوْم الْقِيَامَة.
قَالَ محمدٌ: {يَا عبَادي} بِإِثْبَات الْيَاء وحذفها، وَقد تقدم القَوْل فِي مثل هَذَا.(4/193)
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ} يَعْنِي: وحلائلكم {تُحْبَرُونَ} تكرمون.
قَالَ محمدٌ: الحَبْرة فِي كَلَام الْعَرَب الْمُبَالغَة فِي الْإِكْرَام، والحَبْرة أَيْضا الْمُبَالغَة فِيمَا وصف بالجمال.(4/193)
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)
{يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ} يطوف على أَدْنَاهُم منزلَة سَبْعُونَ ألف غُلَام بسبعين ألف صَحْفَة من ذهب، يُغْدى عَلَيْهِ بهَا، فِي كل واحدةٍ مِنْهَا لون لَيْسَ فِي صاحبتها؛ يَأْكُل من آخرهَا كَمَا يَأْكُل من أَولهَا، ويجد طعم آخرهَا كَمَا يجد طعم أَولهَا لَا يشبه بعضُه بَعْضًا، وَيرَاح عَلَيْهِ بِمِثْلِهَا، وَيَطوف على أرفعهم منزلَة كل يَوْم سَبْعمِائة ألف غُلَام، مَعَ كل غُلَام سَبْعمِائة ألف صَحْفَة من ذهب فِيهَا لون من الطَّعَام لَيْسَ فِي صاحبتها، يَأْكُل من آخرهَا كَمَا يَأْكُل من أَولهَا، ويجد طعم آخرهَا كَمَا يجد طعم أَولهَا، وَلَا يشبه بعضه بَعْضًا، قَالَ: {وَأَكْوَابٍ} أَي: وَيُطَاف عَلَيْهِم بأكواب، قَالَ قَتَادَة: الكوب: الْمُدَوَّرُ الْقَصِيرُ الْعُنُقِ الْقَصِيرُ الْعُرْوَةِ، والإبريق الطَّوِيل الْعُنُق الطَّوِيل العروة {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ} مَا خطر على بالهم من شيءٍ أَتَاهُم من غير أَن(4/193)
يدعوا بِهِ، وَإِن أحدهم ليَكُون فِي فَمه الطَّعَام، فيخطر على باله طعامٌ غَيره، فيتحول ذَلِك الطَّعَام فِي فِيهِ.
قَالَ محمدٌ: تقْرَأ (تشْتَهي) و (تشتهيه) بِإِثْبَات الْهَاء، وَأكْثر الْمَصَاحِف بِغَيْر هَاء، وَفِي بَعْضهَا الْهَاء. ذكره الزّجاج.(4/194)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)
{وَتلك الْجنَّة} الَّتِي وصف {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} على قدر أَعْمَالهم، ورَّث الله الْمُؤمنِينَ منَازِل الْكفَّار الَّتِي أُعدت لَهُم لَو آمنُوا مَعَ مَنَازِلهمْ، وَهِي مثل الَّتِي فِي الْمُؤمنِينَ {أُولَئِكَ هم الوارثون} .(4/194)
لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
{لكم فِيهَا فَاكِهَة كَثِيرَة} .
يحيى (عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَنَاوَلُونَ مِنْ قُطُوفِهَا وَهُمْ مُتَّكِئُونَ عَلَى فُرُشِهِمْ فَمَا تَصِلُ إِلَى فِي أَحَدِهِمْ؛ حَتَّى يُبْدِلَ اللَّهُ مَكَانهَا أُخْرَى ".
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة 74 إِلَى آيَة 80.(4/194)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74)
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} {الْمُشْركين} (فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}(4/194)
لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)
{لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} .(4/194)
الْعَذَاب {وهم فِيهِ مبلسون} يائسون من أَن يخرجُوا مِنْهَا،(4/195)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)
قَالَ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} يَعْنِي: كفار الْأُمَم كلهَا؛ فنعذبهم فِي الْآخِرَة بِغَيْر ذَنْب {وَلَكِنْ كَانُوا هم الظَّالِمين} لأَنْفُسِهِمْ بكفرهم.
قَالَ محمدٌ: {هُمُ الظَّالِمُونَ} هم هَا هُنَا صلَة؛ فَلَا مَوضِع لَهَا فِي الْإِعْرَاب.(4/195)
وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)
{وَنَادَوْا يَا مَالك} وَهُوَ خَازِن النَّار مَلَكٌ من الْمَلَائِكَة {ليَقْضِ علينا رَبك} (ل 318) أَي: يميتنا، يدعونَ مَالِكًا؛ فَلَا يُجِيبهُمْ مِقْدَار ثَمَانِينَ سنة، ثمَّ يكون جَوَاب مَالك إيَّاهُم: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} .(4/195)
لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)
{لقد جئناكم بِالْحَقِّ} بِالْقُرْآنِ؛ يَقُوله للأحياء {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ للحق كَارِهُون} يَعْنِي: من لَا يُؤمن(4/195)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)
{أم أبرموا أمرا} كَادُوا كيدًا بمحمدٍ {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} كائدون لَهُم بِالْعَذَابِ، وَذَلِكَ مَا كَانُوا اجْتَمعُوا لَهُ فِي دَار الندوة فِي أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الْآيَة، وَقد مضى تَفْسِير ذَلِك فِي سُورَة الْأَنْفَال.(4/195)
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سرهم ونجواهم} مَا كَانُوا يتناجون فِيهِ من أَمر النَّبِي {بلَى وَرُسُلنَا} (الْمَلَائِكَة) الْحفظَة {لديهم} عِنْدهم {يَكْتُبُونَ} أَعْمَالهم.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة 81 إِلَى آيَة 87.(4/195)
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)
{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} أَي: مَا كَانَ للرحمن ولدٌ، ثمَّ انْقَطع الْكَلَام، ثمَّ قَالَ: {فَأَنا أول العابدين} تَفْسِير بَعضهم: فَأَنا أول الدائنين من هَذِه الْأمة بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ولد.(4/196)
سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)
{سُبْحَانَ رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض} ينزِّه نَفسه: رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} عَمَّا يكذبُون.(4/196)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)
{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} فقد أَقمت عَلَيْهِم الْحجَّة {حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} يَوْمَ الْقِيَامَة، وَهَذَا قبل أَن يُؤمر بقتالهم.(4/196)
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} هُوَ إِلَه أهل السَّمَاء، وإله أهل الأَرْض {وَهُوَ الْحَكِيمُ} فِي أمره {الْعَلِيمُ} بخلقه.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: هُوَ المُوَحَّدُ فِي السَّمَاء وَفِي الأَرْض؛ وَإِلَيْهِ ذهب يحيى.(4/196)
وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)
{وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} علم مَجِيء السَّاعَة، لَا يعلم علم مجيئها غَيره.(4/196)
وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
{وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} يَعْنِي: الْأَوْثَان لَا تملك أَن تشفع لعابدها {إِلاَ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ} يَقُول: إِنَّمَا الشَّفَاعَة لمن شهد بِالْحَقِّ فِي الدُّنْيَا {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أَنه الْحق؛ تشفع لَهُم الْمَلَائِكَة.(4/196)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)
{فَأنى يؤفكون} يصدون فيعبدون غَيره.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة 88 إِلَى آيَة 89.(4/197)
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)
{وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ لاَ يُؤْمِنُونَ} هَذَا قَول النَّبِي يشكو قومه إِلَى الله.
قَالَ يحيى: وَهِي تُقرأ على ثَلَاثَة أوجه: {قيلَه} و {قيلُه} و {قيلِه} فَمن قَرَأَهَا بالنْصب رَجَعَ إِلَى قَوْله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نسْمع سرهم ونجواهم} وَلَا نسْمع قيلَه، وَمن قَرَأَهَا بِالْجَرِّ رَجَعَ إِلَى قَوْله: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ ملك السَّمَاوَات وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَة} وَعلم قيله، وَمن قَرَأَهَا بِالرَّفْع فَهُوَ كَلَام مُبْتَدأ يُخْبَر بقوله.(4/197)
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
قَالَ الله: {فاصفح عَنْهُم} وَهِي منسوخةٌ نسختها الْقِتَال {وَقُلْ سَلام} كلمة حلمٍ، وَكَانَ ذَلِك أَيْضا قبل أَن يُؤمر بقتالهم {فَسَوف تعلمُونَ} يَوْم الْقِيَامَة، وَهِي كلمة وَعِيد.(4/197)
تفسيرسورة الدُّخان وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تَفْسِير سُورَة الدُّخان من الْآيَة 1 إِلَى آيَة 9.(4/198)
وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
قَوْله: {وَالْكتاب الْمُبين} قسم أقسم بِالْقُرْآنِ(4/198)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} يَعْنِي: الْقُرْآن {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} يَعْنِي: لَيْلَة الْقدر.
يَحْيَى: عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالحٍ [عَنِ] ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " نَزَلَ الْقُرْآنُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ جَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْزِلُ نُجُومًا ثَلاثَ آيَاتٍ وَأَرْبَعَ آيَاتٍ وَخَمْسَ آيَاتٍ وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ. ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} ".(4/198)
{إِنَّا كُنَّا منذرين} الْعباد من النَّار(4/199)
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
{فِيهَا} يَعْنِي: لَيْلَة الْقدر {يُفْرَقُ كُلُّ أَمر حَكِيم} أَي: يفصل، قَالَ الْحسن: مَا يُرِيد الله أَن ينزل من الْوَحْي وَينفذ من الْأُمُور فِي سمائه وأرضه وخلقه تِلْكَ السّنة، ينزله فِي لَيْلَة الْقدر إِلَى سمائه، ثمَّ ينزله فِي الْأَيَّام والليالي على قَدَرٍ حَتَّى يحول الْحول من تِلْكَ اللَّيْلَة.(4/199)
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)
قَوْله: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مرسلين} الرُّسُل إِلَى الْعباد(4/199)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)
{رَحْمَة من رَبك} الْآيَة.
قَالَ محمدٌ: قَوْله: {أَمْرًا} مَنْصُور على الْحَال؛ الْمَعْنى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ آمرين أمرا. وَقَوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبك} أَي: أَنزَلْنَاهُ رَحْمَة.(4/199)
تَفْسِير سُورَة الدُّخان من الْآيَة 10 إِلَى آيَة 15.(4/200)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)
{فَارْتَقِبْ} أَي: فانتظر {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَان مُبين} بَين(4/200)
يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)
{يغشى النَّاس} تَفْسِير مُجَاهِد: يَعْنِي: الجدب وإمساك الْمَطَر عَن [كفار قُرَيْش] .(4/200)
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)
يَقُولُونَ: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ} .(4/200)
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13)
قَالَ الله: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} أَي: كَيفَ لَهُم الذكرى؟ (ل 319) يَعْنِي: الْإِيمَان بعد وُقُوع هَذَا الْبلَاء {وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ}(4/200)
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
{ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُون} يُعلمهُ عبد [لنَبِيّ] الْحَضْرَمِيّ، وَكَانَ كَاهِنًا؛ فِي تَفْسِير الْحسن. وَقَالَ بَعضهم: عداس غُلَام عتبَة بن ربيعَة؛ كَانَ يقْرَأ الْكتب،(4/200)
إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)
قَالَ الله: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا} .
تَفْسِير سُورَة الدُّخان آيَة 16.(4/200)
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
{يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى} .
قَالَ مُحَمَّد: {يَوْم نبطش} منصوبٌ بِمَعْنى: وَاذْكُر يَوْم نبطش، وَيُقَال: يبطُش بِالرَّفْع أَيْضا، مثل: عَكَفَ يَعْكُفُ ويَعْكِفُ، وَمثل هَذَا كثير.
يَحْيَى: عَنِ الْمُعَلَّى، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى،(4/200)
عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: " هَا هُنَا رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْتِي دُخَانٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ بِأَسْمَاعِ الْمُنَافِقِينَ وَأَبْصَارِهِمْ، وَيَأْخُذُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَغَضِبَ؛ فَجَلَسَ فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاسُ مَنْ عَلِمَ عِلْمًا فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ: اللَّهُ أَعْلَمُ؛ فَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ لِمَا لَا يَعْلَمُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا من المتكلفين} وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنِ الدُّخَانِ: إِنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَبْطَئُوا عَنِ الإِسْلامِ، دَعَا عَلَيْهِم رَسُول الله؛ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ. فَأَصَابَهُمُ الْجُوعُ؛ حَتَّى أَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْعِظَامَ، حَتَّى كَانَ أَحَدُهُمْ يَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ دُخَانًا مِنَ الْجَهْدِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَان مُبين} إِلَى قَوْله {إِنَّا مُؤمنُونَ} فَسَأَلُوا أَنْ يُكْشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ فَيُؤْمِنُوا، قَالَ اللَّهُ: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} إِلَى قَوْله: {منتقمون} فَكُشِفَ عَنْهُمْ فَعَادُوا فِي كُفْرِهِمْ؛ فَأَخَذَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَهُوَ قَوْلُهُ: {يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى} فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَدْ مَضَتِ الْبَطْشَةُ وَالدُّخَانُ وَاللِّزَامُ(4/201)
وَالرُّومُ وَالْقَمَرُ ".
قَالَ محمدٌ: قيل للجوع: دُخان، لِيَبَس الأَرْض فِي سنة الجَدْب، وَانْقِطَاع النَّبَات وارتفاع الْغُبَار، فَشبه مَا يرْتَفع مِنْهُ بالدخان، وَمن كَلَامهم: جوعٌ أغْبَرُ وَسنة غبراء لسنة المجاعة.
تَفْسِير سُورَة الدُّخان من الْآيَة 17 إِلَى آيَة 29.(4/202)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)
قَوْله: {وَلَقَد فتنا قبلهم} أَي: اختبرنا قبلهم {قَوْمَ فِرْعَوْنَ} بِالدّينِ؛ كَقَوْلِه: {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} لمختبرين بِالدّينِ.(4/202)
{وجاءهم رَسُول كريم} على الله؛ يَعْنِي: مُوسَى(4/203)
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)
{أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} أرْسلُوا معي بني إِسْرَائِيل؛ فِي تَفْسِير مُجَاهِد {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِين} على مَا أَتَانِي من الله، لَا أَزِيد فِيهِ شَيْئا وَلَا أنقص مِنْهُ شَيْئا.(4/203)
وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)
{وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} أَي: لَا تستكبروا عَن عبَادَة الله {إِنِّي آتيكم} أَي: قد أتيتكم {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} بِحجَّة بَيِّنَة(4/203)
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)
{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ ترجمون} يَعْنِي: الْقَتْل بِالْحِجَارَةِ(4/203)
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
{وَإِن لم تؤمنوا لي} تصدقوني {فاعتزلون} حَتَّى يحكم الله بيني وَبَيْنكُم.
قَالَ محمدٌ: قيل: الْمَعْنى: فَإِن لم تؤمنوا لي؛ فَلَا تَكُونُوا عَليّ وَلَا معي.(4/203)
فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)
{فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مجرمون} مشركون.
قَالَ مُحَمَّد: من قَرَأَ (إِن) بالكَسْرِ فعلى معنى: قَالَ: إِن هَؤُلَاءِ، وَيجوز الْفَتْح بِمَعْنى: بِأَن هَؤُلَاءِ.(4/203)
فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23)
{فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} أَي: يتبعكم فِرْعَوْن وَجُنُوده(4/203)
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
{واترك الْبَحْر رهوا} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي: سَاكِنا بعد أَن ضربه مُوسَى بعصاه.(4/203)
وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26)
{ومقام كريم} أَي: منزل حسن(4/203)
وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27)
{ونعمة كَانُوا فِيهَا فاكهين} أَي: مسرورين.(4/203)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)
قَالَ الله: {كَذَلِك} أَي: هَكَذَا كَانَ الْخَبَر {وَأَوْرَثْنَاهَا قوما آخَرين} يَعْنِي: بني إِسْرَائِيل(4/203)
فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)
{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} .
يَحْيَى: عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: " لِلْمُؤْمِنِ بَابَانِ فِي السَّمَاءِ، أَحَدُهُمَا يَصْعَدُ مِنْهُ عَمَلُهُ، وَالآخَرُ يَنْزِلُ مِنْهُ رِزْقُهُ، فَإِذَا مَاتَ(4/203)
بَكَيَا عَلَيْهِ ".
قَالَ أبان الْعَطَّار: بَلغنِي أَنَّهُمَا يَبْكِيَانِ عَلَيْهِ أَرْبَعِينَ صباحا.
{وَمَا كَانُوا منظرين} من الْعَذَاب يَعْنِي: الْغَرق.
تَفْسِير سُورَة الدُّخان من الْآيَة 30 إِلَى آيَة 39.(4/204)
(ل 320) {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَاب المهين}(4/205)
مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
{مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا من المسرفين} أَي: المتكبرين(4/205)
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32)
{وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالمين} على عَالم زمانهم الَّذِي كَانُوا فِيهِ(4/205)
وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)
{وآتيناهم} يَعْنِي: أعطيناهم {مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بلَاء مُبين} نعْمَة بَيِّنَة.(4/205)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34)
{إِن هَؤُلَاءِ ليقولون} يَعْنِي: مُشْركي الْعَرَب(4/205)
إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35)
{إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحن بمنشرين} بمبعوثين.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: أَنْشَرَ الله الْمَوْتَى؛ فنشروا.(4/205)
فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36)
{فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أَي: فأحيوا لنا آبَاءَنَا، حَتَّى نصدقكم بمقالتكم أنَّ الله يحيي الْمَوْتَى.(4/205)
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
قَالَ الله: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من الْكفَّار أَي: أَنهم لَيْسُوا بِخَير مِنْهُم؛ يخوفهم بِالْعَذَابِ.(4/205)
مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)
{مَا خلقناهما إِلَّا بِالْحَقِّ} للبعث وللحساب، وللجنة وَالنَّار {وَلَكِنَّ أَكْثَرهم} جمَاعَة الْمُشْركين {لَا يعلمُونَ} أَنهم مبعوثون ومحاسبون ومجازون.(4/205)
تَفْسِير سُورَة الدُّخان من الْآيَة 40 إِلَى آيَة 50.(4/206)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)
{إِن يَوْم الْفَصْل} يَعْنِي: الْقَضَاء {ميقاتهم أَجْمَعِينَ} أَي: مِيقَات بَعثهمْ(4/206)
{يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مولى} ولي عَن ولي {شَيْئا} أَي: لَا يحمل من ذنوبهم شَيْئا {وَلَا هم ينْصرُونَ} يمْنَعُونَ من الْعَذَاب(4/206)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
{إِلَّا من رحم الله} قَالَ الْحسن: يَعْنِي: من الْمُؤمنِينَ يشفع بعضُهم لبَعض؛ فينفعهم ذَلِك عِنْد الله.(4/206)
إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43)
{إِن شَجَرَة الزقوم}(4/206)
طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)
{طَعَام الأثيم} الْمُشرك(4/206)
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45)
{كَالْمهْلِ} الْمهل: مَا كَانَ ذائبًا من الْفضة والنحاس وَمَا أشبه ذَلِك.
قَالَ محمدٌ: وَقيل: الْمهل: عكر الزَّيْت الشَّديد السوَاد.
{تَغْلِي فِي الْبُطُونِ}(4/206)
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47)
{كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} يَعْنِي: المَاء الشَّديد الْحر {خذوه فاعتلوه} قَالَ الْحسن: يَعْنِي: فجرُّوه {إِلَى سَوَاء الْجَحِيم} وسط الْجَحِيم.
قَالَ محمدٌ: العَتْلُ فِي اللُّغَة أَن يُمْضَى بِهِ بعنْفٍ وَشدَّة، يُقَال مِنْهُ: عتَلَ يَعْتُلُ، وَفِيه لُغَة أُخْرَى: يَعْتِلُ.(4/206)
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48)
{ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَاب الْحَمِيم} كَقَوْلِه {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيد} يُقْمَعُ بالمقمعة، فتخرقُ رأسَهُ، فيُصَبُّ على رَأسه الْحَمِيم، فَيدْخل فِي فِيهِ(4/206)
حَتَّى يصل إِلَى جَوْفه.(4/207)
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} يَعْنِي: المنيع الْكَرِيم عِنْد نَفسك، إِذْ كنت فِي الدُّنْيَا وَلست كَذَلِك، قَالَ بَعضهم: نزلت فِي أبي جهل كَانَ يَقُول: أَنا أعز قُرَيْش وَأَكْرمهَا(4/207)
إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
{إِن هَذَا} يَعْنِي: (الْعَذَاب) {مَا كُنْتُمْ بِهِ تمترون} تشكون فِي الدُّنْيَا أَنه كَائِن.
تَفْسِير سُورَة الدُّخان من الْآيَة 51 إِلَى آيَة 59.(4/207)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)
{إِن الْمُتَّقِينَ فِي مقَام} فِي منزل {امين} أَي: هم آمنون فِيهِ من الغِيَرِ.
قَالَ محمدٌ: من قَرَأَ {مُقامٍ} بِرَفْع الْمِيم فَهُوَ من قَوْلهم: أَقَام مُقَامًا، وَمن قَرَأَ بِفَتْح الْمِيم فَهُوَ من قَوْلهم: قَامَ يقوم.(4/207)
يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53)
{يلبسُونَ من سندس وإستبرق} تَفْسِير الْحسن: هما جَمِيعًا حَرِير.
قَالَ محمدٌ: قيل الاسْتَبْرَقُ: الدِّيبَاجُ الصَّفِيقُ الكثيف، والسُّنْدس: الرَّقِيق.(4/207)
قَالَ كَعْب: فِي الْجنَّة شجر تُنْبِت الاستبرق وَالْحَرِير؛ مِنْهُ يكون لِبَاس أهل الْجنَّة. قَوْله: {مُتَقَابِلِينَ} لَا ينظر بعضُهم إِلَى قَفَا بعضٍ إِذا تزاوروا؛ فِي تَفْسِير بَعضهم.(4/208)
كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)
{كَذَلِك وزوجناهم بحور عين} تَفْسِير الْحسن، أَي: كَذَلِك حكم الله لأهل الْجنَّة بِهَذَا؛ والحُور: البيضُ؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة، والعِينُ: عظامُ الْعُيُون.
قَالَ محمدٌ: قَوْله {وزوجناهم} أَي: قرناهم بِهن.(4/208)
يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)
{يدعونَ فِيهَا بِكُل فَاكِهَة} أَي: يَأْتِيهم مَا يشتهون فِيهَا {أمنين} من الْمَوْت(4/208)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)
{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الموتة الأولى} وَلَيْسَ ثَمَّ موتَة، إِنَّمَا هِيَ هَذِه الموتة الْوَاحِدَة فِي الدُّنْيَا.
{فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم} النجَاة الْعَظِيمَة من النَّار إِلَى الْجنَّة.
قَالَ مُحَمَّد: {فضلا} منصوبٌ بِمَعْنى: وَذَلِكَ بفضلٍ من الله، أَي: فعل ذَلِك مِنْهُ فضلا.(4/208)
فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)
{فَإِنَّمَا يسرناه} يَعْنِي: الْقُرْآن {بلسانك} يَعْنِي: النَّبِي، لَوْلَا أَن الله يسره بِلِسَان محمدٍ مَا كَانُوا ليقرءوه وَلَا يفقهوه {لَعَلَّهُم يتذكرون} لكَي يتذكروا(4/208)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)
{فَارْتَقِبْ} فانتظر الْعَذَاب، فَإِنَّهُ واقعٌ بهم {إِنَّهُم مرتقبون} منتظرون.(4/208)
تَفْسِير سُورَة الجاثية وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الجاثية من الْآيَة 1 إِلَى آيَة 6.(4/209)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)
{حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيز الْحَكِيم}(4/209)
إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3)
{إِن فِي السَّمَاوَات وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ} ] (ل 321) من تُرَاب؛ يَعْنِي: خلق آدم مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثمَّ من مُضْغَة، وَفِي الأسماع والآذان وَمَا لَا يُحصى من خلق الله فِي الْإِنْسَان.(4/209)
وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
{وَمَا يبث} يخلق.
قَالَ مُحَمَّد: (يبث) فِيهِ لُغَتَانِ تَقول: بَثَثْتُكَ مَا فِي نَفسِي، وأَبْثَثْتُكَ أَي: بسطته لَك.
{آيَات لقوم يوقنون} .
قَالَ محمدٌ: من قَرَأَ (آيَاتٌ) بِالرَّفْع فعلى الِاسْتِثْنَاء وَالْمعْنَى: وَفِي خَلقكُم آيَات.(4/209)
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
{وَاخْتِلَاف} أَي: وَفِي اخْتِلَاف {اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ من رزق} يَعْنِي: الْمَطَر فِيهِ أرزاق الْخلق {فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} بعد إِذْ كَانَت يابسة لَا نَبَات فِيهَا.
{وتصريف} اي: وتلوين {الرِّيَاح} فِي الرَّحْمَة وَالْعَذَاب {آيَاتٌ لِقَوْمٍ يعْقلُونَ} وهم الْمُؤْمِنُونَ.(4/210)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤمنُونَ} يصدقون أَي: لَيْسَ بعد ذَلِك إِلَّا الْبَاطِل.
تَفْسِير سُورَة الجاثية من الْآيَة 7 إِلَى آيَة 11.(4/210)
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7)
{ويل لكل أفاك} أَي كَذَّاب {أثيم} يَعْنِي: الْمُشرك.(4/210)
يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)
{ثمَّ يصر} على مَا هُوَ عَلَيْهِ {مُسْتَكْبِرًا} عَن عبَادَة الله {كَأَنْ لَمْ يسْمعهَا} يَعْنِي: آيَات الله، أَي بلَى قد سَمعهَا، وقامتْ عَلَيْهِ الحجَّةُ بهَا.(4/210)
مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)
{من ورائهم جَهَنَّم} يَعْنِي أمامهم وَهِي كلمة عَرَبِيَّة، تَقول للرجل: من ورائك كَذَا؛ لأمر سَيَأْتِي عَلَيْهِ.
قَالَ محمدٌ: وَقد يكون " وَرَاء " بِمَعْنى بَعْدُ، وَقد تقدم ذكر هَذَا.
{وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا} تَفْسِير الْحسن: مَا عمِلُوا من الْحَسَنَات،(4/210)
يبطل الله أَعْمَالهم فِي الْآخِرَة {وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله أَوْلِيَاء} آلِهَة؛ يَعْنِي: الْأَوْثَان الَّتِي عبدوها لَا تغني عَنْهُم شَيْئا.(4/211)
هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
قَوْله: {هَذَا} يَعْنِي: الْقُرْآن {هدى} يَهْتَدُونَ بِهِ.
قَوْله: {لَهُمْ عَذَابٌ من رجز أَلِيم} أَي: موجع.
تَفْسِير سُورَة الجاثية من الْآيَة 12 إِلَى آيَة 13.
{ولتبتغوا من فَضله} يَعْنِي: طلب التِّجَارَة فِي السَّفَر {ولعلكم تشكرون} (لكَي تشكروا) اي: تؤمنوا(4/211)
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
{وسخر لكم} [أَي] خلق لكم {مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} أَي: كل ذَلِك تفضُّلٌ مِنْهُ؛ يَعْنِي: مِمَّا سخّر فِي السَّمَاوَات: الشمسَ وَالْقَمَر والنجوم والمطر، وَبِمَا سخر فِي الأَرْض: الْأَنْهَار والبحار وَمَا ينْبت فِي الأَرْض من النَّبَات، وَمَا يسْتَخْرج من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَغير ذَلِك مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ، فَذَلِك كلّه بتسخير الله.
تَفْسِير سُورَة الدُّخان من الْآيَة 14 إِلَى آيَة 15.(4/211)
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يرجون أَيَّام الله} يَعْنِي: الْمُشْركين؛ فَأمر الله الْمُؤمنِينَ أَن يغفروا لَهُم {لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} يعْملُونَ؛ يَجْزِي الْمُؤمنِينَ بحلمهم عَن الْمُشْركين، وَيجْزِي الْمُشْركين بشركهم، وَكَانَ(4/211)
هَذَا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرُوا بِقِتَالِهِمْ، ثمَّ نسخ ذَلِك بِالْقِتَالِ.(4/212)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
{من عمل صَالحا فلنفسه} أَي: يجده عِنْد الله {وَمَنْ أَسَاءَ فعلَيْهَا} أَي: فعلى نَفسه.
تَفْسِير سُورَة الجاثية من الْآيَة 16 إِلَى آيَة 17.(4/212)
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} أَي: أَنزَلْنَاهُ عَلَيْهِم {وَالْحكم} قَالَ قَتَادَة: يُرِيد الحِكْمة، وَهِي السّنة {ورزقناهم من الطَّيِّبَات} مَا أحلّ لَهُم {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالمين} يَعْنِي: عالمي زمانهم {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعلم بغيا بَينهم} أَرَادوا الدُّنْيَا ورخاءها، فغيّروا كِتَابهمْ وأحلّوا فِيهِ مَا شَاءُوا وحرموا مَا شَاءُوا، فترأَّسوا على النَّاس يستأكلونهم(4/212)
وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
{إِن رَبك يقْضِي بَينهم} الْآيَة، فَيكون قضاؤُه فيهم أَن يدْخل الْمُؤمنِينَ مِنْهُم الَّذين تمسكوا بدينهم الْجنَّة، وَيدخل الْكَافرين النَّار.
تَفْسِير سُورَة الجاثية من الْآيَة 18 إِلَى آيَة 22.(4/212)
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)
{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمر} تَفْسِير الْحسن: الشَّرِيعَة: الْفَرِيضَة(4/212)
{فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يعلمُونَ} يَعْنِي: الْمُشْركين(4/213)
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)
{إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ الله شَيْئا} أَي: إِن اتبعت أهواءهم عذَّبتك وَلم يغنوا عَنْك شَيْئا، وَقد [عصمه] الله من ذَلِك، وَقضى أَن يثبت على مَا هُوَ عَلَيْهِ {وَإِن الظَّالِمين} الْمُشْركين {بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} فِي الدُّنْيَا، وهم أعداءٌ فِي الْآخِرَة؛ يتبرَّأُ بعضُهم من بعض.(4/213)
هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
{هَذَا بصائر للنَّاس} يَعْنِي: الْقُرْآن {وَهدى} يَهْتَدُونَ بِهِ {وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَاحِدُ الْبَصَائِرِ: بَصِيرَةٌ.(4/213)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)
{أم حسب الَّذين اجترحوا} اكتسبوا {السَّيِّئَات} الشّرك.
قَالَ محمدٌ: فَمَعْنَى {اجْتَرَحُوا} : [اكتسبوا] وَيُقَال: فلانٌ جارح أَهله، وجارحه أَهله، أَي: [كاسبهم] (ل 322) وَمِنْه قيل لذوات الصَّيْد: جوارح.
{أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} أَي: لَا نجعلهم مِثْلَهم، الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فِي الْجنَّة، وَالْمُشْرِكُونَ فِي النَّار، وَهَذَا لقَوْل أحدهم: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي} كَمَا يَقُولُونَ: {إِنَّ لِي عِنْدَهُ للحسنى} يَعْنِي: الْجنَّة؛ إِن كَانَت جنَّة {سَوَاء محياهم ومماتهم} مقرأ مُجَاهِد بِالرَّفْع: {سواءٌ} مُبْتَدأ، الْمَعْنى: الْمُؤمن مُؤمن فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَالْكَافِر كافرٌ، ومقرأ الْحسن بِالنّصب: {سَوَاء} على معنى: أَن يَكُونُوا سَوَاء، أَي: لَيْسُوا سَوَاء {سَاءَ مَا} بئْسَمَا {يحكمون} أَي يجعلهم سَوَاء(4/213)
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
(وَخَلَقَ اللَّهُ(4/213)
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} أَي: للبعث والحساب وَالْجنَّة وَالنَّار.
تَفْسِير سُورَة الجاثية من الْآيَة 23 إِلَى آيَة 24.(4/214)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} هُوَ الْمُشرك، اتخذ هَوَاهُ إِلَهًا؛ فعبد الْأَوْثَان من دون الله.
قَوْله {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ} فَلَا يسمع الْهدى من الله، يَعْنِي سمع قبُول {وَقَلْبِهِ} أَي: وَختم على قلبه؛ فَلَا يفقه الْهدى.
{وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} فَلَا يبصر الْهدى {فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ} أَي: لَا أحد {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} .
قَالَ محمدٌ: غشاوة: غطاء، وَمِنْه غاشيةُ السَّرْج، وَأنْشد بعضُهم:
(صَحِبْتُكَ إذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ ... فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أَلُومُهَا)
وَيُقَال: غُشاوة بِرَفْع الْغَيْن، وغَشْوة بِفَتْحِهَا بِغَيْر ألف، وَقد قرىء بهما.(4/214)
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)
وَقَوله: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حياتنا الدُّنْيَا نموت ونحيا} أَي: نموت ونُولَد.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: يَمُوت قومٌ ويحيا قومٌ؛ وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ يحيى.
{وَمَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر} الزَّمَان، أَي: هَكَذَا كَانَ من قبلنَا، وَكَذَلِكَ نَحن.
قَوْله: {وَمَا لَهُم بذلك من علم} بِأَنَّهُم لَا يبعثون {إِنْ هُمْ إِلَّا يظنون} إِن ذَلِك مِنْهُم إِلَّا ظن.
قَالَ مُحَمَّد (إِن) بِمَعْنى (مَا) أَي: مَا هم إِلَّا يظنون.
تَفْسِير سُورَة الجاثية من الْآيَة 25 إِلَى آيَة 28.(4/215)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)
قَوْله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} الْقُرْآن {بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا} أحيوا آبَاءَنَا حَتَّى يصدقوكم بمقالتكم، بِأَن الله يحيي الْمَوْتَى،(4/215)
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)
قَالَ الله جَوَابا لقَولهم: {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ} يَعْنِي: هَذِه الْحَيَاة {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} يَعْنِي: الْمَوْت {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} لَا شكَّ فِيهِ؛ يَعْنِي: الْبَعْث {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أَنهم مبعوثون.
قَالَ محمدٌ: من قَرَأَ {حجتهم} بِالنّصب جعل اسْم كَانَ (أَن) مَعَ صِلَتِها، وَيكون الْمَعْنى: مَا كَانَ حجتَهم إِلَّا مقالتُهم، وَمن قَرَأَ (حُجّتُهم) بِالرَّفْع جعل (حجّتهم) اسْم كَانَ و {وَأَن قَالُوا} خبر كَانَ.(4/215)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
قَوْله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يخسر المبطلون} المكذبون بِالْبَعْثِ(4/216)
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
{وَترى كل أمة} يَعْنِي: كفارها؛ فِي تَفْسِير الْحسن.
{جاثية} على الرُّكَب؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} إِلَى حِسَابهَا، وَهُوَ الْكتاب الَّذِي كتبتْ عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: جثا فلَان يجثو إِذا جلس على رُكْبَتَيْهِ، وَمثله جَذَا يَجْذُو، والجَذْوُ أشدُّ استقرارًا من الجثو؛ لِأَن الجذوَ أَن يجلس صَاحبه على أَطْرَاف أَصَابِعه.
وَمن قَرَأَ {كلُّ أمةٍ} بِالرَّفْع رفع (كل) بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَر {تُدْعَى إِلَى كتابها} وَمن نصب جعله بَدَلا من (كل) الأول، الْمَعْنى: وَترى كل أُمَّةٍ {تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} .
{الْيَوْمَ تُجْزونَ} أَي: يُقَال لَهُم: الْيَوْم تُجْزونَ.
تَفْسِير سُورَة الجاثية من الْآيَة 29 إِلَى آيَة 31.(4/216)
هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
{هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أَي: ننسخ مَا فِي كتب الْحفظَة، وَنثْبت عِنْد الله - عز وَجل.
يَحْيَى: عَنْ نُعَيْمِ بْنِ يَحْيَى، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ(4/216)
قَالَ: " أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ فَقَالَ: اكْتُبْ. قَالَ: رَبِّ؛ مَا أَكْتُبُ؟ ! قَالَ: مَا هُوَ كَائِنٌ. فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".(4/217)
فَأَعْمَالُ الْعِبَادِ تُعْرَضُ كُلَّ يَوْمِ اثْنَيْنِ وخميس، فيجدونه على مَا فِي الْكتاب.(4/218)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)
قَوْله: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تكن آياتي تتلى عَلَيْكُم} يَقُول الله لَهُم يَوْم الْقِيَامَة: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا؟ ! {فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مجرمين} مُشْرِكين.
تَفْسِير سُورَة الجاثية من الْآيَة 32 إِلَى آيَة 33.(4/218)
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حق والساعة} يَعْنِي: الْقِيَامَة {لَا رَيْبَ فِيهَا} لَا شكّ فِيهَا {قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظنا} مَا نشكُّ إِلَّا شكًّا {وَمَا نَحن بمستيقنين} (ل 323) أَن السَّاعَة آتيةٌ.
قَالَ محمدٌ: [ (السَّاعَة) ترفع وتنصب فَمن] رفع فعلى معنى [الِابْتِدَاء] ،(4/218)
وَمن نصبها عطف على (الْوَعْد) ، الْمَعْنى: إِذا قيل: إِن وعد الله حق وَأَن السَّاعَة [آتِيَة.
قَوْله: {إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا} قيل: الْمَعْنى: مَا نعلم ذَلِك إِلَّا شكًّا وَلَا نستيقنه؛ لِأَن الظَّن قد يكون بِمَعْنى الْعلم كَقَوْلِه: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنهم مواقعوها} أَي: علمُوا وَمثل هَذَا فِي الشّعْر - لم يثبت لأحد -:
(فَقُلْتُ: لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمُ بِالفَارِسيِّ المُسَرَّدِ)
وَقد يكون الظَّن أَيْضا بِمَعْنى الشَّك.(4/219)
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33)
قَوْله {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عمِلُوا} أَي: حِين غضب عَلَيْهِم علمُوا أَن أَعْمَالهم تِلْكَ سيئات، وَلم يَكُونُوا يرَوْنَ أَنَّهَا سيئاتٌ.
{وَحَاقَ بهم} نزل بهم {مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} كَانُوا يستهزئون بِالنَّبِيِّ وَالْمُؤمنِينَ؛ فحاق بهم عُقُوبَة ذَلِك الِاسْتِهْزَاء، فصاروا فِي النَّار.
تَفْسِير سُورَة الجاثية من الْآيَة 34 إِلَى آيَة 37.(4/219)
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)
{كَمَا نَسِيتُمْ} كَمَا تركْتُم، وَقيل: الْمَعْنى فِي (ننساكم) : نترككم {لِقَاء يومكم هَذَا} فَلم تؤمنوا(4/220)
ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
{وغرتكم الْحَيَاة الدُّنْيَا} كُنْتُم لَا تقرون بِالْبَعْثِ {فَالْيَوْمَ لَا يخرجُون مِنْهَا} من النَّار {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أَي: لَا يستعتبوا ليُعْتَبُوا؛ أَي: ليؤمنوا.(4/220)
وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
{وَله الْكِبْرِيَاء} العظمة {وَهُوَ الْعَزِيز} فِي نقمته {الْحَكِيم} فِي أمره.(4/220)
تَفْسِير سُورَة الْأَحْقَاف
وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الْأَحْقَاف من الْآيَة 1 إِلَى آيَة 5.(4/221)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)
{تَنْزِيل الْكتاب} الْقُرْآن {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} الْعَزِيز فِي نقمته، الْحَكِيم فِي أمره(4/221)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دون الله} يَعْنِي: أوثانهم {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا من الأَرْض} أَي: لم يخلقوا مِنْهَا شَيْئا {أم لَهُم شرك فِي السَّمَاوَات} هَل خلقُوا مِنْهَا شَيْئا؟ أيْ: لم يخلقوا {ائْتُونِي} يَقُول للنَّبِي: قل لَهُم: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قبل هَذَا} فِيهِ أَن هَذِه الْأَوْثَان خلقت من الأَرْض شَيْئا أم من السَّمَاوَات {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} بِهَذَا {إِن كُنْتُم صَادِقين} أَي: لَيْسَ عنْدكُمْ بِهَذَا كتاب (وَلَا أَثَرة من علم) فِي مقرأ الْحسن، وَهِي تقْرَأ (أَثْرَة) و (أَثَارة) فَمن قَرَأَ {أَثَارَةٍ} يَعْنِي: رِوَايَة، وَمن قَرَأَ {أَثَرَة} يَعْنِي: خَاصَّة.(4/221)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)
قَوْله: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ(4/221)
الْقِيَامَةِ} يَعْنِي: أوثانهم {وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} يَعْنِي: الْأَوْثَان عَن دُعَاء من عَبدهَا غافلون.
قَالَ محمدٌ: قَالَ (من) وَهُو لغير مَا يعقل؛ لِأَن الَّذين عبدوها أجروها مجْرى مَا يُمَيّز، فَخُوطِبُوا على مخاطبتهم؛ كَمَا قَالُوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زلفى} .
تَفْسِير سُورَة الْأَحْقَاف من الْآيَة 6 إِلَى آيَة 10.(4/222)
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء} الْآيَة، قَالَ الْحسن: إِن اللَّه يَجْمَعُ يَوْم الْقِيَامَة بَين كل عابدٍ ومعبود، فيوقفون بَين يَدَيْهِ، ويحشرها اللَّه بِأَعْيَانِهَا، فينطقها فتخاصم من كَانَ يَعْبُدهَا.(4/222)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} مُحَمَّد قَالَ الله: {قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد: (إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ(4/222)
تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أَي: سَوف يُعَذِّبنِي وَلَا تَسْتَطِيعُونَ أَن تَمْنَعُونِي من عَذَابه {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} من الشِّرك أَي: تتكلمون بِهِ {كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أَي: جِئْت بِالْقُرْآنِ من عِنْده وَإِنِّي لم أفتره {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} لمن آمن.(4/223)
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ} أَي: مَا كنت أَوَّلهمْ؛ قد كَانَت الرُّسُل قبلي {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ} تَفْسِير الْكَلْبِيّ: إِن النَّبِي قَالَ: " لقد رَأَيْت فِي مَنَامِي أَرضًا أَخْرجُ إِلَيْهَا من مَكَّة. فَلَمَّا اشْتَدَّ البلاءُ على أَصْحَابه بِمَكَّة قَالُوا: يَا نَبِي اللَّه، حَتَّى مَتى نلقى هَذَا الْبلَاء، وَمَتى نخرج إِلَى الأَرْض حَتَّى أُرِيتَ؟ ! فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ، أنموت بِمَكَّة أم نخرجُ مِنْهَا؟ ".
{إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَ مَا يُوحَى إِلَيَّ}(4/223)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} يَعْنِي: الْقُرْآن {وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} على مثل الْقُرْآن؛ يَعْنِي: التَّوْرَاة. قَالَ الْحسن: يَعْنِي بِالشَّاهِدِ: عبد اللَّه بن سَلام {فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الْمُشْركين؛ يَعْنِي: الَّذين يلقون اللَّه بشركهم.
تَفْسِير سُورَة الْأَحْقَاف من الْآيَة 11 إِلَى آيَة 14.(4/223)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [
(ل(4/223)
324 -)
] .(4/224)
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
{وَمن قبله} مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ {كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا} يَعْنِي: التَّوْرَاة؛ يَهْتَدُونَ بِهِ {وَرَحْمَةً} لمن آمن بِهِ {وَهَذَا كِتَابٌ} يَعْنِي: الْقُرْآن {مُصدق} للتوراة وَالْإِنْجِيل {لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أشركوا {وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} الْمُؤمنِينَ بِالْجنَّةِ.
قَالَ محمدٌ: {إِمَامًا} ، مَنْصُوب على الْحَال، {وَرَحْمَة} عطف عَلَيْهِ، و {لِسَانًا عَرَبِيًّا} منصوبٌ أَيْضا على الْحَال، الْمَعْنى: مصدقٌ لما بَين يَدَيْهِ عربيًّا وَذكر (لِسَانا) توكيدا.(4/224)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)
قَوْله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثمَّ استقاموا} على ذَلِك {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} الْآيَةُ.
يَحْيَى: عَنْ يُونُسَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ [عَامِرِ] بْنِ سَعْدٍ الْبَجَلِيِّ قَالَ: " قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ هَذِهِ الآيَةَ، فَقَالُوا: وَمَا الاسْتِقَامَةُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَمْ يشركوا ".(4/224)
تَفْسِير سُورَة الْأَحْقَاف من الْآيَة 15 إِلَى آيَة 16.(4/225)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
{وَوَصينَا الْإِنْسَان بِوَالِديهِ حسنا} يَعْنِي: برًّا {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعته كرها} حَملته بِمَشَقَّة، وَوَضَعته بِمَشَقَّة {وَحَمْلُهُ} فِي الْبَطن {وفصاله} فطامه {ثَلَاثُونَ شهرا} .
قَالَ مُحَمَّد: {حسنا} نصبٌ على الْمصدر، الْمَعْنى: أمرناه بِأَن يحسن(4/225)
إِلَيْهِمَا إحسانا. و {كرها} منصوبٌ بِمَعْنى: حَملته أمه على مشقة، وَوَضَعته على مشقة.
{حَتَّى إِذا بلغ أشده} يَعْنِي: احْتَلَمَ، وَبَعْضهمْ يَقُول: عشْرين سنة.
قَالَ محمدٌ: وَجَاء فِي الأشد هَا هُنَا أَنه بضع وَثَلَاثُونَ سنة، وَهُوَ الْأَكْثَر.
قَوْله: {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سنة} أَي: فِي سِنِّهِ {قَالَ رَبِّ أوزعني} يَعْنِي: ألهمني {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} الْآيَة.(4/226)
أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
{أُولَئِكَ الَّذين يُتقبل عَنْهُم} أَي: يتَقَبَّل اللَّه مِنْهُم {أَحْسَنَ مَا عمِلُوا} .
{فِي أَصْحَاب الْجنَّة} مَعَ أَصْحَاب الْجنَّة {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يوعدون} فِي الدُّنْيَا.
قَالَ محمدٌ: {وَعْدَ الصدْق} منصوبٌ مصدر مُؤَكد لما قبله.(4/226)
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)
{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أتعدانني أَن أخرج} أَن أبْعث {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ من قبلي} فَلم يبعثوا.
قَالَ محمدٌ: (أُفٍّ) كلمة تبرم، وَقد مضى تَفْسِيرهَا واشتقاقها بِأَكْثَرَ من هَذَا فِي سُورَة سُبْحَانَ وَسورَة الْأَنْبِيَاء.
قَالَ: {وَهُمَا يستغيثان الله وَيلك آمن} أَي: يَقُولَانِ لَهُ ذَلِك {إِنَّ وعد الله حق} الْقِيَامَة {فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} كَذِبِ الأَوَّلِينَ وَبَاطِلِهِمْ، نزلت فِي عبد الرَّحْمَن بْن أبي بكر قبل أَن يسلم، وَفِي أَبَوَيْهِ: أبي بكر الصّديق وَامْرَأَته: أم رُومَان.(4/227)
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)
قَالَ اللَّه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِم القَوْل} وَجب عَلَيْهِم الْغَضَب {فِي أُمَمٍ} أَيْ: مَعَ أُمَمٍ {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} صَارُوا إِلَى النَّار.(4/227)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)
{وَلكُل دَرَجَات مِمَّا عمِلُوا} الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُشْرِكُونَ؛ للْمُؤْمِنين دَرَجَات فِي الْجنَّة على قدر أَعْمَالهم، وللمشركين درجاتٌ فِي النَّار على قدر أَعْمَالهم.(4/227)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّار} وعرضهم فِي تَفْسِير الْحسن: دُخُولهمْ {أَذهَبْتُم} وتقرأ أَيْضا بالاستفهام بِمد: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتكُمْ فِي حَيَاتكُم الدُّنْيَا) فَمن قَرَأَهَا بِغَيْر مد يَقُول: قد فَعلْتُمْ، وَمن قَرَأَهَا بِمد فَهِيَ على الِاسْتِفْهَام ( ... .) أَي: قد فَعلْتُمْ، الْمَعْنى: أَنكُمْ أَذهَبْتُم {طَيِّبَاتِكُمْ}(4/227)
فِي الْجنَّة بشرككم {وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} يَعْنِي: بالدنيا {وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} يَعْنِي: فسق الشّرك.
قَالَ محمدٌ: قِرَاءَة نَافِع {أَذهَبْتُم} بِلَا مد على الْخَبَر، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ يحيى.
تَفْسِير سُورَة الْأَحْقَاف من الْآيَة 21 إِلَى آيَة 26.(4/228)
{وَاذْكُر أَخا عَاد} يَعْنِي: هودًا؛ أخوهم فِي النّسَب، وَلَيْسَ بأخيهم فِي الدّين {إِذْ أنذر قومه بالأحقاف} وَكَانَت مَنَازِلهمْ.
قَالَ محمدٌ: الأحقافُ فِي اللُّغَة وَاحِدهَا: حِقْفٌ، وَهُوَ من الرمل مَا أشرف من كثبانه واستطال، وَقد قيل: إِن الْأَحْقَاف هَا هُنَا: جبلٌ بِالشَّام.
{وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} وَهُوَ بَدْء كَلَام مُسْتَقْبل، يخبر اللَّه أَن النّذر قد مَضَت من بَين يَدي هود؛ أَي: من قبله {وَمن خَلفه} أَي:(4/228)
وَمن بعده يدعونَ إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ هود [ {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} ] {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَاب يَوْم عَظِيم} رَجَعَ إِلَى قصتهم (ل 325) أَي: قد فعلت(4/229)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22)
{فأتنا بِمَا تعدنا} كَانَ يعدهم [بِالْعَذَابِ] إِن لم يُؤمنُوا.(4/229)
قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23)
{قَالَ} لَهُم: {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} علم مَتى يأتيكم الْعَذَاب.(4/229)
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)
{فَلَمَّا رَأَوْهُ} رَأَوْا الْعَذَاب {عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارض مُمْطِرنَا} حسبوه سحابًا، وَكَانَ قد أَبْطَأَ عَنْهُم الْمَطَر، قَالَ اللَّه: {بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ} لما كَانُوا يستعجلون بِهِ هودًا من الْعَذَاب استهزاءً وتكذيبًا {رِيحٌ فِيهَا عَذَاب أَلِيم} موجع.(4/229)
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
قَوْله تَعَالَى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} أَي: تدمر كل شيءٍ أُمِرتْ بِهِ، وَهِي ريحُ الدَّبُور {فَأَصْبَحُوا لاَ تُرَى إِلاَ مَسَاكِنُهُمْ} يَقُوله للنَّبِي، أَي: لَا تُبْصر إِلَّا مساكنَهم(4/229)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
{وَلَقَد مكناهم فِيمَا إِن مكناهم فِيهِ} أَي: فِيمَا لم نمكنكم فِيهِ كَقَوْلِه: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأكْثر أَمْوَالًا وأولادا}
{وحاق بهم} نزل بهم {مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون} نزل بهم عُقُوبَة استهزائهم، يَعْنِي: مَا عذبهم بِهِ.
تَفْسِير سُورَة الْأَحْقَاف من الْآيَة 27 إِلَى آيَة 28.(4/229)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقرى} يَقُوله لأهل مَكَّة وَهِي أم الْقرى، مِنْهَا دُحِيت الأرضُ، وَمَا حولهَا الْبِلَاد كلهَا أخبر اللَّه بِهَلَاك من أَهْلَكَ {وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُم يرجعُونَ} لَعَلَّ مَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يَرْجِعَوا إِلَى الْإِيمَان؛ يُحَذرهُمْ.(4/230)
فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
{فلولا} فَهَلا {نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دون الله قربانا آلِهَة} يَعْنِي: آلهتَهم الَّتِي عبدوها، زَعَمُوا أَنَّهَا تقربهم إِلَى اللَّه زلفى، يَقُول: فَهَلا نصروهم إِذْ جَاءَهُم الْعَذَاب.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: اتخذوهم آلِهَة يَتَقَرَّبُون بهم إِلَى اللَّه، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ يَحْيَى.
تَفْسِيرُ سُورَة الْأَحْقَاف من الْآيَة 29 إِلَى آيَة 32.(4/230)
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنّ} أَي: وجهنا {يَسْتَمِعُون الْقُرْآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصتُوا} يَقُوله بعضُهم لبَعض {فَلَمَّا قُضِيَ} لما قَرَأَهُ النَّبِي عَلَيْهِم {ولوا} رجعُوا {إِلَى قَومهمْ منذرين} وهم جن نَصِيبين(4/230)
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)
{قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كتابا} يعنون: الْقُرْآن {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} كَانُوا على الْيَهُودِيَّة(4/230)
{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} مِنَ الْكتاب.(4/231)
وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)
{وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ} يَعْنِي: النَّبِي؛ أَي: لَا يُؤمن {فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْض} فَلَيْسَ بِالَّذِي يسْبق اللَّه حَتَّى لَا يبْعَث.
يَحْيَى: عَنِ الصَّلْتِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أبي فضَالة، عَن عَوْف بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " خَرَجْنَا حَاجِّينَ - أَوْ مُعْتَمِرِينَ - حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالطَّرِيقِ هَاجَتْ رِيحٌ، فَارْتَفَعَتْ عَجَاجَةٌ مِنَ الأَرْضِ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ عَلَى رُءُوسِنَا تَكَشَّفَتْ عَنْ جَانٍّ بَيْضَاءَ - يَعْنِي: حَيَّةً - فَنَزَلْنَا، وَتَخَلَّفَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ فَأَبْصَرَهَا، فَصَبَّ عَلَيْهَا مِنْ مِطْهَرَتِهِ، وَأَخْرَجَ خِرْقَةً مِنْ عَيْبَتِهِ فَكَفَّنَهَا فِيهَا، ثُمَّ دَفَنَهَا ثُمَّ اتَّبَعَنَا، فَإِذَا بِنِسْوَةٍ قَدْ جِئْنَ عِنْدَ الْعِشَاءِ فَسَلَّمْنَ، فَقُلْنَ: أَيُّكُمْ دَفَنَ عَمْرَو بْنَ جَابِرٍ؟ قُلْنَا: وَاللَّهِ مَا نَعْرِفُ عَمْرَو بْنَ جَابِرٍ! فَقَالَ صَفْوَانُ: أَبْصَرْتُ جَانًّا بَيْضَاءَ فَدَفَنْتُهَا. قُلْتُ: فَإِنَّ ذَلِكَ عَمْرُو بْنُ جَابِرٍ بَقِيَّةُ مَنِ اسْتمع إِلَى رَسُول الله قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ مِنَ الْجِنِّ، الْتَقَى زَحْفَانِ مِنَ الْجِنِّ: زَحْفٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَزَحْفٌ مِنَ الْكُفَّارِ، فَاسْتُشْهِدَ رَحمَه الله ".(4/231)
تَفْسِير سُورَة الْأَحْقَاف من الْآيَة 33 إِلَى آيَة 35.(4/232)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
قَوْله: {أولم يرَوا} يَعْنِي: الْمُشْركين {أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَلم يعي بخلقهن} كَقَوْلِه: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} .
قَالَ محمدٌ: دخلت الْبَاء فِي خبر (أَن) بِدُخُول (أَو لمْ) فِي أول الْكَلَام، الْمَعْنى: أَلَيْسَ اللَّه بِقَادِر على أَن يحيى الْمَوْتَى.(4/232)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّار أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} يُقَال لَهُم وهم فِي(4/232)
النَّار: أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ الَّذِي كُنْتُم توعدون فِي الدُّنْيَا؟(4/233)
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
{فاصبر كَمَا صَبر أولُوا الْعَزْم من الرُّسُل} تَفْسِير الْكَلْبِيّ يَعْنِي: من أَمر بِالْقِتَالِ من الرُّسُل {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُم} يَعْنِي: الْمُشْركين بِالْعَذَابِ.
{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يرَوْنَ مَا يوعدون} يَعْنِي: الْعَذَاب {لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَة من نَهَار بَلَاغ} [
(ل 326)
] {فَهَل يهْلك} بعد الْبَلَاغ {إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} الْمُشْركُونَ.(4/233)
تَفْسِير سُورَة مُحَمَّد صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم
وَهِي مَدَنِيَّة كلهَا
تَفْسِير سُورَة مُحَمَّد من الْآيَة 1 إِلَى آيَة 3.(4/234)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)
قَوْله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيل الله} سَبِيل الْهدى؛ يَعْنِي: الْإِسْلَام {أَضَلَّ أَعْمَالهم} أحبط أَعْمَالهم فِي الْآخِرَة؛ يَعْنِي: مَا عمِلُوا من حسن(4/234)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نزل على مُحَمَّد} صدقُوا بِهِ؛ يَعْنِي: الْقُرْآن {وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُم سيئاتهم} غفرها لَهُم {وَأصْلح بالهم} حَالهم؛ يَعْنِي: يدخلهم الْجنَّة(4/234)
ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
{ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِل} يَعْنِي: إِبْلِيس؛ اتبعُوا وسوسته بِالَّذِي دعاهم إِلَيْهِ من عبَادَة الْأَوْثَان {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ} أَي: يبين {للنَّاس أمثالهم} يَعْنِي: صِفَات أَعْمَالهم.
قَالَ محمدٌ: معنى قَول الْقَائِل: ضربت لَك مثلا؛ أَي: بيّنت لَك صنفا من الْأَمْثَال.
تَفْسِير سُورَة مُحَمَّد من الْآيَة 4 إِلَى آيَة 6.(4/234)
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرّقاب} .
يَحْيَى: عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث سَرِيَّة إِلَى حَيٍّ فَأَصَابُوهُمْ، فَصَعِدَ رَجُلٌ مِنْهُمْ شَجَرَةً مُلْتَفَّةً أَغْصَانُهَا قَالَ الَّذِي حَضَرَ: قَطَعْنَاهَا فَلا شَيْءَ، وَرَمَيْنَاهَا فَلا شَيْءَ؟ قَالَ: فَجَاءُوا بِنَارٍ فَأُضْرِمَتْ فِيهَا فَخَرَّ الرَّجُلُ مَيِّتًا فَبلغ ذَلِك رَسُول الله فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ تَغَيُّرًا شَدِيدًا، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لأُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ! وَلَكِنْ بُعِثْتُ بِضَرْبِ الأَعْنَاقِ وَالْوَثَاقِ ".
قَوْله: {حَتَّى إِذَا أثخنتموهم فشدوا الوثاق} وَهَذَا فِي الأَسْرى {فَإِمَّا مَنًّا بعد وَإِمَّا فدَاء} لم يكن لَهُم حِين نزلت هَذِه الْآيَة إِذا أخذُوا أَسِيرًا إِلَّا أَن يقادوه أَو يمنون عَلَيْهِ فيرسلوه، وَهِي مَنْسُوخَة نسختها {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بهم من خَلفهم} الْآيَة؛ فَإِن شَاءَ الإمامُ قتل الْأَسير، وَإِن شَاءَ جعله غنيمَة وَإِن شَاءَ فاداه، وَأما المنُّ بِغَيْر فدَاء فَلَيْسَ ذَلِك لَهُ.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله {أثخنتموهم} يَعْنِي: أَكثرْتُم فيهم الْقَتْل كَقَوْلِه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْض تُرِيدُونَ عرض الدُّنْيَا} أَي: يُبَالغ فِي الْقَتْل.(4/235)
وَقَوله: {فَضرب الرّقاب} منصوبٌ على الْأَمر؛ أَي: فاضربوا الرّقاب. وَقَوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فدَاء} يَعْنِي: مُنُّوا منًّا، وافدوا فدَاء {حَتَّى تضع الْحَرْب أَوزَارهَا} تَفْسِير مُجَاهِد: حَتَّى لَا يكون دينٌ إِلَّا الْإِسْلَام.
قَالَ يحيى: وفيهَا تقديمٌ؛ يَقُول: فَإِذا لَقِيتُم الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى تضع الحربُ أوزارَها.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: حَتَّى يضع أهلُ الْحَرْب السَّلَام؛ وَهُوَ الَّذِي ذهب إِلَيْهِ مُجَاهِد، وأصل الْوزر مَا حَملته، فَسُمي السِّلَاح: أوزارًا؛ لِأَنَّهُ يُحْمل، قَالَ الْأَعْشَى:
(وأَعْدَدْتُ للحربِ أَوْزَارَهَا ... رِمَاحًا طِوَالًا وَخَيْلًا ذُكُورا)
يَحْيَى: عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: " سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قُلْتُ: إِذَا كَانَ عَلِيَّ إِمَامٌ جَائِرٌ فَلَقِيتُ مَعَهُ أَهْلَ ضَلالَةٍ أَأُقَاتِلُ أَمْ لَا، لَيْسَ بِي حُبُّهُ وَلا مُظَاهَرَتُهُ؟ قَالَ: قَاتِلْ أَهْلَ الضَّلالَةِ أَيْنَمَا وَجَدْتُهُمْ، وَعَلَى الإِمَامِ مَا حَمَلَ، وَعَلَيْكَ مَا حَمَلْتَ ".
يَحْيَى: عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ جِسْرٍ الْمِصِّيصِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى ثَلاثٍ: الْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ إِلَى آخِرِ فِئَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَكُونُ هِيَ الَّتِي تُقَاتِلُ الدَّجَّالَ؛ لَا يَنْقُضُهُ جَوْرُ مَنْ جَارَ،(4/236)
وَالْكَفُّ عَنْ أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ أَنْ تُكَفِّرُوهُمْ بِذَنْبٍ، وَالْمَقَادِيرُ خَيْرُهَا وَشَرُّهَا مِنَ اللَّهِ ".
{ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُم} بِغَيْر قتال {وَلَكِن لِّيَبْلُوَا} يَبْتَلِي {بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} .
{وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} (ل 327) لن يحبطها اللَّه فَإِن أَحْسنُوا غفر لَهُم(4/237)
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)
{سيهديهم وَيصْلح بالهم} حَالهم(4/237)
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
{ويدخلهم الْجنَّة عرفهَا لَهُم} تَفْسِير مُجَاهِد: يعْرفُونَ مَنَازِلهمْ فِي الْجنَّة [ويهتدون] إِلَيْهَا.
تَفْسِير سُورَة مُحَمَّد من الْآيَة 7 إِلَى آيَة 11.(4/237)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ ينصركم} نصرتهم النَّبِي نصْرَة لله.(4/238)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)
{وَالَّذين كفرُوا فتعسا لَهُم} تَفْسِير الْحسن: أَن التَّعْسَ شتم من اللَّه لَهُم، وَهِي كلمةٌ عَرَبِيَّة.
قَالَ محمدٌ: قيل: إِن معنى (تعساً لَهُم) : بُعدًا لَهُم، وَقَالُوا: تَعِسَ الرجل، وفيهَا لُغَة أُخْرَى تَعَسَ بِفَتْح العيْن، وأَتْعَسْتُهُ أَنا؛ أَي: أشقيته، وتعسًا منصوبٌ على معنى: أتعسهم الله.
{وأضل أَعْمَالهم} أحبطَ مَا كَانَ مِنْهَا حسنا.(4/238)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ الله} الْقُرْآن(4/238)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قبلهم} أَي: أهلكهم اللَّه {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} يَعْنِي: عَاقِبَة الَّذين تقوم عَلَيْهِم السَّاعَة: كفار آخر هَذِه الْأمة؛ يهْلكُونَ بالنفخة الأولى.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: وللكافرين أَمْثَالهَا؛ أَي: أَمْثَال تِلْكَ الْعَاقِبَة.(4/238)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)
{ذَلِك بِأَن الله مولى} يَعْنِي: وليّ (الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى(4/238)
لَهُمْ} لَا وليَّ لَهُم إِلَّا الشَّيْطَان؛ فَإِنَّهُ وليُّهم، وَقَوله فِي غير هَذِه السُّورَة: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحق} فَمَعْنَاه: مالكهم، وَلَيْسَ هُوَ من بَاب ولَايَة الله للْمُؤْمِنين.
تَفْسِير سُورَة مُحَمَّد من الْآيَة 12 إِلَى آيَة 14.(4/239)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ} {فِي الدُّنْيَا} (وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ} وَهِي غافلة عَن الْآخِرَة {وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} أَي: منزلٌ، يَعْنِي: الَّذين كفرُوا.(4/239)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)
{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} أَي: وَكم من قَرْيَة {هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً} أَهلهَا أشدُّ قُوَّة {مِّن قَرْيَتِكَ} من أهل قريتك {الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} أخرجك أَهلهَا؛ يَعْنِي: مَكَّة.(4/239)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} وَهَذَا الْمُشرك؛ أَي ليسَا بِسَوَاء.
تَفْسِير سُورَة مُحَمَّد من الْآيَة 15 إِلَى آيَة 17.(4/239)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
{مَثَلُ الْجَنَّةِ} صفة الْجنَّة {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاء غير آسن} أَي: متغيِّر.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: أَسَنَ الماءُ يَأْسُنُ أُسُونًا وأَسْنًا.
{وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طعمه} أَي: لم يخرج من ضلوع الْمَوَاشِي فيتغيّر {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّة للشاربين} .
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: {لذه} أَي: لذيذة، يُقَال: شرابٌ لَذُّ إِذا كَانَ طيِّبًا.
{وَأَنْهَارٌ مِنْ عسل مصفى} لم يخرج من بطُون النَّحْل {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} إِلَى قَوْله: {فَقطع أمعاءهم} وَهَذَا على الِاسْتِفْهَام، يَقُول: أَهَؤُلَاءِ المتقون الَّذين وُعِدُوا الْجنَّة فِيهَا مَا وصف {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّار} على مَا وصف؟ ! أَي: لَيْسُوا بِسَوَاء.(4/240)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)
{وَمِنْهُم من يستمع إِلَيْك} يَعْنِي: الْمُنَافِقين {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعلم مَاذَا قَالَ آنِفا} كَانُوا يأْتونَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَمِعُون حَدِيثه من غير حِسْبَة وَلَا يفقهُونَ حَدِيثه؛ فَإِذا خَرجُوا من عِنْده قَالُوا لعبد اللَّه بْن مَسْعُود: مَاذَا قَالَ محمدٌ آنِفا؟ لمْ يفقهوا مَا قَالَ النَّبِي.
قَالَ مُحَمَّد: {أنفًا} مَعْنَاهُ: السَّاعَة.
قَالَ اللَّه للنَّبِي: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} .(4/240)
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
{وَالَّذين اهتدوا زادهم هدى} كلما جَاءَهُم من اللَّه شيءٌ صدقوه؛ فَزَادَهُم ذَلِك هدى {وَآتَاهُمْ} أَعْطَاهُم {تقواهم} جعلهم متقين.
تَفْسِير سُورَة مُحَمَّد من الْآيَة 18 إِلَى آيَة 19.(4/240)
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)
{فَهَل ينظرُونَ} أَي: فَمَا ينتظرون {إِلا السَّاعَةَ} النفخة الأولى الَّتِي يهْلك اللَّه بِهَا كُفَّارُ آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ {أَن تأتيهم بَغْتَة} فَجْأَة {فقد جَاءَ أشراطها} كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم من أشراطها، وأشراطها كثير، مِنْهَا انْشِقَاق الْقَمَر، ورَجْمُ الشَّيَاطِين بالنجوم.
قَالَ محمدٌ: معنى (أشراطها) : أعلامها، الْوَاحِد مِنْهَا شَرَطٌ - بِالتَّحْرِيكِ - وَأنْشد بَعضهم:
(فَإنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ بالصَّرْمِ بَيْنَنَا ... فقد جَعَلَتْ أَشْرَاطُ أَوّلهِ تَبْدُو)
يَحْيَى: عَنْ أَبِي الأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ السَّاعَةِ [كَهَاتَيْنِ. فَمَا فَضَّلَ إِحْدَاهُمْا عَلَى الأُخْرَى، وَجَمَعَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَالَّتِي يَقُولُ النَّاسُ: السَّبَّابَةُ] ".(4/241)
(ل 328) يَحْيَى: عَنْ خَدَاشٍ، عَنْ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حِينَ بُعِثَ إِلَيَّ بُعِثَ إِلَى صَاحِبِ الصُّورِ فَأَهْوَى بِهِ إِلَى فِيهِ، وَقَدَّمَ رِجْلًا وَأَخَّرَ أُخْرَى، يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرْ يَنْفُخْ، أَلَا فَاتَّقُوا النَّفْخَةَ ".
{فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} أَي: فَكيف لَهُم تَوْبَتهمْ إِذا جَاءَتْهُم السَّاعَة؟ ! أَي: أَنَّهَا لَا تقبل مِنْهُم(4/242)
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
{وَالله يعلم متقلبكم} فِي الدُّنْيَا {ومثواكم} إِذا صرتم إِلَيْهِ، والمثوى: الْمنزل الَّذِي يثوون فِيهِ لَا يزولون عَنهُ.
تَفْسِير سُورَة مُحَمَّد من الْآيَة 20 إِلَى آيَة 24.(4/242)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20)
{وَيَقُول الَّذين آمنُوا لَوْلَا} هلا {نُزِّلَتْ سُورَةٌ} {محكمَة} أَي: مفروضٌ فِيهَا الْقِتَال.
{رَأَيْتَ الَّذين فِي قُلُوبهم مرض} يَعْنِي: الْمُنَافِقين {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ من الْمَوْت} خوفًا وكراهية لِلْقِتَالِ {فَأَوْلَى لَهُمْ} هَذَا وعيدٌ من اللَّه لَهُم، ثمَّ انْقَطع الْكَلَام.(4/242)
طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)
قَوْله: {طَاعَة} أَي: طاعةٌ لله وَرَسُوله {وَقَوْلٌ مَعْرُوف} خير مِمَّا أضمروا(4/242)
من النِّفَاق {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ} بِالْجِهَادِ فِي سَبِيل اللَّه {فَلَوْ صدقُوا الله} فَكَانَ بَاطِن أَمرهم وَظَاهره صدقا {لَكَانَ خيرا لَهُم} يَعْنِي: بِهِ الْمُنَافِقين.(4/243)
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)
قَالَ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} عَمَّا فِي قُلُوبكُمْ من النِّفَاق حَتَّى تظهروه شركا {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْض وتقطعوا أَرْحَامكُم} أَي: تقتلُوا قرابتكم.
قَالَ محمدٌ: قَرَأَ نَافِع {عَسِيتُمْ} بكَسْر السِّين، وَقَرَأَ غير وَاحِد من الْقُرَّاء بِالْفَتْح، وَهِي أَعلَى اللغتين وأفصحهما؛ ذكره أَبُو عبيد.(4/243)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)
{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ} عَن الْهدى (وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ عَنهُ(4/243)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)
{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} أَي: أَن على قُلُوبهم أقفالها؛ وَهُوَ الطَّبْع.
تَفْسِير سُورَة مُحَمَّد من الْآيَة 25 إِلَى آيَة 29.(4/243)
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)
{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} من بعد مَا أعْطوا الْإِيمَان، وَقَامَت عَلَيْهِم الْحجَّة بِالنَّبِيِّ وَالْقُرْآن، يَعْنِي: الْمُنَافِقين {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} {زين لَهُم} (وَأَمْلَى لَهُمْ} قَالَ الْحسن: يَعْنِي: وسوس(4/243)
إِلَيْهِم أَنكُمْ تعيشون فِي الدُّنْيَا بِغَيْر عَذَاب، ثمَّ تموتون فتصيرون إِلَى غير عَذَاب(4/244)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بعض الْأَمر} أَي: فِي الشّرك وافقوهم على الشّرك؛ فِي السِّرِّ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إسرارهم} .
قَالَ مُحَمَّد: من قَرَأَ بِفَتْح الْألف فَهُوَ جمع (سر) .(4/244)
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)
{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوههم وأدبارهم} تَفْسِير الْحسن: {توفتهم الْمَلَائِكَة} حشرتهم إِلَى النَّار {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأدبارهم} فِي النَّار.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: فَكيف تكون حالُهم إِذا فعلت الْمَلَائِكَة هَذَا بهم؟ !(4/244)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مرض} وهم المُنَافِقُونَ {أَنْ لَنْ يُخْرِجَ الله أضغانهم} يَعْنِي: مَا يكنون فِي صُدُورهمْ من الشّرك.
تَفْسِير سُورَة مُحَمَّد من الْآيَة 30 إِلَى آيَة 31.(4/244)
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
{وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} يَعْنِي: نعتهم من غير أَن تعرفهم {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} يَعْنِي: تَعَلُّلَهم وَمَا كَانُوا يَعْتَذِرُونَ بِهِ من الْبَاطِل فِي الغَزْوِ، وَفِيمَا يكون مِنْهُم من القَوْل، ثمَّ أخبرهُ اللَّه بهم، فَلم يخف على رَسُول الله بعد هَذِه الْآيَة منافقٌ، وأَسَرَّهم النَّبِي إِلَى حُذَيْفَة.
قَالَ محمدٌ: (فِي لحن القَوْل) أَي: فِي لحن كَلَامهم وَمَعْنَاهُ، وأصل الْكَلِمَة(4/244)
من قَوْلهم: لَحِنْتُ أَي: بيَّنتُ، وأَلْحَنْتُ الرجلَ فَلَحِنَ؛ أَي: فهَّمتُه ففهم.
{وَالله يعلم أَعمالكُم} من قبل أَن تعملوا.(4/245)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} وَهَذَا علم الفَعَال {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} أَي: نختبركم؛ فنعلم من يصدق فِيمَا أَعْطي من الْإِيمَان وَمن يكذب.
تَفْسِير سُورَة مُحَمَّد من الْآيَة 32 إِلَى آيَة 35.(4/245)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)
{وشاقوا الرَّسُول} فارقوه وعادوه {مِنْ بَعْدِ مَا تبين لَهُم الْهدى} من بعد مَا قَامَت عَلَيْهِم الحُجَّة {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} بكفرهم {وسيحبط أَعْمَالهم} .(4/245)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)
{وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} تَفْسِير السُّدي: لَا تُحْبطوا أَعمالكُم.(4/245)
فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
{فَلَا تهنوا} (ل 329) لَا تضعفوا فِي الْجِهَاد {وَتَدْعُوا إِلَى السّلم} الصُّلْح، أَي: لَا تدعوا إِلَى الصُّلْح {وَأَنْتُم الأعلون} أَي: منصورون؛ بقوله للْمُؤْمِنين {وَالله مَعكُمْ} ناصركم {وَلنْ يتركم أَعمالكُم} أَي: لن ينقصكم(4/245)
شَيْئا من ثَوَاب أَعمالكُم.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: وَتَرْتَنِي حقِّي: أَي بَخَسْتَنِيه، وَهُوَ الوِتْر بِكَسْر الْوَاو والتِّرَةُ أَيْضا.
يَحْيَى: عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حَسَنَةً يُثَابُ عَلَيْهَا الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا، وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ " مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ.
تَفْسِيرُ سُورَة مُحَمَّد من الْآيَة 36 إِلَى آيَة 38.(4/246)
إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36)
قَوْله: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهو} أَي: إِن أهل الدُّنْيَا؛ يَعْنِي: الْمُشْركين الَّذين لَا يُرِيدُونَ غَيرهَا أهل لَهْوٍ ولعبٍ.
{وَإِنْ تُؤْمِنُوا وتتقوا يُؤْتكُم أجوركم} ثوابكم {وَلَا يسألكم أَمْوَالكُم} يَعْنِي: النَّبِي(4/246)
إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)
{إِن يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ} بِالْمَسْأَلَة {تبخلوا} أَي: لَو سألكم أَمْوَالكُم لبخلتم بهَا {وَيخرج أضغانكم} عداوتكم.(4/246)
قَالَ محمدٌ: يُقَال: أَحْفاني بِالْمَسْأَلَة؛ أَي: ألح.(4/247)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
{هَا أَنْتُم هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ الله فمنكم من يبخل} بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيل اللَّه؛ يَعْنِي: الْمُنَافِقين {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَفسه وَالله الْغَنِيّ} عَنْكُم {وَأَنْتُم الْفُقَرَاء} إِلَيْهِ؛ يَعْنِي: جمَاعَة النَّاس {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} عَن الْإِيمَان {يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} ويهلككم بالاستئصال {ثُمَّ لَا يَكُونُوا أمثالكم} أَي: يَكُونُوا خيرا مِنْكُم؛ يَقُوله للْمُشْرِكين.(4/247)
تَفْسِير سُورَة الْفَتْح وَهِي مَدَنِيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الْفَتْح من الْآيَة 1 إِلَى آيَة 5.(4/248)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)
قَوْله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبينًا} إِلَى قَوْله: {مُسْتَقِيمًا} .
يَحْيَى: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم عَن مَرْجِعِهِ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَصْحَابِهِ مُخَالِطُو الْحُزْنَ وَالْكَآبَةِ، قَدْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنَاسِكِهِمْ وَنَحَرُوا الْهَدْيَ بِالْحُدَيْبِيَةِ. فَقَالَ: لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا! فَلَمَّا تَلاهَا عَلَيْهِمْ، قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: هَنِيئًا مَرِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَنَا مَا يَفْعَلُ بِكَ، فَمَاذَا يَفْعَلُ بِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} إِلَى قَوْله: {فوزا عَظِيما} .(4/248)
قَالَ محمدٌ: قَوْله: {فَتَحْنَا لَكَ فتحا مُبينًا} قبل: الْمَعْنى: قضينا لَك بِإِظْهَار دين الْإِسْلَام والنصرة على عَدوك، وحكمنا لَك بذلك، وَيُقَال للْقَاضِي: الفتاح، وَالْحُدَيْبِيَة اسمُ بِئْر يُسَمَّى بِهِ الْمَكَان.(4/249)
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
قَوْله: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} يذل بِهِ أعداءك(4/250)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
{هُوَ الَّذِي أنزل} يَعْنِي: أثبت {السكينَة} الْوَقار، فِي تَفْسِير الْحسن {فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانهم} أَي: تَصْدِيقًا مَعَ تصديقهم، يَعْنِي: يصدقونه بِكُل مَا أُنْزِلَ من الْقُرْآن.
{وَللَّه جنود السَّمَاوَات وَالْأَرْض} ينْتَقم لبَعْضهِم من بعض.(4/250)
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)
{وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيما} وَهِي النجَاة من النَّار إِلَى الْجنَّة.
تَفْسِير سُورَة الْفَتْح من الْآيَة 6 إِلَى آيَة 9.(4/250)
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)
قَوْله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} كَانُوا يَقُولُونَ: يهلكُ محمدٌ وَأَصْحَابه وَدينه {عَلَيْهِم دَائِرَة السوء} يَعْنِي: الْهَلَاك فِي الْآخِرَة {وَسَاءَتْ مصيرا} أَي: وبئست الْمصير.(4/250)
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
{وَكَانَ الله عَزِيزًا} فِي نقمته {حكيما} فِي أمره.(4/250)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8)
{إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا} على أمتك {وَمُبشرا} بِالْجنَّةِ {وَنَذِيرا} من النَّار(4/250)
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)
{لتؤمنوا بِاللَّه وَرَسُوله} يَقُوله للنَّاس {وتعزروه} أَي: وتنصروه {وتوقروه} أَي: وتعظموه؛ يَعْنِي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تَفْسِير الْكَلْبِيّ {وتسبحوه} تسبِّحوا اللَّه: تصلوا لَهُ {بُكْرَةً وَأَصِيلا} بكرَة: صَلَاة الصُّبْح، وَأَصِيلا: صَلَاة الظّهْر وَالْعصر.
تَفْسِير سُورَة الْفَتْح من الْآيَة 10 إِلَى آيَة 13.(4/250)
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} من بَايع رَسُول الله فَإِنَّمَا يُبَايع اللَّه، وَهَذَا يَوْم الْحُدَيْبِيَة، وَهِي بيعَة الرضْوَان؛ بَايعُوهُ على أَلا يَفروا {يَدُ اللَّهِ فَوق أَيْديهم} تَفْسِير السُّدي يَقُول: فعل اللَّه بهم الْخَيْر أفضل من فعلهم فِي أَمر الْبيعَة.
يَحْيَى: عَنِ ابْن لَهِيعَة (
(ل 330)) يَوْم بيعَة رَسُول الله تَحْتَ الشَّجَرَةِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ إِلَى قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، فَلَمَّا رَاثَ عَلَيْهِ - أَيْ: أَبْطَأَ عَلَيْهِ - ظن رَسُول الله أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ غُدِرَ بِهِ فَقُتِلَ؛ فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: إِنِّي لَا أَظُنُّ عُثْمَانَ إِلا قَدْ غُدِرَ بِهِ؛ فَإِنْ فَعَلُوا فَقَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ، فَبَايِعُونِي عَلَى الصَّبْرِ وَأَلا تَفِرُّوا ".
قَوْله: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا ينْكث على نَفسه} أَي: فَمن نكث؛ يَعْنِي: يرجع مُحَمَّد فَإِنَّمَا ينْكث على نَفسه {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فسيؤتيه أجرا عَظِيما} يَعْنِي: الْجنَّة.(4/251)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)
{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ} يَعْنِي: الْمُنَافِقين المتخلِّفين عَن الْجِهَاد؛ فِي تَفْسِير الْحسن {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} خِفْنَا عَلَيْهِم الضَّيْعَةَ، فَذَلِك الَّذِي منعنَا أَن نَكُون مَعَك فِي الْجِهَاد.
{فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم} أَي: يَعْتَذِرُونَ بِالْبَاطِلِ {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِن أَرَادَ بكم ضرا} أَن يهلككم بنفاقكم فيدخلكم النَّار {أَو أَرَادَ بكم نفعا} أَن يَرْحَمكُمْ بِإِيمَان يَمُنُّ بِهِ عَلَيْكُم، وَقد أخبر نبيَّه بعد هَذِه الْآيَة أَنه لَا يَتُوب عَلَيْهِم فِي قَوْله: {لن يغْفر الله لَهُم} .(4/252)
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)
{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} كَانَ المُنَافِقُونَ يَقُولُونَ: لن يرجع مُحَمَّد إِلَى الْمَدِينَة أبدا {وَكُنْتُمْ قَوْمًا بورا} يَعْنِي: فاسدين.
قَالَ محمدٌ: البور فِي بعض اللُّغَات: الفاسدُ، يُقَال: أَصبَحت أَعْمَالهم بورًا؛ أَي: مُبْطَلة، وأصبحت ديارُهم بورًا؛ أَي: معطلة خرابا.
تَفْسِير سُورَة الْفَتْح من الْآيَة 14 إِلَى آيَة 15.(4/252)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)
{وَللَّه ملك السَّمَاوَات وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ من يَشَاء} وَلَا يَشَاء أَن يغْفر إِلَّا لمن تَابَ من الشّرك وَبرئ من النِّفَاق، ويعذِّب من أَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى(4/252)
يَمُوت {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (لمن) آمن.(4/253)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِم لتأخذوها} وهم المُنَافِقُونَ: {ذرونا} يَقُولُونَهُ للْمُؤْمِنين {نتبعكم} وَهَذَا حِين أَرَادوا أَن يخرجُوا إِلَى خَيْبَر أَحبُّوا الْخُرُوج ليصيبوا من الْغَنِيمَة، وَقد كَانَ اللَّه وعدها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يتركْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحدا من الْمُنَافِقين يخرج مَعَه إِلَى خَيْبَر أمره اللَّه بذلك، وَإِنَّمَا كَانَت لمن شهد بيعَة الرضْوَان يَوْم الْحُدَيْبِيَة {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قل لن تتبعونا} أَي: لن تخْرجُوا مَعنا {كَذَلِكُمْ قَالَ الله من قبل} أَلا تخْرجُوا {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} إِنَّمَا تمنعوننا من الْخُرُوج مَعكُمْ للحسد، قَالَ اللَّه: {بَلْ كَانُوا لَا يفقهُونَ إِلَّا قَلِيلا} عَن اللَّه، ثمَّ اسْتثْنى الْمُؤمنِينَ فَقَالَ: {إِلَّا قَلِيلا} فهم الَّذين يفقهُونَ عَن اللَّه.
تَفْسِير سُورَة الْفَتْح من الْآيَة 16 إِلَى آيَة 17.(4/253)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} والبأس: الْقِتَال.
{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} أَي: تقاتلونهم على الْإِسْلَام.
قَالَ الْحسن وَمُجاهد: هم أهل فَارس {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ من قبل} قَالَ الْكَلْبِيّ: يَوْم الْحُدَيْبِيَة.(4/253)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
عَذَر اللَّه عِنْد ذَلِك أهلَ الزّمانة فَقَالَ: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حرج} إثمٌ {وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ} أَن يتخلَّفوا عَن الْغَزْوَة {وَلا على الْمَرِيض حرج} فَصَارَت رخصَة لَهُم فِي الْغَزْو، وَوضع عَنْهُم.
تَفْسِير سُورَة الْفَتْح من الْآيَة 18 إِلَى آيَة 23.(4/254)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة} قَالَ جَابر بْن عبد اللَّه: " كَانَت سَمُرةً بَايَعْنَاهُ تحتهَا وَكُنَّا أَربع عشرَة مائَة - يُرِيد ألفا وَأَرْبَعمِائَة - وَعمر آخذٌ بِيَدِهِ فَبَايَعْنَاهُ كلنا غير جد بْن قيس اخْتَبَأَ تَحت إبط بعيره. قَالَ جَابر: وَلم نُبَايِع عِنْد شَجَرَة إِلَّا الشَّجَرَة الَّتِي بِالْحُدَيْبِية ".
قَالَ: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبهم} أَنهم صَادِقُونَ {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} تَفْسِير الْحسن: السكينَة: الْوَقار {وَأَثَابَهُمْ فتحا قَرِيبا} خَيْبَر(4/254)
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)
(وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً(4/254)
يَأْخُذُونَهَا} يَأْخُذهَا الْمُؤْمِنُونَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة(4/255)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)
{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} .
{وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ} وهم أَسد وغَطَفَان كَانُوا خَيْبَر، وَكَانَ (ل 331) اللَّه قد وعد نبيه خَيْبَر؛ فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يوجهوا راياتهم إِذا هموا إِلَى غطفان وَأسد ذَلِك، فَألْقى اللَّه فِي قُلُوبهم الرعب، فَهَرَبُوا من تَحت ليلتهم فَهُوَ قَوْله: {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُم} إِلَى آخر الْآيَة؛ هَذَا تَفْسِير الْكَلْبِيّ.(4/255)
وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)
قَوْله: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} {بعد} (قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} يَقُول: أعلم أَنكُمْ ستظفرون بهَا وتفتحونها؛ يَعْنِي: كل غنيمَة يغنمها الْمُسلمُونَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة(4/255)
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22)
{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فِي تِلْكَ الْحَال {لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا} يمنعهُم من ذَلِك الْقَتْل الَّذِي يقتلهُمْ الْمُؤْمِنُونَ {وَلاَ نَصِيرًا} ينتصر لَهُم(4/255)
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)
{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ} أَي: بقتل من أظهر الشّرك؛ إِذْ أَمر النَّبِي بِالْقِتَالِ.
قَالَ محمدٌ: {سُنَّةَ اللَّهِ} مَنْصُوب بِمَعْنى: سنّ اللَّه سنة.
تَفْسِير سُورَة الْفَتْح من الْآيَة 24 إِلَى آيَة 26.(4/255)
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بعد أَن أَظْفَرَكُم عَلَيْهِم} قَالَ الكَلْبي: كَانَ هَذَا يَوْم الْحُدَيْبِيَة؛ فَإِن الْمُشْركين من أهل مَكَّة كَانُوا قَاتلُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ شيءٌ من رمْي نَبْلٍ وحجارة بَين الْفَرِيقَيْنِ ثمَّ هزم اللَّه الْمُشْركين وهم بِبَطن مَكَّة، فهُزِمُوا حَتَّى دخلُوا مَكَّة، ثمَّ كفّ الله بَعضهم عَن بعض.(4/256)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِد الْحَرَام} صدّ الْمُشْركُونَ رَسُول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَيْت، فَنحر وَنحر أَصْحَابه الْهَدْي بِالْحُدَيْبِية، وَهُوَ قَوْله: {وَالْهَدْي معكوفا} أَي: مَحْبُوسًا {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} .
قَالَ محمدٌ: يُقَال: عَكَفْتُه عَن كَذَا إِذا حبَسْته، وَمِنْه: العاكف فِي الْمَسْجِد، إِنَّمَا هُوَ الَّذِي يَحْبِس نَفسه فِيهِ: والمحِلُّ: المَنْحَرُ. وَنصب (وَالْهَدْي) على معنى: صدوكم وصدوا الهَدْيَ معكوفًا.
{وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مؤمنات} بِمَكَّة يدينون بالتقية {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ} فتقتلوهم {فتصيبكم مِنْهُم معرة} إِثْم {بِغَيْر علم} أَي: فتقتلوهم بِغَيْر علم {لِيُدْخِلَ الله فِي رَحمته} يَعْنِي: الْإِسْلَام {من يَشَاء}(4/256)
فيسلموا، وَقد فعل اللَّه ذَلِك.
قَالَ الله: {لَو تزيلوا} أَي: زَالَ الْمُسلمُونَ من الْمُشْركين، وَالْمُشْرِكُونَ من الْمُسلمين، فَصَارَ الْمُشْركُونَ مَحْضًا {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عذَابا أَلِيمًا} أَي: لسلطناكم عَلَيْهِم فَقَتَلْتُمُوهُمْ.(4/257)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبهم الحمية} هم الْمُشْركُونَ؛ صدوا نبيَّ اللَّه يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وحُبِسَ الْهَدْي أَن يبلغ مَحَله، وَإِنَّمَا حملهمْ على ذَلِك حمية الجاهية والتَّمَاسُك بهَا {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كلمة التَّقْوَى} لَا إِلَه إِلَّا اللَّه {وَكَانُوا أَحَق بهَا وَأَهْلهَا} فِي الدُّنْيَا، وَعَلَيْهَا وَقع الثَّوَاب فِي الْآخِرَة.
تَفْسِير سُورَة الْفَتْح من الْآيَة 27 إِلَى آيَة 28.(4/257)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ} كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم - فِي تَفْسِير الْكَلْبِيّ - رأى فِي الْمَنَام فِي خُرُوجه إِلَى الْمَدِينَة كَأَنَّهُ بمكَة، وَأَصْحَابه قد حَلقُوا وَقصرُوا؛ فَأخْبر رَسُول الله بذلك الْمُؤمنِينَ، فاستبشروا وَقَالُوا: وَحْيٌ. فَلَمَّا رَجَعَ رَسُول الله من الْحُدَيْبِيَة ارتاب نَاس؛ فَقَالُوا: رأى فَلم يكن الَّذِي رأى، فَقَالَ اللَّه - عز وَجل -: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ الله آمِنين} .(4/257)
قَالَ محمدٌ: ذكر بعض الْعلمَاء أَن الْعَرَب تستثني فِي الْأَمر الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ، وَمِنْه قَول اللَّه - عز وَجل -: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِد الْحَرَام} فعزم لَهُم بِالدُّخُولِ، وَاسْتثنى فِيهِ.
قَالَ يحيى: وَكَانَ رَسُول الله صَالح الْمُشْركين على أَن يرجع عَامه ذَلِك، وَيرجع من قَابل، وَيُقِيم بِمَكَّة ثَلَاثَة أَيَّام، فَنحر رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه الْهَدْي بالحُدَيبية، وحلقوا وَقصرُوا ثمَّ أدخلهُ اللَّه الْعَام الْمقبل مَكَّة وَأَصْحَابه آمِنين فحلقوا وَقصرُوا.
{فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبا} فتح خَيْبَر.(4/258)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدين الْحق} (ل 332) الْإِسْلَام {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} تَفْسِير الْحسن: حَتَّى يحكم على الْأَدْيَان. وَتَفْسِير ابْن عَبَّاس: حَتَّى يظْهر النَّبِي على الدّين كُله؛ أَي: على شرائع الدّين كلهَا، فَلم يقبض رَسُول الله حَتَّى أتم الله ذَلِك.
تَفْسِير سُورَة الْفَتْح الْآيَة 29.(4/258)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} يَعْنِي: متوادين {تراهم ركعا سجدا} يَعْنِي: الصَّلَوَات الْخمس {يَبْتَغُونَ فَضْلا من الله ورضوانا} بِالصَّلَاةِ والصَّوْم وَالدّين كُله {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} قَالَ بَعضهم: سِيمَاهُمْ فِي الآخرين يقومُونَ غرًّا مُحجَّلين من أَثَرِ الْوضُوء {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ}(4/258)
أَي: نَعْتُهم {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} أَي: ونعتهم فِي الْإِنْجِيل {كَزَرْعٍ أخرج شطأه} النَّعْت الأول فِي التَّوْرَاة، والنعت الآخر فِي الْإِنْجِيل و (شطأه) : فِرَاخه {فآزره} فشده {فاستغلظ} أَي: فَاشْتَدَّ {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} أَي: أُصُوله
قَالَ محمدٌ: يُقَال: قد أشطأ الزَّرْع فَهُوَ مُشْطِئ إِذا أفرخ.
وَمعنى (آزره) : أَعَانَهُ وَقواهُ، و (السُّوق) جمع: سَاق.
{يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بهم الْكفَّار} أَي: يخرجُون فيكونون قَلِيلا كالزرع حِين يخرج ضَعِيفا فيكثرون ويَقْوَوْن، فشبَّههم بالزرْع يعجب الزراع ليغيظ بهم الْكفَّار. يَقُول: إِنَّمَا يفعل ذَلِك بهم ليغيظ بهم الْكفَّار {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} يَعْنِي: الْجنَّة.(4/259)
تَفْسِير سُورَة الحجرات
وَهِي مَدَنِيَّة كلهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الحجرات من الْآيَة 1 إِلَى آيَة 3.(4/260)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
قَوْله: {يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدي الله وَرَسُوله} الْآيَة، تَفْسِير مُجَاهِد: تفتاتوا على رَسُول الله بِشَيْء حَتَّى يَقْضِيه اللَّه على لِسَانه.
قَالَ محمدٌ: يُقَال فلَان يقدم بَين يَدي الإِمَام وَبَين يَدي أَبِيه؛ أَي: يعجل بِالْأَمر وَالنَّهْي.(4/260)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الْآيَة، تَفْسِير الْحسن: أَن نَاسا من الْمُنَافِقين كَانُوا يأْتونَ النَّبِي فيرفعون أَصْوَاتهم فَوق صَوته، يُرِيدُونَ بذلك أَذَاه وَالِاسْتِخْفَاف بِهِ، فنسبهم إِلَى مَا أعْطوا من الْإِيمَان فِي الظَّاهِر، فَقَالَ: {يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} يَقُول: لَا تَقولُوا: يَا مُحَمَّد، وَقُولُوا: يَا رَسُول الله، وَيَا نَبِي اللَّه {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} .
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: فَيكون ذَلِك سَببا لِأَن تحبط أَعمالكُم.(4/260)
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُول الله} فيعظمونه بذلك؛ فَلَا يرفعونها عِنْده {أُولَئِكَ الَّذين امتحن الله قُلُوبهم} أخْلص الله قُلُوبهم {للتقوى} .
تَفْسِير سُورَة الحجرات من الْآيَة 4 إِلَى آيَة 5.(4/261)
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)
قَوْله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاء الحجرات} الْآيَة، تَفْسِير الْكَلْبِيّ: بلغنَا أَن نَاسا من بَني العَنْبر، وَكَانَ رَسُول الله وَأَصْحَابه قد أَصَابُوا من ذَرَارِيهمْ فَأَقْبَلُوا ليقادوهم، فقدموا الْمَدِينَة ظُهْرًا فَإِذا هم بذراريهم عِنْد بَاب الْمَسْجِد، فَبكى إِلَيْهِم ذَرَارِيهمْ فنهضوا فَدَخَلُوا الْمَسْجِد، وعجلوا أَن يخرج إِلَيْهِم النَّبِي، فَجعلُوا يَقُولُونَ: يَا مُحَمَّد، اخْرُج إِلَيْنَا.(4/261)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
قَالَ اللَّه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُم} تَفْسِير الْحسن: وَلَو أَنهم صَبَرُوا حَتَّى تخرج إِلَيْهِم؛ فعظموك ووقروك، لَكَانَ لَهُم خيرا.
تَفْسِير سُورَة الحجرات من الْآيَة 6 إِلَى آيَة 8.(4/261)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} الْآيَة، تَفْسِير الْكَلْبِيّ: بلغنَا أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بعث الْوَلِيد بْن عقبَة إِلَى بني المصطلق وهم حيٌّ من خُزَاعَة؛ ليَأْخُذ مِنْهُم صَدَقَاتهمْ، فَفَرِحُوا بذلك وركبوا يَلْتمسونه، فَبَلغهُ أَنهم قد(4/261)
ركبُوا يتلقونه، وَكَانَ بَينهم وَبَين الْوَلِيد ضِغْنٌ فِي الْجَاهِلِيَّة، فخاف الْوَلِيد أَن يَكُونُوا إِنَّمَا ركبُوا إِلَيْهِ ليقتلوه، فَرجع إِلَى رَسُول الله وَلم يلقهم فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن بني المصطلق منعُوا صَدَقاتهم، وَكَفرُوا بعد إسْلَامهمْ قَالُوا: يَا رَسُول الله، إِلَيْنَا (ل 333) إِنَّمَا رده غَضَبه غضِبْته علينا؛ فَإنَّا نَعُوذ بِاللَّه من غَضَبه وَغَضب رَسُوله. فَأنْزل اللَّه [عذرهمْ] فِي هَذِه الْآيَة.(4/262)
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} مُقيما بَيْنكُم؛ فَلَا تضلون مَا قبلتم مِنْهُ {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كثير من الْأَمر لعنتم} أَي: فِي دينكُمْ، العنتُ: الْحَرج والضيق {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَان وزينه فِي قُلُوبكُمْ} بِمَا وَعدكُم عَلَيْهِ من الثَّوَاب {وَكره إِلَيْكُم الْكفْر والفسوق} الفسوق والعصيان واحدٌ {أُولَئِكَ هُمُ الراشدون} الَّذين حبب إِلَيْهِم الْإِيمَان(4/262)
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
{فضلا من الله ونعمة} أَي: بِفضل من اللَّه وَنعمته فعل ذَلِك بهم {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بخلقه {حَكِيم} فِي أمره.
تَفْسِير سُورَة الحجرات من الْآيَة 9 إِلَى آيَة 10.(4/262)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا بَينهمَا} تَفْسِير الْكَلْبِيّ: بلغنَا(4/262)
" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم أقبل على حمارٍ حَتَّى وقف فِي مجْلِس من مجَالِس الْأَنْصَار؛ فكره بعض الْقَوْم موقفه، وَهُوَ عبد الله بْن أبي ابْن سلول الْمُنَافِق، فَقَالَ لَهُ: خل لنا سَبِيل الرّيح من نَتن هَذَا الْحمار، أُفٍّ {وَأمْسك بِأَنْفِهِ، فَمضى رَسُول الله وَغَضب لَهُ بعض الْقَوْم، وَهُوَ عبد الله بْن رَوَاحَة فَقَالَ: ألرسول اللَّه قلت هَذَا القَوْل؟} فواللَّه لَحِمَارهُ أطيبُ ريحًا مِنْك! فاستبًّا ثمَّ اقتتلا واقتتلت عشائرهما، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله، فَأقبل يصلح بَينهمَا؛ فكأنهم كَرهُوا ذَلِك، فَنزلت هَذِه الْآيَة: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا} .
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: {اقْتَتَلُوا} يُرِيد جَمَاعَتهمْ، وَقَوله: {بَينهمَا} يُرِيد الطَّائِفَتَيْنِ.
تَفْسِير سُورَة الحجرات من الْآيَة 11 إِلَى آيَة 12.(4/263)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ من قوم} تَفْسِير مُجَاهِد: لَا يهزأ قوم بِقوم وَرِجَال من رجال {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفسكُم} أَي: لَا يطعن بعضُكُم على بعض {وَلَا تنابزوا بِالْأَلْقَابِ} تَفْسِير الْحسن: يَقُول الرّجُل للرجل - قد كَانَ يهوديًّا(4/263)
أَو نصرانيًّا؛ فَأسلم -: يَا يَهُودِيّ، يَا نَصْرَانِيّ، أَي: يَدعُونَهُ باسمه الأول، ينْهَى اللَّه الْمُؤمنِينَ عَن ذَلِك وَقَالَ: {بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بعد الْإِيمَان} بئس الِاسْم: الْيَهُودِيَّة والنصرانية بعد الْإِسْلَام.
قَالَ محمدٌ: الألقاب والإنباز وَاحِد، الْمَعْنى: لَا تتداعَوْا بهَا، وَهُوَ تَفْسِير الْحسن.(4/264)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} تَفْسِير الْحسن: إِذا ظَنَنْت بأخيك الْمُسلم ظنًّا حسنا؛ فَأَنت مأجورٌ، وَإِذا ظَنَنْت بِهِ ظنًّا سَيِّئًا؛ فَأَنت آثم {وَلَا تجسسوا} لَا يتَّبع الرجل عَوْرة أَخِيه الْمُسلم. يَحْيَى: عَنِ النَّضْرِ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَّلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا فَنَادَى بِصَوْتٍ أَسْمَعَ الْعَوَاتِقَ فِي الْخُدُورِ: يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِقَلْبِهِ، أَلا لَا تُؤْذُوا الْمُؤْمِنِينَ وَلا تُعِيبُوهُمْ وَلا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ؛ وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ فَضَحَهُ فِي بَيْتِهِ ". قَوْله: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فكرهتموه} قَالَ الْكَلْبِيُّ: " إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لقوم اغتابوا رجليْن: أيحبُّ أحدكُم أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا بَعْدَمَا يَمُوت؟ ! فَقَالُوا: لَا وَالله يَا رَسُول الله، مَا نستطيع أَكْله وَلَا نحبه. فَقَالَ رَسُول الله: فاكرهوا الْغَيْبَة ". يَحْيَى: عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ(4/264)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا ذَكَرْتَ أَخَاكَ بِمَا فِيهِ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِذَا ذَكَرْتَهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَقَدْ بَهته ".
تَفْسِير سُورَة الحجرات من الْآيَة 13 إِلَى آيَة 18.(4/265)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
{وجعلناكم شعوبا وقبائل} تَفْسِير بَعضهم: الشعوب: الْأَجْنَاس،(4/265)
والقبائل: قبائل الْعَرَب.
قَالَ محمدٌ: وَاحِد الشعوب: شَعب - بِفَتْح الْعين - والشَّعْب بالكسْر: الطَّرِيق؛ يَعْنِي: فِي الْجَبَل.
{لتعارفوا} ثمَّ انْقَطع الْكَلَام، ثمَّ قَالَ: {إِن أكْرمكُم عِنْد الله} يَعْنِي: فِي الْمنزلَة {أَتْقَاكُم} (فِي الدُّنْيَا) .(4/266)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
{قَالَت الْأَعْرَاب آمنا} يَعْنِي: الْمُنَافِقين (ل 334) من {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسلمنَا} تَفْسِير قَتَادَة: وَلَكِن قُولُوا: السَّيْف {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تطيعوا الله وَرَسُوله} فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة {لَا يَلِتْكُمْ} لَا ينقصكم {مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} .(4/266)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُوله ثمَّ لم يرتابوا} يشكوا {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} بِمَا أعْطوا من الْإِيمَان مُخْلصة بِهِ قُلُوبهم، لَيْسَ كَمَا صنع المُنَافِقُونَ.(4/266)
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)
{قل أتعلمون الله بدينكم} يَعْنِي: الْمُنَافِقين أَي: إنّ دينكُمْ الَّذِي تضمرون هُوَ الشّرك.(4/266)
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)
{يمنون عَلَيْك أَن أَسْلمُوا} تَفْسِير الْحسن: هَؤُلَاءِ مُؤمنُونَ وَلَيْسوا بمنافقين، وَلَكنهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لرَسُول الله: أسْلَمْنا قبل أَن يسلم بَنو فلَان، وقاتلنا مَعَك قبل أَن يُقَاتل بَنو فلَان؛ فَأنْزل اللَّه {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أَي: إِن كُنْتُم صَادِقين عُرِفْتُم بِالصّدقِ، إِن المنَّة لله وَلِرَسُولِهِ عَلَيْكُم.(4/267)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
{إِن الله يعلم غيب السَّمَاوَات وَالْأَرْض} سر السَّمَاوَات وَالأَرْضِ {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .(4/267)
تَفْسِير سُورَة ق وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير الْآيَات من 1 وَحَتَّى 11 من سُورَة ق.(4/268)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)
قَوْله {ق} تَفْسِير بَعضهم: هُوَ جبل مُحِيط بالدنيا.(4/268)
قَالَ محمدٌ: وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هُوَ جبل أَخْضَر من زمرد، خضرَة السَّمَاء مِنْهُ. وَذكر قطرب أَن قِرَاءَة الْحسن {ق} بِالْجَزْمِ.
قَالَ يحيى: وبَعْضُهم يجر قَاف وَالْقُرْآن الْمجِيد؛ يَجعله على الْقسم، وَمعنى (الْمجِيد) : الْكَرِيم على اللَّه، وَمن جزم جعل الْقسم من (وَالْقُرْآن الْمجِيد) .
قَالَ الْحسن: وَقع الْقسم على تعجْب الْمُشْركين مِمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد.(4/269)
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)
قَوْله: {بل عجبوا} أَي: لقد عجبوا؛ يَعْنِي: الْمُشْركين {أَن جَاءَهُم مُنْذر مِنْهُم} يَعْنِي: النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُم فِي النّسَب ينذر من عَذَاب اللَّه {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} أَي: عجب(4/269)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)
{أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا} على الِاسْتِفْهَام {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} يُنكرُونَ الْبَعْث؛ أَي: إِنَّه لَيْسَ بكائن،(4/269)
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)
قَالَ اللَّه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تنقص الأَرْض مِنْهُم} مَا تَأْكُل الأَرْض مِنْهُم إِذا مَاتُوا، تَأْكُل كل شيءٍ إِلَّا عَجْبَ الذَّنَب {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} تَفْسِير بَعضهم: يَقُول: هُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ(4/269)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
{فهم فِي أَمر مريج} مُلْتبسٍ؛ يَعْنِي: فِي شّكٍ من الْبَعْث.(4/269)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)
{كَيفَ بنيناها وزيناها} يَعْنِي: بالكواكب {وَمَا لَهَا من فروج} من شقوق.(4/269)
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)
{وألقينا فِيهَا رواسي} الرواسِي: الْجبَال أَثْبَتَ بهَا الأرضَ {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بهيج} حسن، وكل مَا ينْبت فِي الأَرْض فالواحد مِنْهُ زوج(4/269)
تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)
{تبصرة}(4/269)
أَي: يتفكر فِيهِ الْمُؤمن، فَيعلم أَن الَّذِي خلق هَذَا قادرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى، وَأَنْ مَا وعد اللَّه من الْآخِرَة حق.
قَالَ مُحَمَّد: (تبصرة) منصوبٌ بِمَعْنى: فصَّلنا ذَلِك للتبصرة، وليدل على الْقُدْرَة.
{وَذِكْرَى لِكُلِّ عبد منيب} مقبل إِلَى اللَّه بإخلاص لَهُ(4/270)
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
{فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} وَهُوَ كل مَا يحصد؛ فِي تَفْسِير الْحسن.
قَالَ محمدٌ: (حب الحصيد) الْمَعْنى: الْحبّ الحصيد، فأضاف الْحبّ إِلَى الحصيد؛ كَمَا يُقَال: صَلَاة الأولى؛ يُرَاد الصَّلَاة الأولى، وَمَسْجِد الْجَامِع؛ يُرَاد المسجدُ الْجَامِع.(4/270)
وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)
قَوْله: {وَالنَّخْل باسقات} يَعْنِي: طوَالًا.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: بسق الشَّيْء بُسُوقًا إِذا طَال.
{لَهَا طلع نضيد} أَي: منضودٌ بعْضُه فَوق بعض(4/270)
رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
{رزقا للعباد} أَي: أنبتناه رزقا للعباد {وَأَحْيَيْنَا بِهِ} بالمطر {بَلْدَة مَيتا} يابسة لَيْسَ فِيهَا نَبَات فأنبتت {كَذَلِك الْخُرُوج} الْبَعْثَ. يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا مَنِيًّا كمني الرِّجَال ينْبت بِهِ جسمانهم ولحمانهم، كَمَا ينْبت الأَرْض الثرى.
تَفْسِير الْآيَات من 12 وَحَتَّى 15 من سُورَة ق.(4/270)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12)
{كذبت قبلهم} قبل يَوْمك يَا محمدُ {قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرس} الرس: بِئْر كَانَ (ل 335) عَلَيْهَا قوم فنسبوا إِلَيْهَا.(4/271)
وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13)
{وإخوان لوط} إخْوَان فِي النّسَب لَا فِي الدّين {وَأَصْحَاب الأيكة} الغيضة وَقد فسرنا أَمرهم فِي سُورَة الشُّعَرَاء(4/271)
وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)
{وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحق وَعِيد} يَقُول: جَاءَتْهُم الرُّسُل يَدعُونَهُمْ إِلَى الْإِيمَان، ويحذرونهم الْعَذَاب، فكذبوهم فَجَاءَهُمْ الْعَذَاب، يحذر بِهَذَا مُشْركي الْعَرَب(4/271)
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
{أفعيينا بالخلق الأول} تَفْسِير الْحسن: يَعْنِي: خلق آدمَ، أَي: لم يعي بِهِ {بَلْ هم فِي لبس} فِي شكٍّ {مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} يَعْنِي: الْبَعْث.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: لم يعي بالخلق الأول، وَكَذَلِكَ لَا يعيى بالخلق الثَّانِي وَهُوَ الْبَعْث، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ الْحسن، وَيُقَال: عَيِيَ بأَمْره يَعْيَى عَيَاءً، وأعيا فِي الْمَشْي إعياء.
تَفْسِير الْآيَات من 16 وَحَتَّى 22 من سُورَة ق.(4/271)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا توسوس بِهِ نَفسه} مَا تحدث بِهِ نَفسه(4/271)
{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} وَهُوَ نِيَاط الْقلب.
قَالَ محمدٌ: الوريد عرقٌ فِي بَاطِن الْعُنُق، وَالْحَبل هُوَ الوريد؛ فأضيف إِلَى نَفسه لاخْتِلَاف لَفْظِي اسْمه.(4/272)
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)
قَوْله: {إِذْ يتلَقَّى المتلقيان} يَعْنِي: الْملكَيْنِ الكاتبيْن. قَالَ محمدٌ: يَعْنِي: يَلْتَقِيَانِ مَا يعمله ويَكْتُبَانه.
{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قعيد} أَي: رصيده يرصده(4/272)
مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيب عتيد} أَي: حَافظ حَاضر يكتبان كل مَا يلفظ بِهِ.
قَالَ محمدٌ: {قعيد} أَرَادَ قعيدًا من كل جَانب، فَاكْتفى بِذكر وَاحِد إِذْ كَانَ دَلِيلا على الآخر، وقعيد بِمَعْنى قَاعد، كَمَا يُقَال: قدير وقادر.(4/272)
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
{وَجَاءَت سكرة الْمَوْت بِالْحَقِّ} بِالْبَعْثِ؛ أَي: يَمُوت ليَبْعَث. قَوْله: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} تهرب، قَالَ الْحسن: هُوَ الْكَافِر لم يكن شَيْء أبْغض إِلَيْهِ من الْمَوْت(4/272)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)
{ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعيد} يَعْنِي: الْمَوْعُود(4/272)
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)
{وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وشهيد} سائق يَسُوقهَا إِلَى الْجنَّة أَو النَّار، وَشَاهد يشْهد عَلَيْهَا بعملها، وَتَفْسِير بَعضهم: هُوَ ملكه الَّذِي كتب عمله فِي الدُّنْيَا هُوَ شَاهد عَلَيْهِ بِعَمَلِهِ.(4/272)
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فكشفنا عَنْك غطاءك} غطاء الْكفْر {فبصرك الْيَوْم} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة {حَدِيد} أَي: بصيرٌ.(4/272)
قَالَ مُحَمَّد: {حَدِيد} فِي معنى: حاد، كَمَا يُقَال: حفيظٌ وحافظ: وَيُقَال: حدَّ بَصَره.
تَفْسِير الْآيَات من 23 وَحَتَّى 30 من سُورَة ق.(4/273)
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)
{وَقَالَ قرينه} هُوَ الْملك الَّذِي كَانَ يكْتب عمله {هَذَا مَا لدي} أَي: عِنْدِي {عتيد} أَي: حَاضر؛ يَعْنِي: مَا كتب عَلَيْهِ.
قَالَ مُحَمَّد: (عتيد) يجوز الرّفْع فِيهِ بِمَعْنى هُوَ عتيد.(4/273)
أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)
قَالَ اللَّه: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كل كفار عنيد} أَي: معاند للحق مجتنبه(4/273)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)
{مناع للخير} لِلزَّكَاةِ (مُعْتَد) هُوَ من قِبَل العُدوان {مُرِيبٍ} أَيْ: فِي شَكٍّ مِنَ الْبَعْثِ.
قَالَ محمدٌ: قَوْله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّم} قيل: يحْتَمل - وَالله أعلم - أَن يكون عَنَى السَّائِق والشهيد؛ لقَوْله: {مَعهَا سائق وشهيد} فيكونا هما المأمورين، وَيحْتَمل أَن يكون وَاحِدًا، وَهِي لُغَة بني تَمِيم تَقول: اذْهبا يَا رجل، واذهبا يَا قوم، وَقَالَ الشَّاعِر:(4/273)
(فَإِنْ تَزْجُراني يَا ابْنَ مَرْوَان أَزْدَجِرْ ... وإنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضًا ممنعا)
وَجَاء ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {فَقُلْنَا اذْهَبَا} قَالَ: يُرِيد مُوسَى وَحده. قَالَ ابْن عَبَّاس: وَقَوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّم} هُوَ من هَذَا.(4/274)
قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27)
{قَالَ قرينه} يَعْنِي: شَيْطَانه {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} أَي: مَا أضللته بسُلْطان كَانَ لي عَلَيْهِ {وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} {من الْهدى(4/274)
قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)
2 -! (قَالَ لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ) {عِنْدِي} (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ) {فِي الدُّنْيَا(4/274)
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
2 -! (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} أَي: قد قضيت مَا أَنا قَاض(4/274)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
{يَوْمَ يَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} تَفْسِير مُجَاهِد: وعدها ليملأها، فَقَالَ: أوفيتُكِ؟ فَقَالَت: أَو هَل من مَسْلَك؟ أَي: قد امْتَلَأت.
قَالَ مُحَمَّد: {يَوْم} نصب على معنى [وَاذْكُرْ] يَوْم يَقُول، وَقد يكون على معنى: مَا يُبَدَّل القَوْل لدي فِي ذَلِك الْيَوْم. وَالله أعلم بِمَا أَرَادَ.
تَفْسِير الْآيَات من 31 وَحَتَّى 35 من سُورَة ق.(4/274)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)
{وأزلفت الْجنَّة} أَي: أدنيت {لِلْمُتَّقِينَ} .(4/275)
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)
{هَذَا مَا توعدون} يَعْنِي: الْجنَّة {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} (ل 336) الأواب: الرَّاجِع عَن ذَنبه(4/275)
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)
{وَجَاء بقلب منيب} أَي: لَقِي الله.(4/275)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)
{ادخلوها بِسَلام} تَفْسِير السُّدي: تَقوله لَهُم الْمَلَائِكَة {ذَلِك يَوْم الخلود} .
يَحْيَى: عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: " إِذَا دَخَلَ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلَ النَّارِ النَّارَ، نَادَى مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، خُلُودٌ فَلا مَوْتٌ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلا مَوْتٌ ".(4/275)
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
{لَهُم مَّا يَشَاءُونَ} إِذا اشتهوا الشَّيْء جَاءَهُم من غير أَن يدعوا بِهِ {وَلَدَيْنَا مزِيد} .
يَحْيَى: عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بن عبد الله ابْن عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " سَارِعُوا إِلَى الْجَمْعِ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ -(4/275)
عَزَّ وَجَلَّ - يَبْرُزُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فِي كَثِيبٍ مِنْ كَافُورٍ أَبْيَضَ، فَيَكُونُونَ مِنْهُ فِي الْقُرْبِ كَمُسَارَعَتِهِمْ إِلَى الْجَمْعِ فِي الدُّنْيَا، فَيُحْدِثُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ شَيْئًا لَمْ يَكُونُوا رَأَوْهُ قَبْلَ ذَلِكَ ".
قَالَ يحيى: وسمعتُ غير المَسْعُودِيّ يزِيد فِيهِ: وَهُوَ قَوْله: {ولدينا مزِيد} .
يحيى: عَن خَالِد، عَن عَمْرو بْن عُبيد، عَن بكر بْن عبد الله الْمُزنِيّ، قَالَ:(4/276)
" إِن أهل الْجنَّة ليَروْن رَبهم فِي مِقْدَار كل عيد هُوَ لكم - كَأَنَّهُ يَقُول: فِي كل سَبْعَة أَيَّام - مرّة، فَيَأْتُونَ ربَّ الْعِزَّة فِي حُلَلٍ خُضر (وُجُوههم مشرقة) وأساور من ذهب مُكَلَّلةٍ بالدُّر والزُّمُرُّد وَعَلَيْهِم أكاليل (الدّرّ) ويركبون نجائبهم ويستأذنون على رَبهم فَيدْخلُونَ عَلَيْهِ؛ فيأمر لَهُم رَبنَا بالكرامة ".
قَالَ يَحْيَى: وَأَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فِي كَثِيبٍ مِنْ كَافُورٍ لَا يُرَى طَرْفَاهُ، وَفِيهِ نَهْرٌ جَارٍ حَافَّتَاهُ الْمِسْكُ عَلَيْهِ جَوَارٍ يَقْرَأْنَ الْقُرْآنَ بِأَحْسَنِ أَصْوَاتٍ سَمِعَهَا الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ؛ فَإِذَا انْصَرَفُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ أَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مَا شَاءَ مِنْهُنَّ، ثُمَّ يَمُرُّونَ عَلَى قَنَاطِرَ مِنْ لُؤْلُؤٍ إِلَى مَنَازِلِهِمْ، فَلَوْلا أَنَّ اللَّهَ يَهْدِيهِمْ إِلَى مَنَازِلِهِمْ مَا اهْتَدَوْا إِلَيْهَا؛ لِمَا يُحْدِثُ اللَّهُ لَهُمْ فِي كل يَوْم جُمُعَة ".
تَفْسِير الْآيَات من 36 وَحَتَّى 38 من سُورَة ق.(4/277)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)
وَقَوله: {وَكم أهلكنا قبلهم} يَعْنِي: قبل مُشْركي الْعَرَب (مِّن قَرْنٍ هُمْ(4/277)
أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا} يَعْنِي: قُوَّة {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلاَدِ} أَي: جوّلوا؛ فِي قِرَاءَة من قَرَأَهَا بالتثقيل، يَقُول: جوَّلوا فِي الْبِلَاد حِين جَاءَهُم الْعَذَاب، وَمن قَرَأَهَا بِالتَّخْفِيفِ يَقُول: فجالوا فِي الْبِلَاد {هَلْ مِن مَّحِيصٍ} هَل من ملْجأ يلجئون إِلَيْهِ من عَذَاب اللَّه، فَلم يَجدوا ملْجأ حَتَّى هَلَكُوا.
قَالَ محمدٌ: (نقبوا فِي الْبِلَاد) أَي: طافوا وفتَّشوا، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ يحيى، وَمثله قَول امْرِئ الْقَيْس:
(وَقَدْ نَقَّبْتُ فِي الآفاقِ حَتَّى ... رَضِيتُ مِنَ الغَنِيمَةِ بِالإِيَابِ)(4/278)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
قَوْله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} وَهُوَ الْمُؤمن {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} تَفْسِير مُجَاهِد: أَو ألْقى السّمع، وَالْقلب شَهِيد.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: اسْتمع كتاب اللَّه وَهُوَ شاهدُ الْقلب والفهم، لَيْسَ بغافلٍ وَلَا ساهٍ، وَهَذَا مَا أَرَادَ مُجَاهِد.(4/278)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} وَالْيَوْم مِنْهَا ألف سنة {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} من إعياء؛ وَذَلِكَ أَن الْيَهُود - أعداءُ اللَّه - قَالَت: لما فرغ اللَّه من خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض أعيى فاستلقى وَوضع إِحْدَى رجليْه على الْأُخْرَى استراح. فَأنْزل اللَّه: {وَلَقَد خلقنَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض} الْآيَة، لَيْسَ كَمَا قَالَت الْيَهُود.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْأَجْوَدُ فِي الْقِرَاءَةِ (لغوب) بِضَم اللَّام يُقَال مِنْهُ: لَغَبَ -(4/278)
بِفَتْح الْغَيْن - لَغَبًا ولُغُوبًا، وَفِيه لُغَة أُخْرَى: لَغِبَ - بِكَسْر الْغَيْن - واللغوب: الإعياء.
تَفْسِير الْآيَات من 39 وَحَتَّى 40 من سُورَة ق.(4/279)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)
{فاصبر على مَا يَقُولُونَ} مَا يَقُول لَك قَوْمك: أَنَّك سَاحِرٌ، وَإِنَّكَ شَاعِرٌ، وَإِنَّكَ كَاهِنٌ، وَأَنَّك مَجْنُون، وَأَنَّك كَاذِب {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقبل الْغُرُوب} تَفْسِير الْحسن: يَعْنِي: صَلَاة الصُّبْح وَالظّهْر وَالْعصر(4/279)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
{وَمن اللَّيْل فسبحه} يَعْنِي: صَلاةَ الْمَغْرِبِ وَصَلاةَ الْعِشَاءِ (ل 237) {وأدبار السُّجُود} .
يَحْيَى: عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: " سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ {أدبار السُّجُود} فَقَالَ: هُمَا (الرَّكْعَتَيْنِ) بَعْدَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ، وَسُئِلَ عَنْ (إِدْبَارَ النُّجُومِ) فَقَالَ: هُمَا الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ صَلاةِ الصُّبْحِ ".(4/279)
قَالَ محمدٌ: وَمن قَرَأَ {وإدبار} بكسْر الْألف فعلى الْمصدر، يَقُول: أدبر إدباراً.
تَفْسِير الْآيَات من 41 وَحَتَّى 45 من سُورَة ق.(4/280)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41)
قَوْله: {واستمع} أَي: إِنَّك ستستمع {يَوْمَ يُنَادِ المناد من مَكَان قريب} والمنادي: صَاحب الصُّور، يُنَادي من الصَّخْرَة من بَيت الْمُقَدّس؛ فِي تَفْسِير(4/280)
قَتَادَة. قَالَ: وَهِي أقرب الأَرْض إِلَى السَّمَاءِ بِثَمَانِيَةَ عَشْرَ مِيلًا.(4/281)
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)
{تشقق الأَرْض عَنْهُم سِرَاعًا} إِلَى الْمُنَادِي - صَاحِبِ الصُّورِ - إِلَى بَيت الْمُقَدّس قَالَ عز وَجل: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} هَين(4/281)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
{نَحن أعلم بِمَا يَقُولُونَ} أَنَّك شاعرٌ، وَأَنَّك ساحرٌ، وَأَنَّك كاهِنٌ، وَأَنَّك كاذبٌ، وأنّك مجْنُونٌ؛ أَي: فسيجزيهم بذلك النَّار {وَمَا أَنْت عَلَيْهِم بجبار} بربٍّ تجبرهم على الْإِيمَان.
قَالَ محمدٌ: وَقد قيل: لَيْسَ هُوَ من: أجبرت الرَّجُل على الْأَمر إِذا قهرته عَلَيْهِ، لَا يُقَال من ذَلِك فعَّال؛ والجبار: الْملك، سمي بذلك؛ لتجبره، فَالْمَعْنى على هَذَا: لست عَلَيْهِم بِمَلِكٍ مسلَّطٍ، إِنَّمَا يُؤْمِنُ مَنْ يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُؤمن، وَهَذِه مَنْسُوخَة نسختها الْقِتَال.
{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِي} وَهُوَ الْمُؤمن يقبل التَّذْكِرَة، أَي: إِنَّمَا يقبل نَذَارتك بِالْقُرْآنِ من يخَاف وعيدي؛ أَي: وعيدي بالنَّار.(4/281)
تَفْسِير سُورَة والذاريات وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير الْآيَات من 1 وَحَتَّى 14 من سُورَة الذاريات.(4/282)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)
قَوْله: {والذاريات ذَروا} وَهِي الرِّيَاح، ذروها: جريها(4/282)
فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2)
{فَالْحَامِلَات وقرا} السَّحَاب(4/282)
فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3)
{فَالْجَارِيَات يسرا} السفن تجْرِي بتيسير الله(4/282)
فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)
{فَالْمُقَسِّمَات أمرا} الْمَلَائِكَة.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: ذَرَتِ الرّيح تَذْرُو ذرْوًا إِذا فَرَّقَت التُّرَاب وَغَيره فَهِيَ ذاريةٌ. وَفِيه لُغَة أُخْرَى: أَذْرَت فَهِيَ مُذْرِية ومُذْرِيات للْجَمَاعَة.
وَمعنى {فَالْحَامِلَات وقرا} : أَن السَّحَاب تحمل الوِقْر من المَاء. وَرَأَيْت فِي تَفْسِير ابْن عَبَّاس أَن معنى {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} أَن اللَّه قسم للْمَلَائكَة الْفِعْل.
قَالَ يحيى: أقسم بِهَذَا كُله(4/282)
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5)
{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} لصدق، يَعْنِي: يَوْم الْبَعْث(4/282)
وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
{وَإِنَّ الدِّينَ الْحساب (لَوَاقِعٌ} لكائن.(4/282)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7)
{وَالسَّمَاء ذَات الحبك} تَفْسِير ابْن عَبَّاس: يَعْنِي: استواءها. وَتَفْسِير غَيره مثل حُبُك المَاء إِذا هَاجَتْ الرّيح، وَمثل حبك الزَّرْع إِذا أَصَابَته الرّيح.
قَالَ مُحَمَّد: الحبك عِنْد أهل اللُّغَة: الطرائق (الْإِنَاء الْقَائِم) إِذا ضَربته الرّيح فَصَارَت فِيهِ طرائق لَهُ حُبُك، وَكَذَلِكَ الرمل إِذا هبَّتْ عَلَيْهِ الرّيح فرأيتَ فِيهِ الطرائق فَذَلِك حُبُكه، وَاحِدهَا: حِبَاكٌ مثل مِثَال ومُثُل، وَيكون واحدُها أَيْضا: حبيكة مثل: طَريقَة وطرق.(4/283)
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)
{إِنَّكُم لفي قَول مُخْتَلف} أَي: لفي اخْتِلَاف من الْبَعْث(4/283)
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
{يؤفك عَنهُ من أفك} يُصَدُّ عَنهُ من صُدَّ عَن الْإِيمَان بِهِ(4/283)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)
{قتل} أَي: لعن {الخراصون} الَّذين يكذبُون بِالْبَعْثِ وَذَلِكَ مِنْهُم تخرص(4/283)
الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11)
{الَّذين هم فِي غمرة} أَي: فِي غَفلَة. وَقيل: فِي حيرة {ساهون} أَي: لاهون لَا يُحِقُّونه.
قَالَ محمدٌ: تَقول: تخرص على فلَان الْبَاطِل إِذا كذب، وَيجوز أَن يكون الخراصون الَّذين يتظنَّوْن الشَّيْء لَا يُحِقُّونه؛ فيعملون بِمَا لَا يَدْرُونَ صِحَّته.(4/283)
يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12)
{يسْأَلُون أَيَّانَ يَوْم الدّين} أَي: مَتى يَوْم الدّين؟ وَذَلِكَ مِنْهُم استهزاء وَتَكْذيب، أَي: لَا يكون.(4/283)
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)
قَالَ اللَّه: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّار يفتنون} يحرقون بهَا.
قَالَ محمدٌ: (يَوْم) مَنْصُوب بِمَعْنى: يَقع الْجَزَاء {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} .(4/283)
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
{ذوقوا فتنتكم} حريقكم {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُون} فِي الدُّنْيَا، لما كَانُوا يستعجلون بِالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا استهزاءً وتكذيبًا.
قَالَ محمدٌ: يُقَال للحجارة السود الَّتِي يحرق بهَا قد احترقت بالنَّار الفتين. تَفْسِير سُورَة الذاريات من آيَة 15 إِلَى آيَة 23(4/284)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} وَهِي الْأَنْهَار(4/284)
آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)
{آخذين مَا آتَاهُم} أَعْطَاهُم {رَبهم} فِي الْجنَّة.
قَالَ محمدٌ: (آخذين) نصبٌ على الْحَال الْمَعْنى: فِي جناتٍ وعيون فِي حَال أَخذهم مَا آتَاهُم (ل 833) رَبهم.(4/284)
كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)
{كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يهجعون} تَفْسِير الْحسن: يَقُول: كَانُوا لَا ينامون مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا.(4/284)
وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)
{وبالأسحار هم يَسْتَغْفِرُونَ} .
يَحْيَى: عَنْ خَالِدٍ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " قَالَ الله: إِن من أَحَبَّ أَحِبَّائِي إِلَيَّ الْمَشَّائِينَ إِلَى الْمَسَاجِدِ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ(4/284)
الْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، أُولَئِكَ الَّذِينَ إِذَا أَرَدْتُ أَهْلَ الأَرْضِ بِسُوءٍ فَذَكَرْتُهُمْ صَرَفْتُهُ عَنْهُمْ بِهِمْ ".
قَالَ محمدٌ: قَوْله: {وَمَا يهجعون} جَائِز أَن تكون (مَا) مُؤَكدَة صلَة، وَجَائِز أَن يكون مَا بعْدهَا مصدرا، الْمَعْنى: كَانُوا قَلِيلا من اللَّيْل هُجُوعُهم.
{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حق للسَّائِل والمحروم} السَّائِل: الَّذِي يسْأَل، والمحروم فِي تَفْسِير الْحسن: المتعفِّف الْقَاعِد فِي بَيته الَّذِي لَا يسْأَل.(4/285)
وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)
قَوْله: {وَفِي الأَرْض آيَات} أَي: فِيمَا خلق اللَّه فِيهَا آياتٌ {لِلْمُوقِنِينَ} .(4/285)
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)
{وَفِي أَنفسكُم} أَي: فِي بَدْء خَلْقكم من ترابٍ؛ يَعْنِي: آدم ثمَّ خلق نَسْله من نُطْفَة {أَفَلا تُبْصِرُونَ} يَقُوله للْمُشْرِكين(4/285)
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)
{وَفِي السَّمَاء رزقكم} الْمَطَر فِيهِ أرزاقُ الخَلْقِ {وَمَا توعدون} تَفْسِير بَعضهم يَعْنِي: من الْوَعْد والوعيد من(4/285)
السَّمَاء(4/286)
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
{فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْض إِنَّه} أقسم بنفْسه إِن هَذَا الْقُرْآن {لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} .
قَالَ محمدٌ: من نصب (مِثْلَ) فجائزٌ أَن يكون على التوكيد بِمَعْنى: إِنَّه لحقٌ حقًّا مثل نطقكم.
تَفْسِير سُورَة الذاريات من الْآيَة 24 إِلَى أَيَّة 30.(4/286)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)
{هَل أَتَاك} أَي: قد أَتَاك {حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيم الْمُكرمين} عِنْد اللَّه بالمنزلة والقربة؛ يَعْنِي: الْمَلَائِكَة الَّذين نزلُوا بِهِ فبشروه بِإسْحَاق، وَجَاءُوا بِعَذَاب قوم لوط(4/286)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)
{إِذْ دخلُوا عَلَيْهِ} فِي صُورَة الْآدَمِيّين {فَقَالُوا سَلامًا} أَي: سلمُوا عَلَيْهِ {قَالَ سَلامٌ} رد عَلَيْهِم {قوم منكرون} أنكرهم حِين لمْ يَأْكُلُوا من طَعَامه.
قَالَ محمدٌ: {قَالُوا سَلامًا} منصوبٌ [بِتَقْدِير] . سلّمنا عَلَيْك سَلاما.
وَقَوله: {قَالَ سَلام} مَرْفُوع بِمَعْنى: قَالَ: سلامٌ عَلَيْكُم، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى: أمرنَا سَلام.(4/286)
فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)
قَوْله: {فرَاغ} فَمَال {إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سمين} فَلم يَأْكُلُوا.(4/286)
قَالَ محمدٌ: معنى (راغ) . عدل إِلَيْهِم فِي خُفْيَةٍ، قَالُوا: وَلَا يكون الرَّوَاغُ إِلَّا أَن تخفي مجيئك وذهابك.
{قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ}(4/287)
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)
{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تخف وبشروه بِغُلَام عليم} إِسْحَاق.
قَالَ مُحَمَّد: (أوجس) مَعْنَاهُ: أضمر.(4/287)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)
{فَأَقْبَلت امْرَأَته فِي صرةٍ} صَيْحَة {فصكت وَجههَا} جبينها {وَقَالَت عَجُوز عقيم} قَالَت ذَلِك تعجُّبًا؛ أَي: كَيفَ تلدُ وَهِي عجوزٌ؟ !
وَقَالَ محمدٌ: (عَجُوز) مَرْفُوع بِمَعْنى: أَنا عجوزٌ، وَيُقَال: عَقُمتِ المرأةُ عُقْمًا وعَقَمًا فَهِيَ بيِّنةُ العُقُومة، ورجلٌ عقيم أَيْضا.(4/287)
قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
{قَالُوا كَذَلِك قَالَ رَبك} أَي: تلدي غُلَاما اسْمُه: إِسْحَاق.
تَفْسِير سُورَة الذاريات من الْآيَة 31 إِلَى الْآيَة 40.(4/287)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31)
{قَالَ فَمَا خطبكم} فَمَا أَمركُم؟ !(4/288)
قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32)
{قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مجرمين} مُشْرِكين؛ يعنون: قوم لوط(4/288)
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33)
{لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} قَالَ هَا هُنَا: {من طين} وَقَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {مِنْ سجيل} .
قَالَ محمدٌ: تَفْسِير ابْن عَبَّاس {من سجيل} : من آجُر} .(4/288)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)
{مسومة} أَي: مُعْلَمَة أَنَّهَا من حِجَارَة الْعَذَاب، كَانَ فِي كل حجر مِنْهَا مثل الطابع.(4/288)
فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35)
{فأخرجنا} فأنجينا {من كَانَ فِيهَا} فِي قَرْيَة لوطٍ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .(4/288)
فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)
{فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ من الْمُسلمين} يَعْنِي: أهل بَيت لوط فِي الْقَرَابَة، وَمن كَانَ مَعَه من الْمُؤمنِينَ.(4/288)
وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
قَالَ: {وَتَركنَا فِيهَا} أَي: فِي إهلاكنا إِيَّاهَا {آيَةً للَّذين يخَافُونَ الْعَذَاب الْأَلِيم} فيحذرون أَن ينزل بهم مَا نزل بهم(4/288)
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
{وَفِي مُوسَى} أَي: وَتَركنَا فِي أمْر مُوسَى {إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبين} بَين(4/288)
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)
{فَتَوَلّى بركنه} قَالَ الكَلْبي: يَعْنِي: بجُنُوده {وَقَالَ سَاحر أَو مَجْنُون} يَعْنِي: مُوسَى.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: هَذَا سَاحر أَو مَجْنُون.(4/288)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
{فنبذناهم فِي اليم} فِي الْبَحْر {وَهُوَ مليم} مُذْنِبٌ، وذنبه: الشّرك.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: ألامَ الرجُلُ إِذا أَتَى بذنب يلام عَلَيْهِ.
تَفْسِير سُورَة الذاريات من الْآيَة 41 إِلَى الْآيَة 45.(4/288)
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)
{وَفِي عَاد} أَي: وَتَركنَا فِي عادٍ أَيْضا آيَة، وَهِي مثل الأولى {إِذْ أرسلنَا عَلَيْهِم الرّيح الْعَقِيم} الَّتِي لَا تدع سحابًا وَلَا شَجرا وَهِي الدبور(4/289)
مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
{مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} {ل 239} مِمَّا مرّت بِهِ، وَهُوَ الْإِنْسَان {إِلَّا جعلته كالرميم} كرميم الشّجر.(4/289)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43)
{وَفِي ثَمُود} وَهِي مثل الأولى {إِذْ قِيلَ لَهُم تمَتَّعُوا حَتَّى حِين} إِلَى آجالكم بِغَيْر عَذَاب إِن آمنتم، وَإِن عصيتم عذبتم {فَعَتَوْا عَن أَمر رَبهم} تركُوا أمره {فَأَخَذتهم الصاعقة} الْعَذَاب {وهم ينظرُونَ} إِلَى الْعَذَاب(4/289)
فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)
{فَمَا اسْتَطَاعُوا من قيام} تَفْسِير السُّدي: فَمَا أطاقوا أَن يقومُوا للعذاب {وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} ممتنعين.
تَفْسِير سُورَة الذاريات من الْآيَة 46 إِلَى الْآيَة 53.(4/289)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
{وَقوم نوح} الْآيَة.
قَالَ محمدٌ: من قَرَأَ {قوم نوح} بِالنّصب فعلى معنى: فأخذناه وَجُنُوده، وأخذنا قوم نوح.(4/289)
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)
{وَالسَّمَاء بنيناها بأيد} بِقُوَّة.(4/289)
قَالَ مُحَمَّد: {وَالسَّمَاء بنيناها} الْمَعْنى: بنينَا السَّمَاء بنيناها.
{وَإِنَّا لموسعون} فِي الرزق(4/290)
وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)
{وَالْأَرْض فرشناها} أَي: وفرشناها كَقَوْلِه: {جَعَلَ لَكُمُ الأَرْض فراشا} و {بساطا} و {مهادا} {فَنعم الماهدون} .
قَالَ مُحَمَّد: {وَالْأَرْض فرشناها} أَي: وفرشنا الأَرْض فرشناها، قَوْله: {فَنعم الماهدون} أَي: فَنعم الماهدون نَحن.(4/290)
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
{وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} تَفْسِير الْكَلْبِيّ: هُوَ كَقَوْلِه {وَأَنَّهُ خلق الزَّوْجَيْنِ الذّكر وَالْأُنْثَى} الذّكر زوجٌ، وَالْأُنْثَى زوجٌ {لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} لكَي تذّكَّروا فتعلموا أَن الَّذِي خلق هَذِه الْأَشْيَاء واحدٌ صَمَدٌ، جعلهَا لكم آيَة فتعتبروا(4/290)
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
{فَفرُّوا إِلَى الله} إِلَى دين اللَّه، أَمر اللَّه النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يَقُوله لَهُم:
{إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} .(4/290)
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)
{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قبلهم} من قبل قَوْمك يَا مُحَمَّد، أَي: هَكَذَا مَا أَتَى الَّذين مِنْ قَبْلِهِمْ {مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحر أَو مَجْنُون} .
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: إِلَّا قَالُوا: هَذَا سَاحر أَو مَجْنُون.(4/290)
أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)
{أتواصوا بِهِ} على الِاسْتِفْهَام، أَي: لمْ يتواصَوْا بِهِ؛ لأنّ الأمَّة الأولى لم تدْرك الْأمة الْأُخْرَى، قَالَ: {بَلْ هم قوم طاغون} مشركون.(4/290)
تَفْسِير سُورَة الذاريات من الْآيَة 54 إِلَى الْآيَة 60.(4/291)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)
{فتول عَنْهُم} أَي: فَأَعْرض عَنْهُم، وَهَذَا قبل أَن يُؤمر بقتالهم {فَمَا أَنْتَ بملوم} فِي الحجَّةِ؛ فقد أقمتها عَلَيْهِم(4/291)
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} إِنَّمَا يقبل التَّذْكِرَة الْمُؤْمِنُونَ(4/291)
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا ليعبدون} أَي: ليقروا لي بالعبودية فِي تَفْسِير ابْن عَبَّاس.
قَالَ يحيى: كَقَوْلِه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ ليَقُولن الله}(4/291)
مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)
{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ} أَي: يرزقوا أنفسهم {وَمَا أُرِيدُ أَن يطْعمُون} أَي: يطعموا أحدا(4/291)
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّة المتين} الَّذِي لَا تضعف قوته(4/291)
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59)
{فَإِن للَّذين ظلمُوا} أشركوا {ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} يَعْنِي: من مضى قبلهم من الْمُشْركين، تَفْسِير سعيد بْن جُبَير: الذَّنُوبُ: السَّجْلُ.
قَالَ يحيى: والسَّجْلُ: الدَّلْوُ.
يَحْيَى: عَنْ تَمَّامِ بْنِ نَجِيحٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ(4/291)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ أَنَّ غَرْبًا مِنْ جَهَنَّمَ وُضِعَ بِالأَرْضِ لآذَى حَرُّهُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ". قَالَ تَمَّامٌ: وَالْغَرْبُ: الدَّلْوُ الْعَظِيمُ.
قَالَ محمدٌ: الذَّنُوب فِي اللُّغَة: الحظُّ والنصيبُ، وَأَصله: الدَّلْوُ الْعَظِيمَة، وَكَانُوا يستقون فَيكون لكل واحدٍ ذَنُوبٌ، فَجُعِل الذَّنوب مَكَان الْحَظ والنصيب، قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
(لَعَمْرُكَ وَالمَنَايَا غَالِبَاتٌ ... لكُلِّ بَنِي أَبٍ مِنْهَا ذَنُوبُ)
قَوْله: {فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} أَي: فَلَا يستعجلون بِالْعَذَابِ لما كَانُوا يستعجلون بِهِ من الْعَذَاب استهزاء وتكذيباً(4/292)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
{فويل للَّذين كفرُوا} فِي النَّار {مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يوعدون} فِي الدُّنْيَا.(4/292)
تَفْسِير سُورَة الطّور وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الطّور من الْآيَة 1 إِلَى الْآيَة 14.(4/293)
وَالطُّورِ (1)
قَوْله: {وَالطور} الطُّور: الْجَبَل.
قَالَ محمدٌ: رُوِيَ عَن الْحسن أَنه قَالَ: كل جبل يدعى طوراً.(4/293)
وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)
{وَكتاب مسطور} مَكْتُوب(4/293)
فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)
{فِي رق منشور} تَفْسِير الْحسن: الْقُرْآن فِي أَيدي السفرة(4/293)
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)
{وَالْبَيْت الْمَعْمُور} تَفْسِير ابْن عَبَّاس قَالَ: الْبَيْت الْمَعْمُور: بَيت فِي السَّمَاء حِيَال الْكَعْبَة، يَحُجُّه كلَّ يَوْم سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ [ ... ] .
قَالَ قَتَادَة: قَالَ اللَّه - عز وَجل - لآدَم: [أهبط مَعَك] (ل 340) بَيْتِي يُطَاف حوله؛ كَمَا يُطَاف حول عَرْشِي، فحجه آدم وَمَا بعده من الْمُؤمنِينَ، فَلَمَّا كَانَ زمَان الطوفان رَفعه اللَّه وطهرَّه من أَن تصيبه عُقُوبَة أهل الأَرْض؛(4/293)
فَصَارَ معمور السَّمَاء، فتتبع إِبْرَاهِيم الأساس فبناه على أساس قديم كَانَ قبله.(4/294)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5)
{والسقف الْمَرْفُوع} يَعْنِي: السَّمَاء بَينهَا وَبَين الأَرْض مسيرَة خَمْسمِائَة عَام(4/294)
وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)
{وَالْبَحْر الْمَسْجُور} تَفْسِير عَليّ بْن أبي طَالب: الْبَحْر الْمَسْجُور فِي السَّمَاء.
قَالَ محمدٌ: الْمَسْجُور مَعْنَاهُ فِي اللُّغَة: المَمْلُوء، قَالَ النَّمِر يصف وَعلًا:
(إذَا شَاءَ طَالَعَ مَسْجُورةً ... تَرَى حَوْلَهَا النَّبْعَ والسَّاسَما)
أَي: عينا مَمْلُوءَة. أقسم بِهَذَا كُله.(4/294)
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7)
{إِن عَذَاب رَبك لوَاقِع} بالمشركين(4/294)
مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)
{مَا لَهُ} مَا للعذاب {من دَافع} يَدْفَعهُ من الله(4/294)
يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9)
{يَوْم تمور السَّمَاء مورا} فِيهَا تَقْدِيم: إِن عَذَاب رَبك لوَاقِع بهم {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مورا} أَي: تحرّك تحركاً(4/294)
وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)
{وتسير الْجبَال سيرا} كَقَوْلِه: {وَإِذا الْجبَال سيرت} .
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: أَنَّهَا تسير عَن وَجه الأَرْض، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ يحيى.
{فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}(4/294)
الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12)
{الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} وخوضهم التَّكْذِيب.
قَالَ محمدٌ: (الويلُ) كلمةٌ تَقُولهَا الْعَرَب فِي كل من وَقع فِي هلكة.(4/294)
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)
{يَوْم يدعونَ} يُدْفَعُون {إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} دفعا(4/294)
هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)
{هَذِه النَّار} يُقَال لَهُم:
هَذِه النَّار {الَّتِي كُنْتُم بهَا تكذبون} فِي الدُّنْيَا أَنَّهَا لَا تكون.
تَفْسِير سُورَة الطّور من الْآيَة 15 إِلَى الْآيَة 20.(4/294)
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15)
{أفسحر هَذَا} يُقَال لَهُم ذَلِك على الِاسْتِفْهَام {أم أَنْتُم لَا تبصرون} يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا إِذْ كُنْتُم تَقولُونَ: هَذَا سحْرٌ، أَي: لَيْسَ بِسحر(4/295)
اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
{اصلوها} يَعْنِي: النَّار {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تصبروا سَوَاء عَلَيْكُم} كَقَوْل: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} .
قَالَ محمدٌ: (سواءٌ) مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَر مَحْذُوف، فَالْمَعْنى: سواءٌ عَلَيْكُم الصَّبْرُ والجزع.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جنَّات ونعيم}(4/295)
فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18)
{فاكهين} أَي: مسرورين {بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} أَي: أَعْطَاهُم.
قَالَ محمدٌ: {فَاكِهِينَ} نصب على الْحَال.(4/295)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
قَالَ مُحَمَّد: {هَنِيئًا} منصوبٌ، وَهِي صفة فِي مَوضِع الْمصدر، الْمَعْنى: يُقَال لَهُم: كلوا وَاشْرَبُوا هنئتم هَنِيئًا.(4/295)
مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
{متكئين على سرر مصفوفة} .(4/295)
يحيى: عَنْ صَاحِبٍ لَهُ، عَنْ أَبَانَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيَتَنَعَّمُ فِي تُكَأَةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعِينَ عَامًا، فَتُنَادِيهِ أَبْهَى مِنْهَا وَأَجْمَلُ مِنْ غُرْفَةٍ أُخْرَى: أَمَا لَنَا مِنْكَ دَوْلَةٌ بَعْدُ؟ فَيَلْتَفِتُ إِلَيْهَا فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتِ؟ ! فَتَقُولُ: أَنَا مِنَ اللاتِي قَالَ اللَّهُ: {وَلَدَيْنَا مزِيد} فَيَتَحَوَّلُ إِلَيْهَا فَيَتَنَعَّمُ مَعَهَا سَبْعِينَ عَامًا فِي تُكَأَةٍ وَاحِدَةٍ، فَتُنَادِيهِ أَبْهَى مِنْهَا وَأَجْمَلُ مِنْ غُرْفَةٍ أُخْرَى فَتَقُولُ: أَمَا لَنَا مِنْكَ دَوْلَةٌ بَعْدُ؟ فَيَلْتَفِتُ إِلَيْهَا فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: أَنَا مِنَ اللاتِي قَالَ اللَّهُ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} فَيَتَحَوَّلُ إِلَيْهَا، فَيَتَنَعَّمُ مَعَهَا فِي تُكَأَةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعِينَ عَامًا، فَهُمْ كَذَلِكَ يَدُورُونَ ".
{وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} الْحور: الْبيض؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة والعامة. وَالْعين: عِظَام الْعُيُون.
تَفْسِير سُورَة الطّور من الْآيَة 21 إِلَى الْآيَة 29(4/296)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتَهُمْ} .
يَحْيَى: عَنْ (سَعِيدٍ) عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ لِلْمُؤْمِنِ وَلَدَهُ فِي دَرَجَتِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ فِي الْعَمَلِ؛ لَتَقَرَّ بِهِمْ عَيْنُهُ ".(4/297)
وَكَذَلِكَ الْآبَاء يُرفَعُون للأبناء؛ إِذا كَانَت الْآبَاء دون الْأَبْنَاء فِي الْعَمَل.
قَوْله: {وَمَا ألتناهم} أَي: وَمَا نقصناهم {مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ} يَعْنِي: أهل النَّار {بِمَا كَسَبَ} من عمل {رَهِينٌ} .(4/298)
وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22)
{وأمددناهم بفاكهة} .
يحيى: عَنْ [عُثْمَانَ، عَنْ] نُعَيْمِ [بْنِ] عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَنَاوَلُونَ مِنْ قُطُوفِهَا وَهُمْ مُتَّكِئُونَ عَلَى فُرُشِهِمْ مَا تَصِلُ إِلَى يَدِ [أَحَدِهِمْ حَتَّى يُبْدِلَ اللَّهُ مَكَانهَا أُخْرَى] ".
(ل 341)(4/299)
يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)
{يتنازعون فِيهَا} أَي: لَا يتعاطون فِيهَا {كَأْسًا} والكأس: الخَمْرُ {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تأثيم} تَفْسِير مُجَاهِد: لَا يَسْتَبُّون فِيهَا، وَلَا يأثمون فِي شَيْء.
قَالَ محمدٌ: الكَأْسُ فِي اللُّغَة: الْإِنَاء المملوء؛ فَإِذا كَانَ فَارغًا فَلَيْسَ بكأسٍ. وتقرأ: {لَا لَغْوَ فِيهَا وَلَا تأثيمَ} بالنَّصْب، إِلَّا أَن الِاخْتِيَار عِنْد النَّحْوِيين إِذا كُررت " لَا " فِي مثل هَذَا الْموضع الرفعُ، وَالنّصب جائزٌ، فَمن رفع فعلى الإبتداء و " فِيهَا " هُوَ الخبرُ، وَمن نصبَ فعلى النَّفْي والتبرئة.(4/299)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)
قَوْله: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤ مَكْنُون} يَعْنِي: صفاء ألوانهم والمكنون فِي أصدافه(4/299)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25)
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} يُسَائل بَعضهم بَعْضًا عَن شفقتهم فِي الدُّنْيَا من عَذَاب اللَّه(4/299)
قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26)
{قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ} فِي الدُّنْيَا {فِي أهلنا مشفقين} من عَذَاب النَّار(4/299)
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)
(فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ(4/299)
السَّمُومِ) {النَّار(4/300)
إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
2 -! (إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ} أَن يَقِينا عَذَاب السمُوم {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} بر بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيم بهم.(4/300)
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29)
قَوْله: فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} الْآيَة.
قَالَ محمدٌ: هُوَ كَمَا تَقول: مَا أَنْت بِحَمْد اللَّه.
تَفْسِير سُورَة الطّور من الْآيَة 30 إِلَى الْآيَة 31.(4/300)
أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)
{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ ريب الْمنون} أَي: قد قَالُوا: نتربَّصُ بِهِ الدَّهْر حَتَّى يَمُوت.(4/300)
قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)
فِي تَفْسِير الْحسن قَالَ اللَّه للنَّبِي: {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ المتربصين} كَانُوا يتربَّصون بِالنَّبِيِّ أَن يَمُوت، وَكَانَ النَّبِي يتربَّصُ بهم أَن يَأْتِيهم الْعَذَاب.
و {ريب الْمنون} فِي تَفْسِير مُجَاهِد: حوادثُ الدَّهْر.
قَالَ محمدٌ: المنونُ عِنْد أهل اللُّغَة: الدهْرُ، ورَيْبُه: حَوَادثُه وأوجاعه ومصائبه، وَالْعرب تَقول: لَا أُكَلِّمُك آخر الْمنون. وَأنْشد بَعضهم قَوْلَ أبي ذُؤَيْبٍ:
(أَمِنَ المَنُونِ وَرَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ ... وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ)
يَعْنِي: أَمِنَ الدَّهْر ورَيْبه تتوجع؟ !
تَفْسِير سُورَة الطّور من الْآيَة 32 إِلَى الْآيَة 43.(4/300)
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32)
قَوْله: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا} بالتكذيب، أَي: لَيست لَهُم أحلامٌ {أم هم قوم طاغون} أَي: بل هُمْ قومٌ طاغون يَقُول: إِن الطغيانَ - وَهُوَ الشّرك - يَأْمُرهُم بِهَذَا(4/301)
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
{أم يَقُولُونَ تَقوله} محمدٌ، يَعْنِي: الْقُرْآن؛ أَي: قد قَالُوهُ(4/301)
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)
{فليأتوا بِحَدِيث مثله} مثل الْقُرْآن {إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} أَي: لَا يأْتونَ بِمثلِهِ، وَلَيْسَ ذَلِك عِنْدهم(4/301)
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} أَي: لمْ يخلقوا من غير شَيْء خلقناهم من نُطْفَة وَأول ذَلِك من ترابٍ {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} أَي: لَيْسُوا بالخالقين وهم مخلوقون(4/301)
أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)
{أم خلقُوا السَّمَاوَات وَالْأَرْض} أَي: لمْ يخلقوها {بَلْ لَا يوقنون} بِالْبَعْثِ(4/301)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)
{أم عِنْدهم خَزَائِن رَبك} يَعْنِي: علمَ الْغَيْب {أَمْ هُمُ المصيطرون} يَعْنِي: الأرباب، أَي: إنّ اللَّه هُوَ الرَّبُّ - تبَارك اسْمُه.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: تَصيطرتَ عليَّ، أَي: اتخذتّني خَوَلًا. وَيكْتب بِالسِّين وَالصَّاد، والأصْلُ السِّين وكل سين بعْدهَا طاءٌ يجوز أَن تقلب صادًا.(4/301)
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
قَوْله: {أم لَهُم سلم} درج {يَسْتَمِعُون فِيهِ} إِلَى السَّمَاء، والسُّلّمُ أَيْضا(4/301)
السَّبَب وَقَوله (فِيهِ) بِمَعْنى: عَلَيْه {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبين} بِحجَّة بيّنة بِمَا همْ عَلَيْهِ من الشّرك، أَي: لَيْسَ عِنْدهم بذلك حجَّة(4/302)
أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39)
{أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} وَذَلِكَ لقَولهم: أَن الْمَلَائِكَة بَنَات الله. وَجعلُوا لأَنْفُسِهِمْ الغلمان(4/302)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40)
{أم تَسْأَلهُمْ أجرا} على الْقُرْآن {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مثقلون} فقد أثقلهم الغُرْمُ، أَي: إِنَّك لَا تَسْأَلهُمْ أجرا(4/302)
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41)
{أم عِنْدهم الْغَيْب} يَعْنِي: علم غَيْب الْآخِرَة {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} لأَنْفُسِهِمْ مَا يتخيّرون؛ لقَوْل الْكَافِر: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لي عِنْده للحسنى} يَعْنِي للجنة إِن كَانَت جنَّة، أَي: لَيْسَ عِنْدهم علم غيب الْآخِرَة(4/302)
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42)
{أم يُرِيدُونَ كيدا} بِالنَّبِيِّ، أَي: قد أرادوه
{فَالَّذِينَ كَفَرُوا هم المكيدون} كَقَوْلِه: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كيدا} لأريهم جَزَاء كيدهم وَهُوَ الْعَذَاب(4/302)
أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
قَالَ {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ الله} أَي (ل 342) {شَاعِر نتربص بِهِ} إِلَى هَذَا الْموضع كالاستفهام وكذبهم بِهِ كُله.
تَفْسِير سُورَة الطّور من الْآيَة 44 إِلَى الْآيَة 49.(4/302)
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44)
{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ} والكِسْفُ: القطْعة {سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مركوم} بعضُه على بعض، وَذَلِكَ أَنه قَالَ فِي سُورَة سبأ: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا من السَّمَاء} فَقَالُوا للنَّبِي: لن نؤمن لَك حَتَّى تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كسفاً؛ فَأنْزل اللَّه: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مركوم} أَي: وَلم يُؤمنُوا.(4/303)
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)
قَالَ اللَّه: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يومهم الَّذِي فِيهِ يصعقون} أَي: يموتون، وَهِي النفخة الأولى؛ فِي تَفْسِير الْحسن، يَعْنِي: كفار آخر هَذِه الْأمة الَّذين يكون هلاكهم بِقِيَام السَّاعَة.(4/303)
يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46)
{يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا} لَا تغني عَنْهُم عبَادَة الْأَوْثَان وَلَا مَا كَادُوا للنَّبِي شَيْئا {وَلَا هم ينْصرُونَ} إِذا جَاءَهُم الْعَذَاب.(4/303)
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)
قَالَ: {وَإِن للَّذين ظلمُوا} أشركوا {عذَابا دون ذَلِك} بِالسَّيْفِ؛ يَعْنِي: من أُهلك يَوْم بدر؛ فِي تَفْسِير الْحسن {وَلَكِنَّ أَكْثَرهم} أَي: جَمَاعَتهمْ {لَا يعلمُونَ} يَعْنِي: من لَا يُؤمن بِهِ.(4/303)
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
{واصبر لحكم رَبك} أَي: لما حكم اللَّه عَلَيْك، فَأمره بقتالهم {فَإنَّك بأعيننا} أَي: نرى مَا تصنع وَمَا يصنع بك، فسنجزيك ونجزيهم.
{وَسَبِّحْ بِحَمْد رَبك حِين تقوم} من مقامك، يَعْنِي: صَلَاة الصُّبْح؛ فِي تَفْسِير الْحسن.(4/303)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
{وَمن اللَّيْل فسبحه} يَعْنِي: صَلاةَ الْمَغْرِبِ وَصَلاةَ الْعِشَاءِ {وإدبار النُّجُوم} .(4/303)
يَحْيَى: عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: " سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ قَوْله: {وإدبار النُّجُوم} . فَقَالَ: هُمَا الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ صَلاةِ الصُّبْح ".(4/304)
تَفْسِير سُورَة النَّجْم وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة النَّجْم من الْآيَة 1 إِلَى الْآيَة 18.(4/305)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)
قَوْله: {النَّجْم إِذا هوى} تَفْسِير ابْن عباسٍ قَالَ: يَقُول: وَالْوَحي إِذا نزل وَفِي تَفْسِير الْحسن: يَعْنِي الْكَوَاكِب إِذا انتثرت. والنجم عِنْده: جمَاعَة النُّجُوم أقسم بِهِ(4/305)
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)
{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} يَعْنِي: مُحَمَّدا صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم، يَقُوله للْمُشْرِكين(4/305)
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} إِنْ الْقُرْآن الَّذِي ينْطق بِهِ محمدٌ(4/305)
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)
{إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} .
قَالَ مُحَمَّد: (إِن) بِمَعْنى (مَا) أَي: مَا هُوَ إِلَّا وحيٌ يُوحى.(4/305)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)
{علمه} علم مُحَمَّدًا {شَدِيد القوى} يَعْنِي: جِبْرِيل شَدِيد الْخلق(4/305)
ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)
{ذُو مرّة} وَهُوَ من شدَّة الْخلق أَيْضا {فَاسْتَوَى} اسْتَوَى جِبْرِيل عِنْد محمدٍ؛ أَي: رَآهُ فِي صورته، وَكَانَ محمدٌ يرى جِبْرِيل فِي غير صورته.(4/305)
وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)
{وَهُوَ بالأفق الْأَعْلَى} وَجِبْرِيل بالأفق الْأَعْلَى، وَهُوَ الْمشرق.(4/306)
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)
{ثمَّ دنا فَتَدَلَّى} جِبْرِيل بِالْوَحْي إِلَى مُحَمَّد(4/306)
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)
{فَكَأَن} إِلَيْهِ {قاب قوسين} أَي: قدر ذراعين {أَوْ أَدْنَى} أَي: بل أدنى.
قَالَ محمدٌ: قيل: إِن القوسَ فِي لُغَة أَزْد شنُوءَة: الذِّرَاع.(4/306)
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)
{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} إِلَى عبد الله(4/306)
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)
{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} وَهِي تقْرَأ على وَجْهَيْن: بالتثقيل وَالتَّخْفِيف، من قَرَأَهَا بالتثقيل يَقُول: مَا كذّب فؤاد محمدٍ مَا رأى؛ أَي: فِي ملكوت اللَّه وآياته، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالتَّخْفِيفِ يَقُولُ: مَا كذّب فؤاد محمدٍ مَا رأى؛ أَي: قد صدق الرُّؤْيَة فأثبتها.(4/306)
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)
{أفتمارونه} يَقُول للْمُشْرِكين؛ أفتمارون مُحَمَّدًا على مَا يرى؟ !(4/306)
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)
{وَلَقَد رَآهُ نزلة أُخْرَى} يَعْنِي: مرّة أُخْرَى رأى جِبْرِيل فِي صورته مرَّتَيْنِ(4/306)
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)
{عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى} قَالَ ابْن عَبَّاس: سَأَلت كَعْبًا عَن سِدْرَة الْمُنْتَهى. فَقَالَ: يُنْتَهى إِلَيْهَا بأرْوَاح الْمُؤمنِينَ إِذا مَاتُوا لَا يجاوزها روح مُؤمن؛ فَإِذا قبض الْمُؤمن تبعه مُقَرَّبو أهل السَّمَاوَات حَتَّى يُنْتَهى بِهِ إِلَى السِّدْرة فَيُوضَع، ثمَّ تصفُّ الْمَلَائِكَة المقربون فيصلون عَلَيْهِ كَمَا تصلونَ على مَوْتَاكُم أَنْتُم هَا هُنَا، فَذَلِك قَوْله: {سِدْرَة الْمُنْتَهى} .
سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يذكر فِي حَدِيثِ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ: " ثمَّ رفعت لنا السِّدْرَة الْمُنْتَهى، فَإِذا ورقُها مثل آذان الفِيلَة، وَإِذا(4/306)
نَبقها مثل قِلَال هَجَر، وَإِذا أَرْبَعَة أَنهَار يخرجُون [من أَصْلهَا نهران] باطنان [ونهران ظاهران] ، قلت: يَا جِبْرِيل، مَا هَذِه الْأَنْهَار؟ فَقَالَ: أما الباطنان فنهران فِي الْجنَّة [واما الظاهران] (ل 343) فالنيل والفرات ".(4/307)
عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)
قَوْله: {عِنْدهَا جنَّة المأوى} وَالْجنَّة عِنْدهَا السِّدْرة والمأوى: مأوى الْمُؤمنِينَ(4/308)
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)
{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} تَفْسِير بَعضهم: قَالَ: غشيها فرَاش من ذهب(4/308)
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)
{مَا زاغ الْبَصَر} بصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يُثْبت مَا رأى، {وَمَا طَغى} : مَا قَالَ مَا لم يَرَ.(4/308)
لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} يَعْنِي: مَا قصّ مِمَّا رأى، ثمَّ قَالَ للْمُشْرِكين:
تَفْسِير سُورَة النَّجْم من الْآيَة 44 إِلَى الْآيَة 49.(4/308)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19)
{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} بعد الاثنتين: اللات كَانَت لثقيف، والعُزَّى لقريش، وَمَنَاة لبني هِلَال(4/308)
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21)
{ألكم الذّكر وَله الْأُنْثَى} على الِاسْتِفْهَام؛ وَذَلِكَ أَنهم جعلُوا الْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه - عز وَجل - وَجعلُوا لأَنْفُسِهِمْ الغلمان، وَقَالُوا: إِن اللَّه صاحبُ بَنَات، فسمّوا هَذِه الْأَصْنَام(4/308)
فجعلوهن إِنَاثًا، قَالَ اللَّه: {أَلَكُمُ الذّكر وَله الْأُنْثَى} أَي: لَيْسَ ذَلِك كَذَلِك.(4/309)
تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)
{تِلْكَ إِذا قسْمَة ضيزى} جائرة أَن جعلُوا لله الْبَنَات وَلَهُم الغلمان هَذَا تَفْسِير الْحسن.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: ضِزْت فِي الحُكْم أَي: جُرْت، وضازه يضيزه إِذا نَقصه حَقه.
وَأنْشد بَعضهم لامرئ الْقَيْس:
(ضَازَتْ بَنُو أَسَدٍ بحُكْمِهم ... إِذْ يَجْعَلُون الرَّأْسَ كَالذَّنَبِ)
وأصل ضِيزَى ضُوزا فكُسِرت الضَّاد للياء وَلَيْسَ فِي النعوت فِعْلى.(4/309)
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)
{إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُم وآباؤكم} يَعْنِي اللات والعزة وَمَنَاة {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا من سُلْطَان} من حجَّة بِأَنَّهَا آلِهَة {إِنْ يتبعُون} يَعْنِي: الْمُشْركين {إِلَّا الظَّن} أَي: ذَلِك مِنْهُم ظنٌّ {وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبهم الْهدى} الْقُرْآن، قَالَ الْكَلْبِيّ: " كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي عِنْد الْبَيْت وَالْمُشْرِكُونَ جلوسٌ فَقَرَأَ: {والنجم إِذا هوى} فحدَّث نَفسه حَتَّى إِذا بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ألْقى الشَّيْطَان على لِسَانه: فَإِنَّهَا من الغرانيق العُلى - يَعْنِي: الْمَلَائِكَة - وَإِن شَفَاعَتهَا ترتجى أَي: هِيَ المرتجى. فَلَمَّا انْصَرف النَّبِي من صلَاته قَالَ الْمُشْركُونَ: قد ذكر محمدٌ آلِهَتنَا بِخَير، فَقَالَ النَّبِي: وَالله مَا كَذَلِك نزلت عليَّ. فَنزل عَلَيْهِ جِبْرِيل فَأخْبرهُ النَّبِي، فَقَالَ: وَالله مَا هَكَذَا علّمْتُك وَمَا جِئْت بهَا هَكَذَا، فَأنْزل اللَّهُ: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ(4/309)
مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أمْنِيته} الْآيَة وَقد مضى تَفْسِير هَذَا.(4/310)
أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24)
قَوْله: {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} وَذَلِكَ لفرح الْمُشْركين بِمَا ألْقى الشَّيْطَان على لِسَان النَّبِي من ذكر آلِهَتهم. تَفْسِير سُورَة النَّجْم من الْآيَة 26 إِلَى الْآيَة 30.(4/310)
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)
قَوْله: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} لَا تَنْفَع شفاعتهم الْمُشْركين شَيْئا، إِنَّمَا يشفعون للْمُؤْمِنين وَلَا يشفعون {إِلاَ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنثَى} .(4/310)
وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)
{وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ} بِأَنَّهُم إناثٌ وَلَا بِأَنَّهُم بَنَات اللَّهِ {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَ الظَّنَّ} أَي: إِن ذَلِك مِنْهُم ظن.(4/310)
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29)
{فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا} هَذَا مَنْسُوخ نسخه الْقِتَال.(4/310)
ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
{ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ} أَي: إِن علمهمْ لم يبلغ الْآخِرَة.(4/310)
تَفْسِير سُورَة النَّجْم من الْآيَة 31 إِلَى الْآيَة 32.(4/311)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا} أشركوا {بِمَا عمِلُوا} يجزيهم النَّار {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا} آمنُوا {بِالْحُسْنَى} يَعْنِي الْجنَّة.(4/311)
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
قَوْله عزّ ذكره: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ} تَفْسِير الْحسن: إِلَّا اللمة يلمُّ بهَا من الذُّنُوب.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: إِن اللَّه - عز وَجل - وَعَد الْمَغْفِرَة من اجْتنب الْكَبَائِر، ووعد الْمَغْفِرَة أَيْضا من ألمَّ بِشَيْء مِنْهَا، ثمَّ تَابَ من ذَلِك واستغفر اللَّه. والإلمام فِي اللُّغَة مَعْنَاهُ: أَلا يتعمّق فِي الشَّيْء وَلَا يلْزمه، وَهَذَا معنى مَا ذهب إِلَيْهِ الْحسن.
قَوْله: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ} خَلقكُم {من الأَرْض} يَعْنِي: خلق والأجنةُ من بَاب الْجَنِين فِي بطن أمه.
قَوْله: {فَلَا تزكوا أَنفسكُم} . يَحْيَى: عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ ثَابِتِ بن الْحَارِث (ل 344) الأَنْصَارِيِّ قَالَ: " كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ إِذَا هَلَكَ صَبِيٌّ صَغِيرٌ: هَذَا صِدِّيقٌ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: كَذَبَتْ يَهُودُ، مَا مِنْ نَسَمَةٍ خَلَقَهَا اللَّهُ فِي(4/311)
بَطْنِ أُمِّهَا إِلا أَنَّهُ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ هَذِهِ الآيَةَ {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} إِلَى آخِرِهَا ". مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بن مُحَمَّد. تَفْسِير سُورَة النَّجْم من الْآيَة 33 إِلَى الْآيَة 54.(4/312)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33)
{أَفَرَأَيْت الَّذِي تولى} يَعْنِي: الْمُشرك تولى عَن الْإِيمَان،(4/312)
وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34)
{وَأعْطى قَلِيلا وأكدى} تَفْسِير عِكْرِمَة قَالَ: أعْطى قَلِيلا ثمَّ قطعه.
قَالَ محمدٌ: وأصل الْكَلِمَة من كُدْيَة الْبِئْر، وَهِي الصَّلابة فِيهَا، وَإِذا بلغَهَا الْحَافِر يئس من حفرهَا؛ فَقطع الْحفر، فَقيل لكل من طلب شَيْئا فَلم يبلغ آخِره وَأعْطى وَلم يتمم: أَكْدَى.
قَالَ يحيى: قَوْله: {أعْطى قَلِيلا} إنَّمَا قل؛ لأنَّه كَانَ لغير الله.(4/312)
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35)
{أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} يخْتَار لنَفسِهِ الْجنَّة إِن كَانَت جنَّة. كَقَوْلِه: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} للجنة إِن كَانَت جنَّة هَذَا تَفْسِير الْحسن {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صحف مُوسَى}(4/313)
وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)
{وَإِبْرَاهِيم الَّذِي وفى} يَعْنِي: وَفِي مَا فرض اللَّه عَلَيْهِ فِي تَفْسِير مُجَاهِد.(4/313)
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)
{وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سعى} مَا عمل(4/313)
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)
{وَأَن سَعْيه سَوف يرى} .
قَالَ محمدٌ: قيل: الْمَعْنى: يرى عمله فِي مِيزَانه.(4/313)
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)
{وَأَن إِلَى رَبك الْمُنْتَهى} يَعْنِي: الْمصير(4/313)
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)
{وَأَنه هُوَ أضْحك وأبكى} أَي: خلق الضَّحِكَ والبكاء. {وَأَنَّهُ هُوَ أمات وَأَحْيَا}(4/313)
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45)
{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} الْوَاحِد مِنْهُمَا: زوج(4/313)
مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46)
{من نُطْفَة إِذا تمنى} إِذا يمنيها الذّكر {وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الْأُخْرَى}(4/313)
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48)
{وَأَنه هُوَ أغْنى وأقنى} أغْنى عَبده، وأقناه من قِبَل القِنْيَة.
قَالَ محمدٌ: تَقول: أَقْنَيْتُ كَذَا أَي: عملتُ على أَنه يكون عِنْدِي لَا أخرجه من يَدي؛ فَكَأَن معنى (أقنى) جعل الْغنى أصلا لصَاحبه ثَابتا.(4/313)
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49)
{وَأَنه هُوَ رب الشعرى} الْكَوْكَب الَّذِي خلف الجوزاء كَانَ يَعْبُدهَا قوم(4/313)
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50)
{وَأَنه أهلك عادا الأولى} وَهِي عادٌ وَاحِدَة، لمْ يكن قبلهَا عَاد قَالَ:(4/313)
وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51)
{وَثَمُودًا فَمَا أَبْقَى} أهلكهم فَلم يبقهم(4/314)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52)
{وَقوم نوح} أَي: وَأهْلك قوم نوحٍ {مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وأطغى} كَانُوا أول من كذب الرُّسُل.(4/314)
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53)
{والمؤتفكة أَهْوى} يَعْنِي قرى قوم لوط رَفعهَا جِبْرِيل بجناحه، حَتَّى سمع أهْل سَمَاء الدُّنْيَا ضواغي كلابهم ثمَّ قَلبهَا، والمؤتفكة: المنقلبة.
قَالَ محمدٌ: أَهْوى: أسْقط. يُقَال: هوى وأهواه الله: أسْقطه.(4/314)
فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)
قَالَ: {فغشاها مَا غشى} يَعْنِي: الْحِجَارَةَ الَّتِي رُمِيَ بِهَا من كَانَ مِنْهُم خَارِجا من الْمَدِينَة وَأهل السّفر مِنْهُم. تَفْسِير سُورَة النَّجْم من الْآيَة 55 إِلَى الْآيَة 62.(4/314)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)
قَالَ: {فَبِأَي آلَاء} يَعْنِي نعماء {رَبك تتمارى} تشك أَي: إِنَّك لَا تشك(4/314)
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56)
ثمَّ قَالَ للنَّاس: {هَذَا نَذِيرٌ} يَعْنِي: مُحَمَّدًا {مِنَ النُّذُرِ الأُولَى} أَي: جَاءَ بِمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل الأولى(4/314)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57)
{أزفت الآزفة} أَي: دنت الْقِيَامَة(4/314)
لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)
{لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشفة} كَأَن الْمَعْنى: لَيْسَ لَهَا وقعةٌ كاشفةٌ، وَالله أعلم {أَفَمِنْ هَذَا الحَدِيث تعْجبُونَ}(4/314)
وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60)
{وَتَضْحَكُونَ} يَعْنِي: الْمُشْركين، أَي: قد فَعلْتُمْ {وَلَا تَبْكُونَ} أَي: يَنْبَغِي لكم أَن تبكوا(4/314)
وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)
{وَأَنْتُم سامدون} قَالَ: غافلون(4/314)
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
{فاسجدوا لله} فصلوا لله {واعبدوا} أَي: واعبدوه وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا.
قَالَ محمدٌ: سامدون مَعْنَاهُ لاهون وَهِي لُغَة الْيمن.(4/314)
تَفْسِير سُورَة اقْتَرَبت السَّاعَة
وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الْقَمَر من الْآيَة 1 إِلَى الْآيَة 8.(4/315)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
قَوْله: {اقْتَرَبت السَّاعَة} أَي دنت. يحيى: عَن أبي الأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ السَّاعَةِ كَهَاتَيْنِ، فَمَا فَضَّلَ إِحْدَاهُمْا عَلَى الأُخْرَى، وَجَمَعَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَالَّتِي يَقُول النَّاس السَّبَّابة ".
{وَانْشَقَّ الْقَمَر} قَالَ ابْن مَسْعُود: " انْشَقَّ الْقَمَر شقين حَتَّى رَأَيْت أَبَا قبيس بَينهمَا "(4/315)
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)
{وَإِن يرَوا آيَة} يَعْنِي: الْمُشْركين {يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمر}(4/315)
ٌ ذَاهِب(4/316)
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
{وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقر} لأَهله من الْخَيْر وَالشَّر.
قَالَ محمدٌ: يَقُول: يسْتَقرّ لأهل الْجنَّة عَمَلهم، وَلأَهل النَّار عَمَلهم. وَالِاخْتِيَار لِأَنَّهُ ابْتِدَاء.(4/316)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
{وَلَقَد جَاءَهُم من الأنباء} يَعْنِي: أَخْبَار الْأُمَم (ل 345) فأهلكهم اللَّه {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} عَمَّا هم عَلَيْهِ من الشّرك(4/316)
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)
{حِكْمَة بَالِغَة} يَعْنِي: الْقُرْآن.
قَالَ محمدٌ: (حِكْمَةٌ بَالِغَة) بِالرَّفْع على معنى: فَهُوَ حِكْمَة بَالِغَة.
{فَمَا تغن النّذر} عَمَّن لَا يُؤمن(4/316)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ} عَظِيم، والداع هُوَ صَاحب الصُّور.
قَالَ مُحَمَّد: {يدع} كتب بِحَذْف الْوَاو على مَا يجْرِي فِي اللَّفْظ لالتقاء الساكنين الْوَاو من (يَدْعُو) وَاللَّام من (الداع) وَقَوله: (نكر) بِضَم الْكَاف وإسكانها، والنكر وَالْمُنكر واحدٌ.(4/316)
قَالَ النَّابِغَة:
(أَبَى اللَّهُ إِلَّا عَدْلَهُ ووَفَاءَهُ ... فَلَا النُّكْرُ مَعْروفٌ وَلَا الْعرف ضائع)(4/317)
خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7)
قَوْله: {خشعا أَبْصَارهم} يَقُول: فتولَّ عَنْهُم فستراهم يَوْم الْقِيَامَة ذليلة أَبْصَارهم، وَكَانَ هَذَا قبل أَن يُؤمر بِالْقِتَالِ {يَخْرُجُونَ من الأجداث} من الْقُبُور {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} تَفْسِير الْحسن شبَّههم بالجراد إِذا أدْركهُ اللَّيْل لزم الأَرْض، فَإِذا أصبح وطلع عَلَيْهِ الشَّمْس انْتَشَر(4/317)
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
{مهطعين} مُسْرِعين {إِلَى الداع} صَاحِبِ الصُّورِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ {يَقُول الْكَافِرُونَ} يَوْمئِذٍ {هَذَا يَوْم عسر} يعلم الْكَافِرُونَ يومئذٍ أَن عسر ذَلِك الْيَوْم عَلَيْهِم، وَلَيْسَ لَهُم من يسره شَيْء.
تَفْسِير سُورَة الْقَمَر من الْآيَة 9 إِلَى الْآيَة 17.(4/317)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)
{وَقَالُوا مَجْنُون وازدجر} تُهُدِّدَ بِالْقَتْلِ فِي تَفْسِير الْحسن(4/317)
فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)
{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} أَي: فانتقم لي من قومِي.
قَالَ محمدٌ: من قَرَأَ {أَنِّي} بِالْفَتْح للألف - وَهُوَ الأجود - وَالْمعْنَى: دَعَا(4/317)
ربه بِأَنِّي مغلوب.(4/318)
فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)
{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} بعضه على بعض وَلَيْسَ بمطر.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: همَر الرجُلُ إِذا أَكثر من الْكَلَام وأسرع.(4/318)
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)
{وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ} مَاء السَّمَاء وَمَاء الأَرْض {عَلَى أَمر قد قدر} على هَلَاك قوم نوح(4/318)
وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)
{وحملناه} يَعْنِي: نوحًا {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ} يَعْنِي: السَّفِينَة {ودسر} الدُّسُر: المسامير؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة.
قَالَ محمدٌ: وَاحِدهَا دِسارٌ، مثل حمَار وحمر.(4/318)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)
{تجْرِي بأعيننا} كَقَوْلِه: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} .
{جَزَاء لمن كَانَ كفر} جَزَاء لنوحٍ كفره قوْمُه، وجحدوا مَا جَاءَ بِهِ إنجاء اللَّه إِيَّاه فِي السَّفِينَة(4/318)
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)
{وَلَقَد تركناها آيَة} لمن بعدهمْ، يَعْنِي: السَّفِينَة.
قَالَ محمدٌ: قَوْله: (آيَة) يَعْنِي: عَلامَة؛ ليعتبر بهَا.
{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أَي: متفكر، يَأْمُرهُم أَن يعتبروا وَيَحْذَرُوا أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نزل بهم.
قَالَ محمدٌ: مُدَّكِر أَصله مذتكر مفتَعِل من الذِّكْرِ، فأدغمت الذَّال فِي التَّاء ثمَّ قلبت دَالا مشدودة.(4/318)
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)
{فَكيف كَانَ عَذَابي وَنذر} إنذاري أَي كَانَ شَدِيدا(4/318)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ(4/318)
لِلذِّكْرِ} لِيذكرُوا اللَّه {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} وَهِي مثل الأولى.
تَفْسِير سُورَة الْقَمَر من الْآيَة 18 إِلَى الْآيَة 22.(4/319)
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18)
{كَذَّبَتْ عَادٌ} أَي: فأهلكتهم {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أَي: كَانَ شَدِيدا(4/319)
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19)
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} والصرصر: الْبَارِدَة الشَّدِيدَة الْبرد، وَهِي ريح الدَّبور {فِي يَوْمِ نَحْسٍ} أَي: مشئوم {مُّسْتَمِرّ} اسْتمرّ بِالْعَذَابِ، وَكَانَ ذَلِك من يَوْم الْأَرْبَعَاء إِلَى يَوْم الْأَرْبَعَاء.(4/319)
تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)
{كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} شبّههم فِي طولهم وعظمتهم بالأعجاز، وَهِي النّخل الَّذِي قد انقلعت من أُصُولهَا فَسَقَطت على الأَرْض.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: {منقعر} قَالُوا: قعرتُ النَّخْلَة أَقْعَرُها - بِفَتْح الْعين - إِذا قطعتَها قَعْرًا. وقعَرْتُ الْبِئْر أَقْعِرُها - بكسْر الْعين - إِذا بلغت قعرها بنزول أَو حفر. وَالنَّخْل تذكر وتؤنث؛ يُقَال: هَذَا نخل وَهَذِه نخل، فمنقعر على من قَالَ: هَذَا نخلٌ، وَمن قَالَ هَذِه نخل مثل قَوْله. {كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل خاوية} .(4/319)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
وَمعنى {يَسَّرْنَا} أَي: سهلنا، وَرُوِيَ أَن كتب أهل الْأَدْيَان نَحْو التَّوْرَاة(4/319)
وَالْإِنْجِيل إِنَّمَا يتلوها أَهلهَا (نظرا) وَلَا يكادون يحفظونها من أوَّلها إِلَى آخرهَا؛ كَمَا يحفظ القرآنُ.
تَفْسِير سُورَة الْقَمَر من الْآيَة 23 إِلَى الْآيَة 32.(4/320)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23)
{كذبت ثَمُود بِالنذرِ} بالرسل(4/320)
فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24)
{فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} أَي: أنتَّبع بشرا منا وَاحِدًا {إِنَّا إِذا لفي ضلال} فَلَا (نهتدي) (ل 346) {وسعر} أَي: وشقاء؛ فِي تَفْسِير مُجَاهِد.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: (وسعر) أصل الْكَلِمَة من [سعرت] النَّار إِذا التهبت.(4/320)
{أَأُلْقِيَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا} على الِاسْتِفْهَام مِنْهُم، وَهَذَا الِاسْتِفْهَام على إِنْكَار أَي: لمْ ينزل الذّكر عَلَيْهِ من بَيْننَا يجحدون مَا جَاءَ بِهِ صَالح {بَلْ هُوَ كَذَّاب أشر} من بَاب الأشر(4/320)
سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)
{سيعلمون غَدا} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة {مَنِ الْكَذَّابُ الأشر} .
قَالَ محمدٌ: الأَشِرُ فِي اللُّغَة: البَطِر المتكبر، يُقَال: أَشِرَ يأشَرُ أَشَرًا فَهُوَ(4/320)
أَشِر، وَقَالُوا أَيْضا: أَشْرَان وَامْرَأَة أشرى.(4/321)
إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
{إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ} أَي: مخرجوها {فتْنَة لَهُم} أَي: بلية {فارتقبهم} أَي: انظرْ مَاذَا يصنعون {وَاصْطَبِرْ} على مَا يصنعون وعَلى مَا يَقُولُونَ، أَي: إِذا جَاءَت النَّاقة. وَقد مضى تَفْسِير أَمر النَّاقة فِي سُورَة الشُّعَرَاء(4/321)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)
{وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} وَهَذَا بعد مَا جَاءَتْهُم النَّاقة {كل شرب محتضر} تشرب النَّاقة المَاء يَوْمًا ويشربونه يَوْمًا.
قَالَ محمدٌ: معنى {مُحْتَضَرٌ} يحضر القومُ الشِّرْبَ يَوْمًا، وتحضره النَّاقة يَوْمًا.(4/321)
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} والصيحة: الْعَذَاب {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} وَهُوَ النَّبَات إِذا هاج فَذَرَتْهُ الرياحُ فَصَارَ حظائر، تَفْسِير من قَرَأَ (المحتظِر) بكسْر الظَّاء، وَمن قَرَأَهَا (المحتظَر) بِفَتْح الظَّاء فَالْمَعْنى جعل حظائر.
قَالَ مُحَمَّد: وَقيل: الهشيم: مَا يبس من الْوَرق وتكسر وتحطم، أَي: فَكَانُوا كالهشيم الَّذِي يجمعه صَاحب الحظيرة فِي تَفْسِير من قَرَأَهُ (المحتظر) بِكَسْر الظَّاء يَقُول: احتظر حَظِيرَة، وَمن قَرَأَ (المحتظر) بِفَتْح الظَّاء فَهُوَ اسْم للحظيرة.
تَفْسِير سُورَة الْقَمَر من الْآيَة 33 إِلَى الْآيَة 40.(4/321)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33)
{كذبت قوم لوط بِالنذرِ} بالرسل يَعْنِي لوطا(4/322)
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34)
{إِنَّا أرسلنَا عَلَيْهِم حاصبا} يَعْنِي: الْحِجَارَةَ الَّتِي رُمِيَ بِهَا من كَانَ مِنْهُم خَارِجا من الْمَدِينَة وَأهل السّفر مِنْهُم، وَأصَاب مدينتهم الخسفُ {إِلا آلَ لُوطٍ} يَعْنِي من آمن {نَّجَّيْنَاهُم}(4/322)
نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)
قَوْله: {من شكر} يَعْنِي: من آمن.
قَالَ محمدٌ: تَقول: أتيتُ فلَانا سَحَرًا أَي: سحرًا من الأسحار، وَإِذا أردْت سحر يَوْمك قلت: أَتَيْته بِسَحَرٍ، وأتيته سَحَرَ، ونصْبه على الظّرْف.
{نِعْمَةً من عندنَا} بِمَعْنى: نجيناهم بالإنعام عَلَيْهِم.(4/322)
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36)
قَوْله: {وَلَقَد أَنْذرهُمْ بطشتنا} أَي: عذابنا {فتماروا بِالنذرِ} كذبُوا بِمَا قَالَ لَهُم لوطٌ(4/322)
وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37)
{وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا} وَقد مضى تَفْسِير كَيفَ أهلكوا فِي سُورَة هود(4/322)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38)
{وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} استقرَّ بهم الْعَذَاب.
قَالَ محمدٌ: (بكرَة) هَا هُنَا نكرَة، وَإِذا أردْت بكرَة يَوْمك لم تَصْرِفْها وَكَذَلِكَ (غدْوَة) فِي مثل هَذَا.
تَفْسِير سُورَة الْقَمَر من الْآيَة 41 إِلَى الْآيَة 48.(4/322)
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41)
{وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} يَعْنِي مُوسَى وَهَارُون(4/323)
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
{كذبُوا بِآيَاتِنَا كلهَا} يَعْنِي التسع آيَات، وَقد مضى ذِكْرُها {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} على خلقه، عذبهم بِالْغَرَقِ(4/323)
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)
{أكفاركم} يَعْنِي أهل مَكَّة {خَيْرٌ مِنْ أولئكم} يَعْنِي: مِنْ أُهْلِكَ مِنَ الْأُمَمِ السالفة، أَي: لَيْسُوا بِخَير مِنْهُم، يَعْنِي: كَانُوا أَشد مِنْهُم قُوَّة وَأكْثر أَمْوَالًا وأولادًا {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَة} أَي: من الْعَذَاب {فِي الزُّبُرِ} فِي الْكتب(4/323)
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)
{نَحن جَمِيع منتصر أم يَقُولُونَ} بل يَقُولُونَ(4/323)
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)
{سَيهْزمُ الْجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} يَعْنِي: يَوْم بدر(4/323)
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)
{بل السَّاعَة موعدهم} أَي: بِعَذَاب الاستئصال، يَعْنِي: كفار آخر هَذِه الْأمة؛ فِي تَفْسِير الْحسن {والساعة أدهى} من تِلْكَ الأخذات الَّتِي أهلك بهَا الْأُمَم السالفة {وَأمر} أَي: وَأَشد.(4/323)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)
{إِن الْمُجْرمين} الْمُشْركين {فِي ضلال} عَن الْهدى {وسعر} أَي: شقاء فِي تَفْسِير مُجَاهِد(4/323)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
{يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوههم} تسحبهم الْمَلَائِكَة أَي: تجرهم {ذُوقُوا مس} يُقَال لَهُم فِي النَّار: ذوقوا مسَّ سَقر، وسقر اسمٌ من أَسمَاء جَهَنَّم.
تَفْسِير سُورَة الْقَمَر من الْآيَة 49 إِلَى الْآيَة 55.(4/323)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)
{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} تَفْسِير سعيد بْن جُبَير عَن عَليّ قَالَ: كل شَيْء(4/323)
بِقدر حَتَّى هَذِه، وَوضع إصبعه السبابَة على طرف لِسَانه، ثمَّ وَضعهَا على ظهر إبهامه الْيُسْرَى.
قَالَ مُحَمَّد: {كُلُّ شَيْءٍ} منصوبٌ بِفعل مُضْمر، الْمَعْنى: إِنَّا خلقنَا كلَّ شيءٍ خلقناه بِقدر.(4/324)
وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)
{وَمَا أمرنَا} (ل 347) يَعْنِي مَجِيء السَّاعَة {إِلا وَاحِدَةٌ كلمح بالبصر} تَفْسِير الْحسن يَعْنِي: إِذا جَاءَ عَذَابَ كُفَّارِ آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بالنفخة الأولى.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: أَنه إِذا أَرَادَ هلاكهم كَانَت سُرْعة الاقتدار على الْإِتْيَان بِهِ كسُرعة لمح الْبَصَر، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ الْحسن، وَمعنى لمح الْبَصَر: أَن البصَرَ يلمحُ السَّمَاء وَهِي مسيرَة خَمْسمِائَة عَام، وَهَذَا من عَظِيم الْقُدْرَة.
وَقَوله: {إِلَّا وَاحِدَة} فَإِن الْمَعْنى: إِلَّا قَوْله وَاحِدَة(4/324)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)
{وَلَقَد أهلكنا أشياعكم} يَعْنِي: مِنْ أُهْلِكَ مِنَ الْأُمَمِ السالفة يَقُوله للْمُشْرِكين(4/324)
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} فِي الْكتب قد كُتِب عَلَيْهِم(4/324)
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
{وكل صَغِير وكبير مستطر} مَكْتُوب.(4/324)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} يَعْنِي: جَمِيع الْأَنْهَار.
قَالَ محمدٌ: وَهُوَ واحدٌ يدل على جمع.(4/324)
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مقتدر} يَعْنِي: نَفسه تبَارك اسْمُه.(4/324)
تَفْسِير سُورَة الرَّحمن وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الرَّحْمَن من الْآيَة 1 إِلَى الْآيَة 16.(4/325)
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)
قَوْله: {علمه الْبَيَان} علمه الْكَلَام(4/325)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)
{الشَّمْس وَالْقَمَر بحسبان} تَفْسِير الْكَلْبِيّ: بِحِسَاب ومنازل مَعْدُودَة، كل يَوْم منزل(4/325)
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)
{والنجم وَالشَّجر يسجدان} النَّجْم: مَا كَانَ من النَّبَات على غير سَاق، والشجرُ مَا كَانَ على سَاق. وسجودهما ظلُّهما.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: نَجَمَ النَّبَات ينجم نجوما، وبقل يبقل بقولا.(4/325)
وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)
{وَالسَّمَاء رَفعهَا} بَينهَا وَبَين الأَرْض مسيرَة خَمْسمِائَة عَام {وَوضع الْمِيزَان} أَي: وَجعل الْمِيزَان فِي الأَرْض بَين النَّاس(4/325)
أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)
{أَلا تطغوا فِي الْمِيزَان} أَلا تظلموا(4/325)
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)
{وَأقِيمُوا الْوَزْن بِالْقِسْطِ} بِالْعَدْلِ {وَلَا تخسروا الْمِيزَان} أَي: لَا تنقصوا النَّاس.(4/325)
قَالَ محمدٌ: يُقَال: أَخْسَرتُ الْمِيزَان وخسرت. وَالْقِرَاءَة بِضَم التَّاء.(4/326)
وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)
{وَالْأَرْض وَضعهَا للأنام} لِلْخلقِ(4/326)
فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11)
{فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ} قَالَ الْحسن: الأكمام: الليف.
قَالَ محمدٌ: أكمام النَّخْلَة: مَا غطى جُمَّارها من السّعَف والليف والطلعة، كمها: قشرها.(4/326)
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)
قَوْله: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} العصف: سوق الزَّرْع، وَالريحَان: الرزْقُ فِي تَفْسِير الْكَلْبِيّ. وَكَانَ يقْرَأ {وَالريحَان} بِالْجَرِّ وَيجْعَل العصفَ وَالريحَان جَمِيعًا من صفة الزَّرْع، وَكَانَ الْحسن يقْرَأ (وَالريحَان) بِالرَّفْع على الِابْتِدَاء أَي: وفيهَا الريحانُ. وَالريحَان فِي تَفْسِير الْحسن: الرياحين الَّتِي تُشَمُّ.
قَالَ محمدٌ: وَالْعرب تسمي الرزق. الريحان، يُقَال: خرجت أطلب ريحَان اللَّه. وَمِنْه قَول النَّمِر بْن توْلَب:
(سَلَامُ الإِلَهِ وَرَيْحانُهُ ... وَرَحْمَتُهُ وَسَمَاءٌ دِرَرْ)(4/326)
معنى ريحانه: رزقه.(4/327)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
قَوْله: {فَبِأَي آلَاء} أَي: نعماء {رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ} يَعْنِي: الثقلَيْن الْجِنّ وَالْإِنْس.
قَالَ محمدٌ: قيل: ذكر اللَّه - عز وَجل - فِي هَذِه السُّورَة مَا ذكر من خلق الْإِنْسَان وَتَعْلِيم الْبَيَان، وَمن خلق الشَّمْس وَالْقَمَر وَالسَّمَاء وَالْأَرْض وَغير ذَلِك مِمَّا ذكر من آلائه الَّتِي أنعم بهَا، وَجعلت قِوَامًا ووُصْلَةً إِلَى الْحَيَاة، ثمَّ خَاطب الْإِنْس وَالْجِنّ فَقَالَ: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ} أَي: فَبِأَي نعم رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ من هَذِه الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة، أَي: أَنكُمْ تصدقُونَ بِأَن ذَلِك كُله من عِنْده، وَهُوَ أنعم بِهِ عَلَيْكُم، وَكَذَلِكَ فوحِّدوه وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ غَيره، والآلاء وَاحِدهَا إِلَّا مثل مَعًا.(4/327)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14)
قَوْله: {خلق الْإِنْسَان} يَعْنِي: آدم {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} وَهُوَ التُّرَاب الْيَابِس الَّذِي يُسْمَع لَهُ صلصلة إِذا حُرِّك، وَكَانَ آدم فِي حالات قبل أَن ينْفخ فِيهِ الرّوح، وَقد قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {مِنْ طِينٍ} وَقَالَ: {من حمإ مسنون} .(4/327)
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)
قَوْله: {وَخلق الجان} إِبْلِيس {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} أَي: من لِسَان النَّار ولهبها فِي تَفْسِير الحَسَن.
قَالَ مُحَمَّد: يُقَال للهب النَّار: مارجٌ لاضطرابه، من مرج الشَّيْء يَعْنِي اضْطربَ وَلم يسْتَقرّ. قَالَ الْحسن: الْإِنْس كلهم من عِنْد آخِرهم ولد آدم.(4/327)
(ل 348) وَالْجِنّ كلهم من عِنْد آخِرهم ولد إِبْلِيس.
تَفْسِير سُورَة الرَّحْمَن من الْآيَة 17 إِلَى الْآيَة 30.(4/328)
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)
{رب المشرقين وَرب المغربين} مشرق الشتَاء ومشرق الصَّيف، ومغرب الشتَاء ومغرب الصَّيف.(4/328)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19)
{مرج الْبَحْرين يَلْتَقِيَانِ} تَفْسِير قَتَادَة: أَفَاضَ أَحدهمَا فِي الآخر.
قَالَ محمدٌ: معنى مرج: خلط وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ قَتَادَة.(4/328)
بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20)
{بَينهمَا برزخ لَا يبغيان} بَين العذب والمالح حاجزٌ من قدرَة اللَّه لَا يَبْغِي أَحدهمَا على صَاحبه، لَا يَبْغِي المالح على العذب فيختلط بِهِ، وَلَا العذب على المالح فيختلط بِهِ.(4/328)
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)
{يخرج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ والمرجان} تَفْسِير قَتَادَة قَالَ: اللُّؤْلُؤ: الْكِبَار، والمرجان: الصغار.
قَالَ يحيى: وَمعنى (يخرج مِنْهُمَا) أَي: من أَحدهمَا.
قَالَ محمدٌ: قَالَ {يخرج مِنْهُمَا} وَإِنَّمَا يخرج من الْبَحْر المالح؛ لِأَنَّهُ قد(4/328)
ذكرهمَا وجمعهما، فَإِذا خرج من أَحدهمَا فقد خرج مِنْهُمَا، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ يحيى. والواحدة: مرْجَانَة.(4/329)
وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24)
{وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كالأعلام} يَعْنِي: السفن الَّتِي عَلَيْهَا شُرُعها، وَهِي القُلُع.
قَالَ محمدٌ: كتبتْ بِلَا يَاء، وَمن وقف عَلَيْهَا وقف بِالْيَاءِ، وَالِاخْتِيَار وَصْلُها؛ ذكره الزَّجاجُ، وَمعنى الْمُنْشَآت: الَّتِي أُنْشئن، والأعلام: الْجبَال.(4/329)
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)
{كل من عَلَيْهَا} يَعْنِي: على الأَرْض(4/329)
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)
{فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجلَال} يَعْنِي: العظمة {وَالْإِكْرَام} لأهل طَاعَته.(4/329)
يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)
{يسْأَله من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} يسْأَله أهل السَّمَاء الرَّحْمَة، ويسأله أهل الأَرْض الرَّحْمَة وَالْمَغْفِرَة والرزق وحوائجهم، ويدعوه الْمُشْركُونَ عِنْد(4/329)
الشدَّة، وَلَا يسْأَله الْمَغْفِرَة إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن} يُمِيت وَيحيى مَا يُولد، ويجيب دَاعيا، وَيُعْطِي سَائِلًا، ويشفي مَرِيضا، ويفك عانيًا، وشأنه كثير لَا يُحْصَى؛ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ.
قَالَ محمدٌ: قيل الْمَعْنى: هُوَ فِي تَنْفِيذ مَا قدر اللَّه أَن يكون فِي ذَلِك الْيَوْم، وَهُوَ مَذْهَب يحيى.
تَفْسِير سُورَة الرَّحْمَن من الْآيَة 31 إِلَى الْآيَة 40.(4/330)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلاَنِ} الْجِنّ وَالْإِنْس؛ أَي: سنحاسبكم فنعذبكم، وَهِي كلمة وَعِيد؛ يَعْنِي: الْمُشْركين مِنْهُم.
قَالَ محمدٌ: لُغَة أهل الْحجاز: فَرَغ يَفْرُغُ - بِضَم الرَّاء - فُرُوغًا، وَتَمِيم تَقول: فَرَغ يفرَغ - بِفَتْح الرَّاء - فراغا.(4/330)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)
{يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس} يَعْنِي: الْمُشْركين مِنْهُم {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تنفذوا من أقطار السَّمَاوَات وَالْأَرْض} من نَوَاحِيهَا (فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِحجَّة فِي تَفْسِير مُجَاهِد.(4/330)
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35)
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا} يَعْنِي: الْكفَّار من الْجِنّ وَالْإِنْس {شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ} الشُّواظ: اللهب الَّذِي لَا دُخان فِيهِ، والنحاس: الدُّخان الَّذِي لَا(4/330)
لَهب فِيهِ؛ هَذَا تَفْسِير ابْن عَبَّاس.
قَالَ محمدٌ: من قَرَأَ (نُحَاس) بِالرَّفْع فعلى معنى: ويُرْسَلُ عَلَيْكُمَا نُحَاس. {فَلَا تنتصران} تمتنعان.(4/331)
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)
{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً} محمرة {كالدهان} يَعْنِي: كَعَكرِ الزَّيْت؛ فِي تَفْسِير زيد بن أسلم.(4/331)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)
{فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إنس وَلَا جَان} أَي: لَا يُطْلب علم ذَلِك من قبلهم.
تَفْسِير سُورَة الرَّحْمَن من الْآيَة 41 إِلَى الْآيَة 45.(4/331)
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)
{يعرف المجرمون بِسِيمَاهُمْ} بسواد وُجُوههم وزرقة أَعينهم.
{فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} يجمع بَين ناصيته وقدَميْه من خَلفه، ثمَّ يلقى فِي النَّار.(4/331)
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43)
{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا المجرمون} الْمُشْركُونَ(4/331)
يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)
{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} يَعْنِي: الْحَار الَّذِي انْتهى حَرُه.
قَالَ محمدٌ: أَنى يأني وَهُوَ آنٍ.(4/331)
قَالَ يحيى: بلغنَا أَن شَجَرَة الزقوم نابتة فِي الْبَاب السَّادس من جَهَنَّم على صَخْرَة من نَار، وتحتها عيْنٌ من الْحَمِيم أسود غليظ، فيسلّط على أحدهم الْجُوع، فيُنْطلق بِهِ فيأكل مِنْهَا حَتَّى يمْلَأ بطْنَه، فتغلي فِي بَطْنه كغلي الْحَمِيم، فيطلب الشَّرَاب ليبرد بِهِ جوْفَه، فَينزل من الشَّجَرَة إِلَى تِلْكَ الْعين الَّتِي تخرج من تَحت الصَّخرة من فَوْقهَا الزقوم، وَمن تحتهَا الحميمُ، فتزل قدماه فَيَقَع لظهره وجنبه، فينشوي عَلَيْهَا كَمَا ينشوي الْحُوت على المِقلى، فتسحبه الخُزَّان على وَجهه، فينحدر إِلَى تِلْكَ العَيْنِ، فَلَا يَنْتَهِي إِلَيْهَا إِلَّا وَقد ذهب لحم وَجهه حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى تِلْكَ الْعين فيسقيه الخُزَّان فِي إِنَاء من فَإِذا (ل 349) فِيهِ اشتوى وَجهه، وَإِذا وَضعه على شَفَتَيْه تقطعت شفتاه وتساقطت أَضْرَاسه وأنيابه من حره؛ فَإِذا اسْتَقر فِي بَطْنه أخرج مَا كَانَ فِي بَطْنه من دُبُره.
تَفْسِير سُورَة الرَّحْمَن من الْآيَة 46 إِلَى الْآيَة 61.(4/332)
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)
{وَلمن خَافَ مقَام ربه} يَعْنِي: الَّذِي يقوم بَين يَدي ربه لِلْحسابِ فِي تَفْسِير(4/332)
الْحسن {جنتان} قَالَ الْحسن: هِيَ أَربع جنَّات: جنتان للسابقين وهم أَصْحَاب الْأَنْبِيَاء، وجنتان للتابعين.(4/333)
ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48)
{ذواتا أفنان} أَغْصَان؛ يَعْنِي: ظلال الشّجر؛ فِي تَفْسِير الْحسن.
قَالَ محمدٌ: وَاحِدهَا فنن.(4/333)
فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52)
{فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} أَي: نَوْعَانِ.(4/333)
مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54)
{مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إستبرق} تَفْسِير الْحسن. بطائنها؛ يَعْنِي: مَا يَلِي جُلُودهمْ، والاستبرق: الصَّفيق من الديباج.
{وجنى الجنتين} يَعْنِي: ثمارها {دَان} قريب يتناولون مِنْهَا وهم قعُود ومضطجعون وَكَيف شَاءُوا.(4/333)
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)
{فِيهِنَّ قاصرات الطّرف} قصر طرْفهنَّ على أَزوَاجهنَّ لَا يُرِدْن غَيرهم {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ} لم يَمْسَسْهُنَّ إنسٌ {قَبْلَهُمْ وَلا جَان} يَعْنِي: قبل أَزوَاجهنَّ فِي الْجنَّة بعد خلق اللَّه إياهن الْخلق الثَّانِي؛ يَعْنِي: مَا كَانَ من الْمُؤْمِنَات من نسَاء الدُّنْيَا.
قَالَ محمدٌ: من كَلَام الْعَرَب: مَا طمث هَذَا البعيرَ حَبل قطّ.(4/333)
كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)
{كأنهن الْيَاقُوت والمرجان} يُرِيد: صفاء الْيَاقُوت فِي بَيَاض المرجان.(4/333)
هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)
{هَل جَزَاء الْإِحْسَان} الْإِيمَان {إِلَّا الْإِحْسَان} الْجنَّة.
تَفْسِير سُورَة الرَّحْمَن من الْآيَة 62 إِلَى الْآيَة 78.(4/334)
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62)
{وَمن دونهمَا} يَعْنِي الجنتين اللَّتَيْنِ وصف مَا فيهمَا {جنتان} وَهَاتَانِ الجنتان [الأخريان] لأَصْحَاب الْيَمين الَّذين لَيْسُوا من السَّابِقين.(4/334)
مُدْهَامَّتَانِ (64)
{مدهامتان} يَعْنِي: حمراوين ناعمتين.(4/334)
فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66)
{فيهمَا عينان نضاختان} أَي: فوَّارتان.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: ادهامّتِ ادْهيمامًا، والنضخ الْفِعْل مِنْهُ نَضَخَ يَنْضَخُ وَيَنْضِخ، ونَضَح بِالْيَدِ بِالْحَاء غير منقوطة، والنضخُ فِي اللُّغَة أَكثر من النَّضْح.(4/334)
فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70)
{فِيهِنَّ خيرات حسان} يَعْنِي: النِّسَاء، الْوَاحِدَة مِنْهُنَّ: خيرة.(4/334)
قَالَ مُحَمَّد: (خيرات) أصْلُه فِي اللُّغَة: خيراتٌ مخفف كَمَا يُقَال: هيْنٌ ليْنٌ الْمَعْنى: أَنَّهُنَّ حسان الْخلق.(4/335)
حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72)
{حور} أَي: بيض {مقصورات} محبوسات {فِي الْخيام} قَالَ ابْن عَبَّاس: الخيْمة: درّة مجوَّفة فَرسَخ فِي فَرسَخ، لَهَا أَرْبَعَة آلَاف مصراع.(4/335)
مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76)
{متكئين على رَفْرَف خضر} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: المحابس {وَعَبْقَرِيٍّ حسان} قَالَ ابْن عَبَّاس: يَعْنِي: الوسائد.
قَالَ يحيى: الْوَاحِدَة: عبقرة.(4/335)
تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
{تبَارك اسْم رَبك} تقدَّس اسْم رَبك {ذِي الْجَلالِ} العظمة {وَالْإِكْرَام} لأهل طَاعَته.(4/335)
تَفْسِير سُورَة الْوَاقِعَة وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الْوَاقِعَة من الْآيَة 1 إِلَى الْآيَة 9.(4/336)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)
قَوْله: {إِذا وَقعت الْوَاقِعَة} الْقِيَامَة(4/336)
لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2)
{لَيْسَ لوقعتها كَاذِبَة} أَي: هِيَ كَاذِبَة.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: لَيْسَ لوقعتها وقْعَة كَاذِبَة.(4/336)
خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)
{خافضة رَافِعَة} خفضت وَالله أَقْوَامًا إِلَى النَّار، وَرفعت أَقْوَامًا إِلَى الْجنَّة(4/336)
إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
{إِذا رجت الأَرْض رجا} زلزلت زلزالا(4/336)
وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5)
{وبست الْجبَال بسا} فتت فتاة(4/336)
فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)
{فَكَانَت هباء منبثا} قَالَ الْحسن: يَعْنِي: غبارًا ذَا هباء(4/336)
وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7)
{وكنتم أَزْوَاجًا ثَلَاثَة} أصنافا(4/336)
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8)
{فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} وهم الميامين على أنفسهم(4/336)
وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)
{وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ} وهم المشائيم على أنفسهم.
قَالَ محمدٌ: قَوْله: {مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} هَذَا اللَّفْظ فِي الْعَرَبيَّة مجْرَاه مجْرى التَّعَجُّب، كَأَنَّهُ قَالَ: أَي شَيْء هُمْ؟ يُقَال فِي الْكَلَام: فلانٌ مَا فلانٌ، وَمَجْرَاهُ من اللَّه - عز وجلّ - فِي مُخَاطبَة الْعباد مَجْرى مَا يُعَظمُ بِهِ الشَّأْن عندهُمْ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي قَوْله: {مَا أَصْحَاب المشأمة} أَي: أيّ شَيْء(4/336)
هم؟ ! وَيَقُول: يَمَنَ فلَان على الْقَوْم ويَمُن وَهُوَ ميمونٌ، وشأم الْقَوْم وشُئمَ عَلَيْهِم فَهُوَ مشئوم.
تَفْسِير سُورَة الْوَاقِعَة من الْآيَة 10 إِلَى الْآيَة 26.(4/337)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} تَفْسِير الْحسن: السَّابِقُونَ أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأصحابُ الْأَنْبِيَاء(4/337)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13)
{ثلة من الْأَوَّلين} والثلة: الطَّائِفَة(4/337)
وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)
{وَقَلِيل من الآخرين} يَعْنِي: أَن سابقي جَمِيع الْأُمَم أَكثر من سابقي أمة محمدٍ(4/337)
عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15)
{على سرر موضونة} (ل 350) مَرْمولة، ورَمَلها نسجها بالياقوت واللُّؤْلؤ(4/337)
مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)
{متكئين عَلَيْهَا مُتَقَابلين} لَا ينظر بعضُهم إِلَى قَفَا بعضٍ.
قَالَ يحيى: بَلغنِي أَن ذَلِك إِذا تزاوروا(4/337)
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17)
{يطوف عَلَيْهِم ولدان مخلدون} لَا يموتون وَلَا يشيبون على منَازِل الوُصَفاء، خُلِدوا على تِلْكَ الْحَال لَا يتحولون عَنْهَا(4/337)
لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)
{لَا يصدعون عَنْهَا} لَا يصيبهم عَلَيْهَا صُدَاعٌ {وَلا ينزفون} لَا تذْهب(4/337)
عُقُولهمْ أَي: لَا يسكرون(4/338)
وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20)
{وَفَاكِهَة مِمَّا يتخيرون} إِذا اشْتهوا الشعْبَ من الشَّجَرَة انقض إِلَيْهِم فَأَكَلُوا مِنْهُ أيَّ الثِّمَار شَاءُوا؛ إِن شَاءُوا قيَاما، وَإِن شَاءُوا مستلقين.(4/338)
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)
{وَلحم طير مِمَّا يشتهون} قَالَ سَعِيد بْن رَاشد: بَلغنِي أَن الطير تُصَفُّ بَين يَدي الرجل؛ فَإِذا اشْتهى أَحدهَا اضْطربَ ثمَّ صَار بَين يَدَيْهِ نَضِيجًا(4/338)
وَحُورٌ عِينٌ (22)
{وحور عين} أَي: بيضٌ، عينٌ أَي: عِظَام الْعُيُون، الْوَاحِدَة مِنْهُنَّ عَيْنَاء.
وَقَالَ مُحَمَّد: {وحور عين} مَرْفوعٌ بِمَعْنى: ولهُمْ حورٌ عين.(4/338)
كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)
{كأمثال اللُّؤْلُؤ الْمكنون} يَعْنِي: صفاء ألوانهن، والمكنون الَّذِي فِي أصدافه(4/338)
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
{جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} .
قَالَ مُحَمَّد: {جَزَاء} مصدرٌ، الْمَعْنى: يجازون بأعمالهم جَزَاء.(4/338)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25)
{لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا} أَي: بَاطِلا {وَلَا تأثيما} لَا يؤثم بَعضهم بَعْضًا(4/338)
إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
{إِلَّا قيلا سَلاما سَلاما} تَفْسِير بَعضهم: إِلَّا خيرا خيرا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّفْسِير: لَا يسمعُونَ فِيهَا إِلَّا قيلًا يُسْلَمُ فِيهِ من اللَّغْو وَالْإِثْم.
تَفْسِير سُورَة الْوَاقِعَة من الْآيَة 27 إِلَى الْآيَة 40.(4/338)
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)
{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} يَعْنِي: أهل الْجنَّة من غير السَّابِقين، وَأهل الْجنَّة كلهم أَصْحَاب الْيَمين(4/339)
فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28)
{فِي سدر مخضود} المخضودُ: الَّذِي لَا شوك لَهُ(4/339)
وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)
{وطلح منضود} أَي: بعضه على بعضٍ يَعْنِي بالطلح: الشّجر الَّذِي بطرِيق مَكَّة. قَالَ مُجَاهِد: كَانُوا يعْجبُونَ من وَج وظلاله من طَلْحٍ وسِدْرٍ، فَخُوطِبُوا ووعدوا بِمَا يحبونَ مثله.(4/339)
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)
قَوْله: {وظل مَمْدُود} أَي: مُتَّصِل دَائِم أبدا(4/339)
وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31)
{وَمَاء مسكوب} ينسكب بعضُه على بعض، وَلَيْسَ بالمطر(4/339)
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)
{وفرش مَرْفُوعَة} قَالَ أَبُو أُمَامَة: ارتفاعها من الأَرْض قدر مائَة سنة(4/339)
إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35)
{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إنْشَاء} خلَقْناهُنّ؛ يَعْنِي: نسَاء أهل الْجنَّة(4/339)
فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36)
{فجعلناهن أَبْكَارًا} عذارى(4/339)
عُرُبًا أَتْرَابًا (37)
{عربا} يَعْنِي: متحبِّبات إِلَى أَزوَاجهنَّ {أَتْرَابًا} أَي: على سنٍّ وَاحِدَة بَنَات ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة.
قَالَ محمدٌ: {عربا} جمع عَرُوبٍ، وأصل الْكَلِمَة: المُعَارَبة؛ وَهِي المداعَبة وَقَالَ: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إنْشَاء} وَلم يذكر النِّسَاء قبل ذَلِك؛ لِأَن الْفرش مَحل النِّسَاء، فَاكْتفى بِذكر الفُرش، الْمَعْنى: أنشأنا الصبية والعجوز إنْشَاء جَدِيدا.(4/339)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
قَوْله: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ من الآخرين} الثلَّة: الطَّائِفَة.
تَفْسِير سُورَة الْوَاقِعَة من الْآيَة 41 إِلَى الْآيَة 56.(4/339)
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)
{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} وهم أهلُ النَّار.
يَحْيَى: عَنْ فِطْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: " خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَكَانُوا قَبْضَتَهُ، فَقَالَ لِمَنْ فِي يَمِينِهِ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ. وَقَالَ لِمَنْ فِي يَدِهِ الأُخْرَى: ادْخُلُوا النَّارَ وَلا أُبَالِي. فَذَهَبَتْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
قَالَ يحيى: وَبَلغنِي أَنه قَوْله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمين} {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} .(4/340)
فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42)
قَوْله: {فِي سموم وحميم} فِي نَار وحميم؛ يَعْنِي: الشَّرَاب الشَّديد الْحر(4/341)
وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)
{وظل من يحموم} اليحموم: الدُّخان الشَّديد السوَاد(4/341)
لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)
{لَا بَارِدٍ} فِي الظِّلِ {وَلا كريم} فِي الْمنزل، والكريم: الْحسن(4/341)
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} والمترفون أهل السَّعَة وَالنعْمَة فِي الدُّنْيَا(4/341)
وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)
{وَكَانُوا يصرون} يُقِيمُونَ {على الْحِنْث} يَعْنِي: الذَّنب {الْعَظِيم} وَهُوَ الشّرك(4/341)
وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)
{وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا} الْآيَة لَا نبعث نَحن وَلَا آبَاؤُنَا(4/341)
فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
{فشاربون شرب الهيم} يَعْنِي: الْإِبِل العطاش؛ فِي تَفْسِير الْكَلْبِيّ.
قَالَ محمدٌ: بعيرٌ أهْيَمُ وناقة هيماء.(4/341)
هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
{هَذَا نزلهم يَوْم الدّين} يَوْم الْحساب.
قَالَ محمدٌ: نزلهم أَي: رزقهم وطعامهم.
تَفْسِير سُورَة الْوَاقِعَة من الْآيَة 57 إِلَى الْآيَة 62.(4/341)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)
{نَحن خَلَقْنَاكُمْ} يَقُوله للْمُشْرِكين {فلولا} فَهَلا {تصدقُونَ} بِالْبَعْثِ(4/341)
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58)
{أَفَرَأَيْتُم مَا تمنون} يَعْنِي: النُّطْفَة(4/341)
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)
{أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} على الِاسْتِفْهَام أَي: لَسْتُم الَّذين تخلقونه (ل 351)(4/341)
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60)
{نَحن قَدرنَا بَيْنكُم الْمَوْت} لكل عبد وَقت لَا يعدوه {وَمَا نَحن بمسبوقين} بمغلوبين(4/341)
عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)
{على أَن نبدل أمثالكم} آدميين خيرا مِنْكُم يَقُوله للْمُشْرِكين {وننشئكم} نخلقكم (فِيمَا لاَ(4/341)
تَعْلَمُونَ} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي فِي أَي خلق شِئْنَا(4/342)
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى} خلق آدم وَذريته بعده {فَلَوْلاَ} فَهَلا {تَذكَّرُونَ} فتؤمنوا بِالْبَعْثِ.
تَفْسِير سُورَة الْوَاقِعَة من الْآيَة 63 إِلَى الْآيَة 74.(4/342)
أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)
{أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ} أَي تنبتونه يَقُوله لَهُم على الِاسْتِفْهَام {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} أَي: لَسْتُم الَّذين تزرعونه، وَلَكِن نَحن الزارعون المنبتون(4/342)
لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)
{لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ} يَعْنِي: الزَّرْع {حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} تَفْسِير بَعضهم: تعْجبُونَ، الْمَعْنى: يعْجبُونَ لهلاكه بعد خضرته(4/342)
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)
{إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} أَي: مهلكون(4/342)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} حرمنا الزَّرْع.(4/342)
أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69)
{أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} من السَّحَاب.
قَالَ محمدٌ: وَاحِدهَا مزنة.(4/342)
لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)
{لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} {مرا} (فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} هلا تؤمنون؛ يَقُوله للْمُشْرِكين(4/342)
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)
{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} أَي: تستخرجون من الزنود(4/342)
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72)
{أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} الَّتِي تخرج مِنْهَا {أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} .(4/342)
قَالَ محمدٌ: تَقول: أوْرَيْتُ النَّار إيراءً، ولغة أُخْرَى: وَرَيْتُها وَرْيًا إِذا قَدَحْتَها، وَوَرَتْ هِيَ إِذا ظهرتْ، وَمن كَلَامهم: وَرِيَتْ بك زنادي.(4/343)
نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)
{نَحن جعلناها تذكرة} للنار الْكُبْرَى {ومتاعا للمقوين} للمسافرين يَنْتَفِعُونَ بهَا؛ فِي تَفْسِير الْحسن.
قَالَ محمدٌ: المقوي: الَّذِي ينزل بالقَوَاء، وَهِي الأَرْض القفر.(4/343)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
{فسبح باسم رَبك الْعَظِيم} يَقُوله لنَبيه، فنزِّه اللَّهَ مِمَّا يَقُولُونَ.
قَالَ يحيى: وَبَلغنِي أَنَّهَا لما نزلت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " اجْعَلُوهَا فِي ركوعكم. وَلما نزلت: {سَبِّحِ اسْم رَبك الْأَعْلَى} قَالَ: اجْعَلُوهَا فِي سُجُودكُمْ ".
تَفْسِير سُورَة الْوَاقِعَة من الْآيَة 75 إِلَى الْآيَة 82.(4/343)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)
قَوْله: {فَلَا أقسم} أَي: أقسم، و (لَا) زَائِدَة {بمواقع النُّجُوم} نُجُوم الْقُرْآن إِذْ نزل جِبْرِيل على النَّبِي(4/344)
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)
{إِنَّه لقرآن كريم} على الله(4/344)
فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)
{فِي كتاب مَكْنُون} عِنْد الله(4/344)
لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)
{لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} من الذُّنُوب؛ يَعْنِي: الْمَلَائِكَة(4/344)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)
{تَنْزِيل من رب الْعَالمين} نزل بِهِ جِبْرِيل، وفيهَا تقديمٌ يَقُول: تَنْزِيل من رب الْعَالمين فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ.(4/344)
أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)
{أفبهذا الحَدِيث} يَعْنِي: الْقُرْآن {أَنْتُم مدهنون} أَي: تاركون لَهُ، يَقُوله للْمُشْرِكين.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: أدهن فِي أمره وداهن؛ وَهُوَ الْكذَّاب الْمُنَافِق.(4/344)
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
{وتجعلون رزقكم أَنكُمْ تكذبون} أَي: تَجْعَلُونَ مَكَان الرزق التَّكْذِيب.
قَالَ مُحَمَّد: جَاءَ عَنِ ابْن عَبَّاس " أَنه كَانَ يقْرَأ: وتجعلون شكركم أَنكُمْ تكذبون ". وَقيل: إِن لُغَة أَزْد شنُوءَة مَا رزق فلَان أَي: مَا شكر فلَان.
تَفْسِير سُورَة الْوَاقِعَة من الْآيَة 83 إِلَى الْآيَة 96.(4/344)
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)
{فلولا} فَهَلا {إِذا بلغت} النَّفس الَّتِي زعمتم أَن اللَّه لَا يبعثها {الْحُلْقُومَ}(4/345)
فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86)
{فلولا} فَهَلا {إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} غير محاسبين(4/345)
تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)
{ترجعونها إِن كُنْتُم صَادِقين} بأنكم لَا تبعثون(4/345)
فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)
{فَروح وَرَيْحَان} تقْرَأ: (رَوْحٌ) بِفَتْح الرَّاء وَضمّهَا، فَمن قَرَأَهَا بِالْفَتْح فمعناها: الرَّاحَة، وَمن قَرَأَهَا بِالرَّفْع فمعناها: الْحَيَاة الطَّوِيلَة فِي الْجنَّة. وَالريحَان: الرزق.(4/345)
فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)
قَوْله: {فسلام لَك} أَي: خيرٌ لَك {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمين} وَهَؤُلَاء أَصْحَاب الْيَمين من غير المقربين.(4/345)
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)
{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالّين} الْآيَة.
يَحْيَى: عَنْ صَاحِبٍ لَهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَن الْمَيِّتَ تَحْضُرُهُ الْمَلائِكَةُ؛ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، اخْرُجِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانَ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ. فَيُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ، فَيُصْعَدُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا؛ فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: فُلانٌ. فَيُقَالُ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطِّيِّبِ، ادْخُلِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانَ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَان، فيقل لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السَّوْءُ قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، اخْرُجِي ذَمِيمَةً وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ(4/345)
وَغَسَّاقٌ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ، فَيَقُولُونَ ذَلِكَ لَهُ حَتَّى تَخْرُجَ، ثُمَّ يُعْرَجَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا، فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: فُلانُ. فَيُقَالُ: لَا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، ارْجِعِي ذَمِيمَةً، فَإِنَّهُ لَنْ يُفْتَحَ لَكِ! فَتُرْمَى مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، ثُمَّ تَصِيرُ فِي الْقَبْرِ ".
يَحْيَى: عُنْ حَمَّادٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَن (ل 352) بْنِ أَبِي عَنْ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ(4/346)
أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ ".(4/347)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)
قَوْله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِين} هَذَا الَّذِي قَصَصنَا عَلَيْك فِي هَذِه السُّورَة ليقين حق(4/347)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
{فسبح باسم رَبك الْعَظِيم} أَي: نزِّه اللَّه من السوء.(4/347)
تَفْسِير سُورَة الْحَدِيد وَهِي مَدَنِيَّة كلهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الْحَدِيد من الْآيَة 1 إِلَى آيَة 6.(4/348)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
قَوْله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز} فِي نقمته {الْحَكِيم} فِي أمره(4/348)
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
{هُوَ الأول} يَعْنِي: قبل كل شَيْء {وَالآخِرُ} بعد كل شَيْء {وَالظَّاهِر} يَعْنِي: الْعَالم بِمَا ظهر {وَالْبَاطِنُ} يَعْنِي: الْعَالم بِمَا بطن.(4/348)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
{هُوَ الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام} الْيَوْم مِنْهَا ألف سنة {ثُمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش} تَفْسِيرُ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الكُرسي الَّذِي وسع السَّمَاوَات وَالْأَرْض لَمَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَلا يَعْلَمُ قَدْرَ الْعَرْش إِلَّا الَّذِي خلقه {يَعْلَمُ مَا يلج فِي الأَرْض} مَا يدْخل فِيهَا من الْمَطَر {وَمَا يخرج مِنْهَا} مِنَ النَّبَاتِ {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاء} من وَحي وَغَيره {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} يصعد إِلَيْهَا من الْمَلَائِكَة وأعمال الْعباد.(4/348)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَار فِي اللَّيْل} وَهُوَ أَخذ كل وَاحِد مِنْهُمَا من صَاحبه {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} بِمَا فِي الصُّدُور.(4/348)
تَفْسِير سُورَة الْحَدِيد من الْآيَة 7 إِلَى آيَة 10.(4/349)
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
{وَأَنْفِقُوا مِمَّا جعلكُمْ مستخلفين فِيهِ} بعد الْأُمَم الَّتِي أهلك(4/349)
وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
{وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخذ ميثاقكم} فِي صلب آدم {إِنْ كُنْتُمْ مُؤمنين} بِاللَّه وَالرَّسُول؛ فَأنْتم مُؤمنُونَ بذلك الْمِيثَاق(4/349)
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)
{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَات بَيِّنَات} يَعْنِي: الْقُرْآن {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور} من الضَّلَالَة إِلَى الْهدى، يَعْنِي: من أَرَادَ أَن يهديه.(4/349)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيل الله} رَجَعَ إِلَى الْكَلَام الأول {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جعلكُمْ مستخلفين فِيهِ} .
{وَللَّه مِيرَاث السَّمَاوَات وَالْأَرْض} يبقي وَيهْلك كل شَيْء {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قبل الْفَتْح وَقَاتل} فِيهَا تقديمٌ: لَا يَسْتَوِي من أنْفق مِنْكُم من قبل الْفَتْح وَقَاتل، وَهُوَ فتح مَكَّة.
(أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ(4/349)
الْحُسْنَى} يَعْنِي: الْجنَّة؛ من أنْفق وَقَاتل قبل فتح مَكَّة وَبعده.
تَفْسِير سُورَة الْحَدِيد من الْآيَة 11 إِلَى آيَة 15.(4/350)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
{مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} أَي: مُحْتسبًا هَذَا فِي النَّفَقَة فِي سَبِيل اللَّه، وَفِي صَدَقَة التَّطَوُّع {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} الْجنَّة.
قَالَ محمدٌ: من قَرَأَ (فيضاعفه لَهُ) بِالرَّفْع فعلى الِاسْتِئْنَاف، أَي: فَهُوَ يضاعفه لَهُ، وَمن قَرَأَ بِالنّصب فعلى جَوَاب الِاسْتِفْهَام بِالْفَاءِ.(4/350)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
{يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يقودهم إِلَى الْجنَّة {وَبِأَيْمَانِهِم} كتبهمْ، وَهِي بشراهم بِالْجنَّةِ.(4/350)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)
{انظُرُونَا} انتظرونا {نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} وَذَلِكَ أَنه يُعْطي كل مُؤمن ومنافق نورا على الصِّرَاط، فيطفأ نورُ الْمُنَافِقين وَيبقى نورُ الْمُؤمنِينَ، فَيَقُول المُنَافِقُونَ للْمُؤْمِنين: {انظرونا} انتظرونا نقتبس من نوركم، وَيَحْسبُونَ أَنه قبسٌ كقبس الدُّنْيَا إِذا طفئت نَار أحدهم اقتبس، فَقَالَ لَهُم الْمُؤْمِنُونَ وَقد عرفُوا(4/350)
أَنهم مُنَافِقُونَ: ارْجعُوا وراءكم فالتمسوا نورا؛ فَرَجَعُوا وَرَاءَهُمْ فَلم يَجدوا شَيْئا، فهنالك أدركتْهم خدْعةُ اللَّه.
{فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} تَفْسِير مُجَاهِد: السُّور: الْأَعْرَاف {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَة} الْجنَّة {وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} بالنَّار.
قَالَ يحيى: والأعراف جبَلُ أُحُدٍ فِيمَا بَلغنِي يُمثَّلُ يَوْم الْقِيَامَة بَين الْجنَّة وَالنَّار.(4/351)
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)
{ينادونهم} يُنَادي المُنَافِقُونَ الْمُؤمنِينَ حِين ضرب بَينهم بسور {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} فِي الدُّنْيَا على دينكُمْ {قَالُوا بلَى} أَي: فِيمَا أظهرتم {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنفسكُم} يَعْنِي: أكفرتم أَنفسكُم فتربصتم بِالنَّبِيِّ وقلتم: هلك فنرجع إِلَى ديننَا {وارتبتم} شَكَكْتُمْ {وغرتكم الْأَمَانِي} أَي مَا كُنْتُم تتمنون من قَوْلكُم: ُيهلك محمدٌ وَأَصْحَابه، فنرجع إِلَى ديننَا {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ الله} قَالَ بَعضهم: يَعْنِي الْمَوْت {وَغَرَّكُمْ بِاللَّه الْغرُور} الشَّيْطَان أخْبركُم بالوسوسة إِلَيْكُم أَنكُمْ لَا ترجعون إِلَى الله(4/351)
فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
{فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} وَذَلِكَ أَنهم الْإِيمَان يَوْم الْقِيَامَة فَلَا يقبل مِنْهُم الَّذين كفرُوا يَعْنِي (ل 353) الَّذين جَحَدُوا فِي الدُّنْيَا فِي الْعَلَانِيَة، وَأما المُنَافِقُونَ فجحدوا فِي السِّرّ وأظهروا الْإِيمَان، فآمنوا كلهم فِي الْآخِرَة فَلم يقبل مِنْهُم {مَأْوَاكُمُ النَّارُ} يَعْنِي الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ {هِيَ مَوْلاكُمْ} أَي كُنْتُم تتولونها فِي الدُّنْيَا، فتعملون عمل أَهلهَا.
قَالَ محمدٌ: وَقيل (هِيَ مولاكم) هِيَ أولى بكم لما أسلفتم، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ يحيى أَيْضا.(4/351)
تَفْسِير سُورَة الْحَدِيد من الْآيَة 16 إِلَى آيَة 19.(4/352)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تخشع قُلُوبهم لذكر الله} الْخُشُوع الْخَوْف {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحق} يَعْنِي: الْقُرْآن. قَالَ محمدٌ: يَقُول: أَنى الشَّيْء يأني إِذا حَان {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ من قبل} يَعْنِي: الْيَهُود {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} بقاؤهم فِي الدُّنْيَا {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} غلظت {وَكثير مِنْهُم فَاسِقُونَ} يَعْنِي: مَنْ ثَبَتَ مِنْهُمْ عَلَى الشِّرك، تَفْسِير بَعضهم نزلَتْ فِي الْمُنَافِقين، أَمرهم أَن يخلصوا الْإِيمَان؛ كَمَا أخْلص الْمُؤْمِنُونَ وَقَوله: {لِلَّذِينَ آمنُوا} يَعْنِي: أقرُّوا بألسنتهم(4/352)
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)
{إِن المصدقين والمصدقات} يَعْنِي: المتصدِّقين والمتصدِّقات {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قرضا حسنا} يَعْنِي: يقدمُونَ لأَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا فِي التَّطَوُّع. {يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ} ثَوَاب {كريم} الْجنَّة.(4/352)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
{أُولَئِكَ هم الصديقون} صدّقوا بِمَا جَاءَ من عِنْد الله {وَالشُّهَدَاء عِنْد رَبهم} تَفْسِير مُجَاهِد: يشْهدُونَ على أنفسهم بِالْإِيمَان بِاللَّه.
تَفْسِير سُورَة الْحَدِيد من الْآيَة 20 إِلَى آيَة 24.(4/352)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهو} أَي: إِنَّمَا أَهْلَ الدُّنْيَا أَهْلُ لَعِبٍ وَلَهْوٍ، يَعْنِي: الْمُشْركين {كَمثل غيث} مطر {أعجب الْكفَّار نَبَاته} يَعْنِي: مَا أنبتت الأَرْض من ذَلِك الْمَطَر {ثمَّ يهيج} ذَلِك النَّبَات {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يكون حطاما} كَقَوْلِه: {هشيما تَذْرُوهُ الرِّيَاح} .
قَالَ محمدٌ: لم يُفَسر يحيى معنى (الْكفَّار) ، وَرَأَيْت فِي كتاب غَيره أَنهم الزراع. يُقَال للزارع: كَافِر؛ لِأَنَّهُ إِذا ألْقى الْبذر فِي الأَرْض كَفَره أَي غطَّاه، وَقيل: قد يحْتَمل أَن يكون أَرَادَ الْكفَّار بِاللَّه، وهم أَشد إعجابًا بزينة الدُّنْيَا من الْمُؤمنِينَ، وَالله أعلم بِمَا أَرَادَ.
وَقَوله: {ثمَّ يهيج فتراه مصفرا} أَي: يَأْخُذ فِي الْجَفَاف فتبتدىء بِهِ الصُّفْرَة(4/353)
{ثمَّ يكون حطاما} أَي: متحطِّمًا متكسِّرًا ذَاهِبًا. وَقَوله: {وَفِي الْآخِرَة عَذَاب شَدِيد} للْكَافِرِينَ {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} للْمُؤْمِنين {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاع الْغرُور} يغتر بهَا أَهلهَا(4/354)
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
{سابقوا} أَي: بِالْأَعْمَالِ {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْض} يَعْنِي: جَمِيع السَّمَاوَات وَجَمِيع الأَرْض مبسوطات، كل وَاحِدَة إِلَى صاحبتها، هَذَا عرضهَا، وَلَا يصف أحدٌ طولهَا(4/354)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْض} يَعْنِي: الجدوبة وَنقص الثِّمَار {وَلا فِي أَنفسكُم} يَعْنِي: الْأَمْرَاض والبلايا فِي الأجساد {إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَن نبرأها} نخلقها تَفْسِير بَعضهم: من قبل أَن يخلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض {إِنَّ ذَلِك على الله يسير} هَين.(4/354)
لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)
{لكَي لَا تأسوا} تحزنوا {على مَا فاتكم} يَعْنِي من الدُّنْيَا {وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُم} يَعْنِي: من الدُّنْيَا.
قَالَ محمدٌ: وَقيل معنى (تفرحوا) هَا هُنَا أَي: تفرحوا فَرحا شَدِيدا تأشرون فِيهِ وتبْطرون، وَدَلِيل ذَلِك {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فدلّ بِهَذَا أَنه ذمَّ الفرحَ الَّذِي يختالُ فِيهِ صَاحبه ويبطرُ، وَأما الْفَرح بِنِعْمَة اللَّه وَالشُّكْر عَلَيْهَا فَغير مَذْمُوم، وَكَذَلِكَ {كي لَا تأسوا على مَا فاتكم} لَا تحزنوا حزنا شَدِيدا لَا تعتدون فِيهِ، سَوَاء مَا تُسْلَبُونه وَمَا فاتكم.(4/354)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} يَعْنِي: الْيَهُود يأمرون إخْوَانهمْ الْيَهُود بالبخل، بكتمان مَا فِي أَيْديهم من نعت محمدٍ وَالْإِسْلَام {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} عَن خلقه {الحميد} المستحمدُ إِلَى خلقه، اسْتوْجبَ عَلَيْهِم أَن يحمدوه.
تَفْسِير سُورَة الْحَدِيد الْآيَة 25.(4/354)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهم الْكتاب وَالْمِيزَان} أَي: وَجَعَلنَا الْمِيزَان {بِالْقِسْطِ} أَي: بِالْعَدْلِ {وأنزلنا الْحَدِيد} أَي: وَجَعَلنَا (ل 354) الْحَدِيد، أخرجه اللَّه من الأَرْض {فِيهِ بَأْس شَدِيد} يَعْنِي: مَا يصنع مِنْهُ من السِّلَاح. {وَمَنَافع للنَّاس} يَعْنِي: مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ من الْحَدِيد فِي مَعَايشهمْ {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ من ينصره وَرُسُله بِالْغَيْبِ} والغيب: الْبَعْث والحساب وَالْجنَّة وَالنَّار، وَإِنَّمَا ينصر اللَّه ورسولَه من يُؤمن بِهَذَا، وَهَذَا علم الفعَال {إِن الله قوي عَزِيز} فِي نقمته.
تَفْسِير سُورَة الْحَدِيد من الْآيَة 26 إِلَى آيَة 29.(4/355)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذريتهما النُّبُوَّة وَالْكتاب} فَكَانَ أول كتاب نزل فِيهِ الْحَلَال وَالْحرَام كتاب مُوسَى قَالَ: {فَمنهمْ مهتد} يَعْنِي:(4/355)
من ذريتهما {وَكثير مِنْهُم} من ذريتهما {فَاسِقُونَ} مشركون(4/356)
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
{ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وقفينا بِعِيسَى ابْن مَرْيَم} بعدهمْ.
قَالَ محمدٌ: معنى (قَفَّيْنَا) : أتبعنا، والمصْدَر: تقفية.
{وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رأفة وَرَحْمَة} يرأف بَعضهم بِبَعْض، ويرحَم بَعضهم بَعْضًا، ثمَّ اسْتَأْنف الْكَلَام فَقَالَ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} لم نكْتبها عَلَيْهِم، إِنَّمَا ابتدعوها ابْتِغَاء رضوَان اللَّه ليتقربُوا بهَا إِلَى اللَّه. قَالَ الْحسن: ففرضها اللَّه عَلَيْهِم حِين ابتدعوها.
قَالَ مُحَمَّد: (ورهبانية) بالنصْب على معنى: وابتدعوا رَهْبَانِيَّة.
قَالَ {فَمَا رعوها} يَعْنِي: الرهبانية {حق رعايتها} وَلَا مَا فَرضنَا عَلَيْهِم، أَي: مَا أدَّوْا ذَلِك إِلَى اللَّه.(4/356)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)
قَوْله: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} يَعْنِي: أَجْرين {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تمشون بِهِ} يَعْنِي: إِيمَانًا تهتدون بِهِ(4/356)
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
{لِئَلَّا يعلم أهل الْكتاب} هَذِه كلمةٌ عربيَّة يَقُول: لِئَلَّا يعْلمَ وليعلمَ بِمَعْنى وَاحِد {أَلاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ} أَي: أَنهم لَا يقدرُونَ على شَيْءٍ {مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .(4/356)
تَفْسِير سُورَة المجادلة
وَهِي مَدَنِيَّة كلهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة المجادلة من الْآيَة 1 إِلَى آيَة 2.(4/357)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
قَوْله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا} الْآيَة قَالَ: كَانَ طَلَاق أهل الْجَاهِلِيَّة ظِهَارًا، يَقُول الرجل لامْرَأَته: أَنْت عليَّ كَظهر أُمِّي، وَكَانَت خَوْلةُ بنت ثَعْلَبَة تَحت أَوْس بْن صَامت فَظَاهر مِنْهَا؛ فَأَتَت النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِنَّه حِين كَبرت سني ظَاهر مني، قَالَ الْكَلْبِيّ: وَقَالَت: فَهَل من شَيْء يجمَعُني وإياه يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ لَهَا: مَا أُمِرْتُ فِيك بِشَيْء، ارجعي إِلَى بَيْتك فَإِن يأتني شَيْء أعلمتُك بِهِ. فَلَمَّا خرجت من عِنْده رفعتْ يديْها نحْوَ السّماءِ تَدْعُو اللَّه؛ فَأنْزل اللَّه: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إِلَى قَوْله: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا من القَوْل وزورا} كذبا، حَيْثُ يَقُول: أنتِ عليّ كَظهر أُمِّي فيُحرم مَا أحل اللَّه قَالَ: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ} عَنْهُم {غَفُور} .(4/357)
تَفْسِير سُورَة المجادلة من الْآيَة 3 إِلَى آيَة 4.(4/358)
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يعودون لما قَالُوا} يعودون إِلَى مَا حرَّمُوا أَي يُرِيدُونَ الْوَطْء {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} الْآيَة.(4/358)
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتلك حُدُود الله} أَحْكَام اللَّه الَّتِي حدَّ فِي الظِّهَار من العِتق وَالصِّيَام وَالْإِطْعَام.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: (ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا) الْمَعْنى: ذَلِك الَّذِي وَصفنَا لتؤمنوا.
تَفْسِير سُورَة المجادلة من الْآيَة 5 إِلَى آيَة 6.(4/358)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)
{إِن الَّذين يحادون الله} أَي: يعادون اللَّه {وَرَسُولَهُ كُبِتُوا} أخزوا {كَمَا كبت} أُخْزِي {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أنزلنَا آيَات بَيِّنَات} الْقُرْآن.(4/358)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
{فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ ونسوه} أحصى عَلَيْهِم مَا عمِلُوا فِي الدُّنْيَا ونسوه {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} شَاهد لأعمالهم.
تَفْسِير سُورَة المجادلة من الْآيَة 7 إِلَى آيَة 8.(4/358)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابعهم} مَا يكون من خلْوَة ثَلَاثَة يسرُّون شَيْئا ويتناجون بِهِ، إِلَّا هُوَ رابعهم، أَي: عالمٌ بِهِ.(4/359)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَن النَّجْوَى} هم الْيَهُود نُهُوا أَن يتناجوا بِمَعْصِيَة الله ومعصية الرَّسُول، والطعن فِي دين اللَّه {ثُمَّ يعودون لما نهوا عَنهُ} كَانُوا يخلون بَعضهم بِبَعْض {ويتناجون بالإثم والعدوان} (ل 355) الْإِثْم: الْمعْصِيَة، والعدوان: الظُّلم {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} كَانُوا يسلمُونَ على النَّبِي وَأَصْحَابه فَيَقُولُونَ: السَّام عَلَيْكُم، والسَّامُ: الْمَوْت فِي قَول بَعضهم قَالَ: فَكَانَ رَسُول الله يرد عَلَيْهِم على حد السَّلَمِ؛ فَأَتَاهُ جِبْرِيل فَأخْبرهُ أَنهم لَيْسُوا يَقُولُونَ ذَلِك على وَجه التَّحِيَّة فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم لأَصْحَابه: " إِذا سلم عَلَيْكُم من أهل الْكتاب فَقولُوا: عَلَيْك ". أَي: عَلَيْك(4/359)
مَا قلتَ.
{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا} هلا {يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} من السام أَي: إِن كَانَ نبيًّا فسيعذبنا اللَّه بِمَا نقُول. قَالَ اللَّه: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فبئس الْمصير} .
تَفْسِير سُورَة المجادلة من الْآيَة 9 إِلَى آيَة 11.(4/360)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} يَعْنِي: أقرُّوا بالألْسنة {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} كَمَا صنعت الْيَهُود من هَذِه النَّجْوَى الَّتِي ذكر.(4/360)
إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
{إِنَّمَا النَّجْوَى من الشَّيْطَان} الْآيَة تَفْسِير الْكَلْبِيّ: أَن الْمُنَافِقين كَانُوا إِذا غزا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو بعث سَرِيَّة يتغامزون بِالرجلِ إِذا رَأَوْهُ، وَعَلمُوا أَن لَهُ حميمًا فِي الْغَزْو، فيتناجون وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَيَقُول الرجل: مَا هَذَا إِلَّا شيءٌ قد بَلغهُمْ من حميمي، فَلَا يزَال من ذَلِك فِي غمّ وحزن، حَتَّى يقدم حميمه؛ فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة.(4/360)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا} أَي: توسَّعُوا {فِي الْمَجَلِسِ} ، تَفْسِير مُجَاهِد: يَعْنِي: مجلسَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا(4/360)
فَانشُزُوا} إِلَى كل خير من قتال الْعَدو، أَو أمْرٍ معروفٍ مَا كَانَ وَمعنى انشزوا: ارتفعوا {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} فِي الْآخِرَة على الَّذين آمنُوا، أَي: ليْسوا بعلماء.
يَحْيَى: عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عِمْرَانَ الْقَصِيرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي ".
يَحْيَى: عَنْ نُعَيْمِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ الأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " مُعَلِّمُ الْخَيْرِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحُوت فِي الْبَحْر ".(4/361)
تَفْسِير سُورَة المجادلة من الْآيَة 12 إِلَى آيَة 13.(4/362)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} إِلَى قَوْله: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} تَفْسِير قَتَادَة قَالَ: كَانَ الناسُ أحفوا رَسُول الله بِالْمَسْأَلَة حَتَّى آذَوْه؛ فقطعهم اللَّه عَنهُ بِهَذِهِ الْآيَة: {يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} فَكَانَ أحدُهم لَا يَسْتَطِيع أَن يسْأَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَاجَة؛ حَتَّى يقدمَ بيْن يَدي نَجوَاهُ صَدَقَة فاشتدَّ ذَلِك عَلَيْهِم،(4/362)
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
فَأنْزل اللَّه هَذِه الْآيَة فنسختها: {أَأَشْفَقْتُم أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ الله عَلَيْكُم فأقيموا الصَّلَاة} أَي: أَتموا الصّلاة {وَآتُوا الزَّكَاةَ} أَتموا الزَّكَاة.(4/362)
تَفْسِير سُورَة المجادلة من الْآيَة 14 إِلَى آيَة 21.(4/363)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قوما غضب الله عَلَيْهِم} الْآيَة هم المُنَافِقُونَ توَلّوا الْمُشْركين {مَّا هُم مِّنكُمْ} يَقُوله للْمُؤْمِنين مَا هم مِنْكُم فِي بَاطِن أَمرهم، إِنَّمَا يظهرون لكم الْإِيمَان وَلَيْسَ فِي قُلُوبهم {وَلَا مِنْهُم} يَعْنِي من الْمُشْركين فِي ظَاهر أَمرهم؛ لأَنهم يظهرون لكم الْإِيمَان، ويسّرون مَعَهم الشِّرْك {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِب وهم يعلمُونَ} أَنهم كاذبون، يحلف المُنَافِقُونَ أَنهم مُؤمنُونَ وَلَيْسوا بمؤمنين(4/363)
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)
{اتَّخذُوا أَيْمَانهم جنَّة} حَلِفَهم اجْتنُّوا بهَا؛ حَتَّى لَا يُقْتَلُوا وَلَا تُسْبَى ذرِّيتهم، وَلَا تُؤْخَذ أَمْوَالهم.(4/363)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)
{يَوْم يَبْعَثهُم الله جَمِيعًا} يَوْم الْقِيَامَة {فَيحلفُونَ لَهُ} أَنهم كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُؤمنين {كَمَا يحلفُونَ لكم} فِي الدُّنْيَا فتقبلون مِنْهُم {وَيَحْسَبُونَ} يحْسب المُنَافِقُونَ {أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} أَي: أَن ذَلِك يجوز عِنْد اللَّه كَمَا جَازَ لَهُم عنْدكُمْ فِي الدُّنْيَا {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} يَوْم يحلفُونَ لَهُ(4/363)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
{استحوذ} يَعْنِي استولى {عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذكر الله} أَن يذكروه بالإخلاص لَهُ {أُولَئِكَ حزب الشَّيْطَان} شيعةُ الشَّيْطَان {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَان هم الخاسرون} خسروا(4/363)
أنفسهم، فصاروا فِي النَّار، وخسروا الْجنَّة(4/364)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)
{إِن الَّذين يحادون} يعادون {اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأذلين} (ل 356) يذلهم الله.(4/364)
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
{كتب الله} أَي: قضى اللَّه {لأَغْلِبَنَّ أَنَا ورسلي} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى غَلَبَة الرُّسُل على نَوْعَيْنِ: فَمن بُعِث مِنْهُم بِالْحَرْبِ فغالبٌ بِالْحَرْبِ، وَمن بُعث مِنْهُم بِغَيْر حَرْبٍ فَهُوَ غَالب بِالْحجَّةِ.
تَفْسِير سُورَة المجادلة آيَة 22.(4/364)
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخر يوادون} يحبونَ {من حاد} أَي: من عادى {اللَّهَ وَرَسُولَهُ} تَفْسِير الْحسن: إِنَّهُم المُنَافِقُونَ يوادون الْمُشْركين {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ} يَعْنِي: جعل فِي قُلُوبهم {الإِيمَانَ} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ الَّذين لَا يوادون الْمُشْركين {وأيدهم} أعانهم {بِروح مِنْهُ} بنصرٍ مِنْهُ على الْمُشْركين {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضوا عَنهُ} أَي: رَضوا ثَوَابه {أُولَئِكَ حِزْبُ الله} جند اللَّه {أَلا إِنَّ حِزْبَ الله} جند الله {هم المفلحون} السُّعداءُ وهم أهل الْجنَّة.(4/364)
تَفْسِير سُورَة الْحَشْر وَهِي مَدَنِيَّة كلهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الْحَشْر من الْآيَة 1 إِلَى آيَة 4.(4/365)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
قَوْله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ} فِي نقمته {الْحَكِيم} فِي أمره(4/365)
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوّل الْحَشْر} يَعْنِي: الشَّام، وَهِي أَرض الْمَحْشَر {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} يَقُول: مَا ظننتم أَن يحكم اللَّه عَلَيْهِم بِأَن يجلوا إِلَى الشَّام {وظنوا} ظن بَنو النَّضِير {أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حصونهم من الله} أَي: لم يَكُونُوا يحتسبون أَن يخرجُوا من دِيَارهمْ وَمن حصونهم {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} تَفْسِير الْكَلْبِيّ: " لمَّا أُمِر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالسَّيْر إِلَى بني النَّضِير، فَبَلغهُمْ ذَلِك خرّبوا الْأَزِقَّة، وحصّنوا الدّور، فَأَتَاهُم رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم فَقَاتلهُمْ إِحْدَى وَعشْرين لَيْلَة، كلما ظهر على دَار من دُورهمْ أَو درب من دروبهمْ هَدمه ليتّسع المقاتِلُ، وَجعلُوا ينقبون دُورهمْ من أَدْبَارها إِلَى الدَّار الَّتِي تَلِيهَا، ويرمون(4/365)
أَصْحَاب رَسُول الله بنقضها، فَلَمَّا يَئسوا من نَصْرِ الْمُنَافِقين، وَذَلِكَ أَن الْمُنَافِقين كَانُوا وعدوهم إِن قَاتلهم النَّبِي أَن ينصروهم فَلَمَّا يئسوا من نَصرهم سَأَلُوا نَبِي الله الصُّلْح، فَأبى عَلَيْهِم إِلَّا أَن يخرجُوا من الْمَدِينَة، فَصَالحهُمْ على أَن يجليهم إِلَى الشَّام على أنّ لَهُم أَن يحمل أهْلُ كل ثَلَاثَة أَبْيَات على بعير مَا شَاءُوا من طَعَام وسقاء، ولنبي الله وَأَصْحَابه مَا فضل فَفَعَلُوا ".
{فَاعْتَبِرُوا} فتفكروا {يَا أولي الْأَبْصَار} يَعْنِي: الْعُقُول وهم الْمُؤْمِنُونَ(4/366)
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)
{وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجلاء لعذبهم} لَوْلَا أنّ اللَّه حكم عَلَيْهِم بالجلاء إِلَى الشَّام لعذّبهم فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ والسَّبْي.
قَالَ محمدٌ: يُقَال جَلَوْا من أرضهمْ وأجْلَيْتُهم وجَلَوتُهم أَيْضا.(4/366)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} عَادوا الله وَرَسُوله.
تَفْسِير سُورَة الْحَشْر من الْآيَة 5 إِلَى آيَة 6.(4/366)
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} الْآيَة، قَوْله: {فبإذن الله} أَي: أَذِن لكم فِي ذَلِك، وَجعله إِلَيْكُم أَن تقطعوا أَو تتركوا فعقر رَسُول الله يومئذٍ من صنوف التَّمْر غير العَجْوة وَترك العجْوة. قَالَ عِكْرِمَة: كل مَا كَانَ دون العجْوة من النّخل فَهُوَ لينَة.(4/366)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُم} الْآيَة ظن الْمُسلمُونَ أَنه سيقسِمُه(4/366)
بَينهم جَمِيعًا؛ فَقَالَ رَسُول الله للْأَنْصَار: إِن شِئْتُم أَن أقسم لكم وتقروا الْمُهَاجِرين مَعكُمْ فِي دُوركُمْ فعلتُ، وَإِن شئتُم عزلْتُهم وقسمْتُ لَهُم هَذِه الأَرْض وَالنَّخْل فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، بل أقرهم فِي دُورنَا، واقسْم لَهُم الأَرْض وَالنَّخْل. فَجَعلهَا النَّبِي للمهاجرين.
قَالَ محمدٌ: الإيجاف هُوَ من الوجيف، والوجيفُ دون التَّقْرِيب من السَّيْر يُقَال: وَجَفَ الفرسُ وأَوْجَفْتُه. والرِّكاب: الْإِبِل، وَالْمعْنَى: أَنه لَا شَيْء لكم فِيهِ، إِنَّمَا هُوَ لرَسُول اللَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَالِصا يعْمل فِيهِ مَا أحبّ. وَهَذَا الَّذِي أَرَادَ يحيى فِي معنى الْآيَة.
تَفْسِير سُورَة الْحَشْر من الْآيَة 7 إِلَى آيَة 8.(4/367)
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} إِلَى قَوْله {وَابْن السَّبِيل} تَفْسِير قَتَادَة: لما نزلت هَذِه الْآيَة كَانَ الْفَيْء بَين هَؤُلَاءِ، فَلَمَّا نزلت الْآيَة فِي الْأَنْفَال (ل 357) {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ} نسخت الْآيَة الأولى فَجعل الْخمس لمن كَانَ لَهُ الْفَيْء، وَصَارَ مَا بَقِي من الْغَنِيمَة لمن قَاتل(4/367)
عَلَيْهِ. قَوْله: {كَيْلاَ يَكُونَ دُولَةً} يَعْنِي الْفَيْء {بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} فَلَا يكون للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين فِيهِ حق.
قَالَ مُحَمَّد: (دولة) من التداول أَي: يتداوله الأغنياءُ بَينهم.
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} نزلت فِي الْغَنِيمَة، ثمَّ صَارَت بعد فِي جَمِيع الدّين. قَالَ: {وَمَا نهاكم عَنهُ} من الْغلُول {فَانْتَهوا} وَهِي بعد فِي جَمِيع الدّين.(4/368)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
قَوْله: {للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين} أَي: وللفقراء، رَجَعَ إِلَى أول الْآيَة {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل} وللفقراء الْمُهَاجِرين الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ أخرجهم الْمُشْركُونَ من مَكَّة {يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ ورضوانا} بِالْعَمَلِ الصَّالح {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هم الصادقون} من قُلُوبهم.
تَفْسِير سُورَة الْحَشْر من الْآيَة 9 إِلَى آيَة 10.(4/368)
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
{وَالَّذين} أَي: وللذين، هُوَ تبعٌ للْكَلَام الأول (تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن(4/368)
قَبْلِهِمْ} يَعْنِي: الْأَنْصَار، وَقَوله: (تَبَوَّءُوا الدَّارَ) يَعْنِي: استوطنوا الْمَدِينَة، وَكَانَ إِيمَان الْأَنْصَار قبل أَن يُهَاجر إِلَيْهِم الْمُهَاجِرُونَ {يُحِبُّونَ} يَعْنِي: الْأَنْصَار {مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا} مِمَّا أُوتِيَ الْمُهَاجِرُونَ يَعْنِي: مَا قُسِم للمهاجرين من بني النَّضِير {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .
قَالَ أَبُو المتَوَكل النَّاجِي: " إِن رجلا من الْمُسلمين عَبر ثَلَاثَة أَيَّام صَائِما يُمْسِي فَلَا يجدُ مَا يُفْطِرُ عَلَيْهِ، فَيُصْبِح صَائِما، حَتَّى فطن لَهُ رجلٌ من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ: ثَابت بْن قَيْس، فَقَالَ لأَهله: إِنِّي أجيء اللَّيْلَة بضيف لي فَإِذا وضعْتم طَعَامكُمْ، فَليقمْ بعضُكم إِلَى السِّراج كَأَنَّهُ يصلحه، فيُطْفِئُه، ثمَّ اضربوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى الطَّعَام كأنكم تَأْكُلُونَ، وَلَا تَأْكُلُوا حَتَّى يشْبع ضيفنا. فَلَمَّا أمْسَى وضع أهلُه طعامهم، فَقَامَتْ امْرَأَته إِلَى السّراج كَأَنَّهَا تُصْلحه؛ فأطفأتْه ثمَّ جعلُوا يضْربُونَ بِأَيْدِيهِم إِلَى الطَّعَام، كَأَنَّهُمْ يَأْكُلُون وَلَا يَأْكُلُون، حَتَّى شبع ضيفهم، وَإِنَّمَا كَانَت خبْزَة هِيَ قُوتهم، فَلَمَّا أصبح ثَابت غَدا إِلَى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِي: يَا ثَابت لقد عجب اللَّه مِنْكُم البارحة وَمن ضيفكم، وأُنزلت فِيهِ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بهم خصَاصَة} {قَوْله} (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} تَفْسِير سعيد بْن جُبَير: يَعْنِي: وُقِيَ إدخالَ الْحَرَام، ومَنْعَ الزَّكَاة.
يَحْيَى: عَنْ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَدَّى الزَّكَاة(4/369)
مَالِهِ، فَقَدْ أَعْطَى حَقَّ اللَّهِ فِيهِ، وَمَنْ زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ".(4/370)
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
قَوْله: {وَالَّذين} أَي وللذين، هُوَ تبعٌ للْكَلَام الأول {جَاءُوا من بعدهمْ} يَعْنِي: بعد أَصْحَاب النَّبِي إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَلم يبْق أحدٌ إِلَّا وَله فِي هَذَا المَال حقٌّ أُعْطِيَهُ أَو مُنِعَه {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان} هم أَصْحَاب النَّبِي {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبنَا غلا} حسداً {للَّذين آمنُوا} .
تَفْسِير سُورَة الْحَشْر من الْآيَة 11 إِلَى آيَة 14.(4/370)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهل الْكتاب} تَفْسِير الْحسن: يَعْنِي: قُرَيْظَة وَالنضير (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ(4/370)
فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا} يَقُول المُنَافِقُونَ: لَا نطيع فِيكُم مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه {وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} فَأجلى رَسُول الله بني النَّضِير إِلَى الشَّام فَلم يخرجُوا مَعَهم، وَقتل قُرَيْظَة بعد ذَلِك بِحكم سعد بْن معَاذ، فَلم يقاتلوا مَعَهم.(4/371)
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)
قَوْله: {لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ} أَي: هم أشدُّ خوفًا مِنْكُم مِنْهُم من اللَّه يَعْنِي: الْمُنَافِقين.(4/371)
لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)
{لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ} يَعْنِي: الْيَهُود {جَمِيعًا إِلاَ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ} أَي: لَا يقاتلونكم من شدَّة رعبهم الَّذِي دخلهم مِنْكُم {أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ} {ل 358} يَعْنِي {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} أَي: إِذا اجْتَمعُوا قَالُوا: لنفعلن بِمُحَمد كَذَا ولنفعلن بِهِ كَذَا. قَالَ اللَّه لنَبيه: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} أَي: مفرقة فِي قتالكم.
تَفْسِير سُورَة الْحَشْر من الْآيَة 15 إِلَى آيَة 17.(4/371)
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)
{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من قبل قتل قُرَيْظَة. {قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} يَعْنِي: النَّضِير، كَانَ بَين إجلاء النَّضِير وَقتل قُرَيْظَة سنتَانِ، والوبال: الْعقُوبَة، الْمَعْنى: ذاقوا جَزَاء ذنبهم.(4/371)
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ} إِلَى قَوْله: {وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ} .(4/371)
قَالَ يحيى: وَبَلغنِي أَن عابدًا كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل قد خرج من الدُّنْيَا، وَاتخذ ديرًا يتعبَّدُ فِيهِ، فَطَلَبه الشَّيْطَان أَن يُزِيلهُ فَلم يسْتَطع عَلَيْهِ، فَلَمَّا رأى ذَلِك الشَّيْطَان جَاءَ إِلَى ابْنة الْملك فَدخل فِيهَا فَأَخذهَا، فدَعَوْا لَهَا الْأَطِبَّاء فَلم يغْنوا عَنْهَا شَيْئا، فتكلّم على لسانها، فَقَالَ: لَا ينفعها شَيْء إِلَّا أَن تَأْتُوا بهَا إِلَى فلانٍ الراهب فيدعو لَهَا، فَذَهَبُوا بهَا إِلَيْهِ، فجعلوها عِنْده فأصابها يَوْمًا مَا كَانَ بهَا، فَانْكَشَفَتْ وَكَانَت امْرَأَة حسناء؛ فأعجبه بياضُها وحسنها، فَوَقع بهَا فأحْبلها، فَذهب الشَّيْطَان إِلَى أَبِيهَا وإخوتها فَأخْبرهُم، وَقَالَ لَهُ: اقتلْها وادفنها لَا يُعْلَمُ أَنَّك قتلتها، فَقَتلهَا الراهب ودفنَها إِلَى أصْل حَائِط، وَجَاء أَبوهَا وإخوتها وَجَاء الشَّيْطَان بَين أيديهمْ، فسبقهم إِلَى الراهب وَقَالَ: إِن الْقَوْم قد علمُوا مَا صنعْتَ بِالْمَرْأَةِ، فَإِن سجدت لي سَجْدَة رددتهُم عَنْك فَسجدَ لَهُ، فَلَمَّا سجد لَهُ أَخْزَاهُ اللَّه وتبرأ مِنْهُ الشَّيْطَان، وَجَاء أَبوهَا وإخوتها فاستخرجوها من حَيْثُ دَفنهَا، وعَمِدوا إِلَى الراهب فصلبوه، فَضرب اللَّه مثل الْمُنَافِقين حِين خذلوا الْيَهُود فَلم ينصروهم، وَقد كَانُوا وعدوهم النُّصْرَة كَمثل الشَّيْطَان فِي هَذِه الْآيَة: {إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَاف الله رب الْعَالمين} وَكذب قَالَ اللَّه: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا} عَاقِبَة الشَّيْطَان وَذَلِكَ الراهب {أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمين} الْمُشْركين.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: (خَالِدَيْنِ فِيهَا) هُوَ نصب على الْحَال.
تَفْسِير سُورَة الْحَشْر من الْآيَة 18 إِلَى آيَة 21.(4/372)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)
قَوْله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا الله} يَعْنِي: تركُوا ذكْرَ اللَّه بالإخلاص من قُلُوبهم {فأنساهم أنفسهم} تَركهم من أَن يذكروها بالإخلاص لَهُ قَالَ: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وَهُوَ فسق الشّرك.(4/373)
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
{لَو أنزلنَا هَذَا الْقُرْآن على جبل} على حد مَا أَنزَلْنَاهُ على الْعباد من الثَّوَاب وَالْعِقَاب وَالْأَمر وَالنَّهْي {لرأيته خَاشِعًا} أَي: خَائفًا {مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ الله} يوبّخ بذلك الْعباد {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ} يَعْنِي: الْأَشْبَاه {نَضْرِبهَا للنَّاس} يهمي " نصفُها لَهُم {لَعَلَّهُم يتفكرون} لكَي يتفكروا فيعلموا أَنهم أَحَق بخشية اللَّه من هَذَا الْجَبَل؛ لأَنهم يخَافُونَ الْعقَاب، وَلَيْسَ على الْجَبَل عِقَاب.
تَفْسِير سُورَة الْحَشْر من الْآيَة 22 إِلَى آيَة 24.(4/373)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)
{عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة} الْغَيْب: مَا أخْفى العبادُ، وَالشَّهَادَة: مَا أعْلنُوا.(4/373)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
{الْملك القدوس} يَعْنِي: الطَّاهِر {السَّلَام} سلِمَ الْخَلَائق من ظلمه {الْمُؤْمِنُ} تَفْسِير الْحسن: الْمُؤمن بِنَفسِهِ قبل إِيمَان خَلْقه كَقَوْلِه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ} الْآيَة {الْمُهَيْمِن} تَفْسِير بَعضهم: الشَّهِيد على خلقه(4/373)
{الْعَزِيز} تَفْسِير الْحسن: بعزَّته ذلَّ مَنْ دونه {الْجَبَّار} تَفْسِير بَعضهم: القاهر لخلقه بِمَا أَرَادَ {المتكبر} الَّذِي يتكبّر على خلْقه {سُبْحَانَ الله} نزّه نفْسه {عَمَّا يُشْرِكُونَ} .(4/374)
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} والبارئ هُوَ المصور الَّذِي يصور فِي الْأَرْحَام وَغَيرهَا مَا يَشَاء {لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى} .
يحيى: عَنْ خِدَاشٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مِائَةٌ غَيْرُ وَاحِدٍ، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ".
قَالَ محمدٌ: من النَّاس من قَالَ: معنى أحصاها: حفظهَا، وَمِنْهُم من قَالَ: الْمَعْنى: من تعبَّد لله بهَا.
{يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز} فِي نقمته {الْحَكِيم} فِي أمره.(4/374)
تَفْسِير سُورَة الممتحنة وَهِي مَدَنِيَّة كلهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الممتحنة من الْآيَة 1 إِلَى آيَة 3.
(ل 359)(4/375)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
قَوْله: {يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء} يَعْنِي فِي الدّين {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} أَي: تلقونَ إِلَيْهِم المودّة {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يخرجُون الرَّسُول وَإِيَّاكُم} أَي: أخرجُوا الرَّسُول وَإِيَّاكُم {أَنْ تؤمنوا بِاللَّه ربكُم} أَي: إِنَّمَا أخرجوكم من مَكَّة؛ لأنكم آمنتم بِاللَّه ربكُم. ثمَّ قَالَ: {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بالمودة} كَمَا صنع المُنَافِقُونَ {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَله مِنْكُم} أَي: وَمن ينافق مِنْكُم {فَقَدْ ضل سَوَاء السَّبِيل} قصد الطَّرِيق(4/375)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
{إِن يثقفوكم} يلقَوْكم {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُم أَيْديهم} أَي: يُقَاتِلُوكُمْ {وألسنتهم} أَي: ويبسطوا إِلَيْكُم ألسنتهم {بِالسُّوءِ} بالشتم.(4/375)
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
{يَوْم الْقِيَامَة يفصل بَيْنكُم} بَين الْمُؤمنِينَ وَبَين الْمُشْركين؛ فَيدْخل الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ، وَيُدْخِلَ الْكَافِرِينَ النَّارَ {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} نزل هَذَا فِي أَمر حَاطِب بْن أبي بَلتعة، تَفْسِير الْكَلْبِيّ: أَن حَاطِب بْن أبي بلتعة كتب إِلَى أهل مَكَّة أَن مُحَمَّدًا يَغْزُو، وَإِنِّي لَا أَدْرِي إيَّاكُمْ يُريدُ أَو غَيْركُمْ فَعَلَيْكُم بالحذر.
قَالَ يحيى: بَلغنِي أَنه كتب مَعَ امْرَأَة مولاة لنَبِيّ هَاشم وَجعل لَهَا جُعْلًا، وَجعلت الْكتاب فِي خمارها، فجَاء جِبْرِيل إِلَى رَسُول الله فَأخْبرهُ، فَبعث رَسُول الله فِي طلبَهَا عليا ورجلاً آخر، ففتشاها فَلم يجدا مَعهَا شَيْئا، فَأَرَادَ صَاحبه الرُّجُوع فَأبى عَليّ وسَلَّ عَلَيْهَا السَّيْفَ، وَقَالَ: وَالله مَا كَذَبتُ وَلَا كُذِبْتُ، فَأخذت عَلَيْهِمَا إِن أَعْطتْهُ إيَّاهُمَا أَلا يَرُداها، فأخرجت الْكتاب من خمارها.
قَالَ الْكَلْبِيّ: فَأرْسل رَسُول الله إِلَيْهِ هَل تعرف هَذَا يَا حاطبُ؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَمَا حملك عَلَيْهِ؟ قَالَ: أما وَالَّذِي أنزل عَلَيْك الْكتاب مَا كفرت مُنْذُ آمنتُ، وَلَا أحببْتُهم مُنْذُ فَارَقْتهمْ، وَلم يكن من أَصْحَابك أحدٌ إِلَّا وَله بِمَكَّة من يمْنَع الَّذِي لَهُ غَيْرِي، فأحببتُ أَن أَتَّخِذ عِنْدهم مَوَدَّة، وَقد علمت أَن اللَّه منزلٌ عَلَيْهِم بأسه ونِقْمَته، وَإِن كتابي لن يُغني عَنْهُم شَيْئا، فصدّقه رَسُول الله وعَذَره؛ فَأنْزل اللَّه هَذَا فِيهِ.
تَفْسِير سُورَة الممتحنة من الْآيَة 4 إِلَى آيَة 5.(4/376)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
وَقَالَ: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله كفرنا بكم} أَي: بولايتكم فِي الدّين.
{وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} أَن أُدْخِلَك فِي الْإِيمَان، وَلَا أَن أَغفر لَك. يَقُول: قد كَانَت لكم فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذين مَعَه أُسْوَة حَسَنَة إِلَّا قَول إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ: لأَسْتَغْفِرَن لَك، فَلَا تستغفروا للْمُشْرِكين.(4/377)
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
{رَبنَا لَا تجعلنا فتْنَة} بلية {للَّذين كفرُوا} الْآيَة؛ أَي: لَا تظهر علينا الْمُشْركين، فيقولوا: لَو كَانَ هَؤُلَاءِ على دين مَا ظهرنا عَلَيْهِم، فيفتنوا بِنَا.
تَفْسِير سُورَة الممتحنة من الْآيَة 6 إِلَى آيَة 9.(4/377)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
قَوْله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَة حَسَنَة} الْآيَة رَجَعَ إِلَى قَوْله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيم} فَأمر اللَّه نبيّه وَالْمُؤمنِينَ بِالْبَرَاءَةِ من قَومهمْ مَا داموا كفَّارًا؛ كَمَا برِئ إِبْرَاهِيم وَمن مَعَه من قَومهمْ؛ فَقطع الْمُؤْمِنُونَ ولايتهم من أهل مَكَّة، وأظهروا لَهُم الْعَدَاوَة قَالَ: {وَمن يتول} عَن الْإِيمَان {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيّ} عَن خلقه {الحميد} اسْتوْجبَ عَلَيْهِم أَن يحمدوه(4/377)
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} فَلَمَّا أسلم أهل مَكَّة، خالطهم أَصْحَاب رَسُول الله وناكحوهم، وتزوّج رَسُول الله أمّ حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان، وَهِي المودّة الَّتِي ذكر اللَّه.(4/378)
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تبروهم} بالصلة {وتقسطوا إِلَيْهِم} أَي: تعدلوا إِلَيْهِم فِي أَمْوَالكُم {إِن الله يحب المقسطين} العادلين.
قَالَ مُحَمَّد: قيل: إِن معنى (تقسطوا إِلَيْهِم) (ل 360) : تعدلوا فِيمَا بَيْنكُم وَبينهمْ من الْوَفَاء بالعهد.
قَالَ يحيى: وَكَانَ هَذَا قبل أَن يُؤمر بِقِتَال الْمُشْركين كَافَّة، كَانَ الْمُسلمُونَ قبل أَن يُؤمر بقتالهم استشاروا النَّبِي فِي قرابتهم من الْمُشْركين أَن يصلوهم ويبروهم، فَأنْزل اللَّه هَذِه الْآيَة فِي تَفْسِير الْحسن.(4/378)
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدّين} يَعْنِي: كفَّار أهل مَكَّة. {وَأَخْرَجُوكُمْ من دِيَاركُمْ} يَعْنِي: من مَكَّة {وظاهروا} أعانوا {عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} .
تَفْسِير سُورَة الممتحنة الْآيَة 10.(4/378)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مهاجرات فامتحنوهن} وَهَذِه فِي نسَاء أهل الْعَهْد من الْمُشْركين، وَكَانَت محنتهن فِي تَفْسِير قَتَادَة أَن يُسْتَحْلفْن بِاللَّه مَا أخرجهُنّ النشوزُ، وَمَا أخرجهنّ إِلَّا حُبُّ الْإِسْلَام والحرص عَلَيْهِ.
{الله أعلم بإيمانهن} أصدقن أم كذبن {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات} إِذا أقررن بِالْإِسْلَامِ، وحلفن بِاللَّه مَا أخرجهُنّ النشوزُ، وَمَا أخرجهنّ إِلَّا حُبُّ الْإِسْلَام والحرص عَلَيْهِ {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ} مهورهن {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} يَعْنِي: كوافر الْعَرَب إِذا أبَيْن أَن يُسْلِمْنَ أَن يُخلَّى سبيلُهنّ {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنكُم} وَهَذَا حكمٌ حكمه اللَّه بَين أهل الْهدى وَأهل الضَّلَالَة، فِي تَفْسِير قَتَادَة.
قَالَ قَتَادَة: كن إِذا فررْن إِلَى أَصْحَاب رَسُول الله وأزواجهن من أهلِ الْعَهْد فتزوّجُوهُن، بعثوا بمهورهنّ إِلَى أَزوَاجهنَّ من الْمُشْركين، وَإِذا فررْن من أَصْحَاب رَسُول الله إِلَى الْكفَّار الَّذين بَينهم وَبَين رَسُول الله عهدٌ فتزوجوهنّ، بعثوا بمهورهن إِلَى أَزوَاجهنَّ من الْمُسلمين، فَكَانَ هَذَا بَين أَصْحَاب رَسُول الله وَبَين أهل الْعَهْد من الْمُشْركين، ثمَّ نسخ هَذَا الحكم وَهَذَا الْعَهْد فِي بَرَاءَة فنبذ إِلَى كل ذِي عهدٍ عَهده، وَقد مضى تَفْسِيره.(4/379)
تَفْسِير سُورَة الممتحنة من الْآيَة 11 إِلَى الْآيَة 13.(4/380)
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
{وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} الَّذين لَيْسَ بَيْنكُم وَبينهمْ عهدٌ {فعاقبتم} أَي: فغنمتم.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: كَانَت العقبى لكم فغنمتم.
{فَآتُوا الَّذين ذهبت أَزوَاجهم} يَعْنِي: من أَصْحَاب النَّبِي {مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُم بِهِ مُؤمنُونَ} فَكَانُوا إِذا غنموا غنيمَة أعْطوا زَوجهَا صَدَاقهَا الَّذِي كَانَ سَاق إِلَيْهَا من جَمِيع الْغَنِيمَة، ثمَّ تُقْسَم الْغَنِيمَة بعد، ثمَّ نسخ ذَلِك مَعَ الْعَهْد وَالْحكم بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ} .(4/380)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
قَوْله: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَين أَيْدِيهنَّ وَأَرْجُلهنَّ} يَعْنِي: أَن تلْحق إِحْدَاهُنَّ بزوجها ولدا لَيْسَ لَهُ {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوف} قَالَ الْحسن: نهاهُنّ عَن النِّياحة، وَأَن يحادثن الرِّجَال.(4/380)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} أقرُّوا فِي الْعَلَانِيَة، يَعْنِي: المنافين (لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْمًا(4/380)
غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} قَالَ الْحسن: يَعْنِي: الْيَهُود {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ} أَي: من نعيم الْآخِرَة، يَعْنِي: الْيَهُود زَعَمُوا أَن لَا أكل فِيهَا وَلَا شُرْب، قد يئسوا من ذَلِك؛ كَمَا يئس من مَاتَ من الْكفَّار من الْجنَّة حِين عاينوا النَّار.(4/381)
تَفْسِير سُورَة الصَّفّ وَهِي مَدَنِيَّة كلهَا
تَفْسِير سُورَة الصَّفّ الْآيَات من الْآيَة 1 إِلَى الْآيَة 4.(4/382)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
{سبح لله مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ} فِي نقمته {الْحَكِيم} فِي أمره(4/382)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} تَفْسِير الْحسن: يَعْنِي: الْمُنَافِقين نسبهم إِلَى الْإِسْلَام الَّذِي أظهرُوا، وَهُوَ الْإِقْرَار، وَكَانُوا يَقُولُونَ: نجاهد مَعَ رَسُول الله، ونؤمن بِهِ، فَإِذا جَاءَ الْجِهَاد بعدوا عَنهُ(4/382)
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
قَالَ اللَّه: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} .
قَالَ مُحَمَّد: {لم تَقولُونَ} الأَصْل (لما) فحذفت الْألف لِكَثْرَة استعمالهم (مَا) فِي الِاسْتِفْهَام، فَإِذا وقفت عَلَيْهَا قلت: لِمَهْ، وَلَا وقف عَلَيْهَا فِي الْقُرْآن بِالْهَاءِ إتباعاً للمصحف، (ل 361) وَيَنْبَغِي للقارئ أَن يصلها.
وَقَوله: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقولُوا} (أَن) فِي مَوضِع رفع، و (مقتاً) مَنْصُوب على التَّمْيِيز، الْمَعْنى: كَبُرَ قَوْلكُم: مَا لَا تَفْعَلُونَ مقتًا.(4/382)
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
قَالَ يحيى: ثمَّ وصف الْمُؤمنِينَ فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص} ذكر ثبوتهم فِي صفوفهم، كَأَنَّهُ بنيانٌ قد(4/382)
رص بعضه إِلَى بعض.
تَفْسِير سُورَة الصَّفّ الْآيَة 5.(4/383)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم} يَعْنِي: الْخَاصَّة الَّذين يعلمُونَ أَنه رَسُول الله الَّذين كذبوه وآذوه، فَكَانَ فِيمَا آذوه بِهِ أَن زَعَمُوا أَنه آدَرُ {فَلَمَّا زَاغُوا أزاغ الله قُلُوبهم} والزيْغُ: الشّرك {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْم الْفَاسِقين} يَعْنِي: الَّذِينَ يَلْقَوْنَ اللَّهَ بِشِرْكِهِمْ.
تَفْسِير سُورَة الصَّفّ الْآيَات من الْآيَة 6 إِلَى الْآيَة 9.(4/383)
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمه أَحْمد} .
مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَا أَحْمَدُ وَأَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ يَعْنِي: الآخِرَ ".(4/383)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)
{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} يَعْنِي: الَّذِينَ يَلْقَوْنَ اللَّهَ بِشِرْكِهِمْ(4/384)
يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} أَي: بتكذيبهم وبقتالهم، ونوره: الْإِسْلَام وَالْقُرْآن، أَرَادوا أَن يطفئوه؛ حَتَّى لَا يكون إِيمَان(4/385)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ} تَفْسِير الْحسن: حَتَّى تدين لَهُ الْأَدْيَان كلهَا، وَيحكم على أهل الْأَدْيَان كلهَا، وَتَفْسِير ابْن عَبَّاس: حَتَّى يظْهر النَّبِي على الدّين كُله على شرائع الْإِسْلَام كلهَا، فَلم يقبض رَسُول الله، حَتَّى أتمَّ اللَّه ذَلِك لَهُ.
يَحْيَى: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدٍ، عَنْ سُلَيْمِ بِنْ عَامِرٍ الْكَلَاعِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَبْقَى أَهْلُ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الإِسْلامَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، إِمَّا يُعِزُّهُمْ فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا، وَإِمَّا يذلهم فيدينون لَهَا ".
تَفْسِير سُورَة الصَّفّ الْآيَات من الْآيَة 10 إِلَى الْآيَة 13.(4/385)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} تَفْسِير الْكَلْبِيّ: إِن هَذَا جَوَاب لقَولهم: لَو نعلَمُ أحبّ الْأَعْمَال إِلَى اللَّه وأرضاها عِنْده لعملْنا بهَا، فَقَالَ الله: {يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَة} إِلَى قَوْله: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .(4/385)
يَحْيَى: عَنِ الْمُعَلَّى بْنِ هِلالٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ تُرِيدُونَ مِنْ رَبِّكُمْ إِلا أَنْ يَغْفِرَ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلَكُمُ الْجَنَّةَ؟ قَالُوا: حَسْبُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَاغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ".
يَحْيَى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ دَمِعَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَلَى عَيْنٍ سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ".
يَحْيَى: عَنْ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً آخِرُهُمْ دُخُولا رَجُلٌ مَسَّهُ سُفْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَيُعْطَى فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ مَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، وَيَفْسَحُ لهُمْ فِي أَبْصَارِهِمْ، فَيَنْظُرُ إِلَى مَسِيرَةِ سَنَة كُلُّهُ لَهُ لَيْسَ فِيهِ مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلا وَهُوَ عَامِرٌ، قُصُورَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَخِيَامَ اللُّؤْلُؤِ(4/386)
وَالْيَاقُوتِ، فِيهَا أَزْوَاجُهُ وَخَدَمُهُ ".
يَحْيَى: عَنْ صَاحِبٍ لَهُ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ: " أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ اسْتَخَفَّ زَوْجَتَهُ الْفَرَحُ فَتَخْرُجُ مِنَ الْخَيْمَةِ تَسْتَقْبِلُهُ، فَتَقُولُ: أَنْتَ حِبِّي وَأَنَا حِبُّكَ، نَحْنُ الرَّاضِيَاتُ اللاتِي لَا نَسْخَطُ أَبَدًا، وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ اللاتِي لَا نَبْؤُسُ أَبَدًا، وَنَحْنُ الْخَالِدَاتُ اللاتِي لَا نَمُوتُ أَبَدًا، الْمُقِيمَاتُ اللاتِي لَا نَظْعَنُ أَبَدًا، أَنْتَ حِبِّي وَأَنَا حِبُّكَ، فَتُدْخِلُهُ بَيْتًا أَسَاسُهُ إِلَى سَقْفِهِ مِائَةَ أَلْفِ ذِرَاعٍ مَبْنِيًّا عَلَى جَنْدَلِ اللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ طَرَائِقُ حُمْرٌ وَخُضْرٌ وَصُفْرٌ لَيْسَ مِنْهَا طَرِيقَةٌ تُشَاكِلُ صَاحِبَتِهَا، فَإِذَا رَفَعُوا أَبْصَارَهُمْ إِلَى سَقْفِ بُيُوتِهِمْ، فَلَوْلا أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ أَلا تذْهب أَبْصَارهم (ل 362) لَذَهَبَتْ مِمَّا يَرَوْنَ مِنَ النُّورِ والبهاء فِي سقوف بُيُوتهم ".(4/387)
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
قَالَ محمدٌ: قَوْله {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تحتهَا الْأَنْهَار} هُوَ جَوَاب {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وتجاهدون} ؛ لِأَن مَعْنَاهُ معنى(4/387)
الْأَمر، الْمَعْنى: آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله، وَجَاهدُوا يغْفر لكم.(4/388)
وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
قَوْله: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ الله} على أعدائه {وَفتح قريب} مَكَّة {وَبشر الْمُؤمنِينَ} بِأَن لَهُم الجنّة جنَّات عدْن فِي الْآخِرَة، والنصر فِي الدُّنْيَا على أعدائهم.
قَالَ محمدٌ: (وَأُخْرَى تحبونها) : وَلكم تِجَارَة أُخْرَى تحبونها، وَهِي نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ.(4/388)
تَفْسِير سُورَة الصَّفّ الْآيَة 14.(4/389)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} ولمحمدٍ بِالْقِتَالِ على دينه {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ} وهم أصفياء الْأَنْبِيَاء {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى الله} أَي مَعَ اللَّه.
{فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} فقاتلت الطائفةُ المؤمنة الطَّائِفَة الْكَافِرَة {فأيدنا} أعنا {الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبحُوا ظَاهِرين} عَلَيْهِم قد ظفروا بهم.
قَالَ مُحَمَّد: (الحواريون) أصل الْكَلِمَة من التحوير للثياب وَغَيرهَا وَهُوَ التّبْييضُ، تَقول: حوَّرتُ الثَّوْب، أَي: غسلته وبيضته، واحْوَرَّت القِدْرُ ابيضَّ لَحمهَا قبل أَن ينضج، والحَوْرَاء من هَذَا أَيْضا وَهِي الشَّدِيدَة الْبيَاض، وخبز الحُوَّارَى هُوَ من هَذَا؛ لِأَنَّهُ خالصٌ أَبيض نقيٌّ، فَكَأَن الحَوَارِيَّ من النَّاس الصافي من العُيوب الْخَالِص فِي دينه النقي، وَالله أعلم.(4/389)
تَفْسِير سُورَة الْجُمُعَة وَهِي مَدَنِيَّة كلهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم(4/390)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
{يسبح لله مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ} تَفْسِير الْكَلْبِيّ: القدوس: الطَّاهِر.(4/390)
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ} الْعَرَب {رَسُولا مِنْهُم} كَانُوا أُمِّيين لَيْسَ عِنْدهم كتابٌ من عِنْد اللَّه كَمَا مَعَ أهل الْكتاب، وَقد كَانُوا يخطون بِأَيْدِيهِم {يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاته} الْقُرْآن {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} تَفْسِير قَتَادَة: الْكتاب: الْقُرْآن، وَالْحكمَة: السُّنَّة، وَالزَّكَاة: الْعَمَل الصَّالح {وَإِنْ كَانُوا من قبل} أَن يَأْتِيهم مُحَمَّد {لَفِي ضَلالٍ مُبين} بَين(4/390)
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} تَفْسِير مُجَاهِد: يَعْنِي: إخْوَانهمْ من الْعَجم، أَي بعث فِي الْأُمِّيين رَسُولا مِنْهُم وَفِي آخَرين مِنْهُم لما يلْحقُوا بهم بعد.(4/390)
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء} يَعْنِي: من رُزِق الْإِسْلَام من النَّاس كلهم.
تَفْسِير سُورَة الْجُمُعَة آيَة 5.(4/390)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
{مثل الَّذين حملُوا التَّوْرَاة} يَعْنِي: الْيَهُود {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} كذّبوا بِبَعْضِهَا، وَهُوَ جحودهم بمحمدٍ وَالْإِسْلَام، وَمَا غيروا من التَّوْرَاة، وَمن كفر بِحرف من كتاب اللَّه فقد كفر بِهِ كُله {كَمثل الْحمار يحمل أسفارا} والأسفار: الْكتب، شبَّههم بالحمار الَّذِي لَو حملت عَلَيْهِ جَمِيع كتب اللَّه لم يَدْرِ مَا حمل عَلَيْهِ {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمين} الَّذين يلقون الله بشركهم.
تَفْسِير سُورَة الْجُمُعَة الْآيَات من الْآيَة 6 إِلَى الْآيَة 8.(4/391)
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)
{فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} بأنكم أَوْلِيَاء لله من دون النَّاس.
قَالَ مُحَمَّد: الْقِرَاءَة (فَتَمَنَّوُا الْمَوْت) بِضَم الْوَاو لسكونها وَسُكُون اللَّام وَقد قُرئت (فتمنوا الْمَوْت) بكسْر الْوَاو لالتقاء الساكنين، وَالِاخْتِيَار الضَّم مَعَ الْوَاو و (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) مثلهَا.(4/391)
وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)
قَالَ: {وَلَا يتمنونه} يَعْنِي الْمَوْت {أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهم وَالله عليم بالظالمين} بالمشركين(4/391)
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} يَعْنِي: تكرهونه {فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تردون} يَوْم الْقِيَامَة {إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة} الْغَيْب: السِّرّ، وَالشَّهَادَة: الْعَلَانِيَة.(4/391)
تَفْسِير سُورَة الْجُمُعَة الْآيَات من الْآيَة 9 إِلَى الْآيَة 11.(4/392)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
{فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله} يَعْنِي: صَلَاة الْجُمُعَة، وَهِي فِي حرف ابْن مَسْعُود (فامضوا إِلَى ذكر الله) .
{وذروا البيع} تَفْسِير ابْن عَبَّاس: إِذا أذَّن الْمُؤَذّن يَوْم الْجُمُعَة حرم البيع.(4/392)
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
{فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا} يَعْنِي: فَتَفَرَّقُوا فِي الأَرْض {وَابْتَغُوا من فضل الله} أَي: من رزق اللَّه، رخّص لَهُم أَن ينتشروا إِذا صلّوا إِن شَاءُوا، وَإِن أَقَامُوا كَانَ أفضل لَهُم.(4/392)
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوك قَائِما} (ل 363) تَفْسِير الْحسن: كَانَت عير تَجِيء إِلَى الْمَدِينَة فِي الزَّمَان مرّة فَجَاءَت يَوْم جمعةٍ، فَانْطَلق النَّاس إِلَيْهَا فَأنْزل اللَّه هَذِه الْآيَة.
قَالَ يحيى: وسمعتُ من يَقُول: التِّجَارَة: العِيرُ الَّتِي كَانَت تَجِيء، وَاللَّهْو: كَانَ دِحْية الْكَلْبِيّ قدم فِي عير من الشَّام وَكَانَ رجلا جميلًا، كَانَ جِبْرِيل يَأْتِي النَّبِي فِي صورته، فَقدمت عيرٌ وَمَعَهُمْ دحْيَة وَالنَّبِيّ يخْطب يَوْم الْجُمُعَة فتسلّلُوا ينظرُونَ إِلَى العير وَهِي التِّجَارَة، وَيَنْظُرُونَ إِلَى دحْيَة الْكَلْبِيّ وَهُوَ اللَّهْو، لَهَوْا بِالنّظرِ إِلَى وَجْهه وَتركُوا الْجُمُعَة.
قَالَ قَتَادَة: " أَمرهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يعُدوا أنفسهم فَإِذا هم اثْنَا عشر رجلا(4/392)
وامْرأة فَقَالَ: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لَو اتبع آخِرُكم أوّلكم لَالْتَهَبَ الْوَادي عَلَيْكُم نَارا ".
{قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} .(4/393)
تَفْسِير سُورَة الْمُنَافِقين
وَهِي مَدَنِيَّة كلهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة المُنَافِقُونَ من الْآيَة 1 إِلَى آيَة 6.(4/394)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
قَوْله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} إِلَى قَوْله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} أَي: إِنَّمَا يَقُولُونَهُ بأفواههم، وَقُلُوبهمْ لَيست على الْإِيمَان.(4/394)
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)
{اتَّخذُوا أَيْمَانهم جنَّة} اجتنُّوا بهَا، أَي: استتروا، حَتَّى لَا يقتلُوا وَلَا تُسْبَى ذَرَارِيهمْ {فصدوا عَن سَبِيل الله} يَعْنِي: بقلوبهم {سَاءَ} يَعْنِي: بئس {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(4/394)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)
{ذَلِك بِأَنَّهُم آمنُوا} يَعْنِي: أقرُّوا بألْسنتهم فِي الْعَلَانِيَة {ثمَّ كفرُوا} أَي: بقلوبهم {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} ختم عَلَيْهَا أَلا يُؤمنُوا.(4/394)
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
{وَإِذا رَأَيْتهمْ تعجبك أجسامهم} يَعْنِي: فِي المنظر والهَيْئة {وَإِنْ يَقُولُوا تسمع لقَولهم} من قَوْلهم لما أعْطوا من الْإِيمَان فِي الظَّاهِر (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ(4/394)
مُّسَنَّدَةٌ} يَعْنِي: أَنهم أجسادٌ لَيست لَهُم قُلُوب آمنُوا بهَا {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} وَصفهم بالجُبْن عَن الْقِتَال، وَانْقطع الْكَلَام، ثمَّ قَالَ: {هُمُ الْعَدُوُّ} فِيمَا أسَرُّوا {فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّه} {لعنهم الله} (أَنَّى يُؤْفَكُونَ} كَيفَ يصدون عَن الْإِيمَان.(4/395)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا} أَي: أخلِصُوا الْإِيمَان {يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} أَي: أَعرضُوا {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} عَن دين اللَّه {وَهُم مُسْتَكْبِرُونَ} {مكذبون(4/395)
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
2 -! (سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} الْآيَة. أخبر أَنهم يموتون على النِّفَاق، فَلم يستحلّ رسُولُ اللَّه أَن يسْتَغْفر لَهُم بعد ذَلِك.
تَفْسِير سُورَة المُنَافِقُونَ من الْآيَة 7 إِلَى آيَة 8.(4/395)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)
{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} تَفْسِير الْكَلْبِيّ: أَنَّهَا نزلت فِي عبد الله بن أبي بن سلول رَأس الْمُنَافِقين أَنه قَالَ لقوم كَانُوا يُنْفقُونَ على بعض من كَانَ مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تنفقوا عَلَيْهِم؛ حَتَّى يَنْفضوا عَنهُ. قَوْله: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} يَعْنِي: علم خَزَائِن السَّمَاوَات وَالْأَرْض.(4/395)
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
{يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلّ} هَذَا قوْلُ عبد الله بْن أبيَ بْن سلول؛ وَذَلِكَ أَنه قَالَ لأَصْحَابه وهُمْ فِي غَزْوَة تَبُوك: عمدنا إِلَى رجل من قُرَيْش فجعلناه على رقابنا، أَخْرجُوهُ فألحقوه بقَوْمه وَليكن علينا(4/395)
رجلٌ من أَنْفُسنَا. قَالَ اللَّه: {وَللَّه الْعِزَّة وَلِرَسُولِهِ} الْآيَة يخبر تبَارك وَتَعَالَى أنّه مُعِزُّ رَسُوله وَمن مَعَه من الْمُؤمنِينَ.
تَفْسِير سُورَة المُنَافِقُونَ من الْآيَة 9 إِلَى آيَة 11.(4/396)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} يَعْنِي: أقرُّوا بِاللِّسَانِ نزلتْ فِي الْمُنَافِقين {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَادكُم عَن ذكر الله} عَن الْإِيمَان بِاللَّه(4/396)
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)
{وَأَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم} يَعْنِي: الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رب لَوْلَا} هلَّا {أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصدق} أَي: فأزكي {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} فأحج، وَمثلهَا فِي سُورَة الْمُؤمنِينَ {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْت قَالَ رب ارْجِعُونِ} أَي: إِلَى الدُّنْيَا {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالحا فِيمَا تركت} .
قَالَ مُحَمَّد: {فَأَصدق} جَوَاب " لَوْلَا " فَمن قَرَأَ (وأكُنْ) بِالْجَزْمِ فَهُوَ على مَوضِع (فَأَصدق) ؛ لأنّ الْمَعْنى: إِن أخّرتني أصدّقْ وأكنْ من الصَّالِحين، وَمن قَرَأَهَا (وأكون) فَهُوَ على لفظ (فَأَصدق) وأكون.(4/396)
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .(4/396)
تَفْسِير سُورَة التغابن وَهِي مَدَنِيَّة كلهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة التغابن من الْآيَة 1 إِلَى آيَة 4.(4/397)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)
قَوْله {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} إِلَى قَوْله: {فمنكم كَافِر ومنكم مُؤمن} .
يحيى: عَن فطر بْن خَليفَة، عَن عبد الرَّحْمَن بن باسط قَالَ: " خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فَكَانُوا قَبْضَتَهُ فَقَالَ لِمَنْ فِي يَمِينِهِ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ، وَقَالَ لِمَنْ فِي يَدِهِ الأُخْرَى: ادْخُلُوا النَّارَ وَلا أُبَالِي. فَذَهَبَتْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ".(4/397)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
قَوْله: {خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ} أَي: للبعث والحساب وَالْجنَّة وَالنَّار(4/397)
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
{وَالله عليم بِذَات الصُّدُور} بِمَا فِي الصُّدُور.
تَفْسِير سُورَة التغابن من الْآيَة 5 إِلَى آيَة 10.(4/397)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5)
{ألم يأتكم نبأ} خبر {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فذاقوا وبال} يَعْنِي: عُقُوبَة {أَمرهم} هُوَ الَّذِي عذَّب بِهِ الْأُمَم السَّالفة فِي الدُّنْيَا حِين كذبُوا رسلهم، يحذر الْمُشْركُونَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ بِمن كفر قبلهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} يَعْنِي: عَذَاب جهنّم بعد عَذَاب الدُّنْيَا.(4/398)
ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
{فَقَالُوا أبشر يهدوننا} إنكارا لذَلِك. {وَاسْتغْنى الله} عَنْهُم {وَالله غَنِي} عَن خلقه {حميد} اسْتوْجبَ عَلَيْهِم أَن يحمدوه.(4/398)
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
{يَوْم يجمعكم ليَوْم الْجمع} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة {ذَلِكَ يَوْمُ التغابن} يتغابنون فِي الْمنَازل عِنْد اللَّه؛ فريقٌ فِي الْجنَّة وفريقٌ فِي السعير.
تَفْسِير سُورَة التغابن من الْآيَة 11 إِلَى آيَة 13.(4/398)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذن الله} بِقَضَاء اللَّه {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يهد قلبه} أَي: إِذا أَصَابَته مصيبةٌ سلّم وَرَضي، وَعرف أَنَّهَا من اللَّه.(4/398)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)
{فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} لَيْسَ عَلَيْهِ أَن يكرههم على الْإِيمَان.
تَفْسِير سُورَة التغابن من الْآيَة 14 إِلَى آيَة 18.(4/399)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} إِلَى قَوْله: {فَإِن الله غَفُور رَحِيم} تَفْسِير الْكَلْبِيّ: إِن الرجل كَانَ إِذا أَرَادَ الْهِجْرَة تعلَّق بِهِ وَلَده وَامْرَأَته؛ فَقَالُوا: ننشدك اللَّه أَن تذْهب وتتركنا فنضيع، فَمنهمْ من يُطِيع أَمرهم فيقيم، فَحَذَّرَهُمْ إيَّاهُم ونهاهم عَن طاعتهم، وَمِنْهُم من يمْضِي على الْهِجْرَة فيذرهم فَيَقُول لَهُم: أما وَالله لَئِن لم تهاجروا معي وبقيتُ حَتَّى يجمع اللَّه بيني وَبَيْنكُم فِي دَار الْهِجْرَة لَا أنفعكم بِشَيْء أبدا، فَلَمَّا جمع اللَّه بَينه وَبينهمْ أنزل اللَّه: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .(4/399)
إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
{أَنما أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ فتْنَة} أَي: اختبار؛ لينْظر كَيفَ تَعْمَلُونَ {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} مَا أطقتم. قَالَ قَتَادَة: أنزل الله فِي سُورَة آل عمرَان: {يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاته} وَحقّ تُقَاته: أَن يطاع فَلَا يُعْصَى، ويُذكر فَلَا ينسى، ويُشكر فَلَا يُكفر فنسختها هَذِه الْآيَة(4/399)
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ(4/399)
{واسمعوا وَأَطيعُوا} وَعَلَيْهَا بَايع رَسُول اللَّه على السَّمْع وَالطَّاعَة فِيمَا اسْتَطَاعُوا.
{وَأَنْفِقُوا خيرا لأنفسكم} تَفْسِير الْحسن: إِنَّهَا النفقةُ فِي سَبِيل الله.(4/400)
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)
{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حسنا} تَفْسِير الْحسن: إِن هَذَا فِي التطوُّع من الْأَعْمَال كلهَا {يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيم} يشْكر للْعَبد الْعَمَل الْيَسِير يثيبه عَلَيْهِ الثَّوَاب الْعَظِيم(4/400)
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
{عَالم الْغَيْب} يَعْنِي: السِّرّ {وَالشَّهَادَة} يَعْنِي: الْعَلَانِيَة {الْعَزِيز} فِي نقمته {الْحَكِيم} فِي أمره.(4/400)
تَفْسِير سُورَة الطَّلَاق وَهِي مَدَنِيَّة كلهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الطَّلَاق من الْآيَة 1 إِلَى آيَة 3.(4/401)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
قَوْله: {يَا أَيهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لعدتهن} يُخَاطب بهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَمَاعَة الْمُسلمين. تَفْسِير قَتَادَة: يطلقهَا فِي قُبُل عدَّتها طَاهِرا من غير جماع وَاحِدَة، ثمَّ يَدعهَا، فَإِن كَانَ لَهُ فِيهَا حاجةٌ دَعَا شَاهِدين فأشهدهما أَنِّي قد راجعتها، وَإِن لم تكن لَهُ فِيهَا حاجةٌ تَركهَا؛ حَتَّى تَنْقَضِي عدتهَا، فَإِن ندما كَانَ خاطبًا من الْخطاب.
قَوْله. {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} أَي: فَلَا تطلقوهن فِي الدَّم، وَلَا فِي الطَّهَارَة وَقد جامعتموهن، إِلَّا فِي الطَّهَارَة بَعْدَمَا يغتسلن من الْحيض من قبل أَن تجامعوهُنَّ {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يخْرجن} لَا تخرج من بَيتهَا حَتَّى تَنْقَضِي عدَّتها، وَهَذَا الْخُرُوج أَلا تتحوَّل من بَيتهَا، وَإِن احْتَاجَت إِلَى(4/401)
الْخُرُوج بِالنَّهَارِ لحاجتها خرجت، (ل 365) وَلَا تبيت إِلَّا فِي بَيتهَا {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} تَفْسِير ابْن عمر: قَالَ: الْفَاحِشَة المبيّنة: خُرُوجهَا فِي عدَّتها {وَتِلْكَ حُدُود الله} أَحْكَام اللَّه {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ الله} أَي: يتَجَاوَز مَا أَمر اللَّه بِهِ {فقد ظلم نَفسه} أَي: بمعصيته من غير شرْكٍ {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بعد ذَلِك أمرا} يَعْنِي: الْمُرَاجَعَة رَجَعَ إِلَى أول السُّورَة {فطلقوهن لعدتهن وأحصوا الْعدة} أَي: لَهُ الرّجْعَة مَا لم تنقض الْعدة فِي التطليقة والتطليقتين(4/402)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)
{فَإِذا بلغن أَجلهنَّ} أَي: مُنْتَهى الْعدة {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَو فارقوهن بِمَعْرُوف} وَذَلِكَ أَن الرجل كَانَ يُطلق الْمَرْأَة، فيتركها حَتَّى تشرف على انْقِضَاء عدّتها، ثمَّ يُرَاجِعهَا ثمَّ يطلقهَا؛ فَتعْتَد الْمَرْأَة تسع حيض، فَنهى اللَّه عَن ذَلِك، قَوْله: {وَأشْهدُوا ذَوي عدل مِنْكُم} يَعْنِي: على الطَّلَاق والمراجعة {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَة لله} يَعْنِي: من كَانَت عِنْده شهادةٌ فليشهد بهَا.
قَوْله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب} تَفْسِير ابْن عَبَّاس فِي قَوْله عز وَجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مخرجا} قَالَ من كل ضيق [(4/402)
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} ] من حَيْثُ لَا يَرْجُو.
{إِنَّ الله بَالغ أمره} أَي: يبلغ أمره على من توكل وعَلى من لم يتوكل {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} أَي: مُنْتَهى ينتهى إِلَيْهِ.
تَفْسِير سُورَة الطَّلَاق من الْآيَة 4 إِلَى آيَة 5.(4/402)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُم إِن ارتبتم} شَكَكْتُمْ (فَعِدَّتُهُنَّ(4/402)
ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَئِي لَمْ يَحِضْنَ} .
قَالَ محمدٌ: سَأَلُوا فَقَالُوا: قد عرفنَا عدَّة الَّتِي تحيض، فَمَا عدَّة الَّتِي لَا تحيض؟ فَقيل: {إِن ارتبتم} أَي: إِذا ارتبتم، فعدتهن ثَلَاثَة أشهر.
قَوْله: {وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ} هَذِه نسخت الَّتِي فِي الْبَقَرَة {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} نسخ مِنْهَا الْحَامِل فَجعل أجلهَا أَن تضع حملهَا، وَإِن لم تكن حَامِلا كَبِيرَة كَانَت أَو صَغِيرَة وَمن لَا تحيض فعدتُها أَرْبَعَة أشهر وَعشر.(4/403)
ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
{ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} فِي الْقُرْآن.
تَفْسِير سُورَة الطَّلَاق من الْآيَة 6 إِلَى آيَة 7.(4/403)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} من سعتكم، يَعْنِي: أَن لَهَا الْمسكن حَتَّى تَنْقَضِي الْعدة.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: وَجَدْتُ فِي المَال وَجدًا ووُجْدًا وجِدَةً، وَوَجَدْت الضَّالة وجدانا.(4/403)
{وَلَا تضاروهن} فِي الْمسكن {لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضعن حَملهنَّ} إِن كَانَت حَامِلا أنْفق عَلَيْهَا حَتَّى تضع إِذا طلّقها {فَإِنْ أرضعن لكم فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ} أجر الرَّضَاع {وَأْئتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ} يَعْنِي الرجل وَالْمَرْأَة.
قَالَ محمدٌ: يَقُول: ليأمُرْ بعضُكم بَعْضًا بِالْمَعْرُوفِ فِي رضَاع الْمَوْلُود والرفق بِهِ؛ حَتَّى يتفقوا على شَيْء معلومٍ من أجر الرَّضَاع.
{وَإِن تعاسرتم} فِي الرَّضَاع {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} أَي: فاسترضعوا لَهُ امْرَأَة أُخْرَى.(4/404)
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
{وَمن قدر} قتر {عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ الله} أعطَاهُ الله.
تَفْسِير سُورَة الطَّلَاق من الْآيَة 8 إِلَى آيَة 12.(4/404)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8)
{وكأين} أَي: وَكم {مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَن أَمر رَبهَا وَرُسُله} عَصَتْ أَمر رَبهَا وَرُسُله؛ يَعْنِي: أَهلهَا {فحاسبناها حسابا شَدِيدا} تَفْسِير السُّدي: يَعْنِي: فجازيناها جَزَاء شَدِيدا {وعذبناها عذَابا نكرا} عَظِيما(4/404)
فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9)
{فذاقت وبال أمرهَا} يَعْنِي: الْعقُوبَة {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خسرا} خسروا بِهِ الْجنَّة(4/404)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)
(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ(4/404)
405 - @ عَذَابًا شَدِيدًا} فِي الْآخِرَة بعد عَذَاب الدُّنْيَا.
{قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} أَي: قد أنزل اللَّه إِلَيْكُم ذكرا بالرسول الَّذِي جَاءَكُم(4/405)
رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
{رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} يبينها رَسُول الله؛ هَذَا على مقرأ من قَرَأَهَا مفتوحةَ الْيَاء.
{قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} يَعْنِي: الْجنَّة.(4/405)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
{يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ} يَعْنِي: الْوَحْي {بَيْنَهُنَّ} {بَين السَّمَاء وَالْأَرْض} (لِتَعْلَمُوا} بِهَذَا الْوَحْي {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} لَا يخرج عَن علمه شيءٌ.
قَالَ مُحَمَّد: (علما) مَنْصُوب على الْمصدر الْمُؤَكّد، الْمَعْنى: قد علم كل شيءٍ علما. انْتهى هَذَا الْجُزْء بِحَمْد الله.(4/405)
تَفْسِيرُ سُورَةُ التَّحْرِيمِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تَفْسِير سُورَة التَّحْرِيم الْآيَة (1 - 5)(5/5)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
قَوْله: {يَا أَيهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَك} الْآيَةُ. وَذَلِكَ أَنَّ حَفْصَةَ زَارَتْ أَبَاهَا، فَرَجَعَتْ فَوَجَدَتْ رَسُولَ اللَّهِ مَعَ مَارِيَةَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ فِي الْبَيْتِ، فَلَمَّا خَرَجَتْ مَارِيَةُ دَخَلَتْ حَفْصَة على رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّنِي قَدْ رَأَيْتُ مَنْ كَانَتْ مَعَكَ فِي الْبَيْتِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأُرْضِيَنَّكِ؛ هِيَ عليَّ حرَام فَلَا تُخْبِرِي بِهَذَا (ل 366) أَحَدًا. فَانْطَلَقَتْ حَفْصَةٌ إِلَى عَائِشَةَ فَأَخْبَرتهَا فَأنْزل الله: {يَا أَيهَا النَّبِي} إِلَى قَوْله:(5/5)
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
{قد فرض الله لكم} (1) يَعْنِي:(5/5)
بيَّن {تَحِلَّة أَيْمَانكُم} وَهُوَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين} إِلَى قَوْلِهِ: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} (1) .
قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ} بخلقه {الْحَكِيم} فِي أَمْرِهِ، فأُمرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْكَفَّارَةِ فَكفر يَمِينه(5/6)
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَعْرَضَ عَن بعض} تَفْسِير الْكَلْبِيّ: أَن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَفْصَةَ: أَلَمْ آمُرْكِ أَنْ تَكْتُمِي سِرِّي وَلا تُخْبِرِي بِهِ أَحَدًا، لِمَ أَخْبَرْتِ بِهِ عَائِشَةَ؟ وَذَكَرَ لَهَا بَعْضَ الَّذِي قَالَتْ، وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمْ يَذْكُرْهُ لَهَا.
قَالَ: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيم الْخَبِير}(5/6)
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)
قَالَ اللَّهُ: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى الله} يَعْنِي: حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبكُمَا} أَيْ: زَاغَتْ إِلَى الْإِثْمِ، فَأَمَرَهُمَا بِالتَّوْبَةِ {وَإِن تظاهرا} أَي: تعاونا {عَلَيْهِ} عَلَى النَّبِيِّ {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} وليُّه فِي الْعَوْنِ لَهُ {وَجِبْرِيلُ} وليُّه {وَصَالح الْمُؤمنِينَ} وهم النَّبِيُّونَ {بعد ذَلِك} مَعَ ذَلِك {ظهير} أَيْ: أعوانٌّ لَهُ، يَعْنِي: النَّبِيَّ.(5/6)
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
قَوْله: {قانتات} يَعْنِي: مطيعات {سائحات} يَعْنِي: صائمات {ثيبات وأبكارا} .
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: امرأةٌ ثيبةٌ وَثَيِّبٌ أَيْضًا بَيِّنَةُ الثَّيب، وبِكْرٌ بَيِّنَة الْبكارَة.(5/6)
تَفْسِير سُورَة التَّحْرِيم آيَة رقم 6(5/7)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا} الْآيَةُ. قَالَ زيْدُ بنُ أسْلم: ((لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا نَقِي أَنْفُسَنَا، فَكَيْفَ نَقِي أَهْلِينَا؟ قَالَ تأمرونهم بِطَاعَة الله)) .
قَوْله: {وقودُوها النَّاس} يَعْنِي: حطبها النَّاس {وَالْحِجَارَة} أَيْ: تَأْكُلُ النَّاسَ وَتَأْكُلُ الْحِجَارَةَ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ، وَهِيَ حِجَارَةٌ مِنْ كِبْريتٍ أحْمِر {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلَاظ شَدَّاد} عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ.
قَالَ أَبُو الْعَوَّامِ: الملكُ مِنْهُمْ فِي يَدِهِ مِرزَبَّة مِنْ حَدِيدٍ لَهَا شُعْبتان يَضْرِبُ بِهَا الضَّرْبَةَ؛ فَيَهْوِي بِهَا سَبْعُونَ ألفّا. ستفسير ورة التَّحْرِيم من آيَة (7 - 9)(5/7)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} وَهَذَا يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فِي الدُّنْيَا.(5/7)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَة نصُوحًا} . يَحْيَى: عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ سماكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: ((سَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ. قَالَ: هِيَ أَنْ يَتُوبَ الْعَبْدُ مِنَ(5/7)
الذَّنْبِ ثُمَّ لَا يَعُودُ فِيهِ)) . (1)
{عَسى ربكُم} وَعَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ {أَنْ يكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (نَصُوحًا) بِفَتْحِ النُّونِ فَعَلَى صِفَةِ التَّوْبَةِ، وَمَعْنَاهُ: تَوْبَةً بَالِغَةً فِي النُّصْحِ، وَمَنْ قَرَأَ (نُصوحًا) بِضَمِّ النُّونِ فَمَعْنَاهُ: يُنْصَحُونَ فِيهَا نُصُوحًا (2) ، يُقَالُ: نصَحَتُ لَهُ نُصْحًا ونُصُوحًا. (3)
يَحْيَى: عَنِ الْفُرَاتِ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ زِيَادِ بْنِ الْجَرَّاحِ، عَنْ] عَبْدِ اللَّهِ [ (4) بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ: ((كَانَ أَبِي عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ لِعَبْدِ الله: أسمعت رَسُول الله يَقُولُ: النَّدَمُ توبَة؟ قَالَ: نَعَمْ)) (5) .(5/8)
يَحْيَى: عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنِ الشِّعْبِيِّ قَالَ: ((التَّائِبُ مِنَ الذَّنْب كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ)) (1) قَوْلُهُ: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَين أَيْديهم} أَيْ يَقُودُهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ {وَبِأَيْمَانِهِمْ} كُتُبُهُمْ هِيَ بُشْراهم بِالْجَنَّةِ {يَقُولُونَ رَبنَا أتمم لنا نورنا} قَالَ مُجاهد: يَقُولُونَهُ حِينَ يُطفأ نور الْمُنَافِقين.(5/9)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
{يَا أَيهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: يَعْنِي: جَاهِدِ الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ، وَاغْلُظْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِالْحُدُودِ. تَفْسِير سُورَة الْحَرِيم من آيه (10 - 12)(5/9)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا} إِلَى قَوْله: {فَخَانَتَاهُمَا} تَفْسِيرُ ابْنُ(5/9)
عَبَّاسٍ: كَانَتَا مُنَافِقَتَيْنِ تُظهران الإِيمَانَ، وتُسرَّان الشِّرْكَ {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا من الله شَيْئا} لَمْ يُغنِ عملُ نُوحٍ وَلُوطٍ - عَلَيْهِمَا السَّلامُ - عَنِ امْرَأَتَيْهِمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا؛ وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ يُحَذِّرُ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ لِلَّذِي (كَانَ) (1) مِمَّا قَصَّ فِي أَوَّلِ السُّورَة،(5/10)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
وَضَرَبَ لَهُمَا أَيْضًا مَثلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمَ، يَأْمُرُهُمَا بِالتَّمَسُّكِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ؛ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا للَّذين آمنُوا امرأت فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ونجني من فِرْعَوْن وَعَمله} {ل 367} تَسْأَلُ الثَّبَاتَ عَلَى الإِيمَانِ فَامْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَنْزِلَتُهَا عِنْدَ اللَّهِ لَمْ تُغْنِ عَنْ فِرْعَوْنَ مِنَ اللَّهِ شَيْئا؛ إِذْ كَانَ كافرّا.(5/10)
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
قَالَ: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أحصنت فرجهَا} يَعْنِي: جَيْب دِرْعها عَنِ الْفَوَاحِشِ {فنفخنا فِيهِ من رُوحنَا} تَنَاوَلَ جِبْرِيلُ جَيْبَها بإصبَعِه، فَنَفَخَ فِيهِ، فَصَارَ إِلَى بَطْنِهَا فَحَمَلَتْ قَالَ: {وصدَّقت بِكَلِمَات رَبهَا وَكتابه} يَعْنِي: جَمِيعَ الْكُتُبِ؛ فِي تَفْسِيرِ الْحسن {وَكَانَت من القانتين} مِنَ الْمُطِيعِينَ لِرَبِّهَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: الْعَرَبُ تَقُولُ لِلْعَفِيفِ: هُوَ نقيُّ الثَّوْبِ، وَهُوَ طَيَّب الحجْزة. (3)(5/10)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمُلْكِ وَهِيَ مَكِيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تَفْسِير سُورَة الْملك من الْآيَة (1 - 5)(5/11)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
قَوْله: {تبَارك} هُوَ مِنْ بَابِ الْبَرَكَةِ {الَّذِي بِيَدِهِ} أَيْ: فِي يَدِهِ {الْمُلْكُ}(5/11)
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
{ليَبْلُوكُمْ} لِيَخْتَبِرَكُمْ {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيز} فِي نقمته {الغفور} لمن آمن.(5/11)
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)
{الَّذِي خلق سبع سماوات طباقا} بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، غِلَظُ كُلِّ سَمَاء مِنْهَا مسيرَة خَمْسمِائَة عَامٍ، وَبَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ مسيرةُ خَمْسمِائَة عَامٍ {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَن من تفَاوت} أَيْ: اخْتِلافٌ؛ يَعْنِي: مُسْتَوِيَةً {فَارْجِعِ الْبَصَر} أَيْ: فَانْظُرْ إِلَى السَّمَاءِ {هَلْ ترى من فطور} مِنْ شُقُوقٍ؛ أَيْ: أَنَّكَ لَا تَرَى فِيهَا شُقُوقًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مِنْ كَلامِ الْعَرَبِ: فَطَرَ نابُ الْبَعِيرِ إِذَا شقَّ اللَّحْمَ فَظَهَرَ (1)(5/11)
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
{ثمَّ ارْجع الْبَصَر كرتين} مَرَّةً بَعْدَ مرةٍ {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَر} يرجع إِلَيْك(5/11)
الْبَصَر {خاسئا} فاتراً {وَهُوَ حسير} أَيْ: كَلِيلٌ قَدْ أَعْيَا لَا يَجِدُ مُنْقِذًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: {خَاسِئًا} أَصْلُ الْكَلِمَةِ الإبْعَاد، تَقُولُ: خَسَأْتُ الكلبَ إِذَا أبْعدته (1) . وَقَولُهُ: {حَسِيرٌ} حَقِيقَةُ الْكَلِمَةِ: مُنْقَطِعٌ عَنْ أَنْ تَلْحَقَ مَا نَظَرَ إِلَيْهِ؛ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ يَحْيَى. وَقَالُوا: حَسَرَ الرجلُ وحَسِرَ؛ وَهُوَ الْإِعْيَاءُ الشَّدِيدُ. (2)(5/12)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} وَهِي الْكَوَاكِب {وجعلناها} يَعْنِي: الْكَوَاكِب {رجوما للشياطين} يَعْنِي: مَا جُعِلَ مِنْهَا رُجُومًا {وأعتدنا لَهُم} أعددنا لَهُم {عَذَاب السعير} فِي الْآخِرَةِ؛ يَعْنِي: لِلَّذِينَ يُرْجَمُونَ من الشَّيَاطِين. تَفْسِير سُورَة الْملك من الْآيَة (6 - 12)(5/12)
إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)
{إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شهيقا} صَوتا {وَهِي تَفُور} تغلي(5/12)
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)
{تكَاد تميز} أَيْ: تَبَيَّنُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَتَتَفَرَّقُ تَغَيُّظًا عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ {ألم يأتكم نَذِير} نَبِي، ينذركم عَذَاب جَهَنَّم(5/12)
قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)
{قَالُوا بلَى} {إِن أَنْتُم} يَعْنُونُ: الرُّسُلَ وَالْمُؤْمِنِينَ {إِلا فِي ضلالٍ} فِي الدِّينِ {كَبِيرٍ} .(5/12)
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)
{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نعقل} لآمنَّا فِي الدُّنْيَا، فَلَمْ نَكُنْ مِنْ أَصْحَابِ(5/12)
السَّعِيرِ، وَالسَّعِيرُ اسْمُ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّم.(5/13)
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
{فسحقا} فبُعْدًا {لأَصْحَاب السعير} .
قَالَ مُحَمَّد: {سحقا} مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ؛ الْمَعْنَى: أَسْحَقَهُمُ اللَّهُ سُحْقًا؛ أَيْ: بَاعَدَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ مُبَاعَدَةً (1) ، والسَّحِيقُ: الْبَعِيدُ، وَتَقُولُ: سَحَقَ الرّجُلُ وسَحُقَ سُحُوقًا (2) .(5/13)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} فِي السِّر بَذِكْرِ ذُنُوبِهِ فِي الْخَلَاء (3) الله مِنْهَا. تَفْسِير سُورَة الْملك من الْآيَة (13 - 18)(5/13)
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
{أَلا يعلم من خلق} عَلَى الاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ: هُوَ خَلَقَكُمْ، فَكَيْفَ لَا يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَعَلانِيَتَكُمْ؟ ! {وَهُوَ اللَّطِيف} بِلُطْفه خلق الْخلق {الْخَبِير} بأعمال الْعباد.(5/13)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذلولا} أَيْ: سهَّل لَكُمُ السُّلوك فِيهَا وذلَّلها لكم {فامشوا} فامضوا {فِي مناكبها} طُرُقِهَا؛ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ(5/13)
{وكلوا من رزقه} الَّذِي أحلَّ لَكُمْ {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} الْبَعْث.(5/14)
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)
{أأمنتم من فِي السَّمَاء} عَلَى الِاسْتِفْهَامِ؛ يَعْنِي: نَفْسَهُ {أَنْ يخسف بكم الأَرْض} أَيْ: أَنَّكُمْ تَأْمَنُونَ ذَلِكَ، قَالَ: {فَإِذا هِيَ} قَبْلَ أَنْ تُخْسَفَ بِكُمْ {تَمُورُ} تحرّك حَتَّى يخسف بكم(5/14)
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)
{أم أمنتم} أَي: أأ منتم؟ {من فِي السَّمَاء} يَعْنِي: نَفسه؛ أَي تَأْمَنُونَ {أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} كَمَا حَصَبَ قَوْمَ لُوطٍ؛ يَعْنِي: الْحِجَارَة الَّتِي أمطرها عَلَيْهِم (1)
(ل 368)(5/14)
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)
{وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} قَبْلَ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ {فَكَيْفَ كَانَ نَكِير} عَلَى الِاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ: كَانَ شَدِيدًا؛ وَنَكِيرِي: عُقُوبَتِي.
قَالَ مُحَمَّدٌ: ذَكَرَ ابْنُ مُجَاهِدٍ (2) أَنَّ وَرْشًا رَوَى عَنْ نَافِعٍ: {نَذِيرِي} وَ {نَكِيرِي} بياء فِي الْوَصْلِ. قَالَ: وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ الرَّاءِ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ فِي وصل وَلَا وقف (3) . تَفْسِير سُورَة الْملك من آيَة (19 - 25)(5/14)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافات} بِأَجْنِحَتِهَا؛ أَيْ: قَدْ رَأَوْهَا. {وَيَقْبِضْنَ} يَعْنِي: إِذَا وَقَفَ الطَّائِرُ صَافًّا بِجَنَاحَيْهِ لَا يَزُولُ؛ فِي تَفْسِيرِ بَعضهم.(5/15)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جندٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} عَلَى الِاسْتِفْهَامِ إِنْ أَرَادَ عَذَابَكُمْ، أَيْ: لَيْسَ أحدٌ يَنْصَرُكُمْ مِنْ دونه {إِن الْكَافِرُونَ} مَا الْكَافِرُونَ {إِلا فِي غُرُورٍ} يَعْنِي: فِي غرور الشَّيْطَان(5/15)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)
{بل لجوا فِي عتو} وَهُوَ الشّرك {ونفور} عَن الْإِيمَان.(5/15)
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} لَا يُبْصِرُ مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ؛ وَهَذَا مثلٌ لِلْكَافِرِ {أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سويًّا} عَدْلاً يُبْصِرُ حَيْثُ يَسْلُكُ، وَهَذَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ؛ أَيْ: أَنَّ الْمُؤْمِنَ أَهْدَى مِنَ الْكَافِرِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: أكبَّ عَلَى وَجْهِهِ بِالْأَلِفِ، وكبَّه الله بِغَيْر ألفٍ (1) .(5/15)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)
{قَلِيلا مَا تشكرون} أَي: أقلكم من يُؤمن. تَفْسِير سُورَة الْملك من الْآيَة (26 - 30)(5/15)
قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)
{قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} يَعْنِي عِلْمُ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُ قِيَامَهَا إِلَّا هُوَ {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِير} أنذركم عَذَاب الله {مُبين} أبين لكم عَن الله(5/15)
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
{فَلَمَّا رَأَوْهُ} يَعْنِي:(5/15)
الْعَذَاب {زلفة} قَرِيبًا {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} سَاءَ الْعَذَاب وُجُوههم {وَقيل} لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ {هَذَا الَّذِي كُنْتُم بِهِ تدعون} لقَولهم: {ائتنا بِعَذَاب الله} (1) اسْتِهْزَاءً وَتَكْذِيبًا.
قَالَ محمدٌ: ذَكَرَ أَبُو عُبَيد أَنَّ مُنَ الْقُرَّاءِ مَنْ قَرَأَ: (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدْعون) خَفِيفَةً (2) ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَ بِالْعَذَابِ فِي قَوْلِهِ: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة} (3) الْآيَةُ، قَالَ: وَقَرَأَ أَكْثَرُهُمْ (تدَّعون) بِالتَّشْدِيدِ (4) ، قَالَ: وَهِيَ الْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا، وَالتَّشْدِيدُ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّخْفِيفِ (تَدْعون) تفْعَلون، و (تدَّعون) تفتعلون مُشْتَقَّة مِنْهُ (5) .(5/16)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)
قَوْله: {قل} يَا مُحَمَّدُ {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله وَمن معي} مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يجير} أَي: يمْنَع {الْكَافرين} أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ مُجيرٌ يَمْنَعُهُمْ من عَذَاب الله(5/16)
قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29)
{فستعلمون} يَوْمَ الْقِيَامَةِ {مَنْ هُوَ فِي ضلال مُبين} أَيْ: أَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ فِي ضلال مُبين.(5/16)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
{إِن أصبح ماؤكم غورا} أَيْ: قَدْ غَارَ فِي الْأَرْضِ فَذَهَبَ، وَالْغَوْرُ الَّذِي لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ وَلا تُدْرِكُهُ الدِّلاء {فَمَنْ يأتيكم بِمَاء معِين} جَاءَ عَنْ عِكْرِمَةَ: الْمَعِينُ الظَّاهِرُ. قَالَ الْحَسَنُ: الْمَعِينُ: الَّذِي أَصْلُهُ مِنَ الْعُيُونِ (6) .(5/16)
قَالَ مُحَمَّد: {غورا} مصْدَرٌ موْصُوفٌ بِهِ؛ تَقُولُ: ماءٌ غَوْرٌ وَمَاءَانِ غورٌ ومياهٌ غَوْرٌ كَمَا تَقُولُ: هَذَا عدلٌ، وَهَذَانِ عدلٌ، وَهَؤُلاءِ عدلٌ (1) .(5/17)
تَفْسِيرُ سُورَةُ ((ن)) وَهِيَ مَكِّيَةٌ كلهَا
بِسم اله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة ن من الْآيَة (1 - 16)(5/18)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)
قَوْله: {ن والقلم} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَعْنِي: الدَّوَاةَ وَالْقَلَمَ هَذَا الْقَلَمُ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ , وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ الْحُوتُ الَّذِي عَلَيْهِ قَرَارُ الْأَرْضِ (1) . {وَمَا يَسْطُرُونَ} يَكْتُبُونَ؛ يَعْنِي: الْمَلَائِكَة(5/18)
مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)
{مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} (2) بِهَذَا لِلنَّبِيِّ لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ لَهُ: إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ، وَمَقْرَأُ الْعَامَّةِ بِالْوَقْفِ وَالْإِسْكَانِ (3) وَوَقَعَ الْقَسَمُ عَلَى الْقَلَمِ {وَمَا يسطرون} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: قِرَاءَةُ نَافِعٍ (نونٌ) ظَاهِرَةٌ فِي رِوَايَةِ قَالُونَ عَنْهُ، وروى غَيره عَنهُ أَنَّهُ(5/18)
أخفاها؛ ذكره ابْن مُجَاهِد (1) .(5/19)
وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)
{وَإِن لَك لأجرا} يَعْنِي: الْجنَّة {غير ممنون} بِهِ أَيْ: لَا يُمَنُّ عَلَيْكَ بِهِ مِنْ أَذًى، فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقِيلَ: مَعْنَى {غير ممنون} : غَيْرُ مَقْطُوعٍ، يُقَالُ: مَنَنْتَ الحبلَ إِذا قطعته (2) .(5/19)
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
{وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} يَعْنِي: دين الْإِسْلَام(5/19)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5)
{فستبصر} يَوْم الْقِيَامَة {ويبصرون} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ، أَيْ: سَيُبْصِرُونَ أَنَّكَ كنت الْمُهْتَدي، وَأَنَّهُمْ الضُّلالُ(5/19)
بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)
{بأيكم الْمفْتُون} يَعْنِي: أَيِّكُمُ الضُّلال؛ فِي تَفْسِيرِ الْحسن بِجعْل الْبَاء صلَة (3) .(5/19)
فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)
{فَلَا تُطِع المكذبين} كَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَتْرُكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ بِهِ.(5/19)
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
{ودوا لَو تدهن فيدهنون} تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ: يَقُولُ: لَوْ تُدَاهِنُ فِي دِينِكَ فَيُدَاهِنُونَ فِي أَدْيَانِهِمْ، (4) (ل 369) فِي الْخَيْر(5/19)
هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)
{هماز} أَيْ: يَهْمِزُ النَّاسَ، أَيْ يَغْتَابُهُمْ {مشاء بنميم} يفْسد ذَات البَيْن(5/19)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
{مناع للخير} يَمْنَعُ حقَّ اللَّهِ عَلَيْهِ {مُعْتَدٍ} أَي: ظَالِم {أثيم} أيْ: آثم(5/19)
عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)
{عتل بعد ذَلِك} أَيْ: مَعَ ذَلِكَ، والعتلُّ: الْفَاحِشُ {زنيم} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ الزنيمُ: اللَّيِّنُ الضَّرِيبَةِ؛ يَعْنِي الطَّبِيعَةِ.(5/19)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقِيلَ: الزنيمُ: الْمَعْرُوفُ بالشَّر؛ كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بِزَنِمَتِهَا؛ يُقَالُ: شَاةٌ زنِمةُ، وَهُوَ مَا تعلَّق عِنْدَ حُلوق المِعْزَى (1) ، وَالْعُتُلُّ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: الْغَلِيظُ الْجَافِي (2) . وَالله أعلمُ.(5/20)
أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)
قَوْله: {إِن كَانَ} بِأَنْ كَانَ {ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} .(5/20)
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)
{أساطير الْأَوَّلين} يَعْنِي: كذب الْأَوَّلين وباطلهم(5/20)
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
{سنسمه على الخرطوم} عَلَى أَنْفِهِ بِسُوَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يعرف بِهِ. تَفْسِير سُورَة الْقَلَم من الْآيَة (17 - 33)(5/20)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)
{إِنَّا بلوناهم} يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ ابْتُلُوا بِالْجُوعِ حِينَ كذَّبوا النَّبِيَّ {كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَاب الْجنَّة} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: أَنَّهُمْ كَانُوا أَبْنَاءَ قَوْمٍ صَالِحِينَ، وَأَنَّ آبَاءَهُمْ كَانُوا جَعَلُوا مِنْ جَنَّتِهِمْ حَظًّا لِلْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ(5/20)
أَبْنَاؤُهُمْ، فَقَالُوا: كَبُرْنَا وَكَثُرَ عِيَالُنَا، فَلَيْسَ لِلْمَسَاكِينِ عِنْدَنَا شيءٌ فَتَقَاسَمُوا {ليصرمنها} ليجذُّنّها (1) {مصبحين} أَي: صبحًا(5/21)
وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)
{وَلَا يستثنون} أَيْ: وَلَمْ يَقُولُوا إِنْ شَاءَ الله(5/21)
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)
{فَطَافَ عَلَيْهَا طائف} عذابٌ {مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ}(5/21)
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
{فَأَصْبَحت كالصريم} الصَّرِيمُ بِمَعْنَى الْمَصْرُومِ، وَهُوَ الْهَالِكُ الذَّاهِب.(5/21)
فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21)
{فَتَنَادَوْا مصبحين} حِين أَصْبحُوا(5/21)
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23)
{وهم يتخافتون} يتسارُّون بَينهم(5/21)
أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24)
{أَلا يدخلنها الْيَوْم عَلَيْكُم مِسْكين} أَيْ: أَلَّا تُطْعِمُوا الْيَوْمَ مِسْكِينًا(5/21)
وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)
{وغدوا على حرد قَادِرين} عَلَى جدٍّ مِنْ أَمْرِهِمْ {قَادِرِينَ} عَلَى جَنَّتِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَالْحَرْدُ أَيْضًا فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ، يُقَالُ مِنْهُ حَارَدَتِ السَّنَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَطَرٌ، وَحَارَدَتِ النَّاقَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا لبن (2) .(5/21)
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)
{فَلَمَّا رأوها} [خَرَابًا] (3) سَوْدَاءَ، وَعَهْدُهُمْ بِهَا بِالْأَمْسِ عامرة {قَالُوا إِنَّا لضالون} أَيْ: ضَلَلْنَا الطَّرِيقَ، ظَنُّوا أَنَّهَا لَيْسَتْ جَنَّتَهُمْ ثُمَّ أَيْقَنُوا أَنَّهَا جنتهم.(5/21)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)
فَقَالُوا: {بل نَحن محرومون} حُرِمْنا خير جنتنا(5/21)
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28)
{قَالَ أوسطهم} أَعْدَلُهُمْ {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا} هلا {تسبحون} تستثنون(5/21)
كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
{كَذَلِك الْعَذَاب} أَيْ: هَكَذَا كَانَ الْعَذَابُ؛ كَمَا قَصَصْتُهُ عَلَيْكُمْ يَعْنِي: مَا عَذَّبَهُمْ بِهِ مِنْ إِهْلاكِ جَنَّتِهِمْ {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا {لَو كَانُوا يعلمُونَ} يَعْنِي: قُرَيْشًا، رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّا بلوناهم} يَعْنِي: قُرَيْشًا {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} لعلموا أَن عَذَاب الْآخِرَة أكبر من عَذَاب الدُّنْيَا. تَفْسِير سُورَة الْقَلَم من آيَة (34 - 35)(5/21)
تَفْسِير سُورَة الْقَلَم من آيَة (35 - 47)(5/22)
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)
{أفنجعل الْمُسلمين كالمجرمين} كالمشركين؛ أَي: لَا نَفْعل،(5/22)
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)
ثُمَّ قَالَ لِلْمُشْرِكِينَ: {مَا لَكُمْ كَيفَ تحكمون} أَيْ: لَيْسَ حُكْمُنَا أَنْ نَجْعَلَ الْمُسلمين فِي الْآخِرَة كالمشركين(5/22)
أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)
{ام لكم} يَقُولُهُ لِلْمُشْرِكِينَ {كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} تقرءون(5/22)
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)
{ان لكم فِيهِ} فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ {لَمَا تَخَيَّرُونَ} أَيْ: مَا تَخَيَّرَونَ وَاللَّامُ صِلَةٌ؛ أَيْ: لَيْسَ عِنْدَكُمْ كتابٌ تَقْرَءُونَ فِيهِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَخَيَّرُونَ(5/22)
أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)
{أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لما تحكمون} أَيْ: مَا تَحْكُمُونَ، يَقُولُ: أَمْ حَلَفْنَا لَكُمْ بِأَنَّ لَكُمْ مَا تَحْكُمُونَ بِهِ. أَيْ: لَمْ نَفْعَلْ(5/22)
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40)
{سلهم أَيهمْ بذلك زعيم} حَمِيلٌ يَحْمِلُ عَنَّا لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ مَا يَحْكُمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنْفُسِهِمْ؛ هَذَا لِقَوْلِ أَحَدِهِمْ: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْده للحسنى} (1) للجنّة إِن كَانَت جنَّة(5/22)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)
{أم لَهُم شُرَكَاء} خَلَقُوا مَعَ اللَّهِ شَيْئًا أَيْ: قَدْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ آلِهَةً لَمْ يخلقوا مَعَه شَيْئا(5/22)
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)
{يَوْم يكْشف عَن سَاق} قَالَ قَبْلَ هَذَا {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة} يَعْنِي: بِبَالِغَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
{يَوْمَ يكْشف عَن سَاق} قَالَ مُجَاهد: كُلُّ كَرْب أَوْ شدَّة فَهُوَ ساقٌ (2) وَمِنْهُ(5/22)
قَوْله {والتفت السَّاق بالساق} (1) أَيْ: كَرْبُ الدُّنْيَا بِكَرْبِ الْآخِرَةِ (2) .
{وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ}(5/23)
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
{خاشعة أَبْصَارهم} أَي: ذليلة (3) . (ل 370) وَيَبْقَى الْمُنَافِقُونَ ظُهُورُهُمْ طَبَقًا وَاحِدًا كَأَنَّ فِيهَا السَّفَافِيدُ (4) فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا فَيَقُولُ: كَذَبْتُمْ قَدْ كُنْتُمْ تُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَأَنْتُمْ سَالِمُونَ؛ وَذَلِكَ أَنْ سُجُودَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ، إِنَّمَا كَانَ رِيَاءً؛ حَتَّى لَا يُقْتَلُوا وَلَا تُسْبَى ذَرَارِيهمْ(5/23)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)
{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ(5/23)
وَهَذَا وعيدٌ لِمَنْ كذَّب بِالْقُرْآنِ {سنستدرجهم} يَعْنِي: الْمُكَذِّبِينَ {مِنْ حَيْثُ لَا يعلمُونَ} أَيْ: نَأْخُذُهُمْ قَلِيلًا قَلِيلًا وَلا نباغتهم(5/24)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)
{وأملي لَهُم} أَيْ: أُطِيلُ لَهُمْ وَأُمْهِلُهُمْ؛ حَتَّى يَبْلُغَ الْوَقْتُ الَّذِي يُعَذِّبُهُمْ فِيهِ {إِن كيدي متين} شَدِيدٌ، وَكَيْدُهُ: أَخْذُهُ إِيَّاهُمْ بِالْعَذَابِ(5/24)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46)
{أم تَسْأَلهُمْ} يَقُولُ لِلنَّبِيِّ: أَمْ تَسْأَلُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْقُرْآنِ {أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مغرم مثقلون} أَيْ: قَدْ أَثْقَلَهُمُ الغُرْم؛ أَيْ أَنَّك لم تَسْأَلهُمْ أجرا(5/24)
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
{أم عِنْدهم الْغَيْب} علم الْغَيْب {فهم يَكْتُبُونَ} لِأَنْفَسِهِمُ الْجَنَّةَ إِنْ كَانَتْ جَنَّةٌ؛ لقَوْل أحدهم: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} للجنة إِن كَانَت جنَّة. تَفْسِير سُورَة الْقَلَم من الْآيَة (48 - 52)(5/24)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
{فاصبرلحكم رَبك} أَيْ: الَّذِي يَحْكُمُ عَلَيْكَ، وَكَانَ هَذَا قبل أَن يُؤمر بقتالهم {وَلَا تكن كصاحب الْحُوت} يَعْنِي: يُونُس {إِذْ نَادَى} يَعْنِي: فِي بَطْنِ الْحُوتِ {وَهُوَ مكظوم} مَكْرُوبٌ؛ وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ قِصَّةِ يُونُس.(5/24)
لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)
{لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ ربه} فَتَابَ {لنبذ بالعراء} بِالْأَرْضِ {وَهُوَ مَذْمُوم} يَعْنِي: حِينَ أُخْرِجَ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ؛ فِي تَفْسِيرِ بَعْضِهِمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْعَرَاءُ: الْأَرْضُ الَّتِي لَا تُوَارِي مَنْ فِيهَا بِجَبَلٍ وَلا شجر.(5/24)
فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
{فاجتباه ربه} فَاصْطَفَاهُ فَأَنْقَذَهُ مِمَّا كَانَ فِيهِ {فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} .(5/24)
وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)
{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ} لينفذونك {بِأَبْصَارِهِمْ} لشدَّة نَظَرِهِمْ عَدَاوةٌ وَبُغْضًا {لَمَّا سمعُوا الذّكر} .(5/24)
قَالَ محمدٌ: (يزلقونك) فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ: يَصْرَعُونَكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: ... يَتَقَارَضُونَ إِذَا التقوْا فِي مَجْلِسٍ ... نَظَرًا يزيلُ مواطئَ الْأَقْدَامِ ... وَقِرَاءَةُ نَافِعٍ: (ليَزلقونك) مِنْ: زلَقتُ بِفَتْحِ الْيَاءِ.
قَوْلُهُ {وَيَقُولُونَ إِنَّه} يَعْنُونَ: مُحَمَّدًا {لَمَجْنُونٌ}(5/25)
وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
{وَمَا هُوَ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} يَذْكُرُونَ بِهِ الْآخِرَةَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ.(5/25)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْحَاقَّةِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَفْسِير سُورَة الحاقة من آيَة (1 - 12)(5/26)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)
قَوْلُهُ: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَمَا أَدْرَاك مَا الحاقة} أَيْ: أَنَّكَ لَمْ تَكُ تَدْرِي مَا الْحَاقَّةُ؟ حَتَّى أَعْلَمْتُكَهَا، وَالْحَاقَّةُ: اسمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ أحقَّت لِأَقْوَامٍ الْجَنَّةَ، وأحقَّت لِأَقْوَامٍ النَّارَ.
يَحْيَى: وَبَلَغَنِي أَنَّ كلَّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ (وَمَا أَدْرَاكَ) فَقَدْ أَدْرَاهُ إِيَّاهُ وَكُلُّ شَيْءٍ (وَمَا يدْريك) فَهُوَ مَا لَمْ يُعْلِمْهُ إِيَّاهُ بعدُ.
قَالَ محمدٌ: قَوْلُهُ: {الْحَاقَّةُ مَا الحاقة} اللَّفْظُ لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى تَفْخِيمُ شَأْنِهَا؛ كَمَا تَقُولُ فُلانُ مَا فلَان.(5/26)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)
{كذبت ثَمُود وَعَاد بالقارعة} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: الْقَارِعَةُ اسْمٌ مِنْ أَسمَاء الْقِيَامَة(5/26)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)
{فَأَما ثَمُود فأهلكوا بالطاغية} قَالَ الْكَلْبِيُّ: الطَّاغِيَةُ: الصَّاعقة الَّتِي أهلكوا(5/26)
بهَا(5/27)
وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} بَارِدَة شَدِيدَة الْبرد.
{عَاتِيَة} عَتَتْ عَلَى خُزَّانها بِأَمْرِ رَبِّهَا كَانَتْ تَخْرُجُ بِقَدَرٍ فَعَتَتْ يومئذٍ عَلَى خُزَّانها، وَهِيَ رِيحُ الدَّبور(5/27)
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)
{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّام حسوما} أَيْ: تِبَاعًا لَيْسَ فِيهَا تَفْتِيرٌ، وَكَانَ ذَلِك من يَوْم الْأَرْبَعَاء إِلَى الْأَرْبَعَاءِ الْآخَرِ، وَاللَّيَالِي سبعٌ مِنْ لَيْلَةِ الْخَمْيِسِ إِلَى لَيْلَةِ الْأَرْبَعَاءِ.
قَالَ محمدٌ: قَوْلُهُ: {حُسُومًا} يُقَالُ: هُوَ مِنْ حَسْمِ الدَّاءِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ يُتَابِعُ عَلَيْهِ بَالْكَيِّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: تَحْسُمُهُمْ حُسُومًا؛ أَيْ: تُذْهِبهم وَتُفْنِيهِمْ؛ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
{فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صرعى} أَخْبَرَ عَنْهُمْ {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ} شَبَّهَهُمْ بِالنَّخْلِ الَّتِي قَدِ انْقَعَرَتْ فَوَقَعت، وَقَوله: {خاوية} يَعْنِي: بَالِيَةٌ أَخَذَتْ أَبْدَانَهُمْ مِنْ أَرْوَاحهم، كالنخل الخاوية.(5/27)
فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
وَقَوْلُهُ: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَة} يَعْنِي: مِن (ل 371) بَقِيَّةٍ؛ أَيْ: قَدْ أُهْلِكُوا، فَلا ترى مِنْهُم أحدا(5/27)
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9)
{وَجَاء فِرْعَوْن وَمن قبله} مِمَّن كذب الرُّسُل {والمؤتفكات} وَهِيَ قُرَيَاتُ قَوْمِ لُوطٍ {بِالْخَاطِئَةِ} يَعْنِي: الشّرك(5/27)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)
{فعصوا رَسُول رَبهم} عَصَى كُلُّ قَوْمٍ رَسُولَ رَبِّهِمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابية} شَدِيدَةً، فِي تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ.
قَالَ محمدٌ: (رابية) الْمَعْنَى: تَزِيدُ عَلَى الْأَخَذَاتِ؛ وَهُوَ معنى قَول مُجَاهِد.(5/27)
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)
{إِنَّا لما طَغى المَاء} عَلَى خُزَّانه بِأَمْرِ رَبِّهِ كَانَ يَخْرُجُ بِقَدَرٍ، فَطَغَى يَوْمَ غرَّق الله قوم نوح {حَمَلْنَاكُمْ} يَعْنِي: نُوحًا وَمَنْ مَعَهُ الَّذِينَ من ذرّيتهم {فِي الْجَارِيَة} يَعْنِي: السَّفِينَة(5/27)
لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
{لنجعلها لكم تذكرة} فَيَذْكُرُونَ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ فِي الْأَرْضِ غَرِقَ غَيْرَ أَهْلِ السَّفينة {وَتَعيهَا أذن وَاعِيَة} حَافِظَةٌ؛ وَهِيَ أُذُنُ الْمُؤْمِنِ سَمِعَ التَّذْكِرَةَ فَوَعَاهَا بِقَلْبِهِ(5/27)
قَالَ محمدٌ: وَعَيْتُ الْعلم وووَعَيْتُ مَا قلتَ؛ أَيْ: حَفِظْتُهُ، وَكَذَلِكَ كُلَّ شَيْءٍ حَفِظْتُهُ فِي نَفْسِكَ، وَيُقَالُ لِكُلِّ شَيْءٍ حَفِظْتَهُ فِي غَيْرِ نَفْسِكَ: أوعيْته، وَمِنْهُ أوعيت الْمَتَاع فِي الْوِعَاء. تَفْسِير سُورَة الحاقة من آيَة (13 - 17)(5/28)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13)
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَة} وَهِيَ النَّفْخَةُ الْآخِرَةُ.
قَالَ محمدٌ: الْقِرَاءَة (نفخةٌ واحدةٌ) بِالرَّفْعِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ؛ الْمَعْنَى نُفِخَ نفخةٌ واحدةٌ فِي الصُّورِ.(5/28)
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)
{وحملت الأَرْض وَالْجِبَال} تُحْمَلُ مِنْ أُصُولِهَا فَتُذْهَبْ {فَدُكَّتَا دكة وَاحِدَة} تصير أرْضهَا مستوية(5/28)
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15)
{فَيَوْمئِذٍ وَقعت الْوَاقِعَة} يَعْنِي: وَقَعَ الْعَذَابُ بِأَهْلِ الْعَذَابِ(5/28)
وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16)
{وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} كَقَوْلِهِ: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} يَعْنِي: تَشَقُّقَهَا، وَالْوَاهِيَةُ: الضَّعِيفَةُ لَيْسَتْ فِي الشدَّة كَمَا كَانَت(5/28)
وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)
{وَالْملك} يَعْنِي: جَمِيعُ الْمَلائِكَةِ {عَلَى أَرْجَائِهَا} عَلَى حَافَّاتِ السَّمَاءِ يَعْنِي: أَطْرَافَهَا.
قَالَ محمدٌ: رَجَا كُلِّ شَيْءٍ: ناحيَتُه مَقْصُورٌ، وَالتَّثْنِيَةُ: رَجَوان وَالْجَمْعُ أَرْجَاءُ.(5/28)
{وَيحمل عرش رَبك فَوْقهم} فَوق الْخَلَائق {يَوْمئِذٍ ثَمَانِيَة} قَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْيَوْمَ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ وَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ.
يَحْيَى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: ((أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ رجْلاه فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، وَعَلَى قرْنه العرشُ، وَبَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقه خفقان الطير مسيرَة سَبْعمِائة سَنَةٍ، يَقُولُ: سُبْحَانَكَ حَيْثُ كُنْتَ)) .(5/29)
يَحْيَى: بَلَغَنِي أَنَّ اسْمَهُ رُزوفيل. تَفْسِير سُورَة الحاقة من آيَة (18 - 37)(5/30)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خافية} لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ أَعمالكُم شَيْء.(5/30)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} فَيَعْرِفُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ {فَيَقُول هاؤم} أَي هاكم {اقْرَءُوا كِتَابيه} وَذَلِكَ حِينَ يَأْذَنُ اللَّهُ لَهُ فَيَقْرَأُ كِتَابَهُ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي الْخَيْر رَأْسًا يَدْعُو إِلَيْهِ، وَيَأْمُرُ بِهِ وَيُكْثِرُ عَلَيْهِ تبعُه، دُعِيَ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ.(5/30)
فَيَتَقَدَّمُ؛ حَتَّى إِذَا دَنَا أُخْرِج لَهُ كِتَابٌ أَبْيَضُ بِخَطٍّ أَبْيَضَ فِي بَاطِنِهِ السَّيِّئَاتُ، وَفِي ظَاهِرِهِ الْحَسَنَاتُ، فَيَبْدَأُ بِالسَّيِّئَاتِ فَيَقْرَؤُهَا فيشْفق وَيَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ، فَإِذَا بَلَغَ آخِرَ الْكِتَابِ وَجَدَ فِيهِ هَذِهِ سَيِّئَاتُكَ قَدْ غُفِرَتْ لَكَ فَيَفْرَحُ ثُمَّ يقلب كِتَابه، فَيقْرَأ حَسَنَاته قلا يَزْدَادُ إِلَّا فَرَحًا؛ حَتَّى إِذَا بَلَغَ آخِرَ الْكِتَابِ وَجَدَ فِيهِ هَذِهِ حَسَنَاتُكَ، وَقَدْ ضُوعفت لَكَ فَيَبْيَضُّ وَجْهُهُ، وَيُؤْتَى بِتَاجٍ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، ويُكْسَى حُلتين، ويُحَلَّى كُلُّ مِفْصَلٌ مِنْهُ، ويُطوّل سِتِّينَ ذِرَاعًا، وَهِيَ قَامَةُ آدَمَ وَيُقَالُ: انْطَلِقْ إِلَى أَصْحَابِكَ فَبَشِّرْهُمْ وأخبرهُمْ أَنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مِثْلَ هَذَا، فَإِذَا أَدْبَرَ قَالَ: {هَاؤُمُ} أَيْ: هَاكُمُ {اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}(5/31)
إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)
{إِنِّي ظَنَنْت} عَلِمْتُ {أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ}(5/31)
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)
قَالَ اللَّهُ: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضية} أَيْ: مَرْضِيَّةٌ قَدْ رَضِيهَا {فِي جنَّة عالية}(5/31)
قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)
{قطوفها} ثمارها] وعناقيدها {دانية} أُدْنِيَتْ مِنْهُمْ فَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ] : هَلْ تَعْرِفُونَنِي؟ فَيَقُولُونَ قَدْ غَيَّرَتْكَ كَرَامَةُ اللَّهِ، مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ:] أَنَا فُلانُ بْنُ فُلانٍ، أَبَشِّرُ كُلَّ رجل] مِنْكُم بِمثل هَذَا(5/31)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ} قدمتم] فِي أَيَّام الدُّنْيَا،(5/31)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)
و] إِذا كَانَ الرَّجُلُ فِي الشَّرِّ] رَأْسًا [يَدْعُو إِلَيْهِ (ل 372) وَيَأْمُرُ بِهِ فيكثُر عَلَيْهِ تبَعُه، نُودِيَ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ، فَيَتَقَدَّمُ إِلَى حِسَابِهِ، فَيَخْرُجُ لَهُ كتابٌ أَسْوَدٌ بِخَطٍّ أَسْوَدٍ فِي بَاطِنِهِ الْحَسَنَاتُ وَفِي ظَاهِرِهِ السَّيِّئَاتُ، فَيَبْدَأُ بِالْحَسَنَاتِ فَيَقْرَؤُهَا فَيَفْرَحُ وَيَظُنُّ أَنَّهُ سَيَنْجُو؛ فَإِذَا بَلَغَ آخِرَ الْكِتَابِ وَجَدَ فِيهِ: هَذِهِ حَسَنَاتُكَ وَقَدْ رُدت عَلَيْكَ فَيَسْوَدُّ وجهُه وَيَعْلُوهُ الْحُزْنُ، وَيَقْنَطُ مِنَ الْخَيْرِ، ثُمَّ يَقْلِبُ كِتَابَهُ فَيَقْرَأُ سَيِّئَاتَهُ، فَلا يَزْدَادُ إِلَّا حُزْنًا وَلا يزدادُ وجْهُه إِلَّا سَوَادًا، فَإِذَا بَلَغَ آخِرَ الْكِتَابِ وَجَدَ فِيهِ: هَذِهِ سَيِّئَاتُكَ، وَقَدْ ضُوعفت عَلَيْكَ؛ أَيْ: يُضاعَفُ عَلَيْهِ الْعَذَابُ، لَيْسَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يُزَادُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَعْمَلْ.(5/31)
قَالَ: فَيُعْظِمُ لِلنَّارِ وَتَزْرَقُّ عَيْنَاهُ ويَسْوَدّ وَجْهُهُ، ويُكسى سَرَابِيلَ الْقَطْرَانِ وَيُقَالُ لَهُ: انْطَلِقْ إِلَى أَصْحَابِكَ؛ فَأَخْبِرْهُمْ إِنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مِثْلَ هَذَا. فَيَنْطَلِقُ وَهُوَ يَقُولُ: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا ليتها كَانَت القاضية} يتَمَنَّى الْمَوْت(5/32)
هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)
{هلك عني سلطانيه} تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَلَكَتْ عَنِّي حُجَّتي.(5/32)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)
قَالَ اللَّهُ: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيم صلوه} أَي: اجعلوه يَصْلَي الْجَحِيم(5/32)
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)
{ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا} اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَيِّ ذِرَاعٍ {فاسلكوه} فَيُسْلَكُ فِيهَا، تَدْخُلُ مِنْ فِيهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ دُبُره، وَلَوْ أَنَّ حَلْقَةً مِنْهَا وُضِعَتْ عَلَى جَبَلٍ لَذَابَ؛ فَيُنَادِي أَصْحَابَهُ: هَلْ تَعْرِفُونَنِي؟ فَيَقُولُونَ: لَا وَلَكِنْ قَدْ نَرَى مَا بِكَ مِنَ الخِزْي فَمَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ أَنَا فُلانُ ابْنُ فُلانٍ إِنَّ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْكُم مثل هَذَا(5/32)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35)
قَالَ اللَّهُ: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حميم} أَي: شفيقُ يَنْفَعهُ(5/32)
وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)
{وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ} يَعْنِي: غُسَالَةُ أَهْلِ النَّارِ: القيْح والدّمُ(5/32)
لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
{لَا يَأْكُلهُ إِلَّا الخاطئون} الْمُشْرِكُونَ.
قَالَ محمدٌ: الِاخْتِيَارُ أَنْ يُوقَفَ عَلَى الْهَاءَاتِ الَّتِي مَضَتْ فِي قَوْله {كِتَابيه} {حسابيه} و {ماليه} و {سلطانيه} وَتُوصَلُ، وَقَدْ حَذَفَهَا قومٌ فِي الوصْل؛ وَهُوَ خِلافُ الْمُصْحَفِ ذَكَرَهُ الزَّجَّاج. تَفْسِير سُورَة الحاقة من آيه (38 - 46)(5/32)
تَفْسِير سُورَة الحاقة من آيه (47 - 52)(5/33)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)
قَوْلُهُ: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تبصرون} أُقْسِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ أَنَّ الْقُرْآنَ(5/33)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)
{لقَوْل رَسُول كريم} على الله؛ يَعْنِي: مُحَمَّد صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم.(5/33)
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41)
{وَمَا هُوَ} مَا الْقُرْآنُ {بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تؤمنون} أقلكم من يُؤمن(5/33)
وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42)
{وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تذكرُونَ} أَقَلُّكُمْ مَنْ يَتَذَكَّرُ أَيْ: يُؤْمِنُ(5/33)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)
{تَنْزِيل} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .(5/33)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)
{وَلَو تَقول علينا} يَعْنِي: مُحَمَّدًا {بعض الْأَقَاوِيل} فَزَادَ فِي الْوَحْيِ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ(5/33)
لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)
{لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} أَيْ: بِالْحَقِّ عُقُوبَةٌ، وَتَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَقُول: لقطعنا يَده الْيُمْنَى(5/33)
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)
{ثمَّ لقطعنا مِنْهُ الوتين} وَهُوَ الْعِرْقُ الَّذِي الْقَلْبُ مُعَلَّقٌ بِهِ فَإِذَا انْقَطَعَ مَاتَ الْإِنْسَانُ(5/33)
فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)
{فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين} .
قَالَ محمدٌ: (حاجزين) من نعت (أحد) ، و (أحدٌ) فِي مَعْنَى جَمِيعٍ؛ الْمَعْنَى فَمَا مِنْكُم قوم يحجزون عَنهُ.(5/33)
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)
{وَإنَّهُ} يَعْنِي: الْقُرْآن {لتذكرة لِلْمُتقين} هم الَّذين يقبلُونَ التَّذْكِرَة(5/33)
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
{وَإنَّهُ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا(5/33)
وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)
{وَإنَّهُ} يَعْنِي: الْقُرْآن {لحق الْيَقِين} أَنه من عِنْد الله(5/33)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
{فسبح باسم رَبك الْعَظِيم} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: التَّسْبِيحُ مَعْنَاهُ: تَنْزِيهُ اللَّهِ مِنَ السُّوءِ وَتَبْرِئَتُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.(5/33)
تَفْسِيرُ سُورَةِ سَأَلَ سَائِلٌ وَهِيَ مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم تَفْسِير سُورَة المعارج من آيه (1 - 9)(5/34)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)
قَوْله: {سَأَلَ سَائل} الْعَامَّةُ يَهْمِزُونَهَا مِنْ بَابِ السُّؤَالِ، قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا للنَّبِي صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم لِمَنْ هَذَا الْعَذَابُ الَّذِي تَذْكُرُ أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ؟ فَقَالَ الله: {سَأَلَ سَائل بِعَذَاب} أَيْ: عَنْ عَذَابٍ {وَاقِعٌ لِلْكَافِرِينَ} وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقْرَؤُهَا: (سَالَ سَيْلٌ) بِغَيْرِ همزٍ مِنْ بَابِ السَّيْل، وَقَالَ هُوَ وَادٍ مِنْ نارٍ يسيل، {بِعَذَاب وَاقع} للْكَافِرِينَ(5/34)
لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)
{لَيْسَ لَهُ دَافع} يَدْفَعهُ(5/34)
مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)
{من الله ذِي المعارج} ذِي الْمَرَاقِي إِلَى السَّمَاءِ(5/34)
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْم} يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ {كَانَ مِقْدَارُهُ خمسين ألف سنة} يَقُولُ هَذَا كَانَ مِقْدَارُهُ [لَوْ وَلِيَ] غَيْرُ اللَّهِ حِسَابَ الْخَلائِقِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَفْرَغُ مِنْهُمْ فِي مِقْدَار(5/34)
(ل 373) نِصْفِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}(5/35)
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)
{فاصبر صبرا جميلا} لَيْسَ فِيهِ (جَزَعٌ) عَلَى تَكْذِيبِ الْمُشْركين لَك(5/35)
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6)
{إِنَّهُم يرونه بَعيدا} يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُونَ: لَيْسَ بكائنٍ(5/35)
وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)
{ونراه قَرِيبا} جَائِيًا وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قريب.(5/35)
يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8)
{يَوْم تكون السَّمَاء} أَيْ: ذَلِكَ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ {كَالْمهْلِ} كَعَكرِ الزَّيْت؛ فِي تَفْسِير زيد بن أسلم(5/35)
وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)
{وَتَكون الْجبَال كالعهن} كَالصُّوفِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ أَضْعَفُ الصُّوفِ، وَهِي فِي حرف ابْن مَسْعُود (كالصوف الْأَحْمَر المنفوش)(5/35)
وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
{وَلَا يسْأَل حميم حميما} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: لَا يَسْأَلُ قريبٌ قَرِيبَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَنْهُ مِنْ ذُنُوبِهِ شَيْئًا؛ كَمَا كَانَ يَحْمِلُ بعضُهم فِي الدُّنْيَا عَنْ بَعْضٍ.
قَالَ محمدٌ: الْحَمِيمُ: الْقَرِيبُ، وَالْحَمِيمُ أَيْضا: المَاء الشَّديد الْحر. تَفْسِير سُورَة المعارج من آيه (10 - 18)(5/35)
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11)
قَوْله: {يبصرونهم} يُبْصُرُ الرَّجُلُ قَرَابَتَهُ؛ أَيْ: يَعْرِفُهُمْ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ، وَفِي بَعْضِهَا لَا يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا {يَوَدُّ المجرم} يَعْنِي: الْمُشرك،(5/35)
وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13)
وَمعنى (فصيلته) : عشيرته، وَمعنى (تؤويه) : تنصره فِي الدُّنْيَا(5/35)
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
{وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ ينجيه} ذَلِكَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. {كَلَّا إِنَّهَا لظى}(5/35)
نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16)
{نزاعة} يَعْنِي: أكالة {للشوى} يَعْنِي: الْهَامَّ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ(5/35)
تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17)
{تَدْعُو من أدبر} عَن الْإِيمَان(5/35)
{وَتَوَلَّى} عَن طَاعَة الله(5/36)
وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
{وَجمع فأوعى} يَعْنِي: جمع المَال فأوعاه. تَفْسِير سُورَة المعارج من آيَة (19 - 35)(5/36)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)
{إِن الْإِنْسَان} يَعْنِي الْمُشرك {خلق هلوعا} يَعْنِي: ضَجِرًا(5/36)
إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20)
{إِذا مَسّه الشَّرّ} يَعْنِي: الشدَّة {جزوعا} لَمْ يَصْبِرْ لَيْسَتْ لَهُ فِيهَا حسبةٌ(5/36)
وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)
{وَإِذا مَسّه الْخَيْر} يَعْنِي: إِذَا أُعْطِيَ الْمَالَ {مَنُوعًا} أَيْ: يَمْنَعُ حَقَّ اللَّهِ فِيهِ.(5/36)
إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)
{إِلَّا الْمُصَلِّين} يَعْنِي: الْمُسلمين(5/36)
الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)
{الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} يَدُومُونَ عَلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ(5/36)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)
{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} وَهِي الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة(5/36)
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)
{للسَّائِل والمحروم} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: السَّائِلُ: الْمِسْكِينُ الَّذِي يَسْأَلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ , وَالْمَحْرُومُ: الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ عَلَى حَالٍ فحُرم أَنْ يُعْطى عَنِ الْمَسْأَلَةِ؛ كَمَا يُعْطى السَّائِلُ، وَإِنْ أُعطي شَيْئا قَبِل(5/36)
وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)
{وَالَّذين يصدقون بِيَوْم الدّين} بِيَوْم الْحساب(5/36)
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27)
{وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مشفقون} خائفون.(5/36)
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)
{فَمن ابْتغى وَرَاء ذَلِك} وَرَاءَ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانهم {فَأُولَئِك هم العادون} الزُّناة تعدَّوْا الْحَلالَ إِلَى الْحَرَامِ(5/36)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)
{وَالَّذين هم لِأَمَانَاتِهِمْ} يَعْنِي: مَا افْترض اللَّه عَلَيْهِم، وَالْأَمَانَاتُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ {وَعَهْدهمْ} مَا عَاهَدُوا(5/36)
عَلَيْهِ {رَاعُونَ} حَافِظُونَ؛ يَعْنِي: يُؤَدُّونَ الْأَمَانَاتِ، وَيُوفُونَ بِالْعَهْدِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ فِيمَا وَافق الْحق(5/37)
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)
{وَالَّذين هم بشهاداتهم قائمون} وَهِيَ شَهَادَاتٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ يقومُونَ بهَا إِذا كَانَت عِنْدهم(5/37)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} عَلَى وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها. تَفْسِير سُورَة المعارج من آيَة (36 - 44)(5/37)
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36)
{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} يَعْنِي: مُنْطَلِقِينَ يَأْخُذُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا، يَقُولُونَ: مَا يَقُولُ هَذَا الرَّجُلُ؟ :(5/37)
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37)
{عزين} أَيْ: مُتَفَرِّقِينَ - فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ - عَنِ النَّبِيِّ يُكَذِّبُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ.
قَالَ محمدٌ (مُهْطِعِينَ) مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَال، و (عزين) جمع عزَة والعِزَةُ: الْجَمَاعَة.(5/37)
أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)
{أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يدْخل جنَّة نعيم} لقَوْل أحدهم: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} لَلْجَنَّةَ إِنْ كَانَتْ جَنَّةٌ كَمَا يَقُولُونَ،(5/37)
كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
قَالَ الله: {كلا} لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ}(5/37)
يَعْنِي: من النُّطَفِ.(5/38)
فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)
{فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} قَالَ قَتَادَة: للشمس ثَلَاثمِائَة وَسِتُّونَ مشرقًا وثلاثمائة وَسِتُّونَ مَغْرِبًا {إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَن نبدل خيرا مِنْهُم} أَيْ: عَلَى أَنْ نُهْلِكَهُمْ بِالْعَذَابِ، وَنُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ آدَمِيِّينَ أَطْوَعَ لِلَّهِ مِنْهُمْ {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} بِمَغْلُوبِينَ عَلَى ذَلِكَ إِنْ أَرَدْنَاهُ(5/38)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)
{فذرهم يخوضوا} فِي كفرهم {ويلعبوا} فَقَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ {حَتَّى يلاقوا يومهم الَّذِي يوعدون} يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَمَرَ بقتالهم.(5/38)
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)
{يَوْم يخرجُون من الأجداث} الْقُبُور {سرَاعًا} إِلَى صَاحِبِ الصُّورِ {كَأَنَّهُمْ إِلَى نصب} أَيْ: إِلَى عِلْمٍ مَنْصُوبٍ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهَا بِنَصْبِ النُّونِ وَإِسْكَان الصَّاد {يوفضون} [يسرعون](5/38)
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
{خاشعة أَبْصَارهم} أَي: ذليلة {ترهقهم} تَغْشَاهُمْ {ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي [كَانُوا يوعدون] (ل 374} .(5/38)
تَفْسِيرُ سُورَةِ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوْحًا وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم تَفْسِير سُورَة نوح من آيَة (1 - 12)(5/39)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)
قَوْلُهُ: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قومه} إِلَى قَوْله: {عَذَاب أَلِيم} أَي: موجع(5/39)
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
{يغْفر لكم من ذنوبكم} أَيْ: يَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ كُلَّهَا و (من) صلةٌ {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} إِلَى مُدَّتِكُمْ، فَيَكُونُ مَوْتُكُمْ بِغَيْرِ عَذَاب {إِن أجل الله} يَعْنِي: الْقِيَامَةَ؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ {لَو كُنْتُم تعلمُونَ} لعلمتم أَن الْقِيَامَة؛ جائية(5/39)
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)
{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ} أَيْ: كُلَمَّا دَعَوْتُهُمْ أَنْ يَتُوبُوا مِنَ الشِّرْكِ وَيُؤْمِنُوا فَتَغْفِرَ لَهُمْ، أبَوا {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} يتولَّون وَيَكْرَهُونَ ذَلِكَ. {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} غَطَّوْا رُءُوسَهُمْ؛ لِكَيْ لَا يَسْمَعُوا دُعَائِي(5/39)
إيَّاهُم إِلَى الْإِيمَان {وأصروا} أَقَامُوا على الْكفْر {واستكبروا} عَن عبَادَة الله(5/40)
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8)
{ثمَّ إِنِّي دعوتهم جهارا} مجاهرة(5/40)
ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)
{ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُم إسرارا} أَيْ: خَلَطْتُ دُعَاءَهُمْ فِي الْعَلانِيَةِ بِدُعَاء السِّر(5/40)
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)
{يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا} أَي: تدرُّ عَلَيْكُم بالمطر(5/40)
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)
{وَيَجْعَلْ لَكُمْ جنَّات وَيجْعَل لكم أَنهَارًا} .
قَالَ مُحَمَّد: ٌ {جنَّات} بساتين، وَقيل: إِنَّهُم كَانُوا قدأجدبوا فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ إِيَمَانَهِمْ بِاللَّهِ يَجْمَعُ لَهُمْ مَعَ الْحَظِّ الْوَافِرِ فِي الْآخِرَةِ الْخِصْبُ وَالْغِنَى فِي الدُّنْيَا. تَفْسِير سُورَة نوح من آيَة (13 - 22)(5/40)
مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)
قَوْلُهُ: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لله وقارا} أَيْ: لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً(5/40)
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)
{وَقد خَلقكُم أطوارا} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: يَعْنِي: نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ عَظْمًا ثُمَّ لَحْمًا.
قَالَ محمدٌ: (أَطْوَارًا) أَيْ: طَوْرًا بَعْدَ طَوْرٍ، نَقَلَكُمْ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ قَتَادَةَ. وَقَوْلُهُ: {تَرْجُونَ} تَخَافُونَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(مَحِلَّتُهُمْ ذَاتُ الْإِلَهِ وَدِينُهُمْ ... قويمٌ فَمَا يَرْجُونَ غَيْرَ الْعَوَاقِبِ)
أَيْ: مَا يخَافُونَ إِلَّا خَوَاتِم الْأَعْمَال.(5/40)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)
قَوْله: {سبع سماوات طباقا} يَعْنِي: بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ.(5/40)
قَالَ محمدٌ: (طباقًا) من نعت (سبع) ؛ أَيْ: خَلَقَ سَبْعًا ذَاتَ أَطْبَاقٍ.(5/41)
{وَجعل الْقَمَر فِيهِنَّ نورٌ ا} أَيْ: مَعَهِنَّ ضِيَاءٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ؛ فِي تَفْسِير الْكَلْبِيّ.(5/41)
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)
{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} خَلَقَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ خَلْقًا؛ يَعْنِي: خَلَقَ آدَمَ.
قَالَ محمدٌ: (نَبَاتًا) مَحْمُولٌ فِي الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَعْنَى؛ لِأَن معنى (أنبتكم) : جعلكُمْ تنبتون نباتًا.(5/41)
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)
{وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} مِنْهَا يَوْم الْقِيَامَة(5/41)
لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
{لتسلكوا مِنْهَا سبلا فجاجا} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: يَعْنِي: طُرُقًا بَيِّنَةً.(5/41)
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21)
{وَاتبعُوا} اتَّبَعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى التَّكْذِيبِ {مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خسارا} عِنْد الله باتبَاعهمْ إِيَّاه(5/41)
وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22)
{ومكروا مكرا كبارًا} عَظِيمًا وَهُوَ الشِّرْكُ.
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: مكرٌ كبيرٌ وكُبّارٌ فِي معنى وَاحِد. تَفْسِير سُورَة نوح من آيَة (23 - 27)(5/41)
تَفْسِير سُورَة نوح من آيَة (27 - 28)(5/42)
وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)
{وَقَالُوا لَا تذرن آلِهَتكُم} إِلَى قَوْله: {ونسرا} وَهِيَ أَسْمَاءُ آلِهَتِهِمْ؛ أَيْ: لَا تدَعُوا عبادتها.(5/42)
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
{وَقد أَضَلُّوا كثيرا} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَعْنِي: الْأَصْنَامَ؛ أَيْ: ضَلَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْأَصْنَامُ دَعَتْ إِلَى عِبَادَتِهَا {وَلا تزد الظَّالِمين} الْمُشْركين {إِلَّا ضلالا} هَذَا دُعَاءُ نُوحٍ عَلَى قَوْمِهِ حِينَ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِم(5/42)
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)
{مِمَّا خطيئاتهم} أَيْ: بِخَطَايَاهُمْ {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} أَيْ: وَجَبَتْ لَهُمُ النَّارُ.
قَالَ محمدٌ: (مِمَّا خطيئاتهم) قِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: مِنْ خَطِيئَاتِهِمْ، و (مَا) زَائِدَة.(5/42)
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)
{لَا تذرعلى الأَرْض من الْكَافرين ديارًا} أَيْ: أَحَدًا وَهَذَا حَيْثُ أَذِنَ الله لَهُ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِم(5/42)
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)
{وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} أَيْ: أَنَّهُمْ إِنْ وَلَدُوا وَلِيدًا فأدْرك كفَرَ وَهُوَ شَيْءٌ عَلِمَهُ نُوحٌ مِنْ قِبَل اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا من قد آمن}(5/42)
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
قَالَ نُوحٌ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي ولوالدي} قَالَ الْحَسَنُ: كَانَا مُؤْمِنَيْنِ {وَلِمَنْ دخل بَيْتِي مُؤمنا} تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ: يَعْنِي: دَخَلَ
قَالَ محمدٌ: إِسْكَانُ الْيَاءِ مِنْ (بَيْتِي) وَفَتْحِهَا جَائِزٌ.
{وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تزد الظَّالِمين إِلَّا تبارا}(5/42)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْجَنِّ وَهِيَ [مَكِّيَّةٌ]
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم تَفْسِير سُورَة الْجِنّ من آيَة (1 - 7)(5/43)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)
قَوْلُهُ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتمع نفر من الْجِنّ} وهم (ل 375) {فَقَالُوا إِنَّا سمعنَا قُرْآنًا عجبا}(5/43)
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)
{يهدي إِلَى الرشد} أَيْ: يُبَيِّنُ سَبِيلَ الْهُدَى {فَآمَنَّا بِهِ} وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ على الْيَهُودِيَّة.(5/43)
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)
{وَأَنه تَعَالَى} ارْتَفع {جد رَبنَا} عَظمته وكبرياؤه(5/43)
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)
{وَأَنه كَانَ يَقُول سفيهنا} وَهُوَ الْمُشْرِكُ مِنْهُمْ {عَلَى اللَّهِ شططا} أَي: جورًا وكذبًا(5/43)
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)
قَالَ اللَّهُ: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنّ فزادوهم رهقا} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْإِنْسِ كَانَ أَحَدُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَ مُسَافِرًا، فَأَمْسَى فِي الْأَرْضِ الْقَفْرِ نَادَى: أَعُوذُ بَسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي مِنْ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ، فَيَبِيتُ فِي مَنَعةٍ مِنْهُ حَتَّى يصبح {فزادوهم رهقا} زَادَتِ الْجِنُّ لتعوُّذهم بِهِمْ إِثْمًا.(5/43)
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)
{وَأَنَّهُمْ ظنُّوا} ظَنَّ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْجِنِّ {كَمَا ظننتم} يَقُولُهُ لِلْمُشْرِكِينَ مِنَ الْإِنْسِ {أَنْ لن يبْعَث الله أحدا}(5/43)
يجحدون الْبَعْث. تَفْسِير سُورَة الْجِنّ من آيَة (8 - 13)(5/44)
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)
{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حرسا شَدِيدا وشهبا} هَذَا قَوْلُ الْجِنِّ مَنْ كَانَ يفعل ذَلِك مِنْهُم(5/44)
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)
{وَأَنا كُنَّا نقعد مِنْهَا} مِنَ السَّمَاءِ {مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رصدا} أَيْ: حَفَظة تَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِمَاعِ.
قَالَ محمدٌ: (الشهَاب الرَّصد) : أَي: قد أُرصِدَ بِهِ للرَّجْم، و (شُهُبًا) جَمْعُ شِهَابٍ.
قَالَ يَحْيَى: وَكَانُوا يَسْتَمِعُونَ أَخْبَارًا مِنْ أَخْبَارِ السَّمَاءِ، وأمَّا الْوَحْيُ فَلَمْ يَكُونُوا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَسْتَمِعُوهُ.
يَحْيَى: عَنْ عُبَيْدِ الصَّمَدِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا رجاءٍ العُطَاردي يَقُولُ: ((كُنَّا قَبْلَ أَنْ يُبعث النَّبِيُّ مَا نَرَى نَجْمًا يَرْمَى بِهِ؛ فَبَيْنَمَا نَحْنُ ذَاتَ لَيْلَةٍ إِذَا النُّجُومُ قَدْ رُمِيَ بِهَا فَقُلْنَا: مَا هَذَا؟ إِنْ هَذَا إِلَّا أمرٌ حَدَثٌ. فجاءنا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بُعِثَ)) .(5/44)
وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بهم رَبهم رشدا} تَفْسِيرُ(5/44)
الْحَسَنِ: أَنَّهُمْ قَالُوا: هَذَا أمرٌ حَدَثٌ حِينَ رُمِيَ بِالنُّجُومِ، فَلا نَدْرِي أشرٌّ أَرَادَ اللَّهُ بِأَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يُهْلِكَهُمْ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا، أَمْ أَحْدَثَ لَهُم مِنْهُ نعْمَة وكرامة؟ :(5/45)
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)
{وَأَنا منا الصالحون} الْمُؤْمِنُونَ {وَمنا دون ذَلِك} يَعْنُونَ: الْمُشْرِكِينَ {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} وَفِي الْجِنِّ مَؤْمِنُونَ ويهودٌ وَنَصَارَى ومجوسٌ وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ.
قَالَ محمدٌ: (طَرَائِقُ) أَيْ: كُنَّا فِرَقًا، والقِدَدُ: جَمْعُ قِدّة، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ قِطْعَةٍ وقطعٍ.(5/45)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)
قَوْله: {وَأَنا ظننا} عَلِمْنَا {أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ} أَنْ نَسْبِقَ اللَّهَ حَتَّى لَا يَقْدِرُ عَلَيْنَا؛ فَيَبْعَثَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.(5/45)
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)
{وَأَنا لما سمعنَا الْهدى} الْقُرْآن {آمنا بِهِ} صَدَّقْنَا بِهِ. {فَلا يَخَافُ بَخْسًا} يَعْنِي: أَنْ يُنْقَصَ مِنْ عَمَلِهِ {وَلَا رهقا} ظُلْمًا أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَعْمَلْ.
قَالَ محمدٌ: أَصْلُ (الرَّهَق) فِي اللُّغَةِ العيْبُ وَالظُّلْمُ؛ يُقَالُ: رَهَقَ وَتَرَهَّقَ فِي دِينِهِ إِذا ظلم. تَفْسِير سُورَة الْجِنّ من آيَة (14 - 17)(5/45)
تَفْسِير سُورَة الْجِنّ من آيَة (17 - 20)(5/46)
وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)
{وَأما القاسطون} الْجَائِرُونَ عَنِ الْهُدَى. قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: قَسَطَ إِذَا جَارَ، وأقْسَط إِذَا عَدل. {فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} أَصَابُوا الرُّشْدَ.(5/46)
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)
{وألَّوا استقاموا على الطَّرِيقَة} عَلَى الْإِيمَانِ {لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} أَيْ: لَأَوْسَعْنَا لَهُمْ مِنَ الرِّزْقِ؛ فِي تَفْسِير الْحسن(5/46)
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
{لنفتنهم فِيهِ} لِنَخْتَبِرَهُمْ فِيهِ فَنَعْلَمَ كَيْفَ شُكْرُهُمْ.
قَالَ محمدٌ: قَالُوا: غَدِقَت الْأَرْضُ وأَغْدقت إِذَا ابتلّتْ، وَقَالُوا: مطرٌ غَيْداق؛ أَيْ: كَثِيرٌ، وَسَنَةٌ غَيْدَاق إِذَا أَخْصَبَتْ.
{نَسْلُكُهُ} نُدْخِلُهُ {عَذَابًا صعدا} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: لَا رَاحَةَ فِيهِ.
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: تصعَّدني الْأَمْرُ إِذا شقَّ عليَّ.(5/46)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)
{وَأَن الْمَسَاجِد لله}
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: وَلِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ. {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أحدا} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: قَالَ: يَقُولُ: لَيْسَ مِنْ قَوْمٍ غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ يَقُومُونَ فِي مَسَاجِدِهِمْ إِلَّا وَهُمْ يُشْرِكُونَ بِاللَّه فِيهَا، فأخلصُوا لله.(5/46)
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} {يَدعُوهُ} يَدْعُو الله {كَادُوا} كَادَ الْمُشْرِكُونَ {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} تَفْسِيرُ مِنَ الْحَرْدِ عَلَيْهِ.
قَالَ محمدٌ: كُلُّ شيءٍ أَلْصَقْتَهُ بشيءٍ إلصاقًا شَدِيدا [فقد لبّدته] . تَفْسِير سُورَة الْجِنّ من آيَة (21 - 28)(5/47)
قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)
{قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضرا} أَنْ أُدْخِلَكُمْ فِي الْكُفْرِ {وَلا رشدا} أَن أكرهكم على الْهدى(5/47)
قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)
{قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دونه ملتحدا} ملْجأ ألجأ إِلَيْهِ (ل 376)(5/47)
إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)
{إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ} .(5/47)
حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
{فسيعلمون من أَضْعَف ناصرا} أَيْ: أَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ لَا نَاصِر لكم {وَأَقل عددا} أَيْ: يُفْرَدُ كُلُّ إِنْسَانٍ بِعَمَلِهِ.(5/47)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25)
{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا توعدون} أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ مَجِيءِ السَّاعَةِ {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا}(5/47)
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26)
{عَالم الْغَيْب} والغيب هَا هُنَا فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ: الْوَحْيُ (فَلا(5/47)
يظْهر على غيبه أحدا}(5/48)
إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)
{إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمن خَلفه رصدًا} مِنَ الْمَلائِكَةِ يَحْفَظُونَهُ حَتَّى يُبَلِّغَ عَن الله الرسَالَة(5/48)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
{لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبهم} لِيَعْلَمَ ذَلِكَ الرَّسُولُ أَنَّ الرُّسُلَ قَبْلَهُ قَدْ بلَّغوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ {وأحاط} {الله} (بِمَا لديهم} يَعْنِي: مَا أُرْسِلُوا بِهِ فَلا يُوصَلُ إِلَيْهِمْ؛ حَتَّى يُبَلِّغُوا عَنِ اللَّهِ الرِّسَالَةَ {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ} {من خلقه} (عددا} .
قَالَ محمدٌ: (عددا) حَالٌ؛ الْمَعْنَى: وأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ فِي حَالِ الْعَدَدِ.(5/48)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمُزَّمِّل وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَفْسِير سُورَة المزمل من آيه (1 - 13)(5/49)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)
قَوْله: {يَا أَيهَا المزمل} يَعْنِي: النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم وَالْمُزَّمِّلُ هُوَ: المتزَمَّل بِثِيَابِهِ.
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: تَزَمَّلَ فلانٌ إِذَا تلفَّف بِثِيَابِهِ وَكُلُّ شيءٍ لُفِّفَ فَقَدْ زُمَّل، وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: يَقُولُ لِلنَّبِيِّ: يَا أَيُّهَا الْمُزَمِّلُ بِثِيَابِهِ يَعْنِي: يلبسهَا للصَّلَاة.(5/49)
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
{قُم اللَّيْل إلاقليلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَو زد عَلَيْهِ} .
قَالَ محمدٌ: (نِصْفَهُ) ؛ أَيْ: قُمْ نصفه.
{ورتل الْقُرْآن ترتيلا} أَي: ترسَّل فِيهِ ترسُّلا(5/49)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)
{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: يَعْنِي: فَرَائِضَهُ وَحُدُودَهُ وَالْعَمَل بِهِ(5/49)
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)
{إِن ناشئة اللَّيْل} قِيَامَ اللَّيْلِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهِيَ بِلِسَانِ الْحَبَشِ، فَإِذَا قَامَ الرَّجُلَ قَالُوا: قَدْ(5/49)
نَشَأَ فُلانٌ. قَالَ قَتَادَةُ: وَمَا كَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَهُوَ مِنْ ناشئة اللَّيْل {هِيَ أَشد وطئا} وَهِيَ تُقْرَأُ ((وَطْأ)) مَفْتُوحَةَ الْوَاوِ مَقْصُورَةً، وَوِطَاءً مَكْسُورَةَ الْوَاوِ مَمْدُودَةً، فَمن قَرَأَهَا {وطئا} بِفَتْحِ الْوَاوِ، فَتَفْسِيرُهَا عِنْدَ قَتَادَةَ أَثْبَتُ فِي الْخَيْرِ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِكَسْرِ الْوَاوِ وَالْمَدِّ فَتَفْسِيرُهَا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَشَدُّ مُوَاطَأَةٍ لِلْقَلْبِ لِفَرَاغِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْوَاتَ تَهْدَأُ فِي اللَّيْلِ.
قَالَ محمدٌ: وِطَاء مصدَر وَاطَأْتُ، وَأَرَادَ مُواطأة الْقَلْبِ وَالسَّمْعِ عَلَى الْفَهْمِ لِلْقُرْآنِ وَالْأَحْكَامِ لِتَأْوِيلِهِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ يَحْيَى.
وَقَوْلُهُ: {وَأَقْوَمُ قيلا} أَيْ أَصْدَقُ فِي التِّلاوَةِ وأجدرُ أَلَّا يُلبِس عَلَيْكَ الشَّيْطَانُ تِلاوَتَكَ(5/50)
إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)
{إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا} أَي: فراغاً {طَويلا} لحوائجك(5/50)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)
{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تبتيلا} أخْلص لَهُ إخلاصًا.(5/50)
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)
{رب الْمشرق وَالْمغْرب} مَشْرِقِ الشَّمْسِ وَمَغْرِبِهَا {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا}(5/50)
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)
{واصبر على مَا يَقُولُونَ} مَا يَقُولُ لَكَ الْمُشْرِكُونَ، وَهِيَ مَنْسُوخَة نسختها الْقِتَال.(5/50)
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)
{وذرني والمكذبين أولي النِّعْمَة} فِي الدُّنْيَا فَسَأُعَذِّبُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا وعيدٌ؛ يقالُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَنِي الْمُغِيرَةِ، وَكَانُوا نَاعِمِينَ ذَوِي غِنًى.
قَالَ محمدٌ: النِّعْمَةُ: التنعُّمُ، والنِّعمة اليِدُ الْجَمِيلَةُ وَالصُّنْعُ مِنَ اللَّهِ لِلْإِنْسَانِ(5/50)
{ومهلهم قَلِيلا} أَيْ: أَنَّ بَقَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا قَلِيلٌ ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى النَّارِ(5/51)
إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12)
{إِن لدينا} عندنَا {أَنْكَالًا} وَهِيَ الْقُيُودَ.
قَالَ محمدٌ: وَاحِدُهَا نِكْلٌ.(5/51)
وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)
{وَطَعَامًا ذَا غُصَّة} تغصُّ بِهِ الحلوق. تَفْسِير سُورَة المزمل من آيه (14 - 19)(5/51)
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)
{يَوْم ترجف الأَرْض} أَيْ: ذَلِكَ لَهُمْ يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْض تتزلزل {وَالْجِبَال وَكَانَت} أَيْ: وَصَارَتْ؛ يَعْنِي: {الْجِبَالُ كَثِيبًا} أَي: رملاً {مهيلا} أَي: سَائِلًا(5/51)
فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)
{فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وبيلا} شَدِيدًا.
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: اسْتَوْبَلَتِ الْبَلَد، وَيُقَال: كَلأ مٌ سْتَوْبَلٌ؛ أَي: لَا يُسْتمرأ.(5/51)
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)
{يَوْمًا يَجْعَل الْولدَان شيبا} أَيْ: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ الَّذِي يُجْعل الْوَلْدَانُ فِيهِ شِيبًا؟ : أَيْ: إِنْ كَفَرْتُمْ لَمْ تَتَّقُوهُ.(5/51)
السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
{السَّمَاء منفطر بِهِ} أَيْ: منشقٌّ فِيهِ.
قَالَ محمدٌ: قَوْله: (السَّمَاء منفطرٌ بِهِ) أَيْ: ذَاتُ انْفِطَارٍ؛ كَمَا تَقُولُ: امرأةٌ مُرْضِعٌ أَيْ: ذاتُ رَضَاعٍ.(5/51)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
{إِن هَذِه تذكرة} أَي: أَن هَذِهِ السُّورَةُ تَذْكِرَةٌ لِلْآخَرَةِ {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا} وطاعته. تَفْسِير سُورَة المزمل آيَة (20)(5/52)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى} أَقَلَّ {مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} إِلَى قَوْلِهِ {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} اللَّيْل {فَتَابَ عَلَيْكُم} تَفْسِير (ل 377) قَتَادَةَ: كَانَ الْفَرْضُ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أوّل هَذِه السُّورَة {يَا أَيهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَو زد عَلَيْهِ} فَقَامَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابُهُ حَوْلاً حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ؛ وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا فِي السَّمَاءِ اثْنَي عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ أَنْزَلَ {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثلثه} وبعضعم يقْرؤهَا {وَثلثه} إِلَى قَوْلِهِ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} فَرِيضَتَانِ وَاجِبَتَانِ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تطوُّعًا {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: هَذَا فِي التطوَّع {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا} .(5/52)
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: تَجِدُوهُ خَيْرًا لَكُمْ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَدَخَلَتْ (هُوَ) فَصْلاً. {وَأعظم أجرا} أَيْ: يُثِيبُكُمْ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لِمَنْ آمَنَ.(5/53)
تَفْسِيرُ سُورَةِ المِّدثر وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَفْسِير سُورَة المدثر من آيه (1 - 10)(5/54)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)
قَوْله: {يَا أَيهَا المدثر} الْمُتَدَثِّرُ بِثِيَابِهِ؛ يَعْنِي: النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: هَذِهِ أوَّل آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ.
قَالَ يَحْيَى: والعامَّة عَلَى أنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبك الَّذِي خلق} .
قَالَ محمدٌ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُفَسِّرُ المدَّثر: تدثَّر بِثِيَابِهِ وتلَثَّم.(5/54)
قُمْ فَأَنْذِرْ (2)
{قُم فَأَنْذر} من النَّار(5/54)
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)
{وثيابك فطهر} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: لَا تَلْبَسْهَا عَلَى مَعْصِيَتِي، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ: إِنَّهُ لطاهر الثِّيَاب(5/54)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
{وَالرجز فاهجر} يَعْنِي: الْأَوْثَانِ لَا تعْبُدْها.
قَالَ محمدٌ: أَصْلُ الرُّجْزِ: الْعَذَابُ، فَسُمِّيَتِ الْأَوْثَانُ رِجْزًا، لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى الْعَذَاب.(5/54)
وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)
{وَلَا تمنن تستكثر} تَفْسِيرُ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ: هِيَ الْهَدِيَّةُ تُهْدِيهَا لَيُهَدَى إِلَيْكَ خيرٌ مِنْهَا. قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ أُبي: ((وَلا تَمْنُنْ أَنْ تَسْتَكْثِرَ)) وَذَلِكَ تَفْسِيرُهَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهَا بِالرَّفْعِ.
قَالَ محمدٌ: قِيلَ: إِنَّهُ خَاطَبَ بِهَذَا النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أدَّبه بِأَشْرَفِ الْآدَابِ، وأسْنى الْأَخْلاقِ وَلَيْسَ عَلَى الْإِنْسَانِ إثْمٌ أَنْ يُهْدِي هَدِيَّةً يَرْجُو بِهَا مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهَا.
قَالَ يَحْيَى: وَكَانَ الْحَسَنُ يَقْرَؤُهَا: ((تستكثرْ)) مَوْقُوفَةٌ، قَالَ: وَفِيهَا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ يَقُولُ: لَا تَسْتَكْثِرْ عَمَلَكَ فَتَمُنَّ عَلَيْنَا.(5/55)
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
{ولربك فاصبر} على مَا أُوْذيت(5/55)
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)
{فَإِذا نقر فِي الناقور} أَيْ: إِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ(5/55)
فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
{فَذَلِك يَوْمئِذٍ يَوْم عسير} أَي: عسير(5/55)
عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
{على الْكَافرين غير يسير} لَيْسَ لَهُمْ مِنْ يُسْرِهِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا يُسره للْمُؤْمِنين. تَفْسِير سُورَة المدثر من آيَة (11 - 30)(5/55)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)
{ذَرْنِي وَمن خلقت وحيدا} نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَهَذَا وعيدٌ لَهُ.(5/56)
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)
{وَجعلت لَهُ مَالا ممدودا} وَاسِعًا(5/56)
وَبَنِينَ شُهُودًا (13)
{وبنين شُهُودًا} يَعْنِي: حُضُورًا مَعَهُ بِمَكَّةَ لَا يُسَافِرُونَ، كَانَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ ولدا رجَالًا(5/56)
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14)
{ومهدت لَهُ تمهيدا} بَسَطْتُ لَهُ فِي الدُّنْيَا بَسْطًا(5/56)
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)
{ثمَّ يطْمع أَن أَزِيد} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ لِقَوْلِ الْمُشْرِكِ: {وَلَئِنْ رجعت إِلَى رَبِّي} كَمَا يَقُولُونَ {إِنَّ لِي عِنْدَهُ للحسنى} للجنة إِن كَانَت جنَّة(5/56)
كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)
قَالَ: {كلا} لَا نُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ {إِنَّهُ كَانَ لآياتنا عنيدا} معاندًا لَهَا جاحدًا بهَا(5/56)
سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)
{سَأُرْهِقُهُ صعُودًا} أَيْ: سَأَحْمِلُهُ عَلَى مَشَقَّةٍ مِنَ الْعَذَاب.
قَالَ محمدٌ: وَيُقَال الْعقبَة الشاقة: صعودٌ وَكَذَلِكَ الْكَئودُ.(5/56)
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
{إِنَّه فكر وَقدر} إِلَى قَوْلِهِ {إِنْ هَذَا إِلا قَول الْبشر} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ قَالَ: يَا قَوْمُ إِنَّ أمْرَ هَذَا الرَّجُلِ يَعْنِي: النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَشَا وَقَدْ حَضَرَ الموْسمَ، وَإِنَّ النَّاسَ سَيَسْأَلُونَكُمْ عَنْهُ فَمَاذَا قَالَ: إِذًا وَاللَّهِ يَسْتَنْطِقُونَهُ فَيَجِدُونَهُ فَصِيحًا عالاً فيكذبونكم إِذًا وَاللَّهِ يَلْقَوْنَهُ فَيُخْبِرَهُمْ بِمَا لَا يُخْبِرُهُمْ بِهِ الْكَاهِنُ قَالُوا: فَنُخْبِرُ يَعْرِفُونَ الشِّعْرَ وَيَرْوُونَهُ فَيَسْتَمِعُونَهُ فَلا يَسْمَعُونَ شَيْئًا قُرَيْشٌ صَبَأَ وَالله الْوَلِيد لَئِن قُرَيْش (ل 378) كُلُّهَا قَالَ أَبُو جَهْلٍ: فَأَنَا أَكْفِيكُمُوهُ فَانْطَلَقَ أَبُو جَهْلٍ فَجَلَسَ إِلَيْهِ وَهُوَ كَهَيْئَةِ الْحَزِينِ فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: مَا يُحْزِنُكَ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: وَمَالِي لَا أَحْزَنُ وَهَذِهِ قُرَيْشٌ تَجْمَعُ لَكَ نَفَقَةَ يُعِينُوكَ بِهَا عَلَى كِبَركَ وَزَمَانَتِكَ.(5/56)
قَالَ: أَوَلَسْتُ أَكْثَرُ مِنْهُمْ مَالًا وَوَلَدًا قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّكَ قُلْتَ الَّذِي قُلْتَ؛ لتصيبَ مِنْ فُضُولِ طَعَامِ محمدٍ وَأَصْحَابِهِ. قَالَ: وَاللَّهِ مَا يَشْبَعُونَ مِنَ الطَّعَامِ فأيُ فَضْلٍ يَكُونُ لَهُمْ وَلَكُنِّي أكثرتُ الْحَدِيثَ فِيهِ فَإِذَا الَّذِي يَقُولُ سحرٌ وَقَوْلُ بَشَرٍ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ قَوْمُهُ فَقَالُوا: كَيْفَ يَا أَبَا الْمُغِيرَةِ يَكُونُ قَوْلُهُ سحرٌ أَوْ قَوْلُ بَشَرٍ؟ قَالَ: أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ فَرَّقَ بني فُلانَةٍ وَزَوْجِهَا، وَبَيْنَ فُلانٍ وَابْنُهُ، وَبَيْنَ فُلانٍ وَابْنِ أَخِيهِ، وَبَيْنَ فُلانٍ مَوْلَى بَنِي فُلانٍ وَبَيْنَ مَوَالِيهِ - يَعْنِي مَنْ أَسْلَمَ؟ فَقَالُوا: اللَّهم نَعَمْ، قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ قَالَ: فَهُوَ ساحرٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ} أَي: فلعن {كَيفَ قدر} {ثمَّ قتل} لُعِنَ {كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثمَّ عبس وَبسر} كَلَحَ.
قَالَ محمدٌ: (عَبَسَ وَبَسَرَ) أَيْ: قَطَّبَ وَكَرِهَ، يُقَالُ: بَسَرَ وبَسُرَ، وَأَصَلُ الْكَلِمَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: بسَر الْفَحْلُ النَّاقَةَ إِذَا ضَرَبَهَا قَبْلَ وَقْتِهَا.
{ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِن هَذَا} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} يُرْوَى {إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبشر} يَعْنُونَ: عَدَّاسًا غُلامَ عُتْبَةَ كَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعلمهُ بشر} هُوَ عَدَّاسٌ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ(5/57)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)
قَالَ: {سأصليه سَقر} وسقر اسمٌ من أَسمَاء جهنّم(5/57)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27)
{وَمَا أَدْرَاك مَا سقر} أَيْ: أَنَّكَ لَمْ تَكُنْ تَدْرِي مَا سقر؛ حَتَّى أعلمتك(5/57)
{لَا تبقي وَلَا تذر} لَا تُبْقِي إِذَا دَخَلَهَا شَيْئًا مِنْ لَحْمِهِ وَدَمِهِ وَشَعْرِهِ وَبَشَرِهِ وُعِظَامِهِ وَأَحْشَائِهِ؛ حَتَّى تَهْجُمَ عَلَى الْفُؤَادَ فَيُصِيحُ الْفُؤَادُ فَإِذَا انْتَهْتَ إِلَى فُؤَادِهِ لَمْ تَجِدْ شَيْئًا تَتَعَلَّقْ بِهِ، ثُمَّ يُجَدِّدُ اللَّهُ خلقه فتأكله أَيْضا(5/57)
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)
{لواحة للبشر} أَيْ: مُحْرِقَةٌ لِلْجِلْدِ.(5/57)
قَالَ محمدٌ: (البَشَرُ) جَمْعُ بشَرة وَمَعْنَى لَوَّاحَةٍ: مُغَيِّرَةٍ، تَقُولُ: لاحَتْهُ الشَّمْسُ إِذَا غيَّرتْه.(5/58)
عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
{عَلَيْهَا تِسْعَة عشر} لمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَرَى مُحَمَّدًا يُخَوِّفُكُمْ بِخَزَنَةِ النَّارِ، وَيَزْعُمْ أَنَّهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ أَفَيَعْجَزُ كُلُّ مِائَةٍ مِنْكُمْ أَنْ يَبْطِشُوا بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَتَخْرُجُوا مِنْهَا؟ فَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الْجُمَحِيُّ: أَنَا أَكْفِيكُمْ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ عَشْرَةٌ عَلَى ظَهْرِي وَسَبْعَةٌ عَلَى صَدْرِي، فَاكْفُونِي أَنْتُم اثْنَيْنِ فَأنْزل الله: تَفْسِير سُورَة المدثر من آيَة (31 - 48)(5/58)
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)
{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلَائِكَة} أَيْ: فَمَنْ يُطِيقُهُمْ؟ {وَمَا جَعَلْنَا عدتهمْ إِلَّا فتْنَة} بليَّة {لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا كتاب} لِأَنَّهُمْ فِي كُتُبُهِمِ تِسْعَةَ عَشَرَ {ويزداد الَّذين آمنُوا إِيمَانًا} تَصْدِيقًا {وَلَا يرتاب} يَشُكُّ(5/58)
{الَّذين أُوتُوا الْكتاب والمؤمنون} فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ عَدَدِهِمْ {وَيَقُولُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مرضٌ} شكٌّ {والكافرون} الْجَاحِدُونَ {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مثلا} أَيْ: ذِكْرًا، وَذَلِكَ مِنْهُمُ اسْتِهْزَاءٌ وتكذيبٌ. قَالَ اللَّهُ: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} يحيى: عَنْ صَاحِبٍ لَهُ، عَنْ أَبَانَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ الْحَسَنِ ((أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ خَلْقِ الْمَلائِكَةِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خُلِقَتْ؟ فَقَالَ: مِنْ نُورِ الْحُجُبِ السَّبْعِينَ الَّتِي تَلِيَ الربَّ؛ كُلُّ حِجَابٍ مِنْهَا مَسِيرَةُ خَمْسمِائَة عَامٍ، فَلَيْسَ مَلَكٌ إِلَّا وَهُوَ يَدْخُلُ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ فَيَغْتَسِلُ فَيَكُونُ مِنْ كُلِّ قَطْرَةٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ مَلَكٌ، فَلا يَحْصِي أحدٌ مَا يَكُونُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ)) فَهُوَ قَوْلُهُ (وَمَا يَعْلَمُ(5/59)
جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} .
{وَمَا هِيَ إِلَّا ذكرى للبشر} رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاك مَا سقر}
{كلا وَالْقَمَر}(5/60)
وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33)
{وَاللَّيْل إذْ أدبر} إِذْ ولَّى، وَبَعْضُهُمْ يَقْرَأُ: {إِذَا أَدْبَرَ} إِذَا ولَّى.
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: دَبَرَ اللَّيْلُ وَأَدْبَرَ، كَقَوْلِكَ: قَبَلَ اللَّيْلُ وأَقْبل، وَيُقَالُ: دَبَرَنِي فلانُ وَخَلَفَنِي؛ يَعْنِي: إِذَا جَاءَ بَعْدِي.
{وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} {(5/60)
إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)
2 -! (إِنَّهَا لإحدى الْكبر} لَإِحْدَى الْعَظَائِمِ يَعْنِي.(5/60)
قَالَ محمدٌ: الْكُبَرُ جَمْعُ كُبْرَى، مِثْلُ أُولَي وَأُوَلُ، وصُغْرى وصُغَر. ولجهنم (ل 379) سَبْعَةُ أَبْوَابٍ: جَهَنَّمُ، وَلَظَى، وَالْحُطَمَةُ، وسقر، والجحيم، والسعير، والهاوية.(5/61)
نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36)
قَوْله: {نذيرا للبشر} يَعْنِي: مُحَمَّد صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم رَجَعَ إِلَى أول السُّورَة {يَا أَيهَا المدثر} قُمْ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ {فَأَنْذِرْ}(5/61)
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
قَالَ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يتَقَدَّم} فِي الْخَيْر {أَو يتَأَخَّر} فِي الشَّرِ كَقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَاءَ فليؤمن وَمن شَاءَ فليكفر} وَهَذَا وعيدٌ(5/61)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)
{كل نفس} يَعْنِي: مِنْ أَهْلِ النَّارِ {بِمَا كسبت} بِمَا عملت {رهينة} فِي النَّار(5/61)
إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)
{إِلَّا أَصْحَاب الْيَمين} وَهُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ كُلُّهُمْ فِي هَذَا الْموضع(5/61)
فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)
{فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ} أَي: يسائلون الْمُجْرمين(5/61)
مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)
{مَا سلككم} مَا أَدْخَلَكُمْ؟ {فِي سَقَرَ}(5/61)
قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)
فأجابهم الْمُشْركُونَ قَالُوا: {لم تَكُ من الْمُصَلِّين} إِلَى قَوْلِهِ: {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ}(5/61)
فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
قَالَ اللَّهُ: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين} أَيْ: لَا يَشْفَعُ لَهُمُ الشَّافِعُونَ.
يَحْيَى: عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم ((إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ شَفَعَ النَّبِيُّ لِأُمَّتِهِ، وَالشَّهِيدُ لِأَهْلِ بَيْتِهِ، وَالْمُؤْمِنُ لِأَهْلِ بَيْتِهِ، وَتَبْقَى شَفَاعَةُ الرَّحْمَنِ يُخْرِجُ اللَّهُ أَقْوَامًا مِنَ النَّارِ قَدِ احْتَرَقُوا وَصَارُوا فَحْمًا فَيُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى نَهْرٍ فِي الْجَنَّةِ - يُقَالُ لَهُ: الْحَيَاةُ - فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْغُثَاءُ فِي بَطْنِ الْمَسِيلِ، ثُمَّ يَقُومُونَ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَهُمْ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا وأدناهم منزلَة)) .(5/61)
تَفْسِير سُورَة المدثر من آيَة (49 - 56)(5/62)
فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)
قَوْلُهُ: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ معرضين} عَن الْقُرْآن(5/62)
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)
{كَأَنَّهُمْ حمر مستنفرة} أَي: حمر وَحش(5/62)
فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)
{فرت من قسورة} تَفْسِيرُ بَعْضِهِمُ الْقَسْوَرَةُ: الأسدُ.
قَالَ محمدٌ: (معرضين) مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، وَمَعْنَى مُسْتَنْفِرَةٌ مَذْعُورَة استُنفرتْ فنفرت، قيل: إِنَّ اشْتِقَاقِ قَسْوَرَةٍ مِنَ القسْر وَهُوَ الْقَهْرِ؛ لأَنَّ الْأَسَدَ يَقْهَرُ السبَاع.(5/62)
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52)
{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ} يَعْنِي: مُشْرِكِي قُرَيْشٍ {أَنْ يُؤْتَى صحفا منشرة} إِلَى كُلِّ إنسانٍ بِاسْمِهِ أَنْ آمِنْ بمحمدٍ قَالَ اللَّهُ {كَلَّا} أَنْتُمْ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِك(5/62)
كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53)
ثمَّ قَالَ {بل لَا تخافون الْآخِرَة} لَا يُؤمنُونَ بهَا(5/62)
كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54)
{كلا إِنَّه تذكرة} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} .(5/62)
وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
{هُوَ أهل التَّقْوَى} أَيْ: أَهْلُ أَنْ يُتَّقَى {وَأَهْلُ الْمَغْفِرَة} أَهْلُ أَنْ يَغْفِرَ، وَلا يَغْفِرُ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ.(5/62)
تَفْسِيرِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم تَفْسِير سُورَة الْقِيَامَة من آيَة (1 - 19)(5/63)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)
قَوْلُهُ: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} الْمَعْنى: أقسم و ((لَا)) صلَة،(5/63)
وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللوامة} مَعْنَاهُ أقسم. قَالَ الْحسن: وَهُوَ نفسُ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا تَلْقَاهُ إِلَّا وَهُوَ يَلُومُ نَفْسَهُ، يَقُولُ: مَا أَرَدْتُ بِكَلامِي، مَا أَرَدْتُ بِكَذَا، مَا أَرَدْتُ بِكَذَا، يَنْدَمُ عَلَى مَا فَاتَ، وَيَلُومُ نَفسه(5/63)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3)
{أيحسب الْإِنْسَان} وَهُوَ الْمُشْرِكُ {أَنْ لَنْ نَجْمَعَ عِظَامه} أَي: أَن لن نبعثه(5/63)
بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)
{بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بنانه} يَعْنِي: مَفَاصِلَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (قَادِرِينَ) حَالٌ بِمَعْنَى: بَلَى نَجْمَعُهَا قَادِرِينَ.(5/63)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)
{بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} وَهُوَ الْمُشْرِكُ؛ يَعْنِي: أَنَّهُ يَمْضِي عَلَى فُجُورِهِ لَا يُعَاتِبُ نَفْسَهُ حَتَّى يلقى ربه(5/64)
يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)
{يسْأَل أَيَّانَ يَوْم الْقِيَامَة} مَتَى يَوْمُ الْقِيَامَةِ؛ أَيْ: لَيست بجائية يكذب بهَا.(5/64)
فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7)
قَالَ اللَّهُ: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ أَيْ: شَخُصَ لِإِجَابَةِ الدَّاعِي كَقَوْلِهِ: {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِم طرفهم} هَذَا تَفْسِيرُ الْحَسَنِ.
قَالَ محمدٌ: مَنْ قَرَأَ (برَق الْبَصَرُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ أَرَادَ: بَرِيقَه إِذَا شَخُصَ، يُقَالُ: بَرَقَ يَبْرُق، وَمَنْ قَرَأَ بَرِقَ - بِكَسْرِ الرَّاءِ - فَمَعْنَاهُ: فَزِعَ وتحَّير. يُقَالُ مِنْهُ: بَرِقَ يَبْرَقُ.(5/64)
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
{وَجمع الشَّمْس وَالْقَمَر} أَيْ: جَمَعَهُمَا جَمِيعًا؛ فِي تَفْسِيرِ الْحسن.(5/64)
يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)
{يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} قَالَ:(5/64)
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)
{إِلَى رَبك يَوْمئِذٍ المستقر} الْمرجع(5/64)
يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)
{يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}(5/64)
بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
{بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ كَافِرٌ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ.
قَالَ محمدٌ: وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعَاذِيرَ السُّتُورُ بِلُغَةِ.(5/64)
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)
{لَا تحرّك بهَا لسَانك لتعجل بِهِ} تفسيرالحسن: كَانَ رَسُول الله إِذا(5/64)
(ل 380) نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ يُدْئِبُ نَفْسَهُ فِي قَرَاءَتِهِ، مَخَافَةَ أَنْ يَنْسَاهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لسَانك لتعجل بِهِ}(5/65)
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)
{إِنَّا علينا جمعه وقرآنه} أَيْ: نَحْنُ نَحْفَظُهُ عَلَيْكَ فَلا تنساه(5/65)
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)
{فَإِذا قرأناه} نَحن {فَاتبع} أَنْت {قرآنه} يَعْنِي: فَرَائِضَهُ وَحُدُودَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ(5/65)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
{ثمَّ إِن علينا بَيَانه} تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ: نَحْنُ نبيَّنه لَكَ. تَفْسِير سُورَة الْقِيَامَة من آيَة (20 - 33)(5/65)
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)
{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَة} أَيْ: لَا تُؤْمِنُونَ أَنَّهَا جَائِيَةٌ، يَقُوله للْمُشْرِكين(5/65)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)
{وجوهٌ يومئٍذ ناضرة} ناعمة(5/65)
إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)
{إِلَى رَبهَا ناظرة} تنظر إِلَى الله(5/65)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24)
{ووجوهٌ يومئٍذ باسرة} عابسة(5/65)
تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
{تظن} تَعْلَمُ {أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} أَيْ: داهيةٌ وشَرٌّ.
قَالَ محمدٌ: (فاقرة) يُقَالُ: إِنَّهَا مِنْ فقَار الظَّهْر كَأَنَّهَا تكسِره، تَقُولُ: فَقَرْتُ الرَّجُلَ؛ إِذا كَسَرْتَ فَقَارَهُ(5/65)
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26)
{كلا إِذا بلغت التراقي} يَعْنِي: النَّفْسَ سُلَّتْ مِنَ الرِّجلين حَتَّى إِذا بلغت التَّرْقُوَتَيْن(5/65)
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)
{وَقيل من راق} أَيْ: مَنْ يَرْقِيهِ؟ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَة(5/65)
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28)
{وَظن} علم {أَنه الْفِرَاق} فِرَاق الدُّنْيَا(5/65)
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)
{والتفت السَّاق بالساق} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ، اجْتَمَعَ أَمْرُ الدُّنْيَا وَأَمَرُ الْآخِرَةِ.
قَالَ محمدٌ: يَعْنِي: كَرْبَ الدُّنْيَا وكرب الْآخِرَة.(5/65)
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)
{إِلَى رَبك يَوْمئِذٍ} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة {المساق} يساقون إِلَى الْحساب(5/66)
فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)
{فَلَا صدق وَلَا صلى} أَيْ: لَمْ يصدَّق وَلَمْ يصلَّ.
قَالَ يَحْيَى: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ.
قَالَ محمدٌ: مِنْ كَلامِ الْعَرَبِ: لَا فَعَلَ، يُرِيدُ لَمْ يَفْعَلْ. قَالَ الشَّاعِرُ:
(وَأَيُّ فعلٍ سيئ لَا فعَلَه ... ْ)
أَرَادَ: لم يَفْعَله.(5/66)
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)
{ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} يَتَبَخْتَرُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: {يَتَمَطَّى} أَصْلُهُ: يتمطَّطُ؛ فَقُلِبَتِ الطَّاءُ يَاءً، كَمَا قَالُوا: يتظنَّى وَأَصْلُهُ: يتظنَّنُ. تَفْسِير سُورَة الْقِيَامَة من آيَة (34 - 40)(5/66)
أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34)
{أولى لَك فَأولى} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ: مَا بَيْنَ هَذَيْنِ(5/66)
الْجَبَلَيْنِ أحدٌ أعزُّ مِنِّي، فَاجْهَدْ أَنْتَ وَرَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ جَهْدَكُمَا؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثمَّ أولى لَك فَأولى} وعيدٌ بَعْدَ وَعِيدٍ، فَقَتَلَهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ وصيَّره إِلَى جَهَنَّمَ(5/67)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)
{أيحسب الْإِنْسَان} يَعْنِي: الْمُشْرِكَ {أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} أَيْ: هَمَلاً، فَلا يُبْعَثُ وَلا يُحَاسب(5/67)
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)
{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ تمنى} يَمِينهَا الرجل؛ يَعْنِي: النُّطْفَة(5/67)
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)
{ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} أَي: خلقه الله فسوَّاه(5/67)
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)
{فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} الذّكر زوج وَالْأُنْثَى زوج(5/67)
أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
{أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يحيي الْمَوْتَى} يَقُولُهُ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ.
يَحْيَى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي الْيَسَعِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِذَا خَتَمَ أَحَدُكُمْ آخِرَ ((لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)) فليقلْ: بَلَى)) .(5/67)
تَفْسِيرُ سُورَةِ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم تَفْسِير سُورَة الْإِنْسَان من آيَة (1 - 3)(5/68)
تَفْسِير سُورَة الْإِنْسَان من آيَة (3 - 4)(5/69)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)
قَوْله: {هَل أَتَى} يَعْنِي: قَدْ أَتَى {عَلَى الإِنْسَانِ} يَعْنِي: آدَمَ {حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لم يكن شَيْئا مَذْكُورا} فِي الْخَلْقِ وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ مَذْكُورٌ أَنَّهُ خَالِقُهُ خَلَقَ اللَّهُ أُصُولَ الْخَلْقِ فِي الْأَيَّامِ السِّتة، وَخَلَقَ آدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرَ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ.
يَحْيَى: عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ مُرَّةَ قَالَ: ((قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يكن شَيْئا مَذْكُورا} فَرَفَعَ صَوْتَهُ، وَقَالَ: يَا لَيْتَهَا تَمَّتْ))
يَحْيَى: عَنْ أَشْعَثِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ: ((أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَخَذَ تِبْنَةً مِنَ الْأَرْضِ، فَقَالَ: يَا لَيْتَنِي هَذِهِ التِّبْنَةُ، يَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي، يَا لَيْتَنِي كُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، يَا لَيْتَنِي لَمْ أَكُنْ شَيْئا يذكر)) .(5/69)
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)
{إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} يَعْنِي: نسل آدم {أمشاج} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَعْنِي: مَشَجَ مَاءُ الرَّجُلِ بِمَاءِ الْمَرْأَةِ.(5/69)
قَالَ محمدٌ: يُرِيدَ اخْتِلاطَ مَاءِ الرَّجُلِ بِمَاءِ الْمَرْأَةِ، يُقَالُ مَشَجْتُهُ فَهُوَ مشيج. {نبتليه} نختبره.(5/70)
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
{إِنَّا هديناه السَّبِيل} أَيْ: بصَّرناه سَبِيلَ الْهُدَى وَسَبِيلَ الضَّلَالَة {إِمَّا شاكرا} مُؤمنا {وَإِمَّا كفورا} .
قَالَ محمدٌ: (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كفورًا) هُمَا نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، الْمَعْنَى: شَاكِرًا أَوْ كَفُورًا، كَأَنَّهُ قَالَ: هديناه فِي هَذِه الْحَال.
تَفْسِير سُورَة الْإِنْسَان من آيَة (5 - 18)(5/70)
إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)
{إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} يَعْنِي: الْخَمْرَ {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: كَافُورًا عينٌ فِي الْجنَّة، اسْمهَا: كافورا(5/70)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)
{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يفجرونها تفجيرا} أَيْ: تَجْرِي لَهُمْ بِعَيْنٍ كَمَا أَحبُّوا(5/70)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَره مُسْتَطِيرا} (ل 381) أَيْ: قَاسِيًا وَشَرُّهُ عَلَى الكُفَار.(5/70)
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: اسْتَطَارَ الْحَرِيقُ إِذا انْتَشَر، واستطار الْفجْر إِذا انْتَشَر الضَّوْء.(5/71)
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)
{ويطعمون الطَّعَام على حبه} أَيْ: عَلَى حَاجَاتِهِمْ إِلَيْهِ {مِسْكِينًا ويتيما وأسيرا} يَعْنِي: الْأَسِيرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ((كَانَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يَدْفَعُ الْأَسِيرَ إِلَى الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: احْبِسْ هَذَا عِنْدَكَ. فَيَكُونُ عِنْدَهُ اللَّيْلَةَ وَاللَّيْلَتَيْنِ، فَكَانُوا يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أُولَئِكَ الْأَسْرَى فَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِم بذلك)) .(5/71)
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: قَالُوا: هَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَنْطِقُوا بِهِ، فَعَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَأَثْنَى بِهِ عَلَيْهِم(5/71)
إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)
{يَوْمًا عبوسا قمطريرا} قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي: تَعْبَسُ فِيهِ الْوُجُوهُ، وَالْقَمْطَرِيرُ: الشَّدِيدُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ لِلْمُعْبَسِ الْوَجْهَ: قمطريرٌ وقُمَاطِرٌ.(5/71)
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)
{ولقاهم نَضرة} فِي وُجُوههم {وسرورا} فِي قُلُوبهم.(5/71)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)
{متكئين فِيهَا على الأرائك} عَلَى السُّرُرِ فِي الْحِجَالِ {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} الزَّمْهَرِيرُ: الْبَرْدُ الشَّدِيدُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شمسٌ وَلا ليلٌ مُظْلِمٌ وَلا حرٌّ وَلا بردٌ يؤذيهم)) .(5/71)
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)
{ودانية عَلَيْهِم ظلالها} يَعْنِي: ظِلالَ الشَّجَرِ.(5/71)
قَالَ مُحَمَّد: (الأرائك) وَاحِدُهَا: أَرِيكَةٌ، وَهِيَ الحجالُ فِيهَا الْفرش والأسرّة وَنصب (متكئين) عَلَى الْحَالِ؛ الْمَعْنَى: وَجَزَاهُمْ جَنَّةً فِي حَالِ اتِّكَائِهِمْ فِيهَا وَكَذَلِكَ {ودانية عَلَيْهِم ظلالها} .
قَوْله: {وذللت قطوفها تذليلا} أَيْ: ذُلِّلَتْ لَهُمْ ثِمَارُهَا يَتَنَاوَلُونَ فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا. قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ قَامَ ارْتَفَعَتْ بِقَدْرِهِ وَإِنْ قَعَدَ تَدَلَّتْ إِلَيْهِ حَتَّى يَنَالَهَا، وَإِنِ اضْطَجَعَ تَدَلَّتْ إِلَيْهِ؛ حَتَّى يَنَالَهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَاحِدُ (الْقُطُوفِ) : قِطْفٌ، وَمعنى: ذللت أُدْنيَتْ.(5/72)
وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)
{وأكوابٌ كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَا مِنْ فضَّة} الْأَكْوَابُ: الْأَكْوَازُ وَاحِدُهَا: كُوبٌ؛ وَهُوَ المُدَوّرُ الْقَصِيرُ الْعُنُقِ الْقَصِيرُ الْعُرْوَةِ، وَمَعْنَى كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَا مِنْ فضَّة؛ أَيْ: يَجْتَمِعُ فِيهَا صَفَاءُ الْقَوَارِيرِ فِي بَيَاضِ الْفِضَّةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ مِنْ تُرَابِ أَرْضِهِمْ قَوَارِيرَ، وَإِنَّ تُرَابَ الْجَنَّةِ فِضَّةٌ، فَهِيَ قَوَارِيرُ مِنْ فِضَّةٍ يَشْرَبُونَ فِيهَا يُرَى الشَّرَابُ مِنْ وَرَاءِ جُدُرِ الْقَوَارِيرِ؛ وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي فِضَّةِ الدُّنْيَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَرَأَهُ أَهْلُ الْحِجَازِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ (قَوَارِيرًا قَوَارِيرًا) بِإِثْبَاتِ الْأَلْفِ وَالتَّنْوِينِ؛ ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: وَكَانَ حَمْزَةُ يُسْقِطُ الْأَلَفَ مُنْهُنَّ وَلا يُصْرَفْنَ. وَذَكَرَ الزجَّاج: أَنَّ الِاخْتِيَارَ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ أَنْ تُقْرَأَ بِغَيْرِ صَرْفٍ قَالَ: وَمَنْ قَرَأَهُ(5/72)
قَوَارِيرًا بِصَرْفُ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ، وَمَنْ صَرَفَ الثَّانِيَ أَتْبَعَ اللَّفْظَ اللَّفْظَ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ رُبَّمَا قَلَبَتْ إِعْرَابَ الشَّيْءِ؛ لِتُتْبِعَ اللَّفْظَةَ اللَّفْظَةَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّا أَعْتَدْنَا للْكَافِرِينَ سلاسلاً وأغلالاً وسعيرًا} الْأَجْوَدُ فِي الْعَرَبِيَّةِ: أَلَّا يُصْرَفُ وَلَكِنْ لَمَّا جُعْلِتْ رَأْسَ آيَةٍ صُرِفَتْ لِيَكُونَ آخِرُ الْآيِ عَلَى لفظ وَاحِد.
{قدروها تَقْديرا} أَيْ: فِي أَنْفُسِهِمْ فَأَتَتْهُمْ عَلَى نَحْوِ مَا قَدَّرُوا وَاشْتَهَوْا مِنْ صِغَارٍ وَكِبَارٍ وأوساطٍ، هَذَا تَفْسِيرُ قَتَادَة(5/73)
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17)
{ويسقون فِيهَا كأسا} وَهِيَ الْخَمْرُ {كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا} أَيْ: طَعْمُ ذَلِكَ الْمِزَاجِ طَعْمُ الزّنجبيل.(5/73)
عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)
{عينا فِيهَا تسمى سلسبيلا} السَّلْسَبِيلُ: اسْمُ الْعَيْنِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: (يُسْقَوْنَ عَيْنًا سَلْسَبِيلًا) ، وَكَانَتِ الْعَرَب تستطيب الزنجيل، وَتَضْرِبُ بِهِ الْمَثَلُ وَبِالْخَمْرِ مُمْتَزِجِينَ، فَخَاطَبَهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَعْرِفُونَ وَيَسْتَحِبُّونَ فِي الدُّنْيَا، يَقُولُ: لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ مِثْلُ مَا تَسْتَحِبُّونَ فِي الدُّنْيَا إِنْ آمَنْتُمْ، وَالسَّلْسَبِيلُ فِي اللُّغَةِ صِفَةٌ لِمَكَانٍ غَايَةٍ فِي السَّلامَةِ وَصُرِفَ؛ لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَة. تَفْسِير سُورَة الْإِنْسَان من آيَة (19 - 22)(5/73)
تَفْسِير سُورَة الْإِنْسَان من آيَة (23 - 24)(5/74)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)
قَوْلُهُ: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} لَا يَمُوتُونَ أَبَدًا {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حسبتهم} أَي: شبهتهم {لؤلؤا منثورا} فِي صَفَاءِ أَلْوَانِهِمْ وَالْمَنْثُورُ: أَحْسَنُ مَا يكون(5/74)
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)
{وَإِذا رَأَيْت} أَي: عَايَنت {ثمَّ} يَعْنِي: فِي الْجَنَّةِ {رَأَيْتَ نَعِيمًا وملكا كَبِيرا} الملكُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ إِلَى الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِالتُّحْفَةِ والهدية الله فَلَا يدْخل (. . (ل 382) .) حَتَّى يَسْتَأْذِنَ فَيَقُولُ الْبَوَّابُ: سَأَذْكُرُهُ لِلْبَوَّابِ الَّذِي يَلِينِي، فَيَذْكُرُهُ لِلَّذِي يَلِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْبَوَّابَ الَّذِي يَلِي وَلِيَّ اللَّهِ، فَيَقُولُ لَهُ: ملكٌ بِالْبَابِ يَسْتَأْذِنُ. فَيَقُولُ: ائْذَنُوا لَهُ. فَيُؤْذَنُ لَهُ فَيَدْخُلُ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلامُ، وَيُخْبِرُهُ أَنَّهُ عَنْهُ راضٍ وَمَعَهُ التُّحْفَةُ فتوضع بَين يَدَيْهِ.(5/74)
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)
{عاليهم ثِيَاب سندس خضر} وَبَعْضُهُمْ يَقْرَؤُهَا {عَالَيْهِمْ} الْإِسْتَبْرَقُ، وَالدِّيبَاجُ: الصَّفِيقُ الْكَثِيفُ، وَالسُّنْدُسُ: الْخَفِيفُ. {وَحُلُّوا أساور من فضَّة} لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أحدٌ إِلَّا وَفِي يَدِهِ ثَلَاثَةُ أَسْوِرَةٍ: سِوَارٌ مِنْ فِضَّةٍ، وسوارٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَسِوَارٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ {وَسَقَاهُمْ رَبهم شرابًا طهُورا} .
يَحْيَى: عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ , عَنْ [عَاصِمِ] بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: ((إِذَا تَوَجَّهَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ مَرُّوا(5/74)
بِشَجَرَةٍ يَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ سَاقِهَا عَيْنَانِ، فَيَشْرَبُونَ مِنْ إِحْدَاهِمَا، فَتَجْرِي عَلَيْهِمْ بِنَضْرَةِ النَّعِيمِ، فَلا تُغَبَّرُ أَبْشَارُهُمْ وَلا تشعَّث أَشْعَارُهُمْ بَعْدَهَا أَبَدًا، ثُمَّ يَشْرَبُونَ مِنَ الأُخْرَى فَيَخْرُجُ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنْ أَذًى، ثُمَّ تَسْتَقْبِلُهُمُ الْمَلائِكَةُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ، فَتَقُولُ لَهُمْ: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طبتم فادخلوها خَالِدين} )) .(5/75)
إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
قَوْلُهُ: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سعيكم} عَمَلكُمْ فِي الدُّنْيَا {مشكورا} شَكَرَهُ اللَّهُ لَكُمْ؛ فَجَزَاكُمْ بِهِ الْجنَّة(5/75)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)
{فاصبر لحكم رَبك} لِمَا حَكَمَ عَلَيْكَ فِيهِ وَفَرَضَ {وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما} وَهُوَ الْمُنَافِقُ؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ أَظْهَرَ الإِسْلامَ وَقَلْبُهُ عَلَى الشِّرْكِ {أَو كفورا} وَهُوَ الْمُشرك الجاحد.
تَفْسِير سُورَة الْإِنْسَان من آيَة (25 - 31)(5/75)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25)
{وَاذْكُر اسْم رَبك بكرَة} صَلَاة الصُّبْح {وَأَصِيلا} صَلَاة الظّهْر وَالْعصر(5/75)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)
{وَمن اللَّيْل فاسجد لَهُ} صَلاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ {وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَويلا} هَذَا تطوُّع(5/75)
إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)
{إِن هَؤُلَاءِ} يَعْنِي: الْمُشْركين {يحبونَ العاجلة} الدُّنْيَا {ويذرون وَرَاءَهُمْ} أمامهم {يَوْمًا ثقيلا} عَسِيرًا عَلَيْهِمْ؛ يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ(5/75)
نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)
(نَحن(5/75)
خلقناهم وشددنا أسرهم} يَعْنِي: خَلْقَهُمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ (الْإِسَارِ) ، وَهُوَ الْقَدُّ، يُقَالُ: مَا أَحْسَنَ مَا أَسَرَّ قَتَبه، أَيْ: مَا أَحْسَنَ مَا شَدَّه!
{وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ} أَيْ: أَهْلَكْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ، وَبَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ: خيرا مِنْهُم.(5/76)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29)
{إِن هَذِه تذكرة} إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تَذْكِرَةٌ {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا} بِطَاعَتِهِ(5/76)
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)
{إِن الله كَانَ عليمًا} {بخلقه} (حكيمًا} فِي أمره(5/76)
يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} فِي دينه الْإِسْلَام {والظالمين} {الْمُشْرِكِينَ} (أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} مُوجِعًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: نَصْبُ (الظَّالِمِينَ) عَلَى مَعْنَى: يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ، وَيُعَذُّبُ الظَّالِمِينَ، وَيَكُونُ (أعدّ لَهُم) تَفْسِيرًا لِهَذَا الْمُضْمَرِ (نَصْبُ الظَّالِمِينَ عَلَى مَعْنَى يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَيُعَذِّبُ الظَّالِمِينَ) .(5/76)
تَفْسِير سُورَة والمرسلات وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم تَفْسِير سُورَة المرسلات من آيَة (1 - 19)(5/77)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)
قَوْله: {والمرسلات عرفا} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: أَنَّهَا الرِّيَاحُ، وَقَالَ: عُرْفُهَا: جَرْيها. قَالَ مُحَمَّدٌ يُقَالُ: هُمْ إِلَيْهِ عُرْفٌ وَاحِدٌ إِذَا تتابعوا(5/77)
فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2)
{فالعاصفات عصفا} الرِّيَاح إِذا إشتدت(5/77)
وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3)
{والناشرات نشرا} الرِّيَاح أَيْضا(5/77)
فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4)
{فالفارقات فرقا} يَعْنِي: الْمَلائِكَةَ تَنْزِلُ بِالْوَحْيِ فَتَفْرِقُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالإِيمَانِ، وَبَيْنَ الْحَلالِ وَالْحرَام(5/77)
فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5)
{فالملقيات ذكرا} الْمَلائِكَةُ تُلْقِي الْوَحْيَ، أَيْ: تَنْزِلُ بِهِ على الْأَنْبِيَاء(5/77)
عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)
{عذرا أَو نذرا} أَيْ: يَعْذِرُ اللَّهُ بِهِ إِلَى عِبَادِهِ وَيُنْذِرُهُمْ.
قَالَ السُّدي: الْمَعْنَى: عُذْرًا وَنُذْرًا، وَالْأَلِفُ صِلَةٌ.(5/77)
قَالَ مُحَمَّدٌ: نَصْبُ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا عَلَى مَعْنَى الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ (عُذْرًا) بِالتَّخْفِيفِ (ونُذْرًا) بِالتَّثْقِيلِ وَهَذَا قَسَمٌ أَقْسَمَ بِهِ.(5/78)
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)
{إِنَّمَا توعدون} مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، يقُولُهُ لِلْمُشْرِكِينَ {لَوَاقِعٌ} .(5/78)
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)
{فَإِذا النُّجُوم طمست} أَيْ: يَنْزِلُ عَذَابُ اللَّهِ يَوْمَ تُطْمَسُ فِيهِ النُّجُومُ، فَيَذْهَبُ ضَوْؤُهَا(5/78)
وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9)
{وَإِذا السَّمَاء فرجت} إنشقت {وَإِذا الْجبَال نسفت} ذَهَبَتْ مِنْ أُصُولِهَا وسوِّيت بِالْأَرْضِ(5/78)
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)
{وَإِذا الرُّسُل أقتت} أجلت فِي تَفْسِير الْحسن(5/78)
لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)
{لأي يَوْم أجلت} يعظم ذَلِك الْيَوْم(5/78)
لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)
{ليَوْم الْفَصْل} الْقَضَاء(5/78)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: أَيْ: أَنَّكَ لَمْ تَكُنْ تَدْرِي مَا يَوْمُ الْفَصْلِ حَتَّى أعلمتك (ل 383)(5/78)
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16)
{ألم نهلك الْأَوَّلين} عَلَى الِاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ: بَلَى قَدْ أَهْلَكْنَاهُمْ؛ يَعْنِي: الْأُمَمَ السَّالِفَةَ حِينَ كذبُوا رسلهم(5/78)
ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17)
{ثمَّ نتبعهم الآخرين} يَعْنِي: كفار آخر هَذِه الْأمة الَّذِينَ تَقُومُ عَلَيْهِمُ السَّاعَةُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ) بِالرَّفْعِ فَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَمَنْ قَرَأَ (نُتْبِعْهُمْ) بِالْجَزْمِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى (نهلك) .
تَفْسِير سُورَة المرسلات من آيَة (20 - 28)(5/78)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20)
{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} ضَعِيف؛ يَعْنِي: النُّطْفَة(5/79)
فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21)
{فجعلناه فِي قَرَار مكين} الرَّحِم.(5/79)
إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22)
{إِلَى قدر مَعْلُوم} الْيَوْمَ الَّذِي يُولَدُ فِيهِ الْمَخْلُوقُ(5/79)
فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)
{فقدرنا} مَنْ قَرَأَهَا بِالتَّثْقِيلِ فَهِيَ مِنْ بَابِ التَّقْدِيرِ، وَمَنْ قَرَأَهَا مُخَفَّفَةً فَمِنْ بَابِ الْقُدْرَةِ {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ}(5/79)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25)
{ألم نجْعَل الأَرْض كفاتا} تَكْفِتُهُمْ، أَيْ: تَضُمُّهُمْ، والكفتُ: الضمُّ وَالْجمع(5/79)
أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)
{أَحيَاء وأمواتا} أَيْ: يَكُونُونَ عَلَى ظَهْرِهَا أَحْيَاءً، وَيَكُونُونَ فِي بَطْنِهَا أَمْوَاتًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: تَقُولُ: كَفَتُّ الشَّيْءَ أَكْفِتُه وَتَقُولُ: أَكْفِتْ إِلَيْكَ كَذَا، أَيْ: ضُمَّه، وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْمَقْبُرَةَ كَفْتَةً؛ لِأَنَّهَا تضمُّ الْمَوْتَى.(5/79)
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27)
{وَجَعَلنَا فِيهَا رواسي شامخات} يَعْنِي: الْجِبَالَ الْمُرْتَفِعَةَ {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فراتا} عذبًا(5/79)
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
{انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تكذبون} يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا من الْعَذَاب. تَفْسِير سُورَة المرسلات من آيَة (29 - 40)(5/79)
انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30)
{انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شعب} يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ لِسَانَانِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا النَّارَ فَيُحِيطُ بِالْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ يَسْطَعُ مِنَ النَّارِ دخانٌ أَسْوَدٌ، ثُمَّ يَصِيرُ ثَلاثَ فِرَقٍ؛ فَيَلْجَئُونَ إِلَيْهِ يَرْجُونَ أَنْ يُظِلَّهُمْ مِنْ شِدَّةِ حَرِّ النَّارِ، فَلا يُظِلُّهُمْ وَيَجِدُونَ مِنْهُ مِنَ الْحَرِّ مِثْلَ مَا وَجَدُوا قَبْلَ أَنْ يلجئوا إِلَيْهِ(5/80)
لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31)
{لَا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهب} أَيْ: لَا بَارِدٍ فِي الظِّلِ وَلَا كريم فِي الْمنزل(5/80)
إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)
{إِنَّهَا ترمي} يَعْنِي: النَّار {بشرر كالقصر} يَعْنِي: قصْرًا مِنَ الْقُصُورِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهَا بِجَزْمِ الصَّادِ(5/80)
كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)
{كَأَنَّهُ جِمَالاتٌ صُفْرٌ} يَعْنِي: النُّوقَ السُّودَ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهَا بِكَسْرِ الْجِيمِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ لِلْإِبِلِ الَّتِي هِيَ سودٌ تَضْرِبُ إِلَى الصُّفرة: إِبِلٌ صُفْرٌ وجمالاتٌ بِكَسْر الْجِيم جمع جمال.(5/80)
هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35)
{هَذَا يَوْم لَا ينطقون} بحُجّة(5/80)
وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)
{وَلَا يُؤذن لَهُم فيعتذرون} وَقَدْ يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الْكَلامِ فِي بعض المواطن، ولايؤذن لَهُمْ فِي بَعْضٍ؛ فَإِذَا أُذِنَ لَهُمْ فِي الْكَلامِ لَمْ يَعْتَذِرُوا بِعُذْرٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقْرَأُ (يومُ) بِالرَّفْعِ والنَّصْبِ؛ فَمَنْ نَصَبَ جَعَلَهُ ظَرْفًا بِمَعْنَى: هَذَا الْوَعِيدُ يَوْمًا، وَمَنْ رَفَعَ جَعَلَ هَذَا لِلْيَوْمِ؛ كَمَا تَقول هَذَا يَوْمك.(5/80)
فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39)
{فَإِن كَانَ لكم كيد} تَنْجُوْنَ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ {فكيدون} أَيْ: أَنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِك.
تَفْسِير سُورَة المرسلات من آيَة (41 - 50)(5/81)
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46)
{كلوا وتمتعوا} الْآيَةُ يَقُولُهُ لِلْمُشْرِكِينَ وَعِيدًا لَهُمْ، وَانْقَطَعَتِ القَّصة الْأُولَى مِنْ أَمْرِ أهل النَّار.(5/81)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)
{وَإِذا قيل لَهُم ارْكَعُوا} أَيْ: صلُّوا {لَا يَرْكَعُونَ}(5/81)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49)
{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بعده} يَعْنِي: الْقُرْآن {يُؤمنُونَ} .
يَحْيَى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي الْيَسَعِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ((إِذَا خَتَمَ أَحَدُكُمْ وَالْمُرْسَلاتِ فَلَيَقُلْ: آمَنَتُ بِاللَّهِ وَبِمَا أَنْزَلَ)) مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ.(5/81)
تَفْسِيرُ سُورَةِ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَهِيَ مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم تَفْسِير سُورَة النبأ من آيَة (1 - 16)(5/82)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)
قَوْله: {عَم يتساءلون} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ؛ أَيْ: مَا الَّذِي يتساءلون عَنهُ.(5/82)
عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)
ثُمَّ قَالَ: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هم فِيهِ مُخْتَلفُونَ} يَعْنِي: الْبَعْثَ، اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُؤْمِنُونَ؛ فَآمَنَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَكَفَرَ بِهِ الْمُشْركُونَ(5/82)
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)
{كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} وَعِيد بعد وَعِيد(5/82)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)
{ألم نجْعَل الأَرْض مهادا} بساطًا(5/82)
وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)
{وَالْجِبَال أوتادا} للْأَرْض(5/82)
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)
{وخلقناكم أَزْوَاجًا} ذكرا وَأُنْثَى(5/82)
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)
{وَجَعَلنَا نومكم سباتا} يَعْنِي: نُعَاسًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: أصلُ السَّبتِ: انْقِطَاعُ الْحَرَكَةِ؛ يُقَالُ: رجلٌ سبُوتٌ وَقد سُبت.(5/82)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)
{وَجَعَلنَا اللَّيْل لباسا} سِتْرًا يُغَطِّي الْخَلْقَ فَيَسْكُنُونَ فِيهِ(5/82)
وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)
(وَجَعَلنَا النَّهَار(5/82)
معاشًا} يجلبون فِيهِ مَعَايشهمْ(5/83)
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)
{وبنينا فَوْقكُم سبعا شدادًا} {السَّمَاوَات(5/83)
وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)
2 -! (وَجَعَلنَا سِرَاجًا وهاجًا) {ل 384} فِي تَفْسِيرِ الْكَلْبِيِّ؛ يَعْنِي: الشَّمْسَ(5/83)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)
{وأنزلنا من المعصرات} الرِّيَاحِ فِي تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ، وَبَعْضُهُمْ يَقُول: السَّحَاب {مَاء ثجاجًا} منصَبٌّ ابعضه على بعض(5/83)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15)
{لنخرج بِهِ حبًّا} البُرَّ وَالشعِير. {ونباتًا} من كل شَيْء(5/83)
وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
{وجنات ألفافًا} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي: بَسَاتِينَ مُلْتَفَّةٌ، وَمِنْ كَلامِهِمْ: امرأةٌ لَفَّاءُ إِذَا كَانَت عَظِيمَة الفخذين.
تَفْسِير سُورَة النبأ من آيَة (17 - 30)(5/83)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)
{إِن يَوْم الْفَصْل} الْقَضَاء {كَانَ ميقاتًا} يوافونه كلهم(5/83)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)
{يَوْم ينْفخ فِي الصُّور} .
قَالَ مُحَمَّد: (يَوْم ينْفخ) بدلٌ من (يَوْم الْفَصْل) .
{فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} أمة أمة(5/83)
وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)
{وسيرت الْجبَال فَكَانَت سَرَابًا} مِثْلُ هَذَا السَّرَابِ تَرَاهُ، لَيْسَ بِشَيْء(5/83)
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21)
{إِن جَهَنَّم كَانَت مرصادًا} أَيْ: تَرْصُدُ مَنْ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ، وَالصِّرَاطُ عَلَيْهَا، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا هَوَى فِيهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ(5/83)
مِنْ أَهْلِهَا حَادَ عَنْهَا إِلَى الْجنَّة(5/84)
لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22)
{للطاغين} الْمُشْركين {مآبا} مرجعًا.(5/84)
لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)
{لابثين فِيهَا أحقابا} أَيْ: تَأْتِي عَلَيْهِمُ الأحقابُ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا والحُقْبُ: ثَمَانُونَ عَامًا، والسَّنة: ثَلَاثمِائَة وَسِتُّونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ أَلْفُ يَوْم من أَيَّام الدُّنْيَا(5/84)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24)
{لَا يذوقون فِيهَا بردا} هِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {لَا بَارِدٍ وَلَا كريم} وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْبَرْدُ النَّوْمُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَبْرُدُ فِيهِ عَطَشُ الْإِنْسَانِ.
{وَلا شَرَابًا}(5/84)
إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)
{إِلَّا حميما وغساقا} الْحَمِيمُ: الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ مِنْ حَرِّهِ، والغسَّاق: القيحُ الْغَلِيظُ المنتنُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: الْغَسَّاقُ الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ مِنْ شِدَّةِ بَرْدِهِ، وَهُو الزَّمْهَرِير.(5/84)
جَزَاءً وِفَاقًا (26)
{جَزَاء وفَاقا} أَيْ: وَافَقَ أَعْمَالَهُمُ الْخَبِيثَةَ.
قَالَ مُحَمَّد: (وفَاقا) من: وَافقه مُوَافقَة.(5/84)
إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27)
{إِنَّهُم كَانُوا لَا يرجون} لَا يخَافُونَ {حسابا} لَا يقرونَ بِالْبَعْثِ(5/84)
وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)
{وكذبوا بِآيَاتِنَا كذابا} تَكْذِيبًا(5/84)
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)
{وكل شَيْء أحصييناه كتابا} أحصتِ الْمَلائِكَةُ عَلَى الْعِبَادِ أَعْمَالَهُمْ، وَهِيَ عِنْدَ اللَّهِ مُحْصَاةٌ فِي أُمِّ الْكِتَابِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (كُلَّ) مَنْصُوبٌ بِمَعْنَى: وَأَحْصَيْنَا كُلَّ شَيْءٍ أحصيناه، و (كتابا) تَوْكِيدًا لِأَحْصَيْنَاهُ، الْمَعْنَى: كَتَبْنَاهُ كِتَابًا.(5/84)
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
قَوْلُهُ: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عذَابا} قَالَ عبد الله بْن عَمرو: ((مَا نَزَلَ(5/84)
عَلَى أَهْلِ النَّارِ آيَةٌ هِيَ أشدُّ مِنْهَا، فَهُمْ فِي زِيَادَةٍ من الْعَذَاب أبدا)) تَفْسِير سُورَة النبأ من آيَة (31 - 40)(5/85)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)
{إِن لِلْمُتقين مفازا} نجاة مِمَّا أعدّ للْكَافِرِينَ(5/85)
حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)
{حدائق} جنَّات {وأعنابا} أَي: فِيهَا أعنابٌ(5/85)
وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)
{وكواعب أَتْرَابًا} عَلَى سنٍّ وَاحِدَة بَنَات ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة(5/85)
وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)
{وكأسا دهاقا} أَي: ممتلئة(5/85)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)
{لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا} اللَّغْو: الْبَاطِل {وَلَا كذابا} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ يَقُولُ: لَا يَكْذِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (كذَّابًا) مثقَّلة، فَمِنْ قَوْلِهِمْ: كَذَّابٌ كَذَّبَ بِمَعْنى وَاحِد.(5/85)
جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)
{جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: يَعْنِي: عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ الْمَنَازِلَ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، ثُمَّ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ(5/85)
قَالَ مُحَمَّد: (جزاءٌ) مَنْصُوب بِمَعْنى: جزاهم جزاءًا.(5/86)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)
{رب السَّمَوَات وَالْأَرْض} {ربُّ} بِالرَّفْعِ كَلامٌ مُسْتَقْبَلٌ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهَا بِالرَّفْعِ {وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: لَا يَسْتَطِيعُونَ مُخَاطَبَتَهُ، كَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نفسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} قَوْله:(5/86)
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)
{يَوْم يقوم الرّوح} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَقُومُ رُوحُ كُلِّ شَيْءٍ فِي جَسَدِهِ {وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ} لَا يَشْفَعُونَ {إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن وَقَالَ صَوَابا} فِي الدُّنْيَا لَا إِلَهَ إِلَّا الله.(5/86)
ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)
{فَمَنْ شَاءَ اتخذ إِلَى ربه مآبا} مَرْجِعًا بِعَمَلٍ صَالِحٍ، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَن يَشَاء الله} .(5/86)
إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
قَوْلُهُ: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} .
يَحْيَى: عَنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ السَّاعَةِ كَهَاتَيْنِ، فَمَا فَضَّلَ إِحْدَاهُمْا عَلَى الأُخْرَى. وَجَمَعَ بَيْنَ أَصْبَعَيْهِ الْوُسْطَى وَالَّذِي يَقُولُ النَّاسُ السَّبَّابَةُ)) .
{يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قدمت يَدَاهُ} الْآيَةُ
يَحْيَى: عَنِ الصَّلْتِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(5/86)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((أول مَنْ يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْحِسَابِ الْبَهَائِمُ، فتُجْعَل الْقَرْنَاءُ جَمَّاءَ، وَالْجَمَّاءُ قَرْنَاءَ، فَيَقْتَصُّ لِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ؛ حَتَّى تَقْتَصَّ الْجَمَّاءُ مِنَ الْقَرْنَاءِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهَا: كُونِي تُرَابًا. فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ: {يَا لَيْتَني كنت تُرَابا} ))(5/87)
تَفْسِيرُ سُورَةِ النَّازِعَاتِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَفْسِير سُورَة النازعات من آيَة (1 - 14)(5/88)
قَوْله: {والنازعات غرقا} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: هِيَ النُّجُومُ تُنْزَعُ مِنَ الْمَشْرِقِ، وَتَغْرِقُ فِي الْمَغْرِبِ(5/88)
وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)
{والناشطات نشطا} (ل 385) قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ النُّجُومُ تَنْشَطُ من مشارقها إِلَى مغاربها(5/88)
وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3)
{والسابحات سبحا} النُّجُومُ لِقَوْلِهِ: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يسبحون} يدورون(5/88)
فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)
{فالسابقات سبقا} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: هِيَ الْمَلائِكَةُ سَبَقُوا إِلَى طَاعَة الله(5/88)
فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)
{فالمدبرات أمرا} الْمَلائِكَةُ يُدَبِّرُ اللَّهُ بِهِمْ مَا أَرَادَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قِيلَ: إِنَّ جَوَاب (والنازعات) محذوفٌ، الْمَعْنَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: كَأَنَّهُ أَقْسَمَ فَقَالَ: وَهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لتُبْعَثُنّ.(5/88)
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)
{يَوْم ترجف الراجفة} النفخة الأولى(5/88)
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)
{تتبعها الرادفة} النفخة الْأُخْرَى.(5/88)
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)
{قُلُوب يَوْمئِذٍ واجفة} مضطربة شَدِيدَة الِاضْطِرَاب(5/88)
أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)
{أبصارها} أبصار تِلْكَ الْقُلُوب {خاشعة} ذليلة(5/88)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10)
{يَقُولُونَ} يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ فِي الدُّنْيَا: (أَئِنَّا(5/88)
لمردودون فِي الحافرة} أَي: فِي أول خلقنَا(5/89)
أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11)
{إِذا كُنَّا عظامًا نخرة} بَالِيَةً يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: رَجَعَ فُلانٌ فِي حَافِرَتِهِ إِذَا رَجَعَ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ(5/89)
قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)
{تِلْكَ إِذا كرة خاسرة} كَاذِبَةٌ؛ أَيْ: لَيْسَتْ بِكَائِنَةٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقِيلَ: الْمَعْنَى: تِلْكَ إِذًا رجعةٌ يخسر فِيهَا،(5/89)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13)
قَالَ اللَّهُ {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَة} أَي: نفخة(5/89)
فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
{فَإِذا هم بالساهرة} أَيْ: بِالْأَرْضِ قَدْ خَرَجُوا مِنْ بَطْنِهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: السَّاهِرَةُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: وَجْهُ الْأَرْضِ، وَهُوَ معنى قَول يحيى.
تَفْسِير سُورَة النازعات من آيَة (15 - 26)(5/89)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15)
{هَل أَتَاك حَدِيث مُوسَى} أَي: قد أَتَاك(5/89)
إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)
{إِذْ ناداه ربه بالوادي الْمُقَدّس} يَعْنِي: الْمُبَارك {طوى} قَالَ: الْحَسَنُ: الْمَعْنَى: طُوِيَ بِالْبَرَكَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لَمْ يُبَيِّنْ يَحْيَى كَيفَ الْقِرَاءَة فِي (طُوى) ، وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يَقْرَؤُهَا (طِوًى) مُنَوَّنَةٌ بِكَسْرِ الطَّاءِ، عَلَى مَعْنَى: قُدِّسَ مَرَّتَيْنِ.(5/89)
وَقَرَأَهَا نَافِعٌ (طُوَى) بِالضَّمِ غَيْرِ مَصْرُوفَةٍ، وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا (طُوَى) بِحَرْفِ نَافِعٍ فَهُوَ اسْم الْوَادي.(5/90)
فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)
{فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تزكّى} إِلَى أَن تؤمن(5/90)
وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)
{وأهديك إِلَى رَبك} أَيْ: وَأُبَيِّنُ لَكَ دِينَ رَبِّكَ {فتخشى} الله.(5/90)
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20)
قَالَ: {فَأرَاهُ الْآيَة الْكُبْرَى} يَعْنِي: الْيَدَ وَهِيَ أَكْبَرُ الْآيَاتِ التسع الَّتِي أَتَاهُ بهَا.(5/90)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)
{فَأَخذه الله نكال} أَي: عُقُوبَة {الْآخِرَة وَالْأولَى} قَالَ مُجَاهِدٌ: الْآخِرَةُ قَوْلُهُ: {أَنَا ربكُم الْأَعْلَى} وَالْأُولَى قَوْلُهُ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ من إِلَه غَيْرِي} فَعَذَّبَهُ بِهِ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا بِالْغَرَقِ، وَيُعَذِّبُهُ فِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ.(5/90)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يخْشَى} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: لِمَنْ يَخْشَى أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مَا فُعِلَ بِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فَيُؤْمِنُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (نَكَالَ) مَنْصُوبٌ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى (أَخَذَهُ اللَّهُ) : نكَّل اللَّهُ بِهِ نكال الْآخِرَة وَالْأولَى.
تَفْسِير سُورَة النازعات من آيَة (27 - 35)(5/90)
تَفْسِير سُورَة الناعات من آيَة (35 - 46)(5/91)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)
{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بناها} بِغَيْر عمد(5/91)
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)
{رفع سمكها فسواها} بَيْنكُم (وَبَينهَا) مسيرَة خَمْسمِائَة عَام(5/91)
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)
قَالَ: {وأغطش لَيْلهَا} أظلم لَيْلهَا {وَأخرج ضحاها} شمسها ونورها(5/91)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)
قَالَ: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} بَسَطَهَا بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ.
قَالَ مُحَمَّد: من قَرَأَ {وَالْأَرْض} بِالنّصب {بعد ذَلِك دحاها} فَالْمَعْنَى: وَدَحَا الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: {وَالْجِبَالَ أرساها} تَفْسِيرُ نَصْبِ الْجِبَالِ؛ كَتَفْسِيرِ نَصْبِ الْأَرْضِ.
قَالَ يَحْيَى: وَكَانَ بَدْءُ خَلْقِ الْأَرْضِ فِيمَا بَلَغَنَا أَنَّهَا كَانَتْ طِينَةٌ فِي مَوْضِعِ بَيْتِ الْمُقَدّس، ثمَّ خلق السَّمَوَات، ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ فَقَالَ لَهَا: اذْهَبِي أَنْتِ كَذَا وَاذْهَبِي أَنْتِ كَذَا، وَمِنْ مَكَّةَ بُسِطَتِ الْأَرْضُ، ثُمَّ جَعَلَ فِيهَا.
جِبَالَهَا وَأَنْهَارَهَا وَأَشْجَارَهَا قَالَ: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا ومرعاها}(5/91)
وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)
{وَالْجِبَال أرساها} أَثْبَتَهَا جَعَلَهَا أَوْتَادًا لِلْأَرْضِ؛ لِئَلَّا تتحرَّكَ بِمن عَلَيْهَا(5/91)
مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
{مَتَاعا لكم ولأنعامكم} تَسْتَمْتِعُونَ بِهِ إِلَى الْمَوْتِ(5/91)
قَالَ مُحَمَّد: (مَتَاعا) منصوبٌ عَلَى مَعْنَى: أخْرج مِنْهَا ماءها ومرعاها للإمتاع لكم.(5/92)
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)
{فَإِذا جَاءَت الطامة الْكُبْرَى} النفخة الْآخِرَة(5/92)
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35)
{يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى} أَي: يُحَاسب النَّاس بأعمالهم(5/92)
فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37)
{فَأَما من طَغى} كفر(5/92)
وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38)
{وآثر الْحَيَاة الدُّنْيَا} لم يُؤمن بِالآخِرَة(5/92)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)
{فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} .(5/92)
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} أَيْ: مَوْقِفَهُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ {وَنهى النَّفس عَن الْهوى} يَعْنِي: عَن هَواهَا(5/92)
فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)
{فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى} أَي: هِيَ منزلُه.(5/92)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42)
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} مَجِيئُها(5/92)
فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43)
{فيمَ أَنْت من ذكرَاهَا} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: فِيمَ أَنْتَ مِنْ أَنْ تَسْأَلَ عَنْهَا وَلَمْ أُخْبِرْكَ بهَا مَتى تَجِيء.(5/92)
إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)
{إِلَى رَبك مُنْتَهَاهَا} مُنْتَهى علم مجيئها(5/92)
إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)
{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} إِنَّمَا يَقْبَلُ نَذَارتك مَنْ يَخْشَى السَّاعَة(5/92)
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّة أَو ضحاها} أَيْ: أَوْ ضَحْوَةً تُضْحَى الدُّنْيَا.(5/92)
تَفْسِيرُ سُورَةِ عَبَسَ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَفْسِير سُورَة عبس من آيَة (1 - 22)(5/93)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)
قَوْلُهُ: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} أَيْ: لِأَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى؛ كَانَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ رجلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ وُجُوهِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُ إِلَى الإِسْلامِ وَرَجَا أَنْ يُؤْمِنَ؛ فَيَتَّبِعَهُ ناسٌ مِنْ قَوْمِهِ فَهُوَ يُكَلِّمُهُ، وَقَدْ طَمِعَ فِي ذَلِكَ مِنْهُ؛ إِذْ جَاءَ ابنُ أمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَ أعمى؛ فَأَعْرض النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، فَجَعَلَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ لَا يتقارُّ لِمَا أَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيَّ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ حَدَثَ فِيهِ شَيْءٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} .(5/93)
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)
{وَمَا يدْريك لَعَلَّه يزكّى} يُؤمن(5/94)
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)
{أَو يذكر فتنفعه الذكرى} قَالَ السُّدي: الْمَعْنَى: لَعَلَّهُ: يُزَّكَّى ويذّكّر وَالْألف صلَة(5/94)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5)
{أما من اسْتغنى} عَن الله(5/94)
فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)
{فَأَنت لَهُ تصدى} تتعرّض(5/94)
وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7)
{وَمَا عَلَيْك أَلا يزكّى} أَلا يُؤمن(5/94)
وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8)
{وَأما من جَاءَك يسْعَى} يُسَارع فِي الْخَيْر(5/94)
وَهُوَ يَخْشَى (9)
{وَهُوَ يخْشَى} اللَّهَ؛ يَعْنِي: ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ(5/94)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
{فَأَنت عَنهُ تلهى} تعرض(5/95)
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)
{كلا إِنَّهَا تذكرة} أَي: هَذَا الْقُرْآن تذكرة(5/95)
فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)
{فَمن شَاءَ ذكره} وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَمَا تذكرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ) .
قَالَ محمدٌ: مَنْ قَرَأَ (فَتَنْفَعُهُ) بِالرَّفْعِ فَعَلَى الْعَطْفِ عَلَى (تزكّى) وَمن قَرَأَ (فتنفعه) بالنصْب فَعَلَى جَوَابِ (لَعَلَّ) وَقَوْلُهُ: {تلهي} يُقَالُ: لَهيتُ عَنِ الشَّيْءِ أَلْهَى عَنهُ إِذا تشاغلت عَنهُ.(5/95)
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13)
{فِي صحف مكرمَة}(5/95)
مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
{مَرْفُوعَة} عِنْدَ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ {مُطَهَّرَةٍ} من الدَّنَس(5/95)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)
{بأيدي سفرة} كَتَبة؛ يَعْنِي: الْمَلَائِكَة(5/95)
كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
{كرام بررة} لَا يَعْصُونَ اللَّهَ.
قَالَ محمدٌ: وَاحِدُ السَّفَرة: سافِرٌ مِثْلُ كَاتِبٍ وكَتَبَة، وَيُقَالُ: إِنَّمَا قِيلَ لِلْكِتَابِ: سِفْرٌ وَلِلْكَاتِبِ: سافِرٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَنْ يُبَيِّن الشَّيْءَ وَيُوَضِّحَهُ، وَمِنْهُ سَفَرَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا كَشَفَتِ النِّقَاب عَنْ وَجْهِهَا، وَبَرَرَةٌ جَمْعُ بَارٍّ.(5/95)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)
قَوْله: {قتل الْإِنْسَان} أَيْ: لُعِنَ؛ وَهَذَا لِلْمُشْرِكِ {مَا أكفره} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: مَا أشدَّ كُفْرَهُ:(5/95)
مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)
{مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً إِلَى أَنْ نفخ فِيهِ الرّوح(5/95)
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)
{ثمَّ السَّبِيل يسره} تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ: يَعْنِي: خُرُوجَهُ مِنْ بطن أمّه(5/95)
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
{ثمَّ أَمَاتَهُ فأقبره} جَعَلَ لَهُ مَنْ يَدْفِنُهُ فِي الْقَبْر(5/95)
ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)
{ثمَّ إِذا شَاءَ أنشره} أَحْيَاهُ؛ يَعْنِي: الْبَعْثَ؛ أَيْ: كَيْفَ يَكْفُرُ؟ ! كَقَوْلِهِ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكنتم أَمْوَاتًا} الْآيَةَ.(5/95)
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: أقبرتُ الرجلَ جَعَلْتُ لَهُ قَبْرًا، وقَبَرْتُه دَفَنْتُه، وَيُقَالُ: أَنْشَرَ اللهُ الْمَوْتَى فَنَشَرُوا , فواحدهم: ناشِرٌ.
تَفْسِير سُورَة عبس من آيَة (23 - 42)(5/96)
كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)
قَالَ: {كلا لما يقْض} أَي: يصنع {مَا أمره} يَعْنِي: الْكَافِرُ لَمْ يَصْنَعْ مَا أمره الله.(5/96)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)
ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلًا آخَرَ فَقَالَ: {فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى طَعَامه} من أَي شَيْء كَانَ(5/96)
أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25)
{أَنا صببنا المَاء صبا} يَعْنِي: الْمَطَر(5/96)
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)
{ثمَّ شققنا الأَرْض شقا} أَي: بالنبات إِلَى(5/96)
وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)
قَوْله: {وَحَدَائِق غلبا} قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي: شَجَرًا طُوالاً عراضًا(5/96)
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)
{وَفَاكِهَة وَأَبا} قَالَ الْحَسَنُ: الْفَاكِهَةُ: مَا تَأْكُلُونَ، والأبُّ: مَا تَأْكُل الْأَنْعَام.(5/96)
مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
{مَتَاعا لكم ولأنعامكم} أَي: رزقا إِلَى الْمَوْت(5/96)
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)
{فَإِذا جَاءَت الصاخة} اسْمٌ مِنْ أَسَمَاءِ الْقِيَامَةِ يُصيخُ لَهَا الْخلق من الفَرَقِ.(5/96)
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه}
قَالَ محمدٌ: مَنْ قَرَأَ (يُغْنِيهِ) بِالْغَيْنِ مَنْقُوطَةٌ، فَالْمَعْنَى: يَصْرِفُهُ ويَصُدُّه عَنْ قَرَابَتِهِ، يُقَالُ: أَغْنِ عَنِّي وجهَك؛ أَي اصرفه.(5/97)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)
{وُجُوه يَوْمئِذٍ مسفرة} يَعْنِي: ناعمة(5/97)
ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)
{ضاحكة مستبشرة} بِرِضَى اللَّهِ.
قَالَ محمدٌ: (مُسْفِرة) حَقِيقَتُهُ: مُضِيئة، يُقَالُ: أَسْفَرَ الصُّبْحُ إِذا أَضَاء.(5/97)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)
{ووجوه يَوْمئِذٍ عَلَيْهَا غبرة}(5/97)
تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)
{ترهقها قترة} أَي: يَغْشَاهَا سوادٌ(5/97)
أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
{أُولَئِكَ هم الْكَفَرَة الفجرة} .(5/97)
تَفْسِيرُ سُورَةِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرت وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة التكوير من آيَة (1 - 14)(5/98)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)
قَوْله: {إِذا الشَّمْس كورت} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ يَعْنِي: ذَهَبَ ضَوْؤُها. قَالَ محمدٌ: (كُوِّرت) حقيقتُه: جُمِعَ ضَوْؤها، وَمِنْ كَلامِهِمْ: كُرْتُ الْعِمَامَةُ عَلَى رَأْسِي أكورُها وكَوَّرْتُها أُكَوِّرُها إِذَا لَفَفْتها وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ الْحسن(5/98)
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)
{وَإِذا النُّجُوم انكدرت} انتثرت(5/98)
وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)
{وَإِذا الْجبَال سيرت} تَذْهَبُ تَصِيرُ فِي حَالاتٍ أَمَّا أَوَّلُ مَا تُحوَّلُ عَنْ مَنْزِلَةِ الْحِجَارَةِ، فَتَكُونُ كَثِيبًا، وَتَكُونُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، وَتَكُونُ هَبَاءً مُنْبَثًّا، وَتَكُونُ سَرَابًا؛ مِثْلُ هَذَا السَّرَابِ تَرَاهُ وَلَيْسَ بِشَيْء.(5/98)
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)
{وَإِذا العشار عطلت} وَهِيَ النُّوقُ عطَّلها أَهْلُهَا فَلَمْ تُحْلَب من الشُّغل بِأَنْفسِهِم.(5/98)
(ل 387) قَالَ مُحَمَّدٌ: (العِشارُ) مِنَ الْإِبِلِ: الْحَوَامِلُ، وَاحِدُهَا: عشَراءُ، وَهِيَ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا فِي الْحَبَلِ عَشْرَةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ يَزَالُ ذَلِكَ اسْمُهَا حَتَّى تضع وَبَعْدَمَا تضع.(5/99)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)
{وَإِذا الوحوش حشرت} جُمِعَتْ؛ لِيَقْتَصَّ لِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ ثُمَّ يُقَالُ لَهَا: كُونِي تُرَابًا(5/99)
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)
{وَإِذا الْبحار سجرت} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: فَاضَتْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: سُجِّرت حَقِيقَتُهُ: مُلِئَت، فَيُفْضِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَتَصِيرُ شَيْئًا وَاحِدًا؛ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ.(5/99)
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)
{وَإِذا النُّفُوس زوجت} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: أَيْ: تَلْحَقُ كُلُّ شِيعَةٍ بِشِيعَتِهَا: الْيَهُودُ بِالْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى بِالنَّصَارَى، وَالْمَجُوسُ بِالْمَجُوسِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَهِ شَيْئا بضهم ببعضهم، والمنافقون بالمنافقات، والمؤمنون بالمؤمنات.(5/99)
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)
{وَإِذا الموءدة سُئلت} وَهِيَ بَنَاتُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يدفنونهنَّ أَحْيَاءً، لِخَصْلَتَيْنِ: أَمَّا إِحْدَاهُمَا فَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَلائِكَةَ بناتُ اللَّهِ، فَأَلْحِقُوا الْبَنَاتِ بِهِ فَهُوَ أحقُّ بِهِنَّ، وَأَمَّا الْخَصْلَةُ الأُخْرَى: فمخافة الْحَاجة.(5/99)
بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
{بِأَيّ ذَنْب قتلت} قَالَ الْحَسَنُ: أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يوبِّخ قَاتِلَهَا؛ لِأَنَّهَا قُتِلت بِغَيْرِ ذَنْبٍ فسُئلتْ فَلَمْ يُوجَدْ لَهَا ذَنْب، وَبَعْضهمْ يقْرَأ: (وَإِذا الموءدةُ سَأَلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) ؛ فَتَتَعَلَّقُ الْجَارِيَةُ بِأَبِيهَا، فَتَقُولُ: بِأَيِّ ذَنْبٍ قَتَلْتَنِي؟ !(5/99)
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ وأدتُ المولودَ إِذَا دَفَنْتُهُ حَيًّا، فَأَنَا وائدٌ، والمصدر إدَةً.(5/100)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)
{وَإِذا الصُّحُف نشرت} لِلْحِسَابِ وَهُوَ مَا كَتَبَتِ الْمَلائِكَةُ على الْعباد من أعماهم(5/100)
وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11)
{وَإِذا السَّمَاء كشطت} أَيْ: طُوِيَتْ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: اجتبذت. قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ كَشَطْتُ السَّقْفَ أَيْ: قَلَعْتُهُ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: قُلِعَت فطُويت.(5/100)
وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12)
{وَإِذا الْجَحِيم سعرت} أُوقِدَتْ، وَهِيَ تُوقَدُ مُنْذُ خُلِقَتْ السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي السِّتَّة الْأَيَّام(5/100)
وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)
{وَإِذا الْجنَّة أزلفت} أدنيتْ(5/100)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
{علمت نفس مَا أحضرت} من عَملهَا.
تَفْسِير سُورَة التكوير من آيَة (15 - 29)(5/100)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)
{فَلَا أقسم} الْمَعْنى: فأقسم ((وَلَا)) صلَة {بالخنس} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: هِيَ النُّجُومُ تخنِسُ؛ بِالنَّهَارِ أَيْ: تَتَوَارَى، وَهِيَ فِي ذَلِك جَارِيَة(5/100)
الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)
{الْجَوَارِي} يَعْنِي: جَرْيَهَا فِي السَّمَاءِ {الْكُنَّسِ} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: يَعْنِي: أَنَّهَا تُكْنَسُ بِالنَّهَارِ كَمَا تَتَوَارَى الظِّبَاءُ فِي كِنَاسِها(5/100)
وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)
{وَاللَّيْل إِذا عسعس} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: إِذَا أَظْلَمَ.(5/100)
قَالَ مُحَمَّدٌ ": قَالَ قَوْمٌ: عَسْعَسَ اللَّيْل إِذَا أَظْلَمَ، وَقِيلَ: عَسْعَسَ أَدْبَرَ، وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:
(حَتَّى إِذَا الصُّبْحُ لَهَا تَنَفَّسَا ... وَانْجَابَ عَنْهَا لَيْلُهَا وعسعسا)(5/101)
وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)
{الصُّبْح إِذا تنفس} إِذَا أَضَاءَ أَقْسَمَ بِهَذَا كُلِّهِ(5/101)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
{إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم} يَعْنِي: جِبْرِيلَ يُرْسِلُهُ اللَّهُ إِلَى النَّبِيين(5/101)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)
{ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مكين} فِي الْمنزلَة والقربة(5/101)
مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)
{مُطَاع ثمَّ} يَعْنِي: فِي السَّمَاءِ. قَالَ الْحَسَنُ أَمَرَ اللَّهُ أَهْلَ السَّمَاءِ بِطَاعَةِ جِبْرِيلَ، كَمَا أَمَرَ أَهْلَ الْأَرْضِ أَن يطيعوا مُحَمَّدًا {امين} عِنْد الله وَعند الْمَلَائِكَة.(5/101)
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)
{وَمَا صَاحبكُم بمجنون} يَعْنِي: مُحَمَّدا [صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم] وَذَلِكَ لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّهُ مَجْنُونٌ(5/101)
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)
{وَلَقَد رَآهُ بالأفق الْمُبين} يَعْنِي: الْمَشْرِقَ الَّذِي مِنْهُ مَطَالِعُ النُّجُومِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، يَعْنِي أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ مَعَ الْأُفُقِ فَسَدَّ مَا بَيْنَ السَّمَاء وَالْأَرْض(5/101)
وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
{وَمَا هُوَ على الْغَيْب} الْوَحْي {بضنين} بِبَخِيلٍ يَبْخَلُ عَلَيْكُمْ بِهِ، وَبَعْضُهُمْ يقْرَأ (بظنين) أَي: بمتهم(5/101)
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)
{وَمَا هُوَ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} مَلْعُون(5/101)
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)
{فَأَيْنَ تذهبون} تعدلون عَنهُ يَقُوله للْمُشْرِكين(5/101)
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27)
{ان هُوَ} يَعْنِي: مَا هُوَ، أَيْ: مَا الْقُرْآن(5/101)
{إِلَّا ذكر للْعَالمين} يَعْنِي: مَنْ آمَنَ بِهِ يَذْكُرُونَ بِهِ الْآخِرَة(5/102)
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)
{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} على أَمر الله والتذكرة(5/102)
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ الله رب الْعَالمين} .(5/102)
تَفْسِيرُ سُورَةِ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الانفطار [من آيَة 1 - 19](5/103)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)
قَوْله " {إِذا السَّمَاء انفطرت} يَعْنِي: انْشَقَّتْ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ(5/103)
وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)
{وَإِذا الْكَوَاكِب انتثرت} تساقطت(5/103)
وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)
{وَإِذا الْبحار فجرت} فُجِّرَ مِلْحُهَا فِي عَذْبِهَا، وَعَذْبُهَا فِي مِلْحِهَا فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ(5/103)
وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
{وَإِذا الْقُبُور بعثرت} أُخْرِجَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ(5/103)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} مَا قَدَّمَتْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يُنْقَصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، أَوْ سُنَّةٍ سَيِّئَةٍ فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يُنْقَصُ مِنْ أوزارهم شَيْئا.(5/103)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)
{يَا أَيهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ هَذِهِ الْآيَة {يَا أَيهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} فَقَالَ: غَرَّهُ حُمْقُهُ وَجَهْلُهُ.(5/103)
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَعْنَى (غَرَّكَ) أَيْ: خدعك (ل 388) وسول لَك، حَتَّى أضعت(5/104)
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)
{الَّذِي خلقك فسواك} يَعْنِي: سوى خلقك {فعدلك} يَعْنِي: اعْتِدَالَ الْخَلْقِ، أَيْ: جَعَلَ عَيْنَيْكَ سَوَاءً، وَيَدَيْكَ سَوَاءً، وَرِجْلَيْكَ سَوَاء، وجنبيك سَوَاء.(5/104)
فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ ركبك} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: إِنْ شَاءَ حَسَنًا، وَإِنْ شَاءَ قَبِيحًا، وَإِنْ شَاءَ ذكرا، وَإِن شَاءَ أُنْثَى.(5/104)
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
{كلا بل تكذبون بِالدّينِ} بِالْحِسَابِ يَوْم الْقِيَامَة(5/104)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)
{وَإِن عَلَيْكُم لحافظين} يَعْنِي: الْمَلائِكَةَ الَّتِي تَكْتُبُ أَعْمَالَ الْعباد(5/104)
كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)
{كراما} على الله.(5/104)
يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
{يعلمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} من الظَّاهِر فيكتبونه.(5/104)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)
{إِن الْأَبْرَار لفي نعيم} فِي الْجنَّة(5/104)
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)
{وَإِن الْفجار} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {لَفِي جَحِيمٍ} .(5/104)
وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)
{وَمَا هم عَنْهَا} عَنِ النَّارِ {بِغَائِبِينَ} .(5/104)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18)
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدّين} ثنى ذكره تَعْظِيمًا لَهُ(5/104)
يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
{يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئا} أَيْ: لَا تَنْفَعُهَا {وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله}(5/104)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تَفْسِير سُورَة المطففين الْآيَة [1 - 17](5/105)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
قَوْله: {ويل لِلْمُطَفِّفِينَ} فِي الْآخِرَةِ، أَيْ: يَدْعَوْنَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ فِي النَّارِ، بَلَغَنِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ(5/105)
الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)
{الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يخسرون}
قَالَ مُحَمَّد: {ويل} رفع بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَر {لِلْمُطَفِّفِينَ} وَالْوَيْلُ كَلِمَةٌ تُقَالُ لِكُلِّ مَنْ وَقَعَ فِي عَذَابٍ وَهَلَكَةٍ، وَالْمُطَفِّفُونَ: الَّذِينَ يَنْقُصُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، وَقَوْلُهُ: {على النَّاس} أَي: من النَّاس(5/105)
وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
(وَإِذا كالوهم أَو(5/105)
وزنوهم} أَيْ: كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُم {يخسرون} يُقَالُ: أَخْسَرْتَ الْمِيزَانَ، وَخَسِرْتَهُ وَالْقِرَاءَةُ على (أخسرت) .(5/106)
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
قَوْلُهُ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالمين}
يَحْيَى: بَلَغَنِي أَنَّهُمْ يَقُومُونَ مِقْدَارَ ثَلَاثمِائَة سنة قبل أَن يفصل بَينهم.
يَحْيَى: عَنْ خَدَّاشٍ، عَنْ عَوْفٍ الْكُوفِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم] : " مَا طُولُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا كَرَجُلٍ دَخَلَ فِي صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ فَأَتَمَّهَا وَأَحْسَنَهَا وَأَجْمَلَهَا ".(5/106)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)
{كلا إِن كتاب الْفجار} الْمُشْركين {لفي سِجِّين} تَفْسِيرُ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: سَأَلْتُ كَعْبًا عَنْ قَوْلِهِ: {إِنَّ كِتَابَ الْفجار لفي سِجِّين} فَقَالَ: حَجَرٌ أَسْوَدُ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ تُكْتَبُ فِيهِ أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ.(5/107)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8)
قَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا كُنْتَ تعلمه أَنْت وَلَا قَوْمك،(5/107)
كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)
ثُمَّ فَسَّرَهُ فَقَالَ: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} أَي: مَكْتُوب.(5/107)
وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
{وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَد} أَي: ظَالِم {أثيم} آثم، وَهُوَ الْمُشرك(5/107)
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} كَذِبِ الأَوَّلِينَ وَبَاطِلِهِمْ(5/107)
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} قَالَ الْكَلِّبِيُّ: يَعْنِي: طُبِعَ عَلَى قُلُوبهم {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ،
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَاحِدُ (الْأَسَاطِيرِ) : أُسْطُورَةٌ، مِثْلُ: أُحْدُوثَةٍ وَأَحَادِيثٍ، وَمَعْنَى (كَلَّا) عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ رَدْعٌ وَتَنْبِيهٌ، و (ران) بِمَعْنَى غَطَّى، يُقَالُ: رَانَ عَلَى قلبه الذَّنب يرين رينا.(5/107)
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)
{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لمحجوبون} يَحْتَجِبُ اللَّهُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فَلا يَرَوْنَهُ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيَرَوْنَهُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فَيَتَجَلَّى لَهُمْ، حَتَّى ينْظرُوا إِلَيْهِ.(5/107)
ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
{هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} فِي الدُّنْيَا يُقَالُ ذَلِكَ لِلمْشُرْكِينَ وهم فِي النَّار. تَفْسِير سُورَة المطففين من آيَة 18 - 36.(5/107)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)
{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عليين} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: عِلِّيُّونَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَة(5/108)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)
قَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} أَيْ: أَنَّكَ لَمْ تَدْرِ مَا عليون؟ حَتَّى أعلمتك(5/108)
كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20)
{كتاب مرقوم} مَكْتُوب، يكْتب فِي عليين(5/108)
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
{يشهده المقربون} مُقَرَّبُو أَهْلِ كُلِّ سَمَاءٍ يَشْهَدُونَ كِتَابَ عَمَلِ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يُكْتَبُ فِيهِ، وَيَشْهَدُونَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهَا أَعْمَالهم.(5/108)
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23)
{على الأرائك ينظرُونَ} الْأَرَائِكُ السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهِيَ سُرُرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَيَاقُوت.(5/108)
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)
{يسقون من رحيق مختوم} يَعْنِي: الشَّرَاب، وَهِي الْخمر(5/108)
خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)
{ختامه مسك} قَالَ مُجَاهِدٌ: يُخْتَمُ بِهِ آخِرُ جَرْعَةٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي: أَنَّهُمْ إِذا شربوا هَذَا الرَّحِيق فقني مَا فِي الْكَأْسِ وَانْقَطَعَ الشُّرْبُ، انْخَتَمَ ذَلِكَ بِطَعْمِ الْمِسْكِ وَرَائِحَتِهِ.
قَالَ: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} فِي الدُّنْيَا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة(5/108)
وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)
قَالَ: {ومزاجه من تسنيم} ومزاج ذَلِك الشَّارِب من تسنيم(5/108)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
{عينا يشرب بهَا المقربون} قَالَ قَتَادَةُ: يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا، وَتُمْزَجُ لِسَائِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ.(5/108)
و (تسنيم) أَشْرَفُ شَرَابٍ فِي الْجَنَّةِ.
قَالَ: وَنصب (عينا) لِأَنَّ الْمَعْنَى مِنْ عَيْنٍ، كَمَا قَالَ: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} أَي: من طين.(5/109)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)
{إِن الَّذين أجرموا} أَشْرَكُوا {كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} فِي الدُّنْيَا، أَيْ: يَسْخَرُونَ بِهِمْ(5/109)
وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)
{وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} كَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا مَرَّ عَلَيْهِمُ النَّبي [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وَأَصْحَابُهُ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا إِلَى هَؤُلاءِ الَّذِينَ تَرَكُوا شَهَوَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا (ل 389) يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ - زَعَمُوا - نَعِيمَ الْآخِرَةِ(5/109)
وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)
{وَإِذا انقلبوا} يَعْنِي: الْمُشْركين {إِلَى أهلهم} فِي الدُّنْيَا {انقلبوا فاكهين} أَي: مسرورين(5/109)
وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)
{وَإِذا رَأَوْهُمْ} رَأَوْا أَصْحَابَ النَّبِيِّ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم] {قَالُوا إِن هَؤُلَاءِ لضالون} يتركون شهواتهم فِي الدُّنْيَا.(5/109)
وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)
قَالَ اللَّهُ: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافظين} يحفظون أَعْمَالهم يَعْنِي: الْمُشْركين(5/109)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)
{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: هَذِهِ وَاللَّهِ الدَّوْلَةُ الْكَرِيمَةُ الَّتِي أَدَالَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي الْآخِرَةِ، فَهُمْ يَضْحَكُونَ مِنْهُمْ، وَهُمْ مُتَّكِئُونَ عَلَى فُرُشِهِمْ يَنْظُرُونَ كَيْفَ يُعَذَّبُونَ، كَمَا كَانَ الْكُفَّارُ يَضْحَكُونَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ.
قَالَ الْحَسَنُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " يجاء بالمستهزئين يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: ادْخُلُوا، فَإِذَا جَاءُوا أُغْلِقَ دُونَهُمْ فَيَرْجِعُونَ، ثُمَّ يُدْعَوْنَ فَإِذَا جَاءُوا أُغْلِقَ دُونَهُمْ فَيَرْجِعُونَ، فَيُدْعَوْنَ لِيَدْخُلُوا فَإِذَا جَاءُوا أُغْلِقَ(5/109)
دُونَهُمْ حَتَّى إِنَّهُمْ يُدْعَوْنَ فَمَا يجيئون من الْيَأْس ".(5/110)
هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
قَوْله: {هَل ثوب الْكفَّار} هَلْ جُوزِيَ الْكُفَّارُ؟ {مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أَيْ: قَدْ جُوزُوا شَرَّ الْجَزَاءِ.(5/110)
تَفْسِيرُ سُورَةِ إِذَا السَّمَاءِ انْشَقَّتْ وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الانشقاق من آيَة 1 - 15(5/111)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)
قَوْله: {إِذا السَّمَاء انشقت} وَذَلِكَ يَوْم الْقِيَامَة(5/111)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2)
{وأذنت لِرَبِّهَا} سَمِعت وأطاعت {وحقت} وَحقّ لَهَا أَن تفعل(5/111)
وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)
{وَإِذا الأَرْض مدت} تُمَدُّ مَدَّ الْأَدِيمِ، وَهَذَا إِذَا بُدِّلَتْ بِأَرْضٍ بَيْضَاءَ، كَأَنَّهَا فِضَّةٌ لم يعْمل عَلَيْهَا خَطِيئَة(5/111)
وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)
{وَأَلْقَتْ} أخرجت {مأ فِيهَا} يَعْنِي: الْأَمْوَات {وتخلت} إِلَى اللَّهِ مِنْهُمْ، فَصَارُوا عَلَى(5/111)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)
{وأذنت لِرَبِّهَا وحقت} هِيَ مِثْلُ الْأُولَى.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: أَذِنْتُ لِلشَّيْءِ آذَنُ أَذَنًا إِذَا اسْتَمْعَتُ. قَالَ الشَّاعِرُ
(صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ ... وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا)(5/111)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)
قَوْله: {يَا أَيهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كدحا} أَيْ: عَامِلٌ إِلَى رَبِّكَ عَمَلًا {فملاقيه} فَمُلاقٍ ثَوَابَ ذَلِكَ الْعَمَلِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْكَدْحُ فِي اللُّغَةِ: السَّعْيُ وَالدُّءُوبُ فِي الْعَمَلِ فِي بَابِ الدُّنْيَا وَفِي بَابِ الْآخِرَةِ. وَجَوَابُ (إِذَا) يَدُلُّ عَلَيْهِ فَمُلاقِيهِ، الْمَعْنَى: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَقِي الْإِنْسَان عمله.(5/112)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7)
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} الْآيَة " سَأَلت عَائِشَة النَّبِي [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم] عَنِ الَّذِي يُحاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا فَقَالَ: يُعَرَّفُ بِعَمَلِهِ، ثُمَّ يَتَجَاوَزُ الله عَنهُ "(5/112)
وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)
{وينقلب إِلَى أَهله} إِلَى أَزْوَاجِهِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ {مَسْرُورًا}(5/112)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10)
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهره} تُخْلَعُ كَتِفُهُ الْيُسْرَى فَتُجْعَلُ خَلْفَهُ فَيَأْخُذ بهَا كِتَابه(5/112)
فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11)
{فَسَوف يَدْعُو ثبورا} فِي النَّارِ يَقُولُ: يَا وَيْلاهُ {وَيَا ثبوراه}(5/112)
وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)
{وَيصلى سعيرا} أَيْ: يَكْثُرُ عَذَابُهُ، وَيُشْوَى فِي النَّار(5/112)
إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13)
{إِنَّه كَانَ فِي أَهله} فِي الدُّنْيَا {مَسْرُورا} لَا يُؤمن بِالْبَعْثِ(5/112)
إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
{إِنَّه ظن} حسب {أَن لن يحور} أَيْ: يَرْجِعَ إِلَى رَبِّهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: حَارَ يَحُورُ حَوْرًا وَحُئُورًا، أَيْ: رَجَعَ، وَقَالَ لَبِيدٌ:(5/112)
(وَمَا الْمَرْءُ إِلَّا كَالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ ... يَحُورُ رَمَادًا بَعْدَ إِذْ هُوَ سَاطِع)(5/113)
بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
قَوْلُهُ: {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصيرًا} أَي: أَنه سيبعثه. تَفْسِير سور الانشقاق من آيَة 16 - 25(5/113)
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)
{فَلَا أقسم بالشفق} يَعْنِي: الْحُمْرَةَ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ مَا بَين الْمغرب وَالْعشَاء(5/113)
وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)
{وَاللَّيْل وَمَا وسق} وَمَا جَمَعَ مِمَّا عَمِلَ فِيهِ الْخَلْقُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ(5/113)
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)
{وَالْقَمَر إِذا اتسق} إِذَا اسْتَوَى فَاسْتَدَارَ، وَهَذَا قَسَمٌ مِنْ قَوْلِهِ: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ أَقْسَمَ بِهَذَا كُله(5/113)
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)
{لتركبن طبقًا عَن طبق} أَيْ: حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فِي تَفْسِير الْحسن.(5/113)
فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
{فَمَا لَهُم لَا يُؤمنُونَ} يَعْنِي: الْمُشْركين(5/113)
وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)
{وَإِذا قرئَ عَلَيْهِم الْقُرْآن لَا يَسْجُدُونَ} لَا يصلونَ(5/113)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)
{وَالله أعلم بِمَا يوعون} أَي: يخفون فِي صُدُورهمْ.(5/113)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
{إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم أجر} ثَوَابٌ وَهِيَ الْجَنَّةُ {غَيْرُ مَمْنُونٍ} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: غَيْرُ مَمْنُونٍ عَلَيْهِمْ مَنَّ أَذًى.(5/113)
تَفْسِيرُ سُورَةِ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة البروج من آيَة 1 - 10(5/114)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)
قَوْلُهُ: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} تَفْسِيرُ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَاتُ النُّجُومِ(5/114)
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2)
{وَالْيَوْم الْمَوْعُود} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة(5/114)
وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)
{وَشَاهد} يَعْنِي: يَوْم الْجُمُعَة {ومشهود} يَعْنِي: يَوْمَ عَرَفَةَ، هَذَا تَفْسِيرُ الْحسن، وَرَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم] . قَوْله:(5/114)
قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6)
{قتل} لعن {أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} إِلَى قَوْله {شُهُود} الْأُخْدُودُ: الشِّقُّ فِي الْأَرْضِ، وَجَمْعُهُ: أَخَادِيدُ. قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ثَمَانِينَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، فَأَخذهُم الْمُشْركُونَ، فَخُذُوا لَهُمْ أُخْدُودًا فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ أَوْقَدُوا لَهُمْ نَارًا ضَخْمَةً ثُمَّ (ل 390) فَجَعَلُوا يَقُولُونَ(5/114)
لِلرَّجُلِ وَلِلْمَرْأَةِ مِنْهُمْ: إِمَّا أَنْ تَتْرُكَ دِينَكَ وَإِمَّا أَنْ نَقْذِفَكَ فِي النَّارِ. فَيَقُولُ: مَا أَنَا بِتَارِكِ دِينِي لِشَيْءٍ! فَيُقْذَفُ فِيهَا فَيَحْتَرِقُ حَتَّى أَتَوْا عَلَيْهِمْ، فَبَقِيَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ فَتَهَيَّبَتْ، فَقَالَ لَهَا الصَّبِيُّ: امْضِي وَلا تُنَافِقِي، فَمَضَتْ فَاحْتَرَقَتْ.
قَالَ يَحْيَى: كَانَ صَغِيرًا لَمْ يَتَكَلَّمْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ مُجَاهِد: وَذَلِكَ بِنَجْرَان.(5/115)
وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)
قَالَ: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُود} من تحريقهم إيَّاهُم بالنَّار(5/115)
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)
{وَمَا نقموا مِنْهُم} مَا كَرِهُوا مِنْهُمْ {إِلا أَنْ يُؤمنُوا بِاللَّه الْعَزِيز الحميد} مَا سَفَكُوا لَهُمْ دِمَاءً، وَلا أخذُوا لَهُم مَالا(5/115)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} شَاهِدٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِعَمَلِهَا.(5/115)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)
{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} يَعْنِي: أحرقهم بوالنار، فِي تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ فَتَنْتُ الشَّيْءَ أَحْرَقْتُهُ، وَالْفَتِينُ حِجَارَة سود كَأَنَّهَا محرقة. تَفْسِير سُورَة البروج من آيَة 11 - 22(5/115)
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)
{إِن بَطش رَبك} عُقُوبَة رَبك {لشديد} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لشديد) هُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) .(5/115)
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)
{إِنَّه هُوَ يبدئ} أَي: يخلق {وَيُعِيد} أَي: يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة(5/116)
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)
{وَهُوَ الغفور} لِلذُّنُوبِ، وَلا يَغْفِرُ إِلَّا لِمَنْ آمن {الْوَدُود} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَتَوَدَّدُ إِلَى خَلْقِهِ بِمَا يُعْطِيهِمْ مِنَ النِّعَمِ فِي وَأَرْزَاقِهِمْ، وَمَا يَغْفِرُ لَهُمْ مِنَ الذُّنُوب(5/116)
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)
{ذُو الْعَرْش} رب الْعَرْش {الْمجِيد} يقْرَأ (الْمجِيد) بِالرَّفْعِ وَالْجَرِّ، فَمَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُود} الْمَجِيدُ ذُو الْعَرْشِ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالْجَرِّ جَعَلَهُ مِنْ صِفَةِ (الْعَرْشِ) وَتَفْسِير الْمجِيد: الْكَرِيم.(5/116)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)
{هَل أَتَاك} أَيْ: قَدْ أَتَاكَ {حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْن وَثَمُود} كَيْفَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ حِينَ كَذَّبُوا رسلهم.(5/116)
وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)
{وَالله من ورائهم مُحِيط} حَتَّى يَجْزِيَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: إِنَّ قُدْرَتَهُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهِمْ لَا يُعْجِزُهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ يحيى.(5/116)
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)
{بل هُوَ قُرْآن مجيد} كريم على الله(5/116)
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
{فِي لوح مَحْفُوظ} وَهُوَ أُمُّ الْكِتَابِ قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ وأَبُو عُبَيْدٍ: قَرَأَ نَافِعٌ: (مَحْفُوظٌ) بِالرَّفْع، وقرأه غَيره (مَحْفُوظ) بِالْخَفْضِ وَالْخَفْضُ فِي هَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ لِيَكُونَ مِنْ نَعْتِ (اللَّوْحِ) .(5/116)
تَفْسِيرُ سُورَةِ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَهِيَ مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الطارق من آيَة [1 - 17](5/117)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2)
قَوْلُهُ: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطارق}(5/117)
النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)
{النَّجْم الثاقب} وَالنَّجْمُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ جَمَاعَةُ النُّجُومِ، وَالثَّاقِبُ: الْمُضِيءُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: ثَقَبَ يَثْقُبُ ثُقُوبًا إِذَا أَضَاءَ، وَيُقَالُ لِلْمُوقِدِ: أَثْقِبْ نَارَكَ، أَي: أضئها. وَهَذَا قسم.(5/117)
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)
{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافظ} وَهِيَ تُقْرَأُ عَلَى وَجْهَيْنِ (لَمَا) خَفِيفَة، و (لما) مُثَقَّلَةٌ، فَمَنْ قَرَأَهَا بِالتَّخْفِيفِ يَقُولُ: لَعَلَيْهَا حَافِظٌ وَ (مَا) صِلَةٌ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالتَّثْقِيلِ يَقُولُ: إِلَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ، يَعْنِي: حَافِظًا مِنَ الْمَلائِكَةِ يَحْفَظُ عَلَيْهَا عَمَلَهَا.(5/117)
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنَّمَا قِيلَ لِلنَّجْمِ: الطَّارِقُ، لِأَنَّ طُلُوعَهُ بِاللَّيْلِ، وَكُلُّ مَا أَتَى لَيْلًا فَهُوَ طَارِقٌ.(5/118)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)
{فَلْينْظر الْإِنْسَان مِم خلق}(5/118)
خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)
{خلق من مَاء دافق} يَعْنِي: النظفة.
قَالَ مُحَمَّد: (دافق) قَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ: مَدْفُوقٌ، وَقَالَ قَوْمٌ الْمَعْنَى: مِنْ مَاءٍ ذِي اندفاق.(5/118)
يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)
{يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} يَعْنِي: صُلْبَ الرَّجُلِ، وَتَرَائِبَ الْمَرْأَةِ وَهُوَ نَحْرِهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: التَّرَائِبُ مَوْضِعُ الْقِلادَةِ مِنَ الصَّدْرِ، وَاحِدُهَا: تريبة.(5/118)
إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)
{إِنَّه} إِن الله {على رجعه لقادر} عَلَى أَنْ يَبْعَثَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ(5/118)
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)
{يَوْم تبلى السرائر} أَيْ: تُخْتَبَرُ وَتُظْهَرُ، يَعْنِي: سَرَائِرَ الْقُلُوب(5/118)
فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
{فَمَا لَهُ من قُوَّة} يَمْتَنِعُ بِهَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ {وَلَا نَاصِر} ينصره وَهَذَا الْمُشرك،(5/118)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)
ثُمَّ أَقْسَمَ فَقَالَ: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرجع} بالمطر عَاما فعاماً(5/118)
وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)
{وَالْأَرْض ذَات الصدع} بالنبات(5/118)
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13)
{إِنَّه} يَعْنِي: الْقُرْآن {لقَوْل فصل} حق(5/118)
وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
{وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} بِالْكَذِبِ.
قَالَ مُحَمَّد: (الرجع) فِي اللُّغَةِ: الْمَطَرُ سُمِّيَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَجِيء وَيرجع ويتكرر.(5/118)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15)
{إِنَّهُم يكيدون كيداً} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ يَكِيدُونَ بِالنَّبِيِّ [صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم](5/118)
وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)
{وأكيد كيداً}(5/118)
أَيْ: أُعَذِّبُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ مُحَمَّد: {وأكيد كيدا} يَعْنِي: أُجَازِيهِمْ جَزَاءَ كَيْدِهِمْ، وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ يَحْيَى.(5/119)
فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
{فمهل الْكَافرين أمهلهم رويدا} أَيْ: قَلِيلًا، وَهَذَا وَعِيدٌ، تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: يَعْنِي: يَوْمَ بَدْرٍ.
قَالَ مُحَمَّد: {رويدا} صِفَةٌ لِلْمَصْدَرِ، الْمَعْنَى: أَمْهِلْهِمْ إِمْهَالًا رُوَيْدًا.(5/119)
تَفْسِيرُ سُورَةِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الْأَعْلَى من آيَة 1 - 19
(ل 391)(5/120)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)
قَوْلُهُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} صَلِّ لِرَبِّكَ الْأَعْلَى {الَّذِي خَلَقَ فسوى}(5/120)
وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)
{وَالَّذِي قدر فهدى} أَيْ: قَدَّرَهُ فِي خَلْقِهِ نُطْفَةً، ثمَّ علقَة، ثمَّ مُضْغَة، ثمَّ عَظْمًا، ثُمَّ لَحْمًا، ثُمَّ شَعْرًا، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، قَالَ: {فهدى} بَيَّنَ لَهُ السَّبِيلَ: سَبِيلَ الْهُدَى، وَسَبِيلَ الضَّلالَةِ، فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ(5/120)
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)
{وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أحوى} فِيهَا تَقْدِيمٌ: فَجَعَلَهُ أَحْوَى غُثَاءً، وَالْأَحْوَى عِنْدَ الْحَسَنِ: الْأَسْوَدُ مِنْ شِدَّةِ الْخُضْرَةِ، وَالْغُثَاءُ: الْهَشِيمُ الْيَابِسُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاح} أَيْ: فَصَارَ هَشِيمًا بَعْدَ إِذْ كَانَ خَضِرًا(5/120)
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْحُوَّةُ: السَّوادُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلشَّدِيدِ الْخُضْرَةِ: أَحْوَى، لِأَنَّهُ يُضْرَبُ إِلَى الْحُوَّةِ. وَالْغُثَاءِ فِي كَلامِ الْعَرَبِ: الَّذِي تَرَاهُ فَوْقَ مَاء السَّيْل، يُقَال مِنْهُ: غثى الْوَادي يغثي إِذا جمع غثاءه، وَوَاحِد الغثاء: غثاءة.(5/121)
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)
قَوْلُهُ: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ الله} وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم] كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ يَجْعَلُ يَقْرَأُ وَيُدْئِبُ فِيهِ نَفْسَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَنْسَى، وَقَوْلُهُ: {إِلا مَا شَاءَ الله} هُوَ كَقَوْلِهِ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَة أَو ننسها} يُنْسِيهَا اللَّهُ نَبِيَّهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: {فَلَا تنسى} الْمَعْنَى: فَأَنْتَ لَا تَنْسَى لَمْ يُرِدِ الْأَمْرَ.
قَوْلُهُ: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْر} الْعَلَانِيَة {وَمَا يخفى} السِّرّ(5/121)
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)
{ونيسرك لليسرى} لعمل الْجنَّة(5/121)
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)
{فَذكر} أَيْ: بِالْقُرْآنِ {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} أَيْ: إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِالتَّذْكِرَةِ مَنْ يقبلهَا(5/121)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)
{سَيذكرُ من يخْشَى} الله(5/121)
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)
{ويتجنبها} يتَجَنَّب التَّذْكِرَة {الأشقى} يَعْنِي: الْمُشرك(5/121)
الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)
{الَّذِي يصلى النَّار الْكُبْرَى} وَهِيَ نَارُ جَهَنَّمَ، وَالصُّغْرَى: نَارُ الدُّنْيَا(5/121)
ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
{ثمَّ لَا يَمُوت فِيهَا} فيستريح {وَلَا يحيى} حَيَاةً تَنْفَعُهُ. {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تزكّى}(5/121)
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)
{وَذكر اسْم ربه فصلى} وَكَانَتِ الصَّلاةُ يَوْمَئِذٍ رَكْعَتَيْنِ غُدْوةً، وَرَكْعَتَيْنِ عَشِيَّة(5/121)
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)
{بل تؤثرون الْحَيَاة الدُّنْيَا} يَقُولُهُ لِلْمُشْرِكِينَ، أَيْ: يَزْعُمُونَ أَنَّ الدُّنْيَا بَاقِيَةٌ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ لَا تكون(5/121)
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)
{وَالْآخِرَة خير} من الدُّنْيَا(5/121)
{وَأبقى} أَيْ: وَأَنَّ الدُّنْيَا لَا تَبْقَى، وَأَنَّ الْآخِرَةَ بَاقِيَةٌ، يَعْنِي: بِهَذَا الْجنَّة(5/122)
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
{إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى} تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ: يَقُولُ فِيهَا: إِنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَأَبْقَى.(5/122)
تَفْسِيرُ سُورَةِ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الغاشية من آيَة 1 - 16(5/123)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)
قَوْله: {هَل أَتَاك} قد أَتَاك {حَدِيث الغاشية} يَعْنِي: الْقِيَامَةَ - فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ - تَغْشَى النَّاسَ بِعَذَابِهَا وَعِقَابِهَا(5/123)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)
{وُجُوه يَوْمئِذٍ خاشعة} ذَلِيلَةٌ، يَعْنِي: وُجُوهَ أَهْلِ النَّارِ(5/123)
عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)
{عاملة ناصبة} كَفَرَتْ بِاللَّهِ فِي الدُّنْيَا، فَأَعْمَلَهَا وأنصبها فِي النَّار(5/123)
تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)
{تسقى من عين آنِية} حارة قد انْتهى حرهَا(5/123)
لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)
{لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيع} قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَبْتٌ يَنْبُتُ فِي الرَّبِيعِ، فَإِذَا كَانَ فِي الصَّيْفِ يَبِسَ فَاسْمُهُ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ وَرَقُهُ: [شِبْرَقٌ] وَإِذَا تَسَاقَطَ وَرَقُهُ فَهُوَ الضَّرِيعُ، فَالْإِبِلُ تَأْكُلُهُ أَخْضَرَ، فَإِذا يبس لم تذقه.(5/123)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8)
{وُجُوه يَوْمئِذٍ ناعمة} وهم أهل الْجنَّة(5/123)
لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)
{لسعيها} لثواب عَملهَا {راضية}(5/123)
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)
{فِي جنَّة عالية} {فِي السَّمَاء(5/124)
لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)
2 -! (لَا تسمع فِيهَا لاغية} يَعْنِي: اللَّغْو(5/124)
فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12)
{فِيهَا عين جَارِيَة} يَعْنِي: جَمَاعَةَ الْعُيُونِ، وَهِيَ الْأَنْهَارُ(5/124)
فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)
{فِيهَا سرر مَرْفُوعَة} عالية(5/124)
وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
{وأكواب مَوْضُوعَة} وَاحِدُهَا كُوبٌ، وَهُوَ الْمُدَوَّرُ الْقَصِيرُ الْعُنُق الْقصير العروة(5/124)
وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)
{ونمارق مصفوفة} وَهِي الوسائد(5/124)
وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
{وزرابي} وَهِي الْبسط {مبثوثة} مَبْسُوطَةٌ بَلَغَنَا أَنَّهَا مَنْسُوجَةٌ بِالدُّرِّ والياقوت. تَفْسِير سُورَة الغاشية من آيَة 17 - 26(5/124)
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
وَقَوْلُهُ: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيفَ خلقت} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: قِيلَ: أَرَادَ أَنَّهَا تَنْهَضُ بِأَحْمَالِهَا وَهِيَ بَارِكَةٌ، وَلَيْسَ يَفْعَلُ ذَلِكَ غَيْرُهَا مِنَ الدَّوَابِ.(5/124)
وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)
{وإلي السَّمَاء كَيفَ رفعت} بَيْنكُم وَبَينهَا مسيرَة خَمْسمِائَة عَام(5/124)
وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)
{وَإِلَى الْجبَال كَيفَ نصبت} مثبتة(5/124)
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
{وَإِلَى الأَرْض كَيفَ سطحت} يَقُولُ: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا، فَيَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَبْعَثَهُمْ يَوْم الْقِيَامَة(5/124)
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
{لست عَلَيْهِم بمصيطر} أَيْ (بِمُسَلِّطٍ) تُكْرِهُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ(5/124)
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23)
{إِلَّا من تولى وَكفر} أَيْ: فَكِلْهُ إِلَى اللَّهِ، وَكَانَ هَذَا قبل أَن يُؤمر بقتالهم(5/125)
فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)
{فيعذبه الله الْعَذَاب الْأَكْبَر} جَهَنَّم(5/125)
إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)
{إِن إِلَيْنَا إيابهم} رجوعهم(5/125)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
{ثمَّ إِن علينا حسابهم} يَعْنِي: جَزَاءَهُمْ فِي تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ.(5/125)
تَفْسِيرُ سُورَةِ وَالْفَجْرِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[تَفْسِير سُورَة الْفجْر من آيَة 1 إِلَى آيَة 14](5/126)
وَالْفَجْرِ (1)
قَوْله: {وَالْفَجْر}(5/126)
وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)
{وليال عشر} عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ أَيَّامٌ عَظَّمَهَا الله(5/126)
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)
{وَالشَّفْع وَالْوتر} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: الشَّفْعُ: الْخَلْقُ، وَالْوَتْرُ: اللَّهُ - تَعَالَى.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمِنْ كَلامِهِمْ: شَفَعَ زَيْدٌ خَالِدًا، أَيْ: كَانَ وَاحِدًا فَصَيَّرَهُ اثْنَيْنِ وَلُغَةُ تَمِيمٍ: الْوِتْرُ بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَأَهْلِ الْحِجَازِ بِالْفَتْحِ، وَأَمَّا الْوِتْرُ مِنَ الترة فبالكسر يُقَال: وَتَرَهُ يَتِرُهُ تِرَةً، وَهُوَ الظُّلْمُ.(5/126)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)
{وَاللَّيْل إِذا يسري} ذهب، وَهَذَا كُله قسم،(5/126)
هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
ثُمَّ قَالَ: {هَلْ فِي ذَلِكَ قسم لذِي حجر} عَقْلٍ؛ يَقُولُ: فِيهِ قَسَمٌ لِذِي عَقْلٍ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ.(5/126)
{إِن رَبك لبالمرصاد}
قَالَ محمدٌ: ذكر ابْنُ مُجَاهِد أَنَّ قِرَاءَةَ نَافِعٍ (يَسْرِي) بِيَاءِ فِي الْوَصْل، وَبِغير يَاء فِي الْوَقْف.(5/127)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)
قَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبك بعاد} وَهَذَا عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ؛ أَيْ: أهلكهم حِين كذبُوا رسولهم،(5/127)
إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)
{إرم} و {إرم} فِي تَفْسِيرِ بَعْضِهِمْ: قَبِيلَةٌ مِنْ عَاد.
قَالَ مُحَمَّد: (إرم) هِيَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ وَلَمْ تُصْرَفْ؛ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِلْقَبِيلَةِ.
{ذَاتِ الْعِمَاد} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: ذَاتُ الْبِنَاءِ الرَّفِيعِ(5/127)
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)
{الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَاد} يَعْنِي: عَادًا فِي طُولِهِمْ وَأَجْسَامِهِمْ.(5/127)
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)
{وَثَمُود} أَيْ: وَكَيْفَ فَعَلَ بِثَمُودَ: أَهْلَكَهُمْ حِينَ كَذَّبُوا رُسُولَهُمْ {الَّذِينَ جَابُوا الصخر بالواد} جَابُوهُ: نَقَّبُوهُ فَجَعَلُوهُ بُيُوتًا
قَالَ مُحَمَّدٌ: قِرَاءَةُ نَافِعٍ فِي رِوَايَةِ وَرْشٍ {بِالْوَادِي} بِيَاءٍ، وَرَوَى عَنْهُ غَيره {بالواد} بِغَيْرِ يَاءٍ ذَكَرَهُ ابْنُ مُجَاهِدٍ.(5/127)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)
{وَفرْعَوْن ذِي الْأَوْتَاد} أَيْ: وَكَيْفَ فُعِلَ بِفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ: أَهْلَكَهُ بِالْغَرَقِ، وَكَانَ إِذَا غضب عَلَى أحدٍ أوتد لَهُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ عَلَى يَدَيْهِ(5/127)
وَرجلَيْهِ، فِي تَفْسِير قَتَادَة.(5/128)
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)
{فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} لونا من الْعَذَاب فأهلكهم(5/128)
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
{إِن رَبك لبالمرصاد} جَوَابُ الْقَسَمِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: {لبالمرصاد} قِيلَ: الْمَعْنَى: يَرْصُدُ مَنْ كَفَرَ بِهِ بِالْعَذَابِ تَفْسِير سُورَة الْفجْر من آيَة 15 - 23(5/128)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)
{فَأَما الْإِنْسَان} وَهُوَ الْمُشْرِكُ {إِذَا مَا ابْتَلاهُ ربه فَأكْرمه ونعمه} أَيْ: وَسَّعَ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا {فَيَقُول رَبِّي أكرمن} أَي: فضلني(5/128)
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
{وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ} فَقَتَرَ {عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أهانن}(5/128)
كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)
{كلا} قَالَ الْحَسَنُ: أَكْذَبَهُمَا جَمِيعًا بِقَوْلِهِ: {كلا} وَمَعْنَاهَا: لَا، أَيْ: لَا بِالْغِنَى أَكْرَمْتُ، وَلا بِالْفَقْرِ أَهَنْتُ.
قَالَ محمدٌ: ذكر ابْنُ مُجَاهِد أَن قِرَاءَةَ نَافِعٍ {أَكْرَمَنِي} {وَأَهَانَنِي} بِيَاءٍ فِي الْوَصْلِ. {بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيم} يَقُوله للْمُشْرِكين(5/128)
وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)
(وَلَا تحضون على طَعَام(5/128)
الْمِسْكِين} وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أطْعمهُ}(5/129)
وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19)
{وتأكلون التراث أكلا لما} أَيْ: لَا تُبَالُونَ مِنْ حَرَامٍ أَوْ حَلالٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لَمًّا شَدِيدًا، وَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: لَمَمْتُ الشَّيْءَ إِذَا جَمَعْتُهُ وَالتُّرَاثُ أَصْلُهُ الْوَارِثُ مِنْ: وَرِثْتُ، التَّاءُ فِيهِ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، يُقَالُ: إِنَّهُ أَرَادَ تراث الْيَتَامَى.(5/129)
وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
{وتحبون المَال حبا جماً} {كثيرا(5/129)
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)
2 -! (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دكا} أَيْ: صَارَتْ مُسْتَوِيَةً.
قَالَ مُحَمَّدٌ: معنى (دكت) : دُقَّتْ جِبَالُهَا وَأَنْشَازُهَا حَتَّى اسْتَوَتْ.(5/129)
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)
{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ: يَعْنِي: صُفُوفَ الْمَلائِكَةِ كُلَّ أَهْلِ سَمَاءٍ عَلَى حِدَةٍ.
قَالَ يَحْيَى: وَحَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مُدَّتِ الْأَرْضُ مَدَّ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ ثُمَّ يَحْشُرُ اللَّهُ فِيهَا الْخَلائِقَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، ثُمَّ أَخَذُوا مَصَافَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ يَنْزِلُ أَهْلُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِمِثْلِ مَنْ فِي الْأَرْضِ، وَبِمِثْلِهِمْ مَعَهُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ أَضَاءَتِ الْأَرْضُ لِوُجُوهِهِمْ، وَخَرَّ أَهْلُ الْأَرْضِ سَاجِدِينَ، وَقَالُوا: أَفِيكُمْ رَبُّنَا؟ ! قَالُوا: لَيْسَ فِينَا وَهُوَ آتٍ. ثُمَّ أَخَذُوا مَصَافَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ يَنْزِلُ أَهْلُ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ بِمِثِلِ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ(5/129)
وَالْمَلائِكَةِ الَّذِينَ نَزَلُوا قَبْلَهُمْ وَمِثْلِهِمْ مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانُوا مَكَانَ أَصْحَابِهِمْ أَضَاءَتِ الْأَرْضُ لِوُجُوهِهِمْ وَخَرَّ أَهْلُ الْأَرْضِ سَاجِدِينَ وَقَالُوا: أَفِيكُمْ رَبُّنَا؟ {قَالُوا: لَيْسَ فِينَا وَهُوَ آتٍ. ثُمَّ أَخَذُوا مَصَافَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ يَنْزِلُ أَهْلُ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ بِمِثْلِ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْمَلائِكَةِ الَّذِينَ نَزَلُوا قَبْلَهُمْ وَمِثْلِهِمْ مَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانُوا مَكَانَ أَصْحَابِهِمْ أَضَاءَتِ الْأَرْضُ لِوُجُوهِهِمْ، وَخَرَّ أَهْلُ الْأَرْضِ ساجدين (ل 393) وَقَالُوا: أَفِيكُمْ رَبُّنَا؟} قَالُوا: لَيْسَ فِينَا وَهُوَ آتٍ، وَيَنْزِلُ أَهْلُ السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ عَلَى قَدْرِهِمْ مِنَ التَّضْعِيفِ، ثُمَّ يَنْزِلُ أَهْلُ السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّضْعِيفِ، ثُمَّ يَنْزِلُ أَهْلُ السَّمَاءِ السَّادِسَةِ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّضْعِيفِ، ثُمَّ يَنْزِلُ أَهْلُ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّضْعِيفِ، حَتَّى يَنْزِلَ الْجَبَّارُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - قَالَ: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقهم يَوْمئِذٍ ثَمَانِيَة} تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ عَلَى كَوَاهِلِهَا بِأَيْدٍ وَقُوَّةٍ وَحُسْنٍ وَجَمَالٍ، حَتَّى إِذَا جَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ وَنَادَى بِصَوْتِهِ {لمن الْملك الْيَوْم} فَلَا يجِيبه أحد فَيرد عَلَى نَفْسِهِ {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سريع الْحساب} ".(5/130)
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)
وَقَوله: {وَجِيء يَوْمئِذٍ بجهنم}
يَحْيَى: عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: " يَجِيءُ الرَّبُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي مَلائِكَةِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَهُمُ الْكَرْوبِيُّونَ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلا اللَّهُ، فَيُؤْتَى بِالْجَنَّةِ مُفْتَحَةٌ أَبْوَابُهَا يَرَاهَا كُلُّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ عَلَيْهَا مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ، حَتَّى تُوضَعَ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ فيوجد رِيحهَا من مسيرَة خَمْسمِائَة عَامٍ، قَالَ: وَيُؤْتَى بِالنَّارِ تُقَادُ بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ، يَقُودُ كُلَّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ مُصَفَّدَةٌ أَبْوَابُهَا عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ سُودٌ مَعَهُمْ السَّلاسِلُ الطِّوَالُ وَالأَنْكَالُ الثِّقَالُ وَسَرَابِيلُ الْقَطِرَانِ وَمُقَطِّعَاتُ النِّيرَانِ، لأَعْيُنِهِمْ لَمْعٌ كَالْبَرْقِ وَلِوُجُوهِهِمْ لَهَبٌ كَالنَّارِ، شَاخِصَةٌ أَبْصَارُهُمْ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى ذِي الْعَرْشِ تَعْظِيمًا لَهُ، فَإِذَا أُدْنِيَتِ النَّارُ، فَكَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْخَلائِقِ مسيرَة خَمْسمِائَة عَامٍ زَفَرَتْ زَفْرَةً، لمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلَّا جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَأَخَذَتْهُ الرَّعْدَةُ وَصَارَ قَلْبَهُ معلقاُ فِي حَنْجَرَتِهِ، فَلا يَخْرُجُ وَلا يَرْجِعُ إِلَى مَكَانِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}(5/131)
فَيُنَادِي إِبْرَاهِيمُ: رَبِّ لَا تُهْلِكْنِي بِخَطِيئَتِي، وَيُنَادِي نُوحٌ وَيُونُسُ، وَتُوضَعُ النَّارُ عَنْ يَسَارِ الْعَرْشِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِيزَانِ فَيُوضَعُ بَيْنَ يَدَيِ الْجَبَّارِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - ثُمَّ يُدْعَى الْخَلائِقُ لِلْحِسَابِ ".
قَوْلُهُ: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَان} أَيْ: يَتُوبُ، وَهُوَ الْمُشْرِكُ {وَأَنَّى لَهُ الذكرى} أَيْ: وَكَيْفَ لَهُ التَّوْبَةُ وَهِيَ لَا تقبل يَوْم الْقِيَامَة؟ !(5/132)
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)
{يَقُول يَا لَيْتَني قدمت} فِي الدُّنْيَا {لحياتي} بَعْدَ الْمَوْتِ، يَتَمَنَّى لَوْ آمَنَ فِي الدُّنْيَا فَيَحْيَا فِي الْجَنَّةِ(5/132)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
{فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يوثق وثَاقه أحد} يَقُولُ: لَا يُعَذِّبُ عَذَابَ اللَّهِ أحد، ويوثق وثاق الله أحد.(5/132)
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)
{يَا أيتها النَّفس المطمئنة} وَهُوَ الْمُؤْمِنُ نَفْسُهُ مُطْمَئِنَّةٌ آمِنَةٌ(5/132)
ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)
{ارجعي إِلَى رَبك راضية} قد رضيت الثَّوَاب {مرضية} قد رَضِي عَنْك(5/132)
فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)
{فادخلي فِي عبَادي} تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ مَعَ عِبَادِي {وَادْخُلِي جنتي} .(5/132)
تَفْسِيرُ سُورَةِ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا
(بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
تَفْسِير سُورَة الْبَلَد من آيَة 1 - 20(5/133)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)
قَوْله: {لَا أقسم} أَي: أقسم {بِهَذَا الْبَلَد} يَعْنِي: مَكَّة(5/133)
وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)
{وَأَنت حل بِهَذَا الْبَلَد} وَهَذَا حِينَ أُحِلَّتْ لَهُ مَكَّةُ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَوْمَ الْفَتْحِ.
تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: يَقُولُ: لَا تُؤَاخَذُ بِمَا فَعَلْتَ فِيهِ، وَلَيْسَ عَلَيْك فِيهِ مَا على الماس(5/133)
وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)
{ووالد} يَعْنِي: آدم {وَمَا ولد} وَهَذَا كُله قسم.(5/133)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: يُكَابِدُ عَمَلَ الدُّنْيَا، وَإِذَا كَانَ مُؤْمِنًا كَابَدَ أَيْضًا عمل الْآخِرَة.(5/133)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)
{أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحد} يَعْنِي: أَلَّا يَقْدِرَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمُشْرِكُ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَبْعَثهُ الله بِعْ الْمَوْت(5/133)
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6)
{يَقُول أهلكت مَالا لبدا} كَثِيرًا، أَيْ:(5/133)
أَكَلْتُ وَأْتَلَفْتُ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يُحَاسِبُنِي؟ ! فِي تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ.
قَالَ مُحَمَّد: (لبدا) هُوَ مِنَ التَّلْبِيدِ، كَأَنَّ بَعْضَهُ على بعض.(5/134)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
{أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} أَيْ: لَمْ يَرَهُ اللَّهُ حِينَ أَهْلَكَ ذَلِكَ الْمَالَ، أَيْ: بَلَى قد رَآهُ الله.(5/134)
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)
{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وشفتين} فَالَّذِي جَعَلَ ذَلِكَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَبْعَثهُ فيحاسبه(5/134)
وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
{وهديناه النجدين} أَيْ: بَصَّرْنَاهُ السَّبِيلَيْنِ: سَبِيلَ الْهُدَى، وسبيل الضَّلَالَة(5/134)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)
{فَلَا اقتحم الْعقبَة} أَيْ: لَمْ يَقْتَحِمِ الْعَقَبَةَ، وَهَذَا خَبَرٌ، أَيْ: أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْعَرَبُ تَقُولُ: لَا فعل بِمَعْنى لم يفعل.(5/134)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)
قَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} يَقُوله (ل 394) للنَّبِي [صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم] أَيْ: أَنَّكَ لَمْ تَكُنْ تَدْرِي حَتَّى أعلمتك مَا الْعقبَة(5/134)
فَكُّ رَقَبَةٍ (13)
{فك رَقَبَة} أَيْ: عِتْقُ رَقَبَةٍ مِنَ الرِّقِّ(5/134)
أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
{أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مسغبة} مجاعَة(5/134)
يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15)
{يَتِيما ذَا مقربة} قرَابَة(5/134)
أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)
{أَو مِسْكينا ذَا مَتْرَبَة} يَعْنِي: اللَّاصِقَ بِالتُّرَابِ مِنَ الْحَاجَةِ، فِي تَفْسِير الحَسَن. قَالَ مُحَمَّد: من قَرَأَ {فك رَقَبَة} فَالْمَعْنَى: اقْتِحَامُ الْعَقَبَةِ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ يَحْيَى. وَقَالُوا: تَرَبَ الرَّجُلُ تَرْبًا بِإِسْكَانِ الرَّاءِ إِذَا لَصِقَ بِالتُّرَابِ وَتَرَبَ تَرَبًا بِفَتْحِ الرَّاءِ إِذَا افْتَقَرَ وَأَتْرَبَ إِتْرَابًا إِذَا اسْتَغْنَى. قَالَ الْحَسَنُ: وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنَّ قَوْمًا يَفْعَلُونَ هَذَا الَّذِي ذَكَرَ لَا يُرِيدُونَ(5/134)
الله بِهِ لَيْسُوا بمؤمنين،(5/135)
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)
فَاشْترط فَقَالَ: {ثمَّ كَانَ} (الَّذِي فَعَلَ) هَذَا {مِنَ الَّذِينَ آمنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ} عَلَى مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ وَعَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} بِالتَّرَاحُمِ فِيمَا بَيْنَهُمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (ثمَّ) هَاهُنَا فِي معنى الْوَاو.(5/135)
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)
{أُولَئِكَ أَصْحَاب الميمنة} يَعْنِي: الميامين عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ.
يَحْيَى: عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] : " مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً فَهِيَ فِكَاكُهُ مِنَ النَّارِ ".
يَحْيَى: عَنِ الْجَارُودِ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم] : " أَيُّمَا مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِمًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ من ثمار الْجنَّة ".(5/135)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19)
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ المشئمة} أَصْحَابُ الشُّؤْمِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَهُمْ أَهْلُ النَّارِ {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ}(5/136)
تَفْسِيرُ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تَفْسِير سُورَة الشَّمْس من آيَة 1 - 15(5/137)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)
قَوْله: {وَالشَّمْس وَضُحَاهَا} أَي: وضوئها(5/137)
وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)
{وَالْقَمَر إِذا تَلَاهَا} إِذا تبعها لَيْلَة الْهلَال(5/137)
وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)
{وَالنَّهَار إِذا جلاها} يَعْنِي " ظلمَة اللَّيْل فأذهبها(5/137)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)
{وَاللَّيْل إِذا يَغْشَاهَا} إِذا غشي الشَّمْس فأذهبها(5/137)
وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)
{وَالسَّمَاء وَمَا بناها} أَيْ: وَالَّذِي بَنَاهَا، أَقْسَمَ بِالسَّمَاءِ وبنفسه(5/137)
وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6)
{وَالْأَرْض وَمَا طحاها} أَيْ: وَالَّذِي بَسَطَهَا، يَعْنِي: نَفْسَهُ(5/137)
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)
{وَنَفس وَمَا سواهَا} أَيْ: وَالَّذِي سَوَّاهَا، يَعْنِي: نَفْسَهُ(5/137)
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)
{فألهمها فجورها وتقواها} بَيَّنَ اللَّهُ لَهَا الْفُجُورَ وَالتَّقْوَى(5/137)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)
{قد أَفْلح من زكاها} يَعْنِي: مَنْ زَكَّى اللَّهُ نَفْسَهُ فهداها(5/137)
وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
{وَقد خَابَ من دساها} أَيْ: مَنْ دَسَّى اللَّهُ نَفْسَهُ، أَيْ: أَشْقَاهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: {دَسَّاهَا} أَصْلُ الْكَلِمَةِ (دَسَّسَهَا) فَقُلِبَتِ السِّينُ الْوَاحِدَةُ يَاءً، الْمَعْنَى: جَعَلَهَا قَلِيلَةً خَسِيسَةً.(5/137)
قَالَ يَحْيَى: هَذَا كُلُّهُ قَسَمٌ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْموضع.(5/138)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11)
{كذبت ثَمُود بطغواها} أَيْ: بِطُغْيَانِهَا؛ وَعَلَى هَذَا وَقَعَ الْقسم(5/138)
إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12)
{إِذْ انْبَعَثَ أشقاها} وَهُوَ أَحْمَرُ ثَمُودَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ، وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُهَا فِي سُورَة هود(5/138)
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)
{فَقَالَ لَهُم رَسُول الله} صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ: {نَاقَةَ اللَّهِ وسقياها} أَيْ: اتَّقُوا نَاقَةَ اللَّهِ لَا تمسوها بِسوء وَاتَّقوا (سقياها) شربهَا لَا تمنعوها مِنْهُ(5/138)
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)
{فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} أهلكهم {فسواها} بالعقوبة(5/138)
وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
{وَلَا يخَاف عقباها} أَيْ: لَا يَخَافُ اللَّهُ أَنْ يُتَّبَعَ بِذَلِكَ(5/138)
تَفْسِيرُ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَهِيَ مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة اللَّيْل من آيَة 1 إِلَى آيَة 21](5/139)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)
قَوْله: {وَاللَّيْل إِذا يغشى} إِذَا غَشِيَ النَّهَارَ، فَأَذْهَبَ ضَوْءَهُ(5/139)
وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)
{وَالنَّهَار إِذا تجلى} ظهر(5/139)
وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)
{وَمَا خلق الذّكر} أَيْ: وَالَّذِي خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى - يَعْنِي: نَفْسَهُ - وَهَذَا كُلُّهُ قَسَمٌ(5/139)
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
{إِن سعيكم لشتى} يَعْنِي: سَعْيَ الْمُؤْمِنِ وَسَعْيَ الْكَافِرِ وَهُوَ عَمَلُهُمَا.
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}(5/139)
وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)
{وَصدق بِالْحُسْنَى} بالثواب وَهُوَ الْجنَّة(5/139)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)
{فسنيسره لليسرى} لعمل الْجنَّة.(5/139)
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)
{وَأما من بخل} بِمَا عِنْدَهُ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِهِ إِلَى ربه {وَاسْتغْنى} عَن ربه(5/139)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)
{فسنيسره للعسرى} لعمل النَّار(5/139)
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
{وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى} تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ: إِذَا تَرَدَّى فِي النَّار، وَقيل: تردى: مَاتَ.(5/139)
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)
(إِن علينا للهدى} أَيْ: نُبَيِّنُ لَكُمْ سَبِيلَ الْهُدَى وسبيل الضَّلَالَة.(5/140)
لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15)
{لَا يصلاها إِلَّا الأشقى} لَا يخلدها(5/140)
الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
{الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} كَذَّبَ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَتَوَلَّى عَنْ طَاعَة الله(5/140)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17)
{وسيجنبها الأتقى} يجنب النَّار(5/140)
الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)
{الَّذِي يُؤْتِي مَاله يتزكى} يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى رَبِّهِ؛ تَفْسِيرُ الْحسن: إِن هَذَا تطوع(5/140)
وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19)
{وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تجزى} أَيْ: لَيْسَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِنِعْمَةٍ (ل 395) يجزى بهَا أحدا(5/140)
إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
{إِلَّا ابْتِغَاء} أَيْ: لَيْسَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا ابْتِغَاءَ {وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يرضى} الثَّوَابَ فِي الْجَنَّةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ أَعْتَقَ بِلالًا وَسِتَّةً مَعَهُ.(5/140)
تَفْسِيرُ وَالضُّحَى وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
[تَفْسِير سُورَة الضُّحَى من آيَة 1 إِلَى آيَة 1](5/141)
وَالضُّحَى (1)
قَوْله: {وَالضُّحَى} يَعْنِي: ضُحَى النَّهَارِ وَهُوَ ضَوْؤُهُ(5/141)
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)
{وَاللَّيْل إِذا سجى} إِذَا أَظْلَمَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقِيلَ: سَجَى: سَكَنَ؛ وَذَلِكَ عِنْدَ تَنَاهِي ظَلامِهُ وَرُكُودِهُ.
قَالَ يَحْيَى: وَهَذَا قسم.(5/141)
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} وَهِيَ تُقْرَأُ عَلَى وَجْهَيْنِ {وَدَّعَكَ} مُثَقَّلَةٌ، وَ {وَدَعَكَ} خَفِيفَةٌ؛ فَمَنْ قَرَأَهَا بِالتَّثْقِيلِ يَقُولُ: لَمْ يُوَدِّعْكَ فَيَكُونُ آخِرُ الْفَرَاغِ مِنَ الْوَحْيِ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالتَّخْفِيفِ يَقُولُ: مَا تَرَكَكَ رَبُّكَ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْكَ الْوَحْيُ، وَذَلِكَ أَنَّ جِبْرِيلَ أَبْطَأَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بِالْوَحْيِ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَدْ وَدَّعَهُ رَبُّهُ وَأَبْغَضَهُ!
قَوْلُهُ: {وَمَا قَلَى} أَي: وَمَا أبغضك(5/141)
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)
{وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى}(5/141)
يَعْنِي: من الدُّنْيَا(5/142)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)
{ولسوف يعطيك رَبك} فِي الْجَنَّةِ {فَتَرْضَى}(5/142)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)
{ألم يجدك يَتِيما فآوى}
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقُولُ: وَجَدَكَ يَتِيمًا عِنْدَ أَبِي طَالب فآواك إِلَى خَدِيجَة.(5/142)
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)
{ووجدك ضَالًّا فهدى} كَقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا من أمرنَا} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا الْإِيمَان}(5/142)
وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)
{ووجدك عائلا} أَي فَقِيرا: {فأغنى}
قَالَ مُحَمَّد: جَاءَ عَنِ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {فأغنى} أَيْ: فَرَضَّاكَ بِمَا أَعْطَاكَ مِنَ الرِّزْقِ ذَهَبَ إِلَى غِنَى النَّفْسِ. وَيُقَالُ: عَالَ الرَّجُلُ إِذَا افْتَقَرَ، وأعال إِذْ كثر عِيَاله.(5/142)
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)
{فَأَما الْيَتِيم فَلَا تقهر} لَا تَقْهَرْهُ فَتَمْنَعْهُ حَقَّهُ الَّذِي أَمر الله بِهِ(5/142)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)
{وَأما السَّائِل فَلَا تنهر} أَيْ: لَا تَنْهَرْهُ: إِمَّا أَعْطَيْتَهُ، وَإِمَّا رَددته ردا لينًا.(5/142)
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
{وَأما بِنِعْمَة رَبك} بِالْقُرْآنِ {فَحدث}
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَقُولُ: بَلِّغْ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ وَحَدِّثْ بِالنُّبُوَّةِ وَهِيَ أَجَلُّ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ يَحْيَى.(5/142)
تَفْسِيرُ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم
[تَفْسِير سُورَة الشَّرْح من آيَة إِلَى آيَة 8](5/143)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)
قَوْلُهُ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} يَعْنِي: بِالْإِيمَانِ؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ(5/143)
وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)
{ووضعنا عَنْك وزرك} الْوِزْرُ: الْحِمْلُ، وَهِيَ الذُّنُوبُ الَّتِي كَانَت عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة(5/143)
الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)
{الَّذِي أنقض ظهرك} أَي: أثقله(5/143)
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
{ورفعنا لَك ذكرك} بِالنُّبُوَّةِ.(5/143)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعسر يسرا} بلغنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ قَالَ ((لن يغلب عسر يسرين)) .(5/143)
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)
قَالَ: {فَإِذا فرغت فانصب} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: فَإِذَا فَرَغْتَ مِنَ الصَّلَاة فانصب فِي الدُّعَاء(5/144)
وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
{وَإِلَى رَبك فارغب} تَضَرَّعْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: {فَإِنَّ مَعَ الْعسر يسرا} فَذَكَرَ الْعُسْرَ مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، ثُمَّ ثَنَّى ذِكْرَهُ، فَصَارَ الْمَعْنَى: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرَيْنِ.(5/144)
تَفْسِيرُ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[تَفْسِير سُورَة التِّين من آيَة 1 إِلَى 8](5/145)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)
قَوْله: {والتين وَالزَّيْتُون} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: التِّينُ: جَبَلُ دِمَشْقَ، وَالزَّيْتُون: جبل بَيت الْمُقَدّس(5/145)
وَطُورِ سِينِينَ (2)
{وطور سِنِين} الطُّورُ: الْجَبَلُ، وَسِنِينَ: الْحَسَنُ؛ وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي نَادَى اللَّهُ مِنْهُ مُوسَى؛ فِي تَفْسِير الْحسن.(5/145)
وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)
{وَهَذَا الْبَلَد الْأمين} يَعْنِي: الْآمِنَ يُرِيدُ مَكَّةَ؛ يَقُولُ: إِنَّكُمْ تَأْمَنُونَ فِيهِ مِنَ الْقَتْلِ والسِّبَاءِ، وَالْعَرَبُ تَقْتُلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَسْبِي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَكَانَ هَذَا قبل أَن يُؤمر بِالْقِتَالِ(5/145)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم} فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، أَقْسَمَ بِهَذَا كُلِّهِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْموضع(5/145)
ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)
{ثمَّ رددناه أَسْفَل سافلين} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَعْنِي: بِالْإِنْسَانِ هَاهُنَا الْمُشرك و (أَسْفَل سافلين} يُرِيدُ جَهَنَّمَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قِيلَ: الْمَعْنَى: رَدَدْنَاهُ إِلَى أَمَاكِنَ سَافِلَةٍ، يُقَالُ: سَفُلَ الرَّجُلَ فَهُوَ سَافِلٌ إِذا كَانَ ذليلاً.(5/145)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)
{إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} اسْتَثْنَى مَنْ آمَنَ {فَلَهُمْ أَجْرٌ} أَي:(5/145)
ثَوَاب {غير ممنون} قَالَ الْحَسَنُ: غَيْرُ مَمْنُونٍ عَلَيْهِمْ من أَذَى(5/146)
فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)
{فَمَا يكذبك بعد بِالدّينِ} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: قَالَ: يَقُولُ لِلْمُشْرِكِ: فَمَا يُكَذِّبُكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ بَعْدُ بِالْحِسَابِ يَوْم الْقِيَامَة،(5/146)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
ثُمَّ قَالَ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمين} أَيْ: بَلَى هُوَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ(5/146)
تَفْسِيرُ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
[تَفْسِير سُورَة العلق من آيَة 1 إِلَى آيَة 19]
(ل 396)(5/147)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
قَوْلُهُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خلق} ((أَوَّلُ مَا كَلَّمَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَبَدَّى لَهُ قَالَ لَهُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} .(5/147)
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
قَوْله: {الَّذِي علم بالقلم} وَهُوَ الْكتاب بالقلم.(5/147)
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)
{كلا} قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهَا حَقًا {إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: يَعْنِي: يَرْتَفِعُ مِنْ مَنْزِلَةٍ إِلَى مَنْزِلَةٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: نزلت فِي أبي(5/147)
إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)
جَهْلٍ {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} الْمرجع يَوْم الْقِيَامَة(5/147)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صلى} كَانَ أَبُو جَهْلٍ يَنْهَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاة(5/147)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12)
{أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَو أَمر بالتقوى} وَهُوَ مُحَمَّدٌ، كَانَ عَلَى الْهُدَى وَأمر الْعباد بِطَاعَة الله.(5/147)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)
{أَرَأَيْت إِن كذب وَتَوَلَّى} يَعْنِي: أَبَا جَهْلٍ كَذَّبَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَتَوَلَّى عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ(5/148)
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)
{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} عمله(5/148)
كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15)
{كلا لَئِن لم ينْتَه} أَبُو جهل عَن كفره وتكذبيه {لنسفعن بالناصية} لَنَأْخُذَنَّ بِنَاصِيَتِهِ تَجُرُّهُ الْمَلائِكَةُ بِنَاصِيتَهِ فَتُلْقِيهِ فِي النَّارِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: سَفَعَتَ بِالشَّيْءِ إِذَا قَبَضْتَ عَلَيْهِ وجبذته جبذاً شَدِيدا.(5/148)
فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)
{فَليدع نَادِيه سَنَدع الزَّبَانِيَة} فَلْيَدْعُ أَبُو جَهْلٍ إِذَا دَعَوْنَا بالزبانية خَزَنَةَ النَّارِ فَجَرُّوا بِنَاصِيَتِهِ إِلَى النَّارِ فَلْيَدْعُ حِينَئِذٍ نَادِيَهُ؛ يَعْنِي: عَشِيرَتَهُ وَجُلَسَاءَهُ فَلْيَمْنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَاحِدُ الزَّبَانِيَةِ: زِبْنِيَةٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الزَّبْنِ، وَالزَّبْنُ: الدَّفْعُ؛ كَأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ أَهْلَ النَّارِ إِلَيْهَا.(5/148)
كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
{كلا لَا تطعه} لَا تُطِعْ أَبَا جَهْلٍ فِيمَا؛ يَأْمُرك بِهِ يَقُولُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم {واسجد} أَي: وصل لِرَبِّك {واقترب} وَهُوَ الدُّنُوُّ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ إِذَا كَانَ سَاجِدًا.(5/148)
تَفْسِيرُ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
[تَفْسِير سُورَة الْقدر من آيَة 1 إِلَى آيَة 5](5/149)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)
قَوْلُهُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقدر} تَفْسِيرُ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: ((أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ جَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْزِلُ نُجُومًا ثَلاثَ آيَاتٍ، وَأَرْبَعَ آيَاتٍ، وَخَمْسَ آيَاتٍ، وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: {فَلا أقسم بمواقع النُّجُوم}(5/149)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
قَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ ألف شهر} تَفْسِيرُ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعَمَلُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَا تُوافِقُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ.
يَحْيَى: عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ أَوْ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: ((الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ)) .(5/149)
يَحْيَى، عَنْ فِطْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ قَالَ: ((كَانَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَيُشَمِّرُ فِيهِنَّ لِلصَّلاةِ)) .(5/150)
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
قَوْلُهُ: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذن رَبهم} الرُّوحُ: جِبْرِيلُ؛ فِي تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ {من كل أَمر} يَعْنِي: بِكُلِّ أَمْرٍ؛ فِي تَفْسِيرِ السّديّ(5/150)
سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
{سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} يَعْنِي: هِيَ خَيْرٌ كُلُّهَا إِلَى مَطْلَعِ الْفَجْرِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (الْمَطْلَعُ) بِفَتْحِ اللَّامِ: طُلُوعُ الشَّمْسِ، وَالْمَطْلِعُ بِالْكَسْرِ مِنْ حَيْثُ تَطْلُعْ، وَقَالُوا: الْقَدْرُ وَالْقَدَرُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، يُرِيدُونَ مَا يُقَّدِّرُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ.(5/150)
تَفْسِير لم يكن الَّذِي كَفَرُوا وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
[تَفْسِير سُورَة الْبَيِّنَة من آيَة 1 إِلَى آيَة 8](5/151)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)
قُولُهُ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} أَيْ: مُنْتَهِينَ عَنْ كُفْرِهِمْ {حَتَّى تأتيهم الْبَيِّنَة}(5/151)
رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2)
{رَسُول من الله} وَهُوَ مُحَمَّد صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم {يَتْلُو صحفا} يَعْنِي: الْقُرْآن {مطهرة} من الشّرك وَالْكفْر(5/151)
فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)
{فِيهَا كتب قيمَة} أَيْ: مُسْتَقِيمَةٌ لَا عِوَجَ فِيهَا؛ يَعْنِي: الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ.(5/151)
وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَة}
قَالَ مُحَمَّدٌ: قِيلَ: يَعْنِي: مَا تَفَرَّقُوا فِي مِلَلِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَّلَّمَ إِلَّا أَنْ تَفَطَّنُوا أَنَّهُ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ(5/151)
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
{وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخلصين لَهُ الدّين حنفَاء} وَالْحَنِيفُ فِي تَفْسِيرِ(5/151)
الْحَسَنِ: الْمِخْلِصُ {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاة} أَيْ: يُقِرُّونَ بِهَا {وَذَلِكَ دِينُ الْقيمَة} تَفْسِير السّديّ: الْملَّة المستقيمة(5/152)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)
{أُولَئِكَ هم شَرّ الْبَريَّة} يَعْنِي: الْخَلْقَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَكْثَرُ الْقِرَاءَة (الْبَريَّة) (ل 397) بِلا هَمْزٍ؛ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَاشْتِقَاقِ اللَّفْظَةِ مِنْ: بَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ [ابْتَدَأَهُ] .
يَحْيَى: عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي الْمُهَزَّمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ((الْمُؤْمِنُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ من الْمَلَائِكَة الَّذين عِنْده)) .(5/152)
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
قَوْلُهُ: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنهُ} أَيْ: وَرَضُوا ثَوَابَهُ {ذَلِكَ لِمَنْ خشِي ربه} .(5/152)
تَفْسِيرُ إِذَا زُلْزِلَتِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[تَفْسِير سُورَة الزلزلة من آيَة 2 إِلَى آيه](5/153)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
قَوْلُهُ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} يَعْنِي: تَحَرَّكَتْ مِنْ نَواحِيهَا كُلِّهَا؛ وَذَلِكَ يَوْم الْقِيَامَة(5/153)
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)
{وأخرجت الأَرْض أثقالها} أَلْقَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ(5/153)
وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3)
{وَقَالَ الْإِنْسَان} الْمُشرك: {مَا لَهَا} تحركت؟ !(5/153)
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)
قَالَ اللَّهُ: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} بِمَا أَلْقَتْ مِمَّا كَانَ فِي بَطنهَا من الْأَمْوَات(5/153)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)
{بِأَن رَبك أوحى لَهَا} أَيْ: أَمَرَهَا - فِي تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ - أَنْ تُلْقِيَ مَا فِي بَطْنِهَا.(5/153)
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)
{يَوْمئِذٍ يصدر النَّاس أشتاتا} من بَين يَدي الله؛ أَي: مُخْتَلِفِينَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَبَعْضُهُمْ إِلَى النَّار {ليروا أَعْمَالهم}(5/153)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يره} وزن ذرة(5/153)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يره} فِي عَمَلِ الآخِرَةِ.(5/153)
تَفْسِيرُ الْعَادِيَاتِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا وَقِيلَ: إِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم
[تَفْسِير سُورَة العاديات من آيَة 1 إِلَى آيَة 1](5/154)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)
قَوْله: {وَالْعَادِيات ضَبْحًا} تَفْسِيرُ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الْخَيْلُ، وضبحها: أنفاسها إِذا جرت(5/154)
فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)
{فالموريات قدحا} تُصِيبُ الْحِجَارَةَ بِحَوَافِرِهَا فَتَخْرُجُ مِنْهَا النَّارُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ضَبْحَهَا صَوْتُ أَجْوَافِهَا إِذَا عدت.(5/154)
فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)
قَوْله: {فالمغيرات صبحا} قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الْخَيْلُ تُغِيرُ عَلَى الْعَدُوِّ إِذَا أَصْبَحَتْ.
قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: ((إِنَّ قَوْمًا كَانَ بَينهم وَبَين النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَنَقَضُوهُ - وَهُمْ أَهْلُ فَدَكٍ - فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ خَيْلَهُ فَصَبَّحُوهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} .(5/154)
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)
{فأثرن بِهِ نقعا} تُثِيرُ التُّرَابَ بِحَوَافِرِهَا؛ فِي تَفْسِيرِ الْحسن.
قَالَ مُحَمَّد: النَّقْع: حَقِيقَة فِي اللُّغَةِ الْغُبَارُ. وَقَالَ: (بِهِ) وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ الْمَكَانِ؛ إِذْ فِي الْكَلَام دَلِيل عَلَيْهِ.(5/155)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)
{فوسطن بِهِ جمعا} أَيْ: جَمْعًا مِنَ النَّاسِ أَغَارَتْ عَلَيْهِ؛ يَعْنِي: مِنَ الْعَدُوِّ.
قَالَ مُحَمَّد: معنى (وسطن) : تَوَسَّطْنَ.
قَالَ يَحْيَى: وَهَذَا كُلُّهُ قسم(5/155)
إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)
{إِن الْإِنْسَان لرَبه لكنود} وَهُوَ الْكَفُورُ فِي تَفْسِيرِ الْعَامَّةِ(5/155)
وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)
{وَإنَّهُ على ذَلِك لشهيد} يَعْنِي: عَلَى كُفْرِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ(5/155)
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)
{وَإنَّهُ لحب الْخَيْر} المَال {لشديد} لبخيل(5/155)
أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)
{أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُور} أُخْرِجَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ(5/155)
وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)
{وَحصل مَا فِي الصُّدُور} أَيْ: مُيِّزَ كَقَوْلِهِ: {يَوْمَ تُبْلَى السرائر}(5/155)
إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} لَعَالِمٌ.(5/155)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْقَارِعَةِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[تَفْسِير سُورَة القارعة من آيَة 1 إِلَى آيَة 1](5/156)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)
قَوْلُهُ: {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ} يُعَظِّمُهَا بِذَلِكَ، وَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَقْرَعُ بِالْأَهْوَالِ؛ يُقَالُ: أَصَابَتْهُم قوارع الدَّهْر.(5/156)
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)
{يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} الْمَبْسُوطِ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْفَرَاشُ: مَا تَسَاقَطَ فِي النَّار من البعوض(5/156)
وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)
{وَتَكون الْجبَال كالعهن} كالصوف {المنفوش} وَهُوَ أَضْعَفُ الصُّوفِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَاحِدُ الْعِهْنِ: (عِهْنَةٌ) مِثْلُ صُوفَةٍ وَصُوفٍ.
قَالَ يَحْيَى: وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ (كَالصُّوفِ الْأَحْمَرِ المنفوش) .(5/156)
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6)
{فَأَما من ثقلت مَوَازِينه} وَهُوَ الْمُؤمن(5/156)
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7)
{فَهُوَ فِي عيشة} أَي: معيشة {راضية} قَدْ رَضِيَهَا وَهِيَ الْجَنَّةُ.(5/156)
قَالَ مُحَمَّد: (راضية) مَعْنَاهُ: مُرْضِيَةٌ، وَقَدْ قِيلَ: ذَاتُ رضَا.(5/157)
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8)
{وَأما من خفت مَوَازِينه} وَهُوَ الْمُشرك(5/157)
فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)
{فأمه هاوية} وَالْهَاوِيَةُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ وَهُوَ البَّابُ الْأَسْفَلُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: معنى (أمه) : مَسْكَنه، وَقيل: (أمه) لِمَسْكَنِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي السُّكُونِ إِلَى الْأُمَّهَاتِ.
قَالَ يَحْيَى: عَنِ الْحَسَنُ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَن أَرْوَاحَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى عَشَائِرِكُمْ وَقَرَابَتِكُمْ مِنْ مَوْتَاكُمْ؛ فَإِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ اسْتَقْبَلُوهُ كَمَا يُسْتَقْبَلُ الْبَشِيرُ، فَيَقُولُونَ: دَعُوهُ حَتَّى يَسْكُنَ؛ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ فِي كَرْبٍ وَغَمٍّ فَيَسْأَلُونَهُ (ل 398) عَن الرجل فَإذْ ذَكَرَ خَيْرًا حَمِدُوا اللَّهَ وَاسْتَبْشَرُوا وَقَالُوا: اللَّهُمَّ سَدِّدْهُ، وَإِذَا ذَكَرَ شَرًّا اسْتَغْفَرُوا لَهُ، فَإِذَا سَأَلُوهُ عَنْ إِنْسَانٍ قَدْ مَاتَ قَبْلَهُ قَالَ: أَيْهَاتُ مَاتَ ذَلِكَ قَبْلِي أَمَا مَرَّ بِكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ بِئْسَتِ الْأُمِّ وَبِئْسَتِ الْمُرَبِّيَةِ فَمَا يَزَالُونَ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى يَقُولُونَ: هَلْ تَزَوَّجَ فُلانٌ؟ هَلْ تَزَوَّجَتْ فُلانَةٌ؟)) .(5/157)
تَفْسِيرُ سُورَةِ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ وَهِيَ مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
[تَفْسِير سُورَة التكاثر من آيَة 1 إِلَى آيَة 8](5/158)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)
قَوْله: {أَلْهَاكُم التكاثر} أَي فِي: الدُّنْيَا عَنِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ التَّكَاثُرُ فِي الْمَالِ وَالْولد(5/158)
حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)
{حَتَّى زرتم الْمَقَابِر} أَيْ: حَتَّى مُتُّمْ.
يَحْيَى: عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ ((أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَهُ يَقْرَأُ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِر} فَقَالَ: يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَمَا لَكَ مِنْ مَالِكَ يَا ابْن آدَمَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ،(5/158)
أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فأمضيت)) .(5/159)
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
{كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوف تعلمُونَ} وَهَذَا وعيداً بعد وَعِيد(5/159)
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)
{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِين} أَيْ: أَنَّ عِلْمَكُمْ لَيْسَ بِعِلْمِ الْيَقِينِ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ وَأَنَّ عِلْمَ الْمُؤمنِينَ هُوَ علم الْيَقِين(5/159)
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)
{لترون الْجَحِيم}
قَالَ محمدٌ: الِاخْتِيَار فِي الْقِرَاءَة {لترون} بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْوَاوِ غَيْرِ مَهْمُوزَة.(5/159)
ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)
{ثمَّ لترونها عين الْيَقِين} يَعْنِي: بالمعاينة(5/160)
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}
يَحْيَى: عَنْ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((ثَلاثٌ لَيْسَ لَكَ مِنْهُنَّ بُدٌّ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ فِيهِنَّ تَبِعَةٌ: بَيْتٌ يُكِنُّكَ، وَثَوْبٌ تُوَارِي بِهِ عَوْرَتَكَ، وَطَعَامٌ تُقِيمُ بِهِ صُلْبَكَ(5/160)
تَفْسِيرُ سُورَةِ وَالْعَصْرِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[تَفْسِير سُورَة الْعَصْر من آيَة 1 إِلَى آيَة 3](5/161)
وَالْعَصْرِ (1)
قَوْله: {وَالْعصر} يَعْنِي: عَصْرَ النَّهَارِ؛ وَهُوَ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى اللَّيْلِ وَهُوَ قسم(5/161)
إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
{إِن الْإِنْسَان لفي خسر} من الْجنَّة،(5/161)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنَ النَّاسِ فَقَالَ: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} بِالتَّوْحِيدِ {وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ} عَلَى الْفَرَائِضِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَالْعَصْرُ أَيْضًا لَيْلَةٌ، وَالْيَوْمُ عَصْرٌ أَيْضًا. قَالَ الشَّاعِرُ
(وَكُنْ يَلْبَثَ الْعَصْرَانِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ... إِذَا طَلَبَا أَنْ يُدْرِكَا مَا تَيَمَّمَا)
وَالدَّهْرُ عَصْرٌ أَيْضًا.(5/161)
تَفْسِيرُ سُورَةِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الْهمزَة من آيَة 1 - 9(5/162)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)
قَوْلُهُ: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} وَهُوَ الَّذِي يَطْعَنُ عَلَى النَّاسِ(5/162)
الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)
{الَّذِي جمع مَالا وعدده} وَهِي تقْرَأ على وَجْهَيْن بالتثقيل وَالتَّخْفِيفِ، فَمَنْ قَرَأَهَا بِالتَّثْقِيلِ يَقُولُ: أَحْصَى عَدَدَهُ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالتَّخْفِيفِ يَقُول: أعده(5/162)
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)
{يحْسب أَن مَاله أخلده} أَيْ: يَحْسَبُ أَنَّهُ يُخَلِّدُ فِيهِ حَيَاته(5/162)
كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
{كلا لينبذن} ليرمين بِهِ {فِي الحطمة} وَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ(5/162)
الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)
{الَّتِي تطلع على الأفئدة} يَقُولُ: تَأْكُلُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْفُؤَادِ، فَيَصِيحُ الْفُؤَادُ، ثُمَّ يُجَدَّدُ خَلْقَهُمْ، ثُمَّ تأكلهم أَيْضا حَتَّى يتنهى إِلَى الْفُؤَاد(5/162)
إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8)
{إِنَّهَا عَلَيْهِم موصدة} مطبقة(5/162)
فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
{فِي عمد ممددة} قَالَ قَتَادَةُ: لَهَا عَمَدٌ هِيَ مُمَدَّدَةٌ بِهَا.(5/162)
تَفْسِيرُ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ وَهِيَ مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الْفِيل من آيَة 1 - 4(5/163)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
قَوْله: {ألم تَرَ} تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ يَعْنِي: أَلَمْ تُخْبَرْ {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ هَذَا خَبَرٌ أَخْبَرَ اللَّه بِهِ النَّبي [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم] وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ أَهْلَ الْحَرَمِ هَدَمُوا كَنِيسَةً لِلْحَبَشَةِ وَهُمْ نَصَارَى فَقَالَ أَبْرَهَةُ بْنُ الصَّبَّاحِ: لَنَهْدِمَنَّ كَعْبَةَ الْعَرَبِ كَمَا هَدَمُوا كَنِيسَتِنَا وَكَانَ أَبْرَهَةُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ مَلَّكَتْهُ الْحَبَشَةُ عَلَيْهِمْ فَبَعَثَ بِالْفِيلِ وَبِالْجُنُودِ فَجَاءَ حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى الْحَرَمِ أَلْقَى بِجِرَانِهِ فَسَقَطَ فَوَجَّهُوهُ نَحْوَ مَنَازِلهِمْ فَذَهَبَ يَسْعَى فَإِذَا وُجِّهَ نَحْوَ الْحَرَمِ أَلْقَى بجرانه (ل 399) وَلَمْ يَتَحَرَّكْ وَإِذَا وُجِّهَ نَحْوَ مَنَازِلِهِمْ ذَهَبَ يَسْعَى.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْجِرَانُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: مَا بَين النَّحْر والصدر.(5/163)
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)
قَوْلُهُ: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تضليل} أَي: فِي ذهَاب(5/163)
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)
{وَأرْسل عَلَيْهِم طيرا أبابيل} تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ: الْأَبَابِيلُ: الزُّمْرُ زُمْرَةٌ مُتَتَابِعَةً.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَاحِدُ الْأَبَابِيلِ: إِبَالَةٌ، وَقَدْ قِيلَ: لَا وَاحِدَ لَهَا.(5/163)
تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
{ترميهم بحجارة من سجيل} أَيْ: مِنْ طِينٍ.(5/163)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَدْ جَاءَ لِابْنِ عَبَّاس أَن السجيل: الآجد.
قَالَ يَحْيَى: كَانَ مَعَ الطَّائِرِ مِنْهَا ثَلاثَةُ أَحْجَارٍ: حَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ، وَحَجَرٌ فِي فِيهِ، فَكَانَ إِذَا وَقَعَ الْحَجَرُ مِنْهَا عَلَى رَأْسِ أَحَدِهِمْ ثَقَبَهُ حَتَّى يَسْقُطَ من دبره.(5/164)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
{فجعلهم كعصف مَأْكُول} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: الْعَصْفُ: وَرَقُ الزَّرْعِ، وَالْمَأْكُولُ: الَّذِي قَدْ أَخْرَقَهُ الدُّودُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْبَقْلِ.(5/164)
تَفْسِيرُ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تَفْسِير سُورَة قُرَيْش من آيَة 1 - 4(5/165)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)
قَوْلُهُ: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ} {إِيلافِهِمْ} تعودهم {رحْلَة الشتَاء والصيف} تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ: كَانَتْ لَهُمْ رِحْلَةٌ فِي الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ، لِأَنَّهَا حَارَّةٌ، وَأُخْرَى فِي الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ، لِأَنَّهَا بَارِدَةٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقيل {لِإِيلَافِ} مَصْدَرُ أَلَفْتُ تَقُولُ: أَلَفْتُ فُلانًا كَذَا إِيلافًا كَمَا تَقُولُ: أَلْزَمْتُهُ إِيَّاهُ إِلْزَامًا، الْمَعْنَى فَعَلَ هَذَا بِأَصْحَابِ الْفِيلِ لْيُؤْلِفَ قُرَيْشًا هَاتَيْنِ الرحلتين، فتقيم بِمَكَّة.(5/165)
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أطْعمهُم من جوع} وَهُوَ مَا كَانَ أَصَابَهُمْ يَوْمَئِذٍ مِنَ الشِّدَّةِ {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} وَهُوَ الْأَمْنُ الَّذِي كَانَ فِيهِ أَهْلِ الْحَرَمِ وَأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ، بَعْضًا وَهُمْ آمِنُونَ مِمَّا فِيهِ الْعَرَبُ(5/165)
تَفْسِيرُ سُورَةِ أَرَأَيْتَ الَّذِي وَهِيَ مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الماعون من آيَة 1 - 7(5/166)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
قَوْلُهُ: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} بِالْحِسَابِ، وَهُوَ الْمُشْرِكُ لَا يُقِرُّ بِالْبَعْثِ(5/166)
فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)
{فَذَلِك الَّذِي يدع الْيَتِيم} يَدْفَعهُ عَن حَقه(5/166)
وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)
{وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أطْعمهُ} .(5/166)
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
{فويل للمصلين} وهم المُنَافِقُونَ(5/166)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)
{الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: هُوَ الْمُنَافِقُ، إِنْ صَلَّاهَا لِوَقْتِهَا لَمْ يَرْجُ ثَوَابَهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا لَمْ يَخْشَ عِقَابَهَا(5/166)
الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)
{الَّذين هم يراءون} لَا يُصَلُّونَهَا فِي السِّرِّ، وَيُصَلُّونَهَا فِي الْعَلانِيَةِ يُرَاءُونَ بِذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ(5/166)
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
{وَيمْنَعُونَ الماعون} تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ: الْمَاعُونُ: الْقِدْرُ وَالدَّلْوُ وَالرَّحَى وَالْفَأْسُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.(5/166)
تَفْسِيرُ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ وَهِيَ مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الْكَوْثَر من آيَة 1 - 3(5/167)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
قَوْلُهُ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}
يَحْيَى: عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم] : " بَيْنَمَا أَنَا فِي الْجَنَّةِ إِذَا بِنَهْرٍ حَافَّتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ الْمُجَوَّفِ، فَضَرَبْتُ بِيَدِي إِلَى الْمَاءِ فَإِذَا مِسْكٌ أَذْفَرُ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاك الله ".(5/167)
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
{فصل لِرَبِّك وانحر} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ يَقُولُ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ صَلاةَ الْعِيدِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَانْحَرْ يَوْم النَّحْر {إِن شانئك} مبغضك {هُوَ الأبتر} قَالَ الْكَلْبِيُّ: " إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَّلَّمَ] خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ دَاخِلٌ الْمَسْجِدِ فَالْتَقَيَا عِنْدَ الْبَابِ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ لِلْعَاصِ: مَنِ الَّذِي اسْتَقْبَلَكَ عِنْدَ الْبَابِ؟ فَقَالَ: ذَلِكَ الأبتر.(5/168)
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} وَقَالَ: لَا أُذْكَرُ إِلَّا ذُكِرْتَ مَعِي، وَأَمَّا عَدُوُّ اللَّهِ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ فَأَبْتِرُ ذِكْرَهُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، فَلا يُذْكَرُ بِخَيْرٍ أَبَدًا ".
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ الْأَبْتَرُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي مَنْ كَانَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ فَمَاتَ الْبَنُونُ وَبَقِيَ الْبَنَاتُ: أَبْتَرُ كَذَلِكَ رَأَيْتُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ(5/168)
تَفْسِيرُ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الْكَافِرُونَ من آيَة 1 - 6(5/169)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)
قَوْله: {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} من الْأَوْثَان(5/169)
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)
{وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أَيْ:: إِنَّكُمْ تَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَلا تَعْبدُونَ الله(5/169)
وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)
{وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} من الْأَوْثَان(5/169)
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
{وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أَي: أَنكُمْ تَعْبدُونَ الْأَوْثَان(5/169)
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
{لكم دينكُمْ} الْكفْر {ولي دين} الإِسْلامُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " اجْتَمَعَ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا الْفَضْلِ، لَوْ أَنَّ ابْنَ أَخِيكَ اسْتَلَمَ بَعْضَ آلِهَتِنَا لَصَدَّقْنَاهُ فِيمَا يَقُولُ وَلَآمَنَّا بِإِلَهِهِ قَالَ: فَأَتَى الْعَبَّاسُ إِلَى النَّبِيِّ فَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ السُّورَةِ فَغَدَا بِهَا رَسُولُ الله إِلَى جَمَاعَةِ قُرَيْشٍ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ.(5/169)
تَفْسِيرُ سُورَةِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة النَّصْر من آيَة 1 - 3(5/170)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)
قَوْلُهُ ": {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} إِلَى قَوْله {أَفْوَاجًا} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مَكَّةَ قَالَتِ الْعَرَبُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَيْسَ لَكُمْ بِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ يَدَانِ. فَجَعَلُوا يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، أَيْ: قبائل قبائل.(5/170)
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} قَالَ الْكَلْبِيُّ: فَعِنْدَ ذَلِكَ نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَقِيلَ: اعْلَمْ أَنَّكَ سَتَمُوتُ عِنْدَ ذَلِكَ.(5/170)
تَفْسِيرُ تَبَّتْ يَدَا وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تَفْسِير سُورَة المسد من آيَة 1 - 5(5/171)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
قَوْلُهُ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} أَي: خسرت(5/171)
مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)
{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كسب} يَعْنِي: وَلَدَهُ أَيْ: إِذَا صَارَ إِلَى النَّارِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَبُو لَهَبٍ اسْمُهُ: عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكُنْيَتُهُ: أَبُو عُتْبَةَ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: أَبُو لَهَبٍ - فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ - لِأَنَّ وَجهه كَانَ يتلهب جمالاً.(5/171)
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
{وَامْرَأَته حمالَة الْحَطب} تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ: كَانَتْ تَضَعُ الشَّوْكَ عَلَى طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ {حَمَّالَةُ} بِالرَّفْعِ فَعَلَى مَعْنَى: سَيَصْلَى هُوَ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ، حَمَّالَةُ نَعْتٌ لَهَا، وَمن قَرَأَهَا بِالنّصب {حمالَة} فَنَصْبُهُ عَلَى الذَّمِّ أَعْنِي: حَمَّالَةَ الْحَطب.(5/171)
فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
{فِي جيدها} عُنُقهَا {حَبل من مسد} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: الْمَسَدُ: خُيُوطٌ صُفْرٌ وَحُمْرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِي عُنُقِهَا قِلادَةٌ فِيهَا وَدَعَاتٌ فِي مَسَدٍ.(5/171)
تَفْسِيرُ سُورَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الْإِخْلَاص من آيَة 1 - 4.(5/172)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)
قَوْلُهُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يَعْنِي: الْوَاحِد(5/172)
اللَّهُ الصَّمَدُ (2)
{الله الصَّمد} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: الصَّمَدُ: البَّاقِي، وَتَفْسِيرُ بَعْضِهِمُ الصَّمَدُ السَّيِّدُ الَّذِي قَدِ انْتهى سؤدده.(5/172)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ كُفُوًا لَهُ (أَيْ: مِثْلٌ وَشِبْهٌ) .
تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: " إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : انْسِبْ لَنَا رَبَّكَ وَصِفْهُ فَأَنَزْلَ الله هَذِه السُّورَة ".(5/172)
صفحة فارغة(5/173)
تَفْسِيرُ سُورَةِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ قَتَادَةَ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ مَدَنِيَّةٌ
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة الفلق من آيَة 1 - 5.(5/174)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)
{قل أعوذ بِرَبّ الفلق} تَفْسِيرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: " الفلق: سجن فِي جَهَنَّم ".(5/174)
وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)
{وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ: يَعْنِي: اللَّيْلَ إِذَا أطبق الْأُفق بظلمته(5/174)
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} هِيَ السَّوَاحِرُ، يَنْفُثْنَ فِي الْعُقَدِ للسحر(5/174)
وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
{وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} .
يَحْيَى: عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " عَمُّوا هَذَا الْحَسَدِ بَيْنَكُمْ، فَإِنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ يَعْرِضُ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِضَائِرٍ عَبْدًا لَمْ يَعْدِ بِلِسَانٍ أَوْ يَدٍ ".(5/174)
تَفْسِيرُ سُورَةِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ قَتَادَةَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ هِيَ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مُعَوِّذَتَيْنِ لِلنَّبِيِّ حِينَ سَحَرَتْهُ الْيَهُودُ.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تَفْسِير سُورَة النَّاس من آيَة 1 - 6.(5/175)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)
قَوْلُهُ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} إِلَى قَوْله {الخناس} قَالَ قَتَادَةُ: الشَّيْطَانُ جَاثِمٌ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِذَا ذُكِرَ الله خنس.(5/175)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ من الْجنَّة} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي: الَّذِي هُوَ من الْجِنّ. قَوْله {وَالنَّاس}(5/175)
قَالَ يَحْيَى: وَمِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْإِنْس.(5/176)