قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَهْلَكَ إِلا من سبق عَلَيْهِ القَوْل} الْغَضَبُ؛ يَعْنِي: ابْنَهُ {وَمَنْ آمَنَ} أَيْ: وَاحْمِلْ مَنْ آمَنَ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا آمَنَ مَعَه إِلَّا قَلِيل} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: ثَمَانِينَ نَفْسًا؛ أَرْبَعُونَ رَجُلا، وَأَرْبَعُونَ امْرَأَةً.
قَالَ قَتَادَةُ:. لمْ يَنْجُ فِي السَّفِينَةِ إِلا نوحٌ وَامْرَأَتُهُ وَثَلاثَةُ بَنِينَ لَهُ: سامٌ وحامٌ وَيَافِثٌ؛ وَنِسَاؤُهُمْ؛ فَجَمِيعهمْ ثمانيةٌ.
سُورَة هود من الْآيَة (41) إِلَى الْآيَة (45) .(2/290)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مجْراهَا وَمرْسَاهَا} قَالَ قَتَادَةُ: قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - كُلَّ مَا تَقُولُونَ؛ إِذَا رَكِبْتُمْ فِي الْبَرِّ، وَإِذَا رَكِبْتُمْ فِي الْبَحْرِ؛ إِذَا رَكِبْتُمْ فِي الْبَرِّ قَلْتُمْ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين} وَإِذَا رَكِبْتُمْ فِي الْبَحْرِ قُلْتُمْ: {بِسم الله مجْراهَا وَمرْسَاهَا} .
قَالَ مُحَمَّد: من قَرَأَ: {باسم اللَّهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} بِضَمِّ الْمِيمَيْنِ جَمِيعًا فَمَعْنَى ذَلِكَ: بِاللَّهِ إِجْرَاؤُهَا، وَبِاللَّهِ إِرْسَاؤُهَا؛ يُقَالُ: جَرَتِ السَّفِينَةُ(2/290)
وَأَجْرَيْتُهَا أَنَا مَجْرًى وَإِجْرَاءً فِي مَعْنَى واحدٍ، وَرَسَتْ وَأَرْسَيْتُهَا مَرْسًى وإرساءً.(2/291)
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
{قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ} يَعْنِي: الَّذِينَ كَانُوا فِي السَّفِينَةِ.
قَالَ محمدٌ: {لَا عَاصِم} فِي مَعْنَى: لَا مَعْصُومَ؛ كَمَا قَالُوا: مَاءٌ [دَافِقٌ] بِمَعْنَى مَدْفُوقٌ.(2/291)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
{وغيض المَاء} أَيْ: نَقَصَ.
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: غَاضَ الْمَاءُ يَغِيضُ إِذَا غَابَ فِي الأَرْض.
وَقَرَأَ بَعضهم (غيض الْمَاءُ) بِإِشْمَامِ الضَّمِّ فِي الْغَيْنِ، وَمَنْ قَرَأَ بِهَذَا أَرَادَ الأَصْلَ فُعِلَ، وَمَنْ كَسَرَ فَلِلْيَاءِ الَّتِي بَعْدَ فَاءِ الْفِعْلِ.
{وَقُضِيَ الأَمْرُ} فُرِغَ مِنْهُ؛ يَعْنِي: هَلاكَ قَوْمِ نوح.
{واستوت على الجودي} جَبَلٌ بِالْجَزِيرَةِ.
قَالَ قَتَادَةُ:
وَبَلَغَنِي أَنَّ السَّفِينَةَ لَمَّا أَرَادَتْ أَنْ تَقِفَ، تَطَاوَلَتْ لَهَا الْجِبَالُ كُلُّ جبلٍ مِنْهَا يُحِبُّ أَنْ تَقِفَ عَلَيْهِ، وَتَوَاضَعَ الْجُودِيُّ، فَجَاءَتْ حَتَّى وَقَفَتْ عَلَيْهِ، وَأَبْقَاهَا اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عِبْرَةً وَآيَةً حَتَّى نَظَرَ إِلَيْهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الأُمَّةِ،(2/291)
وَبَلَغَنِي أَنَّهَا اسْتَقَلَّتْ بِهِمْ فِي عَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ رَجَبَ، وَكَانَتْ فِي الْمَاءِ خَمْسِينَ وَمِائَةِ يَوْمًا، وَاسْتَقَرَّتْ بِهِمْ عَلَى الْجُوْدِيِّ شَهْرًا، وأهبطوا إِلَى الأَرْض فِي عشر خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ.
قَالَ قَتَادَةُ:
وذُكِرَ لَنَا أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ بَعَثَ الْغُرَابَ لِيَنْظُرَ إِلَى الْمَاءِ؛ فَوَجَدَ جِيفَةً فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ [الْحَمَامَةَ] فَأَتَتْهُ بِوَرَقِ زَيْتُونٍ، فَأُعْطِيَتِ الطَّوْقُ الَّذِي فِي عُنُقهَا وخضاب رِجْلَيْهَا.
سُورَة هود من الْآيَة (46) إِلَى الْآيَة (48) .(2/292)
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ من أهلك} الَّذِينَ وَعَدْتُكَ أَنْ أُنَجِّيَهُمْ، وَكَانَ (ابْنُهُ) يُظْهِرُ الإِيمَانَ وَيُسِرُّ الشِّرْكَ، ونوحٌ لَا يَعْلَمُ؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ. قَالَ الْحَسَنُ: وَلَوْلا ذَلِكَ لمْ يُنَادِهِ؛ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - مُغْرِقٌ الْكُفَّارَ، وَأَنَّهُ قَضَى أَنَّهُ إِذَا نَزَلَ الْعَذَابُ عَلَى قومٍ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ ثُمَّ آمَنُوا، لمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ.
{إِنَّه عمل غير صَالح} يَقُولُ: إِنَّ سُؤَالَكَ إِيَّايَ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ علمٌ عَمَلٌ غير صَالح (ل 147) {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ علم} قَالَ الْحَسَنُ أَيْ: أَنَّكَ لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ مَا يُسِرُّ مِنَ النِّفَاقِ.(2/292)
يحيى: عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حوشبٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ الأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ: {إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ} ".(2/293)
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
{قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ منا} يَعْنِي: سَلامَةً مِنَ الْغَرَقِ.
{وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} يَعْنِي: نُسُولَ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَة {وأمم سنمتعهم} فِي الدُّنْيَا يَعْنِي: أُمَمًا مِنْ نُسُولَ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَة.
سُورَة هود من الْآيَة (49) إِلَى الْآيَة (52) .(2/294)
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْك} يَقُول للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ انْقَضَتْ قِصَّةُ نُوحٍ: تِلْكَ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ، يَعْنِي: مَا قَصَّ عَلَيْهِ {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْت وَلَا قَوْمك} يَعْنِي: قُريْشًا {من قبل} هَذَا الْقُرْآن {فاصبر} عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّكَ مجنونٌ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانُوا يَقُولُونَهُ لَهُ.(2/294)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)
{وَإِلَى عَاد أَخَاهُم هودا} يَقُولُ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى عادٍ أَخَاهُمْ هُودًا، أَخُوهُمْ فِي النَّسَبِ، وَلَيْسَ بِأَخِيهِمْ فِي الدِّينِ.(2/294)
{فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} وَحِّدُوا اللَّهَ {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مفترون} كُلُّ مَنْ عَبْدَ غَيْرَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - فَقَدِ افْتَرَى الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - لأَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَمَرَ الْعِبَادَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.
قَالَ محمدٌ: (غَيْرُهُ) مرفوعٌ عَلَى مَعْنَى: مَا لكم إِلَه غَيره.(2/295)
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
{يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا} أَيْ: يُوَسِّعُ لَكُمْ مِنَ الرَّزْقِ، وَإِنَّمَا أَرْزَاقُ الْعِبَادِ مِنَ الْمَطَرِ.
قَالَ محمدٌ: معنى (مدراراً} الْمُبَالَغَةُ، وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ؛ كَأَنَّهُ قَالَ: يُرْسِلُ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ دَارَّةً.
وَذكر بعض المفسدين: أَنَّهُ كَانَ أَصَابَهُمْ جدبٌ.
{وَيَزِدْكُمْ قُوَّة إِلَى قوتكم} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي شِدَّةً إِلَى شدتكم أَي: فِي أبدانكم.
سُورَة هود من الْآيَة (53) إِلَى الْآيَة (57) .(2/295)
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)
{إِنَّه نقُول إِلَّا اعتراك} أَصَابَك {بعض آلِهَتنَا بِسوء} أَيْ: بِجُنُونٍ؛ لأَنَّكَ عِبْتَهَا؛ يَعْنُونَ: أوثانهم {فكيدوني جَمِيعًا} أَنْتُمْ وَأَوْثَانُكُمْ - أَيْ: اجْهَدُوا جُهْدَكُمْ(2/296)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)
{ثمَّ لَا تنْظرُون} طَرْفَةَ عَيْنٍ؛ إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - سَيَمْنَعُنِي مِنْكُمْ؛ قَالَ هَذَا وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الأَوْثَانَ لَا تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَكِيدَ، وَأَنَّهَا لَا تضر وَلَا تَنْفَع(2/296)
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخذ بناصيتها} أَيْ: هِيَ فِي قَبْضَتِهِ وَقُدْرَتِهِ.
سُورَة هود من الْآيَة (58) إِلَى الْآيَة (60) .(2/296)
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
{وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أَيْ: وَاتَّبَعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى الْكُفْرِ، وَالْعَنِيدُ: الْمُجْتَنِبُ لِلْهُدَى الْمُعَانِدُ لَهُ.
قَالَ محمدٌ: الْعَنِيدُ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ: الْجَائِرُ، وَالْعِنْدُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الْجَانِبُ، فَقِيلَ لِلْجَائِرِ: عنيدٌ مِنْ هَذَا؛ لأَنَّهُ مجانبٌ لِلْقَصْدِ.(2/296)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
{وَاتبعُوا} أُلْحِقُوا {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} يَعْنِي: الْعَذَابُ الَّذِي عَذَّبَهُمْ بِهِ {وَيَوْم الْقِيَامَة} أَيْ: وَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْضًا لَعْنَةً؛ يَعْنِي: عَذَابَ جَهَنَّمَ {أَلا بعدا لعاد قوم هود} .
قَالَ مُحَمَّد: (بعدا) نصبٌ عَلَى مَعْنَى: أَبْعَدَهُمُ اللَّهُ، فَبَعِدُوا بُعْدًا؛ أَيْ: مِنْ رَحْمَةِ الله(2/296)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
{هُوَ أنشأكم من الأَرْض} يُرِيد الْخلق الأول خلق آدم {واستعمركم فِيهَا} أَيْ: جَعَلَكُمْ عُمَّارَهَا {إِنَّ رَبِّي قريب مُجيب} قريبٌ مِمَّنْ دَعَاهُ، مُجِيبٌ لَهُ.
سُورَة هود من الْآيَة (61) إِلَى الْآيَة (68) .(2/297)
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
{قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مرجوا قبل هَذَا} أَيْ: كُنَّا نَرْجُو أَلا تَشْتُمَ آلِهَتَنَا، وَلا تَعْبُدَ غَيْرَهَا.
{وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مريب} من الرِّيبَة.(2/297)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
{فَمَا تزيدونني غير تخسير} نُقْصَانٍ؛ إِنْ أَجَبْتُكُمْ إِلَى مَا تدعونني إِلَيْهِ.(2/297)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)
{وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لكم آيَة} قَالَ مُحَمَّدٌ: نَصْبُ (آيَةٍ) عَلَى الْحَالِ؛(2/297)
كَأَنَّهُ قَالَ: انْتَبِهُوا لَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ.
{وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} أَيْ: لَا تَعْقِرُوهَا {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قريب}(2/298)
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
{فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوب} فَقَالُوا لَهُ: مَا آيَةُ ذَلِكَ حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّكَ صَادِقٌ؟ فَقَالَ: آيَةُ ذَلِكَ أَنْ وُجُوهَكُمْ تُصْبِحُ أَوَّلَ يَوْمٍ مُصْفَرَّةً، وَالْيَوْمُ الثَّانِي مُحْمَرَّةً، وَالْيَوْمُ الثَّالِثُ مُسْوَدَّةً، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ عَرَفُوا أَنَّهُ الْعَذَابُ، فَتَحَنَّطُوا وَتَكَفَّنُوا، فَلَمَّا أَمْسَوْا بَقَوْا فِي [ ... ] ثُمَّ صَبَّحَهُمُ الْعَذَابُ فِي الْيَوْم الرَّابِع.(2/298)
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)
قَالَ: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} (ل 148) قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: صَيْحَةَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جاثمين} أَي: قد هَلَكُوا.(2/298)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
{كَأَن لم يغنوا فِيهَا} أَيْ: لمْ يَعِيشُوا.
قَالَ محمدٌ: وَقيل كَأَن لم ينزلُوا فِيهَا.
سُورَة هود من الْآيَة (69) إِلَى الْآيَة (73) .(2/298)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} قَالَ قَتَادَةُ: بِإِسْحَاقَ {قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلام}(2/298)
قَالَ محمدٌ: (سَلامًا) منصوبٌ عَلَى مَعْنَى: سَلَّمْنَا سَلامًا، وَأَمَّا (سلامٌ) فمرفوعٌ عَلَى مَعْنَى: أَمْرِي سلامٌ.
{فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حنيذ} مشوي(2/299)
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)
{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نكرهم} أنكرهم {وأوجس مِنْهُم خيفة} أَيْ: أَضْمَرَ خَوْفًا إِذْ لَمْ يَأْكُلُوا {فَقَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قوم لوطٍ} لنهلكهم(2/299)
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
{وَامْرَأَته قَائِمَة} يَعْنِي: سَارَةَ امْرَأَةَ إِبْرَاهِيمَ {فَضَحِكَتْ} قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا رَأَتْ سَارَةُ فَرَقَ إِبْرَاهِيمَ عَجِبَتْ مِنْ فَرَقِهِ، فَضَحِكَتْ وَهِيَ لَا تَدْرِي مَنِ الْقَوْمِ، فَبَشَّرُوهَا بِإِسْحَاقَ، وَقَالُوا: نَرْجِعُ إِلَيْكِ عَامًا قَابِلا، وَقَدْ وَلَدْتِ لإِبْرَاهِيمَ غُلامًا اسْمُهُ: إِسْحَاقُ، وَيَكُونُ مِنْ وُرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ؛ أَيْ: من بعد إِسْحَاق.(2/299)
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
{قَالَت يَا ويلتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيخا} وَكَانَتْ قَدْ قَعَدَتْ عَنِ الْوَلَدِ {إِنَّ هَذَا لشيءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ من أَمر الله رَحْمَة اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّه حميدٌ مجيد} مستحمدٌ إِلَى خَلْقِهِ، مجيدٌ كريمٌ.
قَالَ محمدٌ: مَنْ قَرَأَ (يَعْقُوبُ) بِالرَّفْعِ فَعَلَى مَعْنَى: وَيَعْقُوبُ يَحْدُثُ لَهَا مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ، وَمَنْ قَرَأَ: (هَذَا بعلي شَيخا) فَعَلَى الْحَالِ؛ الْمَعْنَى:(2/299)
انْتَبِهُوا لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ.
سُورَة هود من الْآيَة (74) إِلَى الْآيَة (76) .(2/300)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} الْفرق {وجاءته الْبُشْرَى} بِإِسْحَاقَ {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} قَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ مُجَادَلَتَهُ إِيَّاهُمْ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ فِيهِمْ خَمْسُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَمُعَذِّبُوهُمْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: لَا. حَتَّى صَارَ ذَلِكَ إِلَى عَشَرَةٍ، قَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ فِيهِمْ عشرةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَمُعَذِّبُوهُمْ أَنْتُم؟ قَالُوا: لَا.(2/300)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} الْمُنِيبُ: الْمُخْلِصُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الأَوَّاهُ قبل هَذَا.(2/300)
يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
{يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} قَالَ الْكَلْبِيُّ: سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ أَلا يُهْلِكَ لَوْطًا وَأَهْلَهُ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْ قَوْمِ لوطٍ، فَقِيلَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَعْرِضْ عَنْ هَذَا {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} .
سُورَة هود من الْآيَة (77) إِلَى الْآيَة (83) .(2/300)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بهم} قَالَ الْحَسَنُ: سَاءَهُ دُخُولُهُمْ؛ لِمَا تَخَوَّفَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهِ {وَضَاقَ بهم ذرعاً} قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمْ يَدْرِ أَيْنَ يُنْزِلَهُمْ.
قَالَ: وَكَانَ قَوْمُ لوطٍ لَا يُؤْوُنَ ضَيْفًا بليلٍ، وَكَانُوا يَعْتَرِضُونَ مَنْ مَرَّ بِالطَّرِيقِ نَهَارًا لِلْفَاحِشَةِ، فَلَمَّا جَاءَتِ الْمَلائِكَةُ لُوطًا حِينَ أَمْسَوْا، كَرِهَهُمْ وَلَمْ يَسْتَطِعْ دَفْعَهَمْ، فَقَالَ: {هَذَا يومٌ عصيبٌ} شديدٌ.(2/301)
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
{وجاءه قومه يهرعون إِلَيْهِ} أَيْ: يُسْرِعُونَ.
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: أُهْرِعَ الرَّجُلُ؛ أَيْ: أَسْرَعَ؛ عَلَى لَفْظِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} يَعْنِي: يَأْتُونَ الرِّجَالَ فِي أَدْبَارِهِمْ؛ وَكَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، إِنَّمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ بِالْغُرَبَاءِ {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هن أطهر لكم} أَحَلُّ لَكُمْ مِنَ الرِّجَالِ، قَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَزَوَّجُوا النِّسَاءَ.
قَالَ محمدٌ: وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ نَبِيٍّ أَبُو أُمَّتِهِ، وَإِنَّمَا عَنَى بِبَنَاتِهِ: نِسَاءَ أُمَّتِهِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهَذَا شبيهٌ بِمَا يُرْوَى عَنْ قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ:
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أبٌ لَهُمْ ".(2/301)
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} الضَّيْفُ: يُقَالُ لِلْوَاحِدِ وَلِلاثْنَيْنِ، وَلأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رجلٌ رَشِيدٌ} .(2/302)
قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)
{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بناتك من حق} مِنْ حَاجَةٍ {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيد} أَيْ: إِنَّا نُرِيدُ أَضْيَافَكَ دُونَ بناتك(2/302)
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
{قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيد} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: إِلَى عَشِيرَةٍ قَوِيَّة (ل 149) فَدَافَعُوهُ الْبَابَ، وَقَالَتِ الْمَلائِكَةُ: {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ من اللَّيْل} أَيْ: سِرْ بِهِمْ فِي ظُلْمَةٍ مِنَ اللَّيْلِ {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أحدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُم} فَقَالَ: لَا؛ بَلْ أَهْلِكُوهُمُ السَّاعَةَ! فَقَالُوا: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب} فَطَمَسَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ أَعْيُنَهُمْ بِأَحَدِ جَنَاحَيْهِ، فَبَقَوْا لَيْلَتَهُمْ لَا يبصرون(2/302)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)
{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سافلها} قَالَ: فَلَمَّا كَانَ فِي السَّحَرِ، خَرَجَ لوطٌ وَأَهْلُهُ، وَرَفَعَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ أَرْضَهُمْ بِجَنَاحِهِ الآخَرِ، حَتَّى بَلَغَ بِهَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا؛ حَتَّى سَمِعَتِ الْمَلائِكَةُ نُبَاحَ كِلابِهِمْ وَأَصْوَاتَ دَجَاجِهِمْ، فَقَلَبَهَا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ قَدْ عُهِدَ إِلَى لوطٍ أَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أحدٌ إِلا امْرَأَتَكَ؛ فَلَمَّا سَمِعَتِ الْعَجُوزُ - عَجُوزُ السُّوءِ - الْهَدَّةَ الْتَفَتَتْ، فَأَصَابَهَا مَا أَصَابَ قَوْمَهَا، ثُمَّ اتَّبَعَتِ الْحِجَارَةُ مَنْ كَانَ خَارِجًا مِنْ مَدَائِنِهِمْ، قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ ثَلاثًا.
قَالَ الْحَسَنُ: فَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - بَعْدَ لوط نَبِيًّا إِلا فِي عزٍّ مِنْ قَوْمِهِ، وَكَانَتِ امْرَأَةُ لوطٍ مُنَافِقَةً، تُظْهِرُ الإِسْلامَ، وَقَلْبُهَا عَلَى الْكُفْرِ.
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} قَالَ قَتَادَةُ: مِنْ طِينٍ {مَنْضُودٍ} أَي:(2/302)
بعضه على بعضٍ(2/303)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
{مسومة عِنْد رَبك} قَالَ الْحَسَنُ: عَلَيْهَا سَيْمًا؛ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ حِجَارَةِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهَا مِنْ حِجَارَةِ الْعَذَابِ.
قَالَ: وَتِلْكَ السِّيمَا عَلَى الْحَجَرِ مِنْهَا مِثْلَ الْخَاتَمِ {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيد} يَقُولُ: وَمَا هِيَ مِنْ ظَالِمِي أُمَّتِكَ يَا مُحَمَّدُ بِبَعِيدٍ أَنْ يَحْصُبَهُمْ بِهَا.
يحيى: عَنْ هَمَّامِ بْنِ يحيى، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، عَنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَكْثَرَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي عَمَلُ قَوْمِ لوط ".(2/303)
سُورَة هود من الْآيَة (84) إِلَى الْآيَة (86) .(2/304)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
{وَإِلَى مَدين} أَيْ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ {أَخَاهُم شعيبا} أَخُوهُمْ فِي النَّسَبِ، وَلَيْسَ بِأَخِيهِمْ فِي الدِّينِ.
{إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} أَيْ: بِخَيْرٍ مِنَ اللَّهِ؛ يَعْنِي: السَّعَةَ وَالرِّزْقَ، وَكَانُوا أَصْحَابَ تَطْفِيفٍ فِي الْكَيْلِ، وَنُقْصَانٍ مِنَ الْمِيزَانِ.(2/304)
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)
{وَلَا تبخسوا النَّاس أشياءهم} أَيْ: لَا تَظْلِمُوا {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْض مفسدين} قَدْ مَضَى تَفْسِيرُ {وَلا تَعْثَوْا} فِي سُورَة الْبَقَرَة.(2/304)
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
{بَقِيَّة الله خيرٌ لكم} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: طَاعَةَ اللَّهِ {وَمَا أَنا عَلَيْكُم بحفيظ} أَحْفَظُ عَلَيْكُمْ أَعْمَالَكُمْ حَتَّى أُجَازِيَكُمْ بهَا.
سُورَة هود من الْآيَة (87) إِلَى الْآيَة (90) .(2/304)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} يَعْنُونَ: أَوْثَانَهُمْ.
قَالَ الْحَسَنُ: لمْ يَبْعَثِ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - نَبِيًّا إِلا فَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلاةَ وَالزَّكَاةَ.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: أَدِينُكَ يَأْمُرُكَ؛ وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ.
{أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالنَا مَا نشَاء} أَيْ: أَوْ أَنْ نَتْرُكَ أَنْ نَفْعَلَ.
{إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} أَيْ: أَنَّكَ لَسْتَ بِالْحَلِيمِ الرَّشِيدِ.(2/305)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
{وَرَزَقَنِي مِنْهُ رزقا حسنا} يَعْنِي: النُّبُوَّةَ.
{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} فأفعله(2/305)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
{وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} أَيْ: لَا تَحْمِلَنَّكُمْ عَدَاوَتِي {أَنْ يُصِيبكُم} بِكُفْرِكُمْ بِي مِنْ عَذَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {مِثْلُ مَا أَصَابَ قوم نوح} الْآيَة.
قَالَ مُحَمَّد: (يجر مِنْكُم) أَصْلُهُ: يَكْسِبَنَّكُمْ؛ تَقُولُ: جَرِمْتُ كَذَا؛ بِمَعْنَى كَسَبْتُ، وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:
(طَرِيدُ عشيرةٍ وَرَهِينُ ذنبٍ ... بِمَا جَرَمَتْ يَدَيَّ وَجَنَى لِسَانِي)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا قَوْمُ لوطٍ مِنْكُمْ بيعيد} يَقُولُ: الْعِظَةُ بِقَوْمِ لوطٍ قَرِيبَةٌ(2/305)
مِنْكُمْ؛ لأَنَّ إِهْلاكَ قَوْمِ لوطٍ كَانَ أَقْرَبَ الإِهَلاكَاتِ الَّتِي عَرَفُوهَا.(2/306)
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
{إِن رَبِّي رحيمٌ} لِمَنِ اسْتَغْفَرَهُ، وَتَابَ إِلَيْهِ {ودودٌ} محبٌّ لأهل طَاعَته.
سُورَة هود من الْآيَة (91) إِلَى الْآيَة (95) .(2/306)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كثيرا مِمَّا تَقول} أَيْ: إِنَّا لَا نَقْبَلُ، وَقَدْ فَهِمُوهُ وَقَامَتْ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ {وَإِنَّا لنراك فِينَا ضَعِيفا} قَالَ سُفْيَانُ: كَانَ أَعْمَى {وَلَوْلا رهطك لرجمناك} {ل 150} بِالْحِجَارَةِ {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} بعظيم، وَكَانَ من أَشْرَافهم.(2/306)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ، وَرَاءَكُمْ ظهرياًّ} قَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُ: أَعْزَزْتُمْ قَوْمَكُمْ، وَأَظْهَرْتُمْ بِرَبِّكُمْ
قَالَ يحيى: أَرَاهُ يَعْنِي: جَعَلْتُمُوهُ مِنْكُمْ بِظَهْرٍ.
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: ظَهْرَتُ بِحَاجَةِ فلانٍ؛ إِذَا نَبَذْتُهَا وَلَمْ تَعْبَأْ بِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:(2/306)
(تَمِيمُ بْنُ زَيْدٍ لَا تَكُونَنَّ حَاجَتِي ... بظهرٍ فَلا يَعْيَى عَلَيَّ جَوَابُهَا}
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ محيطٌ} {خَبِير}(2/307)
وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
{وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أَيْ: عَلَى دِينِكُمْ {إِنِّي عاملٌ} عَلَى دِينِي {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين} يُخَوِّفُهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ ثَبَتُوا عَلَى دينهم، جَاءَهُم الْعَذَاب(2/307)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
{أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُود} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَدْ بُعِدُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَنَصَبَ (بُعْدًا) عَلَى الْمَصْدِرِ؛ يُقَالُ: بَعِدَ - بِكَسْرِ الْعَيْنِ - يَبْعُدُ؛ إِذَا كَانَ بُعْدَ هلكةٍ، وَبَعُدَ بِضَمِّ الْعَيْنِ يَبْعُدُ بُعْدًا؛ إِذَا نَأَى.
سُورَة هود من الْآيَة (96) إِلَى الْآيَة (100) .(2/307)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96)
{وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} أَيْ: بِعَلامَاتِنَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَى صِحَة نبوته {وسلطانٍ مُبين} حُجَّةٍ بَيِّنَةٍ.(2/307)
قَالَ محمدٌ: وَالسُّلْطَانُ إِنَّمَا سُمِّيَ سُلْطَانًا؛ لأَنَّهُ حُجَّةُ اللَّهِ - عَزَّ وَجل - فِي أرضه.(2/308)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قومه يَوْم الْقِيَامَة} أَيْ: يَقُودُهُمْ إِلَى النَّارِ؛ حَتَّى يدخلهَا هُوَ وَقَومه.(2/308)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
{وأتبعوا فِي هَذِه} يَعْنِي: الدُّنْيَا {لَعنه} يَعْنِي: الْعَذَابُ الَّذِي عَذَّبَهُمْ بِهِ من الْغَرق {وَيَوْم الْقِيَامَة} أَيْ: وَأُتْبِعُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَعْنَةً {بئس الرفد المرفود} قَالَ عَطَاءٌ: تَرَادَفَتْ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لَعْنَتَانِ: لَعْنَةُ بَعْدَ لَعْنَةٍ؛ لَعْنَةُ الدُّنْيَا، وَلَعْنَةُ الآخِرَةِ.
قَالَ محمدٌ: وَقِيلَ: الْمَعْنَى: بئس الْعَطاء الْمُعْطى.(2/308)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْك مِنْهَا قَائِم} تَرَاهُ قَدْ هَلَكَ أَهْلَهُ، وَمِنْهَا {حصيد} لَا ترى لَهُ أثرا.
سُورَة هود من الْآيَة (101) إِلَى الْآيَة (107) .(2/308)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
{وَمَا زادوهم غير تتبيب} غير تخسير(2/308)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
{وَذَلِكَ يومٌ مشهودٌ} يَشْهَدُهُ أَهْلُ(2/308)
السَّمَاء وَأهل الأَرْض(2/309)
يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
{فَمنهمْ شقي وَسَعِيد} .
يحيى: عَنْ فِطْرٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ:
سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَةً، ثُمَّ يَكُونُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَةً، ثُمَّ يَبْعَثُ الْمَلَكَ فَيُؤْمَرُ أَنْ يَكْتُبَ أَرْبَعًا: رِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَأَجَلَهُ وَأَثَرَهُ، وَشَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا. وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ؛ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى لَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلا ذراعٌ؛ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَدْخُلَهَا، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى لَا يَكُونُ بَينه وَبَين النَّار إِلا ذراعٌ؛ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا ".(2/309)
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زفيرٌ وشهيق} قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا حِينَ يَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُمْ: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} فَيَنْقَطِعُ كَلامُهُمْ؛ فَمَا يَتَكَلَّمُونَ بَعْدَهَا بِكَلِمَةٍ إِلا هَوَاءَ الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ؛ فَشَبَّهَ أَصْوَاتَهُمْ بِأَصْوَاتِ الْحَمِيرِ؛ أَوَّلُهَا زَفِيرٌ، وَآخِرُهَا شَهِيقٌ.
قَالَ محمدٌ: اخْتَلَفَ الْقَوْلُ فِي الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ: ذُكِرَ عَنِ الْخَلِيلِ؛ أَنَّهُ قَالَ:
الشَّهِيقُ رَدُّ النَّفَسِ، وَالزَّفِيرُ إِخْرَاجُ النَّفَسِ. وَقِيلَ: الزَّفِيرُ صَوْتُ الْمَكْرُوبِ بِالأَنِينِ، وَالشَّهِيقُ أَشَدُّ مِنْهُ ارْتِفَاعًا.(2/309)
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْض} الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ، وَالنَّارُ فِي الأَرْضِ؛ وَذَلِكَ مَا لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا {إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} يَعْنِي: مَا سَبَقَهُمْ بِهِ الَّذِينَ دَخَلُوا قَبْلَهُمْ؛ قَالَ: {وَسِيقَ الَّذِينَ كفرُوا إِلَى جَهَنَّم زمرا} قَالَ: زُمْرَةٌ تَدْخُلُ بَعْدَ الزُّمْرَةِ.
وَفِي تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ: إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ لأَهْلِ التَّوْحِيدِ. . الَّذِينَ (ل 151) يَدْخُلُونَ النَّارَ؛ فَلا يَدُومُونَ فِيهَا يخرجُون مِنْهَا إِلَى الْجنَّة.
سُورَة هود من الْآيَة (108) إِلَى الْآيَة (111) .(2/310)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
{وَأما الَّذين سعدوا} إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِلا مَا شَاءَ رَبك} يَعْنِي: مَا سَبَقَهُمْ بِهِ الَّذِينَ دَخَلُوا قَبْلَهُمْ؛ قَالَ: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} قَالَ: زُمْرَةٌ تَدْخُلُ بَعْدَ الزُّمْرَةِ.
وَفِي تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ: {إِلا مَا شَاءَ رَبك} يَعْنِي: مَا نَقَصَ لأَهْلِ التَّوْحِيدِ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ.
{عَطَاءً غير مجذوذ} أَي: غير مَقْطُوع.(2/310)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
{فَلَا تَكُ فِي مرية} فِي شَكٍّ {مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} يَعْنِي: مُشْرِكِي الْعَرَبِ.(2/310)
{مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آباؤهم} أَيْ: إِلا مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ؛ أَيْ: كَانُوا يَعْبُدُونَ الأَوْثَانَ {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} مِنَ الْعَذَابِ {غَيْرَ مَنْقُوصٍ} .(2/311)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} أَيْ: آمَنَ بِهِ قومٌ وَكَفَرَ بِهِ قومٌ {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ من رَبك} أَلا يُعَذِّبَ بِعَذَابِ الآخِرَةِ فِي الدُّنْيَا.
{لقضي بَينهم} أَيْ: لَقَضَى اللَّهُ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا؛ فَأَدْخَلَ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلَ النَّارِ النَّارَ، وَلَكِنْ أَخَّرَ ذَلِك إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.(2/311)
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
{وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالهم} يَعْنِي: الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ.
قَالَ محمدٌ: وَمَنْ قَرَأَ (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا) بِتَخْفِيفِ (إِنْ وَلَمَا) فَالْمَعْنَى: إِنَّ كُلًّا لَيُوَفِيَنَّهُمْ وَتَكُونُ (مَا) صِلَةٌ، وَنَصْبَ (كُلًّا) بِإِنَّ؛ لأَنَّ مِنَ النَّحْوِييِّنَ مَنْ يَقُولُ فِي (إِنْ) الْخَفِيفَةِ: أَصْلُهَا (إِنَّ) الْمُشَدَّدَةُ، فَإِذَا أُدْخِلَ عَلَيْهَا التَّخْفِيفُ نُصِبَ بِهَا على تَأْوِيل الأَصْل.
سُورَة هود من الْآيَة (112) إِلَى الْآيَة (116)(2/311)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
{فاستقم كَمَا أمرت} عَلَى الإِسْلامِ {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَابُوا مِنَ الشّرك {وَلَا تطغوا} فترجعوا عَن الْإِسْلَام.(2/312)
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
{وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} قَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُ: لَا تَلْحَقُوا بِالشِّرْكِ، فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ؛ أَيْ: تَدْخُلُوهَا.(2/312)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا من اللَّيْل} يَعْنِي: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ: أَنْ تُقَامَ عَلَى وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها. وَطَرَفَا النَّهَارِ؛ فِي الطَّرَفِ الأَوَّلِ صَلاةُ الصُّبْحِ، وَفِي الطَّرَفِ الآخَرِ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} يَعْنِي: صَلاةَ الْمَغْرِبِ وَصَلاةَ الْعِشَاءِ الآخِرِ، وَزُلَفَ اللَّيْلِ: أَدَانِيهِ - يَعْنِي: أَوَائِلَهُ.
قَالَ محمدٌ: وَاحِدُ الزُّلَفِ: زلفةٌ؛ يُقَالُ: أَزْلَفَنِي عِنْدَكَ كَذَا؛ أَيْ: أَدْنَانِي، وَنَصْبُ {طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزلفًا من اللَّيْل} عَلَى الظَّرْفِ؛ كَمَا تَقُولُ: جِئْتُ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَأَوَائِلَ اللَّيْلِ.
{إِنَّ الْحَسَنَات} يَعْنِي: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ {يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} يَعْنِي: مَا دُونَ الْكَبَائِرِ.
يحيى عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلا إِنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَالْجُمُعَةَ إِلَى الْجُمُعَةِ كفاراتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ؛ مَا اجْتنبت الْكَبَائِر ".(2/312)
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
{فلولا} فَهَلا {كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قبلكُمْ أولو بَقِيَّة} يَعْنِي: طَاعَةٍ.
{يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أنجينا مِنْهُم} يَقُولُ: لمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
{وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ اتَّبَعُوا الدُّنْيَا، وَمَا وَسَّعَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَيْهِمْ فِيهَا.
قَالَ محمدٌ: أَصْلُ التَّرَفُّهِ: السَّعَةُ فِي الْعَيْشِ، وَالإِسْرَافُ فِي التَّنْعِيمِ.
الْمَعْنَى: اتَّبَعُوا مَا أُعْطُوا مِنَ الأَمْوَالِ وَأَثْرَوْهُ؛ فَفُتِنُوا بِهِ.
سُورَة هود من الْآيَة (117) إِلَى الْآيَة (120) .(2/313)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أمة وَاحِدَة} عَلَى الإِيمَانِ {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} يَعْنِي: الْكفَّار(2/313)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
{إِلَّا من رحم رَبك} وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ؛ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي الْبَعْثِ كَمَا اخْتَلَفَ الْكُفَّارُ فِيهِ {وَلذَلِك خلقهمْ} أَيْ: وَلِذَلِكَ خَلَقَ أَهْلَ الرَّحْمَةِ أَلا يَخْتَلِفُوا.(2/313)
{وتمت كلمة رَبك} أَيْ: سَبَقَتْ {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} يَعْنِي: أَهْلَ النَّارِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْس.(2/314)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُل} مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادك} [ ... ] أَنَّ الأَنْبِيَاءَ قَدْ لَقِيَتْ مِنَ الأَذَى مَا لَقِيَتَ.
قَالَ محمدٌ: (كلاًّ) منصوبٌ ب (نقص) الْمَعْنَى: كُلُّ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ، وَمَعْنَى تَثْبِيتِ الْفُؤَادِ: تَسْكِينُ الْقَلْبِ (ل 152) مِنَ السُّكُونِ، وَلَكِنْ كُلَّمَا كَانَ الدَّلالَةُ عَلَيْهِ وَالْبُرْهَانُ أَكْبَرَ كَانَ الْقَلْبُ أَثْبَتَ أَبَدًا؛ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قلبِي} .
{وجاءك فِي هَذِه الْحق} قَالَ الْحَسَنُ: وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا.
سُورَة هود من الْآيَة (121) إِلَى الْآيَة (123) .(2/314)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121)
{وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا على مكانتكم} أَيْ: عَلَى كُفْرِكُمْ؛ يُخَوِّفُهُمُ الْعَذَابَ؛ عَن ثَبَتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ {إِنَّا عَامِلُونَ}(2/314)
وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
{وَانْتَظرُوا} مَا يَنْزِلُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} .(2/314)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
{وَللَّه غيب السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَيْ: لَا يَعْلَمُهُ إِلا هُوَ {وَإِلَيْهِ يرجع الْأَمر كُله} يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .(2/314)
تَفْسِيرُ سُورَةِ يُوسُفَ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كلهَا
سُورَة يُوسُف من الْآيَة (1) إِلَى الْآيَة (3) .(2/315)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)
قَوْلُهُ: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} يَعْنِي: هَذِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ {الْمُبِينِ} الْبَين(2/315)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا} أَيْ: بلسانٍ عَرَبِيٍّ {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لِكَيْ تَعْقِلُوا مَا فِيهِ فَتُؤْمِنُوا(2/315)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} قَالَ قَتَادَةُ: مِنَ الْكُتُبِ الْمَاضِيَةِ، وَأُمُورِ اللَّهِ السَّالِفَةِ فِي الأُمَمِ {بِمَا أَوْحَينَا إِلَيْك هَذَا الْقُرْآن} أَيْ: بِوَحْيِنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ {وَإِن كنت من قبله} أَيْ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْك الْقُرْآن {لمن الغافلين} كَقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا الْإِيمَان} .
سُورَة يُوسُف من الْآيَة (4) إِلَى الْآيَة (6) .(2/315)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عشر كوكبا} الآيَةَ، فَتَأَوَّلَهَا يَعْقُوبُ أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ - وَكَانُوا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلا - وأبويه سيسجدون لَهُ.(2/316)
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
{فيكيدوا لَك كيدا} أَي: يحسدونك(2/316)
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
{وَكَذَلِكَ يجتبيك رَبك} أَيْ: يَخْتَارُكَ لِلنُّبُوَّةِ {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيل الْأَحَادِيث} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا.
وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: عَوَاقِبَ الأُمُورِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ إِلا بِوَحْيِ نُبُوَّةٍ {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آل يَعْقُوب} وَكَانَ اللَّهُ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ سَيُعْطِي ولد يَعْقُوب كلهم النُّبُوَّة.
سُورَة يُوسُف من الْآيَة (7) إِلَى الْآيَة (17) .(2/316)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَات للسائلين} أَيْ: عِبْرَةٌ لِمَنْ كَانَ سَائِلا عَن حَدِيثهمْ(2/317)
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
{إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} جَمَاعَةٌ {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبين} أَيْ: مِنَ الرَّأْيِ، لَيْسَ يَعْنُونَ: ضَلَالَة فِي الدّين {مُبين} بَين(2/317)
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يخل لكم وَجه أبيكم} وَلَمْ يَكُونُوا يَوْمَ قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ أَنْبِيَاءَ {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قوما صالحين} يَعْنُونَ: تَصْلُحُ مَنْزِلَتُكُمْ عِنْدَ أَبِيكُمْ؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: يَعْنُونَ: تَتُوبُونَ مِنْ بَعْدِ قَتْلِهِ(2/317)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
{قَالَ قَائِل مِنْهُم} هُوَ رُوبِيلُ؛ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ {لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَاتِ الْجُبِّ} أَيْ: بَعْضُ نَوَاحِيهَا.
قَالَ محمدٌ: كُلُّ شيءٍ غَيَّبَ عَنْكَ شَيْئًا فَهُوَ غَيَابَةٌ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ يحيى (غيابة الْجب) .
{يلتقطه بعض السيارة} أَيْ: بَعْضُ مَنْ يَمُرُّ فِي الطَّرِيق.(2/317)
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)
{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} قَالَ محمدٌ: قَرَأَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ {يرتع} بِالْيَاءِ وَكسر الْعين، {ويلعب} بِالْيَاءِ أَيْضًا؛ الْمَعْنَى: كَأَنَّهُمْ قَالُوا: يَرْعَى مَاشِيَتَهُ وَيَلْعَبُ فِي جَمْعِ السعَة وَالسُّرُور.(2/317)
قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
{قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عصبَة إِنَّا إِذا لخاسرون} قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: الْعُصْبَةُ مِنَ الْعشْرَة إِلَى الْأَرْبَعين.(2/317)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غيابات الْجب} أَيْ: اتَّفَقُوا وَأَلْقَوْهُ(2/317)
فِي الْجُبِّ {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بأمرهم هَذَا} قَالَ قَتَادَةُ: أَتَاهُ وَحْيُ اللَّهِ وَهُوَ فِي الْبِئْرِ بِمَا يُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلُوا بِهِ {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} بِمَا أَطْلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ يُوسُفَ من أَمرهم.(2/318)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)
{وَجَاءُوا أباهم عشَاء يَبْكُونَ} قَالَ محمدٌ: (عشَاء) مَنْصُوب على الظّرْف.(2/318)
قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
{وَمَا أَنْت بِمُؤْمِن لنا} بِمُصَدِّقٍ لَنَا {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} أَيْ: وَلَوْ صَدَّقْنَاكَ.
قَالَ محمدٌ: قيل: الْمَعْنى: (ل 153) وَلَوْ كُنَّا عِنْدَكَ مِنْ أَهْلِ الثِّقَةِ وَالصِّدْقِ لاتَّهَمْتَنَا فِي يُوسُفَ؛ لِمَحَبَّتِكَ فِيهِ، وَظَنَنْتَ أَنَّا قَدْ كذبناك.
سُورَة يُوسُف من الْآيَة (18) إِلَى الْآيَة (21) .(2/318)
وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} لَطَخُوا قَمِيصَهُ بِدَمٍ سخلةٍ.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: دمٌ مكذوبٌ فِيهِ.
{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أمرا} أَيْ: زَيَّنَتْ {أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أَيْ: لَيْسَ فِيهِ جزعٌ.(2/318)
قَالَ الْحَسَنُ: وَكَانَ يَعْقُوبُ قَدْ عَلِمَ بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّ يُوسُفَ حيٌّ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَيْن هُوَ؟
قَالَ محمدٌ: (صبرٌ جميل) مرفوعٌ عَلَى مَعْنَى: فَالَّذِي أَعْتَقِدُهُ: صبرٌ جَمِيلٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى: {فَصَبْرِي صبرٌ جَمِيلٌ} .(2/319)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
{وَجَاءَت سيارة فأرسلوا واردهم} الْوَارِدُ: الَّذِي يَرِدُ الْمَاءَ؛ لَيَسْتَقِيَ للْقَوْم {فأدلى دلوه} فِي الْجُبِّ؛ وَهِيَ بِئْرُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: أَدْلَيْتُ الدَّلْوَ؛ إِذَا أَرْسَلْتُهَا لِتَمْلأَهَا، وَدَلَوْتُهَا؛ إِذَا أَخْرَجْتُهَا.
قَالَ قَتَادَةُ: فَلَمَّا أَدْلَى دَلْوَهُ تَشَبَّثَ بِهَا يُوسُفُ، فَقَالَ الَّذِي أَدْلَى دَلْوَهُ: (يَا بُشْرَايَ) يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: مَا الْبُشْرَى؟ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: مَا وَرَاءَكَ؟ أَوْ مَا عِنْدَكَ؟ قَالَ: {هَذَا غلامٌ} فأخرجوه {وأسروه بضَاعَة} قَالَ مجاهدٌ: صَاحِبُ الدَّلْوِ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ قَالُوا لأَصْحَابِهِمْ: إِنَّمَا اسْتَبْضَعْنَاهُ خِيفَةَ أَنْ يُشْرِكُوهُمْ فِيهِ.(2/319)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
{وشروه} أَي: باعوه {بثمنٍ بخسٍ} أَيْ: حَرَامٌ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ بَيْعه.
{دَرَاهِم معدودةٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ: بَاعُوهُ بِاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا.
{وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} يَعْنِي: الَّذِينَ الْتَقَطُوهُ، وَزِهَادَتُهُمْ فِيهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ مَنْزِلَتَهُ مِنَ اللَّهِ؛ فَبَاعُوهُ مِنْ مَلِكِ مصر.(2/319)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَته أكرمي مثواه} أَيْ: مَنْزِلَتَهُ (عَسَى أَنْ(2/319)
ينفعنا أَو نتخذه ولدا} أَيْ: نَتَبَنَّاهُ. قَالَ اللَّهُ: {وَكَذَلِكَ مكنا ليوسف فِي الأَرْض} يَعْنِي: أَرض مصر، وَمَا أعطَاهُ الله.
سُورَة يُوسُف من الْآيَة (22) إِلَى الْآيَة (29) .(2/320)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
{وَلما بلغ أشده} يُقَالُ: بَلَغَ عِشْرِينَ سَنَةً {آتَيْنَاهُ حكما وعلماً} يَعْنِي: الرسَالَة.(2/320)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
{وَقَالَت هيت لَك} أَي: هَلُمَّ لَك.
وتقرأ: (هيت لَك) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَتَسْكِينِ الْيَاءِ.(2/320)
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: هَيْتَ فلانٌ بِفُلانٍ؛ إِذَا صَاحَ بِهِ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
(قَدْ رَابَنِي أَنَّ الْكَرِيَّ أَسْكَتَا ... لَوْ كَانَ مَعْنِيًّا بِهَا لَهَيَّتَا) {قَوْلُهُ} (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّه رَبِّي} أَيْ: سَيِّدِي - يَعْنِي: الْعَزِيزَ {أَحْسَنَ مثواي} أَيْ: أَكْرَمَ مَنْزِلَتِي.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّامِيُّ: أَوَّلُ مَا قَالَتْ لَهُ: يَا يُوسُفُ مَا أَحْسَنَ شَعْرَكَ! قَالَ: أَمَّا إِنَّهُ أول شيءٍ يبْلى مني.(2/321)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
{وَلَقَد هَمت بِهِ} يَعْنِي: مَا أَرَادَتْهُ حِينَ اضْطَجَعَتْ لَهُ {وهم بهَا} يَعْنِي: حَلَّ سَرَاوِيلَهُ {لَوْلا أَنْ رأى برهَان ربه} قَالَ مُجَاهِدٌ: مُثِّلَ لَهُ يَعْقُوبُ فَاسْتَحْيَى مِنْهُ، فَصَرَفَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَذْهَبَ كُلَّ شهوةٍ كَانَتْ فِي مَفَاصِلِهِ.(2/321)
قَالَ اللَّهُ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء والفحشاء} الْآيَة، فولى هَارِبا واتبعته(2/322)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
{واستبقا الْبَاب} فَسَبَقَهَا إِلَيْهِ لِيَخْرُجَ {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ من دبر} أَيْ: شَقَّتْهُ مِنْ خَلْفِهِ. {وَأَلْفَيَا سَيِّدهَا} أَي: زَوجهَا {لَدَى الْبَاب} عِنْد الْبَاب.(2/322)
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)
{وَشهد شَاهد من أَهلهَا} قَالَ قَتَادَةُ: رَجُلٌ حَكِيمٌ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا؛ قَالَ: الْقَمِيصُ يَقْضِي بَيْنَهُمَا؛ إِنْ كَانَ قُدَّ مِنْ قبلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دبرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ.(2/322)
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِن كيدكن عَظِيم}(2/322)
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
ثُمَّ قَالَ لِيُوسُفَ: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَن هَذَا} أَيْ: لَا تَذْكُرْهُ: احْبِسْهُ، وَقَالَ لَهَا: {استغفري لذنبك} مِنْ زَوْجِكِ، وَاسْتَعْفِيهِ أَلا يُعَاقِبَكِ {إِنَّك كنت من الخاطئين} يَعْنِي: الْخَطِيئَةَ.
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: خَطِئَ الرَّجُلُ يَخْطَأُ خِطْئًا؛ إِذَا تَعَمَّدَ الذَّنْبُ فَهُوَ خَاطِئٌ، وَالْخَطِيئَةُ مِنْهُ: أَخْطَأَ يُخْطِئُ؛ إِذَا لَمْ يتَعَمَّد، وَالِاسْم مِنْهُ: الْخَطَأ.
سُورَة يُوسُف من الْآيَة (30) إِلَى الْآيَة (32) .(2/322)
(ل 154)(2/323)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيز} يَعْنِي: عِزَّ الْمُلْكِ {تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ: دَخَلَ حُبُّهُ فِي شِغَافِهَا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: الشِّغَافُ: حِجَابُ الْقَلْبِ {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضلال مُبين} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: فِي خسرانٍ بَين من حب يُوسُف.(2/323)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
{فَلَمَّا سَمِعت بمكرهن} أَي: بغيبتهن {أرْسلت إلَيْهِنَّ} وَأَرَادَتْ أَنْ تُوقِعَهُنَّ فِيمَا وَقَعَتْ فِيهِ {وأعتدت} أَي: أعدت {لَهُنَّ مُتكئا} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: مَجْلِسًا وَتَكْأَةً.
قَالَ يحيى: وَهِيَ تُقْرَأُ (مُتْكًا) قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الأُتْرُجُ.
قَالَ محمدٌ: (الْمُتَّكَأُ) بِالتَّثْقِيلِ: هُوَ مَا اتَّكَأْتَ لحديثٍ، أَوْ طَعَامٍ، أَوْ شَرَابٍ.
{وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سكينا} لِيُقَطِّعْنَ وَيَأْكُلْنَ، وَقَالَتْ لِيُوسُفَ: {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رأينه أكبرنه} أَيْ: أَعْظَمْنَهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْبشر. {وقطعن أَيْدِيهنَّ} أَيْ: حَزَزْنَ لَا يَعْقِلْنَ مَا يصنعن {وقلن حاش لله} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: مَعَاذَ اللَّهِ {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا ملك} من مَلَائِكَة الله {كريم} عَلَى اللَّهِ.(2/323)
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: حَاشَ لِلَّهِ، وَحَاشَى لِلَّهِ - بِيَاءٍ وَبِغَيْرِ يَاءٍ -، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ: الْبَرَاءَةُ؛ أَيْ قَدْ بَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَانْتَصَبَ (بَشَرًا) بِخَبَرِ (مَا) لأَنَّ (مَا) فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ مَعْنَاهُ مَعْنَى (لَيْسَ) فِي النَّفْيِ.(2/324)
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
{وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} أَي: امْتنع.
{وليكوناً من الصاغرين} أَي: من الأذلاء.
سُورَة يُوسُف من الْآيَة (33) إِلَى الْآيَة (35) .(2/324)
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
{وَإِلَّا تصرف عني كيدهن} قَالَ الْحَسَنُ: قَدْ كَانَ مِنَ النِّسْوَةِ عَوْنٌ لَهَا عَلَيْهِ {أَصْبُ إلَيْهِنَّ} أَيْ: أُتَابِعُهُنَّ.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: أَمِلْ إِلَيْهِنَّ مَيْلَ جهلٍ وَصَبًا؛ يُقَالُ: صَبَا فلانٌ إِلَى اللَّهْوِ يَصْبُو صَبًا؛ إِذَا مَالَ إِلَيْهِ. قَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ.
(صَبَا مَا صَبَا حَتَّى عَلا الشَّيْبُ رَأْسَهُ ... فَلَمَّا عَلاهُ قَالَ لِلْبَاطِلِ أبعد}(2/324)
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الْآيَات} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: قَدَّ الْقَمِيصِ مِنْ دبرٍ.
{لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} قَالَ الْكَلْبِيُّ:
بَلَغَنَا أَنَّهَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا: صَدَّقْتَهُ وَكَذَّبْتَنِي، وَفَضَحْتَنِي فِي الْمَدِينَةِ، فَأَنَا غَيْرُ سَاعِيَةٍ فِي رِضَاكَ إِنْ لَمْ تَسْجُنْ يُوسُفَ، وَتُسَمِّعْ بِهِ وَتَعْذُرْنِي؛ فَأَمَرَ بِيُوسُفَ يُحْمَلُ عَلَى حِمَارٍ، ثُمَّ ضُرِبَ بِالطَّبْلِ: هَذَا يُوسُفُ الْعِبْرَانِيُّ، أَرَادَ سَيِّدَتَهُ عَلَى نَفْسِهَا فَطَوَّفَ بِهِ أَسْوَاقَ مِصْرَ كُلَّهَا، ثُمَّ أُدْخِلَ السجْن.
سُورَة يُوسُف من الْآيَة (36) إِلَى الْآيَة 42) .(2/325)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خمرًا} وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ (أَعْصِرُ عِنَبًا) .
{وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا} وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ (ثَرِيدًا) أَيْ: قَصْعَةً مِنْ ثَرِيدٍ.
{إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ إِحْسَانُهُ - فِيمَا بَلَغَنَا - أَنَّهُ كَانَ يُدَاوِي جَرْحَاهُمْ، وَيُعَزِّي حَزِينَهُمْ، وَرَأَوْا مِنْهُ إِحْسَانًا فَأَحَبُّوهُ عَلَى فِعْلِهِ، وَكَانَ الَّذِي قَالَ: إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا سَاقِيَ الْمَلِكِ عَلَى شِرَابِهِ، وَكَانَ الَّذِي قَالَ: إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأس خُبْزًا خَبَّازَ الْمَلِكِ عَلَى طَعَامِهِ.(2/326)
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نبأتكما بتأويله} أَيْ: بِمَجِيئِهِ {قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} أَيْ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمَا {ذلكما مِمَّا عَلمنِي رَبِّي} أَيْ: بِمَا يُطْلِعُنِي اللَّهُ عَلَيْهِ(2/326)
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
{ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا} يَعْنِي: النُّبُوَّةَ الَّتِي أَعْطَاهُمْ {وَعَلَى النَّاس} أَيْ: وَفَضْلَهُ عَلَى النَّاسِ؛ يَعْنِي: الإِسْلامَ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يشكرون} لَا يُؤمنُونَ(2/326)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)
{يَا صَاحِبي السجْن} يَعْنِي: الْفَتَيَيْنِ اللَّذَيْنِ سُجِنُوا مَعَهُ {أأرباب متفرقون} يَعْنِي: الأَوْثَانَ الَّتِي تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ صغيرٍ وَكَبِيرٍ ووسطٍ {خير أم الله} أَيْ: أَنَّ اللَّهَ خيرٌ مِنْهُمْ(2/326)
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان} من حجَّة(2/326)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ (ل 155} فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ} قَالَ لِسَاقِي الْمَلِكِ: أَمَّا أَنْتَ فَترد على عَمَلك. وَقَالَ للخبار: وَأَمَّا أَنْتَ فَتُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِكَ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ:
لَمَّا عَبَّرَ لَهُمَا الرُّؤْيَا قَالَ الْخَبَّازُ: يَا يُوسُفُ، لمْ أَرَ شَيْئًا! قَالَ:(2/326)
{قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} أَيْ: كَالَّذِي (قُلْتُهُ) كَذَلِكَ (يُقْضَى) لَكمَا.(2/327)
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْد رَبك} أَيْ: اذْكُرْ أَمْرِي عِنْدَ سَيِّدِكَ - يَعْنِي: الْمَلِكَ {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ ربه} يَعْنِي: يُوسُفَ حِينَ رَغِبَ إِلَى السَّاقِي أَنْ يَذْكُرَهُ عِنْدَ الْمَلِكِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ خَمْسَ سِنِينَ يَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ وَيَدْعُوهُ {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بضع سِنِين} قَالَ قَتَادَةُ: لَبِثَ فِي السِّجْنِ بَعْدَ قَوْلِهِ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} سَبْعَ سِنِينَ عُقُوبَةً لِقَوْلِهِ ذَلِكَ.
سُورَة يُوسُف من الْآيَة (43) إِلَى الْآيَة (49) .(2/327)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} يَعْنِي: سَبْعَ بَقَرَاتٍ عِجَافٍ {وَسَبْعَ سنبلات خضر} أَيْ: وَرَأَيْتُ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ {وَأُخْرَى يابسات} أَي: وَسبعا يابسات(2/328)
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
{قَالُوا أضغاث أَحْلَام} أَيْ: أَخْلاطُ أَحْلامٍ.
قَالَ محمدٌ: الأَضْغَاثُ وَاحِدُهَا: ضغثٌ؛ وَهِيَ الْحِزْمَةُ مِنَ النَّبَاتِ يَجْمَعُهَا الرَّجُلُ فَيَكُونُ فِيهَا ضروبٌ مُخْتَلِفَةٌ؛ الْمَعْنَى: رُؤْيَاكَ أخلاطٌ لَيْسَتْ بِرُؤْيَا بَيِّنَةٍ، وَلَيْسَ للرؤيا المختلطة عندنَا تَأْوِيل.(2/328)
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
{وَقَالَ الَّذِي نجا مِنْهُمَا} أَيْ: مِنَ السِّجْنِ {وَادَّكَرَ بَعْدَ أمة} يَقُولُ: ذَكَرَ يُوسُفَ بَعْدَ حِينٍ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أَمَهٍ} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: بَعْدَ نِسْيَانٍ: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فأرسلون} وَفِيه إِضْمَار، فَأرْسلهُ الْملك(2/328)
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
فَأَتَى يُوسُفَ فِي السِّجْنِ فَقَالَ: {يُوسُف أَيهَا الصّديق} يَعْنِي: الصَّادِقَ {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بقرات} أَيْ: أَخْبِرْنَا عَنْ سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ، الآيَةَ؛ فَأَجَابَهُ يُوسُفُ فَقَالَ: أَمَّا السَّبْعُ الْبَقَرَاتُ السِّمَانُ، وَالسَّبْعُ السُّنْبُلاتُ الْخُضْرُ فَهِيَ سَبْعُ سِنِينَ تُخْصِبُ، وَأَمَّا السَّبْعُ الْبَقَرَاتُ الْعِجَافُ وَالسَّنَابِلُ الْيَابِسَاتُ فَهِيَ سَبْعُ سِنِينَ مجدبةٌ(2/328)
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} أَرَادَ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي السُّنْبُلِ كَانَ أَبْقَى لَهُ.
قَالَ محمدٌ: الدَّأَبُ: الْمُلازَمَةُ لِلشَّيْءِ وَالْعَادَةُ؛ يُقَالُ مِنْهُ: دَأَبْتُ أَدْأَبُ دَأَبًا.(2/328)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سبع شَدَّاد} يَعْنِي: سَبْعَ سِنِينَ مجدبةٍ {يَأْكُلْنَ مَا قدمتم لَهُنَّ} فِي السِّنِينَ الْمُخْصَبَاتِ {إِلا قَلِيلا مِمَّا تحصنون} أَي: تدخرون.(2/329)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يعصرون} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: يَعْصِرُونَ الْعِنَبَ وَالزَّيْتُونَ.
قَالَ محمدٌ: قَوْلُهُ: {فِيهِ يغاث النَّاس} مِنْ جَعْلِهِ مِنَ الْغَيْثِ فَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: غَاثَ اللَّهُ الْبِلادَ يَغِيثُهَا، وَمَنْ جَعَلَهُ مِنَ التَّلاقِي وَالتَّدَارُكِ فَهُوَ مِنْ أَغَثْتُ فُلانًا أَغِيثُهُ إِغَاثَةً.
وَقِيلَ أَنْ (يَعْصِرُونَ) مَعْنَاهُ: يُنْجُونَ، الْعُصْرَةُ فِي اللُّغَةِ: النَّجَاةُ. قَالَ: فَلَمَّا أُخْبِرَ الْمَلِكُ أَنَّ يُوسُفَ هُوَ الَّذِي عَبَّرَ الرُّؤْيَا قَالَ ائْتُونِي بِهِ.
سُورَة يُوسُف من الْآيَة (50) إِلَى الْآيَة (53) .(2/329)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
{فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُول} قَالَ لَهُ يُوسُفُ: {ارْجِعْ إِلَى رَبك} أَيْ: سَيِّدِكَ؛ هَذَا كَانَ كَلامُهُمْ يومئذٍ {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قطعن أَيْدِيهنَّ} الآيَةَ، قَالَ قَتَادَةُ: أَرَادَ أَلا يَخْرُجَ حَتَّى يَكُونَ لَهُ عذرٌ. فَأرْسل إلَيْهِنَّ الْملك(2/329)
فدعاهن(2/330)
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
{قَالَ مَا خطبكن} مَا حُجَّتُكُنَّ {إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} قَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ: مِنْ زِنًا {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحق} تبين ذَلِك(2/330)
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
{لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} لَمَّا بَلَغَ يُوسُفَ ذَلِكَ قَالَ: {ذَلِك ليعلم} الْعَزِيزُ {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} وَكَانَ الْمَلِكُ فَوْقَ الْعَزِيزِ {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الزُّنَاةِ، فَلَمَّا قَالَ هَذَا يُوسُفُ، قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ - فِيمَا ذُكِرَ مِنْ (هَمِّهِمْ) يَا يُوسُفُ، فَمَا فَعَلْتَ السَّرَاوِيلَ؟ فَقَالَ يُوسُفُ: {وَمَا (ل 156} أبرئ نَفسِي} الْآيَة.(2/330)
سُورَة يُوسُف من الْآيَة (54) إِلَى الْآيَة (57) .(2/331)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
{إِنَّك الْيَوْم لدينا} عندنَا {مكين} فِي الْمنزلَة {امين} مِنَ الأَمَانَةِ، فَوَلاهُ الْمَلِكُ، وَعَزَلَ الْعَزِيز(2/331)
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
{قَالَ} يُوسُفُ: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} يَعْنِي: أَقْوَاتَ أَرْضِ مِصْرَ {إِنِّي حفيظ} لما وليت {عليم} بِمَا يصلحهم من ميرتهم(2/331)
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} يَعْنِي: أَرْضَ مِصْرَ {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء} أَيْ: يَنْزِلُ. قَالَ السُّدِّيُّ: بَاعَ مِنْهُمْ قُوتَهُمْ عَامًا بِكُلِّ ذهبٍ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ بَاعَهُمْ عَامًا بِكُلِّ فضةٍ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ بَاعَهُمْ عَامًا بِكُلِّ نحاسٍ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ بَاعَهُمْ عَامًا بِكُلِّ رصاصٍ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ بَاعَهُمْ عَامًا بِكُلِّ حديدٍ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ بَاعَهُمْ عَامًا بِرِقَابِ أَنْفُسِهِمْ؛ فَصَارَتْ رِقَابُهُمْ وَأَمْوَالهُمْ كُلُّهَا لَهُ(2/331)
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
{وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} يَقُولُ: مَا يُعْطِي اللَّهُ فِي الآخِرَةِ أَوْلَيَاءَهُ خيرٌ مِنَ الدُّنْيَا.
سُورَة يُوسُف من الْآيَة (58) إِلَى الْآيَة (65) .(2/331)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} فأنزلهم وَأكْرمهمْ(2/332)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
{فَلَمَّا جهزهم بجهازهم} مِنَ الْمِيرَةِ {قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لكم من أبيكم} قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ بِنْيَامِينُ أَخُو يُوسُف من أَبِيه وَأمه(2/332)
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
{وَقَالَ لفتيانه} يَعْنِي غِلْمَانِهِ {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رحالهم} أَيْ: دَرَاهِمَهُمْ فِي مَتَاعِهِمْ {لَعَلَّهُمْ يرجعُونَ} يَقُولُ: إِذَا رُدَّتْ إِلَيْهِمْ بِضَاعَتُهُمْ، كَانَ أَحْرَى أَنْ يَرْجِعُوا إِلَيَّ(2/332)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
{قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ منا الْكَيْل} فِيمَا نَسْتَقْبِلُ؛ إِنْ لَمْ نَأْتِهِ بأخينا(2/332)
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
{ونمير أهلنا} إِذَا أَرْسَلْتَهُ مَعَنَا {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بعير} وَكَانَ يُوسُفُ وَعَدَهُمْ - فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ - إِنْ هُمْ جَاءُوا بِأَخِيهِمْ أَنْ يَزِيدَهُمْ حِمْلَ بَعِيرٍ بِغَيْرِ ثَمَنٍ، وَالْبَعِيرُ - فِي تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ -: الْحِمَارُ؛ قَالَ: وَهِيَ لغةٌ لِبَعْضِ الْعَرَب {ذَلِك كيل يسير} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: سَرِيعًا لَا حَبْسَ فِيهِ.
قَالَ الْحَسَنُ: وَقَدْ كَانَ الْقَوْمُ يَأْتُونَهُ لِلْمِيرِ، فَيُحْبَسُونَ الزَّمَان حَتَّى يُكَال لَهُم.
سُورَة يُوسُف من الْآيَة (66) إِلَى الْآيَة (68) .(2/332)
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
{إِلَّا أَن يحاط بكم} أَيْ: تُغْلَبُوا عَلَيْهِ.
{فَلَمَّا آتَوْهُ موثقهم} عَهْدَهُمْ {قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نقُول وَكيل} أَي: حفيظٌ لهَذَا الْعَهْد.(2/333)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
{وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا من بَاب وَاحِد} قَالَ قَتَادَةُ: خَشِيَ عَلَى بَنِيهِ الْعَيْنَ، وَكَانُوا ذَوِي صورةٍ وَجَمَالٍ.
{مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شيءٍ إِلا حَاجَةً فِي نفس يَعْقُوب قَضَاهَا} يَعْنِي قَوْلَهُ: {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَة} .
قَالَ محمدٌ: (إِلا حَاجَةً) يَعْنِي: لَكِنْ حَاجَةً؛ يَقُولُ: لَوْ قُدِّرَ أَنْ تُصِيبَهُمُ الْعَيْنُ لأَصَابَتْهُمْ وَهُمْ مُفْتَرِقُونَ؛ كَمَا تُصِيبُهُمْ مُجْتَمِعِينَ، لَكِنْ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا.(2/333)
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
{وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: لِمَا آتَيْنَاهُ من النُّبُوَّة.
سُورَة يُوسُف من الْآيَة (69) إِلَى الْآيَة (77) .(2/333)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
{آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ} أَيْ: ضَمَّهُ {فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ: لَا تَغْتَمَّ بِمَا كَانَ من أَمرك(2/334)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
{فَلَمَّا جهزهم بجهازهم} يَعْنِي: الْمِيرَةَ، وَوَفَّى لَهُمُ الْكَيْلُ {جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} وَالسِّقَايَةُ: إِنَاءُ الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ يُسْقَى فِيهِ؛ وَهُوَ الصُّوَاعُ، وَخَرَجَ إِخْوَةُ يُوسُفَ وَأَخُوهُمْ مَعَهُمْ وَسَارُوا {ثمَّ أذن مُؤذن} نَادَى منادٍ.
{أيتها العير} يَعْنِي: أَهْلَ الْعِيرِ {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} .(2/334)
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} مِنَ الطَّعَامِ {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} كَفِيل.(2/334)
قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
{قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْله فَهُوَ جَزَاؤُهُ} أَيْ: يُؤْخَذُ بِهِ عَبْدًا، وَكَذَلِكَ كَانَ الْحَكْمُ بِهِ عِنْدَهُمْ؛ أَنْ يُؤْخَذَ بِسَرِقَتِهِ عَبْدًا يُسْتَخْدَمُ عَلَى قَدْرِ سَرِقَتِهِ، وَكَانَ قَضَاءُ أَهْلِ مِصْرَ أَنْ يُغَرَّمَ السَّارِقُ ضِعْفَيْ مَا أَخَذَ، ثُمَّ يُرْسَلُ؛ فَقَضَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِقَضَاءٍ أَرْضِهِمْ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ لِيُوسُفَ؛ فَذَاكَ قَوْلُهُ: {كَذَلِك كدنا ليوسف} أَيْ: صَنَعْنَا لَهُ {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} أَيْ: عَلَى قَضَاءِ(2/334)
مَلِكِ مِصْرَ [ ... ] الْقَضَاءُ إِلَيْهِ {إِلا أَن يَشَاء الله} .
قَالَ محمدٌ: قِيلَ: يَعْنِي: إِلا بعلة كادها الله لَهُ (ل 157) اعْتَلَّ بِهَا يُوسُفُ.
{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي علم عليم} قَالَ الْحَسَنُ: أَجَلْ وَاللَّهِ لَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عليمٌ؛ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْعِلْمُ إِلَى الَّذِي جَاءَ بِهِ وَهُوَ اللَّهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ يُوسُفَ مِنْ أَمْرِ أَخِيهِ إِنَّمَا هُوَ شيءٌ قَبِلَهُ عَنِ الله.(2/335)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخ لَهُ من قبل} يَعْنُونَ: يُوسُفَ، وَكَانَ جَدُّهُ أَبُو أُمِّهِ يَعْبُدُ الأَوْثَانَ؛ فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: يَا يُوسُفُ، اذْهَبْ فَخُذِ الْقُفَّةَ الَّتِي فِيهَا أَوْثَانُ أَبِي فَفَعَلَ وَجَاءَ بِهَا إِلَى أُمِّهِ، فَتِلْكَ سَرِقَتُهُ الَّتِي أَرَادُوا {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} مِمَّنْ قُلْتُمْ لَهُ هَذَا، قَالَ قَتَادَةُ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانا} هِيَ الَّتِي أَسَرَّ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ وَهَذَا مِنْ مَقَادِيمِ الْكَلامِ {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تصفون} أَي: إِنَّه كذبٌ.
سُورَة يُوسُف من الْآيَة (78) إِلَى الْآيَة (83) .(2/335)
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
{قَالُوا يَا أَيهَا الْعَزِيز} قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ يُوسُفَ كَانَ الْعَزِيزَ بَعْدَ الْعَزِيزِ سَيِّدِهِ الَّذِي ملكه.
{فَخذ أَحَدنَا مَكَانَهُ} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي احْبِسْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ.(2/336)
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
{فَلَمَّا استيئسوا مِنْهُ} يَئِسُوا مِنْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ أَخَاهُم {خلصوا نجيا} أَيْ: جَعَلُوا يَتَنَاجَوْنَ وَيَتَشَاوَرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ.
قَالَ محمدٌ: نجي لفظٌ واحدٌ فِي مَعْنَى جَمِيعٍ؛ الْمَعْنَى: اعتزلوا متناجين.
{قَالَ كَبِيرهمْ} وَهُوَ رُوبِيلُ؛ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: كَبِيرَهُمْ فِي الرَّأْيِ وَالْعِلْمِ، وَلَمْ يَكُنْ أَكْبَرَهُمْ فِي السِّنِّ.
{فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ} يَعْنِي: أَرْضَ مِصْرَ {حَتَّى يَأْذَنَ لي أبي} فِي الرُّجُوعِ إِلَيْهِ {أَوْ يَحْكُمَ الله لي} بِالْمَوْتِ.(2/336)
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
{وَمَا كُنَّا للغيب حافظين} .
قَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُ: مَا كُنَّا نرى أَن يسرق(2/336)
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
{واسأل الْقرْيَة} أَيْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ {الَّتِي كُنَّا فِيهَا} يَعْنِي: أْهَلَ مِصْرَ {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقبلنَا فِيهَا} أَي: أهل العير.(2/336)
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ} أَي: زينت {أمرا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} يَعْنِي: يُوسُف وأخاه وروبيل.(2/336)
سُورَة يُوسُف من الْآيَة (84) إِلَى الْآيَة (87) .(2/337)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
{وَتَوَلَّى عَنْهُم} أَعْرَضَ عَنْهُمْ {وَقَالَ يَا أَسَفَى على يُوسُف} أَيْ: يَا حُزْنًا {وَابْيَضَّتْ عَيناهُ} أَيْ: عَمِيَ مِنَ الْحُزْنِ، وَقَدْ عَلِمَ بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِالْوَحْيِ أَنَّ يُوسُفَ حيٌّ، وَأَنَّهُ نَبِيٌّ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ حَيْثُ هُوَ {وَهُوَ كظيم} قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَيْ: كَمِيدٌ.
قَالَ محمدٌ: (كظيم) هُوَ مِثْلَ كَاظِمٌ، وَالْكَاظِمُ: الْمُمْسِكُ عَلَى حُزْنِهِ لَا يُظْهِرُهُ وَلا يشكوه.(2/337)
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
{قَالُوا تالله} قسمٌ {تفتأ تذكر يُوسُف} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي لَا تَزَالُ تَذْكُرُ يُوسُفَ {حَتَّى تَكُونَ حرضا} أَيْ: تَبْلَى {أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} أَيْ: تَمُوتَ.
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: أحرضه الْحزن إِذا أدقعه.(2/337)
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بثي} هَمِّي (وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ من الله مَا لَا(2/337)
تَعْمَلُونَ} قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ: أَعْلَمُ أَنَّ يُوسُف حيٌّ(2/338)
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
{يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُف وأخيه} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي تَبْحَثُوا عَنْ خبرهما {وَلَا تيئسوا من روح الله} يَعْنِي: رَحْمَة الله.
سُورَة يُوسُف من الْآيَة (88) إِلَى الْآيَة (95) .(2/338)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
{فَلَمَّا دخلُوا عَلَيْهِ} يَعْنِي: رَجَعُوا إِلَى مِصْرَ، فَدَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ {قَالُوا يَا أَيهَا الْعَزِيز مسنا وأهلنا الضّر} يَعْنِي: الْحَاجَةَ {وَجِئْنَا ببضاعةٍ مزجاةٍ} أَيْ: قَلِيلَةٍ {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} ببضاعتنا {وَتصدق علينا} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: تَصَدَّقْ عَلَيْنَا بأخينا.(2/338)
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
قَوْله: {إِذْ أَنْتُم جاهلون} أَيْ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْكُمْ بِجَهَالَةٍ، وَلَمْ يَكُونُوا حِينَ أَلْقَوْهُ فِي الْجب أَنْبيَاء(2/338)
قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
{قَالُوا أئنك لأَنْت يُوسُف} عَلَى الاسْتِفْهَامِ (قَالَ أَنَا يُوسُفُ.(2/338)
قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
{قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} قَالَ محمدٌ: لَا تَعْيِيرَ، وَأَصْلُ(2/338)
التثريب: الْإِفْسَاد.(2/339)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
{فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجه أبي يَأْتِ بَصيرًا} أَيْ: يَرْجِعُ.
قَالَ: وَلَوْلا أَنَّ ذَلِكَ عِلْمُهُ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ عِلْمٌ.(2/339)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)
{وَلما فصلت العير} أَيْ: خَرَجَتِ الرُّفْقَةُ مِنْ مِصْرَ بِالْقَمِيصِ وَجَدَ يَعْقُوبُ رِيحَ يُوسُفَ، قَالَ: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} قَالَ قَتَادَةُ: وَجَدَ رِيحَهُ حِينَ خَرجُوا (ل 158) بِالْقَمِيصِ مِنْ مِصْرَ، وَهُوَ بِأَرْضِ كَنْعَانَ، وَبَيْنَهُمَا ثَمَانُونَ فَرْسَخًا {لَوْلا أَن تفندون} يَقُولُ: لَوْلا أَنْ تَقُولُوا: قَدْ هَرَمَ، وَاخْتَلَطَ عَقْلُهُ؛ فَتُسَفِّهُونِي؛ أَيْ: تجهلوني(2/339)
قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)
{قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيم} يَعْنُونَ: خُسْرَانَكَ مِنْ حُبِّ يُوسُفَ.
سُورَة يُوسُف من الْآيَة (96) إِلَى الْآيَة (103) .(2/339)
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تعلمُونَ} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: مِنْ فَرَجِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ أخبرهُ أَنه حيٌّ.(2/340)
قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
{قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ} أخر ذَلِك إِلَى السحر.(2/340)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} قَالَ الْحَسَنُ: أَبُوهُ وَأُمَّهُ الَّتِي وَلَدَتْهُ.
قَالَ محمدٌ: تَقُولُ: آوَيْتُ فُلانًا؛ إِذَا ضَمَمْتَهُ إِلَيْكَ، وَأَوَيْتُ - بِلا مَدٍّ - إِلَى فلانٍ إِذَا انضممت إِلَيْهِ.(2/340)
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
{وَرفع أَبَوَيْهِ على الْعَرْش} أَيْ: عَلَى سَرِيرِهِ؛ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَة {وخروا لَهُ سجدا} قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ السُّجُودُ تَحِيَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَأَعْطَى اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ السَّلامَ؛ وَهُوَ تَحيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
{وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ البدو} وَكَانُوا بِأَرْض كنعان.(2/340)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
{توفني مُسلما وألحقني بالصالحين} يَعْنِي: أَهْلَ الْجَنَّةِ، قَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ وَأَقَرَّ عَيْنَهُ، ذَكَرَ الآخِرَةَ فَاشْتَاقَ إِلَيْهَا؛ فَتَمَنَّى [الْمَوْتَ] وَلَمْ يَتَمَنَّهُ نَبِيٌّ قبله.(2/340)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
{ذَلِك من أنباء الْغَيْب} يَعْنِي: مَا قُصَّ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ قِصَّتِهِمْ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ {وَمَا كُنْتَ لديهم} عِنْدَهُمْ {إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يمكرون} بِيُوسُف.(2/340)
سُورَة يُوسُف من الْآيَة (104) إِلَى الْآيَة (107) .(2/341)
وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} يَعْنِي: عَلَى الْقُرْآنِ مِنْ أجرٍ، فَيَحْمِلَهُمْ عَلَى تَرْكَهِ الْغُرْمُ {إِنْ هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين} يذكرُونَ بِهِ الْجنَّة وَالنَّار.(2/341)
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
{وكأين من آيَة} أَيْ: وَكَمْ مِنْ علامةٍ وَدَلِيلٍ {فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} أَي: فِي خلق السَّمَوَات وَالأَرْضِ تَدُلُّهُمْ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} أَي: لَا يتعظون بهَا.(2/341)
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وهم مشركون} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: قَالَ: إِيمَانُهُمْ أَنَّكَ لَا تَسْأَلُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلا أَنْبَأَكَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ؛ وَهُوَ فِي ذَلِكَ مشركٌ فِي عِبَادَتِهِ:(2/341)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
{أفأمنوا} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ من عَذَاب الله} يَقُولُ هَذَا عَلَى الاسْتِفَهَامِ؛ أَيْ: بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِآمِنِينَ {أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَة بَغْتَة} فَجْأَة {وهم لَا يَشْعُرُونَ} أَيْ: غَافِلُونَ؛ يَعْنِي: الَّذِينَ تَقُومُ عَلَيْهِم السَّاعَة بِالْعَذَابِ.
سُورَة يُوسُف من الْآيَة (108) إِلَى الْآيَة (111) .(2/341)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
{قل هَذِه سبيلي} أَيْ: مِلَّتِي {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ على بَصِيرَة} على يَقِين {وَسُبْحَان الله} أَمَرَهُ أَنْ يُنَزِّهَ اللَّهَ عَمَّا قَالَ الْمُشْركُونَ.(2/342)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقرى} قَالَ الْحَسَنُ: لمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَلا مِنَ النِّسَاءِ، وَلا مِنَ الْجِنِّ.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قبلهم} يَقُولُ: قَدْ سَارُوا فِي الأَرْضِ، فَرَأَوْا آثَارَ الَّذِينَ أَهْلَكُهُمُ اللَّهُ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ حِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، كَانَ عَاقِبَتُهُمْ أَنْ دَمَّرَ الله عَلَيْهِم، ثمَّ صيرهم إِلَى النَّارِ؛ يُحَذِّرُهُمْ أَنْ يُنَزِّلَ بِهِمْ مَا نَزَّلَ بِالْقُرُونِ مِنْ قَبْلِهِمْ {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} خير لَهُم.(2/342)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
{حَتَّى إِذا استيئس الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} كَانَ الْحَسَنُ يَقْرَؤُهَا بِالتَّثْقِيلِ (كُذِّبُوا) وَتَفْسِيرُهَا: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ؛ أَيْ: يَئِسَ الرُّسُلُ أَنْ يُجِيبَهُمْ قَوْمُهُمْ لشيءٍ قَدْ عَلِمُوهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ وَظَنُّوا؛ أَيْ: عَلِمُوا؛ يَعْنِي: الرُّسُلَ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا، التَّكْذِيبُ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ الْقَوْمُ بَعْدَهُ أَبَدًا، اسْتَفْتَحُوا عَلَى قَوْمِهِمْ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ؛ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ فَأَهْلَكَهُمْ.
وَكَانَ ابْنُ عباسٍ يَقْرَؤُهَا (كُذِبُوا) خَفِيفَةً، وَتَفْسِيرُهَا: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ(2/342)
الرُّسُلَ مِنْ قَوْمِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا، وَظَنَّ قَوْمَهُمْ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كذبُوا {جَاءَهُم نصرنَا} عذابنا.
{فنجي من نشَاء} يَعْنِي: النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ {وَلا يُرَدُّ بأسنا} عذابنا {عَن الْقَوْم الْمُجْرمين} الْمُشْركين.(2/343)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
{لقد كَانَ فِي قصصهم} يَعْنِي: يُوسُف وَإِخْوَته {عِبْرَة} مُعْتَبر {لأولي الْأَلْبَاب} الْعُقُولِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ.
{مَا كَانَ حَدِيثا يفترى} أَيْ: يُخْتَلَقُ وَيُصْنَعُ؛ هَذَا جَوَابٌ لقَوْل الْمُشْركين: (ل 159) {إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} أَيْ: كذبٌ اخْتَلَقَهُ مُحَمَّدٌ.
{وَلَكِنْ تَصْدِيق الَّذين بَين يَدَيْهِ} من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل {وتفصيل} أَي: تَبْيِين {كل شيءٍ} مِنَ الْحَلالِ وَالْحَرَامِ وَالأَحْكَامِ.
قَالَ محمدٌ: من قَرَأَ {تَصْدِيق} بِالنَّصْبِ، فَعَلَى مَعْنَى مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى، وَلَكِنْ كَانَ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.
{وَهُدًى وَرَحْمَةً} يَعْنِي: الْقُرْآن {لقوم يُؤمنُونَ} يُصَدِّقُونَ.(2/343)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الرَّعْدِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا إِلا آيَةً وَاحِدَةً وَهِيَ {وَلَا يزَال الَّذين كفرُوا} إِلَى آخرهَا.
سُورَة الرَّعْد من الْآيَة (1) إِلَى الْآيَة (3) .(2/344)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
قَوْله: {المر} قَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِيمَا تَقَدَّمَ {تِلْكَ آيَاتُ} هَذِه آيَات {الْكتاب} الْقُرْآن.(2/344)
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
{الله الَّذِي رفع السَّمَاوَات بِغَيْر عمد ترونها} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: فِيهَا تَقْدِيمٌ: رَفَعَ السَّمَوَاتِ تَرَوْنَهَا بِغَيْرِ عمدٍ. وَتَفْسِيرِ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَهَا عمدٌ، وَلَكِنْ لَا تَرَوْنَهَا {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كل يجْرِي لأجل مُسَمّى} يَعْنِي: الْقِيَامَةَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجْرِي مَجْرَى لَا يَعْدُوهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: وَمعنى {سخر الشَّمْس وَالْقَمَر} أَيْ: ذَلَّلَهُمَا وَقَصَرَهُمَا عَلَى مَا أَرَادَ.
{يدبر الْأَمر} يَقْضِي الْقَضَاءَ فِي خَلْقِهِ {يُفَصِّلُ الْآيَات} يُبَيِّنُهَا (لَعَلَّكُمْ(2/344)
بلقاء ربكُم توقنون} يَعْنِي: الْبَعْثُ؛ إِذَا سَمِعْتُمُوهَا فِي الْقُرْآن.(2/345)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
{وَهُوَ الَّذِي مد الأَرْض} أَيْ: بَسَطَهَا {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} يَعْنِي: الْجِبَالَ {وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثمرات جعل فِيهَا} أَيْ: خَلَقَ فِيهَا {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أَيْ: صِنْفَيْنِ.
قَالَ محمدٌ: قِيلَ: إِنَّهُ يَعْنِي: نَوْعَيْنِ: حُلْوًا وَحَامِضًا، وَالزَّوْجُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: الْوَاحِدُ الَّذِي لَهُ قَرِينٌ.
{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَار} أَيْ: يُلْبِسُ اللَّيْلَ النَّهَارَ فَيُذْهِبُهُ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لقومٍ يتفكرون} وهم الْمُؤْمِنُونَ.
سُورَة الرَّعْد من الْآيَة (4) إِلَى الْآيَة (5) .(2/345)
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
{وَفِي الأَرْض قطعٌ متجاوراتٌ} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: هِيَ الأَرْضُ الْعَذْبَةُ الطَّيِّبَةُ تَكُونُ مُجَاوِرَةً أَرْضًا سَبِخَةً مَالِحَةً {وجناتٌ مِنْ أعنابٍ وزرعٌ ونخيل صنوانٌ وَغير صنْوَان} الصِّنْوَانُ مِنَ النَّخِيلِ: النَّخْلَتَانِ أَوِ الثَّلاثُ مِنَ النَّخَلاتِ يَكُونُ أَصْلُهَا وَاحِدًا {تسقى بِمَاء واحدٍ} يَعْنِي: مَاءَ السَّمَاءِ؛ فِي تَفْسِيرِ(2/345)
مُجَاهِدٍ {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأكل} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَقُولُ: بَعْضُهَا أَطْيَبُ مِنْ بَعْضٍ.
قَالَ محمدٌ: الْأُكُلُ: كُلُّ مَا يُؤْكَلُ، وَالأُكُلُ مَصْدَرُ أَكَلْتُ.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فَيَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي صَنَعَ هَذَا قادرٌ عَلَى أَنْ يحيي الْمَوْتَى.(2/346)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
{وَإِن تعجب فَعجب قَوْلهم} الآيَةَ، تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: إِنْ تَعْجَبْ يَا مُحَمَّدُ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ، فتكذيبهم بِالْبَعْثِ أعجب، وَقَوله: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خلق جَدِيد} فَقَوْلهم ذَلِك عجبٌ.
سُورَة الرَّعْد (6) إِلَى الْآيَة (7) .(2/346)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
{ويستعجلونك بِالسَّيِّئَةِ} بِالْعَذَابِ؛ وَذَلِكَ مِنْهُمْ تكذيبٌ واستهزاءٌ {قبل الْحَسَنَة} يَعْنِي: قَبْلَ الْعَافِيَةِ {وَقَدْ خَلَتْ من قبلهم المثلات} يَعْنِي: وَقَائِعَ اللَّهِ فِي الأُمَمِ السَّالِفَةِ {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ للنَّاس على ظلمهم} إِذَا تَابُوا إِلَيْهِ {وَإِنَّ رَبَّكَ لشديد الْعقَاب} لمن أَقَامَ على شركه.(2/346)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
{وَيَقُول الَّذين كفرُوا لَوْلَا} هَلا {أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ ربه} قَالَ اللَّهُ: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} وَلَسْتَ مِنْ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بآيةٍ فِي شيءٍ {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أَيْ: دَاعٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة.
سُورَة الرَّعْد من الْآيَة (8) إِلَى الْآيَة (11) .(2/346)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى {وَمَا تغيض الْأَرْحَام وَمَا تزداد} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: قَالَ: الْغَيْضُوضَةُ أَنْ تَلِدَ لأَقَلِ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ {وَمَا تزداد} يَعْنِي: أَنْ تَلِدَ لأَكْثَرِ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، الْغَيْضُوضَةُ: النُّقْصَانُ.
{وَكُلُّ شيءٍ عِنْده بِمِقْدَار} أَي: بِقدر(2/347)
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
{عَالم الْغَيْب} 6 السِّرّ {وَالشَّهَادَة} الْعَلَانِيَة {الْكَبِير} يَعْنِي: الْعَظِيم {المتعال} عَمَّا قَالَ الْمُشْركُونَ(2/347)
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
{سواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمن جهر بِهِ} يَقُولُ: ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ سواءٌ سِرُّهُ وَعَلانِيَتُهُ {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ} أَيْ: يُظِلُّهُ اللَّيْلُ {وساربٌ بِالنَّهَارِ} أَي: ظَاهر، يَقُول: ذَلِك (ل 160) كُلُّهُ عِنْدَ اللَّهِ سَوَاءٌ.
قَالَ محمدٌ: قيل: {ساربٌ} مَعْنَاهُ: ظاهرٌ وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ لشاعرٍ يُخَاطِبُ امْرَأَةً:
(أَنَّى سَرَيْتِ وَكُنْتِ غَيْرَ سَرُوبِ ... وَتَقَرُّبُ الْأَحْلامِ غَيْرُ قَرِيبِ} يَقُولُ: لمْ تَكُونِي مِمَّنْ يَبْرُزُ وَيَظَهْرُ لِلنَّاسِ، فَكَيْفَ تَخَطَّيْتِ الْبُعْدَ إِلَيْنَا فِي(2/347)
سراك؟ ! وَقيل: معنى {سارب} : ذَاهِبٌ فِي حَوَائِجِهِ؛ وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الْقَائِلِ:
(أَرَى كُلَّ قومٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فَهْوَ سَارِبُ}
أَيْ: ذَاهِبُ.(2/348)
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
{لَهُ مُعَقِّبَات} لِهَذَا الْمُسْتَخْفِي وَهَذَا السَّارِبُ مُعَقِّبَاتٌ: مَلائِكَةٌ {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أَيْ: بِأَمْرِ اللَّهِ، قَالَ الْحَسَنُ: هُمْ أَرْبَعَةُ أَمْلاكٍ: مَلَكَانِ بِاللَّيْلِ، وَمَلَكَانِ بِالنَّهَارِ.
قَالَ محمدٌ: مَعْنَى {مُعَقِّبَات} : أَنْ يَأْتِيَ بَعْضُهُمْ بِعَقِبِ بَعْضٍ، وَشُدِّدَتْ لِتَكْثِيرِ الْفِعْلِ.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ إِذَا بَعَثَ إِلَى قومٍ رَسُولا فَكَذَّبُوهُ، أَهْلَكُهُمُ اللَّهُ {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سوءا} يَعْنِي: عَذَابًا {فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ} يَمْنَعُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
قَالَ محمدٌ: {والٍ} أَيْ: وليٌّ يَتَوَلاهُمْ دُونَ اللَّهِ.
سُورَة الرَّعْد من الْآيَة (12) إِلَى الْآيَة (13) .(2/348)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)
{يريكم الْبَرْق خوفًا وَطَمَعًا} قَالَ قَتَادَةُ: خَوْفًا لِلْمُسَافِرِ يَخَافُ أَذَاهُ(2/348)
وَمَعَرَّتَهُ، وَطَمَعًا لِلْمُقِيمِ يَرْجُو بَرَكَتَهُ ويطمع فِيهِ رِزْقِ اللَّهِ. وَالْبَرْقُ ضوءٌ خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَمًا لِلْمَطَرِ؛ فِي تَفْسِيرِ الْحسن {وينشئ السَّحَاب الثقال} قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الَّتِي فِيهَا المَاء(2/349)
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خيفته} أَيْ: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ أَيْضًا بِحَمْدِهِ مِنْ خِيفَتِهِ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ مَلِكٌ اسْمُهُ: الرَّعْدُ، وَالصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ تَسْبِيحَهُ؛ يُؤَلِّفُ بِهِ السَّحَابَ بَعْضَهُ إِلَى بعضٍ، ثُمَّ يَسُوقُهُ حَيْثُ أُمِرَ.
قَالَ يحيى: وَسَمِعْتُ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: الْبَرْقُ لَمْحَةٌ يَلْمَحُهَا إِلَى الأَرْضِ الْمَلَكُ الَّذِي يَزْجُرُ السَّحَاب.
{وَيُرْسل الصَّوَاعِق} وَهِيَ نارٌ تَقَعُ مِنَ السَّحَابِ؛ فِي تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ.
قَالَ يحيى: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمَلَكَ يَزْجُرُ السَّحَابَ بسوطٍ مِنْ نَارٍ، فَرُبَّمَا انْقَطَعَ السَّوْطُ؛ فَهُوَ الصَّاعِقَةُ.
{فَيُصِيبُ بهَا من يَشَاء} قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَبِي زَكَرِيَّا:
بَلَغَنِي أَنَّهُ مَنْ سَمِعَ الرَّعْدَ؛ فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّي وَبِحَمْدِهِ، لمْ تُصِبْهُ صاعقةٌ.
{وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ يُجَادِلُونَ نَبِيَّ اللَّهِ؛ أَيْ: يُخَاصِمُونَهُ فِي عِبَادَتِهِمُ الأَوْثَانَ دُونَ اللَّهِ {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: الْقُوَّةَ.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: مَا حلته مِحَالا إِذَا قَاوَيْتَهُ؛ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ أَيُّكُمَا أَشَدُّ.(2/349)
وَقَدْ قِيلَ: الْمِحَالُ: الْحِيلَةُ؛ وَمِنْ هَذَا قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ.
(وَلَبَّسَ بَيْنَ أَقْوَامٍ وَكُلٌّ ... أَعَدَّ لَهُ الشغارب والمحالا)
يَعْنِي: الكيد وَالْمَكْر.
سُورَة الرَّعْد من الْآيَة (14) إِلَى الْآيَة (16) .(2/350)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
{لَهُ دَعْوَة الْحق} هِيَ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ {وَالَّذين يدعونَ من دونه} يَعْنِي: الأَوْثَانَ {لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بشيءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ ببالغه} هَذَا مَثَلُ الَّذِي يَعْبُدُ الأَوْثَانَ رَجَاءَ الْخَيْرِ فِي عِبَادَتِهَا هُوَ كَالَّذِي يَرْفَعُ بِيَدِهِ الإِنَاءَ إِلَى فِيهِ يَرْجُو بِهِ الْحَيَاةَ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى فِيهِ؛ فَكَذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ حَيْثُ رَجَوْا مَنْفَعَةَ آلِهَتِهِمْ ضَلَّتْ عَنْهُمْ {وَمَا دُعَاءُ الْكَافرين} آلِهَتَهُمْ {إِلا فِي ضَلالٍ} .(2/350)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْض} الآيَةَ، تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: قَالَ: وَلِلَّهِ يسْجد من فِي السَّمَوَات، ثمَّ انْقَطع الْكَلامُ، فَقَالَ: وَالأَرْضِ - أَيْ: وَمَنْ فِي الأَرْض {طَوْعًا وَكرها} أَيْ: طَائِعًا وَكَارِهًا، قَالَ الْحَسَنُ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَاللَّهِ، لَا يَجْعَلُ اللَّهُ مَنْ دَخَلَ فِي الإِسْلامِ طَوْعًا كَمَنْ دَخَلَهُ كَرْهًا ".
قَالَ الْحَسَنُ: وَلَيْسَ يَدْخُلُ فِي الْكُرْهِ مَنْ وُلِدَ فِي الإِسْلامِ.
{وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال} الآصَالُ: الْعَشِيُّ، تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ: إِذَا سَجَدَ الأَشْيَاءُ سَجَدَ ظِلُّهُ مَعَهُ.(2/351)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
{قل (ل 161} مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ الله} فَإِذا أقرُّوا بذلك فَقل: {أفتخذتم من دونه أَوْلِيَاء} يَعْنِي: أَوْثَانَهُمْ {لَا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نفعا وَلَا ضراًّ} وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى معرفةٍ؛ أَيْ: قَدْ فَعَلْتُمْ.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير}
وَهَذَا مَثَلُ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ؛ الْكَافِرُ أَعْمَى عَنِ الْهُدَى، وَالْمُؤْمِنُ أَبْصَرَ الإِيمَانَ {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ والنور} عَلَى الاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَوِي.
{أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِم} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَقُولُ: هَلْ يَدَّعُونَ أَنَّ تِلْكَ الأَوْثَانَ خَلَقَتْ مَعَ الله شَيْئا؛ فَلم يدروا أَي الْخَالِقِينَ يُعْبَدُونَ؛ هَلْ رَأَوْا ذَلِكَ؟ وَهَلْ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَحْتَجُّوا بِهِ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ أَيْ: أَنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ يُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ كُلَّ شيءٍ، فَكَيْفَ عَبَدُوا هَذِهِ الأَوْثَانَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ ! ثُمَّ قَالَ اللَّهُ: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شيءٍ وَهُوَ الْوَاحِد القهار} .(2/351)
سُورَة الرَّعْد من الْآيَة (17) إِلَى الْآيَة (18) .(2/352)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوديَة بِقَدرِهَا} الْكَبِيرُ بِقَدَرِهِ، وَالصَّغِيرُ بِقَدَرِهِ {فَاحْتَمَلَ السَّيْل زبداً رابياً} يَعْنِي: عَالِيا فَوْقَ الْمَاءِ، إِلَى قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ يضْرب الله الْأَمْثَال} هَذِهِ أَمْثَالٌ ضَرَبَهَا اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِر، فَأَما قَوْله: {وَمِمَّا توقدون عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حليةٍ} فَإِنَّهُ يَعْنِي: الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ؛ إِذَا أُذِيبَا فَعَلا خَبَثُهُمَا؛ وَهُوَ الزَّبَدُ، وَخَلُصَ خَالِصُهُمَا تَحْتَ ذَلِكَ الزَّبَدِ {أَو مَتَاع} أَي: وابتغاء مَتَاع مَا يسْتَمْتع بِهِ {زبدٌ مثله} أَيْ: مِثْلَ زَبَدِ الْمَاءِ، وَالَّذِي يُوقَدُ عَلَيْهِ ابْتِغَاءَ مِتَاعٍ هُوَ الْحَدِيدُ وَالنُّحَاسُ وَالرُّصَاصُ إِذَا صُفِّيَ ذَلِكَ أَيْضًا؛ فَخَلُصَ خَالِصُهُ، وَعَلا خَبَثُهُ؛ وَهُوَ زَبَدُهُ {فَأَمَّا الزَّبَدُ} زَبَدُ الْمَاءِ، وَزَبَدُ الْحُلِيِّ، وَزَبَدُ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرُّصَاصِ {فَيَذْهَبُ جُفَاءً} يَعْنِي: لَا يُنْتَفَعُ بِهِ؛ فَهَذَا مِثْلَ عَمَلِ الْكَافِرِ؛ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الآخِرَةِ {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} فَيُنْتَفَعُ بِالْمَاءِ يُنْبِتُ عَلَيْهِ الزَّرْعُ وَالْمَرْعَى، وَيُنْتَفَعُ بِذَلِكَ الْحُلِيُّ وَالْمَتَاعُ؛ فَهَذَا مِثْلُ عَمَلِ الْمِؤْمِنِ يَبْقَى ثَوَابُهُ فِي الآخِرَةِ.
قَالَ محمدٌ: {الْجُفَاءُ} فِي اللُّغَةِ: هُوَ مَا رَمَى بِهِ الْوَادِي إِلَى جَنَبَاتِهِ؛ يُقَالُ: جَفَأَ الْوَادِي غُثَاءَهُ، وَجَفَأْتُ الرَّجُلَ إِذَا صَرَعْتُهُ، وَمَوْضِعُ {جُفَاءً} نَصْبٌ(2/352)
عَلَى الْحَالِ، وَمَعْنَى {يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَال} يصفها ويبينها.(2/353)
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ} آمنُوا {الْحسنى} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: الْجَنَّةَ {وَالَّذِينَ لم يَسْتَجِيبُوا لَهُ} يَعْنِي: الْكُفَّارَ {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سوء الْحساب} شدته {ومأواهم جَهَنَّم} منزلهم جَهَنَّم {وَبئسَ المهاد} الْقَرار.
سُورَة الرَّعْد من الْآيَة (19) إِلَى الْآيَة (24) .(2/353)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أعمى} عَنْهُ؛ أَيْ: أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ؛ يَعْنِي: الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أولو الْأَلْبَاب} الْعُقُول؛ وهم الْمُؤْمِنُونَ(2/353)
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)
{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا ينقضون الْمِيثَاق} الَّذِي أَخذ عَلَيْهِم فِي صُلْبِ آدَمَ؛ حَيْثُ قَالَ: {أَلَسْتُ بربكم} ؛ يَقُول: أَوْفوا بذلك الْمِيثَاق(2/353)
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)
{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصل} تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ: الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ: الإِيمَانُ بِالنَّبِييِّنَ كُلِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحدٍ مِنْهُم(2/353)
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
{وَأَقَامُوا الصَّلَاة} يَعْنِي: الصَّلَوَات الْخمس عَلَى وضوئها وَمُوَاقِيتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} يَعْنِي: الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ؛ فِي تَفْسِيرِ الْحسن {سرا وَعَلَانِيَة} يُسْتَحَبُّ(2/353)
أَنْ تُعْطَى الزَّكَاةُ عَلانِيَةً، وَالتَّطَوُّعُ سراًّ {ويدرءون بِالْحَسَنَة السَّيئَة} يَقُولُ: يَدْفَعُونَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ الْقَوْلَ الْقَبِيحَ وَالأَذَى {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّار} يَعْنِي: دَارَ الآخِرَةِ، وَالْعُقْبَى: الثَّوَابُ؛ وَهُوَ الْجنَّة(2/354)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23)
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ من آبَائِهِم} أَي: من آمن(2/354)
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
{سَلام عَلَيْكُم} وَهَذِهِ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: يَقُولُونَ: سلامٌ عَلَيْكُمْ؛ فَأُضْمِرَ الْقَوْلُ؛ إِذْ فِي الْكَلامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
{بِمَا صَبَرْتُمْ} فِي الدُّنْيَا.
سُورَة الرَّعْد من الْآيَة (25) إِلَى الْآيَة (28) .(2/354)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} أَي: يُوسع عَلَيْهِ {وَيقدر} أَي: يضيق {وفرحوا} أَي: رَضوا {بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (ل 162) يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا متاعٌ} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ يَسْتَمْتِعُ بِهِ، ثمَّ يذهب(2/354)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)
وَيَقُولُ الْكَافِرُونَ: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَة من ربه} أَيْ: هَلا {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أناب} من تَابَ وأخلص(2/354)
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله} أَيْ: تَسْكُنُ {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تطمئِن الْقُلُوب} .
قَالَ محمدٌ: (أَلا) حرف تَنْبِيه وَابْتِدَاء، والقلوب هَا هُنَا قُلُوب الْمُؤمنِينَ؛(2/354)
الْمَعْنى: إِذْ ذُكِرَ اللَّهُ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، آمَنُوا بِهِ غير شاكين.
سُورَة الرَّعْد من الْآيَة (29) إِلَى الْآيَة (31) .(2/355)
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
{طُوبَى لَهُم} قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ، أَصْلُهَا فِي دَارِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ دَارٌ وَلا غُرْفَةٌ إِلا وَغُصْنٌ مِنْهَا فِي تِلْكَ الدَّار {وَحسن مآب} مرجع، يَعْنِي: الْجنَّة.(2/355)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خلت من قبلهَا أُمَم} أَيْ: كَمَا أَرْسَلْنَا فِي الأُمَمِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مَنْ قَبْلِ هَذِهِ الأُمَّةِ {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} كَانُوا يَقُولُونَ: أَمَّا اللَّهُ فَنَعْرِفُهُ، وَأما الرَّحْمَن فَلَا نعرفه {قلا هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} يَعْنِي: التَّوْبَة.(2/355)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
{وَلَو أَن قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} تَفْسِير قَتَادَة: ذكر لنا أَن قُرَيْشًا قَالَتْ لِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنْ سَرَّكَ أَنْ نَتَّبِعَكَ فَسَيِّرْ لَنَا جِبَالَ تُهَامَةَ، وَزِدْ لَنَا فِي حَرَمِنَا؛ حَتَّى نَتَّخِذَ قَطَائِعَ نَحْتَرِفَ فِيهَا، أَو أُمِّي لَنَا فُلانًا وَفُلانًا وَفُلانًا - لأُنَاسٍ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ، يَقُولُ: لَوْ فُعِلَ هَذَا بِقُرْآنٍ غَيْرِ قُرْآنِكُمْ فُعِلَ بِقُرْآنِكُمْ.(2/355)
قَالَ محمدٌ: اخْتُصِرَ جَوَابُ (لَوْ) ؛ إِذْ كَانَ فِي الْكَلَامِ مَا يدل عَلَيْهِ.
{أفلم ييأس الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ الله لهدى النَّاس جَمِيعًا} أَيْ: أَلَمْ يَعْرِفْ؟
قَالَ محمدٌ: قِيلَ: إِنَّهَا لغةٌ لِلنَّخَعِ (يَيْأَسُ) بِمَعْنَى: يَعْرِفُ قَالَ الشَّاعِرُ:
(أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ يَأْسِرُونَنِي ... أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ)
أَيْ: أَلَمْ تَعْلَمُوا.
{وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَة} هِيَ السَّرَايَا سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُصِيبَهُمُ اللَّهُ مِنْهَا بِعَذَاب {أَو تحل} أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ {قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} يَعْنِي: فَتْحَ مَكَّةَ؛ فِي تَفْسِيرِ مُجَاهِد وَقَتَادَة.
سُورَة الرَّعْد من الْآيَة (32) إِلَى الْآيَة (34) .(2/356)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
{فأمليت} أطلت {للَّذين كفرُوا} أَيْ: لمْ أُعَذِّبْهُمْ عِنْدَ اسْتِهْزَائِهِمْ(2/356)
بِأَنْبِيَائِهِمْ، وَلَكِنْ أَخَّرْتُهُمْ حَتَّى بَلَغَ الْوَقْتُ. {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَاب} أَي: كَانَ شَدِيدا(2/357)
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نفسٍ بِمَا كسبت} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: ذَلِكُمُ اللَّهُ.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: اللَّهُ هُوَ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نفسٍ بِمَا كَسَبَتْ؛ يَأْخُذُهَا بِمَا جَنَتْ، وَيُثِيبُهَا بِمَا أَحْسَنَتْ؛ عَلَى مَا سَبَقَ فِي علمه.
{وَجعلُوا لله شُرَكَاء} يَقُولُ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِي هُوَ قائمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ وَهَذِهِ الأَوْثَانُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا؟ ! {قُلْ سَمُّوهُمْ} وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسمَاء سميتموها} {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الأَرْض} أَيْ: قَدْ فَعَلْتُمْ، وَلا يَعْلَمُ أَنَّ فِيهَا إِلَهًا مَعَهُ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إلهٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ.
{أَمْ بِظَاهِر من القَوْل} يَعْنِي: أَمْ بِظَنٍّ مِنَ الْقَوْلِ؛ فِي تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ {بَلْ زُيِّنَ للَّذين كفرُوا مَكْرهمْ} قَوْلهم {وصدوا عَن السَّبِيل} عَن سَبِيل الْهدى.(2/357)
لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
{لَهُمْ عذابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يَعْنِي: مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِالسَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَلآخِرِ كُفَّارِ هَذِهِ الأُمَّةِ بالنفخة الأولى {ولعذاب الْآخِرَة} النَّار {أشق} من عَذَاب الدُّنْيَا.
سُورَة الرَّعْد من الْآيَة (35) إِلَى الْآيَة (37) .(2/357)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
{مثل الْجنَّة} أَيْ: صِفَتُهَا {الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أكلهَا} ثَمَرهَا {دائمٌ} أَي: لَا ينْفد {وظلها} .
قَالَ محمدٌ: (مثل الْجنَّة} مرفوعٌ بِالابْتِدَاءِ.
{تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقوا} يَعْنِي: الْجَنَّةَ {وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} .(2/358)
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أنزل إِلَيْك} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: هُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ {وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنكر بعضه} الْأَحْزَاب هَا هُنَا: الْيَهُود وَالنَّصَارَى؛ يُنكرُونَ (ل 163) بَعْضَ الْقُرْآنِ، وَيُقِرُّونَ بِبَعْضِهِ بِمَا وافقهم.(2/358)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حكما عَرَبيا} يَعْنِي: الْقُرْآنَ.
{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ حَتَّى لَا تُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ الرِّسَالَةَ.
{مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واق} يُغْنِيكَ مِنْ عَذَابِهِ؛ إِنْ فَعَلْتَ، وَلست بفاعلٍ.
سُورَة الرَّعْد من الْآيَة (38) إِلَى الْآيَة (43) .(2/358)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلنَا لَهُم أَزْوَاجًا وذرية} نَزَلَتْ حِينَ قَالَتِ الْيَهُودُ: لَوْ كَانَ محمدٌ رَسُولا، لَكَانَ لَهُ هَمٌّ غَيْرَ النِّسَاءِ وَالْتِمَاسِ الْوَلَدِ {وَمَا كَانَ لرسولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أجل كتابٌ}(2/359)
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْده أم الْكتاب} تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ: يُكْتَبُ كُلَّ مَا يَقُولُ؛ فَإِذَا كَانَ كُلُّ يَوْمِ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ، مُحِيَ عَنْهُ مَا لمْ يَكُنْ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، وَأُثْبِتَ مَا سِوَى ذَلِكَ {وَعِنْدَهُ أم الْكتاب} يَعْنِي: اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، وَتَفْسِيرُ أُمِّ الْكتاب جملَة الْكتاب وَأَصله.(2/359)
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَو نتوفينك} تَفْسِير الحَسَن: إِن اللَّه أخبر مُحَمَّدًا أَنَّ لَهُ فِي أُمَّتِهِ نَقْمَةً، وَلَمْ يُخْبِرْهُ، أَفِي حَيَاتِهِ تَكُونُ أَمْ بَعْدَ مَوْتِهِ؟ وَفِيهَا إِضْمَار {فَإنَّا مِنْهُم منتقمون} .
{فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ} أَنْ تُبَلِّغَهُمْ، وَلَسْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُكْرِهَهُمْ عَلَى الإِيمَانِ، إِنَّمَا يُؤْمِنُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُؤْمِنَ {وعلينا الْحساب} يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِقِتَالِهِمْ.(2/359)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
{أَو لم يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا من أطرافها} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلَّمَا بَعَثَ إِلَى أَرْضٍ ظَهَرَ عَلَيْهَا وَغَلَبَ أَهْلُهَا؛ يَقُولُ: نَنْقُصُهَا بِذَلِكَ أَرْضًا فَأَرْضًا.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: كَأَنَّهُ يَنْقُصُ الْمُشْرِكِينَ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ.
{وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لحكمه} أَيْ: لإِرَادَتِهِ.
قَالَ محمدٌ: أَصْلُ التَّعْقِيبِ فِي اللُّغَةِ: الْكَرُّ وَالرُّجُوعُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ:(2/359)
لَا رَاجِعَ يَرُدُّ حُكْمَهُ.
{وَهُوَ سريع الْحساب} يَعْنِي: الْعَذَابَ؛ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَذِّبَ قَوْمًا مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ كَانَ عَذَابُهُ إِيَّاهُمْ أَسْرَعَ مِنَ الطَّرْفِ؛ يُخَوِّفُ بِهَذَا الْمُشْرِكِينَ.(2/360)
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يَعْنِي: مِنْ قَبْلِ مُشْرِكِي هَذِهِ الْأمة {فَللَّه الْمَكْر جَمِيعًا} فَمَكَرَ بِهِمْ، أَهْلَكَهُمْ أَحْسَنَ مَا كَانُوا فِي دُنْيَاهُمْ فِعَالا {يَعْلَمُ مَا تكسب كل نفسٍ} أَيْ: تَعْمَلُ {وَسَيَعْلَمُ (الْكُفَّارُ} لِمَنْ عُقبى الدَّار} لمن الْجنَّة(2/360)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا} .
قُلْ يَا مُحَمَّدُ: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ علم الْكتاب} قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: فِيَّ نَزَلَتْ: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكتاب} .
قَالَ محمدٌ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدا} الْمَعْنى: كفى الله شَهِيدا، و (شَهِيدا) منصوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ.(2/360)
تَفْسِيرُ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا إِلا آيَتَيْنِ: قَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذين بدلُوا نعْمَة اللَّهِ كُفْرًا} إِلَى قَوْلِهِ: {الْقَرَارُ} .
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (1) إِلَى الْآيَة (3) .(2/361)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)
قَوْلُهُ: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} أَيْ: هَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ؛ يَعْنِي: الْقُرْآن {لتخرج النَّاس} من أَرَادَ الله أَن يهديه {من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} يَعْنِي: من الضَّلَالَة إِلَى الْهدى {بِإِذن رَبهم} 6 بِأَمْر رَبهم {إِلَى صِرَاط} {إِلَى طَرِيق} (الْعَزِيز} فِي ملكه ونقمته {الحميد} اسْتَحْمَدَ إِلَى خَلْقِهِ، وَاسْتَوْجَبَ عَلَيْهِمْ أَن يحمدوه.(2/361)
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
{الَّذين يستحبون} يَخْتَارُونَ {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} لَا يُقِرُّونَ بِالآخِرَةِ {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيل الله ويبغونها عوجا} يَبْتَغُونَ السَّبِيلَ عِوَجًا؛ يَعْنِي: الشِّرْكَ.
قَالَ محمدٌ: (السَّبِيلُ) يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَكَذَلِكَ (الطَّرِيقُ) فَأَمَّا الزِّقَاقُ(2/361)
فَمُذَكَّرٌ. وَنَصْبُ (عِوَجًا) عَلَى الْحَالِ.
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (4) إِلَى الْآيَة (6) .(2/362)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَان قومه} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: بلغَة قَوْمِهِ {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} بعد الْبَيَان.(2/362)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
{وَذكرهمْ بأيام الله} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: يُذَكِّرْهُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِم، وَيذكرهُمْ (ل 164) كَيْفَ أَهْلَكَ قَوْمَ نوحٍ وَعَادًا وَثَمُودَ وَغَيْرَهُمْ، يَقُولُ: ذَكِّرْهُمْ هَذَا وَهَذَا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لكل صبار شكور} وَهُوَ الْمُؤمن.
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (7) إِلَى الْآيَة (9) .(2/362)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
{وَإِذ تَأذن رَبك} أَي: أعلمكُم {لَئِن شكرتم} آمنتم {لأزيدنكم} فِي النِّعَمِ {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابي لشديد} فِي الْآخِرَة.(2/363)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قبلكُمْ} أَيْ: خَبَرُهُمْ.
{لَا يَعْلَمُهُمْ إِلا الله} أَيْ: لَا يَعْلَمُ كَيْفَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ إِلا اللَّهُ.
{فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاههم} أَيْ: عَضُّوا عَلَى أَنَامِلِهِمْ غَيْظًا عَلَى الأَنْبِيَاءِ؛ كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} .
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (10) إِلَى الْآيَة (14) .(2/363)
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
{قَالَت رسلهم} أَيْ: قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ: {أَفِي الله شكّ فاطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض} خَالِقِهِمَا؛ أَيْ: أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شكٌّ، وَأَنْتُمْ تُقِرُّونَ أَنَّهُ خَالِقُ السَّمَوَات وَالأَرْضِ، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ غَيْرَهُ؟ ! {يَدْعُوكُمْ ليغفر لكم من ذنوبكم} أَيْ:(2/363)
لِيَغْفِرَ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ؛ إِنْ آمَنْتُمْ {ويؤخركم إِلَى أجل مُسَمّى} يَعْنِي: إِلَى آجَالِهِمْ بِغَيْرِ عَذَابٍ؛ فَلا يَكُونُ مَوْتُهُمْ بِالْعَذَابِ.
{قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أَيْ: لَا يُوحَى إِلَيْكُمْ.
{فَأْتُونَا بسُلْطَان مُبين} بِحُجَّةٍ بَيِّنَةٍ {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} بِالنُّبُوَّةِ؛ فَيُوحِي إِلَيْهِ(2/364)
وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
{وَقد هدَانَا سبلنا} يَعْنُونَ: سُبُلَ الْهُدَى {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذيتمونا} يَعْنُونَ: قَوْلَهُمْ لِلأَنْبِيَاءِ: إِنَّكُمْ سَحَرَةٌ، وَإِنَّكُمْ كاذبون.(2/364)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)
{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} وَهَذَا حَيْثُ أَذِنَ اللَّهُ لِلرُّسُلِ فدعوا عَلَيْهِم؛ فَاسْتَجَاب لَهُم(2/364)
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
{ولنسكننكم الأَرْض من بعدهمْ} أَيْ: مَنْ بَعْدِ إِهْلاكِهِمْ {ذَلِكَ لمن خَافَ مقَامي} يَعْنِي: الْمَقَامَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ لِلْحسابِ.
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (15) إِلَى الْآيَة (20) .(2/364)
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)
{واستفتحوا} يَعْنِي: الرُّسُلَ؛ أَيْ: دَعَوْا عَلَى قَوْمِهِمْ، حِينَ اسْتَيْقَنُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤمنُونَ.
قَالَ محمدٌ: معنى (استفتحوا) : سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ؛ أَيْ: يَنْصُرَهُمْ، وَكُلُّ نَصْرٍ هُوَ فَتْحٌ؛ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ يحيى.(2/364)
{وخاب} أَيْ: خَسِرَ {كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} الْجَبَّارُ: الْمُتَكَبِّرُ، وَالْعَنِيدُ: الْمُجَانِبُ لِلْقَصْدِ.(2/365)
مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)
{من وَرَائه جَهَنَّم} أَي: من بعد هَذَا الْعَذَابِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا {جَهَنَّم} أَيْ: عَذَابُ جَهَنَّمَ. وَقَدْ قِيلَ: {مِنْ وَرَائِهِ} أَيْ: مِنْ أَمَامِهِ.
{ويسقى من مَاء صديد} الصَّدِيدُ: مَا يَسِيلُ مِنْ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ مِنَ الْقَيْحِ وَالدَّمِ(2/365)
يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
{يتجرعه وَلَا يكَاد يسيغه} مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لَهُ، وَهُوَ يُسِيغُهُ لابُدَّ لَهُ مِنْهُ، فَتَتَقَطَّعَ أَمْعَاؤُهُ.
قَالَ محمدٌ معنى (يسيغه) : يَبْتَلِعُهُ.
{وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَان} وَهِيَ النَّارُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ قَضَى عَلَيْهِمْ أَلا يَمُوتُوا؛ هَذَا تَفْسِيرُ الْحَسَنِ.
{وَمِنْ وَرَائِهِ عذابٌ غَلِيظٌ} كَقَوْلِهِ: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عذَابا} .(2/365)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كرمادٍ اشتدت بِهِ الرِّيَاح فِي يَوْم عاصفٍ} يَعْنِي: مِمَّا عَمِلُوا مِنْ حَسَنٍ على سييءٍ فِي الآخِرَةِ، قَدْ جُوزُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا(2/365)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ} أَيْ: يُصَيِّرُ الأَمْرَ إِلَى الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ {إِنْ يَشَأْ يذهبكم} يَسْتَأْصِلْكُمْ بِالْعَذَابِ {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} أَي: آخَرين(2/365)
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
{وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أَي: لَا يشق عَلَيْهِ.
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (21) إِلَى الْآيَة (23) .(2/365)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
{وبرزوا لله جَمِيعًا} يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ} وهم الأتباع {للَّذين استكبروا} 6 وَهُمُ الرُّؤَسَاءُ: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تبعا} لِدُعَائِكُمْ إِيَّانَا إِلَى الشِّرْكِ.
قَالَ محمدٌ: (تبعا) جَمْعُ تَابِعٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا سُمِّي بِهِ؛ أَيْ: كُنَّا ذَوِي تَبَعٍ.
{سواءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ محيصٍ} أَيْ: مهربٍ، وَلا مَعْزِلٍ عَنِ الْعَذَاب.(2/366)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} أَيْ: فُصِلَ بَيْنَ الْعِبَادِ؛ فَاسْتَبَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ {إِن الله وَعدكُم وعد الْحق} أَيْ: وَعَدَهُمُ الْجَنَّةَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِدِينِهِ {وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لي عَلَيْكُم من سلطانٍ} أَسْتَرْهِبُكُمْ بِهِ {إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ} 6 بالوسوسة {فاستجبتم لي} .
{مَا أَنا بمصرخكم} بمغيثكم من عَذَاب الله (ل 165} (وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ(2/366)
إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قبل} أَيْ: فِي الدُّنْيَا - يَكْفُرُ بِأَنْ يَكُونَ شَرِيكًا.
يحيى: عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ دُخَيْنٍ الْحَجَرِي، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَفَرَغَ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: قَدْ قَضَى بَيْنَنَا رَبُّنَا؟ فَمَنْ يَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّنَا؟ قَالُوا: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى آدَمَ؛ فَإِنَّهُ أَبُونَا وَخَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ وَكَلَّمَهُ، فَيَأْتُونَهُ فَيُكَلِّمُونَهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ، فَيَقُولُ آدَمُ: عَلَيْكُمْ بِنُوحٍ؛ فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَدُلُّهُمْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ يَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَدُلُّهُمْ عَلَى مُوسَى، ثُمَّ يَأْتُونَ مُوسَى فَيَدُلُّهُمْ عَلَى عِيسَى، ثُمَّ يَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ: أَدُلُّكُمْ عَلَى النَّبِيِّ الأُمِّي؛ فَيَأْتُونَنِي فَيَأْذَنُ اللَّهُ لِي أَنْ أَقُومَ إِلَيْهِ؛ فَيَفُورُ مِنْ مَجْلِسِي أَطْيَبُ رِيحٍ شَمَّهَا أحدٌ حَتَّى آتِي رَبِّي، فَيُشَفِّعُنِي وَيَجْعَلُ لِي نُورًا مِنْ شَعْرِ رَأْسِي إِلَى ظُفْرِ قَدَمِي، ثُمَّ يَقُولُ الْكَافِرُونَ: (هَذَا) وَجَدَ الْمُؤْمِنُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ فَمَنْ يَشْفَعُ لَنَا؟ {مَا هُوَ إِلا إِبْلِيسُ هُوَ الَّذِي أَضَلَّنَا فَيَأْتُونَهُ؛ فَيَقُولُونَ: قَدْ وَجَدَ الْمُؤْمِنُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ؛ فَقُمْ فَاشْفَعْ أَنْتَ لَنَا فَإِنَّكَ أَنْتَ أَضْلَلْتَنَا} فَيَقُومُ فَيَفُورُ مِنْ مَجْلِسِهِ أَنْتَنُ رِيحٍ شَمَّهَا أحدٌ، ثُمَّ (يُعَظِّمُ لِجَهَنَّمَ) ، ثُمَّ يَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وعد الْحق ووعدتكم فأخلفتكم} الْآيَة.(2/367)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
{تحيتهم فِيهَا سَلام} يَقُولُ: يُسَلِّمُ أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْضُهُمْ على بعضٍ، وتحييهم الْمَلائِكَةُ أَيْضًا عَنِ اللَّهِ بِالسَّلامِ؛ حِينَ تَأْتِيهِمْ مِنْ عِنْدَ اللَّهِ بالكرامة والهدية.
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (24) إِلَى الْآيَة (27) .(2/368)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مثلا كلمة طيبَة} هِيَ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ {كشجرة طيبَة} وَهِيَ النَّخْلَةُ؛ وَهِيَ مَثَلُ الْمَؤْمِنِ {أَصْلهَا ثَابت} فِي الأَرْضِ {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} أَيْ: رَأْسُهَا الَّذِي تَكُونُ فِيهِ الثَّمَرَة(2/368)
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
{تؤتي أكلهَا} ثَمَرَتَهَا {كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} أَيْ: بِأَمْرِهِ. تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَقُولُ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَزَالُ مِنْهُ كلامٌ طيبٌ وعملٌ صالحٌ؛ كَمَا تُؤْتِي هَذِهِ الشَّجْرَةُ أُكُلَهَا فِي كُلِّ حِينٍ.
قَالَ يحيى: (وَالْحِينُ) فِي تَفْسِيرِ بَعْضِهِمْ: السَّنَةُ، وَهِيَ تُؤْكَلُ شِتَاءً وَصَيْفًا.
قَالَ محمدٌ: (الْحِينُ) فِي اللُّغَةِ: اسْمُ وقتٍ مِنْ أَوْقَاتِ الزَّمَانِ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا طَال وَقصر.(2/368)
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
{وَمثل كلمة خبيثة} الشّرك {كشجرة خبيثة} يَعْنِي: الْحَنْظَلَةَ {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْض} أَيْ: قُطِعَتْ مِنْ أَعْلَى الأَرْضِ {مَا لَهَا من قَرَار} أَيْ: لَيْسَ لأَصْلِهَا ثباتٌ فِي الأَرْضِ؛ فَذَلِكَ مَثَلُ عَمَلِ الْكَافِرِ، لَيْسَ لِعَمَلِهِ الْحَسَنِ أصلٌ(2/368)
ثَابِتٌ يُجْزَى بِهِ فِي الآخِرَةِ.(2/369)
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} تَفْسِيرُ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ:
إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَرَجَعَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ أَتَاهُ ملكٌ فَأَجْلَسَهُ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ، ثُمَّ يَقُولُ: فَمَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: الإِسْلامُ، ثُمَّ يَقُولُ: فَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: محمدٌ، فَيُقَالُ لَهُ: صَدَقْتَ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بابٌ إِلَى النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي لَوْ أَنَّكَ كُنْتَ كَذَّبْتَ صِرْتَ إِلَيْهَا؛ قَدْ أَعَاذَكَ اللَّهُ مِنْهَا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ هَذِهِ الْجَنَّةُ، وَيُعْرَضُ عَلَيْهِ مَنْزِلُهُ فِيهَا ثُمَّ يُوَسَّعُ لَهُ قَبْرَهُ، فَلا يَزَالُ يَأْتِيهِ مِنْ رِيحِ الْجَنَّةِ وَبَرْدِهَا حَتَّى تَأْتِيَهُ السَّاعَةُ. وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَرَجَعَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ أَتَاهُ ملكٌ فَأْجَلَسَهُ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي. ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي! ثُمَّ يَقُولُ: مَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ لَهُ: لَا أَدْرِي. فَيَقُولُ لَهُ: لَا دَرَيْتَ. ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَذِهِ الْجَنَّةُ الَّتِي لَوْ كُنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ صِرْتَ إِلَيْهَا، لَنْ تَرَاهَا أَبَدًا. ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بابٌ إِلَى النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي أَنْتَ صَائِرٌ إِلَيْهَا، ثُمَّ يَضِيقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ، ثمَّ يضْرب ضَرْبَة لَو أَصَابَت جبلا (ل 166) فَيَصِيحُ عِنْدَ ذَلِكَ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شيءٍ إِلا الثَّقَلَيْنِ. قَالَ: فَهُوَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمنُوا} الْآيَة ".
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (28) إِلَى الْآيَة (31) .(2/369)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نعْمَة اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار جَهَنَّم يصلونها} هُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، جَعَلُوا مَكَانَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمُ الْكُفْرَ، وَأَخْرَجُوا قَوْمَهُمْ إِلَى قِتَالِ النَّبِيِّ بِبَدْرٍ؛ فَقَتَلَهُمُ اللَّهُ فَحَلُّوا فِي النَّارِ. وَالْبَوَارُ: الْفَسَادُ؛ أَيْ: أَنَّ النَّارَ تُفْسِدُ أَجْسَادَهُمْ.
قَالَ محمدٌ: نَصْبُ (جَهَنَّمَ) بَدَلا مِنْ قَوْلِهِ: (دَارَ الْبَوَارِ) ، وَالْبَوَارُ أَصْلُهُ: الْهَلَاك.(2/370)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
{وَجعلُوا لله أندادا} يَعْنِي: آلِهَتَهُمُ الَّتِي عَدَلُوهَا بِاللَّهِ؛ فَجَعَلُوهَا آلِهَةً {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} أَي: عَن سَبِيل الْهدى.(2/370)
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاة} يَعْنِي: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ؛ يُحَافِظُونَ عَلَيْهَا {وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً} يَعْنِي: الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ.
{مِنْ قَبْلِ أَن يَأْتِي يَوْم} يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لَا بَيْعٌ فِيهِ} أَيْ: لَا يَتَبَايَعُونَ فِيهِ {وَلا خلال} أَيْ: تَنْقَطِعُ فِيهِ كُلُّ خلةٍ إِلا خُلَّةَ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ محمدٌ: الْخِلالُ مصدرٌ؛ يُقَالُ: خَالَلْتُ فُلانًا؛ أَيْ: صَادَقْتُهُ خِلالا وَمُخَالَّةً، وَالاسْمُ: الْخلَّة.(2/370)
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (32) إِلَى الْآيَة (34) .(2/371)
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} أَيْ: يَجْرِيَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ {وسخر لكم اللَّيْل وَالنَّهَار} يَخْتَلِفَانِ عَلَيْكُم(2/371)
وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
{وآتاكم} أَعْطَاكُمْ {مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} أَيْ: وَمَا لَمْ تَسْأَلُوهُ؛ هَذَا تَفْسِيرُ الْحَسَنِ يَقُولُ: كُلُّ مَا أَعْطَاكُمْ هُوَ مِنْهُ مِمَّا سَأَلْتُمْ، وَمِمَّا لَمْ تَسْأَلُوا {وَإِنْ تَعُدُّوا نعْمَة الله لَا تحصوها} .
يَحْيَى: عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ:
مَنْ لَمْ يَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِلا فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ، فَقَدْ قَلَّ عِلْمُهُ وَحَضَرَ عَذَابُهُ ".
مِنْ حَدِيثِ يحيى بْنِ مُحَمَّد.
{إِن الْإِنْسَان} يَعْنِي: الْكَافِر {لظلوم} لنَفسِهِ {كفار} بِنِعَمِ رَبِّهِ حِينَ أَشْرَكَ، وَقَدْ أجْرى عَلَيْهِ هَذِه النعم.
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (35) إِلَى الْآيَة 41) .(2/371)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَل هَذَا الْبَلَد آمنا} يَعْنِي: مَكَّةَ {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نعْبد الْأَصْنَام} .
قَالَ محمدٌ: أهل الْحجاز يَقُولُونَ: جَنَّبْنِي فلانٌ شَرَّهُ، وَأَهْلُ نَجْدٍ يَقُولُونَ: أَجْنَبَنِي وَجَنَّبَنِي؛ أَيْ: جَعَلَنِي جانباً مِنْهُ.(2/372)
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاس} يَعْنِي: الأَصْنَامَ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ؛ يَقُولُ: ضَلَّ الْمُشْرِكُونَ بِعِبَادَتِهَا؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ دَعَتْ هِيَ إِلَى عِبَادَةِ أَنْفُسِهَا {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي} فَعَبَدَ الأَوْثَانَ، ثُمَّ تَابَ إِلَيْكَ بَعْدَ ذَلِكَ {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .(2/372)
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} يَعْنِي: إِسْمَاعِيلَ {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا ليقيموا الصَّلَاة} أَيْ: إِنَّمَا أَسْكَنْتُهُمُ مَكَّةَ، لِيَعْبُدُوكَ {فَاجْعَلْ أَفْئِدَة} أَيْ: قُلُوبًا {مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِم} تَنْزِعُ إِلَى الْحَجِّ، فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " وَلَوْ كَانَ قَالَ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، لَحَجَّهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وكل أحدٍ ".(2/372)
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)
{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نعلن} تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ:: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ جَاءَ بِهَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ؛ فَوَضَعَهُمَا بِمَكَّةَ عِنْدَ زَمْزَمَ، فَلَمَّا قَفَا نَادَتْهُ هَاجَرُ: يَا إِبْرَاهِيمُ؛ فَالْتَفَتَ إِلَيْهَا فَقَالَتْ: مَنْ أَمَرَكَ أَنْ تَضَعَنِي وَابْنِي بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا ضرعٌ وَلا زرعٌ وَلا أنيسٌ؟ ! قَالَ: رَبِّي. قَالَتْ: إِذَنْ لَنْ يُضَيِّعَنَا. فَلَمَّا قَفَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نعلن} أَي: من الْحزن، الْآيَة.(2/373)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذريتي} أَيْ: وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي مَنْ يُقيم الصَّلَاة.(2/373)
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
{رَبنَا اغْفِر لي ولوالدي} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: دَعَا لأَبِيهِ أَنْ يُحَوِّلَهُ اللَّهُ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الإِيمَانِ، وَلَمْ يَغْفِرْ لَهُ؛ فَلَمَّا مَاتَ كَافِرًا تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَعَرَفَ أَنه قد هلك.
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (42) إِلَى الْآيَة (43) .(2/373)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)
{وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يعْمل الظَّالِمُونَ} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ.
{إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تشخص فِيهِ الْأَبْصَار} إِلَى إِجَابَةِ (الدَّاعِي) حِينَ يَدْعُوهُمْ من قُبُورهم(2/373)
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
{مهطعين} أَيْ: مُسْرِعِينَ إِلَى (نَحْوِ) الدَّعْوَةِ (ل 167) حِينَ يَدْعُوهُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
قَالَ محمدٌ: (مُهْطِعِينَ) منصوبٌ عَلَى الْحَال.(2/373)
و {مقنعي رُءُوسهم} أَيْ: رَافِعِيهَا {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طرفهم وأفئدتهم} أَيْ: يُدِيمُونَ النَّظَرَ.
قَالَ محمدٌ: (طَرْفُهُمْ) يَعْنِي: نَظَرَهُمْ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: طَرَفَ الرَّجُلُ يَطْرِفُ طَرْفًا، إِذَا أَطْبَقِ أَحَدَ جَفْنَيْهِ عَلَى الآخَرِ؛ فَسُمِّيَ النَّظَرُ طَرْفًا؛ لأَنَّهُ بِهِ يَكُونُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ يَذْكُرُ سُهَيْلا - النَّجْمُ فِي السَّمَاءِ، وَشَبَّهَ اضْطِرَابَهُ بِطَرْفِ الْعَيْنِ.
(أُرَاقِبُ لَمْحًا مِنْ سهيلٍ كَأَنَّهُ ... إِذَا مَا بَدَا فِي دُجْنَةِ اللَّيْلِ يَطْرِفُ)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وأفئدتهم هَوَاء} بَيْنَ الصَّدْرِ وَالْحَلْقِ؛ فَلا تَخْرُجُ مِنَ الْحَلْقِ، وَلا تَرْجِعُ إِلَى الصَّدْرِ؛ يَعْنِي: قُلُوبَ الْكُفَّارِ؛ هَذَا تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ.
قَالَ محمدٌ: وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (هواءٌ) أَيْ: خَالِيَةٌ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَكَذَلِكَ كُلُّ شيءٍ أَجْوَفَ خاوٍ، فَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ هَوَاءٌ.
وَأَنْشَدَ غَيْرُهُ:
كَأَنَّ الرَّحْلَ مِنْهَا فَوْقَ صعلٍ ... مِنَ الظِّلْمَانِ جُؤْجُؤُهُ هَوَاءُ}
يَقُولُ: لَيْسَ لِعَظْمِهِ مخ.
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (44) إِلَى الْآيَة (46) .(2/374)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
قَوْلُهُ: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَاب} أَيْ: أَنْذِرْهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
{رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دعوتك} سَأَلُوا الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا؛ حَتَّى يُؤْمِنُوا.
قَالَ اللَّهُ: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أقسمتم من قبل} أَيْ: فِي الدُّنْيَا {مَا لَكُمْ من زَوَال} من الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَة.(2/375)
وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)
ثمَّ انْقَطع الْكَلَام، ثمَّ قَالَ لِلَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ محمدٌ: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بِشِرْكِهِمْ؛ يَعْنِي: مَنْ أَهْلَكَ مِنَ الأُمَمِ السَّابِقَةِ {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فعلنَا بهم} كَيْفَ أَهْلَكْنَاهُمْ؛ يُخَوِّفُهُمْ بِذَلِكَ {وَضَرَبْنَا لكم الْأَمْثَال} يَعْنِي: وَصَفْنَا لَكُمْ عَذَابَ الأُمَمِ الخالية؛ يخوف كفار مَكَّة.(2/375)
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرهمْ} أَيْ: محفوظٌ لَهُمْ؛ حَتَّى يُجَازِيَهُمْ بِهِ {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجبَال} وَهِيَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (وَمَا كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: قَالَ: " إِنَّ نُمْرُوذَ الَّذِي بَنَى الصَّرْحَ بِبَابِلَ، أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ عِلْمَ السَّمَاءِ؛ فَعَمَدَ إِلَى تابوتٍ فَجَعَلَ فِيهِ غُلامًا، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى نسورٍ أربعةٍ فَأَجَاعَهَا، ثُمَّ رَبَطَ كُلَّ نسرٍ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ التَّابُوتِ،(2/375)
ثُمَّ رَفَعَ لَهُمَا لَحْمًا فِي أَعْلَى التَّابُوتِ، فَجَعَلَ الْغُلامُ يَفْتَحُ الْبَابَ الأَعْلَى، فَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَاهَا كَهَيْئَتِهَا، ثُمَّ يَفْتَحُ البَّابَ الأَسْفَلِ فَيَنْظُرُ إِلَى الأَرْضِ فَيَرَاهَا مِثْلَ اللُّجَّةِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى جَعَلَ يَنْظُرُ فَلا يَرَى الأَرْضَ وَإِنَّمَا هُوَ الْهَوَاءُ، وَيَنْظُرُ فَوْقَ فَيَرَى السَّمَاءَ كَهَيْئَتِهَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ صَوَّبَ اللَّحْمَ فَتَصَوَّبَتِ النُّسُورُ، فَيُقَالُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: إِنَّهُ مَرَّ بِجَبْلٍ فَخَافَ الْجَبْلَ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مِنَ اللَّهِ، فَكَادَ يَزُولُ مِنْ مَكَانِهِ؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجبَال} ".
سُورَة إِبْرَاهِيم من الْآيَة (47) إِلَى الْآيَة (52) .(2/376)
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)
{فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رسله} مَا وَعَدَهُمْ مِنَ النَّصْرِ فِي الدُّنْيَا.
{أَن الله عَزِيز} فِي نقمته {ذُو انتقام} من أعدائه بعذابه.(2/376)
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَات} قَالَ محمدٌ: أَي: وتبدل السَّمَوَات {وبرزوا لله} حُفَاة عُرَاة {الْوَاحِد القهار} قَهَرَ عِبَادَهُ بِالْمَوْتِ وَبِمَا شَاءَ.
قَالَ محمدٌ: وَمعنى تَبْدِيل السَّمَوَات: تَكْوِيرُ شَمْسِهَا، وَخُسُوفُ قَمَرِهَا، وَانْتِثَارُ كَوَاكِبِهَا، وَانْفِطَارُهَا، وَانْشِقَاقُهَا.(2/376)
يَحْيَى: عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:
تُبَدَّلُ الأَرْضُ بِأَرْضٍ بَيْضَاءَ؛ كَأَنَّهَا فِضَّةٌ لَمْ يُعْمَلْ فِيهَا خَطِيئَةٌ، وَلَمْ يُسْفَكْ فِيهَا مِحْجَمَةُ دمٍ حرامٍ ".(2/377)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)
{وَترى الْمُجْرمين} الْمُشْرِكِينَ {يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} يَعْنِي:(2/377)
السلَاسِل (يقرن كل إِنْسَان (ل 168) وَشَيْطَانِهِ الَّذِي كَانَ قَرِينَهُ فِي الدُّنْيَا فِي سِلْسِلَةٍ وَاحِدَةٍ.
قَالَ محمدٌ: وَاحِدُ الأَصْفَادِ: صفدٌ) يُقَالُ: صَفَدْتُ الرَّجُلَ؛ إِذَا جَعَلْتُهُ فِي صفدٍ، وَأَصْفَدْتُهُ إِذَا أَعْطَيْتُهُ عَطَاءً.(2/378)
سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)
{سرابيلهم من قطران} أَيْ: قُمُصُهُمْ، وَالْقَطِرَانُ: هُوَ الَّذِي يُطْلَى بِهِ الإِبْلُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (سرابيلهم من قطران) أَيْ: مِنْ صفرٍ حَارٍّ قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} هُوَ كَقَوْلِهِ: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سوء الْعَذَاب} أَيْ: يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّار(2/378)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)
{لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كسبت} مَا عَمِلَتْ {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحساب} .
يحيى: سَمِعْتُ بَعْضَ الْكُوفِيِّينَ يَقُولُ:
يُقْضَى بَيْنَ الْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قَدْرِ نِصْفِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّام الدُّنْيَا.(2/378)
هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
{هَذَا بَلَاغ للنَّاس} لِلْمُؤْمِنِينَ؛ يَعْنِي: الْقُرْآنَ يُبَلِّغُهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ {وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِد} لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ {وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَاب} وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ.(2/378)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْحِجْرِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كلهَا
سُورَة الْحجر من الْآيَة (1) إِلَى الْآيَة (8) .(2/379)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)
قَوْلُهُ: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآن مُبين} بَين(2/379)
رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسلمين} .
يحيى: عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
يَقُولُ أَهْلُ النَّارِ لِمَنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ: قَدْ كَانَ هَؤُلاءِ مُسْلِمِينَ، فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ؟ ! قَالَ: فَيَغْضَبُ لَهُمْ رَبُّهُمْ فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ.(2/379)
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
{ذرهم يَأْكُلُوا} يَعْنِي: الْمُشْركين، يَأْكُلُوا {ويتمتعوا} فِي الدُّنْيَا {ويلههم الأمل} الَّذِي يَأْمَلُونَ مِنَ الدُّنْيَا {فَسَوْفَ يعلمُونَ} يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ وَهَذَا وعيدٌ، وَكَانَ هَذَا قبل أَن يُؤمر بقتالهم، ثُمَّ أُمِرَ بِقِتَالِهِمْ، وَلا يَذَرُهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُقْتَلُوا؛ يَعْنِي: مُشْركي الْعَرَب.(2/379)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4)
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا وَلها كتاب مَعْلُوم} يَعْنِي: الْوَقْتَ الَّذِي يُهْلَكُونَ فِيهِ؛ يَعْنِي: مِنْ أُهْلِكَ مِنَ الْأُمَمِ السالفة بتكذيبهم رسلهم(2/380)
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
{مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} يَعْنِي: الأُمَمَ الْخَالِيَةَ أَجَلُهَا وَقْتُ الْعَذَاب {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} عَنهُ.(2/380)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)
{وَقَالُوا يَا أَيهَا الَّذِي نزل عَلَيْهِ الذّكر} يَعْنِي: الْقُرْآن؛ فِيمَا تَدعِي {إِنَّك لمَجْنُون} يعنون: مُحَمَّدًا(2/380)
لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)
{لَو مَا} أَي: لَوْلَا {تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ} حَتَّى تَشْهَدَ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ {إِن كنت من الصَّادِقين} فنصدقك.(2/380)
مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
قَالَ اللَّهُ: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ} حَتَّى تعاينونهم {إِلَّا بِالْحَقِّ} يَعْنِي: بِعَذَابِهِمْ وَاسْتِئْصَالِهِمْ {وَمَا كَانُوا إِذن منظرين} طَرْفَةَ عَيْنٍ بَعْدَ نُزُولِ الْمَلائِكَةِ.
سُورَة الْحجر من الْآيَة (9) إِلَى الْآيَة (15) .(2/380)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
{إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْ إِبْلِيسَ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ شَيْئًا، أَوْ يَنْقُصَ مِنْهُ.(2/380)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شيع الْأَوَّلين} أَيْ: فِي قرنٍ؛ يَعْنِي: قَوْمَ نُوحٍ وَسَائِرَ الأُمَمِ {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رسولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يستهزئون}(2/380)
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)
{كَذَلِك نسلكه} نَسْلُكُ التَّكْذِيبَ {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ.
قَالَ محمدٌ: تَقُولُ: سَلَكْتُ فُلانًا فِي الطَّرِيقِ وَأَسْلَكْتُهُ بِمَعْنى واحدٍ.(2/380)
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
{لَا يُؤمنُونَ بِهِ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلين} يَعْنِي: وَقَائِعَ اللَّهِ فِي الأُمَمِ الْخَالِيَةِ الَّتِي أَهْلَكَهُمْ بِهَا - يُخَوِّفُ الْمُشْركين بذلك.(2/381)
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاء فظلوا} أَي: سَارُوا {فِيهِ يعرجون} أَيْ: يَخْتَلِفُونَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، يَعْنِي: الْمَلَائِكَة(2/381)
لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
{لقالوا إِنَّمَا سكرت أبصارنا} أَيْ: سُدَّتْ {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مسحورون} كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ويقولوا سحر مُسْتَمر} .
قَالَ محمدٌ: مَنْ قَرَأَ (سُكِّرَتْ) بِالتَّثْقِيلِ، فَهُوَ مِنْ سَكَّرْتُ الْبَصَرَ إِذَا سَدَّدْتُهُ، وَيُقَالُ لِلسَّدِّ: السِّكْرُ. وَمَنْ قَرَأَ (سُكِرَتْ) مُخَفَّفَةً، فَالْمَعْنَى: تَحَيَّرَتْ أَبْصَارُنَا وَسَكَنَتْ عَنِ النَّظَرِ؛ تَقُولُ الْعَرَبُ: سُكِرَتِ الرِّيحُ تَسْكُرُ إِذا سكنت.
سُورَة الْحجر من الْآيَة (16) إِلَى الْآيَة (25) .(2/381)
(ل 169)(2/382)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)
{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} يَعْنِي: نُجُومًا؛ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاس وَقَتَادَة {وزيناها} زينا السَّمَاء بالنجوم {للناظرين}(2/382)
وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)
{وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} مَلْعُونٍ رَجَمَهُ اللَّهُ بِاللَّعْنَةِ؛ فِي تَفْسِير الْحسن(2/382)
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)
{إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} فَإِنَّهَا لَمْ تُحْفَظْ مِنْهُ إِنْ تَسَمَّعَ الْخَبَرَ مِنْ أَخْبَارِ السَّمَاءِ، وَلا تَسْمَعُ مِنَ الْوَحْيِ شَيْئًا. {فَأَتْبَعَهُ شهَاب مُبين} مضيءٌ.(2/382)
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)
{وَالْأَرْض مددناها} يَعْنِي: بسطناها {وألقينا} أَي: جعلنَا {فِيهَا رواسي} وَهِيَ الْجِبَالَ {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كل شيءٍ مَوْزُون} أَيْ: مَقْدُورٍ بِقَدَرٍ؛ فِي تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ.
قَالَ محمدٌ: مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ: أَيْ: جَرَى عَلَى وزنٍ مِنْ قَدَرٍ اللَّهِ لَا يُجَاوِزُ مَا قدره الله عَلَيْهِ.(2/382)
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
{وَجَعَلنَا لكم فِيهَا} فِي الأَرْض {معايش} يَعْنِي: مَا أَخْرَجَ اللَّهُ لَهُمْ فِيهَا، وَمِمَّا عَمِلَ بَنُو آدَمَ {وَمن لَسْتُم لَهُ برازقين} أَيْ: جَعَلْنَا لَكُمْ، وَلِمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ فِيهَا مَعَايِشَ؛ يَعْنِي: الْبَهَائِمَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْخَلْقِ مِمَّنْ لَا يمونه بَنو آدم.(2/382)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
{وَإِنْ مِنْ شيءٍ إِلا عِنْدَنَا خزائنه} يَعْنِي: الْمَطَرَ؛ وَهَذِهِ الأَشْيَاءُ كُلُّهَا إِنَّمَا تعيش بالمطر.(2/382)
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاح لَوَاقِح} يَعْنِي: لِلسَّحَابِ؛ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: أَنَّهَا تَضْرِبُ السَّحَابَ حَتَّى تُمْطِرَ، وَوَاحَدَةُ اللَّوَاقِحِ(2/382)
مِنَ الرِّيَاحِ: لاقحٌ؛ بِمَعْنَى: أَنَّهَا ذَاتَ لُقْحٍ، كَقَوْلِهِ: {فِي عِيشَةٍ راضية} أَيْ: ذَاتِ رِضًا.
{وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بخازنين} أَي: بحافظين(2/383)
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23)
{وَإِنَّا لنَحْنُ نحيي} أَيْ: نَخْلُقُ {وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} يَمُوتُ الْخَلْقُ، وَاللَّهُ الْوَارِثُ الْبَاقِي بعد خلقه.(2/383)
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
{وَلَقَد علمنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُم} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: يَعْنِي: آدَمَ، وَمَنْ مَضَى مِنْ ذُرِّيَّتِهِ {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} مَنْ بَقِيَ فِي أَصْلِبَةِ الرِّجَالِ.(2/383)
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
{وَإِن رَبك هُوَ يحشرهم} يَحْشُرُ الْخَلْقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {إِنَّهُ حَكِيمٌ} فِي أَمْرِهِ {عَلِيمٌ} بِخَلْقِهِ.
سُورَة الْحجر من الْآيَة (26) إِلَى الْآيَة (31) .(2/383)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: التُّرَابَ الْيَابِسَ الَّذِي يُسْمَعُ لَهُ صلصلةٌ {مِنْ حمإ مسنون} يَعْنِي: الْمُتَغَيِّرَ الرَّائِحَةَ.
قَالَ محمدٌ: الْحَمَأُ جَمْعُ: حَمْأَةٌ، وَيُقَالُ لِلْيَابِسِ مِنَ الطِّينِ الَّذِي لَمْ تُصِبْهُ نارٌ: صلصالٌ؛ فَإِذَا مَسَّتْهُ النَّارُ فَهُوَ فخار.(2/383)
وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
{والجان} يَعْنِي: إِبْلِيسَ؛ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ {خلقناه مِنْ قَبْلُ} أَيْ: مِنْ قَبْلِ آدم {من نَار السمُوم} يَعْنِي: سَمُومَ جَهَنَّمَ.
قَالَ محمدٌ: وَالسَّمُومُ مِنْ صِفَاتِ جَهَنَّمَ وَهُوَ شِدَّةُ حَرِّهَا، وَالْجَانَّ مَنْصُوبٌ بِفْعِلِ مضمرٍ؛ الْمَعْنَى: وَخَلَقْنَا الْجَانَّ خَلَقْنَاهُ.(2/384)
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَن يكون مَعَ الساجدين} تَفْسِيرُ ابْنِ عباسٍ: " لَوْ لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلائِكَةِ لَمْ يُؤمر بِالسُّجُود ".
قَالَ الْحسن:
أَمر بِاللَّه بِالسُّجُودِ كَمَا أَمَرَ الْمَلائِكَةَ؛ فَأَبَى أَنْ يَسْجُدَ مَعَهُمْ، وَكَانَ خَلْقُ إِبْلِيسَ مِنْ نارٍ، وَخَلْقُ الْمَلائِكَةِ مِنْ نورٍ.
قَالَ محمدٌ: (إِلا إِبْلِيسَ) منصوبٌ بِاسْتِثْنَاءٍ لَيْسَ مِنَ الأَوَّلِ؛ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالمين} الْمَعْنَى: لَكِنَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ قَالَ: إِنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلائِكَةِ.
وَقِيلَ: إِنَّ إِبْلِيسَ كَانَ اسْمُهُ: عَزَازِيلُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا لَعَنَهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ أَبْلَسَ مِنْ رَحْمَتِهِ؛ أَيْ: يَئِسَ؛ فَسَمَّاهُ: إِبْلِيس.
سُورَة الْحجر من الْآيَة (32) إِلَى الْآيَة (44) .(2/384)
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)
{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدّين} الْحِسَابِ؛ يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَيْهِ اللَّعْنَةُ أَيْضًا، يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَبَدًا.(2/385)
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37)
{قَالَ فَإنَّك من المنظرين} المؤخرين(2/385)
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
{إِلَى يَوْم الْوَقْت الْمَعْلُوم} يَعْنِي: النَّفْخَةَ الأُولَى الَّتِي يَمُوتُ بِهَا كُلُّ حَيٍّ، وَأَرَادَ عَدَوُّ اللَّهِ أَنْ يُؤَخِّرَهُ إِلَى النَّفْخَةِ الآخِرَةِ الَّتِي يُبْعَثُ بِهَا الْخَلْقُ.(2/385)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُم فِي الأَرْض} يُزَيِّنُ لَهُمُ الدُّنْيَا فِي أَمْرِهِمْ بِهَا، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلا حِسَابَ وَلا جَنَّةَ وَلا نَارَ؛ يُوسَوِسُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ} لأضلنهم {أَجْمَعِينَ}(2/385)
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
{إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين} الْمُوَحِّدين.(2/385)
قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
{قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} (ل 170) تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: يَعْنِي: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْهَادِي لِمَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم(2/385)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان} أَيْ: لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُضِلَّ مَنْ هَدَى اللَّهُ {إِلا مَنِ اتبعك من الغاوين}(2/385)
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43)
{وَإِن جَهَنَّم لموعدهم أَجْمَعِينَ} يَعْنِي: الغاوين(2/385)
لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
{لَهَا سَبْعَة أَبْوَاب} بَعْضُهَا تَحْتَ بعضٍ مُطْبَقَةٌ؛ الْبَابُ الأَعْلَى جَهَنَّمُ، ثُمَّ سَقَرُ، ثُمَّ لَظَى، ثُمَّ الْحُطَمَةُ، ثُمَّ السَّعِيرُ، ثُمَّ الْجَحِيمُ، ثُمَّ الْهَاوِيَةُ، وَجَهَنَّمُ وَالنَّارُ يَقْدُمَانِ الأَسْمَاءَ {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُم جُزْء مقسوم} .(2/385)
سُورَة الْحجر من الْآيَة (45) إِلَى الْآيَة (48) .(2/386)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} الْعُيُون: الْأَنْهَار(2/386)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)
{ادخلوها بِسَلام آمِنين} وَذَلِكَ حِينَ تَلْقَاهُمُ الْمَلائِكَةُ؛ تَقُولُ لَهُمْ: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدين} آمِنين من الْمَوْت.(2/386)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غل} يَعْنِي: مَا كَانَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْحَسَدِ وَالضَّغَائِنِ {إِخْوَانًا على سرر مُتَقَابلين} قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا إِذَا زَارَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
قَالَ محمدٌ: {إِخْوَانًا} منصوبٌ على الْحَال.
سُورَة الْحجر من الْآيَة (49) إِلَى الْآيَة (60) .(2/386)
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)
{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيم} لَا أَغْفَرَ مِنْهُ وَلا أَرْحَمَ؛ يَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ(2/386)
ويرحمهم ويدخلهم الْجنَّة(2/387)
وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
{وَأَن عَذَابي} يَعْنِي: النَّارَ {هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} الموجع.(2/387)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)
{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُم وجلون} أَيْ: خَائِفُونَ.
قَالَ محمدٌ: (سَلامًا) منصوبٌ عَلَى الْمَصْدِرِ؛ كَأَنَّهُ قَالَ: فَسَلمُوا سَلاما.(2/387)
قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
{قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكبر} عَجِبَ مِنْ كِبَرِهِ وَكِبَرِ امْرَأَتِهِ {فَبِمَ تبشرون} .
قَالَ محمدٌ: الأَصْل فِي (تُبَشِّرُونِ) : تُبَشِّرُونَنِي؛ فَحُذِفَتْ أَحَدُ النُّونَيْنِ؛ لاسْتِثْقَالِ جَمْعِهِمَا هَذَا فِيمَنْ قَرَأَهَا بِكَسْر النُّون.(2/387)
قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)
{قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ من القانتين} الآيسين(2/387)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57)
{قَالَ فَمَا خطبكم} مَا أَمركُم؟ .(2/387)
إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)
{إِلَّا آل لوط} يَعْنِي: أَهله الْمُؤمنِينَ(2/387)
إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
{إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين} يَعْنِي: الْبَاقِينَ فِي عَذَابِ اللَّهِ.
سُورَة الْحجر من الْآيَة (61) إِلَى الْآيَة (77) .(2/387)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61)
{فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ} يَعْنِي: الْمَلَائِكَة(2/388)
قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62)
{قَالَ} لوط {إِنَّكُم قوم منكرون} نكرهم(2/388)
قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)
{قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يمترون} يَشُكُّونَ، مِنَ الْعَذَابِ؛ كَانُوا يَقُولُونَ: لَا نُعَذَّبُ؛ حِينَ كَانَ يُخَوِّفُهُمْ بِالْعَذَابِ إِن لم يُؤمنُوا(2/388)
وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)
{وأتيناك بِالْحَقِّ} يَعْنِي: بعذابهم.(2/388)
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بقطعٍ مِنَ اللَّيْلِ} أَيْ: فِي طائفةٍ مِنَ اللَّيْلِ؛ وَالسُّرَى لَا يَكُونُ إِلا لَيْلا.
قَالَ محمدٌ: وَيُقَالُ مِنْهُ: أَسْرَى وسرى.
{وَاتبع أدبارهم} أَيْ: كُنْ آخِرَهُمْ {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُم أحدٌ} لَا يَنْظُرُ وَرَاءَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ.(2/388)
وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
{وقضينا إِلَيْهِ ذَلِك الْأَمر} أَيْ: أَعْلَمْنَاهُ {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ} أصلهم {مَقْطُوع مصبحين} .
قَالَ محمدٌ: (مصبحين) نصبٌ على الْحَال.(2/388)
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)
{وَجَاء أهل الْمَدِينَة يستبشرون} بِأَضْيَافِ لوطٍ؛ لِمَا يُرِيدُونَ مِنْ عَمَلِ(2/388)
السُّوءِ {قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلَا تفضحون}(2/389)
قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
{قَالُوا أَو لم ننهك عَن الْعَالمين} أَيْ: أَنْ تُضِيفَ أَحَدًا وَلا تنزله(2/389)
قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)
{قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي} أَمَرَهُمْ بِتَزْوِيجِ النِّسَاءِ {إِنْ كُنْتُمْ فاعلين} متزوجين.(2/389)
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
{لعمرك} قسمٌ {إِنَّهُم لفي سكرتهم} يَعْنِي: ضلالتهم {يعمهون} يَتَحَيَّرُونَ.
قَالَ محمدٌ: الْعَمْرُ وَالْعُمْرُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ بِمَعْنَى واحدٍ؛ فَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الْقَسَمِ فُتِحَ أَوَّلُهُ؛ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِمْ لَهُ؛ لأَنَّ الْفَتْح أخف.(2/389)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)
{فَأَخَذتهم الصَّيْحَة} قَالَ السُّدِّيُّ: صَيْحَةُ جِبْرِيلَ {مُشْرِقِينَ} حِين أشرقت الشَّمْس(2/389)
فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)
{فَجعلنَا عاليها سافلها} قد مضى تَفْسِيره.(2/389)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي: لِلْمُتَفَرِّسِينَ.
قَالَ محمدٌ: مَعْنَى التَّفَرُّسِ: الاسْتِدْلالُ بِصِحَّةِ النَّظَرِ؛ يُقَالُ: تَوَسَّمْتُ فِي فُلانٍ الْخَيْر، وتفرسته؛ أَي: تبينته.(2/389)
وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)
{وَإِنَّهَا لبسبيل مُقيم} يَعْنِي: قَرْيَةَ قَوْمِ لُوطٍ؛ أَيْ: هِيَ طَرِيق وَاضح.
سُورَة الْحجر من الْآيَة (78) إِلَى (84) .(2/389)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78)
{وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} يَعْنِي: الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ شُعَيْبٌ وَالأَيْكَةُ كَانُوا أَصْحَابَ كَانَ عَامَّةَ ثمرهم(2/389)
(ل 171) الْمُقْلُ؛ وَهُوَ الدَّوْمُ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْحَرَّ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فَكَانَ لَا يَأْتِيهِمْ مِنْهُ شيءٌ، فَبَعَثَ الله عَلَيْهِم سَحَابَة فلجأوا تَحْتَهَا يَلْتَمِسُونَ الرَّوْحَ، فَجَعَلَهَا اللَّهُ نَارًا فَاضْطَرَمَتْ عَلَيْهِمْ.
قَالَ محمدٌ: قَرَأَ نافعٌ: (الأيكة) وَكَذَلِكَ قَرَأَ الَّتِي فِي " قَافٍ " وَقَرَأَ الَّتِي فِي " الشُّعَرَاءِ " وَفِي " ص ": (لَيْكَةِ) بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلامٍ وَلَمْ يَصْرِفُهُمَا فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ: وَجَدْنَا فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ: أَنَّ (لَيْكَةَ) اسْمُ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا، و (الأيكة) : الْبِلَاد كلهَا.(2/390)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
{وإنهما لبإمام مُبين} يَقُولُ: وَإِنَّ مَنْزِلَ قَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الأَيْكَةِ لَبِطَرِيقٍ واضحٍ.
قَالَ محمدٌ: قِيلَ لِلطَّرِيقِ: إِمَامٌ؛ لأَنَّهُ يُؤْتَمُّ بِهِ؛ أَيْ: يُهْتَدَى بِهِ.(2/390)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)
{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} يَعْنِي: ثَمُود قوم صَالح(2/390)
وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82)
{وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنين} .
قَالَ محمدٌ: الْحِجْرُ اسْمُ وادٍ، وأصل النحت: الْقطع والنجر.(2/390)
سُورَة الْحجر من الْآيَة (85) إِلَى الْآيَة (94) .(2/391)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
{وَمَا خلقنَا السَّمَاوَات وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} أَيْ: لِلْبَعْثِ {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} وَهَذَا منسوخٌ بِالْقِتَالِ.(2/391)
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: هِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ؛ وَهِيَ سَبْعُ آياتٍ؛ وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الْمَثَانِي؛ لأَنَّهُنَّ يُثَنَّيْنَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ.
قَالَ محمدٌ: قِيلَ: الْمَعْنَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مَثَانِيَ، وَتَكُونُ (مَنْ) صِلَةٍ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاجْتَنِبُوا الرجس من الْأَوْثَان} الْمَعْنَى: اجْتَنِبُوا الأَوْثَانَ، لَا أَنَّ بَعْضهَا رجسٌ.
{وَالْقُرْآن الْعَظِيم} أَي: وآتيناك الْقُرْآن الْعَظِيم.(2/391)
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
{لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم} أَصْنَافًا؛ يَعْنِي: الأَغْنِيَاءَ؛ فِي تَفْسِيرِ مُجَاهِد {وَلَا تحزن عَلَيْهِم} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا {واخفض جناحك للْمُؤْمِنين} أَيْ: أَلِنْهُ لِمَنْ آمَنَ بِكَ(2/391)
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
{وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} أَي: أنذر النَّاس النَّار(2/391)
كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
(كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جعلُوا الْقُرْآن(2/391)
عضين} قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ: أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، يَعْنِي: أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ الَّذِي اقْتَسَمُوهُ، فَجَعَلُوهُ كُتُبًا بَعْدَ إِذْ كَانَ كِتَابًا، وَحَرَّفُوهُ فَجَعَلُوهُ كَالأَعْضَاءِ.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: آمَنُوا بِبَعْضِهِ، وَكَفَرُوا بِبَعْضِه، وَتقول الْعَرَب: عضيت الشئ؛ إِذَا وَزَّعْتَهُ، وَعَضَّيْتَ الذَّبِيحَةَ؛ إِذَا قَطَّعْتَهَا أَعْضَاءً، وَالْعِضَةُ: الْقِطْعَةُ مِنْهَا، وَالْجَمِيعُ: عِضُونٌ فِي حَالِ الرَّفْعِ، وَعِضِينَ فِي حَالِ النَّصْبِ وَالْخَفْضِ. قَالَ رُؤْبَةُ: -
(وَلَيْسَ دِينَ اللَّهِ بالمعضى ... )(2/392)
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
قَوْلُهُ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي: أَظْهِرْ مَا أمرت بِهِ.
سُورَة الْحجر من الْآيَة (95) إِلَى الْآيَة (99) .(2/392)
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)
{إِنَّا كَفَيْنَاك الْمُسْتَهْزِئِينَ} قَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمْ خَمْسَةٌ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَعَدِيُّ بْنُ قَيْسٍ، وَالأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَالأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ.(2/392)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} يَعْنِي بِقَوْلِهِمْ أَنَّكَ ساحرٌ،(2/392)
وَإِنَّكَ شاعرٌ، وَإِنَّكَ كاهنٌ، وَإِنَّكَ مَجْنُونٌ، وَأَنَّكَ كاذبٌ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبك وَكن من الساجدين}(2/393)
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} يَعْنِي: الْمَوْتُ.(2/393)
تَفْسِيرُ سُورَةِ النَّحْلِ
وَهِيَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى صَدْرِ هَذِهِ الآيَةِ: {وَالَّذين هَاجرُوا فِي الله} مكي، وسائرها مدنِي.
سُورَة الْحجر من الْآيَة (1) إِلَى الْآيَة (8) .(2/394)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
قَوْلُهُ: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تستعجلوه} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: هَذَا جوابٌ مِنَ اللَّهِ لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ائْتِنَا بِعَذَابِ الله} ، ولقولهم: {عجل لنا قطنا} وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ؛ فَقَالَ اللَّهُ: {أَتَى أَمر الله فَلَا تستعجلوه} أَيْ: أَنَّ الْعَذَابَ آتٍ قَرِيبٌ {سُبْحَانَهُ} ينزه نَفسه {وَتَعَالَى} ارْتَفع عَمَّا يَقُول الْمُشْركين(2/394)
مِنْ الْإِشْرَاك بِهِ(2/395)
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
{ينزل الْمَلَائِكَة بِالروحِ} (فِي تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ) {مِنْ أَمْرِهِ} أَيْ: بِأَمْرِهِ.
قَالَ محمدٌ: (سُمِّيَ (ل 172) الْوَحْيُ رُوحًا لأَنَّ بِهِ) حَيَاةً مِنَ الْجَهْلِ.
{عَلَى مَنْ يَشَاءُ من عباده أَن أنذروا} بِأَنْ أَنْذِرُوا {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنا فاتقون} أَن تعبدوا معي إِلَهًا.(2/395)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)
{خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ} للبعث والحساب، وَالْجنَّة وَالنَّار(2/395)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
{خلق الْإِنْسَان من نُطْفَة} يَعْنِي: الْمُشْرِكَ؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ {فَإِذا هُوَ خصيم مُبين} بَين الْخُصُومَة.(2/395)
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
{والأنعام خلقهَا لكم} يَعْنِي: الإِبْلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ.
قَالَ محمدٌ: نَصْبُ (الأَنْعَامِ) عَلَى فِعْلٍ مُضْمَرٍ؛ الْمَعْنَى: وَخَلَقَ الأَنْعَامَ لَكُمْ.
{فِيهَا دفء} يَعْنِي: مَا يَصْنَعُ مِنَ الْكِسْوَةِ مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَمَنَافِعَ فِي ظُهُورِهَا؛ هَذِهِ الإِبْلُ وَالْبَقَرُ وَأَلْبَانُهَا فِي جَمَاعَتِهَا.
{وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}(2/395)
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ} أَيْ: حِينَ تَرُوحُ عَلَيْكُمْ رَاجِعَةً من الرَّعْي {وَحين تسرحون} بِهَا إِلَى الرَّعْيِ؛ هَذَا تَفْسِيرُ الْحَسَنِ.
قَالَ محمدٌ: رَاحَتِ الْمَاشِيَةُ وَأَرَحْتُهَا، وَسَرَحَتْ وَسَرَّحْتُهَا؛ الرَّوَاحُ: بِالْعَشِيِّ، وَالسُّرُوحُ: بِالْغُدُوِّ. وَمَعْنَى (لَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ) أَيْ: إِذَا قِيلَ:(2/395)
هَذَا مَال فلَان.(2/396)
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
{وَتحمل أثقالكم} يَعْنِي: الإِبْلَ وَالْبَقَرَ {إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الْأَنْفس} يَقُولُ: لَوْلا أَنَّهَا تَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي تُرِيدُونَهُ، لمْ تَكُونُوا بِالِغِي ذَلِكَ الْبَلَدِ إِلا بِمَشَقَّةٍ عَلَى أُنْفُسِكُمْ {إِنَّ رَبَّكُمْ لرءوف رَحِيم} يَقُولُ: فَبِرَأْفَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ سَخَّرَ لَكُمْ هَذِهِ الأَنْعَامَ، وَهِيَ لِلْكَافِرِ رَحْمَةُ الدُّنْيَا لِيَرْزُقَهُ فِيهَا مِنَ النعم.(2/396)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
{وَالْخَيْل} يَقُولُ: وَخَلَقَ الْخَيْلَ {وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لتركبوها وزينة} فِي رُكُوبِهَا؛ تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: خَلَقَهَا اللَّهُ لِلْرُكُوبِ وَلِلْزِينَةِ {وَيَخْلُقُ مَا لَا تعلمُونَ} مِنَ الأَشْيَاءِ كُلِّهَا مِمَّا لمْ يذكر لكم.
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (9) إِلَى الْآيَة (13)(2/396)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
{وعَلى الله قصد السَّبِيل} يَعْنِي: طَرِيقَ الْهُدَى؛ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ علينا للهدى} {وَمِنْهَا} أَيْ: وَعَنْهَا؛ يَعْنِي: السَّبِيلَ {جَائِرٌ} وَهُوَ الْكَافِرُ جَارَ عَنْ سَبِيلِ الْهدى(2/396)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
{وَمِنْه شجر فِيهِ تسيمون} أَيْ: تَرْعَوْنَ أَنْعَامَكُمْ.(2/396)
قَالَ محمدٌ: تَقُولُ: أَسَمْتُ مَاشِيَتِي فسامت؛ أَي: رعيتها فرعت.(2/397)
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
{ينْبت لكم بِهِ} أَيْ: بِذَلِكَ الْمَاءِ {الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ} الآيَةَ، يَقُولُ: فَالَّذِي يُنْبِتُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ الْوَاحِدِ هَذِهِ الأَلْوَانَ الْمُخْتَلِفَةَ قادرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْأَمْوَات.(2/397)
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
{وَمَا ذَرأ لكم} خَلَقَ {فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: يَعْنِي: مِنَ الدَّوَابِّ وَالشَّجر وَالثِّمَار.
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (14) إِلَى الْآيَة (20) .(2/397)
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
{وَهُوَ الَّذِي سخر الْبَحْر} أَيْ: خَلَقَ {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طريا} يَعْنِي: الْحِيتَانَ {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تلبسونها} يَعْنِي: اللُّؤْلُؤ {وَترى الْفلك} السفن {مواخر فِيهِ} يَعْنِي: شَقَّهَا الْمَاءَ فِي وَقْتِ جَرْيِهَا.
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: مَخَرَتِ السَّفِينَةُ الْمَاءَ؛ إِذَا شَقَّتْهُ.
{وَلِتَبْتَغُوا من فَضله} يَعْنِي: طَلَبَ التِّجَارَةِ فِي السُّفُنِ.(2/397)
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)
{وَألقى فِي الأَرْض رواسي} يَعْنِي: الْجِبَالَ {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} لِئَلا تَمِيدَ؛(2/397)
أَي: تتحرك {وأنهارا} أَيْ: وَجَعَلَ فِيهَا أَنْهَارًا {وَسُبُلا} طرقاً {لَعَلَّكُمْ تهتدون} لكَي تهتدوا الطّرق(2/398)
وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
{وعلامات} جَعَلَهَا فِي الطُّرُقِ تَعْرِفُونَهَا بِهَا {وبالنجم هم يَهْتَدُونَ} يَعْنِي: جَمَاعَةَ النُّجُومِ الَّتِي يَهْتَدَى بهَا.(2/398)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)
{أَفَمَن يخلق} يَعْنِي: نَفْسَهُ {كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} يَعْنِي: الأَوْثَانَ هَلْ يَسْتَوِيَانِ؟ أَيْ: لَا يَسْتَوِي اللَّهُ وَالأَوْثَانُ {أَفَلا تذكرُونَ} يَقُوله للْمُشْرِكين.(2/398)
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)
{وَالَّذين تدعون من دون الله} يَعْنِي: الأَوْثَانَ {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وهم يخلقون} أَي: يصنعون بِالْأَيْدِي.
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (21) إِلَى الْآيَة (25) .(2/398)
أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
{أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يبعثون} مَتَى يُبْعَثُونَ.
قَالَ قَتَادَةُ: تُحْشَرُ الأَوْثَانُ بِأَعْيَانِهَا؛ فَتُخَاصِمُ عَابِدِيهَا عِنْدَ اللَّهِ؛ أَنَّهَا لمْ تَدْعُهُمْ إِلَى عِبَادَتِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِك الشَّيَاطِين.(2/398)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
{وَإِذا قيل لَهُم} إِذَا قَالَ الْمُؤْمِنُونَ لِلْمُشْرِكِينَ: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أَيْ: كَذِبُ الأَوَّلِينَ وَبَاطِلِهِمْ؛ وَارْتَفَعَتْ لأَنَّهَا حِكَايَةٌ عَلَى(2/398)
مَعْنَى قَالُوا: إِنَّهُ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ(2/399)
لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
{ليحملوا أوزارهم} أَيْ: آثَامَهُمْ {كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يَعْنِي الَّذِينَ قَالُوا: أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (ل 173) {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} أَيْ: بِئْسَ مَا يَحْمِلُونَ.
يحيى: عَنْ أَبِي الأَشْهَبِ، عَنِ الحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَيُّمَا داعٍ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ عَلَيْهِ، فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنِ اتَّبَعَهُ، وَلا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَأَيُّمَا داعٍ دَعَا إِلَى ضلالةٍ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا فَعَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنِ اتَّبَعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِك من أوزارهم شَيْئا ".
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (26) إِلَى الْآيَة (29) .(2/399)
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)
{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} يَعْنِي: الَّذِينَ أَهْلَكَ بِالرَّجْفَةِ مِنَ الأُمَمِ السَّالِفَةِ رَجَفَتْ بِهِمُ الأَرْضُ {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} سَقَطت سقوف مَنَازِلهمْ عَلَيْهِم.(2/399)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)
{وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تشاقون فيهم} أَيْ: تُعَادُونَ فِيهِمْ، وَعَدَاوَتُهُمْ لِلَّهِ: عِبَادَتُهُمُ الأَوْثَانَ مِنْ دُونِهِ، وَمَعْنَى (شركائي) أَيْ: الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ شُرَكَائِي.
{قَالَ الَّذين أُوتُوا الْعلم} وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسوء} يَعْنِي: الْعَذَابَ عَلَى الْكَافِرِينَ؛ وَهَذَا الْكَلَام يَوْم الْقِيَامَة.(2/400)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: وفاةٌ إِلَى النَّارِ؛ أَي: حشرٌ {فَألْقوا السّلم} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: أُعْطَوُا الإِسْلامَ وَاسْتَسْلَمُوا؛ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ {مَا كُنَّا نعمل من سوء} قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ فِي الْقِيَامَةِ مَوَاطِنَ، فَمِنْهَا مَوْطِنٌ يُقِرُّونَ فِيهِ بِأَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ، وَمِنْهَا مَوْطِنٌ يُنْكِرُونَ فِيهِ، وَمِنْهَا مَوْطِنٌ يَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، وَتَتَكَّلَمُ أَيْدِيهِمْ، وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يعْملُونَ.
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (30) إِلَى الْآيَة (32) .(2/400)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ ربكُم قَالُوا خيرا} أَيْ أَنْزَلَ خَيْرًا. ثُمَّ انْقَطَعَ الْكَلامُ، ثُمَّ قَالَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} آمَنُوا {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} الْجنَّة {ولدار الْآخِرَة خير} مِنَ الدُّنْيَا {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}(2/400)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
{جنَّات عدن يدْخلُونَهَا} .
قَالَ محمدٌ: (جنَّات عدنٍ) مرفوعةٌ بإضمار (هِيَ) .(2/400)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
{الَّذين تتوفاهم الْمَلَائِكَة} تقبض أَرْوَاحهم {طيبين} يَعْنِي: أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
يحيى: عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ قَالَ:
إِنَّ الْمَلائِكَةَ تَأْتِي وَلِيَّ اللَّهِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَتَقُولُ: السَّلامُ عَلْيَكَ يَا وَلِيَّ اللَّهِ، اللَّهُ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامُ. وَتُبَشِّرُهُ بِالْجَنَّةِ.
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (33) إِلَى الْآيَة (37) .(2/401)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَقُولُ: هَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ بِعَذَابِهِمْ؛ يَعْنِي: مُشْرِكِي الْعَرَبِ، أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ؛ يَعْنِي: النَّفْخَةَ الأُولَى الَّتِي يَهْلِكُ بِهَا آخِرَ كُفَّارِ هَذِهِ الأُمَّةِ الدَّائِنِينَ بِدِينِ أَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ عَذَابِ الآخِرَةِ. قَالَ: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قبلهم} أَيْ: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} يَعْنِي: النَّفْخَةَ الأُولَى؛ كَمَا كَذَّبَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، فَأَهْلَكْنَاهُمُ بِالْعَذَابِ ... الْآيَة.(2/401)
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
{فَأَصَابَهُمْ سيئات مَا عمِلُوا} ثَوَابَ مَا عَمِلُوا {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون} أَيْ: ثَوَابُ مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون بآيَات الله وبالرسل.(2/402)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
{وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْء} وَهُوَ مَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ؛ فَقَالَ اللَّهُ جَوَابًا لِقَوْلِهِمْ: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} .(2/402)
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا} يَعْنِي. مِمَّنْ أُهْلِكَ بِالْعَذَابِ {أَنِ اعبدوا الله وَاجْتَنبُوا الطاغوت} وَالطَّاغُوتُ: الشَّيْطَانُ؛ هُوَ دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين} كَانَ عاقبتهم أَن دمر الله عَلَيْهِم، ثمَّ صيرهم إِلَى النَّار.(2/402)
إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} كَقَوْلِهِ: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادي لَهُ} .
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (38) إِلَى الْآيَة (42) .(2/402)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يبْعَث الله من يَمُوت} قَالَ: {بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} ليبعثهم.(2/402)
قَالَ محمدٌ: (وَعدا) مَصْدَرٌ؛ وَالْمَعْنَى: وَعَدَ بِالْبَعْثِ وَعْدًا.(2/403)
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)
{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أَيْ: مَا كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِي الدُّنْيَا؛ يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} فِي قَوْلِهِمْ فِي الدُّنْيَا: {لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} .(2/403)
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نقُول لَهُ} قبل أَن يكون (ل 174) {كن فَيكون} .
قَالَ محمدٌ: (فَيكون) بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى: فَهُوَ يَكُونُ.(2/403)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
{وَالَّذين هَاجرُوا فِي الله} إِلَى الْمَدِينَةِ {مِنْ بَعْدِ مَا ظلمُوا} مِنْ بَعْدِ مَا ظَلَمَهُمُ الْمُشْرِكُونَ {وأخرجوا دِيَارِهِمْ} مِنْ مَكَّةَ {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَة} يَعْنِي: الْمَدِينَةَ؛ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ {ولأجر الْآخِرَة} الْجنَّة {أكبر} مِنَ الدُّنْيَا {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} لَعَلِمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ خيرٌ مِنَ الدُّنْيَا.(2/403)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
{الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} قَالَ الْحَسَنُ: وَهُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظلمُوا.
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (43) إِلَى الْآيَة (50) .(2/403)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذّكر} يَقُولُهُ لِلْمُشْرِكِينَ {إِنْ كُنْتُمْ لَا تعلمُونَ} وَأَهْلُ الذِّكْرِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ، وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا؛ فِي تَفْسِير السّديّ.(2/404)
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
{بِالْبَيِّنَاتِ والزبر} يَعْنِي: الْكُتُبَ.
قَالَ يحيى: فِيهَا تقديمٌ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِم.
{وأنزلنا إِلَيْك الذّكر} الْقُرْآن.(2/404)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)
{أفأمن الَّذين مكروا السَّيِّئَات} يَعْنِي: الشِّرْكَ {أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذهُمْ فِي تقلبهم} أَيْ: فِي أَسْفَارِهِمْ فِي غَيْرِ قَرَار(2/404)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)
{فَمَا هم بمعجزين} بسابقين(2/404)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
{أَو يَأْخُذهُمْ على تخوف} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: يَعْنِي: عَلَى تَنَقُّصٍ؛ أَيْ: يَبْتَلِيهِمْ بِالْجَهْدِ حَتَّى يَرْقَوْا وَيَقِلَّ عَدَدُهُمْ.
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: تَخَوَّفَتْهُ الدُّهُورُ؛ أَيْ: تَنَقَّصَتْهُ.
قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ - يَصِفُ نَاقَةً - وَأَنَّ السَّيْرَ نَقْصَ سَنَامَهَا بَعْدَ تَمَكُّنِهِ وَاكْتِنَازِهِ:
(تَخَوُّفَ السَّيْرُ مِنْهَا ثَامِكًا قَرِدًا ... كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ}(2/404)
النَّبْعُ: الْعُودُ الَّذِي يُعْمَلُ مِنْهُ السِّهَامُ وَالْقِسِيُّ.
قَوْلُهُ: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لرءوف رَحِيم} أَي: إِن تَابُوا وَأَصْلحُوا.(2/405)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
{أَو لم يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ من شَيْء يتفيؤ} أَي: يرجع {ظلاله} يَعْنِي: ظِلَّ كُلِّ شَيْءٍ {عَنِ الْيَمين وَالشَّمَائِل} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: رُبَّمَا كَانَ الْفَيْءُ عَنِ الْيَمِينِ، وَرُبَّمَا كَانَ عَنِ الشِّمَالِ {سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} صَاغِرُونَ.
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: دَخِرَ لله؛ أَي: خضع، و (سجدا) منصوبٌ على الْحَال.(2/405)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
{وَللَّه يسْجد مَا فِي السَّمَاوَات} يَعْنِي: الْمَلائِكَةَ {وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ؛ يَعْنِي: الْمَلائِكَةَ. قَالَ محمدٌ: قيل فِي قَوْله: (وَالْمَلَائِكَة) أَي: تسْجد مَلَائِكَة الأَرْض.
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (51) إِلَى الْآيَة (56) .(2/405)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
{وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ} أَيْ: لَا تَعْبُدُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ {إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فإياي فارهبون} فخافون.(2/405)
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
{وَله الدّين واصبا} أَيْ: دَائِمًا {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} تَعْبُدُونَ؛ يَقُولُ هَذَا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ: قَدْ فَعَلْتُمْ، فَعَبَدْتُمُ الْأَوْثَان من دونه.(2/406)
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)
{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ} الْمَرَض والشدائد {فإليه تجأرون} تَصْرُخُونَ؛ أَيْ: تَدْعُونَهُ وَلا تَدْعُوا الْأَوْثَان.(2/406)
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ليكفروا بِمَا آتَيْنَاهُم فتمتعوا} فِي الدُّنْيَا {فَسَوف تعلمُونَ} هَذَا وعيدٌ.(2/406)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا} يَعْنِي: آلِهَتَهُمْ؛ أَيْ: يَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ خَلَقَ مَعَ اللَّهِ شَيْئًا، وَلا أَمَاتَ وَلا أَحْيَا وَلا رَزَقَ مَعَهُ شَيْئًا {نَصِيبا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} يَعْنِي: قَوْلَهُ: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لشركائنا} قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {تَاللَّهِ} قسمٌ يقسم بِنَفسِهِ {لتسئلن عَمَّا كُنْتُم تفترون} .
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: تُسْأَلُونَ عَنْ ذَلِكَ - سُؤَالَ تَوْبِيخٍ - حَتَّى تَعْتَرِفُوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَتُلْزِمُوا أَنْفُسَكُمُ الْحجَّة.
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (57) إِلَى الْآيَة (61) .(2/406)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)
{ويجعلون لله الْبَنَات} كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَلائِكَةَ بَنَاتُ(2/406)
الله. قَالَ الله: {سُبْحَانَهُ} يُنَزِّهُ نَفْسَهُ عَمَّا قَالُوا {وَلَهُمْ مَا يشتهون} أَيْ: وَيَجْعَلُونَ لأَنْفُسِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ؛ يَعْنِي: الغلمان(2/407)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجهه مسودا} أَي: متغيراً {وَهُوَ كظيم} أَيْ: كظيمٌ عَلَى الْغَيْظِ وَالْحُزْنِ.
(ل 175) قَالَ محمدٌ: وَأَصْلُ الْكَظْمِ: الْحَبْسُ.(2/407)
يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
{يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} يَقُولُ: يَتَفَكَّرُ كَيْفَ يَصْنَعُ بِمَا بُشِّرَ بِهِ؛ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هوانٍ - يَعْنِي: الابْنَةَ - أَمْ يَدْفِنُهَا حَيَّةً حَتَّى تَمُوتَ مَخَافَةَ الْفَاقَةِ {أَلا سَاءَ} بئس {مَا يحكمون} وَهَذَا مثلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: الْمَلائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ.(2/407)
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
ثُمَّ قَالَ: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} يَقُولُ: وَلِلَّهِ الإِخْلاصُ وَالتَّوْحِيدُ؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة.(2/407)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} أَيْ: لَحَبَسَ الْمَطَرَ؛ فَأَهْلَكَ حَيَوَانَ الأَرْض {وَلَكِن يؤخرهم} يُؤَخِّرُ الْمُشْرِكِينَ {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} إِلَى السَّاعَةِ؛ لأَنَّ كُفَّارَ آخِرِ هَذِهِ الأُمَّةِ أَخَّرَ عَذَابَهَا بِالاسْتِئْصَالِ إِلَى النَّفْخَةِ الأُولَى {فَإِذَا جَاءَ أَجلهم} بِعَذَاب الله {لَا يَسْتَأْخِرُونَ} عَنهُ عَن الْعَذَاب، الْآيَة
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (62) إِلَى الْآيَة (67) .(2/407)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
{ويجعلون لله مَا يكْرهُونَ} يَجْعَلُونَ لَهُ الْبَنَاتِ، وَيَكْرَهُونَهَا لأَنْفُسِهِمْ {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحسنى} يَعْنِي: الْبَنِينَ؛ فِي تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ {لَا جرم} كَلِمَةُ وَعِيدٍ؛ وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُهَا {أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} قَرَأَهَا الْحَسَنُ بِتَسْكِينِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ - وَكَأَنَّ تَفْسِيرَهَا: مُعْجَلُونَ إِلَى النَّارِ، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ (مُفَرَّطُونَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ؛ وَصَفَهُمْ بِالتَّفْرِيطِ.
قَالَ محمدٌ: وَقِرَاءَةُ نَافِعٍ {مُفْرَطُونَ} بِتَسْكِينِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ؛ وَهُوَ مِنَ الإِفْرَاطِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ.(2/408)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهدى وَرَحْمَة} يَقُولُ: فِيهِ هُدًى وَرَحْمَةٌ {لِقَوْمٍ يُؤمنُونَ} .
قَالَ محمدٌ: مَنْ قَرَأَ (وَرَحْمَةً) بِالنَّصْبِ، فَالْمَعْنَى: مَا أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكَ إِلَّا للْبَيَان وَالْهِدَايَة وَالرَّحْمَة.(2/408)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} يَعْنِي: الأَرْضَ(2/408)
الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نَبَاتٌ؛ فَيُحْيِيهَا بِالْمَطَرِ؛ فَتَنْبُتَ بَعْدَ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نباتٌ {إِنَّ فِي ذَلِك لآيَة لقوم يسمعُونَ} فَيَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي أَحْيَا هَذِهِ الأَرْضَ الْمَيْتَةَ حَتَّى أَنْبَتَتْ - قادرٌ على أَن يحيي الْمَوْتَى.(2/409)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سائغا للشاربين} يَقُولُ: فِي هَذَا اللَّبَنِ الَّذِي أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ بَيْنَ فَرْثٍ وَدَمٍ آيَةٌ لقومٍ يَعْقِلُونَ؛ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي أَخْرَجَهُ قادرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى.
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: سَقَيْتُهُ وَأَسْقَيْتُهُ بِمَعْنَى واحدٍ. (وَالأَنْعَامُ) لَفْظُهُ لَفْظُ جَمِيعٍ، وَهُوَ اسْمُ الْجِنْسِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَالْفَرْثُ: مَا فِي الْكِرْشِ، وَالسَّائِغُ: السَّهْلُ فِي الشّرْب.(2/409)
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سكرا وَرِزْقًا حسنا} أَيْ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ مَا تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا.
تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: السَّكَرُ: الْخَمْرُ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا، وَالرِّزْقُ الْحسن: الطَّعَام.
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (68) إِلَى الْآيَة (74) .(2/409)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
{وَأوحى رَبك إِلَى النَّحْل} أَيْ: أَلْهَمَهَا {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} أَي: يبنون(2/410)
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
{فاسلكي سبل رَبك} يَعْنِي: طُرُقَ رَبِّكِ الَّتِي جَعَلَ لَك {ذللا} قَالَ مجاهدٌ: يَعْنِي: ذَلَّلْتُ لَهَا السُّبُلَ لَا يَتَوَعَّرُ عَلَيْهَا مَكَانٌ {يخرج من بطونها شراب} يَعْنِي: الْعَسَلَ {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء للنَّاس} أَي: دواءٌ.(2/410)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
{وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمر لكيلا يعلم بعد علم شَيْئا} يَقُولُ: يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الطِّفْلِ الَّذِي لَا يعقل شَيْئا.(2/410)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآيَةَ، يَقُولُ: هَلْ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَكُونُ هُوَ وَمَمْلُوكُهُ وَأَهْلُهُ وَمَالُهُ شُرَكَاءَ سَوَاءً؛ أَيْ: أَنَّكُمْ لَا تَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِمَمْلُوكِيكُمْ؛ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَلا يُشْرَكَ بِهِ أحدٌ مِنْ خَلْقِهِ.
{أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} عَلَى الاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ: قَدْ فَعَلُوا ذَلِك.(2/410)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} يَعْنِي: نِسَاءً {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أزواجكم بَنِينَ وحفدة} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: الْحَفَدَةُ: الْخَدَمُ؛ يَعْنِي: بِذَلِكَ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ؛ يُقَالُ: إِنَّهُمْ بَنُونَ وَخَدَمٌ.
قَالَ محمدٌ: وَأَصْلُ الْحَفَدِ: الْخِدْمَةُ وَالْعَمَلُ، وَمِنْهُ يُقَال فِي الْقُنُوت: (ل 176) " وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ " أَيْ: نَعْمَلُ بطاعتك.(2/410)
{أفبالباطل يُؤمنُونَ} عَلَى الاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ: قَدْ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ، وَالْبَاطُلُ: إِبْلِيسُ {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هم يكفرون} هُوَ كَقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذين بدلُوا نعْمَة الله كفرا} .(2/411)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض شَيْئا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} يَعْنِي: الأَوْثَانَ الَّتِي يَعْبُدُونَ؛ هُوَ كَقَوْلِه: {وَلَا يملكُونَ لأَنْفُسِهِمْ} يَعْنِي: الأَوْثَانَ {ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلَا نشورا} .(2/411)
فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
{فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال} فَتُشَبِّهُوا هَذِهِ الأَوْثَانَ الْمَيْتَةَ الَّتِي لَا تُحْيِي وَلا تُمِيتُ وَلا تَرْزُقُ بِاللِّهِ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ويرزق، وَيفْعل مَا يُرِيد.
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (75) إِلَى الْآيَة (76) .(2/411)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يقدر على شَيْء} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: هَذَا مَثَلُ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْكَافِرِ؛ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالا فَلَمْ يُقَدِّمْ مِنْهُ خَيْرًا، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِطَاعَةٍ {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ} وَهَذَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ أَعْطَاهُ اللَّهُ رِزْقًا حَلالا طَيِّبًا، فَعَمِلَ فِيهِ بِطَاعَتِهِ وَأَخَذَهُ بشكرٍ {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مثلا} أَيْ: أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} وهم الْمُشْركُونَ.(2/411)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أبكم} أَيْ: لَا يَتَكَلَّمُ؛ يَعْنِي: الْوَثَنَ {لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كلٍّ على مَوْلَاهُ} عَلَى وَلِيِّهِ الَّذِي يَتَوَلاهُ وَيَعْبُدُهُ؛ أَيْ: أَنَّهُ عَمِلَهُ بِيَدِهِ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ كَسبه {أَيْنَمَا يوجهه} هَذَا الْعَابِدُ لَهُ؛ يَعْنِي: دُعَاءَهُ إِيَّاهُ {لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي} هَذَا الْوَثَنُ {وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} وَهُوَ اللَّهُ {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {إِنَّ رَبِّي على صِرَاط مُسْتَقِيم} .
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (77) إِلَى الْآيَة (80) .(2/412)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
{وَللَّه غيب السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَيْ: يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَغَيْبَ الأَرْضِ {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} بَلْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْ لَمْحِ الْبَصَرِ، وَلَمْحُ الْبَصَرِ أَنَّهُ يَلْمَحُ السَّمَاء؛ وَهِي على مسيرَة خَمْسمِائَة عَامٍ.
قَالَ محمدٌ: قِيلَ:
إِنَّ السَّاعَةَ اسمٌ لإِمَاتَةِ الْخَلْقِ وَإِحْيَائِهِمْ؛ فَأَعْلَمَ جَلَّ وَعَزَّ أَنَّ الْبَعْثَ وَالإِحْيَاءَ فِي سُرْعَةِ الْقُدْرَةِ عَلَى الإِتْيَانِ بِهِمَا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ؛ لَيْسَ يُرِيدُ أَنَّ السَّاعَةَ تَأْتِي فِي أَقْرَبِ مِنْ لمح الْبَصَر، وَالله أعلم.(2/412)
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جو السَّمَاء} كَبَدِ السَّمَاءِ (مَا يُمْسِكُهُنَّ(2/412)
إِلَّا الله} يُبَيِّنُ قُدْرَتَهُ لِلْمُشْرِكِينَ؛ يَقُولُ: هَلْ تصنع آلِهَتكُم شَيْئا؟ !(2/413)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سكناً} {تَسْكُنُونَ فِيهِ} (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُود الْأَنْعَام} يَعْنِي: مِنَ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ {بُيُوتًا تستخفونها يَوْم ظعنكم} يَعْنِي: فِي سَفَرِكُمْ {وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} يَعْنِي: قَرَارَكُمْ فِي غَيْرِ سَفَرٍ {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا} قَالَ الأَعْمَشُ: الأَثَاثُ: الْمَالُ يُسْتَمْتَعُ بِهِ {إِلَى حِين} إِلَى الْمَوْتِ.
قَالَ محمدٌ: وَوَاحِدُ الأَثَاثِ: أثاثةٌ؛ يُقَالُ: قَدْ أَثَّ الرَّجُلُ يَئِثُّ أَثًّا؛ إِذَا صَارَ ذَا أثاثٍ، وَالأَثَاثُ: مَتَاعُ الْبَيْتِ؛ عِنْد أهل اللُّغَة.
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (81) إِلَى الْآيَة (85) .(2/413)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظلالاً} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: مِنَ الشَّجَرِ وَغَيْرِهَا {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أكناناً} يَعْنِي: الْغِيرَانَ الَّتِي تُكُونُ فِي الْجِبَالِ تُكِنُّ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} يَعْنِي: مِنَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ(2/413)
وَالصُّوف {وسرابيل تقيكم بأسكم} يَعْنِي: دُرُوعَ الْحَدِيدِ تَقِي الْقِتَالَ.
{كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تسلمون} لِكَيْ تُسْلِمُوا؛ يَقُولُ: إِنْ أَسْلَمْتُمْ تَمَّتْ عَلَيْكُمُ النِّعْمَةُ بِالْجَنَّةِ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمُوا لمْ تَتِمَّ عَلَيْكُمُ النِّعْمَة(2/414)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبين} أَيْ: لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تَهْدِيَهُمْ، وَكَانَ هَذَا قبل أَن يُؤمر بقتالهم.(2/414)
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
{يعْرفُونَ نعْمَة الله ثمَّ يُنْكِرُونَهَا} يَقُولُ: يَعْرِفُونَ وَيُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ خلقهمْ، وَخلق السَّمَوَات وَالأَرْضَ، وَأَنَّهُ هُوَ الرَّزَّاقُ، ثُمَّ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ بِتَكْذِيبِهِمْ {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} يَعْنِي: جَمَاعَتهمْ.(2/414)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدا} يَعْنِي: نبياًّ يشْهد عَلَيْهِم (ل 177) أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَهُمْ {ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يستعتبون} هِيَ مَوَاطِنٌ: لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي مَوْطِنٍ فِي الْكَلامِ، وَيُؤْذَنُ لَهُم فِي موطن.(2/414)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
{وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ} أَيْ: دَخَلُوا فِيهِ؛ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ} الْعَذَابُ {وَلا هم ينظرُونَ} سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُؤَخِّرَهُمْ، فَيَرُدَّهُمْ إِلَى الدُّنْيَا حَتَّى يَتُوبُوا؛ فَلَمْ يؤخرهم.
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (86) إِلَى الْآيَة (89) .(2/414)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)
{وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ} يَعْنِي: شَيَاطِينَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُضِلُّونَهُمْ فِي الدُّنْيَا {قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونك} قَالُوا هَذَا؛ لأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِم القَوْل} أَلْقَى بَنُو آدَمَ إِلَى شَيَاطِينِهِمُ الْقَوْلَ؛ أَيْ: حَدَّثُوهُمْ؛ فَقَالُوا لَهُمْ: {إِنَّكُم لَكَاذِبُونَ} أَي: أَنكُمْ كذبتمونا فِي الدُّنْيَا وغررتمونا(2/415)
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
{وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} أَيْ: اسْتَسْلَمُوا وَآمَنُوا بِاللَّهِ، وَكَفَرُوا بِالشَّيَاطِينِ وَالأَوْثَانِ {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} .(2/415)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} تَفْسِيرُ ابْنِ مَسْعُودٍ: حَيَّاتٍ وَعَقَارِبَ لَهَا أَنْيَابٌ مِثْلَ النَّخْلِ الطُّوَالِ.(2/415)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدا عَلَيْهِم من أنفسهم} يَعْنِي: نَبِيَّهُمْ؛ هُوَ شَاهِدٌ عَلَيْهِمْ {وَجِئْنَا بك} يَا مُحَمَّدُ {شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ} يَعْنِي: أُمَّتَهُ {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تبياناً لكل شيءٍ} يَعْنِي: مَا بَيَّنَ فِيهِ مِنَ الْحَلالِ وَالْحَرَامِ، وَكُلِّ مَا أَنْزَلَ الله فِيهِ.
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (90) إِلَى الْآيَة (92) .(2/415)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وإيتاء ذِي الْقُرْبَى} يَعْنِي: حَقَّ الْقَرَابَةِ.(2/415)
قَالَ الْحَسَنُ: حَقُّ الرَّحِمِ أَلا تَحْرِمَهَا وَلا تَهْجُرَهَا {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَالْبَغي} أَيْ: يَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
يحيى: عَنْ خِدَاشٍ، عَنْ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ ذنبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجَّلَ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِم ".(2/416)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)
{وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} يَعْنِي: تشديدها وتغليظها(2/416)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
{وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا من بعد قُوَّة أنكاثا} يَنْهَاهُمْ عَنْ نَكْثِ الْعَهْدِ؛ يَقُولُ: فَيَكُونُ مَثْلُكُمْ إِنْ نَكَثْتُمُ الْعَهْدَ مَثْلَ الَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ مَا أَبْرَمَتْهُ، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي ضُرِبَتْ مَثَلا كَانَتْ تَغْزِلُ الشَّعْرَ؛ فَإِذَا غَزَلَتْهُ نَقَضَتْهُ، ثُمَّ عَادَتْ فغزلته.
قَالَ محمدٌ: (أنكاثاً) منصوبٌ؛ لأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَوَاحِدُ الأَنْكَاثِ: نكثٌ.(2/416)
{دخلا بَيْنكُم} أَيْ: خِيَانَةً وَغَدْرًا {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} أَيْ: أَكْثَرُ؛ يَقُولُ: فَتَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ لقومٍ هُمْ أَكْثَرُ مِنْ قومٍ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يُحَالِفُونَ قَوْمًا فَيَجِدُونَ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَعَزَّ، فَيَنْقُضُوا حِلْفَ هَؤُلاءِ وَيُحَالِفُونَ الَّذِينَ هُمْ أَعَزُّ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ.
{إِنَّمَا يبلوكم الله بِهِ} أَي: يختبركم {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ} يَوْمَ الْقِيَامَةِ {مَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون} من الْكفْر وَالْإِيمَان.
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (93) إِلَى الْآيَة (100) .(2/417)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَة} يَعْنِي: على مِلَّة الْإِسْلَام.(2/417)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)
{وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَقُولُ: لَا تَصْنَعُوا كَمَا صَنَعَ الْمُنَافِقُونَ، فَتُظْهِرُوا الإِيمَانَ وَتُسِرُّوا الشِّرْكَ {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتهَا} تَزِلَّ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ مَا كَانَت على الْإِيمَان(2/417)
وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)
{وَلَا تشتروا بِعَهْد الله} يَعْنِي الْيَمِينَ(2/417)
الكاذبة {ثمنا قَلِيلا} من الدُّنْيَا.(2/418)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
{فلنحيينه حَيَاة طيبَة} تَفْسِيرُ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: يَعْنِي: القناعة.(2/418)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
{فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن} الآيَةَ قَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي الصَّلاةِ، ثُمَّ صَارَتْ سُنَّةً فِي غَيْرِ الصَّلاةِ؛ إِذَا أَرَادَ أَنْ يقْرَأ.(2/418)
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)
{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذين آمنُوا} هُوَ كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ من مضل} .(2/418)
إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} أَيْ: يُطِيعُونَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَطِيعَ أَنْ يُكْرِهَهُمْ {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مشركون} أَيْ: بِاللَّهِ مُشْرِكُونَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ (ل 178) قِيلَ: الْمَعْنَى: الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَجله مشركون بِاللَّه.
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (101) إِلَى الْآيَة (105) .(2/418)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْت مفتر} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: كَانَتِ الآيَةُ إِذَا نَزَلَتْ؛ فَعُمِلَ بِهَا وَفِيهَا شِدَّةٌ، ثمَّ نزلت بَعْدَهَا آيَةٌ فِيهَا لِينٌ قَالُوا: إِنَّمَا يَأْمُرُ محمدٌ أَصْحَابَهُ بِالأَمْرِ؛ فَإِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِمْ صَرَفَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلْو كَانَ هَذَا الأَمْرُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَكَانَ أَمْرًا وَاحِدًا، وَمَا اخْتَلَفَ وَلَكِنَّهُ مِنْ قبل(2/418)
محمدٍ(2/419)
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
قَالَ الله: {قل} يَا مُحَمَّدُ: {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ من رَبك بِالْحَقِّ} فَأَخْبِرْ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا لم يفتر مِنْهُ شَيْئا.(2/419)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
{وَلَقَد نعلم أَنهم يَقُولُونَ} يَعْنِي: مُشْرِكِي الْعَرَبِ {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بشر} يَعْنُونَ: عَبْدًا لابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَكَانَ رُومِيًّا صَاحِبِ كِتَابٍ - فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ - اسْمُهُ: حبرٌ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَدَّاسُ غُلامُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ.
قَالَ اللَّهُ: {لِسَانُ الَّذِي يلحدون إِلَيْهِ} أَيْ: يَمِيلُونَ إِلَيْهِ {أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَان عَرَبِيّ مُبين} فأكذبهم.(2/419)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله لَا يهْدِيهم الله} هَؤُلاءِ الَّذِينَ لَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يهْدِيهم يلقونه بكفرهم.
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (106) إِلَى الْآيَة (110) .(2/419)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
{مِنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَان} أَيْ: راضٍ بِهِ؛ نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَصْحَابِهِ؛ أَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَوَقَفُوهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَخَافُوا مِنْهُمْ؛ فَأَعْطَوْهُمْ ذَلِكَ بأفواههم.(2/419)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)
{وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافرين} يَعْنِي: الَّذِينَ يَلْقَوْنَ اللَّهَ بِكُفْرِهِمْ.(2/420)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا من بعد مَا فتنُوا} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: هُمْ قومٌ كَانُوا بِمَكَّةَ، فَعَرَضَتْ لَهُمْ فِتْنَةٌ؛ فَارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلامِ وَشَكُّوا فِي نَبِيِّ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَسْلَمُوا وَهَاجَرُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ جَاهَدُوا مَعَهُ وَصَبَرُوا.
{وَلَكِنْ مَنْ شرح بالْكفْر صَدرا} قَالَ محمدٌ: يَعْنِي: فَتَحَ لَهُ بِالْقبُولِ صَدره.
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (111) إِلَى الْآيَة (115) .(2/420)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَفسهَا} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: إِنَّ كُلَّ نفسٍ تُوقَفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ لِلْحِسَابِ، لَيْسَ يَسْأَلُهَا عَنْ عَمَلِهَا إِلا اللَّهِ {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عملت} أَمَّا الْكَافِرُ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ فِي الآخِرَةِ شَيْءٌ قَدِ اسْتَوْفَاهَا فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا سَيِّئَاتُهُ فَيُوَفَّاهَا فِي الآخِرَةِ يُجَازَى بِهَا النَّارَ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَهُوَ الَّذِي يُوَفَّى الْحَسَنَاتِ فِي الآخِرَةِ، وَأَمَّا سَيِّئَاتُهُ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى ذَهَبَتْ سَيِّئَاتُهُ بِالْبَلاءِ وَالْعُقُوبَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ، فَيْفَعَلُ الله فِيهِ مَا يَشَاء.(2/420)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَة مطمئنة} إِلَى قَوْله: {وهم ظَالِمُونَ} الْقَرْيَةُ: مَكَّةُ، وَالرَّسُولُ: محمدٌ؛ كَفَرُوا بِأَنْعُمِ اللَّهِ؛ فَكَذَّبُوا رَسُولَهُ وَلَمْ يَشْكُرُوا. وَقَوْلُهُ: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوع وَالْخَوْف} يَعْنِي: الْجُوعَ الَّذِي عُذِّبُوا بِهِ بِمَكَّةَ قَبْلَ عَذَابِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ عَذَّبَهُمُ اللَّهُ بِالسَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمَّا الْخَوْفُ: فَبَعْدَ مَا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم عَنْهُم.(2/421)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)
{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طيبا} يَعْنِي: مَا أَحَلَّ مِنَ الرَّزْقِ.
{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} يَعْنِي: ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ أَحَلَّ ذَبَائِحَ أْهَلِ الْكِتَابِ {فَمَنِ اضْطُرَّ غير بَاغ وَلَا عَاد} قد مضى تَفْسِيره.
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (116) إِلَى الْآيَة (118) .(2/421)
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)
{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} .
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: وَلا تَقُولُوا لَوَصْفِ أَلْسِنَتِكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} .
يَعْنِي: مَا حَرَّمُوا مِنَ الأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ، وَمَا اسْتَحَلُّوا من أكل الْميتَة.(2/421)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
{مَتَاع قَلِيل} أَيْ: أَنَّ الَّذِي هُمْ فِيهِ مِنَ الدُّنْيَا ذاهبٌ {وَلَهُمْ عذابٌ أَلِيم} {فِي الْآخِرَة(2/421)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
2 -! (وعَلى الَّذين هادوا حرمنا عَلَيْهِمْ) {بِكُفْرِهِمْ} (مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ من قبل} يَعْنِي: مَا قَصَّ فِي سُورَةِ الأَنْعَامِ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظفر} الْآيَة.(2/421)
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (119) إِلَى الْآيَة (123) .(2/422)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِن رَبك من بعْدهَا} (ل 179) مِنْ بَعْدِ تِلْكَ الْجَهَالَةِ؛ إِذَا تَابُوا مِنْهَا {لغَفُور رَحِيم} فَكُلُّ ذنبٍ عَمِلَهُ الْعَبْدُ فَهُوَ مِنْهُ جهلٌ.(2/422)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
{إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أمة} وَالأُمَّةُ: السَّيِّدُ فِي الْخَيْرِ الَّذِي يعلم الْخَيْر {قَانِتًا} مُطيعًا {حَنِيفا} أَي: مخلصاً.(2/422)
شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)
{اجتباه} اخْتَارَهُ {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .(2/422)
وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
{وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَة} كَقَوْلِهِ: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينٍ إِلا وهم يتولونه ويرضونه.
سُورَة النَّحْل من الْآيَة (124) إِلَى الْآيَة (128) .(2/422)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتلفُوا فِيهِ} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: اسْتَحَلَّهُ بَعْضُهُمْ، وَحَرَّمَهُ بَعْضُهُمْ {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْم الْقِيَامَة} وَحُكْمُهُ فِيهِمْ أَنْ يُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمُ الْجَنَّةَ، وَيُدْخِلَ الْكَافِرِينَ النَّارَ.(2/423)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
{ادْع إِلَى سَبِيل رَبك} دِينِ رَبِّكَ {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أحسن} يَأْمُرُهُمْ بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ.(2/423)
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ:
لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ مَثَّلَ الْمُشْرِكُونَ بِحَمْزَةَ، وَقَطَعُوا مَذَاكِرَهُ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَزِعَ عَلَيْهِ جَزَعًا شَدِيدًا، فَأَمَرَ بِهِ فَغُطِّيَ بِبُرْدَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ، فَمَدَّهَا عَلَى وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ، وَجَعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ إِذْخَرًا، ثُمَّ قَالَ: لأُمَثِّلَنَّ بِثَلاثِينَ مِنْ قريشٍ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّه} فَصَبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ ".(2/423)
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
{وَلَا تحزن عَلَيْهِم} إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا؛ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يمكرون} أَيْ: لَا يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَكْرِهِمْ وَكَذِبِهِمْ عَلَيْكَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَكَ وَ {مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هم محسنون} .(2/424)
تَفْسِير سُورَة سُبْحَانَ، وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم
سُورَة الْإِسْرَاء آيَة (1) .(3/5)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
قَوْلُهُ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} يَعْنِي: مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَام {لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى} يَعْنِي: بَيْتَ الْمَقْدِسِ. {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتنَا} يَعْنِي: مَا أَرَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ أَسْرَى بِهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَعْنَى (أسرِي بِهِ) أَيْ: سَيَّرَهُ؛ وَلَا يَكُونُ السُّرَى إِلَّا لَيْلًا، وَفِيهِ لُغَتَانِ: سَرَى وَأَسْرَى.
يَحْيَى: [عَنْ حَمَّادٍ] عَنِ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " بَيْنَمَا أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ؛ إِذْ أُتِيتُ فَشُقَّ النَّحْرُ فَاسْتُخْرِجَ الْقَلْبُ، فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ أُعِيدَ مَكَانَهُ، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ، يُقَالُ لَهُ: الْبُرَاقُ؛ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ مُضْطَرِبُ الْأُذُنَيْنِ، يَقَعُ خَطْوُهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرَفِهِ، فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، فَسَارَ بِي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِي عَنْ يَمِينِ(3/5)
الطَّرِيقِ: يَا مُحَمَّدُ، عَلَى رِسْلِكَ اسْلُكْ، يَا مُحَمَّدُ، عَلَى رِسْلِكَ اسْلُكْ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا أَنَا بِمُنَادٍ يُنَادِي عَنْ يَسَارِ الطَّرِيقِ: يَا مُحَمَّدُ، عَلَى رِسْلِكَ اسْلُكْ، يَا مُحَمَّدُ، عَلَى رِسْلِكَ اسْلُكْ، يَا مُحَمَّدُ، عَلَى رِسْلِكَ اسْلُكْ، يَا مُحَمَّدُ، عَلَى رِسْلِكَ اسْلُكْ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ أَحْسَبُهُ قَالَ: حَسْنَاءٍ (حَمْلا) عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ الْحُلِيِّ وَالزِّينَةِ، نَاشِرَةً شَعْرَهَا رَافِعَةً يَدَيْهَا تَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، عَلَى رِسْلِكَ اسْلُكْ، يَا مُحَمَّدُ، عَلَى رِسْلِكَ اسْلُكْ، يَا مُحَمَّدُ، عَلَى رِسْلِكَ اسْلُكْ، فَمَضَيْتُ وَلَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهَا، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَوْثَقْتُ الدَّابَّةَ بِالْحَلَقَةِ الَّتِي تُوْثِقُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَأَتَانِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءَيْنِ: إِنَاءٌ مِنْ لَبَنٍ، وَإِنَاءٌ مِنْ خَمْرٍ، فَتَنَاوَلْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ قَالَ لِي جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ، مَا رَأَيْتَ فِي رِحْلَتِكَ هَذِهِ؟ قَالَ: سَمِعْتُ مُنَادِيًا يُنَادِي عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ: يَا مُحَمَّد، على رسلك اسلك (ل 180) يَا مُحَمَّدُ، عَلَى رِسْلِكَ اسْلُكْ، يَا مُحَمَّدُ، عَلَى رِسْلِكَ اسْلُكْ قَالَ: فَمَا صَنَعْتَ، قُلْتُ: مَضَيْتُ وَلَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ. قَالَ: ذَاكَ دَاعِيَةُ الْيَهُودِ؛ أَمَّا إِنَّكَ لَوْ عَرَّجْتَ عَلَيْهِ، لَتَهَوَّدَتْ أُمَّتُكَ. قُلْتُ: ثُمَّ إِذَا أَنَا بِمُنَادٍ يُنَادِي عَنْ يَسَارِ الطَّرِيقِ: يَا مُحَمَّدُ، عَلَى رِسْلِكَ اسْلُكْ، يَا مُحَمَّدُ، عَلَى رِسْلِكَ اسْلُكْ، يَا مُحَمَّدُ، عَلَى رِسْلِكَ اسْلُكْ. قَالَ: فَمَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: مَضَيْتُ وَلَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهِ. قَالَ: ذَاكَ دَاعِيَةُ النَّصَارَى؛ أَمَّا إِنَّكَ لَوْ عَرَّجْتَ عَلَيْهِ لَتَنَصَّرَتْ أُمَّتُكَ. قُلْتُ: ثُمَّ إِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ أَحْسَبُهُ قَالَ: حَسْنَاءٍ (حَمْلا) عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ الْحُلِيِّ(3/6)
وَالزِّينَةِ، نَاشِرَةً شَعْرَهَا رَافِعَةً يَدَيْهَا تَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، عَلَى رِسْلِكَ اسْلُكْ، يَا مُحَمَّدُ، عَلَى رِسْلِكَ اسْلُكْ، يَا مُحَمَّدُ، عَلَى رِسْلِكَ اسْلُكْ. قَالَ: فَمَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: مَضَيْتُ وَلَمْ أُعَرِّجْ عَلَيْهَا. قَالَ: تِلْكَ الدُّنْيَا؛ إِمَّا أَنَّكَ لَوْ عَرَّجْتَ عَلَيْهَا لَمِلْتَ إِلَى الدُّنْيَا. ثُمَّ أُتِينَا بِالْمِعْرَاجِ؛ فَإِذَا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ، فَقَعَدْنَا فِيهِ، فَعَرَجَ بِنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَعَلَيْهَا مَلَكٌ يُقَالُ لَهُ: إِسْمَاعِيلُ جُنْدُهُ سَبْعُونَ أَلْفِ مَلَكٍ، جُنْدُ كُلِّ مَلَكٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} . فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمِنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: أَوَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفُتِحَ لَنَا فَأَتَيْتُ عَلَى آدَمَ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمٌ. فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. قَالَ: وَإِذَا الْأَرْوَاحُ تُعْرَضُ عَلَيْهِ؛ فَإِذَا مَرَّ بِهِ رُوحُ مُؤْمِنٍ، قَالَ: رُوحٌ طَيِّبٌ وَرِيحٌ طَيِّبَةٌ، [وَإِذَا] مَرَّ بِهِ رُوحٌ كَافِرٌ قَالَ: رُوحٌ خَبِيثٌ وَرِيحٌ خَبِيثَةٌ {قَالَ: ثُمَّ مَضَيْتُ فَإِذَا أَنَا بِأَخَاوِينَ عَلَيْهَا لُحُومٌ مُنْتِنَةٌ، وَأَخَاوِينَ عَلَيْهَا لُحُومٌ طَيِّبَةٌ، وَإِذَا رِجَالٌ يَنْهَشُونَ اللُّحُومَ الْمُنْتِنَةَ، وَيَدَعُونَ اللُّحُومَ الطَّيِّبَةَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ؟} قَالَ: هَؤُلَاءِ الزُّنَاةُ؛ يَدَعُونَ الْحَلَالَ وَيَتْبَعُونَ الْحَرَامَ. قَالَ: ثُمَّ مَضَيْتُ فَإِذَا بِرِجَالٍ تُفَكُّ أَلْحِيَتُهُمْ، وَآخَرُونَ يَجِيئُونَ بِالصُّخُورِ مِنَ النَّارِ، فَيَقْذِفُونَهَا فِي أَفْوَاهِهِمْ، فَتَخْرُجُ مِنْ أَدْبَارِهِمْ. قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ(3/7)
يَا جِبْرِيلُ؟ {قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سعيرا} ؛ ثُمَّ مَضَيْتُ فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ يُقْطَعُ مِنْ لُحُومِهِمْ بِدِمَائِهِمْ فَيَضْفِزُونَهَا وَلَهُمْ جُؤَارٌ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْهَمَّازُونَ اللَّمَّازُونَ. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيه مَيتا فكرهتموه} وَإِذَا أَنَا بِنِسْوَةٍ مُعَلَّقَاتٍ بَثُدْيِهِنَّ وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَإِذَا حَيَّاتٌ وَعَقَارِبٌ تَنْهَشُهُنَّ فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الظُّؤُرَةُ يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ. قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ عَلَى سَابِلَةِ آلِ فِرْعَوْنَ حَيْثُ يَنْطَلِقُ جَمْعٌ إِلَى النَّارِ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غدوا وعشيا؛ فَإِذا رأوها قَالَ: رَبَّنَا لَا تَقُومَنَّ السَّاعَةُ؛ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَإِذَا أَنَا بِرِجَالٍ بُطُونِهِمْ، كَالْبُيُوتِ يَقُومُونَ فَيَقَعُونَ لِظُهُورِهِمْ وَبُطُونِهِمْ، يَأْتِي عَلَيْهِمْ آلُ فِرْعَوْنَ فَيَثْرِدُونَهُمْ بِأَرْجُلِهِمْ ثَرْدًا، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ؟} قَالَ: هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا. ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمس} ثُمَّ عُرِجَ بِنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ. فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمِنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: أَوَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نعم. قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ، وَإِنَّهُ لَنِعْمَ الْمَجِيءُ. فَفُتِحَ لَنَا؛ فَإِذَا أَنَا بِابْنَيِ الْخَالَة: (ل 181) يَحْيَى وَعِيسَى،(3/8)
فَرَحَّبَا بِي وَدَعَوْا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمِنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: أَوَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ لَنَا؛ فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ، وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ. قَالَ: فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمِنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: أَوَ قَدْ بُعِثَ [إِلَيْهِ] قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفُتِحَ لَنَا؛ فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ، فَرَحَّبِ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمِنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: أَوَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ وَإِذَا بِلِحْيَتِهِ شَطْرَانِ: شَطْرٌ أَبْيَضُ وَشَطْرٌ أَسْوَدُ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ {قَالَ: هَذَا الْمُحَبَّبُ فِي قَوْمِهِ، وَأَكْثَرُ مَنْ رَأَيْتُ تَبَعًا. قَالَ: فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. قَالَ: ثُمَّ عُرِجَ بِنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمِنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: أَوَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ؟ قَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ لَنَا؛ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى، وَإِذَا هُوَ رَجِلٌ أَشْعَرٌ. فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟} قَالَ: هَذَا أَخُوكَ مُوسَى. قَالَ: فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، قَالَ: فَمَضَيْتُ، فَسَمِعْتُ مُوسَى يَقُولُ: يَزْعُمُ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنِّي أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ، وَهَذَا أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنِّي. ثُمَّ عُرِجَ بِنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمِنْ مَعَكَ؟(3/9)
قَالَ: مُحَمَّدٌ؟ قِيلَ: أَوَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ لَنَا فَأَتَيْتُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِذَا هُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ. وَيَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ {قَالَ: هَذَا أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ؛ فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. وَإِذَا أُمَّتِي عِنْدَهُ شَطْرَانِ: شَطْرٌ عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ بِيضٌ، وَشَطْرٌ عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ رُمْدٌ؛ فَدَخَلَ أَصْحَابُ الثِّيَابِ الْبِيضُ، وَاحْتَبَسَ الْآخَرُونَ. فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ؟} فَقَالَ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَعَمَلًا سَيِّئًا، وَكُلٌّ عَلَى خَيْرٍ، ثُمَّ قِيلَ: هَذِهِ مَنْزِلَتُكَ وَمَنْزِلَةُ أُمَّتِكَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ ولي الْمُؤمنِينَ} قَالَ: ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى؛ فَإِذَا هِيَ أَحْسَنُ مَا خَلَقَ اللَّهُ، وَإِذَا الْوَرَقَةُ مِنْ وَرَقِهَا لَوْ غُطِّيَتْ بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةِ لَغَطَّتْهُمْ، ثُمَّ انْفَجَرَ مِنْ تَحْتِهَا السَّلْسَبِيلُ، ثُمَّ انْفَجَرَ مِنَ السَّلْسَبِيلِ نَهْرَانِ: نَهْرُ الرَّحْمَةِ، وَنَهْرُ الْكَوْثَرِ، فَاغْتَسَلْتُ مِنْ نَهْرِ الرَّحْمَةِ فَغَفَرَ اللَّهُ لِي مَا تَقَدَّمْ مِنْ ذَنْبِي وَمَا تَأَخَّرَ، ثُمَّ أُعْطِيتُ الْكَوْثَرَ فَسَلَكْتُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَجْرِي فِي الْجَنَّةِ؛ فَإِذَا طَيْرُهَا كَالْبُخْتِ؟ قَالَ: وَنَظَرْتُ إِلَى جَارِيَةٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتِ يَا جَارِيَةُ؟ فَقَالَتْ: لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. قَالَ: ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى النَّارِ، (فَإِذَا) عَذَابُ رَبِّي لَشَدِيدٌ لَا تَقُومُ لَهُ الْحِجَارَةُ وَلَا الْحَدِيدُ، قَالَ: ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَغَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَ، وَوَقَعَ عَلَى كُلِّ وَرَقَةٍ مَلَكٌ، وَأَيَّدَهَا اللَّهُ بِأَيْدِهِ، وَفَرَضَ عَلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسِينَ صَلَاةً، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَاذَا فَرَضَ عَلَيْكَ رَبُّكَ؟ فَقُلْتُ: فَرَضَ عَلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسِينَ صَلَاةً. فَقَالَ: (ل 182) ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ؛(3/10)
فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ: أَيْ رَبِّي حُطَّ عَنْ أُمَّتِي؛ فَإِنَّ أُمَّتِي لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ لِي: مَا فَرَضَ عَلَيْكَ رَبُّكَ؟ قُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ؛ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَخْتَلِفُ مَا بَيْنَ رَبِّي وَمُوسَى حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدٌ، لَا تَبْدِيلَ؛ إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، هِيَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَتِلْكَ خَمْسُونَ صَلَاةً، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ. قُلْتُ: قَدْ راجعته حَتَّى استحييت ".(3/11)
سُورَة الْإِسْرَاء من (آيَة 2 آيَة 8) .(3/12)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)
قَوْله: {وآتينا مُوسَى الْكتاب} التَّوْرَاةَ {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} يَعْنِي: لِمَنْ آمَنَ بِهِ {أَلَّا تَتَّخِذُوا من دوني وَكيلا} يَعْنِي: رَبًّا؛ فِي تَفْسِيرِ بَعْضِهِمْ(3/12)
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} أَيْ: يَا ذُرِيَّةَ؛ لِذَلِكَ انْتَصَبَ.(3/12)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكتاب} أَيْ: أَعْلَمْنَاهُمْ {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مرَّتَيْنِ ولتعلن علوا كَبِيرا} يَعْنِي: لتقهرن قهرا شَدِيدا(3/12)
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
{فَإِذا جَاءَ وعد أولاهما} يَعْنِي: أُولَى الْعُقُوبَتَيْنِ {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فجاسوا خلال الديار} قَالَ قَتَادَةُ: عُوقِبَ الْقَوْمُ عَلَى عُلُوِّهِمِ وَفَسَادِهِمْ، فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ فِي الْأُولَى جَالُوتَ الْخَزَرِيَّ، فَسَبَى وَقَتَلَ وَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ.(3/12)
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَعْنَى (جَاسُوا) : طَافُوا؛ الْجَوْسُ طَلَبُ الشَّيْءِ بِاسْتِقْصَاءٍ. {وَكَانَ وَعدا مَفْعُولا} كَائِنا(3/13)
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نفيرا} أَيْ: عَدَدًا؛ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ فِي زَمَانِ دَاوُدَ يَوْمَ طَالُوتَ.(3/13)
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
{فَإِذا جَاءَ وعد الْآخِرَة} يَعْنِي: آخِرَ الْعُقُوبَتَيْنِ {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} وَهِيَ تُقْرَأُ (لِيَسُوءَ) أَيْ: لِيَسُوءَ الله وُجُوهكُم {وليدخلوا الْمَسْجِد} يَعْنِي: بَيْتَ الْمَقْدِسِ {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تتبيرا} أَيْ: وَلِيُفْسِدُوا مَا غَلَبُوا عَلَيْهِ إفسادا؛ يُقَالُ: إِنَّ إِفْسَادَهُمُ الثَّانِيَ: قَتْلُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتُنَصَّرَ، عَدَا بِهِ عَلَيْهِمْ؛ فَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَسَبَى وَقَتَلَ مِنْهُم سبعين ألفا.(3/13)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
{عَسى ربكُم أَن يَرْحَمكُمْ} قَالَ قَتَادَةُ: فَعَادَ اللَّهُ بِعَائِدَتِهِ قَالَ: {وَإِن عدتم عدنا} عَلَيْكُمْ بِالْعُقُوبَةِ، قَالَ الْحَسَنُ: (أَعَادَهُ) عَلَيْهِمْ بِمُحَمَّدٍ؛ فَأَذَلَّهُمْ بِالْجِزْيَةِ. {وَجَعَلْنَا جَهَنَّم للْكَافِرِينَ حَصِيرا} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: سجنا.
سُورَة الْإِسْرَاء من (آيَة 9 آيَة 12) .(3/13)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)
{إِن هَذَا الْقُرْآن يهدي} أَيْ: يَدْعُو {لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أَي: أصوب.(3/14)
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
{وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} يَقُولُ: يَدْعُو بِالشَّرِّ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى وَلَدِهِ وَمَالِهِ؛ كَمَا يَدْعُو بِالْخَيْرِ؛ وَلَوِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ لأهلكه.(3/14)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَة اللَّيْل} يُقَالُ: مُحِيَ مِنْ ضَوْءِ الْقَمَرِ مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ جُزْءًا وَبَقِيَ جُزْءٌ وَاحِدٌ {وَجَعَلْنَا آيَة النَّهَار مبصرة} أَيْ: مُنِيرَةٌ {لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ ربكُم} يَعْنِي: بِالنَّهَارِ {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ والحساب} بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: فَصَلْنَا اللَّيْلَ مِنَ النَّهَارِ، وَفَصَلْنَا النَّهَارَ مِنَ اللَّيْلِ، وَالشَّمْسَ مِنَ الْقَمَرِ، وَالْقَمَرَ مِنَ الشَّمْسِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (كُلَّ) مَنْصُوبٌ بِمَعْنَى: وَفَصَلْنَا كُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ.
سُورَة الْإِسْرَاء من (آيَة 13 آيَة 17) .(3/14)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)
{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقه} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: عَمَلَهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: أَلْزَمْنَاهُ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْحَظِّ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ: طَائِرٌ؛ لِقَوْلِ الْعَرَبِ: جَرَى لَهُ طَائِرٌ بِالْيُمْنِ، وَجَرَى بِالشَّرِّ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مَا لَزِمَ الْإِنْسَانَ: قَدْ لَزِمَ عُنُقَهُ، وَهَذَا لَكَ فِي عُنُقِي حَتَّى أخرج مِنْهُ؛ (ل 183) فخاطبهم الله بِمَا يستعملونه.(3/15)
اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْك حسيبا} قَالَ قَتَادَةُ: سَيَقْرَأُ يَوْمَئِذٍ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا فِي الدُّنْيَا.
قَالَ مُحَمَّد: (حسيبا) تَمْيِيزٌ؛ وَهُوَ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ بِمَعْنى: محاسب.(3/15)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} يَقُولُ: لَا يَحْمِلُ أَحَدٌ ذَنْبَ أَحَدٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَصْلُ الْوِزْرِ: الْحِمْلُ، وَكَذَلِكَ الْإِثْمُ وِزْرٌ؛ لِأَنَّهُ ثُقْلٌ عَلَى صَاحِبِهِ. {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: لَا يُعَذِّبُ قَوْمًا بِالِاسْتِئْصَالِ حَتَّى يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِالرُّسُلِ ,.(3/15)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أمرنَا مُتْرَفِيهَا} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: أَكْثَرْنَا جَبَابِرَتَهَا،(3/15)
وَكَانَ الْحَسَنُ يَقْرَؤُهَا: (آمَرْنَا) وَهُوَ من الْكَثْرَة أَيْضا. قَالَ قَتَادَة: (أمرنَا) مُخَفَّفَةٌ عَلَى تَقْدِيرِ: فَعَلْنَا، وَقِرَاءَةُ الْحَسَنِ (آمَرْنَا) مَمْدُودَةُ الْأَلِفِ.
قَالَ يَحْيَى: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا (أَمَّرْنَا) بِالتَّثْقِيلِ مِنْ قِبَلِ الْإِمَارَةِ.
سُورَة الْإِسْرَاء من (آيَة 18 آيَة 21) .(3/16)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)
{من كَانَ يُرِيد العاجلة} وَهُوَ الْمُشْرِكُ لَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا، لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ {عَجَّلْنَا لَهُ} إِلَى قَوْله: {مَدْحُورًا} أَيْ: مُبْعَدًا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ(3/16)
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
{كلا نمد هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء} يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ إِلَى قَوْلِهِ: {مَحْظُورًا} أَيْ مَمْنُوعًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (كُلًّا) مَنْصُوب ب (نمد) و (هَؤُلَاءِ) بَدَلٌ مِنْ (كُلِّ) الْمَعْنَى: نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء.(3/16)
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بعض} فِي الدُّنْيَا {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وأكبر تَفْضِيلًا}
سُورَة الْإِسْرَاء من (آيَة 22 آيَة 27) .(3/16)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخر فتقعد مذموما} فِي نقمة الله {مخذولا} فِي عَذَاب الله.(3/17)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاه وبالوالدين إحسانا} أَيْ: وَأَمَرَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا؛ يَعْنِي: بِرًّا {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهما أُفٍّ} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَقُولُ: إِنْ بَلَغَا عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَوْ أَحَدُهُمَا، فَوَلِيتَ مِنْهُمَا مَا وَلِيَا مِنْكَ فِي صِغَرِكَ فَوَجَدْتَ مِنْهُمَا رِيحًا تُؤْذِيكَ؛ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا: أُفٍّ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَا تَقُلْ لَهُمَا مَا فِيهِ أَدْنَى تَبَرُّمٍ. {وَلَا تنهرهما} لَا تُغْلِظَ لَهُمَا الْقَوْلَ {وَقُلْ لَهما قولا كَرِيمًا} أَي: لينًا سهلا(3/17)
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَة} أَيْ: لَا تَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا ربياني صَغِيرا} هَذَا إِذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَإِذَا كَانَا كَافِرَيْنِ فَلَا تَقُلْ: رَبَّ ارْحَمْهُمَا.
يَحْيَى: عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ مَكْحُولٍ؛ " أَنَّ رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام أَوْصَى بَعْضَ أَهْلِهِ فَكَانَ فِيمَا أَوْصَاهُ: أَطِعْ وَالِدَيْكَ، وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنَّ تَخْرُجَ مِنْ(3/17)
مَالِكَ كُلِّهِ؛ فَافْعَلْ ".
يَحْيَى: عَنِ الْمُعَلَّى، عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَّلَّمَ: " مَنْ أَصْبَحَ مُرْضِيًا لِأَبَوَيْهِ أَصْبَحَ لَهُ بَابَانِ مَفْتُوحَانِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمِنْ أَمْسَى مِثْلَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَوَاحدٌ، وَمَنْ أَصْبَحَ مُسْخِطًا لِأَبَوَيْهِ أَصْبَحَ لَهُ بَابَانِ مَفْتُوحَانِ إِلَى النَّارِ، وَمِنْ أَمْسَى مِثْلَ ذَلِكَ،(3/18)
وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَوَاحِدٌ؛ وَإِنْ ظَلَمَاهُ، وَإِنْ ظَلَمَاهُ، وَإِنْ ظَلَمَاهُ ".(3/19)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} الأواب: الرَّاجِع عَن ذَنبه.(3/19)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
{وَآت ذَا الْقُرْبَى حَقه} يَعْنِي: مَا أَمر اللَّه بِهِ مِنْ صِلَةِ الْقَرَابَةِ {وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيل} نَزَلَتْ قَبْلَ أَنْ تُسَمَّى الْأَصْنَافُ الَّذِينَ تَجِبُ لَهُمُ الزَّكَاةَ {وَلا تبذر تبذيرا} يَقُولُ: لَا تُنْفِقْ فِي غَيْرِ حق(3/19)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} يَعْنِي أَنْفَقُوا لَهُ وَمِنْ [أَنْفَقَ] لِغَيْرِ اللَّهِ لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا هُوَ لشيطان.
سُورَة الْإِسْرَاء من (آيَة 28 آيَة 38) .(3/19)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ من رَبك ترجوها} يَعْنِي: انْتِظَارَ رِزْقِ اللَّهِ {فَقُلْ لَهُم قولا ميسورا} يَعْنِي: أَنْ يَقُولَ لِلسَّائِلِ: يَرْزُقُنَا الله وَإِيَّاك(3/20)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقك} قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ: لَا تَكُنْ [بَخِيلًا مَنُوعًا] فَيَكُونُ مِثْلُكَ مِثْلَ الَّذِي غُلَّتْ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ (ل 184) {وَلَا تبسطها كل الْبسط} فَتُنْفِقَ فِي غَيْرِ بِرٍّ {فَتَقْعُدَ ملوما} فِي عِبَادِ اللَّهِ لَا تَسْتَطِيعُ أَن [تسع] النَّاس {محسورا} أَيْ: قَدْ ذَهَبَ مَا فِي يَدِكَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَحْسُورُ وَالْحَسِيرُ الَّذِي قَدْ بَالَغَ فِي التَّعَبِ وَالْإِعْيَاءِ؛ الْمَعْنَى: تَحْسُرُكَ الْعَطِيَّةُ وَتَقْطَعُكْ.(3/20)
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيقدر} أَي: يضيق(3/20)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
{وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم} يَعْنِي: الموءودة {خشيَة إملاق} يَعْنِي: الْفَاقَةَ {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خطأ} ذَنبا {كَبِيرا} .(3/20)
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لوَلِيِّه سُلْطَانا} يَعْنِي: الْقَوَدَ، إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ الْوَلِيُّ أَوْ يَرْضَى بِالدِّيَةِ إِنْ أُعْطِيَهَا {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} أَيْ: لَا يَقْتُلُ غَيْرَ قَاتِلِهِ {إِنَّه كَانَ منصورا} أَيْ: يَنْصُرُهُ السُّلْطَانُ حَتَّى يُقَيِّدَهُ مِنْهُ(3/20)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
(وَلا تَقْرَبُوا(3/20)
مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أحسن} يَعْنِي: أَنَّ يُوَفِّرَ مَالَهُ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ دَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ إِنْ آنَسَ مِنْهُ الرُّشْدَ.
قَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، اشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ، فَكَانُوا لَا يخالطونهم فِي مطعم وَلا نَحوه؛ فَأنْزل اللَّه بعد ذَلِكَ: {وَإِنْ تخالطوهم فإخوانكم فِي الدّين} {} (وأوفوا بالعهد} يَعْنِي: مَا عَاهَدُوا عَلَيْهِ فِيمَا وَافَقَ الْحَقَّ {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مسئولا} يسْأَل عَنهُ الَّذين أَعْطوهُ(3/21)
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بالقسطاس الْمُسْتَقيم ذَلِك خير} إِذَا أَوْفَيْتُمُ الْكَيْلَ، وَأَقَمْتُمُ الْوَزْنَ {وَأحسن تَأْوِيلا} يَعْنِي: عَاقِبَة الْآخِرَة. وَمعنى (القسطاس) : الْعدْل.(3/21)
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ علم} الْآيَةُ، تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: لَا تَقْفُ أَخَاكَ الْمُسْلِمَ مِنْ بَعْدِهِ إِذَا مَرَّ بِكَ؛ فَتَقُولُ: إِنِّي رَأَيْتُ هَذَا يَفْعَلُ كَذَا، وَسَمِعْتُ هَذَا يَقُولُ كَذَا؛ لِمَا لَمْ تَسْمَعْ وَلَمْ تَرَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنْ قَوْلِكَ: قَفَوْتُ الأَثَرَ أَقْفُوهُ قَفْوًا؛ إِذَا اتَّبَعْتُهُ فَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا تُتْبِعَنَّ لِسَانَكَ مِنَ الْقَوْلِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ؛ وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ الْحَسَنُ. {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مسئولا} يُسْأَلُ السَّمْعُ عَمَّا سَمِعَ، وَالْبَصَرُ عَمَّا أَبْصَرَ، وَالْقَلْبُ عَمَّا عَزَمَ عَلَيْهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: كُلُّ جَمْعٍ أَشَرْتَ إِلَيْهِ مِنَ النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ، وَمِنَ الْمَوَاتِ فَلَفْظُهُ(3/21)
(أُولَئِكَ) .(3/22)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
{وَلَا تمش فِي الأَرْض} يَعْنِي: على الأَرْض {مرحا} كَمَا يَمْشِي الْمُشْرِكُونَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَصْلُ الْمَرَحِ: حَرَكَةُ الْأَشِرِ وَالْبَطَرِ. {إِنَّك لن تخرق الأَرْض} بِقَدَمِكَ إِذَا مَشِيتَ {وَلَنْ تَبْلُغَ الْجبَال طولا}(3/22)
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
{كل ذَلِك كَانَ سيئه} أَيْ: خَطِيئْتُهُ {عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} .
سُورَة الْإِسْرَاء من (آيَة 39 آيَة 44) .(3/22)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
{وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} أَيْ مَلُومًا فِي نِقْمَةِ اللَّهِ مُبْعَدًا عَنِ الْجَنَّةِ فِي النَّارِ.(3/22)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
{أفأصفاكم} أَيْ خَصَّكُمْ {رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ من الْمَلَائِكَة إِنَاثًا} عَلَى الِاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ: لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِهِمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ الله.(3/22)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيذكرُوا} أَيْ: بَيَّنَّا لَهُمْ، وَأَخْبَرْنَاهُمْ أَنَّا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى فَلَا يَنْزِلُ بِهِمْ مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ السَّابِقَةِ قَبْلَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ (وَمَا(3/22)
يزيدهم) {ذَلِك} (إِلَّا نفورا} يَعْنِي: تركا لأمر الله.(3/23)
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)
{قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} وَتُقْرَأُ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ {إِذًا لابْتَغَوْا} يَعْنِي: الْآلِهَةُ {إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا} قَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُ: إِذًا لَعَرَفُوا فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَابْتَغَوْا مَا يُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ.(3/23)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)
{سُبْحَانَهُ} ينزه نَفسه {وَتَعَالَى} ارْتَفَعَ {عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} {(3/23)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
2 -! (يسبح لَهُ السَّمَوَات السَّبع} يَعْنِي: وَمِنْ فِيهِنَّ {وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يُسَبِّحُ لَهُ مِنَ الْخَلْقِ {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تفقهون تسبيحهم} كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: إِنَّ الْجَبَلَ يُسَبِّحُ؛ فَإِذَا قُطِعَ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يُسَبِّحِ الْمَقْطُوعُ وَيُسَبِّحُ الْأَصْلُ، وَكَذَلِكَ الشَّجَرَةُ مَا قُطِعَ مِنْهَا لَمْ يُسَبِّحْ، وَتُسَبِّحُ هِيَ، وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} عَن خلقه فَلَا يعجل (ل 185) كَعَجَلَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ (غَفُورًا) لَهُمْ إِذَا تَابُوا وَرَاجَعُوا أَنْفُسَهُمْ.
سُورَة الْإِسْرَاء من (آيَة 45 آيَة 49) .(3/23)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
{وَإِذا قَرَأت الْقُرْآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة حِجَابا مَسْتُورا} قَالَ مُحَمَّد: قِيلَ: إِن تَأْوِيل الْحِجَابِ: مَنْعَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام، و (مَسْتُورا) فِي معنى (سَاتِر) .(3/24)
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يفقهوه وَفِي آذانهم وقرا} الْوَقْرُ: ثَقَلُ السَّمْعِ {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبك فِي الْقُرْآن وَحده} أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ {ولوا على أدبارهم نفورا} أَي: أَعرضُوا عَنهُ.(3/24)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
{وَإِذ هم نجوى} أَيْ: يَتَنَاجَوْنَ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رجلا مسحورا} أَيْ: يَقُولُ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتُقْرَأُ: (يَتَّبِعُونَ) بِالْيَاءِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمعنى (مسحورا) فِي قَول بَعضهم: مخدوعا.(3/24)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فضلوا} بقَوْلهمْ {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي: مخرجا(3/24)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
{وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا} أَي: تُرَابا {أئنا لمبعوثون خلقا جَدِيدا} عَلَى الِاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ: لَا نُبْعَثُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَصْلُ (الرُّفَاتِ) : مَا ترفت؛ أَي: تفتت.
سُورَة الْإِسْرَاء من (آيَة 50 آيَة 55) .(3/24)
قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} لَمَّا قَالُوا: {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا ورفاتا} الْآيَةُ.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صدوركم} يَعْنِي: الْمَوْتَ؛ يَقُولُ: إِذًا لَأَمَتُّكُمْ، ثُمَّ بَعَثْتُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {فَسَيَقُولُونَ من يعيدنا} خَلْقًا جَدِيدًا {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ} خَلَقَكُمْ {أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسهم} أَيْ: يُحَرِّكُونَهَا تَكْذِيبًا وَاسْتِهْزَاءً {وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ} يَعْنُونَ: الْبَعْثَ {قُلْ عَسَى أَنْ يكون قَرِيبا} و (عَسى) من الله وَاجِبَة، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ.(3/25)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
{يَوْم يدعوكم} من قبوركم {فتستجيبون بِحَمْدِهِ} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: بِمَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَالِاسْتِجَابَةُ: خُرُوْجُهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى الدَّاعِي صَاحب الصُّور {وتظنون} فِي الْآخِرَة {إِن لبثتم} فِي الدُّنْيَا {إِلَّا قَلِيلا} تصاغرت الدُّنْيَا عِنْدهم.(3/25)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أحسن} هُوَ أَنْ يَأْمُرُوهُمْ بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَيَنْهَوْهُمْ عَمَّا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَينهم} أَيْ: يُفْسِدُ {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ للْإنْسَان عدوا مُبينًا} بَين الْعَدَاوَة.(3/25)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)
{ربكُم أعلم بكم} يَعْنِي: بِأَعْمَالِكُمْ؛ خَاطَبَ بَهَذَا الْمُشْرِكِينَ {إِن يَشَأْ يَرْحَمكُمْ} أَيْ: يَتُبْ عَلَيْكُمْ، فَيَمُنُّ عَلَيْكُمْ بِالْإِسْلَامِ {أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} فَبِإِقَامَتِكُمْ عَلَى الشِّرْكِ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِم وَكيلا} أَيْ: حَفِيظًا لِأَعْمَالِهِمْ حَتَّى يُجَازِيَهُمْ بهَا.(3/26)
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بعض} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: قَالَ: كَلَّمَ بَعْضُهُمْ، وَاتَّخَذَ بَعْضُهُمْ خَلِيلًا، وَأَعْطَى بَعْضُهُمْ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} اسْمُ الْكِتَابِ الَّذِي أَعْطَاهُ: الزَّبُورُ. قَالَ قَتَادَةُ: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ دَاوُدَ وَتَحْمِيدٌ وَتَمْجِيدٌ، لَيْسَ فِيهِ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، وَلَا فَرَائِضُ وَلَا حُدُودٌ.
سُورَة الْإِسْرَاء من (آيَة 56 - آيَة 60) .(3/26)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دونه} يَعْنِي: الْأَوْثَانَ {فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضّر عَنْكُم وَلَا تحويلا} أَنْ يُحَوِّلَ ذَلِكَ الضُّرَّ إِلَى غَيره أَهْون مِنْهُ.(3/26)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبهم الْوَسِيلَة} يَعْنِي: الْقُرْبَةَ، تَفْسِيرُ ابْنِ مَسْعُودٍ: قَالَ: نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَعْبُدُونَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ، فَأَسْلَمَ الْجِنِّيُّونَ وَلَمْ يُعْلَمْ بِذَلِكَ النَّفَرُ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ الله: {أُولَئِكَ الَّذين يدعونَ} يَعْنِي: الْجِنِّيِّينَ الَّذِي يُعْبَدُونَ هَؤُلَاءِ {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أقرب} الْآيَةُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) (أَيهمْ) رفع بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَر (أقرب) الْمَعْنَى: يَطْلُبُونَ الْوَسِيلَةَ إِلَى رَبِّهِمْ، وَيَنْظُرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ إِلَيْهِ؛ أَيْ: بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَقْرَبُ إِلَيْهِ يَتَوَسَّلُونَ بِهِ.(3/27)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مهلكوها} (ل 186) يُخَوِّفُهُمْ بِالْعَذَابِ {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكتاب مسطورا} أَي: مَكْتُوبًا.(3/27)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ} إِلَى قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا الْآيَاتِ {إِلا أَنْ كذب بهَا الْأَولونَ} وَكُنَّا إِذَا أَرْسَلْنَا إِلَى قَوْمٍ بِآيَةٍ فَلَمْ يُؤْمِنُوا أَهْلَكْنَاهُمْ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ نُرْسِلْ إِلَيْهِمْ بِالْآيَاتِ؛ لِأَنَّ آخِرَ كُفَّارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أُخِّرُوا إِلَى النَّفْخَةِ.
قَالَ قَتَادَةُ: " إِنَّ أهل مَكَّة قَالُوا للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا وَسَرَّكَ أَنْ نُؤْمِنَ؛ فَحَوِّلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا! فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ كَانَ الَّذِي سَأَلَكَ قَوْمُكَ، وَلَكِنْ إِنْ هُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا لَمْ يُنْظَرُوا، وَإِنْ شِئْتَ اسْتَأَنَيْتَ بِقَوْمِكَ. قَالَ: لَا؛ بَلْ أَسْتَأَنِي بِقَوْمِي ".(3/27)
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كذب بهَا الْأَولونَ} (أَن) الأولى نصب و (أَن) الثَّانِيَةُ رَفْعٌ؛ الْمَعْنَى: مَا مَنَعَنَا الْإِرْسَالَ إِلَّا تَكْذِيبُ الْأَوَّلِينَ. {وَآتَيْنَا ثَمُود النَّاقة مبصرة} أَي: بَيِّنَة {فظلموا بهَا} أَيْ: ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِعَقْرِهَا {وَمَا نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا تخويفا} يُخَوِّفُهُمْ بِالْآيَةِ؛ فَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا لم يُؤمنُوا عذبهم(3/28)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
{وَإِذ قُلْنَا لَك} أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ {إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ؛ أَيْ: يَعْصِمُكَ مِنْهُمْ؛ فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكَ حَتَّى تُبَلِّغَ عَنِ اللَّهِ الرِّسَالَةَ. {وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك} يَعْنِي: مَا أَرَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، وَلَيْسَ بِرُؤْيَا الْمَنَامِ، وَلَكِنْ بِالْمُعَايَنَةِ {إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} لِلْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَخْبَرَهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَسِيرِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَرُجُوعِهِ فِي لَيْلَةٍ كَذَّبَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ؛ فَافَتُتِنُوا لِذَلِكَ {والشجرة الملعونة فِي الْقُرْآن} يَقُولُ: وَمَا جَعَلْنَا أَيْضًا الشَّجَرَةَ الْمَلْعُوْنَةَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ. قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُومِ؛ لَمَّا نَزَلَتْ دَعَا أَبُو جَهْلٍ بِتَمْرٍ وَزُبْدٍ؛ فَقَالَ: تَعَالَوْا تَزَقَّمُوا؛ فَمَا نَعْلَمُ الزَّقُّومَ إِلَّا هَذَا!
قَالَ الْحَسَنُ: وَقَوْلُهُ: {الملعونة فِي الْقُرْآن} أَيْ: أَنَّ أَكَلَتَهَا مَلْعُونُونَ فِي الْقُرْآن قَالَ: {ونخوفهم} بِالشَّجَرَةِ الزقوم {فَمَا يزيدهم} تَخْوِيفُنَا إِيَّاهُمْ بِهَا وَبِغَيْرِهَا {إِلا طغيانا كَبِيرا} .
سُورَة الْإِسْرَاء من (آيَة 61 آيَة 64) .(3/28)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)
{فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لمن خلقت طينا} أَيْ: مِنْ طِينٍ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ أَي: لَا أَسجد لَهُ.(3/29)
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
ثُمَّ {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كرمت عَليّ} وأمرتني بِالسُّجُود لَهُ {لَئِن أخرتني إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلا} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: لَأُهْلِكَنَّهُمْ بِالْإِضْلَالِ {إِلا قَلِيلا} يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ الْحَسَنُ: وَهَذَا الْقَوْلُ ظَنٌّ مِنْهُ؛ حَيْثُ وَسْوَسَ إِلَى آدَمَ فَلَمْ يَجِدْ لَهُ عَزْمًا أَيْ: صَبْرًا، قَالَ: بَنُو هَذَا فِي الضَّعْفِ مِثْلُهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: تَقُولُ الْعَرَبُ: قَدِ احْتَنَكَتِ السَّنَةُ أَمْوَالَهُمْ؛ إِذَا اسْتَأْصَلَتْهَا، وَاحْتَنَكَ فُلَانٌ مَا عِنْدَ فُلَانٍ مِنَ الْعِلْمَ؛ إِذَا اسْتَقْصَاهُ.
وَقَوْلُهُ: {أَرَأَيْتَكَ} هُوَ فِي مَعْنَى: أَخْبِرْنِي، وَالْجَوَابُ مَحْذُوف، الْمَعْنى: أَخْبِرْنِي مَنْ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ؛ لِمَ كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ وَقَدْ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ؟ ! فَحَذَفَ هَذَا؛ لِأَنَّ فِي الْكَلَام دَلِيلا عَلَيْهِ.(3/29)
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)
{فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: وَافِرًا:(3/29)
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: وَفَّرْتُ عَلَيْهِ مَاله أفره فَهُوَ مَوْفُورٌ؛ أَيْ: مُوَفَّرٌ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ زُهَيْرٍ: -
(وَمِنْ يَجْعَلِ الْمَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ ... يَفِرْهُ وَمِنْ لَا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمُ)(3/30)
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
قَوْلُهُ: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بصوتك} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: هُوَ الدُّفُّ وَالْمِزْمَارُ.
قَالَ مُحَمَّد: وَمعنى (استفزز) : اسْتَخِفَّ. {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ رَاكِبٍ فِي مَعْصِيّة الله فَهُوَ من خَيْلُ إِبْلِيسَ، وَكُلُّ مَاشٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ رَجِلِ إِبْلِيسَ {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} تَفْسِير مُجَاهِد: (فِي الْأَمْوَال) يَعْنِي: مَا كَانَ مِنْ مَالٍ بِغَيْر طَاعَة الله، و (الْأَوْلَاد) (ل 187) يَعْنِي: أَوْلَاد الزِّنَا {وعدهم} بِالْأَمَانِيِّ؛ فَإِنَّهُ لَا بَعْثٌ وَلَا جَنَّةٌ وَلَا نَارٌ، وَهَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِلشَّيْطَانِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ فَاجْهَدْ عَلَى جَهْدِكَ، وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ لَهُ بِهِ. قَالَ: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غرُورًا} .
سُورَة الْإِسْرَاء من (آيَة 65 آيَة 69) .(3/30)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
{إِن عبَادي} يَعْنِي: مَنْ يَلْقَى اللَّهَ مُؤْمِنًا {لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان} أَنْ تُضِلَّهُمْ {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا} أَيْ: حِرْزًا وَمَانِعًا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ.(3/31)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
{رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ} أَيْ: يُجْرِيهَا {فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا من فَضله} يَعْنِي: طَلَبَ التِّجَارَةِ فِي الْبَحْرِ {إِنَّه كَانَ بكم رحِيما} فَبِرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ سَخَّرَ لَكُمْ ذَلِكَ، وَالرَّحْمَةُ لِلْكَافِرِ فِي هَذَا رَحْمَةُ الدُّنْيَا.(3/31)
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)
{وَإِذا مسكم الضّر} يَعْنِي: الْأَهْوَالَ {فِي الْبَحْرِ ضَلَّ من تدعون} يَعْنِي: مَا تَعْبُدُونَ {إِلا إِيَّاهُ} يَقُولُ: إِلَّا إِيَّاهُ تَدْعُونَ كَقَوْلِهِ {بل إِيَّاه تدعون} تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنَ الْغَرَقِ إِلَّا هُوَ {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبر أعرضتم} عَنِ الَّذِي نَجَّاكُمْ، وَرَجَعْتُمْ إِلَى شرككم {وَكَانَ الْإِنْسَان كفورا} يَعْنِي: الْمُشرك.(3/31)
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)
{أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبر} كَمَا خَسَفَ بِقَوْمِ لُوطٍ وَبِقَارُونَ {أَو يُرْسل عَلَيْكُم حاصبا} قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ: حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ يَحْصِبُكُمْ بِهَا كَمَا فَعَلَ بِقَوْمِ لُوطٍ {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لكم وَكيلا} أَي: منيعا وَلَا نَصِيرًا(3/31)
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
{أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ} فِي الْبَحْر {تَارَة أُخْرَى} أَيْ: مَرَّةً أُخْرَى {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصفا من الرّيح} يَعْنِي: الرِّيحَ الشَّدِيدَةَ (فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ علينا(3/31)
بِهِ تبيعا} أَيْ: أَحَدًا يَتْبَعُنَا بِذَلِكَ فَيَنْتَصِرَ لكم.
سُورَة الْإِسْرَاء من (آيَة 70 آيَة 77) .(3/32)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
{وَلَقَد كرمنا بني آدم} أَيْ: فَضَّلْنَا بَنِي آدَمَ عَلَى الْبَهَائِمَ وَالسِّبَاعِ وَالْهَوَامَّ {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَات} يَعْنِي: طَيِّبَاتِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ فَجَعَلَ رِزْقَهُمْ أَطْيَبَ مِنْ رِزْقِ الدَّوَابِّ وَالطير وَالْجِنّ.(3/32)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} تَفْسِيرُ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: أَيْ: بِنَبِيِّهِمْ.
قَالَ مُحَمَّد: يجوز أَن يكون نصب (يَوْم) عَلَى مَعْنَى: اذْكُرْ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ. {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا} أَيْ: قَدْرَ فَتِيلٍ، وَالْفَتِيلُ: الَّذِي يكون فِي بطن النواة.(3/32)
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: يَقُولُ: مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَعْمَى عَمَّا عَايَنَ فِيهَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ وَعَجَائِبِهِ، فَيَعْلَمُ أَنَّ لَهُ مَعَادًا، فَهُوَ فِيمَا يَغِيبُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ أَعْمَى {وَأَضَلُّ سَبِيلا} أَيْ: طَرِيقًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهَذَا من عمى الْقلب؛ أَي: هُوَ فِي الْآخِرَةِ أَشَدُّ عَمًى وَأَضَلُّ سَبِيلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ طَرِيقا إِلَى الْهِدَايَة.(3/33)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)
{وَإِن كَادُوا} أَي: قد كَادُوا {لَيَفْتِنُونَك} أَيْ: يَسْتَزِلُّونَكَ {عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْك} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذا لاتخذوك خَلِيلًا} لَو فعلت ذَلِك(3/33)
وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)
{وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاك} عَصَمْنَاكَ {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئا قَلِيلا}(3/33)
إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
{إِذا لأذقناك} لَو فعلت {ضعف الْحَيَاة} أَيْ: عَذَابُ الدُّنْيَا {وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} أَيْ: عَذَابَ الْآخِرَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: ضِعْفَ عَذَابِ الْحَيَاةِ، وَضِعْفَ عَذَابِ الْمَمَاتِ. قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ قَوْمًا خَلَوْا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ يُكَلِّمُونَهُ وَيُفَخِّمُونَهُ، وَكَانَ فِي قَوْلِهِمْ أَنْ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ تَأْتِي بِشَيْءٍ لَا يَأْتِي بِهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَأَنْتَ سَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا ... فَمَا زَالُوا يُكَلِّمُونَهُ حَتَّى كَادَ يُقَارِبُهُمْ يَلَيِنُ لَهُمْ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عصمه من ذَلِك.(3/33)
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ} يَعْنِي بِالْأَرْضِ: مَكَّةَ {لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} أَيْ: يُخْرِجُونَكَ مِنْهَا بِالْقَتْلِ؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ {وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ (خَلفك} إِلَّا قَلِيلا} يَعْنِي: بَعْدَكَ حَتَّى يَسْتَأْصِلَهُمْ بِالْعَذَابِ لَو قتلوك(3/33)
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
{سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ من رسلنَا} أَنَّهُمْ إِذَا قَتَلُوا نَبِيَّهُمْ، أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ.(3/33)
قَالَ مُحَمَّد: يجوز أَن يكون نصب (ل 188) (سنة) بِمَعْنَى: أَنَا (سَنَنْتُ) السُّنَّةَ فِيمَنْ أرسلنَا قبلك.
سُورَة الْإِسْرَاء من (آيَة 78 آيَة 80) .(3/34)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
{أقِم الصَّلَاة} يَعْنِي: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أَيْ: لِزَوَالِهَا فِي كَبِدِ السَّمَاءَ، يَعْنِي: صَلَاةَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ {إِلَى غسق اللَّيْل} يَعْنِي: اجْتِمَاعَهِ وَظُلْمَتَهِ؛ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ عِنْدَ بَدْوِ اللَّيْلِ، وَصَلَاةَ الْعِشَاءِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ اللَّيْلِ، وَظُلْمَتُهُ إِذَا غَابَ الشَّفق {وَقُرْآن الْفجْر} وَهِي صَلَاة الصُّبْح {إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا} تَشْهُدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله {وَقُرْآن الْفجْر} الْمَعْنى: وأقم قُرْآن الْفجْر.(3/34)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك} يَعْنِي: عَطِيَّةً مِنَ اللَّهِ لَكَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: تَهَجَّدَ الرَّجُلُ إِذَا سَهِرَ، وَهَجَدَ إِذَا نَامَ. {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} وَعَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ، وَالْمَقَامُ الْمَحْمُودُ: الشَّفَاعَةُ.
يَحْيَى: عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ، عَنْ حُذَيْفَة ابْن الْيَمَانِ قَالَ: " يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ حُفَاةً عُرَاةً؛ كَمَا(3/34)
خُلِقُوا يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِيَ وَيُنْفِذُهُمُ الْبَصَرَ، حَتَّى يُلْجِمَهُمُ الْعَرَقُ، وَلَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ. قَالَ: فَأَوَّلُ مَنْ يُدْعَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، وَالسَّعِيدُ مَنْ هَدَيْتَ، وَعَبْدُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ وَبِكَ وَإِلَيْكَ، وَلَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، وَعَلَى عَرْشِكَ اسْتَوَيْتَ، سُبْحَانَكَ رَبَّ الْبَيْتِ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اشْفَعْ. قَالَ: فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي وعده الله ".(3/35)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} يَعْنِي: الْمَدِينَةَ حِينَ هَاجَرَ إِلَيْهَا؛ أَمَرَهُ اللَّهُ بَهَذَا الدُّعَاءِ {وَأَخْرِجْنِي مخرج صدق} أَيْ: إِلَى قِتَالِ أَهْلِ بَدْرٍ، وَقَدْ كَانَ أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سَيُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ، وَيُظْهِرُهُ عَلَيْهِمُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ {مُدْخَلَ} بِضَمِ الْمِيمِ، فَهُوَ مَصْدَرٌ أَدْخَلْتُهُ مُدْخَلًا، وَمَنْ قَرَأَ: (مَدْخَلَ) بِنَصْبِ الْمِيمِ، فَهُوَ عَلَى أَدْخَلْتُهُ فَدَخَلَ مَدْخَلَ صِدَقٍ. وَكَذَلِكَ شَرْحُ (مُخْرَجَ) مِثْلُهُ {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ} من عنْدك {سُلْطَانا نَصِيرًا} أَيْ: حُجَّةٌ بَيِّنَةٌ؛ فِي تَفْسِيرِ مُجَاهِد.
سُورَة الْإِسْرَاء من (آيَة 81 آيَة 88) .(3/36)
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
{وَقل جَاءَ الْحق} وَهُوَ الْقُرْآن {وزهق الْبَاطِل} وَهُوَ إِبْلِيسُ؛ هَذَا تَفْسِيرُ قَتَادَةَ {إِن الْبَاطِل كَانَ زهوقا} الزهوق: الداحض الذَّاهِب.(3/37)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
{وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا} كُلَّمَا جَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ كَذَّبُوا بِهِ، فَازْدَادُوا فِيهِ خَسَارًا إِلَى خسارهم.(3/37)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)
{وَإِذا أنعمنا على الْإِنْسَان} يَعْنِي: الْمُشْرِكَ؛ أَيْ: أَعْطَيْنَاهُ السَّلَامَةَ والعافية {أعرض} عَنِ اللَّهِ وَعَنْ عِبَادَتِهِ {وَنَأَى بجانبه} تَبَاعَدَ عَنِ اللَّهِ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ {وَإِذا مَسّه الشَّرّ} الْأَمْرَاض والشدائد {كَانَ يئوسا} أَيْ: يَئِسَ أَنْ يُفَرَّجُ ذَلِكَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَتْ لَهُ نِيَّةٌ وَلَا حسبَة.(3/37)
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: عَلَى نَاحِيَتِهِ؛ لِذَا يَقْوَى الْمُؤْمِنُ عَلَى إِيمَانِهِ، وَالْكَافِر على كفره.(3/37)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
{ويسألونك عَن الرّوح} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ بَعَثُوا رُسُلًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا لَهُمْ: سَلُوا الْيَهُودَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَصِفُوا لَهُمْ نَعْتَهُ وَقَوْلَهُ، ثُمَّ ائْتُونَا فَأَخْبِرُونَا. فَانْطَلَقُوا حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، فَوَجَدُوا بِهَا عُلَمَاءَ الْيَهُودِ مِنْ كُلِّ أَرْضٍ قَدِ اجْتَمَعُوا فِيهَا لِعِيدٍ لَهُمْ فَسَأَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَنَعَتُوا لَهُمْ نَعْتَهُ، فَقَالَ لَهُمْ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ: إِنَّ هَذَا لَنَعْتُ النَّبِيِّ الَّذِي يَتَحَدَّثُ أَنَّ اللَّهَ بَاعِثُهُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ. فَقَالَتْ لَهُ رُسُلُ قُرَيْشٍ: إِنَّهُ فَقِيرٌ عَائِلٌ يَتِيمٌ لَمْ يَتْبَعُهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ أَحَدٌ، وَلَا مِنْ ذَوِي الْأَسْنَانِ فَضَحِكَ الْحَبْرُ. وَقَالَ: كَذَلِكَ نَجِدُهُ. قَالَتْ لَهُ رُسُلُ قُرَيْشٍ: إِنَّهُ يَقُولُ قَوْلًا عَظِيمًا؛ يَدْعُو إِلَى الرَّحْمَنِ(3/37)
بِالْيَمَامَةِ السَّاحِرُ الْكَذَّابُ يَعْنُونَ: مُسَيْلِمَةَ. فَقَالَت لَهُم الْيَهُود: اذْهَبُوا (ل 189) فَسَلُوا صَاحِبَكُمْ عَنْ خِلَالٍ ثَلَاثٍ؛ فَإِنَّ الَّذِي بِالْيَمَامَةِ قَدْ عَجَزَ عَنْهُنَّ هُمَا اثْنَانِ مِنَ الثَّلَاثِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُهُمَا إِلَّا نَبِيٌّ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِمَا فَقَدْ صَدَقَ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَلَا يَجْتَرِئُ عَلَيْهَا أَحَدٌ، فَقَالَتْ لَهُمْ رُسُلُ قُرَيْشٍ: أَخْبِرُونَا بِهِنَّ. فَقَالَتْ لَهُمُ الْيَهُودُ: سَلُوهُ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ وَقَصُّوا عَلَيْهِمْ قِصَّتَهُمْ وَسَلُوهُ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَحَدِّثُوهُمْ بِأَمْرِهِ وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ فِيهِ بِشَيْءٍ، فَهُوَ كَاذِبٌ. فَرَجَعَتْ رُسُلُ قُرَيْشٍ إِلَيْهِمْ، فَأَخْبَرُوهُمْ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ فَلَقِيَهُمْ فَقَالُوا: يَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنَّا سَائِلُوكَ عَنْ خِلَالٍ ثَلَاثٍ، فَإِنْ أَخْبَرْتَنَا بِهِنَّ فَأَنْتَ صَادِقٌ، وَإِلَّا فَلَا تَذْكُرَنَّ آلِهَتِنَا بِشَيْءٍ. فَقَالَ لَهُم رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا هُنَّ؟ قَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ؛ فَإِنَّا قَدْ أُخْبِرْنَا عَنْهُمْ بِآيَةٍ بَيِّنَةٍ، وَأَخْبِرْنَا عَنْ ذِي الْقَرَنَيْنِ؛ فِإِنَّا قَدْ أُخْبِرْنَا عَنْهُ بَأَمْرٍ بَيِّنٍ، وَأَخْبِرْنَا عَنِ الرُّوحِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: انْظِرُونِي حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُحْدِثُ إِلَيَّ فِيهِ رَبِّي؟ قَالُوا: فَإِنَّا نَاظِرُوكَ فِيهِ ثَلَاثًا. فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَا يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ، ثُمَّ أَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَاسْتَبْشَرَ بِهِ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ، قَدْ رَأَيْتَ مَا سَأَلَ عَنْهُ قَوْمِي ثُمَّ لَمْ تَأْتِنِي! قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبك نسيا} فَإِذَا شَاءَ رَبُّكَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} : ثُمَّ قَالَ لَهُ: {أَمْ حَسِبْتَ أَن أَصْحَاب الْكَهْف والرقيم} فَذَكَرَ قِصَّتَهُمْ، وَقَالَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي القرنين} فَذَكَرَ قِصَّتَهُ، ثُمَّ(3/38)
لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ قُرَيْشًا فِي آخِرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَقَالُوا: مَا أَحْدَثَ إِلَيْكَ رَبُّكَ فِي الَّذِي سَأَلْنَاكَ عَنْهُ؟ فَقَصَّهُ عَلَيْهِمْ فَعَجِبُوا، وَغَلَبَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُصَدِّقُوهُ.
قَالَ قَتَادَةُ: وَقَوْلُهُ: {وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا} يَعْنِي بِهِ: الْيَهُود؛ أَي: أَنهم لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ.
قَالَ يَحْيَى: وَبَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ؛ أَنَّهُ قَالَ: الرُّوحُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ الله لَهُم أيد وأرجل.(3/39)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)
{وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْك} يَعْنِي: الْقُرْآنَ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ {ثُمَّ لَا تَجِدُ لَك بِهِ علينا وَكيلا} أَيْ: وَلِيًا يَمْنَعُكَ مِنْ ذَلِكَ.(3/39)
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)
{إِلَّا رَحْمَة من رَبك} فِيهَا إِضْمَارٌ يَقُولُ: وَإِنَّمَا أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ، الْآيَةُ.(3/39)
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآن لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعضهم لبَعض ظهيرا} أَي: عوينا.
سُورَة الْإِسْرَاء من (آيَة 89 آيَة 95) .(3/39)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
{وَلَقَد صرفنَا للنَّاس} أَيْ: ضَرَبْنَا لَهُمْ {فِي هَذَا الْقُرْآن من كل مثل} .(3/40)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)
{حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ ينبوعا} أَي: عينا ببلدنا هَذَا(3/40)
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91)
{أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا} خلال تِلْكَ الْجنَّة(3/40)
أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)
{أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ علينا كسفا} قِطَعًا؛ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ {أَوْ تَأتي بِاللَّه وَالْمَلَائِكَة قبيلا} أَيْ: عِيَانًا؛ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ.
قَالَ مُحَمَّد: (قبيلا) مَأْخُوذ من الْمُقَابلَة.(3/40)
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
{أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زخرف} أَيْ: مِنْ ذَهَبٍ {أَوْ تَرْقَى} تَصْعَدُ {فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لرقيك} لِصُعُودِكَ أَيْضًا؛ فَإِنَّ السَّحَرَةَ قَدْ تَفْعَلُ ذَلِكَ، فَتَأْخُذُ بِأَعْيُنِ النَّاسِ حَتَّى تُبَدِّلَ {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كتابا نقرؤه} إِلَى كُلَّ إِنْسَانِ بِعَيْنِهِ، مِنَ الله إِلَى فلَان ابْن فلَان وَفُلَان ابْن فلَان وَفُلَان ابْن فُلانٍ أَنْ آمِنُوا بِمُحَمَّدٍ؛ فَإِنَّهُ رَسُولِي. {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كنت إِلَّا بشرا رَسُولا} أَيْ: هَلْ كَانَتِ الرُّسُلُ تَأْتِي فِيمَا مَضَى بِكِتَابٍ مِنَ اللَّهِ إِلَى كُلِّ إِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ؟ ! أَنْتُمْ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يفعل بكم هَذَا.(3/40)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)
{وَمَا منع النَّاس} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أبْعث الله بشرا رَسُولا} (ل 190) عَلَى الِاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا، فَلَوْ كَانَ من الْمَلَائِكَة لآمَنَّا بِهِ.(3/40)
قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)
{قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلَائِكَة يَمْشُونَ مُطْمَئِنين} أَيْ: قَدِ اطْمَأَنَّتْ بِهِمُ الدَّارُ فَهِي مَسْكَنُهُمْ {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاء ملكا رَسُولا} وَلَكِنْ فِيهَا بِشْرٌ؛(3/40)
فَأَرْسَلنَا إِلَيْهِم بشرا مثلهم.
سُورَة الْإِسْرَاء من (آيَة 96 آيَة 98) .(3/41)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنكُم} قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: كَفَى اللَّهُ شَهِيدًا، وَالنَّصْبُ يَجُوزُ فِي قَوْلِهِ: (شَهِيدا) عَلَى نَوْعَيْنِ: إِنْ شِئْتَ عَلَى التَّمْيِيزِ؛ كَفَى اللَّهُ مِنَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ شِئْتَ عَلَى الْحَالِ؛ كَفَى الله فِي حَال الشَّهَادَة. {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا} مَوْضِعُ (أَنْ) نَصْبٌ وَقَوْلُهُ: {إِلا أَن قَالُوا} مَوْضِعُ (أَنْ) رَفْعٌ، الْمَعْنَى: مَا مَنَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا قَوْلُهُمْ.(3/41)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
{وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء من دونه} أَيْ: يَمْنَعُونَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. {ونحشرهم يَوْم الْقِيَامَة} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: نَسُوقَهُمْ بَعْدَ الْحِسَابِ إِلَى النَّارِ {عَلَى وُجُوهِهِمْ عميا وبكما وصما} أما (عميا) فَعَمُوا فِي النَّارِ حِينَ دَخَلُوهَا فَلَمْ يُبْصِرُوا فِيهَا شَيْئًا وَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ لَا يُضِيءُ لَهَبُهَا، و (بكما) : خُرْسًا؛ انْقَطَعَ كَلَامُهُمْ حِينَ قَالَ: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} و (صمًّا) : أَذْهَبَ الزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ بِسَمْعِهِمْ؛ فَلَا يسمعُونَ مِنْهُ شَيْئًا، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى:(3/41)
{وهم فِيهَا لَا يسمعُونَ} . {كلما خبت زدناهم سعيرا} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: كُلَّمَا طُفِئَتْ أُسْعِرَتْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: خَبَتِ النَّارُ تَخْبُو خَبْوًا؛ إِذَا سَكَنَ لَهَبُهَا، فَإِنْ سَكَنَ اللَّهَبُ وَلَمْ يُطْفَأِ الْجَمْرُ، قِيلَ: خَمَدَتْ تَخْمَدُ خُمُودًا، وَإِنْ طُفِئَتْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ قِيلَ: هَمَدَتْ تَهْمَدُ هُمُودًا.
وَقَوْلُهُ: (زدناهم سعيرا) أَي: نَارا تسعر تتلهب.
سُورَة الْإِسْرَاء من (آيَة 99 آيَة 100) .(3/42)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
{أَو لم يرَوا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} وهم يقرونَ أَنه خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ {قَادِرٌ عَلَى أَن يخلق مثلهم} يَعْنِي: الْبَعْثَ {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لَا ريب فِيهِ} لَا شَكَّ فِيهِ؛ يَعْنِي: الْقِيَامَةَ {فَأبى الظَّالِمُونَ} الْمُشْركُونَ {إِلَّا كفرُوا} بالقيامة.(3/42)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَة رَبِّي} تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ: يَعْنِي: مَفَاتِيحَ الرِّزْقِ {إِذا لأمسكتم خشيَة الْإِنْفَاق} خَشْيَةَ الْفَاقَةِ {وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} بَخِيلًا يُخْبِرُ أَنَّهُمْ بُخَلَاءُ؛ يَعْنِي: الْمُشْركين.
سُورَة الْإِسْرَاء من (آيَة 101 آيَة 104) .(3/42)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَات} يَدَهُ، وَعَصَاهُ، وَالطُّوفَانَ، وَالْجَرَادَ، وَالْقُمَّلَ، وَالضَّفَادِعَ، وَالدَّمَ {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} . {فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ} يَقُول ذَلِك للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام {فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مسحورا} قَالَ مُحَمَّد يَعْنِي: مخدوعا؛ فِي تَفْسِير بَعضهم.(3/43)
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ} يَعْنِي: الْآيَاتِ؛ يَقُولُ هَذَا لِفِرْعَونَ {إِلَّا رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض بصائر} يَعْنِي: حُجَجًا. مَقْرَأُ الْعَامَّةِ: {لَقَدْ علمت} بِفَتْحِ التَّاءِ؛ يَعْنِي: فِرْعَوْنَ؛ كَقَوْلِهِ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وعلوا وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} أَي: مهْلكا.(3/43)
فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)
{فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأَرْضِ} يَعْنِي: أَرْضَ مِصْرَ؛ أَيْ: يُخْرِجَهُمْ مِنْهَا بِالْقَتْلِ(3/43)
وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بكم لفيفا} يَعْنِي: بَنِي إِسْرَائِيلَ وَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، (لفيفا) جَمِيعًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: اللَّفِيفُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الْجَمَاعَاتُ مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى.(3/43)
سُورَة الْإِسْرَاء من (آيَة 105 آيَة 111) .(3/44)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)
{وبالحق أَنزَلْنَاهُ} يَعْنِي: الْقُرْآنِ {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا مبشرا} بِالْجنَّةِ {وَنَذِيرا} تنذر النَّاس.(3/44)
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
{وقرآنا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مكث} أَيْ: طُوْلٍ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالتَّخْفِيفِ، فَالْمَعْنَى: فَرَقَ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَمِنْ قَرَأَهَا بِالتَّثْقِيلِ، فَالْمَعْنَى: فَرَّقَهُ اللَّهُ؛ فَأَنْزَلَهُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمَ، وَشَهْرًا بَعْدَ شَهْرٍ، وَعَامًا بَعْدَ عَامٍ مُنَجَّمًا يَقَرُّ بِهِ قَلْبُكَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْله (قُرْآنًا) مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ؛ الْمَعْنَى: وَفَرَقْنَاهُ قُرْآنًا. (ل 191)(3/44)
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)
{قل آمنُوا بِهِ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ يَقُولُهُ لِلْمُشْرِكِينَ {أَوْ لَا يُؤمنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قبله} قَبْلَ الْقُرْآنِ؛ يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (إِذَا(3/44)
يُتْلَى عَلَيْهِم) {الْقُرْآن} (يخرون للأذقان} لِلْوُجُوهِ؛ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ {سُجَّدًا}(3/45)
وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)
{وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وعد رَبنَا لمفعولا} أَيْ: قَدْ كَانَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا مَفْعُولًا، وَدخلت (إِن) وَاللَّام للتوكيد.(3/45)
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
و (يخرون للأذقان) يَعْنِي: الْوُجُوه. {يَبْكُونَ ويزيدهم} يَعْنِي: الْقُرْآن {خشوعا} وَالْخُشُوعُ: الْخَوْفُ الثَّابِتُ فِي الْقَلْبِ.
قَالَ مُحَمَّد: (الأذقان) وَاحِدُهَا: ذَقْنٌ؛ وَهُوَ مَجْمَعُ اللِّحْيَيْنِ؛ وَهُوَ عُضُوٌ مِنْ أَعْضَاءِ الْوَجْهُ، و (سجدا) مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ. {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} {(3/45)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
2 -! (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَن أيا مَا تَدْعُو} يَقُولُ: أَيَّ الِاسْمَيْنِ دَعْوتُمُوهُ {فَلَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى} أَيْ: أَنَّهُ هُوَ اللَّهُ وَهُوَ الرَّحْمَنُ. {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَقُولُ: هَذَا فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ لَا تَجْعَلْهَا كُلَّهَا سِرًّا، وَلَا تَجْعَلْهَا كُلَّهَا جَهْرًا، وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا.
قَالَ يَحْيَى: فِي تَفْسِيرِ الْكَلْبِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ هُوَ بِمَكَّةَ كَانَ يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ؛ فَإِذَا صَلَّى بِهِمْ وَرَفَعَ صَوْتَهُ سَمِعَ الْمُشْرِكُونَ صَوْتَهُ فَآذَوْهُ، وَإِنْ(3/45)
خَفَضَ صَوْتَهُ لَمْ يَسْمَعْ مَنْ خَلْفَهُ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَبْتَغِي بَين ذَلِك سَبِيلا ".(3/46)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يتَّخذ ولدا} يَتَكَثَّرُ بِهِ مِنَ الْقِلَّةِ {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} خَلْقَ مَعَهُ شَيْئًا {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ولي من الذل} يتعزز بِهِ {وَكبره تَكْبِيرا} ) أَيْ: عَظِّمْهُ تَعْظِيمًا.(3/46)
تَفْسِيرُ سُوْرَةِ الْكَهْفِ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَة الْكَهْف من (آيَة 1 آيَة 8) .(3/47)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)
قَوْله: {الْحَمد لله} حَمِدَ نَفْسَهُ، وَهُوَ الْحَمِيدُ {الَّذِي أنزل على عَبده} مُحَمَّد {الْكتاب} الْقُرْآنَ {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} يَقُولُ: لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا اخْتِلَاف(3/47)
قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)
{لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} أَيْ: بِعَذَابٍ شَدِيدٍ مِنْ لَدُنْهُ؛ أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أجرا حسنا} عِنْدَ اللَّهِ فِي الْجَنَّةِ {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} .(3/47)
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} أَنَّ لِلَّهِ وَلَدًا {وَلا لآبَائِهِمْ} الَّذِينَ كَانُوا فِي الشِّرْكِ {كَبُرَتْ كلمة تخرج من أَفْوَاههم} (كلمة) بِالنَّصْبِ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقْرَؤُهَا (كَلِمَةٌ) بِالرَّفْعِ؛ وَتَفْسِيرُهَا: كَبُرَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ كَلِمَةً أَنْ قَالُوا أَنَّ لِلَّهِ ولدا.(3/47)
قَالَ مُحَمَّد: وَمن قَرَأَهَا بِالنَّصْبِ، فَهُوَ عَلَى التَّمْيِيزِ؛ بِمَعْنَى: كَبُرَتْ مَقَالَتُهُمْ: اتَّخَذَ اللَّهُ ولدا كلمة.(3/48)
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
{فلعلك باخع نَفسك} أَيْ: قَاتِلٌ نَفْسَكَ {عَلَى آثَارِهِمْ} أَيْ: مِنْ بَعْدِهِمْ {إِنْ لَمْ يُؤمنُوا بِهَذَا الحَدِيث} يَعْنِي: الْقُرْآن {أسفا} أَيْ: حُزْنًا عَلَيْهِمُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (أسفا) مَنْصُوبٌ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.(3/48)
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)
{لنبلونهم} لنختبرهم {أَيهمْ أحسن عملا} أَي: أطوع لله.(3/48)
وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
{وَإِنَّا لجاعلون مَا عَلَيْهَا} مَا عَلَى الْأَرْضِ {صَعِيدًا جُرُزًا} قَالَ قَتَادَةُ: الْجُرُزُ: الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَجَرٌ وَلَا نَبَاتٌ.
قَالَ مُحَمَّد: يُقَال: أَرض جرز، وأراضون أَجْرَازٌ، وَالصَّعِيدُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الْمُسْتَوِي.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة 9 آيَة 16) .(3/48)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
{أم حسبت} أَيْ: أَفَحَسِبْتَ {أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: يَقُولُ: قَدْ كَانَ فِي آيَاتِنَا مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْكَهْفُ: كَهْفُ الْجَبَلِ، وَالرَّقِيمُ: الْوَادِي الَّذِي فِيهِ الْكَهْفُ(3/49)
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَة} أَيْ: رِزْقًا. {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أمرنَا رشدا}
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: أَرْشِدْنَا إِلَى مَا يُقَرِّبُ مِنْكَ.
قَالَ يَحْيَى: كَانُوا قَوْمًا قَدْ آمَنُوا، وَفَرُّوا بِدِينِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَكَانَ قَوْمُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَخَشُوا عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْقَتْل.(3/49)
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
قَالَ: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْف سِنِين عددا} .
قَالَ مُحَمَّد: و (عددا) مَنْصُوب (ل 192) عَلَى الْمَصْدَرِ؛ أَيْ: تُعَدُّ عَدًا.(3/49)
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أحصى لما لَبِثُوا أمدا} قَالَ مُحَمَّد: (أمدا) مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ؛ الْمَعْنَى: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِلُبْثِهِمْ فِي الأمد، وَقَوله: {ثمَّ بعثناهم} يَعْنِي: مِنْ نَوْمِهِمْ، وَكُلُّ شَيْءٍ سَاكِنٌ حَرَّكْتَهُ لِلتَّصَرُّفِ(3/49)
فقد بعثته.(3/50)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} أَي: خبرهم. {وزدناهم هدى} يَعْنِي: إِيمَانًا.(3/50)
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)
{وربطنا على قُلُوبهم} بِالْإِيمَانِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: أَلْهَمْنَاهُمُ الصَّبْرَ، وَثَبَّتْنَا قُلُوبَهُمْ. {لَقَدْ قُلْنَا إِذا شططا} قَالَ قَتَادَة: يعنون: جورا.(3/50)
هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
{لَوْلَا} هَلَّا {يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} بِحُجَّةٍ بَيِّنَةٍ؛ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِمْ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى على الله كذبا} أَي: لَا أحد أظلم مِنْهُ.(3/50)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا الله} قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ (وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) وَهَذَا تَفْسِيرُهَا {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْف} أَيْ: فَانْتَهُوا إِلَى الْكَهْفِ {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} أَي: يبسط لكم من رزقه؛ فِي تفسر السّديّ.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة 17 آيَة 20) .(3/50)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ} أَيْ: تَمِيلُ {عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمين وَإِذا غربت تقرضهم} أَي: تتركهم {ذَات الشمَال} قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ: لَا تَدْخُلُ الشَّمْسُ كَهْفَهُمْ {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} أَيْ: فِي فَضَاءٍ مِنَ الْكَهْفِ.
قَالَ مُحَمَّد: (تزاور) الْأَصْلُ فِيهِ: (تَتَزَاوَرُ) فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الزَّاي، و (تفرضهم) أَصْلُ الْقَرْضِ: الْقَطْعُ وَالتَّفْرِقَةُ، وَالْقِرَاءَةُ (تقرضهم) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى (تَقْرُضُهُمْ) بِالضَّمِّ. {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِد لَهُ وليا مرشدا} أَيْ: صَاحِبًا يُرْشِدُهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (المهتد) وَقَعَتْ فِي الْمُصْحَفِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِغَيْرِ يَاءٍ، وَوَقَعَتْ فِي الْأَعْرَافِ بِالْيَاءِ، وَحَذْفُ الْيَاءِ جَائِزٌ فِي الْأَسْمَاءِ، وَلَا(3/51)
يجوز فِي الْأَفْعَال.(3/52)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
{وتحسبهم أيقاظا} أَيْ: مُفَتَّحَةٌ أَعْيُنُهُمْ {وَهُمْ رُقُودٌ} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْأَيْقَاظُ: الْمُنْتَبِهُونَ، وَالرُّقُودُ: النِّيَامُ. {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشمَال} قَالَ قَتَادَةُ: فِي رَقْدَتِهِمُ الْأُوْلَى قَبْلَ أَنْ يَمُوتُوا.
قَالَ أَبُو عِيَاضٍ: لَهُمْ فِي كُلِّ عَامٍ تَقْلِيبَتَانِ {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} أَيْ: بِفِنَاءِ الْكَهْفِ {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُم رعْبًا} .
قَالَ مُحَمَّد: (فِرَارًا) مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى وليت: فَرَرْت، و (رعْبًا) مَنْصُوب على التَّمْيِيز.(3/52)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} وَكَانُوا دَخَلُوا الْكَهْفَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، قَالَ: فَنَظَرُوا فَإِذَا هُوَ قَدْ بَقِيَ مِنَ الشَّمْسِ بَقِيَّةٌ، فَقَالُوا: {أَو بعض يَوْم} ، ثُمَّ إِنَّهُمْ شَكُّوا؛ فَرَدُّوا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ فَقَالُوا: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِه} أَي: بدراهمكم {إِلَى الْمَدِينَة} وَكَانَتْ مَعَهُمْ دَرَاهِمَ {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أزكى طَعَاما} تَفْسِيرُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَيُّهَا أَحَلُّ.
قَالَ يَحْيَى: وَقَدْ كَانَ مِنْ طَعَامِ قَوْمِهِمْ مَا لَا يَسْتَحِلُّونَ أَكْلَهُ.(3/52)
{فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يشعرن} يعلمن {بكم أحدا}(3/53)
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
{إِنَّهُم إِن يظهروا عَلَيْكُم} أَي: يطلعوا عَلَيْكُم {يرجموكم} يَقْتُلُوكُمْ بِالْحِجَارَةِ {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي ملتهم} الْكُفْرِ {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} إِن فَعلْتُمْ.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة 21 آيَة 22) .(3/53)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
{وَكَذَلِكَ أعثرنا عَلَيْهِم} أَيْ: أَطْلَعْنَا عَلَيْهِمْ أَهْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي أَحْيَاهُمُ اللَّهُ فِيهِ {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} لَا شَكَّ فِيهَا {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَينهم أَمرهم} يَعْنِي: قَوْمَهُمْ؛ كَانَتْ تِلْكَ الْأُمَّةُ الَّذِينَ هَرَبُوا مِنْهُمْ قَدْ بَادَتْ، وَخَلَفَتْ بَعْدَهُمْ أُمَّةٌ أُخْرَى، وَكَانُوا على الْإِسْلَام، ثمَّ إِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْبَعْثِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُبْعَثُ النَّاسُ فِي أَجْسَادِهِمْ وَهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ كَانَ الْمُلْكُ مِنْهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُبْعَثُ الْأَرْوَاحُ بِغَيْرِ أَجْسَادٍ؛ فَبَعَثَ اللَّهُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ (ل 193) يَرَوْنَ أَنَّهَا تِلْكَ الْأُمَّةُ الَّذِينَ فَرُّوا مِنْهُمْ. [وَدَخَلَ] الْمَدِينَةَ وَهِيَ مَدِينَةٌ بِالرُّومِ يُقَالُ لَهَا: قَبْسُوسُ، وَأَخْرَجَ الدَّرَاهِمَ؛ لِيَشْتَرِيَ بِهَا الطَّعَامَ، فَاسْتُنْكِرَتِ الدَّرَاهِمُ، وَأُخِذَ فَذُهِبَ بِهِ إِلَى مَلِكِ الْمَدِينَةِ؛ فَإِذَا الدَّرَاهِمُ(3/53)
دَرَاهِمُ الْمَلِكُ الَّذِي فَرُّوا مِنْهُ؛ فَقَالُوا: هَذَا رَجُلٌ وَجَدَ كَنْزًا، فَلَمَّا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُعَذَّبَ أَطْلَعَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُمُ الْمَلِكُ: قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمْ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ، فَأَعْلَمَكُمْ أَنَّ النَّاسَ ليُبْعَثُونَ فِي أَجْسَامِهِمْ، فَرَكِبَ الْمَلِكُ وَالنَّاسُ مَعَهُ؛ حَتَّى أَتَوْا إِلَى الْكَهْفِ وَتَقَدَّمَهُمُ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا دَخَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَرَأَهُمْ وَرَأَوْهُ مَاتُوا؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَتْ أَتَتْ عَلَيْهِمْ آجَالُهُمْ، فَقَالَ الْقَوْمُ: كَيْفَ نَصْنَعُ بِهَؤُلَاءِ؟ ! {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بنيانا} . {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} رُؤَسَاؤُهُمْ وَأَشْرَافُهُمْ {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} .(3/54)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
قَالَ الله: {سيقولون} سَيَقُولُ أَهْلُ الْكِتَابِ: {ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رجما بِالْغَيْبِ} قَالَ: السُّدِّيُّ: يَعْنِي: رَمْيًا بِقَوْلِ الظَّنِّ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى يَقُولُونَ ذَلِكَ ظَنًّا بِغَيْرِ يَقِينٍ. قَالَ زُهَيْرٌ:
(وَمَا الْحَرْبُ إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ ... وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالْحَدِيثِ الْمُرَجَّمِ)
قَوْلُهُ: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنْهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ} قَالَ قَتَادَةُ: إِلَّا قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ، وَذَكَرَ لَنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: أَنَا مِنْ أُولَئِكَ الْقَلِيلِ الَّذِينَ اسْتَثْنَى اللَّهُ؛ كَانُوا سَبْعَةً وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ.
قَالَ: {فَلا تمار فيهم} يَقُولُ اللَّهُ للنَّبِيِّ: فَلَا تُمَارِ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي أَصْحَابِ الْكَهْفِ {إِلَّا مراء ظَاهرا} أَيْ: إِلَّا بِمَا أَخْبَرْتُكَ؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: أَفْتِ فِي قِصَّتِهِمْ بِالظَّاهِرِ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ. {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ} فِي أَصْحَابِ الْكَهْفِ {مِنْهُمْ أَحَدًا} من الْيَهُود.(3/54)
سُورَة الْكَهْف من (آيَة 23 آيَة 26) .(3/55)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ الله} يَقُولُ: إِلَّا أَنْ تَسْتَثْنِي.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ تَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ فَأُضْمِرَ الْقَوْلُ؛ ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَاذْكُرْ رَبك إِذا نسيت} .
قَالَ يَحْيَى: " بَلَغَنَا أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله عَلَيْهِ السَّلَام: أُخْبِرُكُمْ عَنْهَا غَدًا. وَلَمْ يَسْتَثْنِ؛ فَأنْزل اللَّه هَذِه الْآيَة ".
قَالَ الْحَسَنُ: أُمِرَ أَلا يَقُولَ لِشَيْءٍ فِي الْغَيْبِ: إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، دَوْنَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، وَأُمِرَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ إِذَا ذَكَرَ؛ فَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: إِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَلَا ثُنْيَا لَهُ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ نَاسٍ لِلِاسْتِثْنَاءِ فَلَهُ ثُنْيَاهُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ تَكَلَّمَ أَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ.(3/55)
{وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَب من هَذَا رشدا} قَالَ مُحَمَّدٌ: قِيلَ: الْمَعْنَى: عَسَى رَبِّي أَنْ يُعْطِيَنِي مِنَ الْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ عَلَى النُّبُوَّةِ مَا يَكُونُ أَقْرَبُ فِي الرُّشْدِ، وَأَدَلُّ مِنْ قصَّة أَصْحَاب الْكَهْف.(3/56)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
{وَلَبِثُوا فِي كهفهم ثَلَاثمِائَة} ثمَّ أخبر مَا تِلْكَ الثلاثمائة، فَقَالَ: {سِنِين} .
قَالَ مُحَمَّد: (سِنِين) عطف على ثَلَاثمِائَة؛ وَهَذَا الْعَطْفُ يُسَمِّيهِ النَّحَوِيُّونَ: عَطْفُ الْبَيَانِ وَالتَّوْكِيدُ.
قَوْلُهُ: {وَازْدَادُوا تِسْعًا} أَيْ: تِسْعَ سِنِينَ. تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: قَالَ: هَذَا قَوْلُ أَهْلُ الْكِتَابِ، رَجْعٌ إِلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَة وثامنهم كلبهم} وَيَقُولُونَ: {لَبِثُوا فِي كهفهم ثَلَاثمِائَة سِنِين، وازدادوا تسعا} .(3/56)
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
قَالَ قَتَادَةُ: فَرَدَّ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ فَقَالَ: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غيب السَّمَاوَات وَالْأَرْض} أَي: يعلم غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ {أَبْصِرْ بِهِ وأسمع} يَقُولُ: مَا أَبْصَرَهُ وَمَا أَسْمَعَهُ!
قَوْلِهِ: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ من ولي} يَمْنَعُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ {وَلا يُشْرك فِي حكمه أحدا} أَيْ: وَلَا يُشْرِكُ اللَّهُ فِي حكمه أحدا.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة 27 آيَة 31) .(3/56)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
{لَا مبدل لكلماته} لَا يُغَيِّرُ فِي الْآخِرَةِ بِخِلَافِ مَا قَالَ فِي الدُّنْيَا {وَلَنْ تَجِد من دونه ملتحدا} (ل 194) قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي [مَوْئِلًا] قَالَ: مُلْتَحَدًا؛ أَيْ: نَصِيرًا؛ يُقَالُ: لَحَدْتُ وألحدت بِمَعْنى: عدلت.(3/57)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي} قَالَ قَتَادَةُ: هُمَا الصَّلَاتَانِ: صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَصَلَاةُ الْعَصْرِ، وَبَعْدَهُمْا فُرِضَتِ الصَّلَوَات قبل خُرُوج النَّبِي مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِسَنَةٍ {وَلَا تعد عَيْنَاك عَنْهُم} مَحَقَرَةٌ لَهُمْ {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} .
قَالَ مُحَمَّد: وَمعنى (لَا تعد) : لَا تصرف بَصرك عَنْهُم إِلَّا غَيْرِهِمْ.
قَالَ يَحْيَى: نَزَلَتْ فِي سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَصُهَيْبٍ وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ؛ قَالَ الْمُشْركُونَ للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ نُجَالِسَكَ فَاطْرُدْ عَنَّا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ.(3/57)
يَحْيَى: عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ (عَمْرِو) بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَذِكْرُ اللَّهِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ أَفْضَلُ مِنْ حَطْمِ السُّيُوفِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمِنْ إِعْطَاءِ الْمَالِ سَحًّا ".
يَحْيَى عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " لَأَنْ أُجَالِسَ أَقْوَامًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ؛ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ مَا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَلَأَنْ أُجَالِسَ أَقْوَامًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ بَعْدَ صَلَاةٍ الْعَصْرِ؛ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ أحب إِلَيّ من أُعْتِقَ ثَمَانِيَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ ".(3/58)
قَوْلِهِ: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} يَعْنِي: شَهْوَتَهُ {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} يَعْنِي: تضييعا(3/59)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
{وَقل الْحق من ربكُم} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: الْقُرْآنَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: وَقُلِ الَّذِي آتَيْتُكُمْ بِهِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ. {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} هَذَا وَعِيدٌ؛ أَيْ: مَنْ آمَنَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ كَفَرَ دَخَلَ النَّارَ.
قَوْلُهُ: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} يَعْنِي: سُورُهَا {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمهْلِ} تَفْسِيرِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَعَكَرِ الزَّيْتِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَا أُذِيبَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالصُّفْرِ وَالرَّصَاصِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: مُهْلٌ. {يَشْوِي الْوُجُوهَ} أَيْ: يَحْرِقُهَا إِذَا أَهْوَى لِيَشْرَبَهُ {بئس الشَّرَاب وَسَاءَتْ مرتفقا} أَيْ: مَنْزِلًا وَمَأْوًى؛ وَهَذَا وَعِيدٌ لِمَنْ كَفَرَ.(3/59)
قَالَ مُحَمَّد: (مرتفقا) مَنْصُوب على التَّمْيِيز.(3/60)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إِلَى قَوْلِهِ: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أساور من ذهب} .
يَحْيَى: عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَوْ بَدَا إِسْوَارُهُ لَغَلَبَ عَلَى ضَوْءِ الشَّمْسِ ".
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَحَدٌ إِلَّا وَفِي يَدِهِ ثَلَاثَةُ أَسْوِرَةٍ: إِسْوَارٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَإِسْوَارٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَإِسْوَارٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ.(3/60)
{وَيلبسُونَ ثيابًا من سندس وإستبرق} وَهُمَا نَوْعَانِ مِنَ الْحَرِيرِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قِيلَ: إِنَّ السُّنْدُسَ رَقِيقُ الدِّيبَاجِ، وَالْإِسْتَبْرَقَ ثَخِينُهُ. {مُتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك} تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَرَائِكَ: السُّرُرَ عَلَيْهَا الحجال.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة 32 40) .(3/61)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْل} قَالَ مُحَمَّدٌ: يَقُولُ: جَعَلْنَا النَّخْلَ مُطْبِقًا بِهِمَا. وَقَوْلُهُ: {مَثَلا رَجُلَيْنِ} نَصَبَهُمَا عَلَى مَعْنَى الْمَفْعُولِ؛ أَيْ: اضْرِب لَهُم رجلَيْنِ مثلا.(3/61)
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)
{كلتا الجنتين آتت أكلهَا} أَطْعَمَتْ ثَمَرَتْهَا {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئا} أَيْ: تَنْقُصْ.(3/61)
قَالَ مُحَمَّد: قَالَ: (آتت) وَلَمْ يَقُلْ: (أَتَتَا) ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى كل وَاحِد مِنْهُمَا أَتَتْ أُكُلَهَا. {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهرا} أَي: بَينهمَا(3/62)
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
{وَكَانَ لَهُ ثَمَر} أَيْ: أَصْلٌ {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يحاوره} أَيْ: يُرَاجِعُهُ الْكَلَامَ {أَنَا أَكْثَرُ مِنْك مَالا وأعز نَفرا} يَعْنِي: رِجَالًا وَنَاصِرًا.
قَالَ يَحْيَى: كَانَا أَخَوَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَرِثَا عَنْ أَبِيهِمَا مَالًا؛ فَاقْتَسَمَاهُ فَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ مُؤْمِنًا فَأَنْفَقَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَقَدَّمَهُ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ كَافِرًا اتَّخَذَ الْأَرَضِينَ وَالضِّيَاعَ وَالدُّورَ وَالرَّقِيقَ فَاحْتَاجَ الْمُؤْمِنُ وَلَمْ يَبْقَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَجَاءَ إِلَى أَخِيهِ يَزُورُهُ، وَيَتَعَرَّضْ لِمَعْرُوفِهِ، فَقَالَ أَخُوهُ: وَأَيْنَ مَا وَرِثْتَ؟ قَالَ: أَقْرَضته (ل 195) رَبِّي وَقَدَّمْتُهُ لِنَفْسِي؛ فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ: لَكِنِّي اتَّخَذْتُ بِهِ لِنَفْسِي ولولدي؛ مَا قد رَأَيْت.(3/62)
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35)
قَالَ اللَّهُ: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِم لنَفسِهِ} يَعْنِي: بِشِرْكِهِ {قَالَ مَا أَظُنُّ} أَيْ: مَا أُوْقِنُ {أَنْ تَبِيدَ هَذِه أبدا} أَيْ: تَفْنَى، تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: لَيْسَ يَعْنِي: أَنَّهَا لَا تَفْنَى فَتَذْهَبْ، وَلَكِنَّهُ يَعْنِي: أَنَّهُ يَعِيشُ فِيهَا حَتَّى يأكلها حَيَاته(3/62)
وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
{وَمَا أَظن} أَيْ: وَمَا أُوقِنُ أَنَّ {السَّاعَةَ قَائِمَة} يَجْحَدُ بِالْبَعْثِ {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجدن خيرا مِنْهَا} أَي: من جنتي {منقلبا} فِي الْآخِرَةِ إِنَّ كَانَتْ آخِرَةٌ. قَالَ: {وَدخل جنته} وَقَالَ: {جعلنَا لأَحَدهمَا جنتين} كَانَتْ جَنَّةً فِيهَا نَهْرٌ، فَهِي جنَّة وَهِي جنتان(3/62)
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)
{قَالَ لَهُ صَاحبه} الْمُؤْمِنِ {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} إِلَى قَوْلُهُ:(3/62)
{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أشرك بربي أحدا} .
قَالَ مُحَمَّد: (لَكنا) كُتِبَتْ فِيمَا ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدِ بِالْأَلِفِ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي يُقَالُ: هُوَ مُصْحَفُ عُثْمَانَ. قَالَ: وَقَرَأَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مُشَدَّدَةً عَلَى حَذْفِ الْألف إِذا وصلوا، وأضلها فِيمَا أَرَى (لَاكِنْ أَنَا) فَالْتَقَتِ النُّونَانِ فَأُدْغِمَتَا؛ فَإِذَا وُصِلَتِ الْقِرَاءَةُ حُذِفَتِ الْأَلِفُ، وَثَبَتَتْ فِي الْوَقْفِ، وَهَذَا كَقَوْلِكَ: أَنَ فَعَلْتُ ذَلِكَ، فَالْأَلِفُ مَحْذُوفَةٌ، فَإِذَا سَكَتَّ عَلَيْهَا قُلْتَ: أَنَا بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ الْأَلِفَ فِي الْوَصْلِ كَمَا يُثْبِتُهْا فِي الْوَقْفِ فَهُوَ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: أَنَا فَعَلْتُ، قَالَ: وَإِثْبَاتُهَا فِي الْوَصْلِ شَاذٌّ.(3/63)
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)
{وَلَوْلَا إِذْ دخلت جنتك} أَيْ: فَهَلَّا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ {قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه} ثمَّ قَالَ: {إِن ترني أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا}(3/63)
فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)
{فَعَسَى رَبِّي أَن يؤتين} فِي الْآخِرَةِ {خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: نَارًا مِنَ السَّمَاءِ(3/63)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقِيلَ: {حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاء} أَيْ: مَرَامِي، وَاحِدَتُهَا: حُسْبَانَةٌ. وَمَنْ قَرَأَ: (أَقَلَّ) بِالنَّصْبِ فَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ (تَرَى) ، وَدَخَلْتَ (أَنَا) لِلْتَوْكِيدِ.
قَالَ: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَعْنِي: تُرَابًا لَا نَبَاتَ فِيهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (الصَّعِيدُ) : الْمُسْتَوِي، وَيُسَمَّى وَجْهُ الْأَرْضِ: صَعِيدًا، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلتُّرَابِ: صَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ وَجه الأَرْض، و (الزلق) : الَّذِي تزل عَلَيْهِ الْأَقْدَام.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة 41 آيَة 46) .(3/64)
أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
{أَو يصبح} يَعْنِي: أَوْ يَصِيرَ {مَاؤُهَا غَوْرًا} أَيْ: ذَاهِبًا قَدْ غَارَ فِي الْأَرْضِ {فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} .(3/64)
قَالَ مُحَمَّد: (غورا) مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الِاسْمِ، يُقَالُ: مَاء غور، ومياه غور.(3/65)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
{وأحيط بثمره} مِنَ اللَّيْلِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَعْنَى (أحيط) : أهلك. {فَأصْبح} من الْغَد {يقلب كفيه} قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ: يَضْرِبُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى نَدَامَةً {عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عروشها} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَعْنَى (خَاوِيَةٌ عَلَى عروشها) أَيْ: خَرَابٌ عَلَى سَقْفِهَا، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يَسْقُطَ السَّقْفُ ثُمَّ تَسْقُطُ الْحِيطَانُ عَلَيْهَا. {وَيَقُولُ} فِي الْآخِرَةِ {يَا لَيْتَنِي لَمْ أشرك بربي} فِي الدُّنْيَا {أَحَدًا} .(3/65)
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)
{وَلم تكن لَهُ فِئَة} أَيْ: عَشِيرَةٌ {يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ الله} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: {فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ} وَلَمْ يَقُلْ: تَنْصُرُهُ؛ الْمَعْنَى: وَلَمْ يكن لَهُ أَقوام ينصرونه.(3/65)
هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
{هُنَالك الْولَايَة لله الْحق} تقْرَأ بِرَفْع (الْحق) وَبِجَرِّهِ، فَمَنْ قَرَأَهَا بِالرَّفْعِ فَيَقُولُ: هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ الْحَقُّ لِلَّهِ، وَمِنْ قَرَأَهَا بِالْجَرِّ يَقُولُ: لِلَّهِ الْحَقِّ، وَالْحَقُّ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ؛ الْمَعْنَى: هُنَالِكَ يَتَوَلَّى اللَّهُ كُلَّ عَبْدٍ لَا يَبْقَى أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ إِلَّا تَوَلَّى اللَّهُ، فَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.(3/65)
قَالَ يَحْيَى: قَالَ السُّدِّيُّ: الْوَلَايَةُ بِالْفَتْحِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْوَاوِ، ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ.
قَوْلُهُ: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخير عقبا} أَيْ عَاقِبَةٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (ثَوَابًا وعقبا) منصوبان على التَّمْيِيز.(3/66)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَات الأَرْض} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي: انْدَفَعَ فِي النَّبَاتِ، فَأَخَذَ النَّبَاتُ زُخْرُفَهُ. {فَأَصْبَحَ هشيما تَذْرُوهُ الرِّيَاح} فَأَخْبَرَ أَنَّ الدُّنْيَا ذَاهِبَةٌ زَائِلَةٌ؛ كَمَا ذَهَبَ ذَلِكَ النَّبَاتُ بَعْدَ بهجته وزينته.(3/66)
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا والباقيات الصَّالِحَات} هِيَ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ: [الْفَرَائِضُ] {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أملا} يَقُولُ: هِيَ جَزَاءُ مَا قَدَّمُوهُ فِي الدُّنْيَا (ل 196) أَي يثابوه فِي الْآخِرَة.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة 47 آيَة 50) .(3/66)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بارزة} أَيْ: مُسْتَوِيَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا بِنَاءٌ وَلَا عَمَدٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ النَّصْبُ فِي قَوْلُهُ: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ) عَلَى مَعْنَى: وَاذْكُرْ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ. {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أحدا} يُقَالُ: احْضُرُوا؛ فَلَمْ يَغِبْ مِنْهُمْ أَحَدٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: غَادَرْتُ كَذَا وغدرته؛ أَي: خلفته.(3/67)
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
{وعرضوا على رَبك صفا} (أَيْ: صُفُوفًا) {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أول مرّة} أَيْ: حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، يَعْنِي: غُلْفًا غَيْرَ مُخْتَتَنِينَ.
يَحْيَى: عَنِ الْأَزْهَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيِّ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا سَوْءَتَاهُ لَكَ يَا ابْنَةَ أَبِي بَكْرٍ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: النَّاسُ يَوْمَئِذٍ أَشْغَلُ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؛ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ "(3/67)
مِنْ حَدِيثِ يحيى بْنِ مُحَمَّدٍ. {بل زعمتم} يَقُول للْمُشْرِكين {أَن لن نجْعَل لكم موعدا} يَعْنِي: أَن لن تبعثوا.(3/68)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
{وَوضع الْكتاب} يَعْنِي: مَا كَانَتْ تَكْتِبُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ فِي الدُّنْيَا {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ} يَعْنِي: الْمُشْركين {مشفقين} أَيْ: خَائِفِينَ {مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضرا} فِي كُتُبِهِمْ {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} .(3/68)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنّ} قَالَ الْحَسَنُ: وَهُوَ أَوَّلُ الْجِنِّ؛ كَمَا أَنَّ آدَمَ مِنَ الْإِنْسِ؛ وَهُوَ أَوَّلُ الْإِنْسِ , وَتَفْسِيرُ قَتَادَةَ: كَانَ من الْجِنّ قبيل من الْمَلائِكَةِ؛ يُقَالُ لَهُمُ: الْجِنُّ، وَكَانَ عَلَى خَزَانَةِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا {فَفَسَقَ عَن أَمر ربه} أَيْ: عَصَى أَمْرَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْفُسُوقُ أَصْلُهُ: الْخُرُوجُ؛ تَقُولُ الْعَرَبُ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ؛ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قشرها. {أفتتخذونه وَذريته} يَعْنِي: الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى الشّرك {أَوْلِيَاء من دوني} . {بئس للظالمين بَدَلا} أَيْ: بِئْسَ مَا اسْتَبْدَلُوا بِعِبَادَةِ رَبهم طَاعَة إِبْلِيس(3/68)
سُورَة الْكَهْف من (آيَة 51 آيَة 56) .(3/69)
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
{مَا أشهدتهم خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَلَا خلق أنفسهم} وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ؛ أَيْ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ {وَمَا كنت متخذ المضلين عضدا} أَي: أعوانا(3/69)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)
{وَجَعَلنَا بَينهم} يَعْنِي: وَصْلَهُمُ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا {موبقا} أَيْ: مَهْلَكًا؛ فِي تَفْسِيرِ بَعْضِهِمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: وَبِقَ الرَّجُلُ يَوْبَقُ وَبَقًا، وَأَوْبَقَهُ اللَّهُ؛ أَيْ: أهلكه.(3/69)
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
{وَرَأى المجرمون} الْمُشْركُونَ {النَّار فظنوا} أَيْ: عَلِمُوا {أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجدوا عَنْهَا مصرفا} أَي: معدلا إِلَى غَيرهَا.(3/69)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
{وَلَقَد صرفنَا} أَيْ: ضَرَبْنَا {فِي هَذَا الْقُرْآنِ للنَّاس من كل مثل} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: وَلَقَدْ بَيَّنَّا لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثْلٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ. {وَكَانَ الْإِنْسَان} يَعْنِي: الْكَافِرَ {أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا} .(3/69)
قَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ كَقَوْلِهِ: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} .(3/70)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ} مِنْ شِرْكِهِمْ {إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سنة الْأَوَّلين} يَعْنِي: مَا عذب الله بِهِ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قبلا} عيَانًا.(3/70)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ} بِالْجنَّةِ {ومنذرين} مِنَ النَّارِ {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ ليدحضوا بِهِ الْحق} أَيْ: لِيُذْهِبُوهُ فِيمَا يَظُنُّونَ وَلَا يقدرُونَ على ذَلِك.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة 57 آيَة 60) .(3/70)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ ربه فَأَعْرض عَنْهَا} أَيْ: لَمْ يَؤْمِنْ بِهَا؛ أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُ. {إِنَّا جعلنَا على قُلُوبهم أكنة} أغطية {أَن يفقهوه} لِئَلَّا يَفْقَهُوهُ {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} وَهُوَ الصَّمَمُ عَنِ الْهُدَى {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذا أبدا} يَعْنِي: الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى شِرْكِهِمْ.(3/70)
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)
{وَرَبك الغفور ذُو الرَّحْمَة} يَعْنِي: لِمَنْ آمَنَ.(3/70)
{بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا من دونه موئلا} قَالَ الْحَسَنُ: مَلْجَأٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: وَأَلَ فُلَانٌ إِلَى كَذَا؛ إِذَا لَجَأَ، وَيُقَالُ: لَا وَأَلَتْ نَفْسُكَ؛ أَيْ: لَا نَجَتْ، وَفُلَانٌ مُوَائِلٌ؛ أَيْ: (مُبَادِرٌ) لِيَنْجُوَ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
( [لَا وَاءَلَتْ نَفْسُكَ خَلَّيْتَهَا ... لِلْعَامِرِيِّينَ وَلَمْ تُكْلَمِ] )
(ل 197)(3/71)
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
قَوْلِهِ: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظلمُوا} أَيْ: أَشْرَكُوا وَجَحَدُوا رُسُلَهُمْ {وَجَعَلْنَا لمهلكهم} أَي: لعذابهم {موعدا} أَجَلًا وَوَقْتًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ: (لِمُهْلَكِهِمْ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ فَهُوَ مَصْدَرُ أَهْلَكَهُ إِهْلاكًا وَمَهْلِكًا. وَمِنْ قَرَأَ: (لِمَهْلَكِهِمْ) بِنَصْبِ الْمِيمِ وَاللَّامِ؛ أَرَادَ هَلَكُوا مَهْلِكًا.(3/71)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
{وَإِذ قَالَ مُوسَى لفتاه} وَهُوَ يُوْشَعُ بْنُ نُونٍ {لَا أَبْرَح} أَيْ: لَا أَزُولُ {حَتَّى أَبْلُغَ مجمع الْبَحْرين} يَعْنِي: حَيْثُ الْتَقَيَا. قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: بَحْرَ فَارِسَ وَالرُّومِ {أَوْ أمضي حقبا} الْحِقْبُ: سَبْعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ.(3/71)
سُورَة الْكَهْف من (آيَة 61 آيَة 74) .(3/72)
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حوتهما فَاتخذ سَبيله} يَعْنِي: الْحُوتَ {فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: سَرَبًا يَعْنِي: مَذْهَبًا وَمَسْلَكًا؛ وَهُوَ مَصْدَرٌ؛ الْمَعْنَى: نَسِيَا حُوْتَهُمَا؛ فَجَعَلَ الْحُوتُ طَرِيقَهُ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ بَيْنَ كَيْفَ ذَلِكَ؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ: سَرَبَ يَسْرُبُ سَرَبًا.(3/72)
قَالَ يَحْيَى: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ مُوسَى لَمَّا قَطَعَ الْبَحْرَ وَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنْ آلِ فِرْعَونَ جَمَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَخَطَبَهُمْ، فَقَالَ: أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَأَعْلَمُهُمْ، قَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ عَدُّوَكُمْ، وَأَقْطَعَكُمُ الْبَحْرَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكُمُ التَّوْرَاةَ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَا هُنَا رَجُلًا هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، فَانْطَلَقَ هُوَ وَفَتَاهُ يُوْشَعُ يَطْلُبَانِهِ وَتَزَوَّدَا سَمَكَةً مَمْلُوحَةً فِي مَكْتَلٍ لَهُمَا، وَقِيلَ لَهُمَا: إِذَا نَسِيتُمَا بَعْضَ مَا مَعَكُمَا لَقِيتُمَا رَجُلًا عَالِمًا يُقَالُ لَهُ: خَضِرٌ.
قَالَ يَحْيَى: وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مُوسَى وَفَتَاهُ لَمَّا أَوَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، بَاتَا فِيهَا، وَكَانَ عِنْدَهَا عَيْنُ مَاءٍ، فَأَكَلَا نِصْفَ الْحُوتِ وَبَقِيَ نِصْفُهُ فَأَدْنَى فَتَاهُ الْمَكْتَلَ مِنَ الْعَيْنِ، فَأَصَابَ الْمَاءُ الْحُوتَ، فَعَادَ فَانْسَرَبَ، وَدَخَلَ فِي الْبَحْر، وَمضى مُوسَى وفتاه(3/73)
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)
{فَلَمَّا جاوزوا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} أَي: شدَّة(3/73)
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)
{قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَة فَإِنِّي نسيت الْحُوت} {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} مُوسَى تَعَجَّبَ مِنْ أَثَرِ الْحُوتِ فِي الْبَحْر(3/73)
قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
{قَالَ ذَلِك مَا كُنَّا نبغي} أَيْ: ذَلِكَ حَيْثُ أُمِرْتُ أَنْ أَجِدَ خَضِرًا.
{فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قصصا} أَيْ: رَجَعَا حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: رَجَعَا فِي الطَّرِيقِ الَّذِي سَلَكَاهُ، يَقُصَّانِ الْأَثَرَ قَصَصًا.
قَالَ: فَأَتَّبَعَا الْأَثَرَ فِي الْبَحْرِ، وَكَانَ الْحُوتُ حَيْثُ مَرَّ جَعَلَ يَضْرِبُ بِذَنَبِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا فِي الْبَحْرِ، فَجَعَلَ كُلُّ شَيْءٍ يَضْرِبْهُ الْحُوتُ بِذَنَبِهِ يَيْبَسُ، فَصَارَ كَهَيْئَةِ طَرِيقٍ فِي الْبَحْرِ، فَاتَّبَعَا أَثَرَهُ، حَتَّى إِذَا خَرَجَا إِلَى جَزِيرَةٍ فَإِذَا هُمَا بِالْخَضِرِ فِي(3/73)
رَوْضَةٍ يُصَلِّي، فَأَتَيَاهُ مِنْ خَلْفِهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَأَنْكَرَ الْخَضِرُ التَّسْلِيمَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَرَفَعَ رَأَسَهُ فَإِذَا هُوَ بِمُوسَى فَعَرَفَهُ. فَقَالَ: وَعَلْيَكَ السَّلَامُ يَا نَبِيَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ مُوسَى: وَمَا يُدْرِيكَ أَنِّي نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: أَدْرَانِي بِذَلِكَ الَّذِي أَدْرَاكَ بِي {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} .(3/74)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَة خرقها قَالَ} مُوسَى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْت شَيْئا إمرا} أَي: عَظِيما من الْمُنكر(3/74)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيع معي صبرا} وَكَانَ مُوسَى يُنكر الظُّلم،(3/74)
قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
قَالَ لَهُ مُوسَى: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نسيت} يَعْنِي: ذَهَبَ مِنِّي ذِكْرُهُ {وَلا ترهقني من أَمْرِي عسرا} .
قَالَ مُحَمَّد: (ترهقني) مَعْنَاهُ: تُعَنِّتْنِي؛ أَيْ: عَامِلْنِي بِالْيُسْرِ لَا بالعسر.(3/74)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقتله قَالَ أقتلت نفسا (زاكية} } أَيْ: لَمْ تُذْنِبْ {بِغَيْرِ نَفْسٍ لقد جِئْت شَيْئا نكرا} .
سُورَة الْكَهْف من (آيَة 75 آيَة 82) .(3/74)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لدني عذرا} أَيْ: قَدْ أُعْذِرْتَ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنك(3/75)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن ينْقض} أَيْ: يَسْقُطَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْجِدَارُ (ل 198) يَكُونُ هَذَا عَلَى التَّشْبِيهِ، وَمِثْلُ هَذَا مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا؛ قَالَ الرَّاعِي:
(فِي مَهْمَةٍ قَلِقَتْ بِهِ هَامَاتُهَا ... قَلَقَ الْفُئُوسِ إِذَا أَرَدْنَ نُصُولًا)
قَوْلُهُ: {قَالَ لَو شِئْت} مُوسَى قَالَهُ {لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} أَي: مَا يكفينا الْيَوْم(3/75)
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: هَذَا فِرَاقُ اتصالنا.(3/75)
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
{أما السفنية فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ} أَيْ: أَمَامَهُمْ {مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سفينة غصبا} وَهِيَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ(3/75)
(كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ) . قَالَ مُحَمَّدٌ: يَكُونُ " وَرَاءَ " بِمَعْنَى: بَعْدَ، وَهُوَ قَوْلُهُ {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
(حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ)
أَيْ: لَيْسَ بَعْدَ مَذَاهِبَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبٌ.
وَتَكُونُ بِمَعْنَى: أَمَامَ؛ وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الْقَائِلِ:
(أَتُوعِدُنِي وَرَاءَ بَنِي رِيَاحٍ ... كَذَبْتَ لَتَقْصِرَنَّ يَدَاكَ عَنِّي)
يُرِيد أَمَام بني ريَاح.(3/76)
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
قَوْلُهُ: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤمنين} قَالَ قَتَادَةُ: وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ: (فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ) . {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} .(3/76)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَعْنَى يُرْهِقَهُمْا: أَيْ: يَحْمِلُهُمَا عَلَى الرَّهَقِ وَهُوَ الْجَهْلُ.(3/77)
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
{فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاة} فِي التَّقْوَى {وَأقرب رحما} أَيْ: بِرًّا؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الرُّحْمُ فِي اللُّغَةِ: الْعَطف وَالرَّحْمَة.(3/77)
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهما} قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أَيْ: مَالٌ {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} أَيْ: إِنَّمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِ الله {ذَلِك تَأْوِيل} تَفْسِيرُ {مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صبرا} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْأَشُدُّ يَخْتَلِفُ؛ فَأَشُدُّ الْغُلَامِ أَنْ يَشْتَدَّ خَلْقُهُ وَيَتَنَاهَى فِي النَّبَاتِ؛ يُقَالُ: ذَلِكَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَشُدُّ الرَّجُلِ: الِاكْتِهَالُ، وَأَنْ يَشْتَدَّ رَأْيُهُ وَعَقْلُهُ وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ سَنَةً، وَيُقَالُ: ثَمَانٍ وَثَلَاثُونَ سَنَةً.
وَنُصِبَتْ (رَحْمَةً) أَيْ: فَعَلْنَا ذَلِكَ رَحْمَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى رَحِمَهُمَا بِذَلِكَ رَحْمَةً.
قَالَ يَحْيَى: بَلَغَنِي أَنَّهُمَا لَمْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ طَائِرًا؛ فَطَارَ إِلَى الْمَشْرِقِ(3/77)
ثُمَّ طَارَ إِلَى الْمَغْرِبِ، ثُمَّ طَارَ نَحْوَ السَّمَاءِ ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الْبَحْرِ، فَتَنَاوَلَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ بِمِنْقَارِهِ وَهُمَا يَنْظُرَانِ: فَقَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى: أَتَعْلَمُ مَا يَقُولُ هَذَا الطَّائِرُ؟ يَقُولُ: وَرَبِّ الْمَشْرِقِ وَرَبِّ الْمَغْرِبِ، وَرَبِّ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَرَبِّ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، مَا عِلْمُكَ يَا خَضِرُ وَعِلْمُ مُوسَى فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا قَدْرَ هَذَا الْمَاءِ الَّذِي تَنَاوَلْتُهُ مِنَ الْبَحْرِ فِي الْبَحْرِ.
وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ؛ لِأَنَّهُ قَعَدَ عَلَى قَرْدَدٍ بَيْضَاء فاهتزت بِهِ خضراء.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة 83 آيَة 93) .(3/78)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
قَالَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} يَعْنِي: خَبرا(3/78)
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: عَلَّمَهُ(3/78)
الَّذِي أَعْطَى؛ بَلَغَنَا أَنَّهُ مَلَكَ مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا(3/79)
فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)
{فأتبع سَببا} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي مَنَازِلَ الْأَرْضِ ومعالمها(3/79)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} وَهِيَ تُقْرَأُ: (حَامِيَةٍ) قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: اخْتَلَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (حَمِئَةٍ) وَقَالَ عُمْرُو بْنُ الْعَاصِ: (حَامِيَةٍ) ، فَجَعَلَا بَيْنَهُمَا كَعْبًا الحبر؛ فَقَالَ كَعْب: نَجِدُهَا فِي التَّوْرَاةِ: تَغْرُبُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ.
يَحْيَى: وَمِنْ قَرَأَ: (حَامِيَةٍ) بِالْمَعْنَى: أَيْ: ذَاتِ حَمْأَةٍ؛ تَقُولُ: حَمِئَتِ الْبِئْرُ فَهِيَ حَمِئَةٌ إِذَا صَارَتْ [فِيهَا الْحَمْأَةُ فَتَكَدَّرَتْ وَتَغَيَّرَ رَائِحَتُهَا]
(ل 199) {وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} يَعْنِي: الْقَتْلَ {وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فيهم حسنا} يَعْنِي: الْعَفْوَ: فِي تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ، قَالَ: فحكموه فَحكم بَينهم(3/79)
قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87)
{قَالَ أما من ظلم} يَعْنِي: مَنْ أَشْرَكَ {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} يَعْنِي: الْقَتْلَ {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى ربه فيعذبه عذَابا نكرا} عَظِيما فِي الْآخِرَة(3/79)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
{وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلهُ جَزَاء الْحسنى} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: الْحُسْنَى هِيَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْجَزَاءُ: الْجَنَّةُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى؛ يَعْنِي: الْعَفْوَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لَمْ يُبَيِّنْ يَحْيَى كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ السُّدِّيُّ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ تَفْسِيرُهُ(3/79)
أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: (فَلَهُ جَزَاءً) بِالنَّصْبِ وَالتَّنْوِينِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ، الْمَعْنَى: فَلَهُ الْحُسْنَى جَزَاءً عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَ (جَزَاءً) مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ؛ فَلَهُ الْحُسْنَى مَجْزِيًّا بِهَا جَزَاءً. {وَسَنَقُولُ لَهُ من أمرنَا يسرا} أَي: مَعْرُوفا.(3/80)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)
{ثمَّ أتبع سَببا} يَعْنِي: طرق الأَرْض ومعالمها(3/80)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} قَالَ قَتَادَة: ذكر لَنَا أَنهم كَانُوا فِي مَكَانٍ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِمُ الْبِنَاءُ، وَأَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي أَسْرَابٍ لَهُمْ حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ عَنْهُمْ خَرَجُوا فِي مَعَايِشِهِمْ وحروثهم(3/80)
كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
{قَالَ كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خَبرا} أَيْ: هَكَذَا كَانَ مَا قَصَّ من أَمر ذِي القرنين(3/80)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)
{ثمَّ أتبع سَببا} طرق الأَرْض ومعالمها(3/80)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} قَالَ قَتَادَةُ: هُمَا جَبَلَانِ {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يفقهُونَ قولا} يَعْنِي: كَلَامَ غَيْرِهِمْ، وَهِيَ تُقْرَأُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ: {لَا يَكَادُونَ يُفْقِهُونَ قَوْلًا} أَيْ: لَا يَفْقَهُ أحد كَلَامهم.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة 94 آيَة 98) .(3/80)
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
{قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} أَيْ: قَاتِلُونَ النَّاسَ فِي الْأَرْضِ؛ يَعْنِي: أَرْضَ الْإِسْلَامِ {فَهَلْ نَجْعَلُ لَك خرجا} أَيْ: جُعْلًا. {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْننَا وَبينهمْ سدا}(3/81)
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
{قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خير} مِنْ جُعْلِكُمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (مكني) فَالْمَعْنَى: مَكَّنَنِي، إِلَّا أَنَّهُ أَدْغَمَ النُّونَ فِي النُّونِ؛ لِاجْتِمَاعِ النُّونَيْنِ، وَمَنْ قَرَأَ (مَكَّنَنِي) بِإِظْهَارِ النُّونَيْنِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ كَلِمَتَيْنِ: الْأُولَى مِنَ الْفِعْلِ، وَالثَّانِيَةُ تَدْخُلُ مَعَ الِاسْمِ الْمُضْمَرِ. {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} يَعْنِي: عَدَدًا مِنَ الرِّجَالِ {أَجْعَلْ بَيْنكُم وَبينهمْ ردما} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: الرَّدْمُ فِي اللُّغَةِ: أَكْثَرُ مِنَ السَّدِّ؛ لِأَنَّ الرَّدْمَ مَا جُعِلَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ؛ يُقَالُ: ثَوْبٌ مُرَدَّمٌ؛ إِذَا كَانَ قَدْ رُقِعَ رُقْعَةً فَوْقَ رُقْعَةٍ، وَيُقَالُ لِكُلِّ مَا كَانَ مَسْدُودًا خِلْقَهً: سُدٌّ، وَمَا كَانَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ فَهُوَ سَدٌ بِالْفَتْحِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ: سَدٌّ، وَسُدٌّ؛ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ.(3/81)
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَين الصدفين} يَعْنِي: رَأْسَ الْجَبَلَيْنِ؛ فِي تَفْسِيرِ مُجَاهِدِ؛ أَيْ: سَدَّ مَا بَيْنَهُمَا {قَالَ انفخوا} أَيْ: عَلَى الْحَدِيدِ {حَتَّى إِذَا جعله نَارا} يَعْنِي: أَحْمَاهُ بِالنَّارِ {قَالَ آتُونِي} أعطوني {أفرغ عَلَيْهِ قطرا} فِيهَا تَقْدِيمٌ: أَعْطُونِي قِطْرًا أُفْرِغُ عَلَيْهِ، وَالْقِطْرُ: النُّحَاسُ؛ فَجَعَلَ أَسَاسَهُ الْحَدِيدَ، وَجَعَلَ مِلَاطَهُ النُّحَاسَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمِلَاطُ: هُوَ الطِّينُ الَّذِي يُجْعَلُ فِي الْبِنَاءِ مَا بَيْنَ كل صفّين.(3/82)
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
{فَمَا اسطاعوا أَن يظهروه} أَيْ: يَظْهَرُوا عَلَيْهِ مِنْ فَوْقِهِ {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نقبا} من أَسْفَله(3/82)
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جَاءَ وعد رَبِّي} يَعْنِي: خُرُوجهمْ {جعله} يَعْنِي: السد {دكا} قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ: يَتَعَفَّرَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَتُقْرَأُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ: " دَكَّاءَ " مَمْدُودَةٌ؛ أَيْ: جَعَلَهُ أَرْضًا مُسْتَوِيَةً.
يَحْيَى: عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عُرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَة؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " إِن يَأْجُوج ومأجوح يَخْرِقُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى إِذَا كَادُوا يرَوْنَ شُعَاع الشَّمْس (ل 200) قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ: ارْجَعُوا فَسَتَحْفُرُونَهُ غَدا؛ يُعِيدهُ اللَّهُ كَأَشَدَّ مَا كَانَ حَتَّى إِذا بلغت مدتهم وَأَرَادَ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ حَفَرُوا حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ: ارْجَعُوا فَسَتَحْفُرُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَيَغْدُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ حِينَ تَرَكُوهُ،(3/82)
فَيَخْرِقُونَهُ، فَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ فَيُنَشِّفُونَ الْمِيَاهَ، وَيَتَحَصَّنَ النَّاسُ مِنْهُمْ فِي حُصُونِهِمْ، فَيَرْمُونَ سِهَامَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ، فَتَرْجِعُ وَفِيهَا كَهَيْئَةِ الدِّمَاءِ، فَيَقُولُونَ قَهَرْنَا أَهْلَ الْأَرْضِ، وَعَلَوْنَا أَهْلَ السَّمَاءِ! فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا فِي أَقْفَائِهِمْ فَيَقْتُلُهُمْ بِهَا ".(3/83)
قَالَ يَحْيَى: وَسُئِلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ؛ فَقَالَ: كَانَ عَبْدًا صَالِحًاَ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى الْإِيمَانِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ فَقَتَلُوهُ، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ، ثُمَّ دَعَا قَوْمَهُ أَيْضًا، فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ فَقَتَلُوهُ فَأَحْيَاهُ الله، فَسُمي: ذَا القرنين.
سُورَة الْكَهْف من (آيَة 99 آيَة 106) .(3/84)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بعض} يَعْنِي: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ السَّدِّ {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} وَالصُّورِ: قَرْنٌ يَنْفُخُ فِيهِ صَاحِبُ الصُّور.(3/84)
الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذكري} كَانَتْ عَلَى أَعْيُنِهِمْ غِشَاوَةُ الْكُفْرِ {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سمعا} أَيْ: لَا يَسْمَعُونَ الْهُدَى بِقُلُوبِهِمْ.(3/84)
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عبَادي من دوني أَوْلِيَاء} يَعْنِي: مَنْ عَبَدَ الْمَلَائِكَةَ، يَقُولُ: أَفَحَسِبُوا أَنْ تَتَوَلَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى ذَلِكَ؟ أَيْ: لَا يَتَوَلَّوْنَهُمْ؛ وَلَيْسَ بَهَذَا أَمَرْتُهُمْ، إِنَّمَا أَمَرْتُهُمْ أَنْ يَعْبُدُونِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا {إِنَّا أَعْتَدْنَا} أعددنا {جَهَنَّم للْكَافِرِينَ نزلا} أَيْ: مَنْزِلًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: أَعْتَدْتُ لِفُلَانٍ كَذَا؛ أَيْ: اتَّخَذْتُهُ عَتَادًا لَهُ، وَالْعَتَادُ أَصْلُهُ: مَا اتخذ ليمكث فِيهِ.(3/84)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا} هم أهل الْكتاب.(3/85)
أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)
{فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وزنا} هِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} .
سُورَة الْكَهْف من (آيَة 107 آيَة 110) .(3/85)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا} .
يَحْيَى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْءَمَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " الْفِرْدَوْسُ جَبَلٌ فِي الْجَنَّةِ تَنَفَجَّرُ مِنْهُ أَنْهَارُ الْجنَّة ".(3/85)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
{خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حولا} أَيْ: تَحَوُّلًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: قَدْ حَالَ مِنْ مَكَانِهِ حَوْلًا.(3/85)
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا} الْقَلَمُ يُسْتَمَدُّ مِنْهُ لِلْكِتَابِ {لِكَلِمَاتِ رَبِّي} أَيْ: لِعِلْمِ رَبِّي {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَو جِئْنَا بِمثلِهِ مدَدا}(3/85)
أَي: آخر مثله من بَاب المدد.
قَالَ مُحَمَّد: (مدَدا) مَنْصُوب على التَّمْيِيز.(3/86)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد} وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لَهُ: مَا أَنْتَ إِلَّا بَشْرٌ مِثْلُنَا. فَقَالَ اللَّهُ: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاء ربه} أَيْ: يَخَافُ الْبَعْثَ {فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أحدا} أَيْ: يُخْلِصُ لَهُ الْعَمَلَ.
يَحْيَى: عَنِ الْفُرَاتِ بْنِ سَلْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ طَاوُسٍ، أَن رجلا قَالَ: " يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي رَجُلٌ أَقِفُ الْمَوَاقِفَ أُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، وَأُحِبُّ أَنْ يُرَى مَكَانِي! فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام شَيْئًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاء ربه} إِلَى آخِرِهَا ".(3/86)
تَفْسِيرُ سُوْرَةِ مَرْيَمَ وَهِيَ مَكِّيَةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَة مَرْيَم من (آيَة 1 آيَة 11) .(3/87)
كهيعص (1)
قَوْله: {كهيعص} كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: لَا أَدْرِي مَا تَفْسِيرُهُ، غَيْرَ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانُوا يَقُولُونَ: أَسْمَاءُ السُّوَرِ وَفَوَاتِحُهَا.(3/87)
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)
قَالَ يَحْيَى: [ثُمَّ ابْتَدَأَ] الْكَلَامَ فَقَالَ: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} يَقُولُ: ذِكْرُهُ لِزَكَرِيَّا رَحْمَةً مِنْهُ لَهُ(3/87)
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)
{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} (ل 201) أَي: سرا(3/87)
قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مني} أَيْ: ضَعُفَ {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} .(3/87)
قَالَ مُحَمَّد: (شيبا) مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ. {وَلَمْ أَكُنْ بدعائك رب شقيا} أَيْ: لَمْ أَزَلْ بِدُعَائِي إِيَّاكَ سعيدا(3/88)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)
{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} يَعْنِي: الْعَصَبَةَ الَّذِينَ [يَرِثُونِي] {مِنْ ورائي} مِنْ بَعْدِيَ؛ فَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ مِنْ صُلْبِهِ مَنْ يَرِثُ مَالَهُ؛ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عاقرا} أَيْ: لَمْ تَلِدْ {فَهَبْ لِي من لَدُنْك} من عنْدك {وليا} يَعْنِي ولدا(3/88)
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
{يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} أَيْ: يَرِثُ مُلْكَهُمْ وَسُلْطَانَهُمْ؛ كَانَتِ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ لَيْسَ يَعْنِي: يَعْقُوبَ الْأَكْبَرَ؛ يَعْقُوبَ دُونَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (يَرِثنِي وَيَرِث) بِالَّرَفْعِ جَعَلَهُ كَالْنَعْتِ لِلْوَلِيِّ؛ الْمَعْنَى: هَبْ لِي الَّذِي يَرِثُنِي.
وَمِنْ قَرَأَهَا بِالْجَزْمِ (يَرِثْنِي وَيَرِثْ مِنْ آل) فعلى جَوَاب الْأَمر.(3/88)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
{اسْمه يحيى} قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سميا} قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ: لَمْ يُسَمَّ أحد قبله يحيى(3/88)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَام} مِنْ أَيْنَ يَكُونُ لِي وَلَدٌ {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} أَيْ: (يُبْسًا) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْ يَبُسَ: عَتَا يعتو عتيا، وعتوا.(3/88)
قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَليّ هَين} قَالَ لَهُ الْمَلَكُ: (كَذَلِكَ قَالَ رَبك هُوَ(3/88)
عَليّ هَين} أُعْطِيكَ هَذَا الْوَلَدَ؛ وَهُوَ كَلَامٌ مَوْصُولٌ أَخْبَرَ بِهِ الْمَلَكُ عَنِ الله(3/89)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
{قَالَ} {زَكَرِيَّا} (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} عَلَامَةً {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاس ثَلَاث لَيَال سويا} يَعْنِي: صَحِيحًا لَا يَمْنَعُكَ الْكَلَامَ مَرَضٌ. قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا عُوْقِبَ؛ لِأَنَّهُ سَأَلَ الْآيَة بعد مَا (شَافَهَتْهُ الْمَلَائِكَةُ) وَبَشَّرَتْهُ بِيَحْيَى، فَأُخِذَ عَلَيْهِ لِسَانُهُ، فَجَعَلَ لَا يُبِينُ الْكَلَام(3/89)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} يَعْنِي: الْمَسْجِد {فَأوحى إِلَيْهِم} أَشَارَ إِلَيْهِمْ {أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وعشيا} أَيْ: صَلُّوا لِلَّهِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ.
سُورَة مَرْيَم من (آيَة 12 آيَة 15) .(3/89)
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} أَيْ: بِجِدٍ وَمُوَاظَبَةٍ {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبيا} يَعْنِي: الْفَهْمَ وَالْعَقْلَ.
قَالَ يَحْيَى: بَلَغَنَا أَنَّهُ كَانَ فِي صِغَرِهِ يَقُولُ لَهُ الصِّبْيَانُ: يَا يَحْيَى تعال نَلْعَبُ. فَيَقُولُ: لَيْسَ لِلَّعِبِ خُلِقْنَا!(3/89)
وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)
{وَحَنَانًا من لدنا} أَيْ: أَعْطَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْحَنَانُ أَصْلُهُ: الْعَطْفُ وَالرَّحْمَةُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(فَقَالَتْ حَنَانٌ مَا أَتَى بِكَ هَا هُنَا ... أَذُو نَسَبٍ أَمْ أَنْتَ بالحي عَارِف؟)(3/89)
قَوْله: (حنان) ؛ أَيْ: أَمْرُنَا حَنَانٌ: عَطْفٌ وَرَحْمَةٌ. {وَزَكَاة} قَالَ قَتَادَةُ: الزَّكَاةُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ {وَكَانَ تقيا} .
يحيى: عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ إِلَّا قَدْ أَصَابَ ذَنْبًا أَوْ هَمَّ بِهِ، غَيْرَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا لَمْ يُصِبْ ذَنْبًا، وَلم يهم بِهِ ".(3/90)
وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)
{وَبرا بِوَالِديهِ} أَيْ: مُطِيعًا لَهُمَا {وَلَمْ يَكُنْ جبارا عصيا} أَيْ: مُسْتَكْبِرًا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ(3/90)
وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
{وَسَلام عَلَيْهِ يَوْم ولد} يَعْنِي: حِينَ وُلِدَ {وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْم يبْعَث حَيا} يَوْم الْقِيَامَة.
سُورَة مَرْيَم من (آيَة 16 آيَة 25) .(3/90)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)
{وَاذْكُر فِي الْكتاب} يَقُولُ للنَّبِيِّ: اقْرَأْ عَلَيْهِمْ أَمْرَ مَرْيَم {إِذْ انتبذت} يَعْنِي: إِذِ انْفَرَدَتْ {مِنْ أَهْلِهَا مَكَانا شرقيا} إِلَى قَوْله: {تقيا} كَانَ زَكَرِيَّا كِفْلُ مَرْيَمَ، وَكَانَتْ أُخْتُهَا تَحْتَهُ، وَكَانَتْ تَكُونُ فِي الْمِحْرَابِ، فَلَمَّا أَدْرَكَتْ، كَانَتْ إِذَا حَاضَتْ أَخْرَجَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ إِلَى أُخْتِهَا، وَإِذَا طَهُرَتْ رَجَعَتْ إِلَى الْمِحْرَابِ، فَطَهُرَتْ مَرَّةً، فَلَمَّا فَرَغَتْ مِنْ غُسْلِهَا قَعَدَتْ فِي مَشْرَفَةٍ فِي نَاحِيَةِ الدَّارِ، وَعَلَّقَتْ عَلَيْهَا [ثَوْبًا] سُتْرَةً؛ فَجَاءَ جِبْرِيلُ إِلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي صُورَةِ آدمى،(3/91)
قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)
فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنْ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} قَالَ الْحَسَنُ: تَقُولُ: إِنْ كُنْتَ تقيا لله فاجتنبني(3/91)
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)
{قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِيهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} أَيْ: صَالحا(3/91)
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
{قَالَت أَنى يكون} مِنْ أَيْنَ يَكُونُ {لِي غُلامٌ وَلم يمسسني بشر} أَيْ: يُجَامِعْنِي زَوْجٌ {وَلَمْ أَكُ بغيا} (ل 202) أَي: زَانِيَة(3/91)
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
{قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَليّ هَين} أَنْ أَخْلُقَهُ {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَة منا} أَيْ: لِمَنْ قَبِلَ دِينَهُ {وَكَانَ أمرا مقضيا} يَعْنِي: كَانَ عِيسَى أَمْرًا مِنَ اللَّهِ مَكْتُوبًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنَّهُ يَكُونُ. فَأَخَذَ جِبْرِيلُ جَيْبَهَا بِأُصْبَعِهِ فَنَفَخَ فِيهِ، فَصَارَ إِلَى بَطْنِهَا، فَحَمَلَتْ. قَالَ الْحَسَنُ: حَمَلَتْهُ تِسْعَة أشهر فِي بَطنهَا(3/91)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
{فانتبذت بِهِ مَكَانا قصيا} أَيْ: انْفَرَدَتْ بِهِ فِي مَكَانٍ شاسع(3/92)
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
{فأجاءها الْمَخَاض} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: أَلْجَأَهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ: الْمَجِيءِ؛ يُقَالُ: {جَاءَتْ بِي} الْحَاجَةُ إِلَيْكَ، وَأَجَاءَتْنِي الْحَاجَةُ إِلَيْكَ؛ قَالَ زُهَيْرٌ:
(وَجَارٍ سَارَ مُعْتَمِدًا عَلَيْكُمْ ... أَجَاءَتْهُ الْمَخَافَةُ وَالرَّجَاءُ)
وَالْمَخَاضُ: دُنُوُّ الْوِلَادَةِ، يُقَالُ: مَخَضَتِ الْمَرْأَةُ ومَخِضَتْ. {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكنت نسيا منسيا} قَالَ قَتَادَةُ: تَعْنِي شَيْئًا لَا يُعْرَفُ، وَلَا يُذْكَرُ؛ قَالَتْ هَذَا مِمَّا خَشِيَتْ مِنَ الْفَضِيحَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: النَّسْيُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَصْلُهُ الشَّيْءُ الْحَقِيرُ؛ الَّذِي إِذَا ألقِي نسي غَفلَة عَنهُ.(3/92)
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
{فناداها من تحتهَا} قَالَ قَتَادَةُ: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهُ جِبْرِيلُ.
قَالَ يَحْيَى: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: {فناداها من تحتهَا} يَعْنِي: عِيسَى.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا [يَحْيَى] كَيْفَ الْقِرَاءَةُ فِي قَوْله: (من تحتهَا) وَذَكَرَ(3/92)
أَبُو عُبَيْدٍ: أَنَّهَا تُقْرَأُ (مِنْ تَحْتِهَا) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالتَّاءِ الَّتِي بَعْدَ الْحَاءِ، وَتُقْرَأْ أَيْضًا بِفَتْحِهِمَا؛ فَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ؛ فَتَأْوِيلَهَا: أَنَّ جِبْرِيلَ نَادَاهَا، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالْفَتْحِ فَتَأْوِيلَهَا: عِيسَى هُوَ الَّذِي نَادَاهَا. {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتك سريا} السَّرِيُّ: الْجَدْوَلُ، وَهُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ(3/93)
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)
{وهزي إِلَيْك بجزع النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} أَيْ: حِينَ اجْتُنِيَ، وَكَانَ الْجِذْعُ يَابسا.
سُورَة مَرْيَم من (آيَة 26 آيَة 38) .(3/93)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
{فكلي واشربي وقري عينا} .(3/93)
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: قَرَرْتُ بِهِ عَيْنًا أَقَرُّ بِفَتْحِ الْقَافِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قُرُورًا، وَقَرَرْتُ فِي الْمَكَانِ أَقِرُّ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَ (عَيْنًا) مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ. {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نذرت للرحمن صوما} أَيْ: صَمْتًا {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إنسيا} أُذِنَ لَهَا فِي هَذَا الْكَلَامُ، وَكَانَتْ آيَةً جَعَلَهَا اللَّهُ لَهَا يَوْمَئِذٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ لِلْمُمْسِكِ عَنِ الطَّعَامِ أَوِ الْكَلَامِ: صَائِمٌ.(3/94)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)
{لقد جِئْت شَيْئا فريا} أَيْ: عَظِيمًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: فُلَانٌ يَفْرِي الْفَرْيَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَوْ قَالَ قَوْلًا فَبَالَغَ فِيهِ؛ كَانَ فِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:
(أَلَا رُبَّ مَنْ يَدْعُو صَدِيقًا وَلَوْ تَرَى ... مَقَالَتَهُ بِالْغَيْبِ سَاءَكَ مَا يَفْرِي)(3/94)
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
قَوْلُهُ: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبوك امْرأ سوء} أَيْ: مَا كَانَ زَانِيًا. قَالَ قَتَادَةُ: لَيْسَ بِهَارُونَ أَخِي مُوسَى، وَلَكِنَّهُ هَارُونُ آخَرُ كَانَ يُسَمَّى هَارُونَ الصَّالِحَ الْمُحَبَّبَ فِي عَشِيرَتِهِ، الْمَعْنَى: يَا شَبِيهَةَ هَارُونَ فِي عِبَادَته وفضله.(3/94)
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} بِيَدِهَا قَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَتْهُمْ بِكَلَامِهِ {قَالُوا كَيفَ نُكَلِّم} أَيْ:(3/94)
كَيفَ نُكَلِّم {من كَانَ} أَي: من هُوَ {من المهد صَبيا} وَالْمَهْدُ: الْحِجْرُ؛ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ.(3/95)
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)
{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كنت} يَقُول: جعلني معلما مؤدبا(3/95)
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)
{وَلم يَجْعَلنِي جبارا} أَيْ: مُسْتَكْبِرًا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ(3/95)
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
{وَالسَّلَام عَليّ يَوْم ولدت} الْآيَةُ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ حَتَّى بَلَغَ مَبْلَغَ الْغِلْمَانَ(3/95)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)
{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحق} قَالَ الْحَسَنُ: الْحَقُّ: هُوَ اللَّهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (قَوْلُ) بِالرَّفْعِ؛ فَالْمَعْنَى: هُوَ قَوْلُ الْحَقِّ. {الَّذِي فِيهِ يمترون} قَالَ قَتَادَةُ: امْتَرَتْ فِيهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؛ أَمَّا الْيَهُودُ؛ فَزَعَمُوا أَنَّهُ سَاحِرٌ كَذَّابٌ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَزَعَمُوا أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [وإله](3/95)
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)
{مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ من ولد سُبْحَانَهُ} (ل 203) يُنَزِّهُ نَفْسَهُ عَمَّا يَقُولُونَ {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كن فَيكون} [يَعْنِي: عِيسَى] كَانَ فِي عِلْمِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: {أَنْ يَتَّخِذَ من ولد} الْمَعْنَى: أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا وَمِنْ مُؤَكدَة.(3/95)
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)
{وَإِن الله رَبِّي وربكم} الآيَةَ، هَذَا قَوْلُ عِيسَى لَهُمْ(3/95)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
{فَاخْتلف الْأَحْزَاب من بَينهم} يَعْنِي: النَّصَارَى؛ فَتَجَادَلُوا فِي عِيسَى؛ فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَمَ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: اللَّهُ إِلَهٌ، وَعِيسَى إِلَهٌ، وَمَرْيَمُ إِلَهٌ.(3/95)
قَالَ اللَّهُ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أَسْمِعْ بهم وَأبْصر يَوْم يأتوننا} وَذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: مَا أسمعهم يَوْمئِذٍ وَمَا أَبْصَرَهُمْ؛ سَمِعُوا حِينَ لَمْ يَنْفَعْهُمُ السَّمَعُ، وَأَبْصَرُوا حِينَ لَمْ يَنْفَعهُمْ الْبَصَر.
سُورَة مَرْيَم من (آيَة 39 آيَة 45) .(3/96)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمر} يَعْنِي: إِذْ وَجَبَ الْعَذَابُ فَوَقَعَ بِأَهْلِ النَّارِ.
يَحْيَى: عَنْ صَاحِبٍ لَهُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي الزَّعْرَاءَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ أَنَّهُ ذَكَرَ حَدِيثًا فِي الْبَعْثِ؛ قَالَ: " فَلَيْسَ مِنْ نَفْسٍ إِلَّا وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَى بَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ وَبَيْتٍ فِي النَّارِ. قَالَ: وَهُوَ يَوْمُ الْحَسْرَةِ، فَيَرَى أَهْلُ النَّارِ الْبَيْتَ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: لَوْ عَمِلْتُمْ؛ فَتَأَخْذُهُمُ الْحَسْرَةُ، وَيَرَى أَهْلُ الْجَنَّةِ الْبَيْتَ الَّذِي فِي النَّارِ، قَالَ: فَيُقَالُ لَهُمْ: لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ".(3/96)
{وهم فِي غَفلَة} فِي الدُّنْيَا؛ وَهَذَا كَلَامٌ مُسْتَقْبَلٌ {وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .(3/97)
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} أَيْ: نُهْلِكَ الْأَرْضِ وَمِنْ عَلَيْهَا {وإلينا يرجعُونَ} يَوْم الْقِيَامَة.(3/97)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)
{وَاذْكُر فِي الْكتاب إِبْرَاهِيم} أَي: اقرأه عَلَيْهِم(3/97)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)
{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يبصر} يَعْنِي: الْأَصْنَام(3/97)
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)
{يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} أَيْ: إِنَّ عِبَادَةَ الْوَثَنِ عِبَادَةٌ الشَّيْطَان.(3/97)
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
{يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ للشَّيْطَان وليا} أَيْ: إِذَا نَزَلَ بِكَ الْعَذَابُ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُكَ، وَمَا لَمْ يَنْزِلْ بِكَ فَتَوْبَتُكَ مَقْبُولَةٌ إِنْ تُبْتَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (يَا أَبَتِ) الْوَقْفُ عَلَيْهِ بِالْهَاءِ: (يَا أَبَهْ) الْهَاءُ عِوَضٌ مِنْ يَاءِ الْإِضَافَةِ.
سُورَة مَرْيَم من (آيَة 46 آيَة 51) .(3/97)
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيم} أَنْ تَعْبُدَهَا {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ} عَن شتمها وذمها {لأرجمنك} أَيْ: بِالْحِجَارَةِ فَلَأَقْتُلَنَّكَ بِهَا.
وَقَالَ السّديّ: معنى (لأرجمنك) : لَأَشْتِمَنَّكَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: تَقُولُ الْعَرَبُ: فُلَانٌ يَرْمِي فُلَانًا، وَفُلَانٌ يَرْجُمُ فُلَانًا؛ بِمَعْنًى وَاحِدٍ؛ يُرِيدُونَ الشَّتْمَ. {واهجرني مَلِيًّا} يَعْنِي: طَويلا(3/98)
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)
{قَالَ سَلام عَلَيْك} إِبْرَاهِيمُ يَقُولُهُ، قَالَ الْحَسَنُ: هَذِهِ كَلِمَةُ حِلْمٍ {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّه كَانَ بِي حفيا} .
قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي: رَحِيمًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَطِيفًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: حَفِيَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ حِفْوَةً وَحَفَاوَةً؛ إِذَا بره وألطفه.(3/98)
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
{عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شقيا} أَيْ: عَسَى أَنْ أَسْعَدَ بِهِ(3/98)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عليا} أَيْ: رَفِيعًا؛ يَعْنِي: الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ من بعدهمْ.
سُورَة مَرْيَم من (آيَة 51 آيَة 57) .(3/98)
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} أَيمن الْجَبَل {وقربناه نجيا} يَعْنِي: حِينَ كَلَّمَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (نجيا) يَعْنِي: مناجيا.(3/99)
وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
{وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُون نَبيا} جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ وَزِيرًا، وَأَشْرَكَهُ مَعَه فِي الرسَالَة) .(3/99)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)
{إِنَّه كَانَ صَادِق الْوَعْد} .
يَحْيَى: عَنْ أَبَانٍ الْعَطَّارِ " أَنَّ إِسْمَاعِيلَ وَعَدَ رَجُلًا مَوْعِدًا؛ فَجَاءَ لِلْمَوْعِدِ فَلَمْ يَجِدِ الرَّجُلَ، فَأَقَامَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ حَوْلًا يَنْتَظِرُهُ ".(3/99)
وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
{وَكَانَ عِنْد ربه مرضيا} أَيْ: قَدْ رَضِيَ عَنْهُ [إِذِ ابتلاه بِالذبْحِ](3/99)
وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا} قَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يَمُتْ إِدْرِيسُ، بَلْ رُفِعَ كَمَا رُفِعَ عِيسَى.
سُورَة مَرْيَم من (آيَة 58 آيَة 64) .(3/99)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} بِالنُّبُوَّةِ {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حملنَا مَعَ نوح} وَكَانَ إِدْرِيسُ مِنْ وَلَدِ آدَمَ قَبْلَ نُوْحٍ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ ذُرِيَّةِ نُوحٍ قَالَ: {وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيم وَإِسْرَائِيل} وَهُوَ يَعْقُوب {وَمِمَّنْ هدينَا} للْإيمَان {واجتبينا} لِلنُّبُوَّةِ؛ يَعْنِي: اخْتَرْنَا {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وبكيا} جمع: (باك) (ل 204)(3/100)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
{فخلف من بعدهمْ خلف} قَالَ قَتَادَةُ يَعْنِي: اليَهُودَ {أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غيا} تَفْسِير ابْن مَسْعُود (غيا) : وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ (الْخَلْفِ) فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ(3/100)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)
{فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَن عباده بِالْغَيْبِ} الْغَيْبُ: الْآخِرَةُ؛ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ الْمَعْنَى: وَعَدَهُمْ فِي الدُّنْيَا الْجَنَّةَ فِي الْآخِرَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَتُقْرَأُ: (جَنَّاتٌ) بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى: هِيَ جَنَاتُ عَدْنٍ {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مأتيا} قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي: أَتِيًّا؛ وَهُوَ مَفْعُولٌ مِنَ الْإِتْيَانِ؛ فِي مَعْنَى فَاعل.(3/100)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
{لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا} أَي: بَاطِلا {إِلَّا سَلاما} أَيْ: إِلَّا خَيْرًا {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بكرَة وعشيا} أَيْ: وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ؛ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ، وَالْبُكْرَةُ وَالْعَشِيُّ سَاعَتَانِ مِنَ السَّاعَاتِ، وَلَيْسَ ثُمَّ لَيْلٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَيْسَ فِيهَا بُكْرَةٌ وَلَا عَشِيٌّ، وَلَكِنْ يُؤْتَوْنَ بِهِ عَلَى مَا كَانُوا يَشْتَهُونَ فِي الدُّنْيَا.(3/101)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: قَالَ: " هَذَا قَوْلُ جِبْرِيلَ حِينَ احْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام فِي بَعْضِ الْوَحْيِ؛ فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ: مَا جِئْتَ حَتَّى اشْتَقْتُ إِلَيْكَ؛ فَقَالَ جِبْرِيلُ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَين أَيْدِينَا} " يَعْنِي: مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ {وَمَا خلفنا} مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا؛ أَيْ: إِذَا كُنَّا فِي الْآخِرَةِ. {وَمَا بَيْنَ ذَلِك} قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي: الْبَرْزَخُ؛ مَا بَين النفختين.
سُورَة مَرْيَم من (آيَة 65 72)(3/101)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
{هَل تعلم لَهُ سميا} أَيْ: مَثَلًا؛ أَيْ: أَنَّكَ لَا تعلمه، و (سميا) هُوَ من: المساماة(3/102)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)
{وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لسوف أخرج حَيا} هُوَ الْمُشرك يكذب بِالْبَعْثِ.(3/102)
أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)
قَالَ الله {أَو لَا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قبل وَلم يَك شَيْئا} فَالَّذِي خَلَقَهُ، وَلَمْ يَكُ شَيْئًا قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَبْعَثَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة،(3/102)
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)
ثمَّ أقسم بِنَفسِهِ؛ فَقَالَ: {فو رَبك لنحشرنهم} يَعْنِي: الْمُشْركين {وَالشَّيَاطِين} الَّذِينَ دَعَتْهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: عَلَى رُكَبِهِمْ.
قَالَ مُحَمَّد: (جثيا) جَمْعُ (جَاثٍ) ، وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَال.(3/102)
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)
{ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} يَعْنِي: مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ {أَيُّهُمْ أَشد على الرَّحْمَن عتيا} .
قَالَ مُحَمَّد: (أَيهمْ) بِالرَّفْعِ، وَهِيَ أَكْثَرُ الْقِرَاءَةِ؛ عَلَى مَعْنَى: الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ: أَيُّهُمْ أَشَدُّ. قِيلَ: الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِالْتَعْذِيبِ بِأَشَدِّهِمْ عِتِيًا، ثمَّ الَّذِي يَلِيهِ(3/102)
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
{ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أولى بهَا صليا} يَعْنِي: الَّذين يصلونها(3/102)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ على رَبك حتما مقضيا} .
يَحْيَى: عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا واردها} قَالَ: " الصِّرَاطُ عَلَى جَهَنَّمَ مِثْلُ حَدِّ السَّيْفِ، وَالْمَلَائِكَةُ مَعَهُمْ كَلَالِيبُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا وَقَعَ رَجُلٌ اخْتَطَفُوهُ؛ فَيَمُرُّ الصَّفُّ الْأَوَّلُ كَالْبَرْقِ، وَالثَّانِي كَالرِّيحِ، وَالثَّالِثُ كَأَجْوَدِ(3/102)
الْخَيْلِ، وَالرَّابِعُ كَأَجْوَدِ الْبَهَائِمِ، وَالْمَلَائِكَةُ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ ".
وَتَفْسِيرُ الْحسن: {إِلَّا واردها} إِلَّا دَاخِلُهَا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بَرْدًا وَسَلَامًا؛ كَمَا جَعَلَهَا على إِبْرَاهِيم.
سُورَة مَرْيَم من (آيَة 73 آيَة 76) .(3/103)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
{قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَي الْفَرِيقَيْنِ} نَحْنُ أَوْ أَنْتُمْ؟ {خَيْرٌ مَقَامًا وَأحسن نديا} الْمَقَامُ: الْمَسْكَنُ، وَالنَّدِيُّ: الْمَجْلِسُ.
قَالَ قَتَادَة: رَأَوْا أَصْحَاب النَّبِي فِي عَيْشِهِمْ خُشُونَةً، فَقَالُوا لَهُمْ ذَلِك.(3/103)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
قَالَ اللَّهُ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا} أَي: مَتَاعا {ورئيا} أَيْ: مَنْظَرًا؛ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهَا مَهْمُوزَةً، وَمَنْ قَرَأَهَا بِغَيْرِ هَمْزٍ (وَرِيًّا) فَهُوَ مِنْ(3/103)
قِبَلِ الرِّوَاءِ، وَإِنَّمَا عَيْشُ النَّاسِ بِالْمَطَرِ تَنْبُتُ زُرُوعُهُمْ، وَتَعِيشُ مَاشِيَتُهُمْ(3/104)
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
{قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ} هَذَا الَّذِي يَمُوتُ عَلَى ضَلَالَتِهِ {فليمدد لَهُ الرَّحْمَن مدا} هَذَا دُعَاءٌ أَمَرَ اللَّهُ النَّبِيَّ أَن يَدْعُو بِهِ؛ (ل 205) الْمَعْنَى: فَأَمَدَّ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدَّا. {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَاب وَإِمَّا السَّاعَة} يَعْنِي: إِمَّا الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ عَذَابِ الْآخِرَةِ، أَوِ الْعَذَابُ الأَكْبَرُ؛ لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًا إِلَّا وَهُوَ يُحَذِّرُ أُمَّتَهُ عَذَابَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، وَعَذَابَهُ فِي الْآخِرَة.
قَالَ مُحَمَّد: (الْعَذَاب) و (السَّاعَة) مَنْصُوبَانِ عَلَى مَعْنَى الْبَدَلِ مِنْ [مَا] يوعدون؛ الْمَعْنَى: إِذَا رَأُوا الْعَذَابَ أَوْ رَأُوا السَّاعَةَ، قَالَ: فَيُسْلِمُونَ عِنْدَ ذَلِكَ. {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا} أهم الْمُؤْمِنُونَ {وأضعف جندا} فِي النُّصْرَةِ وَالْمَنَعَةِ؛ أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ أَحَدٌ يَمْنَعُهُمْ مِنْ عَذَابِ الله(3/104)
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} يَعْنِي: يَزِيدَهُمْ إِيمَانًا {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الْفَرَائِضُ {خَيْرٌ عِنْد رَبك ثَوابًا} جَزَاءً فِي الْآخِرَةِ {وَخَيْرٌ مَرَدًّا} يَعْنِي: خَيْرٌ عَاقِبَةً مِنْ أَعْمَالِ الْكفَّار.
سُورَة مَرْيَم من (آيَة 77 آيَة 87) .(3/104)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَولدا} أَي: فِي الْآخِرَة(3/105)
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)
{أطلع الْغَيْب} عَلَى الِاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ: عَلِمَ مَا فِيهِ؛ أَيْ: لَمْ يَطَّلِعْ {أَمِ اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا} أَيْ: لَمْ يَفْعَلْ، وَالْعَهْدُ: التَّوْحِيدُ؛ فِي تَفْسِير بَعضهم.(3/105)
كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)
{كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ من الْعَذَاب مدا} هُوَ كَقَوْلِهِ: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عذَابا} .(3/105)
وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
{ونرثه مَا يَقُول} أَيْ: نَرِثُهُ مَالَهُ وَوَلَدَهُ الَّذِي قَالَ {ويأتينا فَردا} لَا شَيْءَ مَعَهُ.
يَحْيَى: عَنْ صَاحِبٍ لَهُ: عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: " كُنْتُ قَيْنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي عِنْدَهُ دَرَاهِمُ؛ فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ؛ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ. قَالَ: وَإِنِّي لَمَبْعُوثٌ؟ ! قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَسَيَكُونُ لِي ثَمَّ مَالٌ وَولد فَأَقْضِيك، فَأتيت النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ إِلَى قَوْله: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} .(3/105)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً ليكونوا لَهُم عزا} هُوَ كَقَوْلِهِ: (وَاتَّخَذُوا مِنْ(3/105)
دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} وَإِنَّمَا يَرْجُونَ مَنْفَعَةَ أَوْثَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا، لَا يقرونَ بِالآخِرَة.(3/106)
كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
قَالَ اللَّهُ: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} {فِي الْآخِرَةِ} (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [قُرَنَاءَ فِي النَّارِ] الْمَعْنَى: يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بعض؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة.(3/106)
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
{أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ يؤزهم أزا} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: تُزْعِجُهُمْ إِزْعَاجًا فِي مَعْصِيّة الله.(3/106)
فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
{فَلَا تعجل عَلَيْهِم} وَهَذَا وَعِيدٌ {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عدا} يَعْنِي: الْأَجَلَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كُتُبِ فِي أَوَّلِ الصَّحِيفَةِ أَجَلُهُ، ثُمَّ يُكْتَبُ أَسَفَلَ مِنْ ذَلِكَ ذَهَبَ يَوْمُ كَذَا، وَذَهَبَ يَوْمُ كَذَا؛ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى أَجله) .(3/106)
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)
{يَوْم نحشرالمتقين إِلَى الرَّحْمَن وَفْدًا} .
يَحْيَى: بَلَغَنِي عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ " أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ الله عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: هَلْ يَكُونُ الْوَافِدُ إِلَّا الرَّاكِبَ؟ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمُ اسْتُقْبِلُوا بِنُوقٍ بِيضٍ لَهَا أَجْنِحَةٌ عَلَيْهَا رَحَائِلُ الذَّهَبِ، كُلُّ خُطْوَةٍ مِنْهَا مَدَّ الْبَصَرِ ".(3/106)
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْوَفْدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الرُّكْبَانُ الْمُكَرَّمُونَ وَاحِدُهُمْ: وَافِدٌ(3/107)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)
{ونسوق الْمُجْرمين} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} أَيْ: عِطَاشًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: {وِرْدًا} أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ: الْجَمَاعَةُ يَرِدُونَ المَاء.(3/107)
لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
{لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا} قَالَ بَعضهم الْعَهْد: التَّوْحِيد.(3/107)
سُورَة مَرْيَم من (آيَة 88 - آيَة 98) .(3/108)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جئْتُمْ شَيْئا إدا} قَالَ (مُجَاهِد) : يَعْنِي عَظِيما(3/108)
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)
{يكَاد السَّمَوَات يتفطرن مِنْهُ} أَيْ: يَتَشَقَّقْنَ مِنْهُ {وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وتخر الْجبَال هدا} أَي: سقوطا(3/108)
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)
{ان دعوا} بِأَن دعوا {للرحمن ولدا} قَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ كَعْبًا قَالَ: غَضِبَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَسُعِّرَتْ جَهَنَّمُ حِين قَالُوا مَا قَالُوا.(3/108)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيجْعَلُ لَهُم الرَّحْمَن ودا} قَالَ قَتَادَةُ يَعْنِي: فِي قُلُوبِ أهل الْإِيمَان.
(ل 206) يَحْيَى: عَنْ مَنْدَلِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحَبَّهُ. قَالَ: فَيُنَادِي جِبْرِيلُ: (يَا أَهْلَ السَّمَاءِ) إِنَّ اللَّهَ(3/108)
يُحِبُّ فُلَانًا؛ فَأَحِبُّوهُ. قَالَ: ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ يَعْنِي: الْمَوَدَّةَ فِي الْأَرْضِ " قَالَ سُهَيْلٌ: وَأَحْسَبُهُ ذكر البغض مثل ذَلِك.(3/109)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)
{فَإِنَّمَا يسرناه} يَعْنِي: الْقُرْآن {بلسانك} يَا مُحَمَّدُ {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} بِالْجنَّةِ {وتنذر بِهِ} بالنَّار {قوما لدا} أَيْ: ذَوِي لَدَدٍ وَخُصُومَةٍ؛ يَعْنِي: قُريْشًا(3/109)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
{وَكم أهلكنا قبلهم} قَبْلَ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ {مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أحد} أَيْ: هَلْ تَرَى {أَوْ تَسْمَعُ لَهُم ركزا} يَعْنِي: صَوْتًا؟ أَيْ: إِنَّكَ لَا تَرَى مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلَا تَسْمَعُ لَهُمْ صَوْتًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الرِّكْزُ فِي اللُّغَةِ: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ.(3/109)
تَفْسِيرُ سُوْرَةِ طه وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَة طه من (آيَة 1 آيَة 8) .(3/110)
طه (1)
قَوْله: {طه} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: يَا رجل(3/110)
مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)
{مَا أنزلنَا عَلَيْك الْقُرْآن لتشقى} وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ: إِنَّه شقي(3/110)
إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)
{إِلَّا تذكرة لمن يخْشَى} يَقُولُ: إِنَّمَا (أَنْزَلَهُ) تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى اللَّهَ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَمْ يقبل التَّذْكِرَة(3/110)
تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)
{تَنْزِيلا} (أَيْ: أَنْزَلَهُ تَنْزِيلًا) {مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْض وَالسَّمَوَات الْعلَا} يَعْنِي: نَفسه.
قَالَ مُحَمَّد: (الْعلَا) جَمْعُ: الْعُلْيَا؛ يُقَالُ: سَمَاءٌ عُلْيَا، وسموات علا.(3/110)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحت الثرى} قَالَ أَبُو رَجَاء العطاري: الثَّرَى: الْأَرْضُ الَّتِي تَحْتَ الْمَاءِ الَّتِي يُسْتَقَرُّ عَلَيْهَا؛ فَهُوَ يَعْلَمُ مَا تَحت ذَلِك الثرى(3/110)
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
{وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرّ وأخفى} قَالَ قَتَادَةُ: السِّرُّ: مَا حَدَّثْتَ بِهِ نَفْسَكَ، وَأَخْفَى مِنْهُ: مَا هُوَ كَائِن مِمَّا لم يحدث بِهِ نَفسك.(3/110)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
{لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى} لله تِسْعَة وَتسْعُونَ اسْما.(3/110)
سُورَة طه من (آيَة 9 آيَة 12) .(3/111)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)
{وَهل أَتَاك حَدِيث مُوسَى} أَيْ: قَدْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى(3/111)
إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
{إِذْ رأى نَارا} أَيْ: عِنْدَ نَفْسِهِ (وَإِنَّمَا كَانَتْ نُورًا) {فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنست نَارا} أَيْ: رَأَيْتُ {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هدى} يَعْنِي: هُدَاةً يَهْدُونَهُ الطَّرِيقَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْقَبَسُ: مَا أَخَذْتَهُ فِي رَأْسِ عُودٍ مِنَ النَّارِ، أَوْ فِي رَأس فَتِيلَة.(3/111)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
قَالَ: {فَلَمَّا أَتَاهَا} أَيْ: النَّارَ الَّتِي ظَنَّهَا نَارًا {نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبك} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: تُقْرَأُ: (أَنِّي) بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ؛ الْفَتْحُ عَلَى مَعْنَى: نُودِيَ بِأَنِّي، وَالْكَسْرُ بِمَعْنَى: نُودِيَ: يَا مُوسَى، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: {إِنِّي أَنا رَبك فاخلع نعليك} قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ فَخَلَعَهُمَا {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدّس طوى} الْمُقَدَّسُ: الْمُبَارَكُ، وَطُوًى: اسْمُ الْوَادِي.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْقِرَاءَةُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ.(3/111)
سُورَة طه من (آيَة 13 آيَة 24) .(3/112)
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)
{وَأَنا اخْتَرْتُك} أَيْ: لِرِسَالَتِي وَلِكَلَامِي {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحى} إِلَيْك(3/112)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
{وأقم الصَّلَاة لذكري} فِي تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ: إِذَا صَلَّى العَبْد ذكر الله(3/112)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
{إِن السَّاعَة} يَعْنِي: الْقِيَامَةَ {آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ: (أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي) {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} يَقُولُ: إِنَّمَا تَجِيءُ السَّاعَةُ لِتُجْزَى كل نفس بِمَا تعْمل.(3/112)
فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
{فَلَا يصدنك عَنْهَا} أَيْ: عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا {مَنْ لَا يُؤمن بهَا} . {فتردى} أَي: تهْلك.(3/112)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} سَأَلَهُ عَنِ الْعَصَا الَّتِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا.(3/112)
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
قَالَ مُوسَى: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ يَخْبِطُ بِهَا وَرَقَ الشَّجَرِ. {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: حَوَائِجَ(3/112)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَاحِدُ الْمَآرِبِ: مَأْرُبَةٌ، ومأربة أَيْضا.(3/113)
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)
{فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} أَيْ: تَزْحَفُ عَلَى بَطْنِهَا بِسُرْعَةٍ.(3/113)
قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
{سنعيدها سيرتها الأولى} أَيْ: هَيْئَتَهَا الْأُولَى؛ يَعْنِي: عَصًا(3/113)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
{واضمم يدك إِلَى جناحك} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَمَرَهُ أَنْ يُدْخِلَ كَفه تَحت عضده (ل 207) {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ.
قَالَ الْحَسَنُ: أَخْرَجَهَا وَاللَّهِ كَأَنَّهَا مِصْبَاحٌ، فَعَلِمَ مُوسَى أَنْ قَدْ لَقِيَ رَبَّهُ. {آيَةً أُخْرَى لنريك من آيَاتنَا الْكُبْرَى} كَانَتِ الْيَدُ أَكْبَرُ مِنَ الْعَصَا.
قَالَ مُحَمَّد: (آيَة) بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى: نُرِيَكَ آيَةً أُخْرَى.
سُورَة طه من (آيَة 25 آيَة 36) .(3/113)
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)
{قَالَ} مُوسَى {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} دَعَا أَنْ يَشْرَحَ صَدْرَهُ لِلْإِيمَانِ.(3/113)
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
{وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً من لساني يفقهوا قولي} فَفَعَلَ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ، وَكَانَتِ الْعُقْدَةُ الَّتِي فِي لِسَانِهِ أَنَّهُ تَنَاوَلَ لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ وَهُوَ صَغِيرٌ فَهَمَّ بِقَتْلِهِ، وَقَالَ: هَذَا عَدُوٌّ لِي! فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: إِنَّ هَذَا صَغِيرٌ لَا يَعْقِلُ؛ فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ ذَلِكَ، فَادْعُ بِتَمْرَةٍ وَجَمْرَةٍ، فَاعْرِضْهُمَا عَلَيْهِ، فَأُتِيَ بِتَمْرَةٍ وَجَمْرَةٍ فَعَرَضَهُمَا(3/113)
عَلَيْهِ، فَتَنَاوَلَ الْجَمْرَةَ فَأَلْقَاهَا فِي فِيهِ، فَمِنْهَا كَانَتْ [تِلْكَ] الْعُقْدَةُ فِي لِسَانِهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي بالعقدة: رتة.(3/114)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29)
{وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} أَي: عوينا من أَهلِي(3/114)
هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
{هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} أَيْ: ظَهْرِي.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: أَزَرْتُ فُلَانًا عَلَى الْأَمْرِ؛ أَيْ: قَوَّيْتُهُ عَلَيْهِ، فَأَمَّا وَازَرْتُهُ: فَصِرْتُ لَهُ وزيرا.(3/114)
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)
{وأشركه فِي أَمْرِي} دَعَاءٌ مِنْ مُوسَى لِرَبِّهِ أَنْ يشركهُ فِي أمره.(3/114)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)
{قَالَ قد أُوتيت سؤلك} أَيْ: مَا سَأَلْتَ {يَا مُوسَى} .
سُورَة طه من (آيَة 37 آيَة 48) .(3/114)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38)
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} فَذِكْرُهُ النِّعْمَةَ الْأُولَى يَعْنِي: قَوْلَهُ: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحى} شَيْءٍ قُذِفَ فِي قَلْبِهَا أُلْهِمَتْهُ، وَلَيْسَ بِوَحْي نبوة(3/115)
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
{أَن اقذفيه فِي التابوت} أَيْ: اجْعَلِيهِ {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} فِي الْبَحْرِ {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} يَعْنِي: فِرْعَوْنَ {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مني} قَالَ قَتَادَةُ: أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ مَحَبَّةً مِنْهُ، فَأَحَبُّوهُ حِينَ رَأَوْهُ {ولتصنع على عَيْني} أَي: ولتغذى بمرأى مني.(3/115)
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} أَيْ: يَضُمُّهُ. قَالُوا: نَعَمْ. فَجَاءَتْ بِأُمِّهِ، فَقَبِلَ ثَدْيَهَا. {وَقَتَلْتَ نَفْسًا} يَعْنِي: الْقِبْطِيَّ الَّذِي كَانَ قَتَلَهُ خطأ {فنجيناك من الْغم} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: مِنَ الْخَوْفِ؛ فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ الْقَوْمُ، وَغَفَرْنَا لَكَ ذَلِكَ الذَّنْبُ {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} أَيِ: ابْتَلَيْنَاكَ ابْتِلَاءً؛ الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أهل مَدين} أَقَامَ بِمَدْيَنَ عِشْرِينَ سَنَةً {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} أَيْ: عَلَى مَوْعِدٍ؛ فِي تَفْسِيرِ مُجَاهِد.(3/115)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
{واصطنعتك لنَفْسي} اخْتَرْتُك.(3/115)
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
{وَلَا تنيا فِي ذكري} أَيْ: لَا تَضْعُفَا فِي الدُّعَاءِ إِلَيّ(3/115)
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)
{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} كفر(3/115)
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
{فقولا لَهُ قولا لينًا} سَمِعْتُ بَعْضَ الْكُوفِيِّينَ يَقُولُ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ: كَنِّيَاهُ {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يخْشَى} قَالَ السُّدِّيُّ: الْأَلِفُ هَا هُنَا(3/115)
صِلَةٌ يَقُولُ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ وَيَخْشَى.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (لَعَلَّ) فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهَا: التَّرَجِّي وَالطَّمَعُ، فَالْمَعْنَى: اذْهَبَا عَلَى رَجَائِكُمَا وَطَمَعِكُمَا؛ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ لَا يتَذَكَّر وَلَا يخْشَى.(3/116)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)
{قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يفرط علينا} أَي: يَجْعَل عَلَيْنَا عُقُوبَةً مِنْهُ {أَوْ أَنْ يطغى} فيقتلنا(3/116)
قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)
{قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وَأرى} يَقُولُ: لَيْسَ بِالَّذِي يَصِلُ إِلَى قتلكما.(3/116)
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)
{فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذبهُمْ} كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عِنْدَ الْقِبْطِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْجِزْيَةِ فِينَا {قَدْ جئْنَاك بِآيَة من رَبك} الْعَصَا وَالْيَدُ {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتبع الْهدى} .
قَالَ يحيى: كَانَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِذَا كَتَبَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَتَبَ: " السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ".
سُورَة طه من (آيَة 49 آيَة 54) .(3/116)
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَعْطَاهُ شَكْلَهُ، أَعْطَى الرَّجُلَ الْمَرْأَةَ، وَالْجَمَلَ النَّاقَةَ، وَالذَّكَرَ الْأُنْثَى {ثمَّ هدى} عرفه كَيفَ يَأْتِيهَا(3/117)
قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)
{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} الْمَعْنَى: دَعَاهُ مُوسَى إِلَى الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ، فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَدْ هَلَكَتْ فَلم تبْعَث(3/117)
قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)
{قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا ينسى} لَا يضله (ل 208) فَيَذْهَبَ، وَلَا يَنْسَى مَا فِيهِ؛ هَذَا تَفْسِيرُ الْحَسَنِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: من قَرَأَ (يضل) بِفَتْحِ الْيَاءِ، فَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: ضَلَلْتُ الشَّيْءَ أَضِلُّهُ؛ إِذَا جَعَلْتُهُ فِي مَكَانٍ لَمْ تَدْرِ أَيْنَ هُوَ.
وَمِنْ قَرَأَ (يُضِلُّ) بِضَمِّ الْيَاءِ، فَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: أَضْلَلْتُ الشَّيْء، وَمعنى أضللته: أضعته.(3/117)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا} أَيْ: بِسَاطًا {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سبلا} أَيْ: جَعَلَ لَكُمْ فِيهَا طُرُقًا {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا} أصنافا {من نَبَات شَتَّى} أَيْ: مُخْتَلِفٍ، فَالَّذِي يُنْبِتُ هَذِهِ الْأَزْوَاجِ الشَّتَّى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يبعثكم بعد الْمَوْت.(3/117)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)
{إِنَّ فِي ذَلِك لآيَات لأولي النهى} الْعُقُولِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَاحِدُ النُّهَى: نُهْيَةٌ، يُقَالُ: فُلَانٌ ذُو نُهْيَةٍ؛ أَيْ: ذُو عَقْلٍ يَنْتَهِي بِهِ عَن القبائح.
سُورَة طه من (آيَة 55 آيَة 64) .(3/118)
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
{وَلَقَد أريناه آيَاتنَا كلهَا} يَعْنِي: التسع.(3/118)
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58)
{فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: مُنْصَفًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي: يَكُونُ النِّصْفُ فِيمَا بَيْنَ المكانين.(3/118)
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
{قَالَ مَوْعدكُمْ يَوْم الزِّينَة} يَعْنِي: يَوْمُ عِيدٍ كَانَ لَهُمْ يَجْتَمعُونَ فِيهِ {ضحى}(3/118)
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)
{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ} يَعْنِي: مَا جمع من سحرة(3/118)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
{فيسحتكم بِعَذَاب} أَي: يستأصلكم(3/118)
فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)
{فتنازعوا أَمرهم بَينهم} أَيْ: تَنَاظَرُوا؛ يَعْنِي: السَّحَرَةَ(3/118)
{وأسروا النَّجْوَى} أَخْفُوُا الْكَلَامَ، قَالَتِ السَّحَرَةُ: إِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ سَاحِرًا؛ فَإِنَّا سَنَغْلِبُهُ، وَإِنْ يَكُ مِنَ السَّمَاءِ كَمَا زعم فَلهُ أَمر.(3/119)
قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)
{إِن هَذَانِ لساحران} يَعْنِي: مُوسَى وَهَارُونَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْله: {هَذَانِ} بِالرَّفْعِ؛ ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهَا لُغَةٌ لِكِنَانَةَ؛ يَجْعَلُونَ أَلْفَ الِاثْنَيْنِ فِي الرَّفْعِ وَالْخَفْضِ وَالنَّصْبِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَلِأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ، وَاخْتِلَافٌ يَطُولُ ذِكْرُهُ، غَيْرُ الَّذِي ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ. {ويذهبا بطريقتكم المثلى} أَيْ: بِعَيْشِكُمُ الْأَمْثَلِ؛ يَعْنِي: بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْقِبْطِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْجِزْيَةِ فِينَا؛ يَأْخُذُونَ مِنْهُم الْخراج ويستعبدونهم(3/119)
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
{فَأَجْمعُوا كيدكم} أَيْ: سِحْرَكُمْ، يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ {ثمَّ ائتو صفا} أَيْ: تَعَالُوا جَمِيعًا {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْم من استعلى} غلب.
سُورَة طه من (آيَة 65 آيَة 76) .(3/119)
قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)
{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسْعَى} أَي: أَنَّهَا حيات تسْعَى(3/120)
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)
{فأوجس فِي نَفسه} أضمر.(3/120)
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)
{تلقف مَا صَنَعُوا} أَيْ: تَبْتَلِعُهُ بِفِيهَا. {إِنَّمَا صَنَعُوا} أَيْ: أَنَّ الَّذِي صَنَعُوا {كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} حَيْثُ كَانَ.(3/120)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
{إِنَّه لكبيركم} فِي السِّحْرِ؛ أَيْ: عَالِمُكُمْ {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيكُم وأرجلكم من خلاف} الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيّنَا} يَعْنِي: أَنَا أَوْ مُوسَى {أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} .(3/120)
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)
{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} أَيْ: وَعَلَى الَّذِي خَلَقَنَا. {إِنَّمَا تقضي هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا} قَالَ السُّدِّيُّ يَقُول: افْعَلْ فِي أَمْرِنَا مَا أَنْتَ فَاعِلٌ، إِنَّمَا تَفْعَلُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا(3/120)
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
{وَالله خير} مِنْكَ يَا فِرْعَوْنُ {وَأَبْقَى} .(3/120)
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)
{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} أَيْ: مُشْرِكًا {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} .(3/120)
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)
{وَمن يَأْته مُؤمنا} إِلَى قَوْله: {من تزكّى} أَي: من آمن.
سُورَة طه من (آيَة 77 آيَة 89) .(3/121)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)
{فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يبسا} قَالَ الْحَسَنُ: أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَى فَرَسٍ؛ فَأَمَرَهُ فَضَرَبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، فَصَارَ طَرِيقًا يَبَسًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي: ذَا يَبَسٍ.
قَالَ يَحْيَى: بَلَغَنِي أَنَّهُ صَارَ اثْنَى عَشْرَ طَرِيقًا، لِكُلِّ سِبْطٍ طَرِيقٌ.(3/121)
{لَا تخَاف دركا} أَنْ يُدْرِكَكَ فِرْعَوْنُ {وَلا تَخْشَى} الْغَرق أمامك(3/122)
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)
{فأتبعهم فِرْعَوْن بجُنُوده} قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي: لَحِقَهُمْ {فَغَشِيَهُمْ من اليم مَا غشيهم} يَقُول: فَغَرقُوا.(3/122)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)
{وواعدناكم} يَعْنِي: مُوَاعَدَتَهُ لِمُوسَى {جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمن} يَعْنِي: أَيْمَنَ الْجَبَلِ {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنّ والسلوى} وَقد مضى تَفْسِيره.(3/122)
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)
{وَلَا تطغوا فِيهِ} أَيْ: لَا تَعْصُوا اللَّهَ فِي رَفْعِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَكَانُوا أُمِرُوا أَلَا يَأْخُذُوا مِنْهُ لِغَدٍ، وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ هَذَا {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبي} أَي: (ل 209) فَيَجِبَ {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فقد هوى} فِي النَّار.(3/122)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
{وَإِنِّي لغفار لمن تَابَ} مِنَ الشِّرْكِ {وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثمَّ اهْتَدَى} مَضَى بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ حَتَّى يَمُوتَ.(3/122)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83)
{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي: السَّبْعِينَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ؛ فَذَهَبُوا مَعَه لِلْمِيعَادِ(3/122)
قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)
{قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي} أَيْ: يَنْتَظِرُونَنِي بِالَّذِي آتِيهِمْ بِهِ، وَلَيْسَ يَعْنِي أَنهم يتبعونه.(3/122)
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)
{قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ من بعْدك} أَي: ابتليناهم.(3/122)
فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أسفا} أَيْ: حَزِينًا شَدِيدَ الْحُزْنِ مَعَ غَضَبِهِ عَلَى مَا صَنَعَ قَوْمُهُ مِنْ بَعْدَهُ {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} فِي الْآخِرَةِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِدِينِهِ {أفطال عَلَيْكُم الْعَهْد} يَعْنِي: الْموعد(3/122)
قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)
{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} أَيْ: بِطَاقَتِنَا إِلَى قَوْلِهِ: {فَنَسِيَ} .
قَالَ يَحْيَى: كَانَ وَعْدُهُمْ مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَعَدُّوا عِشْرِينَ يَوْمًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَقَالُوا: هَذِهِ أَرْبَعُونَ، فَقَدْ أَخْلَفَنَا مُوسَى الْوَعْدَ، وَكَانُوا اسْتَعَارُوا مِنْ(3/122)
آلِ فِرْعَوْنَ حُلِيًّا لَهُمْ [أَظُنُّهُ] لِيَوْمِ الْعِيدِ، وَكَانُوا قَدْ أُمِرُوا أَنْ يُسْرَى بِهِمْ لَيْلًا، فَكَرِهَ الْقَوْمُ أَنْ يَرُدُّوا الْعَوَارِيَ عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ، فَيَفْطِنُوا لَهُمْ، فَأَسْرُوا مِنَ اللَّيْلِ وَالْعَوَارِي مَعَهُمْ؛ وَهِيَ الْأَوْزَارُ الَّتِي قَالُوا: {حُمِّلْنَا أَوْزَارًا} أَيْ: أَثْقَالًا، فَقَالَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ بعد مَا مَضَت عشرُون يَوْمًا وَعشْرين لَيْلَةً: إِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ بَهَذَا الْحُلِيِّ فَهَاتُوهُ. وَأَلْقَى مَا مَعَهُ مِنَ الْحُلِيِّ، وَأَلْقَى الْقَوْمُ مَا مَعَهُمْ، فَصَاغَهُ عِجْلًا، ثُمَّ أَلْقَى فِي فِيهِ التُّرَابَ الَّذِي كَانَ أَخَذَهُ مِنْ تَحْتِ حَافِرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ يَوْمَ جَازَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَجَعَلَ يَخُورُ خُوَارَ الْبَقَرَةِ؛ فَقَالَ عَدُوُّ اللَّهِ: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فنسي} أَيْ: نَسِيَ مُوسَى، الْمَعْنَى: أَنَّ مُوسَى طَلَبَ هَذَا وَلَكِنَّهُ (نَسِيَهُ) وَخَالفهُ فِي طَرِيق آخر؛(3/123)
أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
قَالَ اللَّهُ: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يرجع إِلَيْهِم قولا} يَعْنِي: الْعِجْلَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (أَلا يرجع) بِالرَّفْعِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ {وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نفعا} .
سُورَة طه من (آيَة 90 آيَة 98) .(3/123)
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)
{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قبل} أَيْ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ مُوسَى حِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ} يَعْنِي: الْعِجْلَ {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي}(3/124)
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)
{قَالُوا لن نَبْرَح} أَيْ: لَنْ نَزَالَ {عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} نَعْبُدُهُ {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} .(3/124)
قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
{قَالَ يَا ابْن أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ ترقب قولي} أَي: وَلم تنْتَظر مِيعَادِي، وَقَدِ اسْتَخْلَفْتُكَ فِيهِمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (يَا ابْنَ أُمَّ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَمَوْضِعُهَا جَرٌّ فَإِنَّمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ (ابْنَ وأُمَّ) جُعِلَا شَيْئًا وَاحِدًا، وَبُنِيَا عَلَى الْفَتْح مثل خَمْسَة عشر.(3/124)
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95)
{قَالَ} ثُمَّ أَقْبَلَ مُوسَى عَلَى السَّامِرِيِّ؛ فَقَالَ لَهُ: {فَمَا خَطبك} أَيْ: مَا حُجَّتُكَ {يَا سَامِرِيُّ}(3/124)
قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
{قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} يَعْنِي: بَنِي إِسْرَائِيَلَ، وَكَانَ الَّذِي رَأَى: فَرَسَ جِبْرِيلَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَقُولُ أَهْلُ اللُّغَةِ: بَصُرَ الرَّجُلُ يَبْصُرُ؛ إِذَا صَارَ عَلِيمًا بِالشَّيْءِ،(3/124)
وَأَبْصَرَ يُبْصِرُ؛ إِذَا نَظَرَ. {فَقَبَضْتُ قَبْضَة من أثر الرَّسُول} يَعْنِي: مِنْ تَحْتِ حَافِرِ فَرَسِ جِبْرِيل {فنبذتها} أَيْ: أَلْقَيْتُهَا فِي الْعِجْلِ؛ يَعْنِي: حِينَ صَاغَهُ، وَكَانَ صَائِغًا {وَكَذَلِكَ سَوَّلت لي نَفسِي} أَيْ: وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنِّي إِذَا أَلْقَيْتُهَا فِي الْعِجْلِ خَارَ. قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ السَّامِرِيُّ مِنْ عُظَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهَا: سَامِرَةٌ، وَلَكِنْ نَافَقَ بَعْدَمَا قَطَعَ الْبَحْرَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيل(3/125)
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
{قَالَ} لَهُ مُوسَى: {فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاة} (يَعْنِي: حَيَاةَ الدُّنْيَا {أَنْ تَقُولَ لَا مساس} يَعْنِي: لَا تُخَالِطَ النَّاسَ، وَلَا يُخَالِطُونَكَ) فَهَذِهِ عُقُوبَتُكَ فِي الدُّنْيَا وَمِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالسَّامِرَةُ صِنْفٌ مِنَ الْيَهُودِ.
قَالَ قَتَادَةُ: يُقَالُ: السَّامِرَةُ حَتَّى الْآنَ بِأَرْضِ الشَّامِ، يَقُولُونَ: لَا مِسَاسَ.
قَوْلُهُ: {وَإِنَّ لَكَ موعدا لن تخلفه} يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَجْزِيَكَ اللَّهُ فِيهِ بأسوإ عَمَلِكَ {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظلت عَلَيْهِ} أَي: صرت عَلَيْهِ {عاكفا} على عِبَادَته (ل 210) {لنحرقنه ثمَّ لننسفنه} .
مُحَمَّدٌ: النَّسْفُ: التَّذْرِيَةُ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: ذَبَحَهُ مُوسَى، ثُمَّ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ، ثمَّ ذراه فِي الْبَحْر.(3/125)
إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
{وسع كل شَيْء} قَالَ قَتَادَةُ: مَلَأَ رَبِّي كُلَّ شَيْء {علما} يَقُولُ: لَا يَكُونُ(3/125)
شَيْء إِلَّا بِعلم الله.
سُورَة طه من (آيَة 99 آيَة 104) .(3/126)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)
{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قد سبق} أَيْ: مِنْ أَخْبَارِ مَا قَدْ مضى {وَقد آتيناك} أعطيناك {من لدنا} من عندنَا {ذكرا} يَعْنِي: الْقُرْآن(3/126)
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100)
{من أعرض عَنهُ} عَنِ الْقُرْآنِ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} ثقلا؛ يَعْنِي: الْإِثْم(3/126)
خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)
{خَالِدين فِيهِ} أَيْ: فِي ثَوَابِ ذَلِكَ الْوِزْرِ؛ وَهِي النَّار {وساء لَهُم} أَيْ: وَبِئْسَ لَهُمْ {يَوْمَ الْقِيَامَةِ حملا} يَعْنِي: مَا يَحْمِلُونَ عَلَى ظُهُورِهِمْ مِنَ الْوِزْرِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (حِمْلا) مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ؛ الْمَعْنَى: سَاءَ الْوِزْرُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا، وَسُمِّيَ (الْوِزْرُ حِمْلًا) ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يحمل بِهِ ثقلا.(3/126)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)
{يَوْم ينْفخ فِي الصُّور} وَالصُّورِ: قَرْنٌ يَنْفُخُ فِيهِ صَاحِبُ الصُّورِ؛ فَيَنْطَلِقُ كُلَّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهِ، تُجْعَلُ الْأَرْوَاحُ كُلُّهَا فِي الصُّورِ؛ فَإِذَا نُفِخَ فِيهِ خَرَجَتِ الْأَرْوَاحُ مِثْلَ النَّحْلِ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جسده {ونحشر الْمُجْرمين} الْمُشْرِكِينَ؛ هَذَا حَشْرٌ إِلَى النَّارِ {يَوْمئِذٍ زرقا} أَي: مسودة وُجُوههم(3/126)
يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)
{يتخافتون بَينهم} أَي:(3/126)
يتسارون {إِن لبثتم} فِي الدُّنْيَا {إِلَّا عشرا} يُقَلِّلُونَ لَبْثَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْخُفُوتُ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ: السُّكُونُ؛ يُقَالُ: خَفَتَ الْكَلَامُ وَخَفَتَ الدُّعَاء؛ إِذا سكن.(3/127)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
{إِذْ يَقُول أمثلهم طَريقَة} أَيْ: أَعْقَلُهُمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي: أَعْقَلَهُمْ عِنْدَ نَفْسِهِ، وَأَعْلَمَهُمْ بِمَا يَقُول. {إِن لبثتم} أَيْ: مَا لَبِثْتُمْ {إِلا يَوْمًا} قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَوَاطِنُ، قَالُوا إِلَّا عَشْرًا، وَإِلَّا يَوْمًا، وَقَالُوا: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} وَقَالَ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ المجرمون} يَحْلِفُ الْمُجْرِمُونَ {مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَة} أَيْ: فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ لِتَصَاغُرِ الدُّنْيَا عِنْدَهُمْ، وَقَلِّتِهَا فِي طُولِ الْآخِرَة.
سُورَة طه من (آيَة 105 آيَة 113) .(3/127)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نسفا} أَيْ: يَذْرِيهَا تَذْرِيَةً مِنْ(3/127)
أُصُولِهَا، تَصِيرُ الْجِبَالُ كَالْهَبَاءِ الْمَنْثُورِ.(3/128)
فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106)
{فيذرها} يَعْنِي: الأَرْض {قاعا صفصفا} الْقَاعُ: الَّذِي لَا أَثَرَ عَلَيْهِ، وَالصَّفْصَفُ: الْمُسْتَوِيَةُ الَّتِي لَيْسَ عَلَيْهَا نَبَات(3/128)
لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)
{لَا ترى فِيهَا عوجا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعِوَجُ: الْوَادِي {وَلَا أمتا} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي: ارتفاعا(3/128)
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
{يَوْمئِذٍ يتبعُون الدَّاعِي} صَاحِبَ الصُّورِ؛ أَيْ: يُسْرِعُونَ إِلَيْهِ حِينَ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ {لَا عوج لَهُ} أَيْ: لَا يَتَعَوَّجُونَ عَنْ إِجَابَتِهِ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ للرحمن} أَيْ: سَكَنَتْ {فَلا تَسْمَعُ إِلا همسا} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي صَوْتَ الْأَقْدَامِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْهَمْسُ فِي اللُّغَةِ: الشَّيْء الْخَفي.(3/128)
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)
{يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قولا} يَعْنِي: التَّوْحِيد.(3/128)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)
{يعلم مَا بَين أَيْديهم} مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ {وَمَا خَلْفَهُمْ} من أَمر الدُّنْيَا؛ أَي: إِذْ صَارُوا فِي الْآخِرَةِ {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ علما} أَيْ: وَيَعْلَمُ مَا لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا؛ أَيْ: مَا لَا يعلمُونَ(3/128)
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)
{وعنت الْوُجُوه للحي القيوم} أَيْ: ذَلَّتْ، وَالْقَيُّومُ: الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: عَنَا يَعْنُو؛ إِذَا خَضَعَ. {وَقَدْ خَابَ من حمل ظلما} أَي: شركا.(3/128)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤمن فَلَا يخَاف ظلما} يَعْنِي: أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ فِي سيئاته {وَلَا هضما} أَن ينقص من حَسَنَاته.(3/129)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)
{وصرفنا فِيهِ من الْوَعيد} أَيْ: بَيَّنَّا؛ مِنْ يَعْمَلْ كَذَا فَلَهُ كَذَا {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يحدث لَهُم ذكرا} تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ: الْمَعْنَى: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، وَيُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا؛ الْأَلِفُ هَا هُنَا صلَة.
سُورَة طه من (آيَة 114 آيَة 127) .(3/129)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
{وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَن يقْضى إِلَيْك وحيه} أَيْ: لَا تَتْلُهُ؛ حَتَّى نُتِمَّهُ لَكَ؛ كَانَ النَّبِيُّ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يَقْرَؤُهُ وَيُدْئِبُ فِيهِ نَفسه؛ مَخَافَة أَن ينسى(3/130)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قبل} يَعْنِي: مَا أُمِرَ بِهِ: أَلَا يَأْكُل من الشَّجَرَة {فنسي} يَعْنِي: فَتَرَكَ مَا أُمِرَ بِهِ. {وَلم نجد لَهُ عزما} أَي: صبرا.(3/130)
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)
{فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} فِي الدُّنْيَا، يَعْنِي: الْكَدَّ فِيهَا(3/130)
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)
{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا} يَعْنِي: فِي الْجَنَّةِ {وَلا تَعْرَى} كَانَا كسيا الظفر(3/130)
وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
{وَأَنَّك لَا تظمأ فِيهَا} أَيْ: لَا تَعْطَشُ {وَلا تَضْحَى} أَيْ: لَا تُصِيبُكَ شَمْسٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: ضَحِيَ الرَّجُلُ يَضْحَى؛ إِذَا بَرَزَ إِلَى الضُّحَى، وَهُوَ حر الشَّمْس.(3/130)
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
{وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجنَّة} (ل 211) يَعْنِي: جَعَلَا يُرَقِّعَانِهِ كَهَيْئَةِ الثَّوْبِ. {وَعصى آدم ربه فغوى} وَلم يبلغ بمعصيته الْكفْر(3/130)
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ} من ذَلِك الذَّنب {وَهدى} أَي: مَاتَ على الْهدى.(3/130)
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
{فَمن اتبع هُدَايَ} يَعْنِي: رُسُلِي وَكُتُبِي {فَلا يَضِلُّ} (فِي الدُّنْيَا) {وَلَا يشقى} فِي الْآخِرَة(3/130)
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)
{وَمن أعرض عَن ذكري} فَلَمْ يُؤْمِنْ {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضنكا} .
يَحْيَى: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرَادَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَعِيشَةً ضنكا} " يَعْنِي: عَذَابَ(3/130)
الْقَبْرِ ".
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَصْلُ الضَّنْكِ فِي اللُّغَةِ: الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ، يُقَالُ: ضَنُكَ عَيْشُهُ ضَنْكًا، وضَنَكًا، وَقَالُوا: {معيشة ضنكا} أَيْ: شَدِيدَةً.
يَحْيَى: عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ خَبَّابٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زَاذَانَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّبَعَ جَنَازَةَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ؛ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى قَبْرِهِ وَجَدَهُ لَمْ يُلْحَدْ؛ فَجَلَسَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ وَبِيَدِهِ عُودٌ وَهُوَ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ قَالَهَا ثَلَاثًا إِنَّ الْمُؤْمِنِ إِذَا كَانَ فِي قُبُلٍ مِنَ الْآخِرَةِ، وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا أَتَتْهُ مَلَائِكَةٌ وُجُوهُهُمْ كَالشَّمْسِ بِحَنُوطِهِ وَكَفَنِهِ، فَجَلَسُوا بِالْمَكَانِ الَّذِي يَرَاهُمْ (مِنْهُ) ؛ فَإِذَا خَرَجَ رَوْحُهُ صَلَّى عَلَيْهِ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ كُلُّ بَابٍ مِنْهَا يُعْجِبُهُ أَنْ يَصْعَدَ رَوْحُهُ مِنْهُ، فَيَنْتَهِي الْمَلَكُ إِلَى رَبَّهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبُّ،(3/131)
هَذَا رُوحُ عَبْدِكَ، فَيُصَلِّي عَلَيْهِ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ، وَيَقُولُ: ارْجِعُوا بِعَبْدِي فَأَرُوهُ مَاذَا أَعْدَدْتُ لَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ؛ فَإِنِّي عَهِدْتُ إِلَى عِبَادِي أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتُكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ، فَيَرُدُّ إِلَيْهِ رُوحَهُ حِينَ يُوضَعُ فِي قَبْرِهِ، فَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِكُمْ حِينَ تَنْصَرِفُونَ عَنْهُ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ وَمَنْ رَبُّكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ رَبِّي، وَالْإِسْلَامُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّي، فَيَنْتَهِرَانِهِ انْتِهَارًا شَدِيدًا، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ وَمَنْ رَبُّكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ رَبِّي، وَالْإِسْلَامُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّي. فَيُنَادِيهِ مُنَادٍ: {يثبن اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} فَيَأْتِيهِ عَمَلُهُ فِي صُوْرَةٍ حَسَنَةٍ وَرِيحٍ طَيِّبَةٍ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ (بِجَنَّاتٍ) فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ؛ فَقَدْ كُنْتُ سَرِيعًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ بَطِيئًا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَيَقُولُ: وَأَنْتَ بَشَّرَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ فَمِثْلُ وَجْهِكَ يُبَشِّرُ بِالْخَيْرِ، وَمَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْحَسَنُ. ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: كَانَ هَذَا مَنْزِلُكَ فَأَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ فِي جَانِبِ قَبْرِهِ فَيَرَى مَنْزِلَهُ فِي الْجَنَّةِ، فَيَنْظُرُ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ فَيَقُولُ: يَا رَبُّ، مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ كَيْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي؟ ! فَيُوَسَّعُ عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ وَيَرْقُدُ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِذَا كَانَ فِي قُبُلٍ مِنَ الْآخِرَةِ وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، أَتَتْهُ مَلَائِكَةٌ (سُودُ الْوُجُوهِ) بِسَرَابِيلَ مِنْ قَطْرَانٍ، وَمُقَطَّعَاتٍ مِنْ نَارٍ، فَجَلَسُوا مِنْهُ بِالْمَكَانِ الَّذِي يَرَاهُمْ مِنْهُ، فَيَنْزِعُ رُوحَهُ كَمَا يَنْتَزِعُ السُّفُّودُ الْكَثِيرُ شُعَبِهِ مِنَ الصُّوفِ الْمُبْتَلِّ مِنْ عُرُوقِهِ(3/132)
وَقَلْبِهِ؛ فَإِذَا خَرَجَ رُوحُهُ لَعَنَهُ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ السَّمَوَاتِ دُوْنَهُ، كُلُّ بَابٍ يَكْرَهُ أَنْ يَصْعَدَ رُوحُهُ مِنْهُ، فَيَنْتَهِي الْمَلَكُ إِلَى رَبَّهُ فَيَقُولُ: يَا رَبُّ هَذَا رُوحُ عَبْدِكَ فُلَانٍ لَا تَقْبَلُهُ أَرْضٌ وَلَا سَمَاءٌ {فَيَلْعَنُهُ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ، فَيَقُولُ: ارْجِعُوا بِعَبْدِي فَأَرُوهُ مَاذَا أَعْدَدْتُ لَهُ مِنَ الْهَوَانِ؛ فَإِنِّي عَهِدْتُ إِلَى عِبَادِي أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتُكُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُكُمْ، فَتُرَدُّ إِلَيْهِ رُوحُهُ حِينَ يُوْضَعُ فِي قَبْرِهِ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِكُمْ حِينَ تَنْصَرِفُونَ (ل 212) عَنهُ، فَيَقُول لَهُ: مَا دِينُكَ؟ وَمَنْ رَبُّكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ رَبِّي، وَالْإِسْلَامُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّي، فَيَنْتَهِرَانِهِ انْتِهَارًا شَدِيدًا، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ وَمَنْ رَبُّكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي} فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْتَ، وَيَأْتِيهِ عَمَلُهُ فِي صُوْرَةٍ قَبِيحَةٍ وَرِيحٍ مُنْتِنَةٍ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِعَذَابٍ مُقِيمٍ، فَيَقُولُ: وَأَنْتَ فَبَشَّرَكَ اللَّهُ بِشَرٍّ فَمِثْلُ وَجْهِكَ يُبَشِّرُ بِالشَّرِّ. وَمَنْ أَنْتَ؟ ! فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ. ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: كَانَ هَذَا مَنْزِلَكَ لَوْ أَطَعْتَ اللَّهَ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ مَنْزَلَهُ مِنَ النَّارِ، فَيَنْظُرُ إِلَى مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْهَوَانِ، وَيُقَيَّضُ لَهُ أَصَمُّ أَعْمَى، فِي يَدِهِ مِرْزَبَةٌ لَو تُوضَع على جبل لصار رُفَاتًا، فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً فَيَصِيرُ رُفَاتًا، ثُمَّ يُعَادُ فَيَضْرِبُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ضَرْبَةً يَصِيحُ مِنْهَا صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ، وَيُنَادِي مُنَادٍ أَنِ افْرِشُوهُ لَوْحَيْنِ مِنَ النَّارِ، فَيُفْرَشُ(3/133)
لَهُ لَوْحَيْنِ مِنْ نَارٍ، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ؛ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ ".(3/134)
قَوْلُهُ: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} عَن حجَّته(3/135)
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)
(قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي(3/135)
أَعْمَى} عَنِ الْحُجَّةِ؛ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ {وَقد كنت بَصيرًا} عَالِمًا بِحُجَّتِي فِي الدُّنْيَا؟ ! وَإِنَّمَا عِلْمُهُ ذَلِكَ عِنْدَ نَفْسِهِ؛ أَنَّهُ يُحَاجُّ فِي الدُّنْيَا جَاحِدًا لِمَا جَاءَهُ من الله.(3/136)
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)
قَالَ اللَّهُ: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا} {فِي الدُّنْيَا} (فنسيتها} أَيْ: فَتَرَكْتَهَا لَمْ تُؤْمِنْ بِهَا {وَكَذَلِكَ الْيَوْم تنسى} أَي: تتْرك فِي النَّار(3/136)
وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
{وَكَذَلِكَ نجزي من أسرف} عَلَى نَفْسِهِ بِالشِّرْكِ {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشد} من عَذَاب الدُّنْيَا {وَأبقى} أَي: لَا يَنْقَطِع أبدا.
سُورَة طه من (آيَة 128 آيَة 132) .(3/136)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)
{أفلم يهد لَهُم} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: نُبَيِّنُ لَهُمْ؛ مُقْرَأَةً بِالنُّونِ {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ من الْقُرُون} يُحَذِّرُهُمْ وَيُخَوِّفُهُمُ الْعَذَابَ إِنْ لَمْ يُؤمنُوا {يَمْشُونَ فِي مساكنهم} تَمْشِي هَذِهِ الْأُمَّةُ فِي مَسَاكِنِهِمْ؛ يَعْنِي: مَنْ مَضَى {إِنَّ فِي ذَلِك لآيَات لأولي النهى} الْعُقُول، وهم الْمُؤْمِنُونَ.(3/136)
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
{وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} أَلَّا يُعَذِّبَ كُفَّارَ آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِالْنَفْخَةِ {لَكَانَ لِزَامًا} أَيْ: لَأُلْزِمُوا عُقُوبَةَ كُفْرِهِمْ فَأُهْلِكُوا جَمِيعًا؛ لِجُحُودِهِمْ مَا جَاءَ(3/136)
بِهِ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام {وَأجل مُسَمّى} فِيهَا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وَأَجَلٌ مُسَمَّى لَكَانَ لزاما.(3/137)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
{فاصبر على مَا يَقُولُونَ} أَنَّك سَاحر، وَأَنت شَاعِرٌ، وَأَنَّكَ مَجْنُونٌ، وَأَنَّكَ كَاهِنٌ، وَأَنَّكَ كَاذِبٌ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قبل طُلُوع الشَّمْس} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: صَلَاةَ الصُّبْحِ {وَقبل غُرُوبهَا} الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} يَعْنِي: سَاعَات اللَّيْل {فسبح} يَعْنِي: الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ. [قَالَ مُحَمَّدٌ:] وَاحِدُ الْآنَاءِ إِنَى {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: التَّطَوُّعَ {لَعَلَّكَ ترْضى} أَيْ: لِكَيْ تَرْضَى فِي الْآخِرَةِ ثَوَاب عَمَلك.(3/137)
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)
{وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا} أَصْنَافًا مِنْهُمْ؛ يَعْنِي: الْأَغْنِيَاءَ. {زَهْرَةَ الْحَيَاة الدُّنْيَا} يَعْنِي: زِينَة {لنفتنهم فِيهِ} أَيْ: نَخْتَبِرُهُمْ؛ أَمْرُهُ أَنْ يَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (زَهْرَةَ) مَنْصُوبٌ بِمَعْنَى: جَعَلْنَا لَهُمُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا زهرَة. {ورزق رَبك} فِي الْجنَّة {خير} من الدُّنْيَا {وَأبقى} يَقُول: لَا نفاد لَهُ(3/137)
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
{وَأمر أهلك بِالصَّلَاةِ} أَهْلُهُ: أُمَّتُهُ {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} أَنْ تَرْزُقَ نَفْسَكَ {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} أَيْ: لِأَهْلِ التَّقْوَى، وَالْعَاقِبَةُ: الْجَنَّةُ.
سُورَة طه من (آيَة 133 آيَة 135) .(3/137)
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)
{وَقَالُوا لَوْلَا} هَلَّا {يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ} قَالَ الله: {أَو لم تأتهم بَيِّنَة} قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي: آيَاتٍ {مَا فِي الصُّحُف الأولى} يَعْنِي: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل(3/138)
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)
{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قبله} يَعْنِي: مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ {لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا} هَلَّا {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا} .(3/138)
قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
{قل كل متربص} نَحن وَأَنْتُم؛ كَانَ الْمُشْركين يَتَرَبَّصُونَ بِالنَّبِيِّ أَنْ يَمُوتَ، وَكَانَ النَّبِي يَتَرَبَّصُ بِهِمْ أَنْ يَجِيئَهُمُ الْعَذَابُ {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} يَعْنِي: الطَّرِيقَ الْمُعْتَدِلَ {وَمَنِ اهْتَدَى} أَيْ: فَسَتَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ كَانُوا عَلَى [الصِّرَاطِ السَّوِيِّ، وَأَنَّهُمْ مَاتُوا عَلَى الْهُدَى] .(3/138)
تَفْسِيرُ سُوْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَهِيَ مَكِيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 1 آيَة 5) .(3/139)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
قَوْله: {اقْترب للنَّاس حسابهم} أَيْ: أَنَّ ذَلِكَ قَرِيبٌ.
يَحْيَى: عَنْ خَدَاشٍ، عَنْ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حِينَ بُعِثَ إِلَيَّ بُعِثَ إِلَى صَاحِبِ الصُّورِ فَأَهْوَى بِهِ إِلَى فِيهِ، وَقَدَّمَ رِجْلًا وَأَخَّرَ رِجْلًا، يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرْ يَنْفُخْ؛ أَلَا فَاتَّقُوا النَّفْخَةَ ". {وَهُمْ فِي غَفلَة} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْآخِرَةِ {مُعْرِضُونَ} عَن الْقُرْآن(3/139)
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)
{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبهم مُحدث} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} يَسْمَعُونَهُ بِآذَانِهِمْ، وَلَا تَقْبَلُهُ قُلُوبُهُمْ(3/139)
لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
{لاهية قُلُوبهم} أَيْ: غَافِلَةً.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: اسْتَمَعُوهُ لَاعِبِينَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ.(3/139)
{وأسروا النَّجْوَى الَّذين ظلمُوا} أَشْرَكُوا؛ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَأَسَرُّوا ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ {هَلْ هَذَا} يَعْنُونَ: مُحَمَّدًا {إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أفتأتون السحر} يَعْنُونَ: الْقُرْآنَ؛ أَيْ: تُصَدِّقُونَ بِهِ {وَأَنْتُم تبصرون} أَنَّهُ سِحْرٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: {وأسروا النَّجْوَى الَّذين ظلمُوا} فِيهِ وَجْهَانِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (الَّذين ظلمُوا) رَفْعًا عَلَى مَعْنَى: هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَعْنِي الَّذِينَ ظَلَمُوا.(3/140)
قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
{قَلَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ} السِّرَّ {فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} .(3/140)
بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
{بل قَالُوا أضغاث أَحْلَام} أَيْ: أَخْلَاطُ أَحْلَامٍ؛ يَعْنُونَ: الْقُرْآنَ {بل افتراه} يَعْنُونَ: مُحَمَّدًا {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} كَمَا جَاءَ مُوسَى وَعِيسَى؛ فِيمَا يزْعم مُحَمَّد.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 6 آيَة 10) .(3/140)
مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
{مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أهلكناها أفهم يُؤمنُونَ} أَيْ: أَنَّ الْقَوْمَ إِذَا كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، وَسَأَلُوهُ الْآيَةَ فَجَاءَتْهُمْ وَلَمْ يُؤْمِنُوا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ؛ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ إِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ؛ أَيْ: لَا يُؤمنُونَ إِن جَاءَتْهُم.(3/140)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ {إِنْ كُنْتُم لَا تعلمُونَ} وهم لَا يعلمُونَ(3/141)
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)
{وَمَا جعلناهم جسدا} يَعْنِي: النَّبِيِّينَ {لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} أَيْ: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ؛ قَالَ هَذَا لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ {مَا لهَذَا الرَّسُول يَأْكُل الطَّعَام} . {وَمَا كَانُوا خَالِدين} فِي الدُّنْيَا لَا يَمُوتُونَ.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: {جسدا} هُوَ وَاحِد يُنْبِئُ عَنْ جَمَاعَةٍ؛ الْمَعْنَى: وَمَا جَعَلْنَا الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُ ذَوِي أَجْسَادٍ لَا تَأْكُلُ الطَّعَامَ وَلَا تَمُوتُ؛ فنجعله كَذَلِك.(3/141)
ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
{ثمَّ صدقناهم الْوَعْد} كَانَتِ الرُّسُلُ تُحَذِّرُ قَوْمَهَا عَذَابَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، فَلَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا صَدَقَ اللَّهُ رُسُلَهُ الْوَعْدَ، فَأَنْزَلَ الْعَذَابَ عَلَى قَوْمِهِمْ.
قَالَ: {فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمن نشَاء} يَعْنِي: النَّبِي وَالْمُؤمنِينَ {وأهلكنا المسرفين} الْمُشْركين.(3/141)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
{لقد أنزلنَا إِلَيْكُم كتابا} الْقُرْآن {فِيهِ ذكركُمْ} فِيهِ شَرَفُكُمْ يَعْنِي: قُرَيْشًا لِمَنْ آمن بِهِ {أَفلا تعقلون} يَقُوله للْمُشْرِكين.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 11 آيَة 18) .(3/141)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)
( {وَكم قصمنا} أَهْلَكْنَا {مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} مُشركَة) يَعْنِي: أَهلهَا {وأنشأنا} خلقنَا.(3/142)
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12)
{فَلَمَّا أحسوا بأسنا} رَأَوْا عَذَابَنَا؛ يَعْنِي: قَبْلَ أَنْ يهْلكُوا {إِذا هم مِنْهَا} من الْقرْيَة {يركضون} يفرون،(3/142)
لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)
قَالَ الله: {لَا تركضوا} لَا تَفِرُّوا. {وَارْجِعُوا إِلَى مَا أترفتم فِيهِ} أَيْ: إِلَى دُنْيَاكُمُ الَّتِي أُتْرِفْتُمْ فِيهَا {ومساكنكم لَعَلَّكُمْ تسْأَلُون} مِنْ دُنْيَاكُمْ شَيْئًا؛ أَيْ: لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ؛ يُقَالُ لَهُمْ هَذَا اسْتِهْزَاءٌ بهم.(3/142)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14)
{قَالُوا يَا ويلنا} وَهَذَا حِينَ جَاءَهُمُ الْعَذَابَ {إِنَّا كُنَّا ظالمين} قَالَ الله:(3/142)
فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
{فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعوَاهُم} أَيْ: فَمَا زَالَ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ؛ يَعْنِي: {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظالمين} . {حَتَّى جعلناهم حصيدا خامدين} أَي: قد هَلَكُوا وَسَكنُوا.(3/142)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَينهمَا لاعبين} أَي: إِنَّمَا خلقناهما (ل 214) للبعث والحساب، وَالْجنَّة وَالنَّار(3/142)
لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
{لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} قَالَ الْحَسَنُ: اللَّهْوُ [الْمَرْأَةُ] بِلِسَانِ الْيمن {لاتخذناه من لدنا} أَيْ: مِنْ عِنْدِنَا {إِنْ كُنَّا فاعلين} أَيْ: وَمَا كُنَّا فَاعِلِينَ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ(3/142)
بَنَات الله(3/143)
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
{بل نقذف بِالْحَقِّ} بِالْقُرْآنِ {على الْبَاطِل} يَعْنِي: (الشّرك) {فيذمغه فَإِذا هُوَ زاهق} ذَاهِبٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: {فَيَدْمَغُهُ} أَيْ: يَكْسِرُهُ، وَأَصْلُ هَذَا إِصَابَةُ الرَّأْسِ وَالدِّمَاغِ بِالضَّرْبِ، وَهُوَ مُقْتِلٌ. {وَلكم الويل} الْعَذَاب {مِمَّا تصفون} قَالَ قَتَادَةُ: لِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَات الله.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 19 آيَة 28) .(3/143)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)
{وَله من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمن عِنْده} يَعْنِي: الْمَلائِكَةَ. {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَته وَلَا يستحسرون} أَي: يعيون.(3/143)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
{أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هم ينشرون} أَيْ: يُحْيُونَ الْمَوْتَى؛ (هَذَا عَلَى الِاسْتِفْهَام؛ أَي: أَنهم قَدِ اتَّخَذُوا آلِهَةً لَا يُحْيُونَ الْمَوْتَى) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: أَنْشَرَ الله الْمَوْتَى فنشروا.(3/144)
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
{لَو كَانَ فيهمَا} يَعْنِي: فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ {آلِهَةٌ إِلَّا الله} غير الله {لفسدتا} لَهَلَكَتَا {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ} ينزه نَفسه {عَمَّا يصفونَ} يَقُولُونَ:(3/144)
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
{لَا يسْأَل عَمَّا يفعل} بعباده {وهم يسْأَلُون} وَالْعِبَادُ يَسَأَلُهُمُ اللَّهُ عَنْ أَعْمَالِهِمْ(3/144)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} عَلَى الاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ: قَدْ فَعَلُوا، وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ، وَأَشْبَاهُهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى معرفَة. {قل هاتوا برهانكم} يَعْنِي: حُجَّتَكُمْ عَلَى مَا تَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً؛ أَيْ: لَيْسَتْ عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ حُجَّةٌ. {هَذَا ذِكْرُ من معي} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: الْقُرْآنَ {وَذِكْرُ من قبلي} يَعْنِي أَخْبَارَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَأَعْمَالُهُمْ؛ لَيْسَ فِيهَا اتِّخَاذ آلِهَةً دُونَ اللَّهِ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ} يَعْنِي: جَمَاعَتُهُمْ {لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فهم معرضون} عَن الْحق.(3/144)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)
{وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا} قَالَ قَتَادَةُ: قَالَتِ اليَهُودُ: إِنَّ اللَّهَ صَاهَرَ إِلَى الْجِنِّ، فَكَانَتْ مِنْ بَيْنِهِمُ الْمَلَائِكَةُ. قَالَ اللَّهُ: {سُبْحَانَهُ} يُنَزِّهُ نَفْسَهُ عَمَّا قَالُوا {بَلْ عباد مكرمون} يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ هُمْ كِرَامٌ عَلَى الله(3/144)
لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)
{لَا يسبقونه بالْقَوْل} فَيَقُولُونَ شَيْئًا لَمْ يَقْبَلُوهُ عَنِ الله(3/144)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلفهم} تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ: يَعْنِي: يَعْلَمُ مَا كَانَ قَبْلَ خَلْقِ الْمَلَائِكَةِ، وَمَا كَانَ بعد خلقهمْ (وَلَا(3/144)
يشعفون إِلَّا لمن ارتضى} أَي: لمن رَضِي.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 29 آيَة 35) .(3/145)
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ من دونه} الْآيَة، قَالَ قَتَادَةُ: هَذِهِ فِي إِبْلِيسَ خَاصَّةً لَمَّا دَعَا إِلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: وَمَنْ يَقُلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ إِنْ قَالَهُ، وَلَا يَقُولُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ؛ وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ.(3/145)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
{أَو لم يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْض كَانَتَا رتقا} [قَالَ السُّدِّيُّ: أَوْ لَمْ يَعْلَمْ] قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: مُلْتَزِقَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا على الْأُخْرَى {ففتقناهما} يَقُولُ: فَوَضَعَ الْأَرْضَ، وَرَفَعَ السَّمَاءَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: {كَانَتَا رَتْقًا} لِأَنَّ السَّمَوَاتِ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالسَّمَاءِ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ، وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ، وَمَعْنَى (رتقا) أَيْ: شَيْئًا وَاحِدًا(3/145)
مُلْتَحِمًا؛ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ. {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ} أَيْ: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ فَإِنَّمَا خلق من المَاء.(3/146)
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)
{وَجَعَلنَا فِي الأَرْض رواسي} يَعْنِي: الْجِبَالَ {أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} لِئَلَّا تَحَرَّكَ بِهِمْ {وَجَعَلْنَا فِيهَا فجاجا سبلا} يَعْنِي: أَعْلَامًا طَرِقًا {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} لكَي يهتدوا الطّرق(3/146)
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)
{وَجَعَلنَا السَّمَاء سقفا} على من تحتهَا {مَحْفُوظًا} يَعْنِي: مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ. {وهم عَن آياتها معرضون} أَي: لَا يتفكرون فِيهَا يَرَوْنَ؛ فَيَعْرِفُونَ أَنَّ لَهُمْ مَعَادًا فيؤمنون.(3/146)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يسبحون} أَي: يجرونَ، تفسيرالحسن: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ فِي طَاحُونَةٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَهَيْئَةِ فَلَكَةِ الْمِغْزَلِ تَدُورُ فِيهَا، وَلَوْ كَانَتْ مُلْتَزِقَةٌ بِالسَّمَاءِ لَمْ تَجْرِ.(3/146)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)
{أفأين مت فهم الخالدون} على (ل 215) الِاسْتِفْهَامِ: أَفَهُمُ الْخَالِدُونَ؟ أَيْ: لَا يخلدُونَ.(3/146)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
{وتبلوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْر} يَعْنِي: الشدَّة والرخاء {فتْنَة} أَي: اختبارا.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 36 آيَة 40) .(3/146)
وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
{وَإِذا رآك الَّذين كفرُوا} يَقُولُهُ لِلنَّبِيِّ {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} أَيْ: يَعِيبُهَا وَيَشْتِمُهَا، يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. قَالَ اللَّهُ: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} .(3/147)
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
{خلق الْإِنْسَان من عجل} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: خُلِقَ عَجُولًا.
قَالَ اللَّهُ: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} وَذَلِكَ لِمَا كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام مِنَ الْعَذَابِ اسْتِهْزَاءً مِنْهُمْ وَتَكْذِيبًا.(3/147)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُم صَادِقين} هَذَا قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيِّ؛ مَتَى هَذَا الَّذِي تَعِدُنَا بِهِ مِنْ أَمر الْقِيَامَة؟ !(3/147)
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)
قَالَ اللَّهُ: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوههم النَّار} الْآيَةُ (وَفِيهَا تَقْدِيمٌ؛ أَيْ: أَنَّ الْوَعْد الَّذِي كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا هُوَ يَوْمُ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ) {وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هم ينْصرُونَ} لَو يعلم الَّذين كفرُوا(3/147)
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
{بل تأتيهم بَغْتَة} يَعْنِي: الْقِيَامَة {فتبهتهم} أَيْ: تُحَيِّرُهُمْ {فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هم ينظرُونَ} يؤخرون.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 41 آيَة 44) .(3/147)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فحاق بالذين سخروا مِنْهُم} أَيْ: كَذَّبُوهُمْ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِمْ {مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون} يَعْنِي: الْعَذَابَ الَّذِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ.(3/148)
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)
{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ من الرَّحْمَن} أَيْ: هُمْ مِنَ الرَّحْمَنِ؛ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ؛ كَقَوْلِهِ: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمر الله} أَيْ: هُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَهُمْ مَلَائِكَةٌ حَفَظَةٌ لِبَنِي آدَمَ ولأعمالهم، وَقد مضى تَفْسِيره.(3/148)
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُوننَا} أَيْ: قَدِ اتَّخَذُوا آلِهَةً لَا تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا.
قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: لَا تَمْنَعُهُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ عَذَابَهُمْ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا تُعَذَّبُ الشَّيَاطِينُ الَّتِي دَعَتْهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَلَا تُعَذَّبُ الْأَصْنَامُ. {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} يَقُولُ: لَا تَسْتَطِيعُ تِلْكَ الْأَصْنَامُ نَصْرَ أَنْفُسِهَا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُعَذِّبَهَا {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَقُولُ: وَلَا مَنْ عَبدهَا منا يجارون.(3/148)
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
{بل متعنَا هَؤُلَاءِ} يَعْنِي: قُرَيْشًا {وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِم الْعُمر} لم يَأْتهمْ رَسُول حَتَّى جَاءَهُم مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ ننقصها من أطرافها} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كُلَّمَا بُعِثَ إِلَى أَرْضٍ ظَهَرَ عَلَيْهَا؛ أَيْ: يَنْقُصُهَا بِالظُّهُورِ عَلَيْهَا أَرْضًا فَأَرْضًا {أَفَهُمُ الغالبون} أَيْ: لَيْسُوا بِالْغَالِبِينَ، وَلَكِنَّ رَسُولَ الله هُوَ الْغَالِب.(3/148)
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 45 آيَة 50) .(3/149)
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)
{قل إِنَّمَا أنذركم بِالْوَحْي} بِالْقُرْآنِ، أُنْذِرُكُمْ بِهِ عَذَابَ الدُّنْيَا وَعَذَابَ الْآخِرَةِ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {وَلا يسمع الصم الدُّعَاء} يَعْنِي: النِّدَاءَ {إِذَا مَا يُنْذَرُونَ} والصم هَاهُنَا: الْكفَّار؛ صموا عَن الْهدى(3/149)
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)
{وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبك} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: عُقُوبَةً.
قَالَ يَحْيَى: يَعْنِي: النَّفْخَةَ الْأُولَى الَّتِي يُهَلْكُ بِهَا كُفَّارُ آخِرِ هَذِهِ الْأمة.(3/149)
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
{وَنَضَع الموازين الْقسْط} (يَعْنِي: الْعَدْلَ) {لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تظلم نفس شَيْئا} لَا تُنْقَصُ مِنْ ثَوَابِ عَمَلِهَا {وَإِن كَانَ مِثْقَال حَبَّة} أَيْ: وَزْنَ حَبَّةٍ {مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} قَالَ الْحَسَنُ: لَا يَعْلَمُ حِسَابَ مَثَاقِيلِ الذَّرِّ وَالْخَرْدَلِ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يُحَاسِبُ الْعِبَادَ إِلَّا هُوَ.(3/149)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} يَعْنِي: التَّوْرَاةَ، وفُرْقَانُهَا أَنَّهُ فَرَّقَ فِيهَا حلالها وحرامها.(3/149)
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)
{الَّذين يَخْشونَ رَبهم بِالْغَيْبِ} أَيْ: يَذْكَرُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ ذَنْبَهُ فِي الْخَلَاءِ؛(3/149)
فَيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ مِنْهُ. {وَهُمْ مِنَ السَّاعَة مشفقون} خَائِفُونَ مِنْ شَرِّ ذَلِكَ الْيَوْمَ وهم الْمُؤْمِنُونَ.(3/150)
وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
{وَهَذَا ذكر مبارك} يَعْنِي: الْقُرْآنَ. {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ؛ يَعْنِي: قد أنكرتموه.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 51 آيَة 57) .(3/150)
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قبل} يَعْنِي: النُّبُوَّةَ {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} أَنَّهُ سَيُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ الرِّسَالَةَ.(3/150)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)
{مَا هَذِه التماثيل} يَعْنِي: الْأَصْنَامَ {الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عاكفون} (ل 216) مقيمون على عبادتها.(3/150)
قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)
{قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ من اللاعبين} يَعْنِي: الْمُسْتَهْزِئِينَ.(3/150)
قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
{الَّذِي فطرهن} خَلَقَهُنَّ {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدين} أَنه ربكُم(3/150)
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
{وتالله لأكيدن أصنامكم} الْآيَةُ.
قَالَ قَتَادَةُ: [نَرَى] أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ حَيْثُ لَا يَسْمَعُونَ اسْتَدْعَاهُ قَوْمُهُ إِلَى عِيدٍ لَهُمْ؛ فَأبى وَقَالَ: {إِنِّي سقيم} اعْتَلَّ لَهُمْ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ لما ولوا: {تالله لأكيدن أصنامكم} الْآيَة.(3/150)
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 58 آيَة 68) .(3/151)
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
{فجعلهم جذاذا} أَيْ: قِطَعًا؛ قَطَعَ أَيْدِيَهَا وَأَرْجُلَهَا، وَفَقَأَ أَعْيُنَهَا، وَنَجَرَ وُجُوْهَهَا {إِلا كَبِيرا لَهُم} لِلْآلِهَةِ؛ يَعْنِي: أَعْظَمَهَا فِي أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ أَوْثَقَ الْفَأْسَ فِي [يَدِ] كَبِيرِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ؛ كَادَهُمْ بِذَلِكَ {لَعَلَّهُم إِلَيْهِ يرجعُونَ} أَي: يبصرون فيؤمنون.(3/151)
قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)
فَلَمَّا رَجَعُوا رَأُوا مَا صُنِعَ بِأَصْنَامِهِمْ {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا}(3/151)
قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)
{قَالُوا سمعنَا فَتى يذكرهم} أَيْ: يَعِيبُهُمْ {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} .
قَالَ مُحَمَّد: (إِبْرَاهِيم) رُفِعَ بِمَعْنَى يُقَالُ لَهُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَوِ الْمَعْرُوفُ بِهِ إِبْرَاهِيمُ.(3/151)
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاس لَعَلَّهُم يشْهدُونَ} أَنَّهُ كَسَرَهَا، قَالَ قَتَادَةُ:(3/151)
كَرِهُوا أَنْ يَأْخُذُوهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَجَاءُوا بِهِ فَقَالُوا: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} .(3/152)
لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فاسألوهم إِن كَانُوا ينطقون} قَالَ قَتَادَةُ: وَهِيَ هَذِهِ الْمَكِيدَةُ(3/152)
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)
{ثمَّ نكثوا على رُءُوسهم} أَيْ: خَزَايَا قَدْ حَجَّهُمْ؛ فَقَالُوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} .(3/152)
أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
{أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دون الله} .
قَالَ مُحَمَّد: (أُفٍّ) مَعْنَاهُ: التَّغْلِيظُ فِي الْقَوْلُ وَالتَبَرُّمُ، وَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَهَا النَّتَنُ؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ: نَتنًا لكم.(3/152)
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)
{قَالُوا حرقوه} الْآيَةُ، قَالَ الْحَسَنُ: فَجَمَعُوا الْحَطَبَ زَمَانًا، ثُمَّ جَاءُوا بِإِبْرَاهِيمَ، فَأَلْقَوْهُ فِي تِلْكَ النَّارِ.
قَالَ يَحْيَى: بلعني أَنَّهُمْ رَمُوا بِهِ فِي الْمَنْجَنِيقِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا صُنِعَ المنجنيق.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 69 73) .(3/152)
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسلَامًا} تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ: سَلَامَةً مِنْ حَرِّ النَّارِ، وَمِنْ بَرْدِهَا. قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ كَعْبًا قَالَ: مَا انْتَفَعَ بِهَا يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَمَا(3/152)
أحرقت مِنْهُ إِلَّا وثَاقه.(3/153)
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
{وَأَرَادُوا بِهِ كيدا} يَعْنِي: حَرْقُهُمْ إِيَّاهُ {فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} فِي النَّارِ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَخَسِرُوا الْجنَّة(3/153)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي باركنا فِيهَا} يَعْنِي: الأَرْض المقدسة {للْعَالمين} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: جَمِيعَ الْعَالَمِينَ(3/153)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} قَالَ الْحسن: أَي: عَطِيَّة.(3/153)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
{وجعلناهم أَئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا} قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ يُهْتَدَى بِهِمْ فِي أَمر الله.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 74 آيَة 77) .(3/153)
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)
{ولوطا آتيناه حكما وعلما} يَعْنِي: النُّبُوَّةَ {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تعْمل الْخَبَائِث} يَعْنِي: أَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا يَعْمَلُونَ الْخَبَائِثَ {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسقين} مُشْرِكين.(3/153)
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} وَهَذَا حِينَ أُمِرَ بِالدُّعَاءِ عَلَى قَوْمِهِ {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} قَالَ قَتَادَةُ: نُجِّيَ مَعَ نَوْحٍ: امْرَأَته وَثَلَاثَة بَنِينَ لَهُ ونساءهم؛ وَجَمِيعُهُمْ ثَمَانِيَةٌ {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} يَعْنِي: الْغَرق.
قَالَ مُحَمَّد: (نوحًا) مَنْصُوبٌ عَلَى مَعْنَى: اذْكُرْ نُوحًا، وَكَذَلِكَ دَاوُد وَسليمَان.(3/153)
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
{ونصرناه} يَعْنِي: نوحًا {من الْقَوْم} يَعْنِي: عَلَى الْقَوْمِ؛ فِي تَفْسِيرِ السّديّ.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 78 آيَة 82) .(3/154)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْث إِذْ نفشت فِيهِ} أَيْ: وَقَعَتْ فِيهِ {غَنَمُ الْقَوْمِ} النَّفْشُ بِاللَّيْلِ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ أَصْحَابَ الْحَرْثِ اسْتَعَدَوْا عَلَى أَصْحَابِ الْغَنَمِ، فَنَظَرَ دَاوُدُ ثَمَنَ الْحَرْثِ، فَإِذَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْ ثَمَنِ الْغَنَمِ، فَقَضَى بِالْغَنَمِ لِأَهْلِ الْحَرْثِ فَمَرُّوا بِسُلَيْمَانَ فَقَالَ: كَيْفَ قَضَى فِيكُمْ (نَبِيُّ اللَّهِ) ؟ فَأَخْبَرُوهُ، قَالَ لَهُمْ: [نِعْمَ] مَا قَضَى، وَغَيْرُهُ كَانَ أَرْفَقُ بِالْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَدَخَلَ أَصْحَابُ الْغَنَمِ عَلَى دَاوُدَ؛ فَأَخْبَرُوهُ فَأَرْسَلَ إِلَى سُلَيْمَانَ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ لَمَا حَدَّثْتَنِي كَيْفَ رَأَيْتَ فِيمَا قَضَيْتُ؟ قَالَ: تَدْفَعُ الْغَنَمَ إِلَى أَهْلِ الْحَرْثِ، فَيَنْتَفِعُونَ بِلَبَنِهَا وَسَمْنِهَا وَأَصْوَافِهَا عَامَهُمْ هَذَا، وَعَلَى أَهْلِ الْغَنَمِ أَنْ يَزْرَعُوا لِأَهْلِ الْحَرْثِ مِثْلَ الَّذِي أَفْسَدَتْ غَنَمُهُمْ فَإِذَا(3/154)
(بَلَغَ) مِثْلَهُ حِينَ أُفْسِدَ قَبَضُوا غَنَمَهُمْ؛ فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: نِعْمَ الرَّأْي رَأَيْت.
(ل 217) {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطير} كَانَتْ جَمِيعُ الْجِبَالِ وَجَمِيعُ الطَّيْرِ تُسَبِّحُ مَعَ دَاوُدَ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، ويفقه تسبيحها {وَكُنَّا فاعلين} أَيْ: قَدْ فَعَلْنَا ذَلِكَ.
قَالَ مُحَمَّد: يجوز نصب (الطير) مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا عَلَى مَعْنَى: وَسَخَّرْنَا الطَّيْرَ، وَالْأُخْرَى عَلَى مَعْنَى: يسبحْنَ مَعَ الطير.(3/155)
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
{وعلمناه صَنْعَة لبوس لكم} يَعْنِي: دُرُوعَ الْحَرْبِ {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بأسكم} يَعْنِي: الْقِتَالَ.
قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ قَبْلَ دَاوُدَ صَفَائِحَ، وَأَوَّلُ مَنْ صَنَعَ هَذِهِ الْحِلَقَ وَسَمَّرَهَا: دَاوُدُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: تُقْرَأُ {لِيُحَصِنَكُمْ} بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ؛ فَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فَالْمَعْنَى: لِيُحَصِنَكُمُ اللَّبُوسُ، وَمِنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَكَأَنَّهُ عَلَى الصَّنْعَةِ؛ لِأَنَّهَا أُنْثَى.(3/155)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)
{ولسليمان الرّيح} أَي: وسخرنا لِسُلَيْمَان الرّيح {عَاصِفَة} لَا تُؤْذِيهِ {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْض الَّتِي باركنا فِيهَا} يَعْنِي: أَرض الشَّام.(3/155)
وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ ويعملون عملا دون ذَلِك} (سِوَى ذَلِكَ) الْغَوْصِ، وَكَانُوا يَغُوصُونَ فِي الْبَحْرِ فَيُخْرِجُونَ لَهُ اللُّؤْلُؤَ، وَقَالَ فِي(3/155)
آيَةٍ أُخْرَى: {كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} . {وَكُنَّا لَهُم حافظين} حَفِظَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَلَّا يَذْهَبُوا ويتركوه.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 83 آيَة 86) .(3/156)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مسني الضّر} الْمَرَض {وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ} قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ أَيُّوبَ لَمْ يَبْلُغْهُ شَيْءٌ يَقُولُهُ النَّاسُ كَانَ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا مَا ابْتُلِيَ بِالَّذِي ابْتُلِيَ بِهِ، فَدَعَا اللَّهَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَعْمَلْ حَسَنَةً فِي الْعَلَانِيَةِ إِلَّا عَمِلْتُ فِي السِّرِّ مَثْلَهَا؛ فَاكْشِفْ مَا بِي مِنْ ضُرٍّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، فَوَقَعَ سَاجِدًا، وَأَمْطَرَ عَلَيْهِ فَرَاشَ الذَّهَبِ، فَجَعَلَ يَلْتَقِطُهُ وَيَجْمَعُهُ {وَآتَيْنَاهُ أَهله وَمثلهمْ مَعَهم} هَذَا مُفَسَّرٌ فِي سُورَةِ " ص " {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} أَيْ: أَنَّ الَّذِي كَانَ مِمَّنِ ابْتُلِي بِهِ أَيُوبُ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَوَانِهِ عَلَى اللَّهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ كَرَامَتَهُ بِذَلِكَ، وَجَعَلَ ذَلِك عزاء للعابدين بعده.(3/156)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
{وَإِسْمَاعِيل وَإِدْرِيس وَذَا الكفل} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: أَنَّ ذَا الْكِفْلِ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَلَكِنَّهُ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا تَكَفَّلَ بِعَمَلِ رَجُلٍ صَالِحٍ عِنْدَ مَوْتِهِ كَانَ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ(3/156)
يَوْمٍ مِائَةَ صَلَاةٍ؛ فَأَحْسَنَ اللَّهُ عَلَيْهِ الثَّنَاءَ.
وَتَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ تَكَفَّلَ لنَبِيٍّ أَنَّ يَقُومَ فِي قومه بعده بِالْعَدْلِ.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 87 آيَة 91) .(3/157)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
{وَذَا النُّون} يَعْنِي: يُونُسَ، قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: النُّونُ: الْحُوتُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: {وَإِسْمَاعِيل وَإِدْرِيس وَذَا الكفل} مَنْصُوبٌ عَلَى مَعْنَى: وَاذْكُرْ، وَكَذَلِكَ قَوْله: {وَذَا النُّونِ} . {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [لِقَوْمِهِ] : {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: أَنْ لَنْ نُعَاقِبَهُ بِمَا صَنَعَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَصْلُ الْكَلِمَةِ: الضِّيقُ؛ كَقَوْلِهِ: {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رزقه} أَيْ: ضَيَّقَ، وَمِنْ هَذَا قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ مُقَدَّرٌ عَلَيْهِ وَمُقَتَّرٌ.(3/157)
{فَنَادَى فِي الظُّلُمَات} يَعْنِي: فِي ظُلْمَةِ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةِ بَطْنِ الْحُوتِ {أَنْ لَا إِلَه إِلَّا أَنْت} الْآيَةُ.
يَحْيَى: عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ سَعْدٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " دَعْوةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: {لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمين} فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا مُسْلِمٌ رَبَّهُ قَطٌّ فِي شَيْءٍ إِلَّا اسْتَجَابَ لَهُ ".(3/158)
وَتَفْسِيرُ قِصَّةِ يُونُسَ (مَذْكُورٌ) فِي سُورَة الصافات.(3/159)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
{وأصلحنا لَهُ زوجه} قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ عَاقِرًا؛ فَجَعَلَهَا الله ولودا {وَوَهَبْنَا لَهُ} مِنْهَا {يحيي} . {ويدعوننا رغبا} أَي: طَمَعا {ورهبا} أَي: خوفًا.(3/159)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
{وَالَّتِي أحصنت فرجهَا} جَيْبَ دِرْعِهَا عَنِ الْفَوَاحِشِ {فَنَفَخْنَا فِيهَا من رُوحنَا} تَنَاوَلَ جِبْرِيلُ بِأُصْبَعِهِ جَيْبَهَا فَنَفَخَ فِيهِ؛ فَسَارَ إِلَى بَطْنِهَا فَحَمَلَتْ {وجعلناها وَابْنهَا آيَة للْعَالمين} يَعْنِي: أَنَّهَا وَلَدَتْهُ مِنْ غَيْرِ رجل.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 92 آيَة 95) .(3/159)
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ: دِينَكُمْ دِينًا وَاحِدًا.(3/159)
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ {أُمَّتُكُمْ} بِالرَّفْع، وَنصب (أمة وَاحِدَة) فأمتكم رفع خبر (هَذِه) ، وَنصب (أمة) لِمَجِيءِ النَّكِرَةِ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ؛ هَذَا قَول أبي عُبَيْدَة.(3/160)
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)
{وتقطعوا أَمرهم بَينهم} يَعْنِي: أَهْلَ الْكِتَابِ؛ أَيْ: فَرَّقُوا دِينَهُمُ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ، يَعْنِي: الْإِسْلَام [فَدَخَلُوا فِي] غَيره.(3/160)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
{فَلَا كفران لسعيه} لعمله {وَإِنَّا لَهُ كاتبون} نحسب حَسَنَاته (ل 218) حَتَّى يجزى بهَا الْجَنَّةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: تَقُولُ الْعَرَبُ: غُفْرَانَكَ لَاكُفْرَانَكَ؛ الْمَعْنَى: لَا نَجْحَدُ.(3/160)
وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)
{وَحرَام على قَرْيَة أهلكناها} أَيْ: وَاجِبٌ عَلَيْهَا {أَنَّهُمْ لَا يرجعُونَ} قَالَ الْحَسَنُ: [الْمَعْنَى] أَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ، وَلَا يَرْجِعُونَ عَنْ كُفْرِهِمْ.
وتقرأ أَيْضا {وَحرم عَلَى قَرْيَةٍ} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: حِرُمَ وَحَرَامٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ؛ أَيْ: وَاجِبٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:(3/160)
(فَإِنَّ حَرَامًا لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا ... عَلَى شَجْوَةٍ إِلَّا بَكَيْتُ على عَمْرو)
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 96 آيَة 100) .(3/161)
حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
قَوْله: {حَتَّى إِذا فتحت} أَيْ: أُرْسِلَتْ {يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ من كل حدب يَنْسلونَ} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: مِنْ كُلِّ أَكَمَةٍ يَخْرُجُونَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: النَّسَلَانِ فِي اللُّغَةِ: مُقَارَبَةُ الْخَطْوِ مَعَ الْإِسْرَاع.(3/161)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
{واقترب الْوَعْد الْحق} يَعْنِي: النَّفْخَةَ الْآخِرَةَ {فَإِذَا هِيَ شاخصة أبصار الَّذين كفرُوا} إِلَى إِجَابَةِ الدَّاعِي. {يَا وَيْلَنَا} يَقُولُونَ: يَا وَيْلَنَا {قَدْ كُنَّا فِي غَفلَة من هَذَا} يَعْنُونَ: تَكْذِيبَهُمْ بِالسَّاعَةِ {بَلْ كُنَّا ظالمين} لأنفسنا(3/161)
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ؛ لِأَنَّهُمْ بِعِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ عَابِدُونَ لِلشَّيَاطِينِ {حَصَبُ جَهَنَّم} أَيْ: يُرْمَى بِهِمْ فِيهَا.(3/161)
قَالَ مُحَمَّد: {حصب جَهَنَّم} مَا أُلْقِي فِيهَا؛ تَقُولُ: حَصَبْتُ فُلَانًا حَصْبًا بِتَسْكِينِ الصَّادِ؛ أَيْ: رَمَيْتُهُ، وَمَا رَمَيْتَ فَهُوَ حَصَبٌ. {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَة مَا وردوها} (يَعْنِي: الشَّيَاطِينَ) {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} العابدون والمعبودون(3/162)
لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
{لَهُم فِيهَا زفير} قَدْ مَضَى تَفْسِيرُ الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ {وهم فِيهَا لَا يسمعُونَ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا بَقَى فِي النَّارِ مَنْ يَخْلُدُ فِيهَا جُعِلُوا فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ فِيهَا مَسَامِيرٌ مِنْ نَارٍ، ثُمَّ جُعِلَتِ التَّوَابِيتُ فِي تَوَابِيتَ أُخَرَ، ثُمَّ جُعِلَتْ تِلْكَ التَّوَابِيتُ فِي تَوَابِيتَ أُخَرَ؛ فَلا يَرَوْنَ أَنَّ أَحَدًا يُعَذَّبُ فِي النَّارِ غَيْرَهَمْ. ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يسمعُونَ} .
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 101 آيَة 104) .(3/162)
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحسنى} يَعْنِي: الْجنَّة {أُولَئِكَ عَنْهَا} (يَعْنِي: النَّار) {مبعدون} قَالَ الْكَلْبِيُّ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَام مُقَابِلَ بَابِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} فَوَجِدَ مِنْهَا(3/162)
أَهْلُ مَكَّةَ وَجْدًا شَدِيدًا، فَقَالَ ابْنُ الزِّبْعَرَى: يَا مُحَمَّدُ؛ أَرَأَيْتَ الْآيَةَ الَّتِي قَرَأْتَ آنِفًا أَفِينَا وَهِي آلِهَتِنَا خَاصَّةً، أَمْ فِي الْأُمَمِ وَآلِهَتِهِمْ؟ قَالَ: لَا؛ بَلْ فِيكُمْ وَفِي آلِهَتِكُمْ وَفِي الْأُمَمِ وَآلِهَتِهِمْ. فَقَالَ: خَصَمْتُكَ وَالْكَعْبَةِ؛ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ النَّصَارَى يَعْبُدُونَ عِيسَى وَأُمِّهِ، وَإِنَّ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةِ، أَفَلَيْسَ هَؤُلَاءِ مَعَ أَلِهَتِنَا فِي النَّارِ؟ ! فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَضَحِكَتْ قُرَيْشٌ وَلَجُّوا؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَوَابَ قَوْلِهِمْ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون} يَعْنِي: عُزَيْرًا وَعِيسَى وَالْمَلَائِكَة(3/163)
لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
{لَا يسمعُونَ حَسِيسهَا} يَعْنِي: صَوْتَهَا إِلَى قَوْلِهِ: {الْفَزَعُ الْأَكْبَر} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: النَّفْخَةَ الْآخِرَةَ {وتتلقاهم الْمَلَائِكَة} قَالَ الْحَسَنُ: تَتَلَقَّاهُمُ بِالْبِشَارَةِ حِينَ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَتَقُولُ: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} .(3/163)
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكِتَابِ} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: كَطَيِّ الصَّحِيفَةِ فِيهَا الْكِتَابُ {كَمَا بَدَأْنَا أول خلق نعيده} قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يُبْعَثَ الْمُوْتَى، عَادَ النَّاسُ كُلُّهُمْ نُطَفًا ثُمَّ عِلَقًا ثُمَّ مُضَغًا ثُمَّ عِظَامًا ثُمَّ لَحْمًا، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِمُ الرُّوحَ، فَكَذَلِكَ بَدَأَهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يُرْسِلُ اللَّهَ مَاءً مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ مَنِيًا كَمَنِيِّ الرِّجَالِ فَتَنْبُتُ بِهِ جُسْمَانُهُمْ وَلُحْمَانُهُمْ؛ كَمَا تَنْبُتُ الْأَرْضُ مِنَ الثرى.(3/163)
{وَعدا علينا} (يَعْنِي: الْبِدْءَ) {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} أَيْ: نَحْنُ فَاعِلُونَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: {وَعدا} مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ؛ بِمَعْنَى: وَعَدْنَاهُمْ [هَذَا] وَعدا.
سُورَة الْأَنْبِيَاء من (آيَة 105 آيَة 112) .(3/164)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
{وَلَقَد كتبنَا فِي الزبُور} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: الْكُتُبَ: التَّوْرَاةَ والْإِنْجِيلَ وَالْقُرْآنَ {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} يَعْنِي: اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ {أَنَّ الأَرْضَ} يَعْنِي: أَرْضَ الْجَنَّةِ {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون}(3/164)
إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)
{إِن فِي هَذَا} يَعْنِي: الْقُرْآن {لبلاغا} إِلَى الْجنَّة {لقوم عابدين} الَّذين يصلونَ [الصَّلَوَات الْخمس](3/164)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (ل 219) تَفْسِير سَعِيد بْن جُبَيْر قَالَ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ تَمَّتْ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ عُوفِيَ مِمَّا عُذِّبَتْ بِهِ الْأُمَمُ؛ وَلَهُ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ.(3/164)
قَالَ يَحْيَى: [إِلَّا أَنَّ] تَفْسِيرَ النَّاسِ أَنَّ اللَّهَ أَخَّرَ عَذَابَ كُفَّارِ آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالِاسْتِئْصَالِ إِلَى النَّفْخَةِ الْأُولَى، ثُمَّ يَكُونُ هلاكهم بعد هَذَا.(3/165)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)
{فَقل آذنتكم على سَوَاء} قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ: مَنْ كَذَّبَ بِي فَهُوَ عِنْدِي سَوَاءٌ؛ أَيْ: جِهَادُكُمْ كُلُّكُمْ عِنْدِي سَوَاءٌ.
قَالَ مُحَمَّد: وَمعنى (آذنتكم) : أَعْلَمْتُكُمْ. {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بعيد مَا توعدون} يَعْنِي: السَّاعَة(3/165)
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)
{وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} تَفْسِير الْحسن يَقُول: وَإِن أَدْرِي لَعَلَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ السَّعَةِ وَالرَّخَاءِ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ زائل {فتْنَة} بلية لكم {ومتاع} تَسْتَمْتِعُونَ بِهِ؛ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {إِلَى حِين} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: إِلَى الْمَوْتِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَعْنَى (وَإِنْ أَدْرِي) : وَمَا أَدْرِي.(3/165)
قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
{قل رب احكم بِالْحَقِّ} قَالَ الْحَسَنُ: أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ أَنْ يَنْصَرَ أَوْلِيَاءَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ، فَنَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أَيْ: تَكْذِبُونَ.(3/165)
تَفْسِيرَ سُورَةِ الْحَجِّ
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ مَكِّيَّاتٍ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} إِلَى قَوْلِهِ: {عَذَابُ يَوْم عقيم} .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ الْحَج من (آيَة 1 آيَة 2) .(3/166)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
قَوْله: {يَا أَيهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَة شَيْء عَظِيم} يَعْنِي: النفخة الْآخِرَة(3/166)
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
{يَوْم ترونها تذهل} أَيْ: تُعْرِضُ {كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أرضعت} الْآيَة.
يَحْيَى: عَنْ أَبِي الأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: " بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ فِي مَسِيرٍ لَهُ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ السَّيْرُ؛ إِذْ رفع صَوته فَقَالَ: {يَا أَيهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلُهُ: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيد} فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَ نَبِيِّهِمُ اعْصَوْصَبُوا بِهِ. فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ ذَاكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ذَاكُمْ يَوْمٌ يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ: يَا آدَمُ، قُمِ ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: من كل ألف تِسْعمائَة وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِنْسَانًا إِلَى النَّارِ وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ. فَلَمَّا سَمِعُوا مَا قَالَ نَبِيُّهُمْ أُبْلِسُوا حَتَّى مَا يُجْلِي رَجُلٌ مِنْهُمْ عَنْ وَاضِحَةٍ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ فِي(3/166)
وُجُوهِهِمْ، قَالَ: اعْمَلُوا وَأَبْشِرُوا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ، أَوْ كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ، وَإِنَّكُمْ مَعَ خَلِيقَتَيْنِ مَا كَانَتَا مَعَ شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا كَثُرَتَاهُ: يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَمَنْ هَلَكَ يَعْنِي: وَمَنْ كَفَرَ مِنْ بَنِي إِبْلِيسَ، وَتُكْمَلُ الْعِدَّةُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ ".(3/167)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {وَتَرَى النَّاس سكارى} أَيْ: تَرَى أَنْتَ أَيُّهَا(3/168)
الْإِنْسَانُ النَّاسَ سُكَارَى مِنَ الْعَذَابِ وَالْخَوْف {وَمَا هم بسكارى} من الشَّرَاب.
سُورَة الْحَج من (آيَة 3 آيَة 4) .(3/169)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْر علم} يَعْنِي: الْمُشْرِكَ يُلْحِدُ فِي اللَّهِ، فَيَجْعَلُ مَعَهُ إِلَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ أَتَاهُ مِنَ اللَّهِ {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَان مُرِيد} أَيْ: جَرِيءٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَالشَّيَاطِينُ هِيَ الَّتِي أَمرتهم.(3/169)
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
{كتب عَلَيْهِ} أَيْ: قُضِيَ عَلَى الشَّيْطَانِ {أَنَّهُ من تولاه} اتبعهُ {فَأَنَّهُ يضله} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: (أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ) (أَنَّهُ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، (فَأَنَّهُ يضله) عَطْفٌ عَلَيْهِ، وَمَوْضِعُهُ رَفْعٌ أَيْضًا، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهَا مِكَرَّرَةٌ عَلَى جِهَةِ الْتَوْكِيدِ؛ الْمَعْنَى: كُتُبِ عَلَيْهِ أَنَّهُ من تولاه أضلّهُ.
سُورَة الْحَج (آيَة 5) .(3/169)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
{يَا أَيهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} أَيْ: فِي شَكٍّ (مِنَ الْبَعْثِ فَإنَّا خَلَقْنَاكُمْ(3/169)
من تُرَاب} وَهَذَا خَلْقُ آدَمَ {ثُمَّ مِنْ نُطْفَة} يَعْنِي: نَسْلَ آدَمَ {ثُمَّ مِنْ علقَة ثمَّ من مضعة مخلقة وَغير مخلقة} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: هُمَا جَمِيعًا: السَّقْطُ مُخَلَّقٌ وَغَيْرُ مُخَلَّقٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمعنى {مخلقة وَغير مخلقة} أَيْ: مِنَ الْخَلْقِ مَنْ تَتِمُّ مُضْغَتُهُ بِخَلْقِ الْأَعْضَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُتِمُّ اللَّهُ خَلْقَهُ. {لِنُبَيِّنَ لكم} أَيْ: خَلْقَكُمْ {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ} أَرْحَامَ النِّسَاءِ {مَا نَشَاءُ إِلَى أجل مُسَمّى} {ل 220} يَعْنِي: مُنْتَهَى الْوِلَادَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: تُقْرَأُ بِالرَّفْعِ عَلَى الْقَطْعِ [مِمَّا قَبْلَهُ] .
يَحْيَى: عَنْ صَاحِبٍ لَهُ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ [أَبِي وَائِلٍ] عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَام: " إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يُؤْمَرُ الْمَلَكُ أَوْ قَالَ: يَأْتِي الْمَلَكُ فَيُؤْمَرُ أَنْ يَكْتُبَ أَرْبَعًا: رِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَأَثَرَهُ وَشَقِيًا أَوْ سَعِيدًا ".(3/170)
{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشدّكُم} يَعْنِي: الِاحْتِلَامِ. {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} وَفِيهَا إِضْمَارٌ؛ أَيْ: يُتَوفَّى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَبْلُغَ أَرَذْلَ الْعُمُرِ {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمر} يَعْنِي: الْهَرم {لكَي لَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} أَيْ: يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُ شَيْئًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (طفْلا) فِي مَعْنَى: أَطْفَالَ؛ كَأَنَّ الْمَعْنَى: يَخْرُجُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ طِفْلًا.
وَقَوله: (لكَي لَا) هُوَ بِمَعْنَى حَتَّى لَا. {وَتَرَى الأَرْض هامدة} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: (غَبْرَاءَ) مُتَهَشِّمَةً.
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَامِدَةٌ حَقِيقَتُهَا جَافَّةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ: هُمُودُ النَّارِ إِذَا طُفِئَتْ فَذَهَبَتْ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ قَتَادَةَ. {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهتزت وربت} وِفِيهَا تَقْدِيمٌ، وَرَبَتْ لِلنَّبَاتِ؛ أَيْ: انْتَفَخَتْ، وَاهْتَزَّتْ بِالنَّبَاتِ؛ إِذَا أَنْبَتَتْ {وأنبتت من كل زوجٍ} أَي: من كل لون {بهيج} أَيْ: حَسَنٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (بَهِيجٍ) فِي مَعْنَى بَاهِجٌ؛ تَقُولُ الْعَرَبُ: امْرَأَة ذَات خلق باهج.
سُورَة الْحَج من (آيَة 6 آيَة 10) .(3/171)
وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنه يحيي الْمَوْتَى} الْآيَةُ، يَقُولُ: إِنَّ الَّذِي أَخْرَجَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ الْهَامِدَةِ مَا أَخْرَجَ مِنَ النَّبَاتِ قَادِرٌ عَلَى أَن يحيي الْمَوْتَى.(3/172)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى} أَتَاهُ مِنَ اللَّهِ {وَلا كِتَابٍ مُنِير} مضيء لعبادة الْأَوْثَان(3/172)
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)
{ثَانِي عطفه} أَيْ: عُنُقُهُ. تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: يَقُولُ: هُوَ مُعْرِضٌ عَنِ اللَّهِ.
قَالَ مُحَمَّد: (ثَانِي) مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ؛ الْمَعْنَى: لَاوِيًا عُنُقَهُ؛ وَهَذَا مِمَّا يُوصَفُ بِهِ الْمُتَكَبِّرُ. {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} يَعْنِي: الْقَتْلُ، قَالَ الْكَلْبِيُ: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ؛ فَقُتِلَ يَوْم بدر.
سُورَة الْحَج من (آيَة 11 آيَة 15) .(3/172)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ على حرف} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: عَلَى شَكٍّ. {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} أَيْ: رَضِيَ {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلب على وَجهه} أَيْ: تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ، هُوَ الْمُنَافِقُ؛ إِنْ رَأَى فِي الْإِسْلَامِ رَخَاءً وَطُمَأْنِينَةً طَابَتْ نَفْسُهُ بِمَا يُصِيبُ مِنْ ذَلِكَ الرَّخَاءِ، وَقَالَ: أَنَا مِنْكُمْ وَأَنَا مَعَكُمُ، وَإِذَا رَأَى فِي الْإِسْلَامِ شِدَّةً أَوْ بَلِيَّةً لَمْ يَصْبِرْ عَلَى مُصِيبَتِهَا، وَانْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ كَافِرًا، وَترك مَا كَانَ عَلَيْهِ.(3/173)
يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)
{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يضرّهُ وَلَا يَنْفَعهُ} يَعْنِي: الْوَثَنَ {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} .(3/173)
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفعه} يَعْنِي: الْوَثَنَ أَيْضًا؛ يَعْنِي: أَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَهُوَ كَلٌّ عَلَيْهِ {لبئس الْمولى} يَعْنِي: الْوَثَنَ {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} .(3/173)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} يَعْنِي: الْمُنَافِقَ؛ أَيْ: أَنَّهُ أَيِسَ مِنْ أَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا، لَا يُصَدِّقُ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ رَسُولَهُ مِنْ نَصْرِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَنَصْرُهُ فِي الْآخِرَةِ: الْجَنَّةُ {فليمدد بِسَبَب} أَي: بِحَبل {إِلَى السَّمَاء} يَقُولُ: فَلْيُعَلِّقْ حَبْلًا مِنَ السَّمَاءِ؛ يَعْنِي: سَقْفَ الْبَيْتِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ لِيَخْتَنِقَ حَتَّى يَمُوتَ {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يذْهبن كَيده} أَي: فعله {مَا يغِيظ} أَيْ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يُذْهِبُ غيظه.
سُورَة الْحَج من (آيَة 16 آيَة 18)(3/173)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ} يَعْنِي: الْقُرْآن {آيَات بَيِّنَات} أَي: بَين فِيهِ الْحَلَال وَالْحرَام.(3/174)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} تهودوا {وَالصَّابِئِينَ} وَهُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَيَقْرَءُونَ الزبُور {وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس} وَهُمْ عَبَدَةُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنِّيرَانِ {وَالَّذين أشركوا} وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} فِي الدُّنْيَا فَيُدْخِلُ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ، وَيُدْخِلُ [جَمِيعَ هُؤَلاءِ النَّارَ عَلَى مَا أَعَدَّ لِكُلِّ قوم.(3/174)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْض} يَعْنِي: جَمِيعَ أَهْلِ السَّمَاءِ يَسْجُدُونَ وَبَعْضُ أَهْلِ الْأَرْضِ. كَانَ الْحَسَنُ لَا يُعَوِّدُ السُّجُودَ إِلَّا مِنَ الْمُسلمين] {وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم} كلهَا {وَالْجِبَال} [كلهَا] {وَالشَّجر} [كُله] {وَالدَّوَاب} كُلُّهَا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى صِفَةِ الْإِنْسَانِ، فَاسْتَثْنَى فِيهِ، فَقَالَ {وَكَثِيرٌ من النَّاس} يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَاب} من لم يُؤمن.
سُورَة الْحَج من (آيَة 19 - آيَة 25) .(3/174)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: اخْتَصَمَ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ؛ فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ، وَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُبِ كُلِّهَا، وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَنَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ، فَأْفَلَجَ اللَّهُ أَهْلَ الْإِسْلَامِ؛ فَقَالَ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُم ثِيَاب من نَار} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَقَالَ {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار} الْآيَة، وَقَالَ: {خصمان} : أَهْلُ الْكِتَابِ خَصْمٌ، وَالْمُؤْمِنُونَ خَصْمٌ، ثمَّ قَالَ: (اخْتَصَمُوا) يَعْنِي: الْجَمِيع. {وَيصب من فَوق رُءُوسهم الْحَمِيم} وَهُوَ الْحَار الشَّديد الْحر.(3/175)
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)
{يصهر بِهِ} أَيْ: يُذَابُ بِهِ {مَا فِي بطونهم والجلود} أَي: وَتحرق بِهِ الْجُلُود(3/175)
وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)
{وَلَهُم مَقَامِع من حَدِيد} من نَار(3/175)
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا من غم أعيدوا فِيهَا} قَالَ الْحَسَنُ: تَرْفَعُهُمْ بِلَهَبِهَا؛ فَإِذَا كَانُوا فِي أَعْلَاهَا قَمَعَتْهُمُ(3/175)
الْمَلَائِكَةُ بِمَقَامِعَ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ نَارٍ فَيَهْوُونَ فِيهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا.(3/176)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} إِلَى قَوْلِهِ: {مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذهب ولؤلؤا} .
قَالَ مُحَمَّد: من قَرَأَ: {لؤلؤا} بِالنّصب فَالْمَعْنى: وَيحلونَ لؤلؤا.(3/176)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} هُوَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ {وهدوا} أَيْ: فِي الدُّنْيَا {إِلَى صِرَاطِ الحميد} وَهُوَ الله.(3/176)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيل الله وَالْمَسْجِد الْحَرَام} أَيْ: وَيَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ {الَّذِي جَعَلْنَاهُ للنَّاس} (قبْلَة) {سَوَاء العاكف فِيهِ} يَعْنِي: أهل مَكَّة {والبادي} يَعْنِي: مَنْ يَنْتَابَهُ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ يَقُولُ: هُمْ سَوَاءٌ فِي حَرَمِهِ وَمَسَاكِنِهِ وَحُقُوقِهِ.
قَالَ مُحَمَّد: (سَوَاء) الْقِرَاءَةُ فِيهِ بِالرَّفْعِ؛ عَلَى الِابْتِدَاءِ. {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} أَيْ: بِشِرْكٍ، وَالْإِلْحَادُ: الْمَيْلُ، الْمَعْنَى: وَمِنْ يُرِدْ أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ فِيهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: {بِإِلْحَادٍ} الْبَاء فِيهِ زَائِدَة.(3/176)
سُورَة الْحَج من (آيَة 26 آيَة 27) .(3/177)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} أَي: أعلمناه. {وطهر بَيْتِي} أَي: من عبَادَة الْأَوْثَان وَقَول الزُّورِ وَالْمَعَاصِي {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والقائمين} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي بِالْقَائِمِينَ: أَهْلَ مَكَّة {والركع السُّجُود} هم الَّذين يصلونَ إِلَيْهِ.(3/177)
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رجَالًا} أَيْ: مُشَاةً {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أَيْ: وَرُكْبَانًا عَلَى ضُمُرٍ مِنْ طُولِ السَّفَرِ {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فج عميق} بعيد.
قَالَ مُحَمَّد: (رجَالًا) جَمْعُ رَاجِلٍ، مِثْلُ صَاحِبٍ وَصِحَابٍ، وَقَالَ (يَأْتِين) عَلَى مَعْنَى جَمَاعَةِ الإِبِلِ.
يَحْيَى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْءَمَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " قَامَ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَام عِنْدَ الْبَيْتِ؛ فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، فَسَمِعَ أَهْلُ الْمَشْرِقِ وَأَهْلُ الْمَغْرِبِ ".
وَفِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ نَادَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِن لله بَيْتا فحجوه.
سُورَة الْحَج من (آيَة 28 آيَة 33) .(3/177)
سُورَة الْحَج من (آيَة 28 - آيَة 33) .(3/178)
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
{ليشهدوا مَنَافِع لَهُم} يَعْنِي: الْأَجْرَ فِي الْآخِرَةِ، وَالتِّجَارَةَ فِي الْمَوْسِمِ {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّام مَعْلُومَات} وَهِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ، آخِرُهَا يَوْمُ النَّحْرِ. [ {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ من بَهِيمَة الْأَنْعَام} يَعْنِي: إِذَا نَحَرَ وَذَبَحَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقِيلَ: إِنَّ الأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ: يَوْمُ النَّحْرِ] ، وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ. {وَأَطْعِمُوا البائس الْفَقِير} قَالَ الْحَسَنُ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يُطْعِمَ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا وَتَصَدَّقَ بِهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْبَائِسُ الَّذِي نَالَهُ بُؤْسٌ، وَهُوَ [شَدِيدُ] الْفَقْرِ يُقَالُ: قَدْ بَؤُسَ الرَّجُلُ وَبَئِسَ إِذَا صَارَ ذَا بُؤْسٍ؛ أَي: شدَّة.(3/178)
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
{ثمَّ ليقضوا تفثهم} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: الْتَفَثُ: تَقَشُّفُ الْإِحْرَامِ، وَبِرَمْيِهِمُ(3/178)
الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ يَحِلُّ لَهُمْ [كُلُّ شَيْءٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَعْنَى تَقَشُّفُ الْإِحْرَامِ: كُلُّ مَا لَا يجوز للْمحرمِ فعله مثل] (ل 222) قَصِّ الْشَارِبِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ [وَنَتْفِ الْإِبِطَيْنِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ مِنَ الطّيب وَغَيره. {وليوفوا نذورهم} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: مَا نَذَرَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ شَيْءٍ يَكُونُ فِي الْحَجِّ {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: أَعْتَقَهُ اللَّهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ؛ كَمْ مِنْ جَبَّارٍ صَارَ إِلَيْهِ يُرِيدُ أَنْ يَهْدِمَهُ؛ فَحَالَ الله بَينه وَبَينه(3/179)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
{وَمن يعظم حرمات الله} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: الْحُرُمَاتُ: مَكَّةُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ، وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَعَاصِيهِ كُلِّهَا {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَقَدْ مَضَى تَفْسِيره. {فَاجْتَنبُوهُ الرجس من الْأَوْثَان} يَقُولُ: اجْتَنِبُوا الْأَوْثَانَ؛ فَإِنَّهَا رِجْسٌ {وَاجْتَنبُوا قَول الزُّور} يَعْنِي: الشّرك {حنفَاء لله} أَي: مُخلصين.(3/179)
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
{وَمن يُشْرك بِاللَّه} الْآيَةُ، قَالَ الْحَسَنُ: شَبَّهَ اللَّهُ أَعْمَالَ الْمُشْرِكِينَ بِالَّذِي يَخِرُّ مِنَ السَّمَاءِ؛ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ، فَلَا يَصِلُ إِلَى الْأَرْضِ {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرّيح فِي مَكَان سحيق} بَعِيدٍ، فَيَذْهَبُ فَلَا يُوْجَدُ لَهُ أَصْلٌ، وَلَا يُرَى لَهُ أَثَرٌ. يَقُولُ: لَيْسَتْ لِأَعْمَالِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ اللَّهِ قَرَارٌ لَهُمْ بِهِ عِنْدَهُ خير فِي الْآخِرَة.(3/179)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
{وَذَلِكَ وَمن يعظم شَعَائِر الله} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: يَعْنِي: اسْتِعْظَامُ الْبُدْنِ، واستسمانها.(3/179)
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى} تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَجَلُ الْمُسَمَّى: إِلَى أَنْ تُقَلَّدَ وَتُشْعِرَ {ثمَّ محلهَا} إِذَا قَلَّدَتْ وَأُشْعِرَتْ {إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيق} .
سُورَة الْحَج من (آيَة 34 آيَة 37) .(3/180)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
{وَلكُل أمة} (وَلكُل قوم) {جعلنَا منسكا} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: حَجًا وَذَبْحًا. {وَبشر المخبتين} يَعْنِي: الْخَاشِعِينَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَاشْتِقَاقُ الْكَلِمَةِ مِنْ: الْخَبْتِ؛ وَهُوَ الْمَكَانُ المنخفض من الأَرْض.(3/180)
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبهم} أَي: خَافت {والمقيمي الصَّلَاة} يَعْنِي: الْمَفْرُوضَةَ {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} يَعْنِي: الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة.(3/180)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ الله لكم فِيهَا خير} أَيْ: أَجْرٌ فِي نَحْرِهَا، وَالصَّدَقَةُ مِنْهَا يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (الْبُدْنَ) بِالنَّصْبِ فَعَلَى فَعْلٍ مُضْمَرٍ؛ الْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا الْبُدْنَ. {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صواف} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ يَعْنِي: مُعْقَلَةً قِيَامًا. وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ (صَوَافِنَ) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (صواف) مُشَدَّدَةً؛ فَالْمَعْنَى: صُفَّتْ قَوَائِمُهَا، وَالنَّصْبُ فِيهَا عَلَى الْحَالِ، وَلَا تُنَوَّنُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْصَرِفُ وَمَنْ قَرَأَ (صَوَافِنَ) فَالْصَافِنُ: الَّذِي يَقُومُ عَلَى ثَلَاثٍ؛ يُقَالُ: صَفَنَ الْفَرَسُ؛ إِذَا رَفَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ؛ فَقَامَ عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ، وَالْبَعِيرُ إِذَا أَرَادُوا نَحْرَهُ تُعْقَلُ إِحْدَى يَدَيْهِ فَهُوَ الْصَافِنُ وَالْجَمِيعُ: صَوَافِنُ. وَقُرِئَتْ (صَوَافِيَ) بِالْيَاءِ وَالْفَتْحِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وَتَفْسِيرُهُ: خَوَالِصَ؛ أَيْ: خَالِصَةً لِلَّهِ لَا يُشْرِكْ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ فِي(3/181)
التَّسْمِيَةِ عَلَى نَحْرِهَا أَحَدٌ. وَقَدْ ذَكَرَ يَحْيَى هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ وَلَمْ يُلَخِّصْهَا هَذَا التَّلْخِيصَ.
قَالَ: {فَإِذَا وَجَبت جنوبها} أَي: أسقطت لِلْمَوْتِ {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ والمعتر} قَالَ الْحَسَنُ: الْقَانِعُ: السَّائِلُ، وَالْمُعْتَرُّ: الَّذِي يَتَعَرَّضُ وَيُقْبِلُ إِنْ أُعْطِي شَيْئًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: قَنَعَ يَقْنَعُ مِنَ السُّؤَالِ، وَقَنِعَ يَقْنَعُ مِنَ الرِّضَا وَالْمُعْتَرُّ: الَّذِي يَعْتَرِيكَ؛ أَيْ: يُلِمُّ لِتُعْطِيَهُ وَلَا يَسْأَلُ.(3/182)
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دماؤها} يَقُولُ: لَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَذْبَحُونَ لِآلِهَتِهِمْ، ثُمَّ يَنْضَحُونَ دماءها حول الْبَيْت. {لَكِن يَنَالهُ التَّقْوَى مِنْكُم} يَصْعَدُ إِلَيْهِ؛ يَعْنِي: مِمَّنْ آمَنَ. {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} السُّنَّةُ إِذَا ذَبَحَ أَوْ نَحَرَ أَنَّ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أكبر.
سُورَة الْحَج من (آيَة 38 41) .(3/182)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمنُوا} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يُدَافِعُ عَنْهُمْ، فَيَعْصِمُهُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ [فِي دِينِهِمْ] {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} .(3/183)
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} قَالَ قَتَادَة: هُم (أَصْحَاب نَبِي الله، أذن لَهُم بِالْقِتَالِ؛ بعد مَا أَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَشَدَّدُوا عَلَيْهِمْ، حَتَّى لحق طوائف مِنْهُم بالجبشة.
قَالَ مُحَمَّد: أذن) (ل 223) لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ أَنْ يُقَاتِلُوا. وَقِيلَ: إِنَّهَا أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي (الْجِهَاد) .(3/183)
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا الله} أَيْ: أَنَّهُمْ أُخْرِجُوا؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبيع وصلوات ومساجد} قَالَ قَتَادَةُ: الْصَوَامِعُ (لِلصَّابِئِينَ) ، وَالْبِيَعُ لِلنَّصَارَى؛ يَعْنِي: الْكَنَائِسَ، وَالصَّلَوَاتُ لِلْيَهُودُ وَمَسَاجِدَ؛ يَعْنِي: مَسَاجِدَ الْمُسْلِمِينَ {يُذْكَرُ فِيهَا اسْم الله كثيرا} يَعْنِي: الْمَسَاجِدَ {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ ينصره} أَيْ: مَنْ يَنْصُرُ دِينَهُ. مَعْنَى (وصلوات) أَي: بيُوت صلوَات(3/183)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} يَعْنِي: أَصْحَاب النَّبِي (أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ(3/183)
وَأمرُوا بِالْمَعْرُوفِ} بِعِبَادَةِ اللَّهِ {وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} عَن عبَادَة الْأَوْثَان.
سُورَة الْحَج من (آيَة 42 آيَة 46) .(3/184)
وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)
{فأمليت للْكَافِرِينَ} أَيْ: لَمْ أُهْلِكْهُمْ عِنْدَ تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ حَتَّى جَاءَ الْوَقْتُ الَّذِي أَرَدْتُ أَنْ أُهْلِكَهُمْ فِيهِ {ثُمَّ أخذتهم} بِالْعَذَابِ حِينَ جَاءَ الْوَقْتُ {فَكَيْفَ كَانَ نكيري} أَيْ: عِقَابِي، أَيْ: كَانَ شَدِيدًا يحذر بذلك الْمُشْركين.(3/184)
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
{فكأين من قَرْيَة} أَيْ: فَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ {أَهْلَكْنَاهَا وَهِي ظالمة} يَعْنِي: أَهْلَكْنَا أَهْلَهَا {فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عروشها} سَقْفِهَا، فَصَارَ أَعْلَاهَا أَسْفَلَهَا {وَبِئْرٍ معطلة} [أَيْ: قَدْ بَادَ أَهْلُهَا] {وَقَصْرٍ مشيد} قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَيْ: حَصِينٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: هُوَ مَا بُنِيُ بِالشِّيدِ، وَهُوَ الْجَصُّ. وَقِيلَ: مَعْنَى (مشيد) مطول(3/184)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
{أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ (فَتَكُونَ لَهُمْ(3/184)
قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يسمعُونَ بهَا} أَيْ: لَوْ صَارُوا فَتَفَكَّرُوا فَحَذِرُوا مَا نَزَلَ بِإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، فَيَتُوبُونَ لَوْ كَانَتْ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور} أَيْ: إِنَّمَا أُوتُوا مِنْ قِبَلِ قُلُوبهم.
سُورَة الْحَج من (آيَة 47 آيَة 51) .(3/185)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
{ويستعجلونك بِالْعَذَابِ} وَذَلِكَ مِنْهُمْ تَكْذِيبٌ وَاسْتِهْزَاءٌ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ {وَلَنْ يُخْلِفَ الله وعده} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَعْنِي: هَلَاكَهُمْ بِالسَّاعَةِ قَبْلَ عَذَابِ الْآخِرَةِ. {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعدونَ} يَوْمُ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ كَأَلْفِ سنة من أَيَّام الدُّنْيَا(3/185)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
{وَالَّذين سعوا فِي آيَاتنَا} أَي: كذبُوا {معاجزين} أَيْ: يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَنَا فَيَسْبِقُونَنَا حَتَّى لَا نَقْدِرَ عَلَيْهِمْ فَنُعَذِّبَهُمْ؛ هَذَا تَفْسِيرُ الْحَسَنِ. وَتَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: (معاجزين) : مُثَبِّطِينَ لِلنَّاسِ عَنِ الْإِيمَانِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لَمْ يُبَيِّنْ يَحْيَى قِرَاءَةَ مُجَاهِدٍ وَالْقِرَاءَةُ عَلَى تَفْسِيرِهِ: (مُعَجِّزِينَ) مثقلة.
سُورَة الْحَج من (آيَة 52 آيَة 56) .(3/185)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تمنى} أَيْ: تَلَا؛ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ. قَالَ قَتَادَةُ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ إِذْ نَعِسَ، فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ كَلِمَةً؛ فَتَكَلَّمَ بِهَا فَتَعَلَّقَهَا الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ قَرَأَ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ وَنَعِسَ: (فَإِنَّ شَفَاعَتَهَا هِيَ الْمُرْتَجَى وَإِنَّهَا لِمَنَ الْغَرَانِيقِ الْعُلَى) فَحَفِظَهَا الْمُشْرِكُونَ، وَأَخْبَرَهُمُ الشَّيْطَانُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ قَرَأَهَا فَزَلَّتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِهَا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تمنى} الْآيَة.
قَالَ مُحَمَّد: قِيلَ: إِن (تَمَنَّى) بِمَعْنَى تَلَا وَأَنْشَدَ [بَعْضُهُمْ] :(3/186)
(تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ آخِرَ لَيْلَةٍ ... تَمَنِّيَ دَاوُدُ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ)(3/187)
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)
قَوْلُهُ: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والقاسية قُلُوبهم} يَعْنِي: الْمُشْركين {وَإِن الظَّالِمين} الْمُشْركين {لفي شقَاق} أَي: فِرَاق {بعيد} عَن الْحق(3/187)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
{وليعلم الَّذِي أُوتُوا الْعلم} يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ. {أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبك فيؤمنوا بِهِ} أَيْ: يُصَدِّقُوا بِهِ قَوْلُهُ: {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبهم} أَي: تخشع(3/187)
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
{وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مرية مِنْهُ} [أَيْ: شَكٍّ؛ يَعْنِي: مِنَ الْقُرْآنِ] {حَتَّى تأتيهم السَّاعَة بَغْتَة} [يَعْنِي الَّذِينَ تَقُومُ عَلَيْهِمُ السَّاعَةُ، الدائنين] (ل 224) بدين أبي جهل و [أَصْحَابه] {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} أَيْ: عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: [أَصْلُ الْعُقْمِ] فِي الْوِلَادَةِ؛ يُقَالُ: امْرَأَةٌ عَقِيمٌ، وَرَجُلٌ عَقِيمٌ إِذَا كَانَ لَا يُولَدُ لَهُ، وَرِيحٌ عَقِيمٌ الَّتِي لَا تَأْتِي [بسحاب فتمطر] .
سُورَة الْحَج من (آيَة 57 آيَة 59) .(3/187)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)
{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثمَّ قتلوا} فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ [ (أَو(3/187)
مَاتُوا} عَلَى قُرُوحِهِمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ] {لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رزقا حسنا} يَعْنِي: الْجنَّة.
سُورَة الْحَج من (آيَة 60 آيَة 68) .(3/188)
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
{وَذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثمَّ بغي عَلَيْهِ} يَعْنِي: مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَنَّهُمْ عُوقِبُوا؛ فَقَتَلَهُمُ اللَّهُ بِجُحُودِهِمُ النَّبِيَّ وَظُلْمِهِمْ إِيَّاه وَأَصْحَابه وبغيهم عَلَيْهِم {لينصرنه الله} النَّصْرُ فِي الدُّنْيَا: الظُّهُورُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ.(3/188)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْل} وَهُوَ أَخذ كل وَاحِد مِنْهُمَا من صَاحبه(3/189)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مخضرة} أَيْ: بِالنَّبَاتِ إِذَا أَنْبَتَتْ، وَلَيْسَ يَعْنِي من لَيْلَتهَا(3/189)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
{وَإِن الله لَهو الْغَنِيّ} عَن خلقه {الحميد} اسْتَوْجَبَ عَلَى خَلْقِهِ أَنْ يَحْمَدُوهُ(3/189)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)
{ويمسك السَّمَاء أَن تقع} يَعْنِي: لِئَلَّا تقع(3/189)
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
{وَهُوَ الَّذِي أحياكم} مِنَ النُّطَفِ {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} يَعْنِي: الْبَعْث(3/189)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
{لكل أمة جعلنَا منسكا} أَيْ: حَجًّا وَذَبْحًا {هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا ينازعنك فِي الْأَمر} أَيْ: لَا يُحَوِّلَنَّكَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ هَذَا الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ يَقُولُهُ للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام.
سُورَة الْحَج من (آيَة 69 آيَة 72) .(3/189)
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
{اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون} يَعْنِي: مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ أَنْ يُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ، وَيُدْخِلَ الْكَافِرِينَ النَّارَ.(3/189)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
{إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أَي: هَين حِين كتبه(3/189)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا} يَعْنِي: حُجَّةً لِعِبَادَتِهِمْ {وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ علم} أَنَّ الْأَوْثَانَ خَلَقَتْ مَعَ اللَّهِ شَيْئا، وَلَا رزقت شَيْئا(3/189)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
(يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ(3/189)
آيَاتنَا} أَيْ: يَكَادُونَ يَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَهُمْ {قُلْ أفأنبئكم بشر من ذَلِكُم} بِشَرٍّ مِنْ قَتْلِ أَنْبِيَائِهِمْ {النَّارُ} هِيَ شَرٌّ مِمَّا صَنَعُوا (بِأَنْبِيَائِهِمْ؛ يَعْنِي: مِنْ قَتْلِهِمْ إِيَّاهُمْ.
قَالَ مُحَمَّد: من قَرَأَ (النَّار) بِالرَّفْعِ، فَعَلَى مَعْنَى: هِيَ النَّارُ.
سُورَة الْحَج من (آيَة 73 آيَة 76) .(3/190)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
{يَا أَيهَا النَّاس ضرب مثل} أَي: وصف {فَاسْتَمعُوا لَهُ} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ من دون الله} يَعْنِي: الْأَوْثَانَ {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} .
إِنَّ الذُّبَابَ يَقَعُ عَلَى تِلْكَ الْأَوْثَانِ فَيَنْقُرُ أَعْيُنَهَا وَوُجُوهَهَا فَيَسْلُبُهَا مَا أَخَذَ مِنْ وُجُوهِهَا وَأَعْيُنِهَا.
وَسَمِعْتُ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُونَهَا بِخَلُوقٍ. قَالَ اللَّهُ {ضَعُفَ الطَّالِب} يَعْنِي: الوثن {وَالْمَطْلُوب} يَعْنِي: الذُّبَاب(3/190)
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أَيْ: مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ؛ بِأَنْ عَبَدُوا الْأَوْثَانَ مِنْ دُونِهِ الَّتِي إِنْ سَلَبَهَا(3/190)
الذُّبَابُ الضَّعِيفُ لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تمْتَنع مِنْهُ(3/191)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
{يعلم مَا بَين أَيْديهم} مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ {وَمَا خَلْفَهُمْ} مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا إِذَا كَانُوا فِي الْآخِرَة.
سُورَة الْحَج من (آيَة 77 آيَة 78) .(3/191)
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} هِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ حق تُقَاته} وَهُمَا مَنْسُوخَتَانِ؛ نَسَخَتْهُمَا الْآيَةُ الَّتِي فِي الْتَغَابُنِ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم} . {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ من حرج} أَيْ: مِنْ ضِيقٍ. {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيم هُوَ سَمَّاكُم الْمُسلمين} يَقُولُ اللَّهُ: سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ؛ أَيْ: مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ فِي الْكُتُبِ كُلِّهَا وَفِي الذّكر، {وَفِي هَذَا} الْقُرْآنِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ) الْمَعْنَى: اتَّبِعُوا مِلَّةَ أَبِيكُمْ. {لِيَكُونَ الرَّسُول شَهِيدا عَلَيْكُم} بَأَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النَّاس}(3/191)
بِأَن الرُّسُل قد بلغت قَومهَا. {واعتصموا بِاللَّه} أَيْ: بِدِينِ اللَّهِ {هُوَ مَوْلاكُمْ} وَلِيكُم {فَنعم الْمولى} الْوَلِيّ {وَنعم النصير} وَعَدَهُمُ النَّصْرَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْمُشْركين.(3/192)
تَفْسِير سُورَة الْمُؤمنِينَ وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم
سُورَة الْمُؤْمِنُونَ من (آيَة 1 آيَة 11) . (ل 225)(3/193)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
قَوْلُهُ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} يَعْنِي: بِاللَّهِ [ ... ] عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَة: قَالَ: ذكر لَنَا أَن كَعْبًا قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ بِيَدِهِ إِلَّا ثَلَاثًا: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ الْجَنَّةَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، فَقَالَتْ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ".(3/193)
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
قَوْلُهُ: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعون} .(3/193)
يَحْيَى: عَنْ خَدَاشٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ) : " كَانُوا يَلْتَفِتُونَ فِي صَلَاتِهِمْ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَغَضُّوا أَبْصَارَهُمْ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَنْظُرُ إِلَى مَوضِع سُجُوده ".(3/194)
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} اللَّغْو: الْبَاطِل(3/195)
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)
{وَالَّذين هم لِلزَّكَاةِ فاعلون} يَعْنِي: يؤدون الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة(3/195)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)
{وَالَّذين هم لفروجهم حافظون} من الزِّنَا.(3/195)
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)
{إِلَّا على أَزوَاجهم} يَتَزَوَّجُ أَرْبَعًا إِنْ شَاءَ وَلَا يَحِلُّ لَهُ مَا فَوْقَ ذَلِكَ {أَو مَا ملكت أَيْمَانهم} يَطَأُ بِمِلْكِ يَمِينِهِ كَمَ شَاءَ {فَإِنَّهُم غير ملومين} أَيْ: لَا لَوْمَ عَلَيْهِمْ فِيمَا أحل لَهُم(3/195)
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)
{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هم العادون} يَعْنِي: الزُّنَاةَ؛ يَتَعَدَّوْنَ الْحَلالَ إِلَى الْحَرَام(3/195)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)
{وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} يَقُولُ: يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ وَيُوفُونَ بِالْعَهْدِ(3/195)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)
{وَالَّذين هم على صلواتهم} [يَعْنِي: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ] {يُحَافِظُونَ} عَلَى وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها(3/195)
أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)
{أُولَئِكَ هم الوارثون} لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ مَنْزِلًا وَأَهْلًا فِي الْجَنَّةِ؛ فَإِنْ أَطَاعَ اللَّهُ صَارَ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ، وَإِنْ عَصَى اللَّهَ صَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمَنْزِلَ عَنْهُ؛ فَأَعْطَاهُ الْمُؤْمِنَ مَعَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَوَرَّثَ الْمُؤْمِنِينَ تِلْكَ الْمَنَازِلَ والأزواج(3/195)
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
{الَّذين يَرِثُونَ الفردوس} .
يَحْيَى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْءَمَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: الْفِرْدَوْسُ جَبَلٌ فِي الْجَنَّةِ تَتَفَجَّرُ مِنْهُ أَنْهَارُ الْجنَّة.
سُورَة الْمُؤْمِنُونَ من (آيَة 12 17) .(3/195)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ من طين} خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ طِينٍ (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ بَعْدُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ؛ يَعْنِي: النُّطْفَة)(3/196)
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)
{ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مكين} يَعْنِي: الرَّحِم(3/196)
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعلقَة مُضْغَة} يَكُونُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ نُطْفَهً أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً أَرْبَعِينَ لَيْلَةً {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} يَعْنِي: جَمَاعَةَ الْعِظَامِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (علقَة) وَاحِدَة: العلق؛ وَهُوَ الدَّم، و (المضغة) : اللَّحْمَةُ الصَّغِيرَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا بِقَدْرِ مَا يُمْضَغُ. {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خلقا آخر} يَعْنِي: ذكرا أَو أُنْثَى؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ {فَتَبَارَكَ اللَّهُ} هُوَ مِنْ بَابِ الْبَرَكَةِ {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} إِنَّ الْعِبَادَ قَدْ يَخْلِقُونَ، وَيُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْفُخُوا فِيهِ الرُّوحَ.
يَحْيَى: عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمُصَوِّرُونَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ " مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ.
يَحْيَى: عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ يَعْلَى الثَّقَفِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " قَالَ اللَّهُ: مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا(3/196)
ذُبَابًا أَوْ ذَرَّةً أَوْ بَعُوضَةً ".(3/197)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: يَعْنِي: سَبْعَ سَمَوَاتٍ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (طرائق) جَمْعُ: طَرِيقَةٍ؛ يُقَالُ: طَارَقْتُ الشَّيْءَ؛ إِذا جَعَلْتُ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ. رِيشٌ طَرَّاقٌ. {وَمَا كُنَّا عَن الْخلق غافلين} يَعْنِي: أَنْ نُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ مَا يُحْيِيهِمْ، وَمَا يُصْلِحُهُمْ مَنْ هَذَا الْمَطَر؛ فِي تَفْسِير الْحسن.
سُورَة الْمُؤْمِنُونَ من (آيَة 18 آيَة 22) .(3/197)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: يَعْنِي: الْأَنْهَارَ وَالْعُيُونَ والآبار.(3/197)
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)
{فأنشأنا لكم بِهِ} أَيْ: أَنْبَتْنَا {جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ} الْآيَة(3/197)
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
{وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} و [هِيَ الزيتونة] ، وَالطور [الْجَبَل] و {شَجَرَة} مَعْطُوف (ل 226) عَلَى قَوْلِهِ: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جنَّات} .(3/197)
قَوْله: {تنْبت بالدهن} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: تُثْمِرُ بِهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: نَبَتَ الشَّجَرُ وَأَنْبَتَ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ. {وَصِبْغٍ للآكلين} أَي: يأتدمون بِهِ(3/198)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} (لحجة) {نسقيكم مِمَّا فِي بطونه} يَعْنِي: اللَّبَنَ {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَة} يَعْنِي: مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ ظُهُورهَا وَغير ذَلِك.
سُورَة الْمُؤْمِنُونَ من (آيَة 23 آيَة 27) .(3/198)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)
{مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيد أَن يتفضل عَلَيْكُم} أَيْ: بِالرِّسَالَةِ. {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلين} أَن رجلا ادّعى النُّبُوَّة(3/198)
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
{إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جنَّة} أَيْ: جُنُونٌ {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِين} أَيْ: حَتَّى يَمُوتَ؛ فِي تَفْسِيرِ بَعضهم.(3/198)
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
{فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} قد مضى(3/198)
تَفْسِير فِي سُورَة هود. {وَأهْلك} أَيْ: وَاحْمِلْ فِيهَا أَهْلَكَ {إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} يَعْنِي: الْغَضَب {وَلَا تخاطبني} أَيْ: لَا تُرَاجِعْنِي {فِي الَّذِينَ ظلمُوا} أشركوا.
سُورَة الْمُؤْمِنُونَ من (آيَة 28 آيَة 30) .(3/199)
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)
{وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا} قَالَ هَذَا لِنُوحٍ حِينَ نَزَلَ مِنَ السَّفِينَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: تُقْرَأُ {منزلا} وَ {مَنْزَلا} ؛ فَالْمَنْزِلُ: اسْمٌ لِمَا نَزَلْتَ فِيهِ، وَالْمُنْزَلُ: الْمَصْدَرُ؛ بِمَعْنَى الْإِنْزَال.(3/199)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
{إِن فِي ذَلِك} فِي أَمْرِ قَوْمِ نَوحٍ وَغَرَقِهِمْ {لآيَات} لِمَنْ بَعْدَهُمْ. {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} يَعْنِي: مَا أَرْسِلَ بِهِ الرُّسُلَ مِنْ عِبَادَتِهِ، وَمَعْنَى الِابْتِلَاءِ: الِاخْتِبَارُ.
سُورَة الْمُؤْمِنُونَ من (آيَة 31 آيَة 41) .(3/199)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)
{وأترفناهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} يَقُولُ: وَسَّعْنَا عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ(3/200)
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)
{هَيْهَات هَيْهَات لما توعدون} تَبَاعَدَ الْبَعْثُ فِي أَنْفُسِ الْقَوْمِ.
قَالَ مُحَمَّد: من كَلَام الْعَرَب: هَيْهَاتَ لِمَا قُلْتَ؛ يَعْنُونَ: بُعْدًا لِقَوْلِكَ، وَيُقَالُ: أَيْهَاتَ؛ بِمَعْنَى: هَيْهَاتَ.(3/200)
قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)
{عَمَّا قَلِيل ليصبحن نادمين} يَعْنِي: عَنْ قَلِيلٍ وَالْمِيمُ صِلَةٌ، فِي تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: هِيَ صِلَةٌ زَائِدَةٌ؛ بِمَعْنَى التَّوْكِيدِ.(3/200)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
{فَأَخَذتهم الصَّيْحَة} يَعْنِي: الْعَذَابَ؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ {فجعلناهم غثاء} يَعْنِي: مِثْلَ النَّبَاتِ إِذَا تَهَشَّمَ بَعْدَ إِذْ كَانَ أَخْضَرَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْغُثَاءُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ مَا عَلَا السَّيْلَ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ.
الْمَعْنَى: جَعَلْنَاهُمْ هَلْكَى كَالْغُثَاءِ؛ لِأَن الغثاء يتفرق وَيذْهب.(3/200)
سُورَة الْمُؤْمِنُونَ من (آيَة 42 آيَة 50) .(3/201)
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)
{مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} يَعْنِي: الْوَقْتُ الَّذِي يُهْلِكُهَا فِيهِ {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} عَنِ الْوَقْتِ سَاعَةً، وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ سَاعَة قبل الْوَقْت(3/201)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
{ثمَّ أرسلنَا رسلنَا تترى} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: تِبَاعًا؛ بَعْضُهُمْ عَلَى إِثْرِ بَعْضٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهُوَ مِنَ التَّوَاتُرِ، وَقِيلَ: الْأَصْلُ فِي تَتْرَى: وَتْرَى؛ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ تَاءً؛ كَمَا قَلَبُوهَا فِي التُّخْمَةِ وَالتُّكْلَانِ. {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} يَعْنِي: الْعَذَابَ الَّذِي أَهْلَكْنَاهُمْ بِهِ أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} لمن بعدهمْ.(3/201)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)
{وَكَانُوا قوما عالين} أَيْ: مُسْتَكْبِرِينَ فِي الْأَرْضِ عَلَى النَّاس(3/201)
فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)
{فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لنا عَابِدُونَ} وَكَانُوا قَدِ اسْتَعْبَدُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَوَضَعُوا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، وَلَيْسَ يَعْنِي: أَنهم يعبدوننا.(3/201)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} عِبْرَةً خُلِقَ لَا وَالِدَ لَهُ {وآويناهما إِلَى ربوة} قَالَ قَتَادَةُ: الرَّبْوَةُ هَا هُنَا: بَيْتُ الْمَقْدِسِ. قَالَ يَحْيَى: ذَكَرَ لَنَا أَنَّ كَعْبًا كَانَ يَقُولُ: هِيَ أَدْنَى الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ بِثَمَانِيَةَ عَشْرَ مِيلًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: كُلُّ مَا ارْتَفَعَ وَزَادَ فَقَدْ رَبًّا. {ذَات قَرَار} قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: ذَاتَ جِنَانٍ {ومعين} قَالَ عِكْرِمَةَ: الْمَعِينُ: الظَّاهِرُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مَفْعُولٌ مِنَ الْعَيْنِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ: معيون.
سُورَة الْمُؤْمِنُونَ من (آيَة 51 آيَة 56) .(3/202)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
قَوْله: {يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات} [يَعْنِي: الْحَلَالَ مِنَ الرِّزْقِ] {وَاعْمَلُوا صَالحا} الْآيَةُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: خَاطَبَ [بَهَذَا النَّبِيَّ، عَلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِ فِي مُخَاطَبَةِ الْوَاحِدِ(3/202)
خطاب الْجَمِيع، وتضمن (ل 227) الْخَطَّابُ إِلَى الرُّسُلِ جَمِيعًا؛ كَذَا أمروا.(3/203)
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أَيْ: مِلَّةً وَاحِدَةً؛ يَعْنِي: الْإِسْلَامَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذِهِ} بِفَتْحِ الْأَلِفِ فَالْمَعْنَى: لِأَنَّ هَذِه أمتكُم.(3/203)
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
{فتقطعوا أَمرهم بَينهم} يَعْنِي: دِينَهُمُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ {زبرا} وَهِيَ تُقْرَأُ عَلَى وَجْهَيْنِ {زُبُرًا} بِفَتْحِ الْبَاءِ وَرَفْعِهَا؛ فَمَنْ قَرَأَهَا بِالْفَتْحِ فَالْمَعْنَى: قِطَعًا، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالرَّفْعِ فَالْمَعْنَى: كُتُبًا، يَقُولُ: فَرَّقُوا كِتَابِ اللَّهِ فَحَرَّفُوهُ وَبَدَّلُوهُ، وَكَتَبُوهُ عَلَى مَا حَرَّفُوا {كُلُّ حِزْبٍ} أَيْ: قَوْمٍ مِنْهُمْ {بِمَا لَدَيْهِمْ} بِمَا عِنْدَهُمْ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ {فَرِحُونَ} أَي: راضون(3/203)
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
{فذرهم فِي غمرتهم} أَي: غفلتهم {حَتَّى حِين} يَعْنِي: إِلَى آجَالِهِمْ. وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْقِتَالِ.(3/203)
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55)
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَال} أَيْ: نُعْطِيهِمْ مِنْ مَالٍ {وَبَنِينَ نسارع لَهُم فِي الْخيرَات} أَيْ: لَيْسَ لِذَلِكَ نَمُدُّهُمْ بِالْمَالِ والبنين(3/203)
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
{بل لَا يَشْعُرُونَ} أَنَّا لَا نُعْطِيهُمْ ذَلِكَ مُسَارَعَةً لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ، وَأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ إِلَى النَّار؛ يَعْنِي: الْمُشْركين.
سُورَة الْمُؤْمِنُونَ من (آيَة 57 آيَة 67) .(3/203)
وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)
{وَالَّذين يُؤْتونَ مَا آتوا} ممدودة {وَقُلُوبهمْ وَجلة} أَيْ: خَائِفَةٌ {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ قَالَ: كَانُوا يَعْمَلُونَ مَا عَمِلُوا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَيَخَافُونَ أَلَا يُنْجِيَهُمْ ذَلِكَ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَعْنَى أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ: أَنَّهُمْ يُوقِنُونَ بِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى رَبِّهِمْ.(3/204)
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
{أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: فِيمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} أَي: وهم بالخيرات سَابِقُونَ.(3/204)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
{وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} إِلَّا طاقتها {ولدينا} عندنَا {كتاب ينْطق بِالْحَقِّ} يُرِيد: الْكتاب الأول.(3/204)
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: فِي غَفْلَةٍ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ من دون ذَلِك} يَقُولُ: لَهُمْ(3/204)
أَعْمَالٌ لَمْ يَعْمَلُوهَا سَيَعْمَلُونَهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ: أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ أَنَّهُمْ سَيَعْمَلُونَ أَعْمَالًا تُبْعِدُ مِنَ اللَّهِ غَيْرَ الْأَعْمَال الَّتِي ذكرُوا بهَا.(3/205)
حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)
{حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ} يَعْنِي: أَبَا جَهْلٍ وَأَصْحَابَهُ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ {إِذَا هُمْ يجأرون} قَالَ الْحَسَنُ: يَصْرُخُونَ إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ فَلَا تقبل مِنْهُم.(3/205)
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)
{فكنتم على أعقابكم تنكصون} أَيْ: تَسْتَأْخِرُونَ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ(3/205)
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
{مستكبرين بِهِ} أَي: بِالْحرم {سامرا تهجرون} أَي: تتكلمون بِهَجْرِ الْقَوْلِ وَمُنْكَرِهِ.
قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي بِهَذَا: أَهْلَ مَكَّةَ؛ كَانَ سَامِرَهُمْ لَا يَخَافُ شَيْئًا؛ كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ؛ فَلَا نُقْرَبُ لِمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْأَمْنِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَتَكَلَّمُونَ بِالشِّرْكِ وَالْبُهْتَانِ.
وَالْقِرَاءَةُ عَلَى تَفْسِيرِ قَتَادَةَ: بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ. وَكَانَ الْحسن يقْرؤهَا: (تهجرون) بِنَصْبِ التَّاءِ وَرَفْعِ الْجِيمِ؛ وَتَأْوِيلَهَا: الصَّدُّ وَالْهُجْرَانُ. يَقُولُ: قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمَانِكُمْ أَنَّ سَامِرَكُمْ [يَسْمُرُ] بِالْبَطْحَاءِ؛ يَعْنِي: سَمَرَ اللَّيْلِ، وَالْعَرَبُ يَقْتُلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَأَنْتُمْ فِي ذَلِكَ تَهْجُرُونَ كِتَابِي وَرَسُولِي.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: هَذَا سَامِرُ الْحَيِّ؛ يُرَادُ الْمُتَحَدِّثُونَ مِنْهُم لَيْلًا.(3/205)
سُورَة الْمُؤْمِنُونَ من (آيَة 68 آيَة 74) .(3/206)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)
{أفلم يدبروا القَوْل} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لم يَأْتِ آبَاءَهُم الْأَوَّلين} أَيْ: لَمْ يَأْتِهِمْ إِلَّا مَا أَتَى آبَاءَهُم الْأَوَّلين.(3/206)
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)
{أم لم يعرفوا رسولهم} يَعْنِي: مُحَمَّدًا {فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} بل يعْرفُونَ وَجهه وَنسبه(3/206)
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
{وَأَكْثَرهم للحق كَارِهُون} يَعْنِي: جَمَاعَةً مَنْ لَمْ يُؤْمِنُ مِنْهُم(3/206)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
{وَلَو اتبع الْحق أهواءهم} يَعْنِي: أهواء الْمُشْركين {لفسدت السَّمَاوَات وَالْأَرْض} تَفْسِير الْحسن يَقُول: لَو كَانَ الْحَقُّ فِي أَهْوَائِهِمْ لَوَقَعَتْ أَهْوَاؤُهُمْ عَلَى إِهْلَاكِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ {بَلْ أتيناهم بذكرهم} أَيْ: بِشَرَفِهِمْ؛ هُوَ شَرَفٌ لِمَنْ آمَنَ بِهِ {فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ} [عَنْ شَرَفِهِمْ] {مُعْرِضُونَ} .(3/206)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
{أم تَسْأَلهُمْ خرجا} [أَيْ: أَجْرًا عَلَى مَا جِئْتَهُمْ بِهِ، لِأَنَّكَ لَا تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا {فخراج رَبك} (ل 228) يَعْنِي: ثَوَابُهُمْ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ من أجرهم أَو أَعْطُوْكَ فِي الدُّنْيَا أَجْرًا {وَهُوَ خير الرازقين} وَقَدْ يَجْعَلُ اللَّهُ رِزْقَ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ يَرْزُقُ هَذَا عَلَى يَدَيْ هَذَا يَرْزُقُ اللَّهُ إيَّاهُم {وَهُوَ خير الرازقين} يَعْنِي: أفضلهم.(3/206)
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
{وأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَن الصِّرَاط لناكبون} أَي: تاركون لَهُ.(3/206)
سُورَة الْمُؤْمِنُونَ من (آيَة 75 آيَة 77) .(3/207)
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ من ضرّ} نَزَلَتْ فِي أَهْلِ مَكَّةَ؛ وَذَلِكَ حِينَ أُخِذُوا بِالْجُوعِ سَبْعَ سِنِينَ؛ حَتَّى أَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْعِظَامَ وَأُجْهِدُوا؛ حَتَّى جَعَلَ أَحَدُهُمْ يَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ دُخَانًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَان مُبين} نزلت هَذِه الْآيَة قبل أَن يُؤْخَذُوا بِالْجُوعِ، ثُمَّ أُخِذُوا بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ (وَهُمْ فِي ذَلِكَ الْجُوعِ: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طغيانهم يعمهون} يَتَرَدَّدُونَ(3/207)
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)
{وَلَقَد أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ} يَعْنِي: ذَلِكَ الْجُوعِ فِي السَّبْعِ السِّنِينَ) {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} يَقُولُ: لَمْ يُؤْمِنُوا، وَقَدْ سَأَلُوا أَنْ يَرْفَعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَيُؤْمِنُوا، فَقَالُوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ} وَهُوَ ذَلِكَ الْجُوعُ {إِنَّا مُؤْمِنُونَ} فكشف عَنْهُم، فَلم يُؤمنُوا(3/207)
حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
{حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَاب شَدِيد} يَعْنِي: يَوْمَ بَدْرٍ قُتِلُوا بِالسَّيْفِ {إِذا هم فِيهِ مبلسون} يئسوا من كل خير.
سُورَة الْمُؤْمِنُونَ من (آيَة 78 آيَة 89) .(3/207)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)
{وَهُوَ الَّذِي أنشأ لكم} أَيْ: خَلَقَ. {قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} أَقَلُّكُمْ مَنْ يَشْكُرْ؛ أَيْ: يُؤْمِنُ.(3/208)
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
{أَفلا تعقلون} يَقُولُهُ لِلْمُشْرِكِينَ، يُذَكِّرْهُمْ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ يَقُولُ: فَالَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبصار والأفئدة، وَيحيى ويمت، وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ قَادِرٌ على أَن يحيي الْمَوْتَى(3/208)
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)
{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَولونَ} ثُمَّ أَخْبَرَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ؛ فَقَالَ {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} إِلَى قَوْله: {أساطير الْأَوَّلين} أَي: كذب الْأَوَّلين وباطلهم؛(3/208)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)
فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولُ لَهُمْ: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(3/208)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)
وَقَالَ: {سيقولون لله} أَي: فَإِذا قَالُوا ذَلِك {قل أَفلا تذكرُونَ} فَتُؤْمِنُوا، وَأَنْتُمْ تُقِرُّوَنْ أَنَّ الْأَرْضَ وَمن فِيهَا لله(3/208)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)
{قل من رب السَّمَاوَات السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لله} فَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ فَ {قُلْ أَفلا تَتَّقُون} وَأَنْتُمْ تُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَرَبُّهَا، وَقَدْ كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يُقِرُّونَ بَهَذَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قِرَاءَةُ يَحْيَى (سَيَقُولُونَ اللَّهُ) وَهِيَ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فِيمَا ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ: وَعَامَّةُ الْقُرَّاء يقرءونها: (سيقولون لله) .(3/208)
قَالَ: وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يُحْكَى عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهُ يُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَنْ رَبُّ هَذِهِ الدَّارِ؟ فَيَقُولُ: لِفُلَانٍ؛ بِمَعْنَى: هِيَ لفُلَان.(3/209)
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
{قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْء} أَيْ: مُلْكُ كُلِّ شَيْءٍ {وَهُوَ يجير} مَنْ يَشَاءُ، فَيَمْنَعُهُ فَلَا يُوصَلُ إِلَيْهِ {وَلَا يجار عَلَيْهِ} أَيْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُعَذِّبَهُ لم يسْتَطع أحد مَنعه(3/209)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
{سيقولون لله} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ أَيْضًا فِي قَوْله: {سيقولون لله} وَهِيَ فِي التَّأْوِيلِ مِثْلُ الَّتِي قبلهَا. {فَأنى تسحرون} أَيْ: فَكَيْفَ تَسْحِرُونَ عُقُولَكُمْ؟ فَشَبَّهَهُمْ بِقَوْمٍ مَسْحُورِينَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقِيلَ: الْمَعْنَى: كَيْفَ تُخْدَعُونَ وَتُصْرَفُونَ عَنْ هَذَا؟ !
سُورَة الْمُؤْمِنُونَ من (آيَة 90 98) .(3/209)
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
{بل أتيناهم بِالْحَقِّ} يَعْنِي: الْقُرْآن {وَإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} وَهِيَ تُقْرَأُ: (بَلْ(3/209)
أتيتهم) يَقُوله للنَّبِي(3/210)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خلق} يَقُولُ: لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} يَقُولُ: لَطَلَبَ بَعْضُهُمْ مُلْكَ بَعْضٍ حَتَّى يَعْلُوَ عَلَيْهِ؛ كَمَا يَفْعَلُ مُلُوك الدُّنْيَا.(3/210)
{عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة} قَالَ الْحسن: الْغَيْب هَاهُنَا: مَا لَمْ [يَحِنْ مِنْ غَيْبِ الْآخِرَةِ، وَالشَّهَادَةِ: مَا أَعْلَمَ بِهِ الْعِبَادَ. قُلْ يَا مُحَمَّدُ: {فَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ} ] (ل 229)(3/210)
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93)
{مَا يوعدون} من الْعَذَاب(3/210)
رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)
{رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمين} تَفْسِيرُهُ: أَيْ: [لَا تُهْلِكْنِي] مَعَهُمْ إِن أريتني مَا يوعدون(3/210)
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ: يَقُولُ: ادْفَعْ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ الْقَوْلَ الْقَبِيحَ؛ وَذَلِكَ قَبْلَ أَن يُؤمر بقتالهم.(3/210)
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)
{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ همزات الشَّيَاطِين} وَهُوَ الْجُنُون(3/210)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
{وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} فَأُطِيعُ الشَّيْطَانَ فَأَهْلِكُ؛ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ بَهَذَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقيل: (همزات الشَّيَاطِين) : نَخْسُهَا وَطَعْنُهَا بِالْوَسْوَسَةِ؛ حَتَّى تُشْغَلَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ. وَالْقِرَاءَةُ (رَبِّ) بِكَسْرِ الْبَاءِ [وَحَذْفِ الْيَاءِ] ؛ حُذِفَتِ(3/210)
الْيَاءُ لِلنِّدَاءِ؛ الْمَعْنَى: أَعُوذُ بِكَ يَا رَبِّ، وَإِثْبَاتُ الْيَاءِ جَائِزٌ.
سُورَة الْمُؤْمِنُونَ من (آيَة 99 آيَة 104) .(3/211)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رب ارْجِعُونِ} قَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، لَيْسَ لِلِّهِ بِوَلِيٍّ إِلَّا وَهُوَ يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا عِنْدَ الْمَوْتِ بِكَلَامٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَإِنْ كَانَ أَخْرَسَ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الدُّنْيَا بِحَرْفٍ قَطُّ؛ وَذَلِكَ إِذَا اسْتَبَانَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، سَأَلَ الرَّجْعَةَ وَلَا يسمعهُ من يَلِيهِ(3/211)
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
{لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} يَعْنِي: فِيمَا ضَيَّعْتُ. قَالَ اللَّهُ: لَسْتَ بِرَاجِعٍ إِلَى الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلهَا} يَعْنِي: هَذِهِ الْكَلِمَةَ: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} {} (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يبعثون} قَالَ السُّدِّيُّ: الْبَرْزَخُ: مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَكُلُّ شَيْءٍ بَين شَيْئَيْنِ فَهُوَ برزخ.(3/211)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
{فَإِذا نفخ فِي الصُّور} قَدْ مَضَى تَفْسِيرُهُ (فَلا أَنْسَابَ بَينهم يَوْمئِذٍ وَلَا(3/211)
يتساءلون} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَقُولُ: فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَتَعَاطَفُونَ عَلَيْهَا؛ كَمَا كَانُوا يَتَعَاطَفُونَ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَتَسَاءَلُونَ عَلَيْهَا أَنْ يَحْمِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ؛ كَمَا كَانُوا يَتَسَاءَلُونَ فِي الدُّنْيَا بِأَنْسَابِهِمْ؛ كَقَوْلِ الرَّجُلِ: أَسأَلك بِاللَّه وبالرحم.(3/212)
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
{تفلح وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} .
يحيى: عَنْ صَاحِبٍ لَهُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَام: " شَفَتُهُ السُّفْلَى سَاقِطَةٌ عَلَى صَدْرِهِ، وَالْعُلْيَا قَالِصَةٌ قَدْ غَطَّتْ وَجْهَهُ ".
سُورَة الْمُؤْمِنُونَ من (آيَة 105 آيَة 114) .(3/212)
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)
{قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} الَّتِي كتبت علينا(3/213)
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)
{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإنَّا ظَالِمُونَ} فَيَسْكُتْ عَنْهُمْ قَدْرَ عُمُرِ الدُّنْيَا مرَّتَيْنِ،(3/213)
قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} أَيْ: اصْغَرُوا؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَكَلَّمَ الْقَوْمُ بَعْدَهَا بِكَلِمَةٍ، وَمَا هُوَ إِلَّا الزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَعْنَى {اخْسَئُوا} فِي اللُّغَةِ: تَبَاعَدُوا، وَيُقَالُ: خَسَأْتُ الْكَلْبَ أَخْسَؤُهُ؛ إِذَا زَجَرْتُهُ لِيَتَبَاعَدَ.(3/213)
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)
{وَأَنت خير الرَّاحِمِينَ} يَعْنِي: أَفْضَلُ مَنْ رَحِمْ، وَقَدْ يَجْعَلُ اللَّهُ الرَّحْمَةَ فِي قَلْبِ مَنْ يَشَاءُ؛ وَذَلِكَ مِنْ رَحْمَةِ الله.(3/213)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
{فاتخذتموهم سخريا} كَانُوا يَسْخَرُونَ بِأَصْحَابِ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَضْحَكُونَ مِنْهُمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْأَجْوَدُ فِي قِرَاءَةِ (اتَّخَذْتُمُوهُمْ) إْدَغْامُ الذَّالِ فِي التَّاءِ؛ لِقُرْبِ الْمَخْرَجَيْنِ فِي الذَّالِ وَالتَّاءِ، وَإِنْ شِئْتَ أَظْهَرْتَ. وَتُقْرَأُ (سُخْرِيًّا) بِالضَّمِّ(3/213)
وَالْكَسْرِ فِي مَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: مَا كَانَ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ فَهُوَ بِالْكَسْرِ، وَمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ التَّسْخِيرِ فَهُوَ بِالضَّمِّ. {حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي} لَيْسَ يَعْنِي: أَنَّ أَصْحَابِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْسَوْهُمْ ذَكَرَ اللَّهِ؛ فَأَمَرُوهُمْ أَلَّا يذكروه، وَلَكِن جحودهم واستهزاؤهم، وَضَحِكُهُمْ مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي أَنْسَاهُمْ ذكر الله.(3/214)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} فِي الدُّنْيَا {إِنَّهُم} بِأَنَّهُم {هم الفائزون} النَّاجُونَ مِنَ النَّارِ، وَتُقْرَأُ بِالْكَسْرِ {إِنَّهُمْ} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَنْ كَسَرَ فَالْمَعْنَى: أَنِّي جَزَيْتُهُمْ بِمَا صَبَرُوا، ثمَّ أخبر فَقَالَ: إِنَّهُم هُوَ الفائزون.(3/214)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)
{قَالَ كم لبثتم} يَقُولُهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ {فِي الأَرْض عدد سِنِين} أَيْ: كَمْ عَدَدَ السِّنِينَ الَّتِي لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ [يُرِيدُ بِذَلِكَ أَن يعلمهُمْ قلَّة] (ل 230) بَقَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا [فَتَصَاغَرَتِ الدُّنْيَا] عِنْدهم(3/214)
قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)
{قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْم} وَذَلِكَ لِتَصَاغُرِ الدُّنْيَا عِنْدَهُمْ {فَاسْأَلِ العادين} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: الْحُسَّابَ الَّذِينَ كَانُوا يَحْسِبُونَ آجَالَنَا. مِثْلَ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا نعد لَهُم عدا} وَهِي آجالهم(3/214)
قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
{قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا} أَيْ: إِنَّ لُبْثَكُمْ فِي الدُّنْيَا فِي طُولِ مَا أَنْتُمْ لَابِثُونَ فِي(3/214)
النَّارِ كَانَ قَلِيلًا {لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُم تعلمُونَ} يَقُولُ: لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ عُلَمَاءَ لَمْ تَدْخُلُوا النَّارَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (عدد) مَنْصُوبٌ بِكَمْ، وَقَوْلُهُ: {إِنْ لَبِثْتُمْ} مَعْنَاهُ: مَا لبثتم.
سُورَة الْمُؤْمِنُونَ من (آيَة 115 آيَة 118) .(3/215)
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)
{أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا} أَيْ: لِغَيْرِ بَعْثٍ وَلَا حِسَابٍ {وأنكم إِلَيْنَا لَا ترجعون} وَهُوَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ: قَدْ حَسِبْتُمْ ذَلِكَ؛ وَلَمْ نَخْلُقْكُمْ عَبَثًا، إِنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ للبعث والحساب(3/215)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيم} عَلَى اللَّهِ. وَبَعْضُهُمْ يَقْرَؤُهَا بِالرَّفْعِ يَقُول: الله الْكَرِيم.(3/215)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)
{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} أَيْ: لَا حُجَّةَ لَهُ بِذَلِكَ {فَإِنَّمَا حسابه عِنْد ربه} يَعْنِي: فَإِنَّمَا جَزَاؤُهُ عِنْدَ رَبِّهِ {إِنَّه لَا يفلح الْكَافِرُونَ} وَهِي تقْرَأ: (إِنَّه) بِالْكَسْرِ عَلَى مَعْنَى: فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ النَّارَ، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} .(3/215)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَنْ قَرَأَهَا بِالْفَتْحِ، فَالْمَعْنى: بِأَنَّهُ.(3/216)
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
{وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خير الرَّاحِمِينَ} يَعْنِي: وَأَنْتَ أَفْضَلُ مَنْ يَرْحَمُ؛ أَمر الله النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بَهَذَا الدُّعَاءِ.(3/216)
تَفْسِيرُ سُورَةِ النُّورِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَة النُّور من (آيَة 1 آيَة 3) .(3/217)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
قَوْله: {سُورَة أنزلناها} (أَيْ: هَذِهِ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا) {وَفَرَضْنَاهَا} يَعْنِي: مَا فُرِضَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَحُدَّ فِيهَا مِنْ حُدُودِهِ، وَتُقْرَأُ: (فَرَّضْنَاهَا) بِالتَّثْقِيلِ؛ يَعْنِي: بَيَّنَّاهَا {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} لكَي تَذكرُوا(3/217)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مائَة جلدَة} هَذَا فِي الْأَحْرَارِ إِذْا لَمْ يَكُونَا مُحْصَنَيْنِ؛ فَإِنْ كَانَا مُحْصَنَيْنِ رُجِمَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (الزَّانِيَة) بِالرَّفْعِ فَتَأْوِيلُهُ الِابْتِدَاءُ. قَالَ الْحَسَنُ: وَالرَّجْمُ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَهُوَ فِي مُصْحَفِنَا أَيْضًا فِي سُوْرَةِ الْمَائِدَةِ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا(3/217)
للَّذين هادوا والربانيون والأحبار} حَيْثُ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ اليَّهُودِيَّيْنِ حِينَ ارْتَفَعُوا إِلَيْهِ.
يَحْيَى: عَنِ الْمُعَلَّى، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: " قَالَ لِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: يَا زِرُّ، كَمْ تَقْرَءُونَ سُورَةَ الْأَحْزَابِ؟ قُلْتُ: ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ آيَةً. قَالَ: قَطْ؟ قُلْتُ: قَطْ؟ قَالَ: فَوَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَتُوازِي سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَإِنَّ فِيهَا لَآيَةَ الرَّجْمِ. قُلْتُ: وَمَا آيَةُ الرَّجْمِ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ؟ قَالَ: " إِذَا زَنَى الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ".(3/218)
الْمَسْعُودِيُّ: عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ " أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ(3/219)
قَالَ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فَكُنَّا نَقْرَأُ: " لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ، وَآيَةُ الرَّجْمِ، وَإِنِّي قَدْ خِفْتُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ قَوْمٌ يَقُولُونَ: لَا رَجْمَ {وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَجَمَ وَرَجَمْنَا} وَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: إِنَّ عُمَرَ زَادَ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَأَثْبَتُّهَا، وَلَقَدْ نَزَلَتْ وَكَتَبْنَاهَا ". {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دين الله} فِي حُكْمِ اللَّهِ، قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: أَنْ يُجْلَدَ الْجَلْدَ الشَّدِيدَ.
يحيى: عَن الْخضر بْنِ مُرَّةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كُثَيْرٍ " أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَام أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَصَبْتُ حَدًّا؛ فَأَقِمْهُ عَلِيَّ! فَدَعَا بِسَوْطٍ، فَأُتِي بِسَوْطٍ شَدِيدٍ. فَقَالَ: سَوْطٌ دُونَ هَذَا. فَأُتِي بِسَوْطٍ مُنْكَسِرِ الْعَجُزِ، فَقَالَ: فَوْقَ هَذَا. فَأُتِي(3/220)
بِسَوْطٍ بَيْنَ السَّوْطَيْنِ فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ [جَلْدًا بَيْنَ الْجَلْدَيْنِ] ". {وَلْيَشْهَدْ غذابهما} أَيْ: جَلْدَهُمْا {طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يُقَال: (ل 231) الطَّائِفَة رجل فَصَاعِدا.(3/221)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً} الْآيَةُ، تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ يَقُولُ: نَزَلَتْ فِي كُلِّ زَانٍ وَزَانِيَةٍ، ثُمَّ نُسِخَتْ.
يَحْيَى: عَنْ نَصْرِ بْنِ طَرِيفٍ قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: " نَسَخَتْهَا {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} ". [ {وَحرم ذَلِك على الْمُؤمنِينَ} يُرِيدُ لَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ زَانِيَةً مَشْهُورَةَ بِالزِّنَا، وَلَا عَبَدَةَ الْأَصْنَامِ، وَلَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنَةٍ أَنْ تَتَزَوَّجَ مُشْرِكًا مِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَام، وَلَا مَشْهُورا بِالزِّنَا] .
سُورَة النُّور من (آيَة 4 آيَة 10) .(3/221)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
{وَالَّذين يرْمونَ} أَي: يقذفون بِالزِّنَا {الْمُحْصنَات} يَعْنِي: الْحَرَائِرَ الْمُسْلِمَاتِ {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء} يَجِيئُونَ جَمِيعًا يَشْهَدُونَ عَلَيْهَا بِالزِّنَا {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة} يُجْلَدُ بِالسَّوْطِ ضَرْبًا بَيْنَ ضَرْبَيْنِ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَذَفَ حُرًّا مُسْلِمًا. {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} الْعَاصُونَ، وَلَيْسَ بِفِسْقِ الشِّرْكِ؛ وَهِيَ من الْكَبَائِر(3/222)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
{إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِك} الْآيَةُ، تَفْسِيرُ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَا: تَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ وَلَا شَهَادَةَ لَهُ.(3/222)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} قَالَ يَحْيَى: هَذَا إِذَا ارْتَفَعَا إِلَى الْإِمَامُ، وَثَبَتَ عَلَى قَذْفِهَا؛ قَالَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ عِنْدَ الْإِمَامِ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَصَادِقٌ، ثُمَّ يَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلِيَّ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَتَقُولُ هِيَ أَربع مَرَّات: أشهد بِاللَّه إِنَّهُ لِكَاذِبٌ تَعْنِي زَوْجَهَا ثُمَّ تَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: غَضَبُ اللَّهِ عَلِيَّ إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ.(3/222)
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (أَرْبَعَ) بِالنَّصْبِ، فَالْمَعْنَى: فَعَلَيْهِمْ أَنَّ يَشْهَدَ أَحَدُهْمَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ وَهِيَ تُقْرَأُ بِالرَّفْعِ عَلَى خَبَرِ الِابْتِدَاءِ؛ الْمَعْنَى: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمُ الَّتِي تَدْرَأُ حَدَّ الْقَذْف أَربع شَهَادَات.(3/223)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ: يَقُولُ: لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَنِعْمَتُهُ لَأَهْلَكَ الْكَاذِبَ مِنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيم} تَوَّابٌ عَلَى مَنْ تَابَ مِنْ ذَنبه، حَكِيم فِي أمره
سُورَة النُّور من (آيَة 11 آيَة 15) .(3/223)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ} جمَاعَة {مِنْكُم} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: قَالَ: هَذَا كَانَ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ، وَمَا أُذِيعَ عَلَيْهَا أَنَهَا كَانَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَأَخَذَ النَّاسُ فِي الرَّحِيلِ، وَانْقَطَعَتْ قِلَادَةٌ لَهَا؛ فَطَلَبَتْهَا فِي الْمَنْزِلِ وَمَضَى النَّاسُ، وَقَدْ كَانَ صَفْوَانُ بْنُ مُعَطَّلٍ تَخَلَّفَ عَنِ الْمَنْزِلِ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أقبل(3/223)
فَوجدَ النَّاس قد ارتحلوا وَهُوَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَإِذَا هُوَ بِعَائِشَةَ فَجَاءَ بِبَعِيرِهِ وَوَلَّاهَا ظَهْرَهُ حَتَّى رَكِبَتْ، ثُمَّ قَادَهَا فَجَاءَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ، فَتَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ قَوْمٌ فَاتَّهَمُوهَا.
قَالَ يَحْيَى: " بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أبي ابْن سَلُولٍ وَحَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ وَمُسْطَحًا وَحَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ هُمُ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ فِي النَّاسِ؛ فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَهَا جَلَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْحَدَّ ". {لَا تَحْسَبُوهُ} يَعْنِي: عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ {شَرًّا لَكُمْ} يَعْنِي: مَا قِيلَ فِيهِمَا {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُم} يَعْنِي: الَّذِينَ قَالُوا مَا قَالُوا {مَا اكْتسب من الْإِثْم} عَلَى قَدْرِ مَا أَشَاعَ {وَالَّذِي تولى كبره} يَعْنِي: بَدَأَ بِهِ مِنْهُمْ {لَهُ عَذَاب عَظِيم} قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْن أبي ابْن سلول الْمُنَافِق {لَهُ عَذَاب عَظِيم} جَهَنَّم.
سُورَة النُّور من (آيَة 16 آيَة 20) .(3/224)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
{لَوْلَا} هَلَّا {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بِأَنْفسِهِم} أَيْ: بِإِخْوَانِهِمْ {خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إفْك} كذب {مُبين} بَين(3/225)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيم} فِيهَا تَقْدِيمٌ؛ يَقُولُ: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَالْإِفَاضَةُ فِيهِ كَانَ إِذَا لَقِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، فَيَقُولُ: أَمَا بَلَغَكَ مَا قِيلَ مِنْ أَمر عَائِشَة وَصَفوَان(3/225)
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
{إِذْ تلقونه بألسنتكم} يَعْنِي: يَرْوِيهِ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ.(3/225)
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
{سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم} أَي: كذب.
(ل 232)(3/225)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَة} يَعْنِي: أَنْ تَنْتَشِرَ {فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ؛ كَانُوا يُحِبُّونَ ذَلِكَ، ليعيبوا بِهِ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَيَغِيظُوهُ، وَعَذَابُ الدُّنْيَا لِلْمُنَافِقِينَ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمُ الزَّكَاةُ وَمَا يُنْفِقُونَ فِي الْغَزْو كرها(3/225)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أَيْ: لِأَهْلَكَكُمْ؛ فَاسْتَأْصَلَكُمْ؛ يَعْنِي: الَّذِينَ قَالُوا مَا قَالُوا، وَلَيْسَ يَعْنِي بِالْفَضْلِ وَبِالرَّحْمَةِ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ فِيهِمْ، وَقَدْ ذكر عبد هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ فِي النَّارِ. قَالَ: {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} بِالْمُؤْمِنِينَ.(3/225)
سُورَة النُّور (آيَة 21) .(3/226)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَان} أَمْرَ الشَّيْطَانِ {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَان فَإِنَّهُ} فَإِنَّ الشَّيْطَانَ {يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} .
سُورَة النُّور من (آيَة 22 آيَة 26) .(3/226)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
{وَلَا يَأْتَلِ} أَيْ: وَلَا يَحْلِفْ {أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُم وَالسعَة} يَعْنِي: الْغِنَى {أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} الْآيَةُ، تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: قَالَ: " أُنْزِلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَمُسْطَحٍ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ قَرَابَةٌ، وَكَانَ يَتِيمًا فِي حِجْرِهِ، وَكَانَ مِمَّنْ أَذَاعَ عَلَى عَائِشَةَ مَا أُذِيعَ؛ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَهَا وَعُذْرَهَا تَأَلَّى أَبُو بَكْرٍ أَلا يوليه خيرا أبدا، فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَعَا أَبَا بَكْرٍ فَتَلَاهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُحِبُّ أَنَ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْكَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَاعْفُ(3/226)
وَتَجَاوَزْ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا جَرَمَ، وَاللَّهِ لَا أَمْنَعُهُ مَعْرُوفًا كُنْتُ أُولِيهِ إِيَّاهُ قَبْلَ الْيَوْمِ ".(3/227)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
{إِن الَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات} يَعْنِي: العفائف {الْغَافِلَات} يَعْنِي: أَنَّهُنَ لَمْ يَفْعَلْنَ مَا قُذِفْنَ بِهِ {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} إِلَى قَوْلِهِ: {بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} .
قَالَ يَحْيَى: بَلَغَنِي أَنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي ابْن سلول فِي أَمر عَائِشَة.(3/227)
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ: يَعْنِي: حِسَابَهُمُ الْعَدْلَ.(3/227)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
{الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات} [تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: الْخَبِيثَاتُ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِلْخَبِيثِينَ مِنَ النَّاسِ، وَالْخَبِيثُونَ مِنَ النَّاسِ لِلْخَبِيثَاتِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ] {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} مِثْلُ ذَلِكَ؛ وَهَذَا فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مغْفرَة} لذنوبهم {وزرق كريم} الْجنَّة.
سُورَة النُّور (آيَة 27) .(3/227)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
قَوْلُهُ: {تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} حَتَّى تستأذنوا؛ تَفْسِيرِ قَتَادَةَ. وَفِيهَا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ: حَتَّى تُسَلِّمُوا [وَتَسْتَأْنِسُوا] .(3/227)
قَالَ مُحَمَّدٌ: الِاسْتِئْنَاسُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ: الِاسْتِعْلَامُ؛ تَقُولُ: اسْتَأْنَسْتُ فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا؛ أَيْ: اسْتَعْلَمْتُ وَتَعَرَّفْتُ. قَالَ النَّابِغَةُ:
(كَأَنَّ رَحْلِي وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا ... بِذِي الْجَلِيلِ عَلَى مُسْتَأْنَسٍ وَحَدِ)
يَعْنِي: ثَوْرًا أَبْصَرَ شَيْئًا فَخَافَهُ فَهُوَ فَزِعٌ.
يَحْيَى: عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: " سُئِلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَيَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى وَالِدَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا، أَوْ عَلَى أُخْتِهِ؟ ! قَالَ: نَعَمْ ".
يَحْيَى: عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ؛ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: " يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى كُلِّ امْرَأَةٍ إِلَّا عَلَى امْرَأَتِهِ ".
سُورَة النُّور من (آيَة 28 آيَة 29) .(3/228)
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا} يَعْنِي: الْبُيُوتَ الْمَسْكُونَةَ {فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤذن لكم} قَالَ قَتَادَةُ: لَا تَقِفْ عَلَى بَابِ قَوْمٍ قَدْ رَدُّوكَ عَنْ بَابِهِمْ؛ فَإِنَّ لِلنَّاسَ حَاجَاتٍ وَلَهُمْ أشغال(3/228)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غير مسكونة} يَعْنِي: الْفَنَادِقَ {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: مَنَافِعَ لَكُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ؛ فَلَيْسَ عَلَيْهِ (أَنْ يَسْتَأْذِنَ) فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أهل يسكنونها.(3/228)
سُورَة النُّور من (آيَة 30 آيَة 31) .(3/229)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} يَعْنِي: يَغُضُّونَ أَبْصَارَهُمْ عَنْ جَمِيعِ الْمعاصِي، (من) هَاهُنَا صِلَةٌ زَائِدَةٌ.
يَحْيَى: عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدِ، عَنْ أَبِي زَرْعَةَ بْنِ عَمْرو ابْن جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " سَأَلت رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ النَّظَرِ فَجْأَةً، فَقَالَ: اصْرِفْ بَصَرَكَ ".(3/229)
قَوْله: {ويحفظوا فروجهم} عَمَّا لَا يحل لَهُم.(3/230)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُنَّ مِنَ النّظر {ويحفظن فروجهن} مِمَّا لَا يَحِلُّ لَهُنَّ وَهَذَا فِي الْأَحْرَار والمماليك (ل 233) {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظهر مِنْهَا} وَهَذَا فِي الْحَرَائِرِ. تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: مَا ظَهَرَ مِنْهَا: هُوَ الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ. وَتَفْسِيرُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ: هِيَ الثِّيَابُ.
قَالَ يَحْيَى: وَهَذِهِ فِي الْحَرَائِرِ، وَأَمَّا الْإِمَاءُ فَقَدْ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ وَعُثْمَانُ، عَنْ(3/230)
قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى أَمَةً عَلَيْهَا قِنَاعٌ، فَضَرَبَهَا بِالدِّرَّةِ - فِي حَدِيثِ سَعِيدٍ. وَقَالَ عُثْمَانُ: فَتَنَاوَلَهَا بِالدِّرَّةِ وَقَالَ: اكْشِفِي عَنْ رَأْسِكِ. وَقَالَ سَعِيدٌ: وَلَا تَشَبَّهِي بِالْحَرَائِرِ ". {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} تَسْدِلُ الْخِمَارَ عَلَى جَيْبِهَا تَسْتُرُ بِهِ نَحْرَهَا {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} وَهَذِهِ الزِّينَةُ الْبَاطِنَةُ {إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} يَعْنِي: أَزْوَاجَهُنَّ إِلَى قَوْلِهِ: {أَوْ نسائهن} يَعْنِي: الْمُسْلِمَاتِ يَرَيْنَ مِنْهَا مَا يَرَى ذُو الْمَحْرَمِ، وَلَا تَرَى ذَلِكَ مِنْهَا الْيَهُودِيَّةُ وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ وَلَا الْمَجُوسِيَّةُ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإربة} يَعْنِي: الْحَاجَةَ إِلَى النِّسَاءِ، تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: هُوَ الرَّجُلُ الْأَحْمَقُ الَّذِي لَا تَشْتَهِيهِ الْمَرْأَةُ، وَلَا يَغَارُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (غَيْرِ) بِالْخَفْضِ، فَعَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلتَّابِعِينَ؛(3/231)
الْمَعْنَى: لِكُلِّ تَابِعٍ غَيْرِ أُولِي الإربة، وَمن نصب (غير) فَعَلَى الْحَالِ؛ الْمَعْنَى: أَوِ التَّابِعِينَ لَا مُرِيدِينَ النِّسَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالِ.
قَالَ يَحْيَى: فَهَذِهِ ثَلَاثُ حُرَمٍ بَعْضُهَا أَعْظَمُ مِنْ بَعْضٍ، مِنْهُنَّ الزَّوْجُ الَّذِي يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ [مِنْهَا] فَهَذِهِ حُرْمَةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ.
وَمِنْهُنَّ: الْأَبُ، وَالِابْنُ، وَالْأَخُّ، وَالْعَمُّ، وَالْخَالُ، وَابْنُ الْأَخِ، وَابْنُ الْأُخْتِ، وَالرَّضَاعُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ؛ فَلَا يَحِلُّ لِهَؤُلَاءِ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى الشَّعْرِ وَالصَّدْرِ وَالسَّاقِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَنْظُرُونَ إِلَى مَوْضِعِ الْقُرْطَيْنِ وَالْقِلَادَةُ وَالسِّوَارَيْنِ وَالْخُلْخَالَيْنِ.
وَحُرْمَةٌ ثَالِثَةٌ فِيهِمْ أَبُو زوج، وَابْنُ الزَّوْجِ، وَالتَّابِعُ غَيْرُ أُولِي الْإِرْبَةَ وَمَمْلُوكُ الْمَرْأَةِ؛ لَا بَأْسَ أَنْ تَقُومَ بَيْنَ يَدَيْ هَؤُلَاءِ فِي دَرْعٍ صَفِيقٍ وَخِمَارٍ صَفِيقٍ بِغَيْرِ جِلْبَابٍ.
قَوْلِهِ: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: من لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ وَلَا النِّكَاحَ. {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يخفين من زينتهن} قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَضْرِبُ بِرِجْلَيْهَا إِذَا مَرَّتْ بِالْمَجْلِسِ لِيُسْمَعَ قَعْقَعَةُ الْخُلْخَالَيْنِ، فَنُهِينَ عَنْ ذَلِكَ. {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعًا} مِنْ ذُنُوبِكُمْ {أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تفلحون} لكَي تُفْلِحُوا فتدخلوا الْجنَّة.
سُورَة النُّور من (آيَة 32 آيَة 34) .(3/232)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
{وَأنْكحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم} يَعْنِي: كُلَّ امْرَأَةٍ لَيْسَ لَهَا زَوْجٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: امْرَأَةٌ أَيِّمٌ، وَرَجُلٌ أَيِّمٌ، وَرَجُلٌ أَرْمَلٌ، وَامْرَأَةٌ أَرْمَلَةٌ. {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} يَعْنِي: المملوكين الْمُسلمين {وَإِمَائِكُمْ} الْمُسْلِمَاتُ، وَهَذِهِ رُخْصَةٌ وَلَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ بِوَاجِبٍ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ وَعَبْدَهُ {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ الله من فَضله} .
(يَحْيَى: عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: " اطْلُبُوا الْغِنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ الله من فَضله} ") .
يَحْيَى: عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: " مَا رَأَيْتُ مِثْلَ رَجُلٍ لَمْ يَلْتَمِسِ الْغِنَى فِي الْبَاءَةِ، وَاللَّهُ يَقُولُ: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ(3/233)
الله من فَضله) {(3/234)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
2 -! (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خيرا} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: إِنْ عَلِمْتُمْ عِنْدَهُمْ مَالًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنْ عَلِمْتُمْ عِنْدَهُمْ صِدْقًا وَوَفَاءً وَأَمَانَةً.
قَوْلُهُ: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُم} قَالَ قَتَادَةُ: أَنْ يَتُرْكَ لَهُمْ طَائِفَة من مكسبته {وَلَا تكرهو فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [الْبغاء: الزِّنَا] {تَحَصُّنًا} أَيْ: عِفَّةً وَإِسْلَامًا.
وَبَلَغَنَا عِنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَمَةٍ كَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْن سَلُولٍ كَانَ يُكْرِهُهَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ يُرِيدُهَا لِنَفْسِهِ رَجَاءَ أَنْ تَلِدَ مِنْهُ، فَيَفْدِي وَلَدَهُ، فَذَلِك (ل 234) الْغَرَضُ الَّذِي كَانَ ابْنُ أُبَيِّ سلول يَبْتَغِي {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بعد إكراههن غَفُور رَحِيم} وَكَذَلِكَ هِيَ فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُود(3/234)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خلوا من قبلكُمْ} يَعْنِي: أَخْبَار الْأُمَم السَّابِقَة.
سُورَة النُّور من (آيَة 35 آيَة 36)(3/234)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
{الله نور السَّمَاوَات وَالْأَرْض} يَعْنِي: بِنُورِهِ يَهْتَدِي مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض {مثل نوره} الَّذِي أَعْطَى الْمُؤْمِنَ فِي قَلْبِهِ {كمشكاة} تَفْسِيرُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْمِشْكَاةُ: الْكُوَّةُ فِي الْبَيْتِ الَّتِي لَيْسَتَ بنافذة {فِيهَا مِصْبَاح} يَعْنِي: السِّرَاجَ {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} يَعْنِي: الْقِنْدِيلُ {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دري} أَيْ: مُنِيرٌ ضَخَمٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: من قَرَأَ (دري) بِلَا هَمْزٍ، فَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الدُّرِّ، وَمَنْ قَرَأَ (دُرِّيءٌ) بِالْهَمْزِ وَكَسْرِ الدَّالِ؛ فَهُوَ مِنَ النُّجُومِ الدراري.
قَوْله: {يُوقد} يَعْنِي: الْمِصْبَاحَ {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: لَا يَفِيءُ عَلَيْهَا ظِلُّ شَرْقٍ وَلَا غَرْبٍ هِيَ ضَاحِيَةٌ لَلشَّمْسِ، وَهِيَ أَصْفَى الزَّيْتِ وَأَعْذَبُهُ قَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ فِي سَفْحِ جَبَلٍ {يَكَادُ زَيْتُهَا} يَعْنِي: الزُّجَاجَةَ {يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تمسسه نَار} وَهَذَا مِثْلُ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، يَكَادُ يَعْرِفُ الْحَقَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ مِنْ مُوَافَقَةِ الْحَقِّ فِيمَا أَمَرَ بِهِ، وَفِيمَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ مَا يَنْهَى عَنْهُ {نُورٌ على نور} قَالَ مُجَاهِد: نور الزُّجَاجَةِ وَنُورُ الزَّيْتِ وَنُورُ الْمِصْبَاحِ؛ فَكَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ صَارَ نُورًا عَلَى نور.(3/235)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ ترفع} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: أَنْ تُبْنَى؛ يَعْنِي: الْمَسَاجِدَ.(3/235)
يَحْيَى: عَنْ مَنْدَلِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَام " مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ وَلَوْ مِثْلُ مِفْحَصِ قَطَاةٍ بُنِي لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ ".(3/236)
{يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} الْغُدُوُّ: صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَالْآصَالُ: الْعَشِيُّ: الْظُهْرُ وَالْعَصْرُ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، وَجَمِيع الصَّلَوَات الْخمس.
سُورَة النُّور من (آيَة 37 آيَة 40)(3/237)
رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)
{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بيع} التِّجَارَةُ: الْجَالِبُ [لِلْمَتَاعِ] وَالْبَيْعُ: الَّذِي يَبِيعُ عَلَى يَدَيْهِ {عَنْ ذِكْرِ الله} ذَكَرُ اللَّهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْأَذَانُ؛ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْمُؤَذِّنَ تَرَكُوا بَيْعَهُمْ وَقَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ {وَأقَام الصَّلَاة} يَعْنِي: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ {وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} يَعْنِي: الْمَفْرُوضَةَ {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوب والأبصار} يَعْنِي: قُلُوبَ الْكُفَّارِ وَأَبْصَارَهُمْ، وَتَقَلُّبُ الْقُلُوبِ: أَنَّ الْقُلُوبَ انْتُزِعَتْ مِنْ أَمَاكِنِهَا، فَغَصَّتْ بِهَا الْحَنَاجِرُ فَلَا هِيَ تَرْجِعُ إِلَى أَمَاكِنِهَا وَلَا هِيَ تَخْرُجُ، وَأَمَّا تَقَلُّبُ الْأَبْصَارُ فَالزَّرَقُ بَعْدَ الْكَحَلِ، وَالْعَمَى بَعْدَ الْبَصَر(3/238)
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} (ثَوَابَ مَا عَمِلُوا) يَجْزِيَهُمْ بِهِ الْجنَّة {ويزيدهم من فَضله} فَأهل الحنة أَبَدًا فِي مَزِيدٍ {وَاللَّهُ يَرْزُقُ من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب} تَفْسِير بَعضهم: لَا يُحَاسِبُهُمْ أَبَدًا بِمَا أَعْطَاهُمُ الله.(3/238)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ الْقَاعُ الْقَرْقَرَةُ(3/238)
{يحسبه الظمآن} الْعَطْشَانُ {مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لم يجده شَيْئا} وَالْعَطْشَانُ مِثْلُ الْكَافِرِ وَالسَّرَابُ (مِثْلُ عَمَلِهِ؛ يَحْسَبُ أَنَّهُ يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا حَتَّى يَأْتِيَهِ الْمَوْتُ؛ فَإِذَا جَاءَهُ الْمَوْتُ لَمْ يَجِدْ عَمَلَهُ أَغْنَى عَنْهُ شَيْئًا) إِلَّا كَمَا يَنْفَعُ السَّرَابُ الْعَطْشَانَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْقَيْعَةُ وَالْقَاعُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: مَا انْبَسَطَ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ نَبَاتٌ وَهُو الَّذِي أَرَادَ مُجَاهِد فَالَّذِي [يسير] فِيهِ نِصْفِ النَّهَارِ يَرَى كَأَنَّ فِيهِ مَاءً يَجْرِي، وَذَلِكَ هُوَ السَّرَابُ.
قَوْلُهُ: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حسابه} يَعْنِي: ثَوَابَ عَمَلِهِ، وَهُوَ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أَي: قد جَاءَ الْحساب(3/239)
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} أَي: عميق (ل 235) {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوق بعض} يَعْنِي: ظُلْمَةُ الْبَحْرِ وَظُلْمَةُ السَّحَابِ وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ، هَذَا مَثَلُ الْكَافِرِ؛ يَقُولُ: قَلْبُهُ مُظْلِمٌ فِي صَدْرٍ مُظْلِمِ فِي جَسَدٍ مُظْلِمٍ {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} من شدَّة الظلمَة.
سُورَة النُّور من (آيَة 41 آيَة 43) .(3/239)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَالطير صافات} بِأَجْنِحَتِهَا {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتسبيحه} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: الصَّلَاةُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّسْبِيحُ [لِمَا سِوَى ذَلِكَ] مِنَ الْخَلْقِ(3/240)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي} أَيْ: يُنْشِئُ {سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَينه} أَيْ: يَجْمَعُ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ {ثمَّ يَجعله ركاما} بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ {فَتَرَى الْوَدْقَ} يَعْنِي: الْمَطَرَ {يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} مِنْ خِلَالِ السَّحَابِ {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ برد} يُنَزِّلُ مِنْ تِلْكَ الْجِبَالِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَرَدٍ {فَيُصِيبُ بِهِ من يَشَاء} فَيهْلك الزَّرْع {ويصرفه عَمَّن يَشَاء} . يَصْرِفُ ذَلِكَ الْبَرَدُ {يَكَادُ سَنَا برقه} أَي: ضوء برقه.
سُورَة النُّور من (آيَة 44 آيَة 53) .(3/240)
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
{يقلب الله اللَّيْل وَالنَّهَار} كَقَوْلِهِ: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ويولج النَّهَار فِي اللَّيْل} هُوَ أَخْذُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا من صَاحبه.(3/241)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاء} يَعْنِي: النُّطْفَةَ {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي على بَطْنه} الْحَيَّةُ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} أَيْ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَكثر من ذَلِك.(3/241)
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)
{وَيَقُولُونَ آمنا بِاللَّه} إِلَى قَوْله {معرضون} يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ، وَيُسِرُّونَ الشّرك(3/241)
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
{وَإِن يكن لَهُم الْحق} الْآيَةُ، تَفْسِيرُ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ الْحَقُّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ؛ فَإِذَا قَالَ لَهُ: انْطَلِقْ مَعِي إِلَى النَّبِيِّ، فَإِنْ عَرَفَ أَنَّ الْحَقَّ لَهُ ذَهَبَ مَعَهُ، وَإِنْ عَرَفَ أَنَّهُ يَطْلُبُ بَاطِلًا أَبَى أَنْ يَأْتِي النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَأنْزل الله: {وَإِذا دعوا إِلَى الله} إِلَى قَوْله: {مذعنين} أَي: سرَاعًا(3/241)
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
{أَفِي قُلُوبهم مرض} وَهُوَ الشّرك {أم ارْتَابُوا} شَكُّوا فِي اللَّهِ وَفِي رَسُولِهِ؛ قَالَهُ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ: قَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيف الله} أَي: يجوز الله {عَلَيْهِم وَرَسُوله} أَي: قد خَافُوا ذَلِك(3/241)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ويخش الله} فِيمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ {وَيَتَّقْهِ} فِيمَا بَقِيَ {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} أَي: الناجون.(3/241)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
{وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم} يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ}(3/241)
إِلَى الْجِهَادِ، قَالَ اللَّهُ: {قُلْ لَا تقسموا} ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْكَلَامَ فَقَالَ: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أَيْ: طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ خَيْرٌ مِمَّا تُسِرُّونَ مِنَ النِّفَاقِ، وَهَذَا مِنَ الْإِضْمَار.
سُورَة النُّور من (آيَة 54 آيَة 57) .(3/242)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ توَلّوا} يَعْنِي: فَإِنْ أَعْرَضْتُمْ عَنْهُمَا {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ} يَعْنِي: الرَّسُول {مَا حمل} مِنَ الْبَلَاغِ {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} من طَاعَته {وَإِن تطيعوه} يَعْنِي: النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام {تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلَاغ الْمُبين} كَقَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} تَحْفَظُ عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ حَتَّى تُجَازِيَهُمْ بهَا.(3/242)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتخْلف الَّذِي من قبلهم} مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دينهم الَّذِي ارتضى لَهُم} أَيْ: سَيَنْصُرُهُمْ بِالْإِسْلَامِ؛ حَتَّى يُظْهِرَهُمْ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ؛(3/242)
فَيَكُونُوا الْحُكَّامَ عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ.
يَحْيَى: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدٍ، عَنْ [سُلَيْمِ] بِنْ عَامِرٍ الْكَلَاعِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: " لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ، إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلِّ ذَلِيلٍ؛ إِمَّا يُعِزُّهُمُ اللَّهُ فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا، وِإِمَّا يُذِلُّهُمْ فَيَدِينُونَ لَهَا "(3/243)
مِنْ حَدِيثِ يحيى بْنِ مُحَمَّدٍ. {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} [يَقُولُ: مَنْ أَقَامَ عَلَى كُفْرِهِ بَعْدَ هَذَا الَّذِي أَنْزَلْتُ] يَعْنِي: فسق الشّرك (ل 236)(3/244)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْض} أَيْ: لَا تَحْسَبَنَّهُمْ يَسْبِقُونَنَا حَتَّى لَا نقدر عَلَيْهِم فنحاسبهم.
سُورَة النُّور (آيَة 58) .(3/244)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانكُم} هُمُ الْمَمْلُوكُونَ مِنَ الرِّجَالِ [وَالنِّسَاءِ] الَّذِينَ يَخِدْمُونَ الرَّجُلَ فِي بَيْتِهِ {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} يَعْنِي: الْأَطْفَالَ الَّذِينَ يُحْسِنُونَ الْوَصْفَ إِذَا رَأَوْا شَيْئًا {ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تضعون ثيابكم من الظهيرة} وَهُوَ نِصْفُ النَّهَارِ عِنْدَ الْقَائِلَةِ {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عورات لكم} فَلَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ الْكِبَارِ وَالَّذِينَ يُحْسِنُونَ الْوَصْفَ أَنْ يَدْخُلُوا إِلَّا بِإِذْنٍ، إِلَّا أَلَّا يَكُونَ لِلرَّجُلِ إِلَى أَهْلِهِ حَاجَةٌ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ إِذَا كَانَتْ لَهُ إِلَى أَهْلِهِ الْحَاجَةُ أَنْ يَطَأَ أَهْلَهُ وَمَعَهُ فِي الْبَيْتِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَحَدٌ؛ فَلِذَلِكَ لَا يَدْخُلُونَ فِي هَذِه الثَّلَاث السَّاعَات إِلا بِإِذْنٍ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِم جنَاح بعدهن} مِنْ بَعْدِ هَذِهِ الثَّلاثِ سَاعَاتٍ، أَنْ تَدْخُلُوا بِغَيْرِ إِذْنٍ {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أَيْ: يَطُوفُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ؛ أَيْ: يَدْخُلُونَ بِغَيْرِ إِذْنٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (طَوَّافُونَ) مَرْفُوع بِمَعْنى: هُوَ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ؛ أَيْ: يَطُوفُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ.
سُورَة النُّور من (آيَة 59 آيَة 60) .(3/245)
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
{فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قبلهم} يَعْنِي: من احْتَلَمَ {كَذَلِك} أَيْ: هَكَذَا {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاته وَالله عَلِيمٌ} بِخَلْقِهِ {حَكِيمٌ} فِي أَمْرِهِ(3/246)
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يرجون نِكَاحا} أَيْ: قَدْ كَبِرْنَ عَنْ ذَلِكَ وَلَا يُرِدْنَهُ {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بزينة} يَعْنِي: غَيْرَ مُتَزِيِّنَةٍ وَلَا مُتَشَوِّفَةٍ.
قَالَ قَتَادَةُ: رَخَّصَ لِلَّتِي لَا تَحِيضُ، وَلَا تُحَدِّثُ نَفْسَهَا بِالْأَزْوَاجِ أَنْ تَضَعَ جِلْبَابَهَا، وَأَمَّا الَّتِي قَدْ قَعَدَتْ عَنِ الْمَحِيضِ وَلَمْ تَبْلُغْ هَذَا الْحَدَّ فَلَا {وَأَنْ يستعففن} يَعْنِي: اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا عَنْ تَرْكِ الْجِلْبَابِ {خَيْرٌ لَهُنَّ} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْقَوَاعِدُ وَاحِدَتُهَا: قَاعِدٌ بِلا هَاءٍ؛ لِيُدَلَّ بِحَذْفِ الْهَاءِ عَلَى أَنَّهُ قُعُودُ الْكِبَرِ، كَمَا قَالُوا: امْرَأَةٌ حَامِلٌ بِلا هَاءٍ لِيُدَلَّ بِحَذْفِ الْهَاءِ عَلَى أَنَّهُ حَمْلُ حَبَلٍ، وَقَالُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ: قَاعِدَةٌ فِي بَيْتِهَا، وَحَامِلَةٌ على ظهرهَا.
سُورَة النُّور (آيَة 61) .(3/246)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
{لَيْسَ على الْأَعْمَى حرج} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ قَالَ: مُنِعَتِ الْبُيُوتُ زَمَانًا كَانَ الرَّجُلُ لَا يَتَضَيَّفُ أَحَدًا وَلا يَأْكُلُ فِي بَيْتِ غَيره تأثما مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ يَحْيَي: بَلَغَنِي أَنَّ ذَلِكَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة: {يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} قَالَ قَتَادَةُ: فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ رَخَّصَ اللَّهُ لَهُ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجُ وَالْمَرِيضُ، ثُمَّ رَخَّصَ اللَّهُ لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَو صديقكم} فَقَوْلُهُ: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} قَالَ بَعضهم: هم المملوكون الَّذِينَ هُمْ خَزَنَةٌ عَلَى بُيُوتِ مواليهم. وَقَوله: {صديقكم} قِيلَ لِلْحَسَنِ: الرَّجُلُ يَدْخُلُ عَلَى الرَّجُلِ يَعْنِي: صَدِيقَهُ فَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ وَيَرَى الْآخَرُ الشَّيْءَ مِنَ الطَّعَامِ فِي الْبَيْتِ؛ فَيَأْكُلُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: كُلْ مِنْ طَعَامِ أَخِيكَ.
قَالَ يَحْيَى: لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْتَ الابْن، فَرَأَيْت أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا قَالَ: " أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ " مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ.(3/247)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا من بُيُوتكُمْ} : إِنَّهُ أَرَادَ مِنْ أَمْوَالِ نِسَائِكُمْ وَمِنْ ضَيْعَةِ مَنَازِلِكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَو أشتاتا} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: قَالَ: كَانَ بَنُو كِنَانَةَ يَرَى أَحَدُهُمْ أَنَّ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ [وَحْدَهُ] فِي [الْجَاهِلِيَّةِ] حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لِيَسُوقُ [الذَّوْدَ الْحَفْلَ] وَهُوَ جَائِعٌ حَتَّى يجد من (ل 237) يُؤَاكِلُهُ وَيُشَارِبُهُ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَتَّخِذُ الْخَيَالَ إِلَى جَنْبِهِ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يُؤَاكِلَ وَيُشَارِبَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلمُوا على أَنفسكُم} أَيْ: يُسَلِّمُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا دَخَلَ بَيْتًا لَا أَحَدَ فِيهِ فَلْيَقُلْ: سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ.
قَالَ قَتَادَةُ: حُدِّثْنَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَرُدُّ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَخَلَ عَلَى قَوْمٍ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِمْ سَلَّمَ وِإِنْ مَرَّ بِهِمْ أَوْ لَقِيَهُمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ رَجُلًا وَاحِدًا سَلَّمَ عَلَيْهِ وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ سَلَامٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي؛ وَافْتَحْ لِي بَابَ رَحْمَتِكَ، فَإِنْ كَانَ مَسْجِدًا كَثِيرَ الْأَهْلِ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ يُسْمِعُ نَفْسَهُ، وَإِنْ كَانُوا قَلِيلًا أَسْمَعَهُمُ التَّسْلِيمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ(3/248)
قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، السَّلَامُ عَلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا.
يَحْيَى: عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ مُرَّةَ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: " إِنَّ السَّلَامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَضَعَهُ فِي الْأَرْضِ؛ فَأَفْشُوهُ بَيْنَكُمْ، فَإِنَّ الْمَرْءَ الْمُسْلِمَ إِذَا مَرَّ بِالْقَوْمِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا عَلَيْهِ (كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِمْ فَضِيلَةُ دَرَجَةٍ؛ فَإِنَّهُ ذَكَّرَهُمُ السَّلَامَ، فَإِنْ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ) مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَأَطْيَبُ: الْمَلَائِكَة ".
سُورَة النُّور (آيَة 62) .(3/249)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يستأذنوه} يَسْتَأْذِنُوا الرَّسُولَ {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أَيْ: مُخْلِصُينَ غَيْرُ مُنَافِقِينَ {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْت مِنْهُم} وَذَكَرَ قَتَادَةُ: أَنَّهَا نَسَخَتِ الْآيَةَ فِي بَرَاءَةَ {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} وَهِي عِنْدَهُ فِي الْجِهَادِ؛ فَرَخَّصَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا إِذَا كَانَ لَهُم عذر.
سُورَة النُّور من (آيَة 63 آيَة 64) .(3/250)
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كدعاء بَعْضكُم بَعْضًا} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَمْرَهَمُ أَنْ يَدْعُوهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ فِي لِينٍ وَتَوَاضُعٍ، وَلَا يَقُولُوا: يَا مُحَمَّدُ {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُم لِوَاذًا} يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ؛ يَلُوذُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ اسْتِتَارًا مِنَ النَّبِيِّ حَتَّى يَذْهَبُوا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: اللِّوَاذُ مَصْدَرٌ: لاوَذْتُ (فَعْلُ اثْنَيْنِ) وَلَوْ كَانَ مَصْدَرًا للذت لَكَانَ لِيَاذًا.(3/250)
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ {أَن تصيبهم فتْنَة} بَلِيَّةٌ {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَنْ يَسْتَخْرِجَ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبهم من النافق حَتَّى يُظْهِرُوهُ شِرْكًا؛ فَيُصِيبَهُمْ بِذَلِكَ الْقَتْل(3/251)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
{أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَات وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} يَعْنِي: الْمُنَافِقين {وَيَوْم يرجعُونَ إِلَيْهِ} يرجع إِلَيْهِ الْمُنَافِقين يَوْم الْقِيَامَة {فينبئهم بِمَا علمُوا} مِنَ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْء عليم} .(3/251)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْفُرْقَانِ وَهِي مَكِيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَة الْفرْقَان من (آيَة 1 آيَة 6) .(3/252)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
قَوْله: {تبَارك} [هُوَ مِنَ] الْبَرَكَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَعْنَى الْبَرَكَةُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: الْكَثْرَةُ فِي كُلِّ ذِي خَيْرٍ. {الَّذِي نزل الْفرْقَان} يَعْنِي: الْقُرْآنَ، وَفُرْقَانُهُ: حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقِيلَ: سُمِّيَ فُرْقَانَا؛ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ يَحْيَى. {على عَبده} يَعْنِي: مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام {ليَكُون للْعَالمين} يَعْنِي: الْإِنْس وَالْجِنّ {نذيرا} يُنْذِرُهُمْ عَذَابَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة إِن لم يُؤمنُوا(3/252)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
(وَاتَّخذُوا(3/252)
من دونه) {من دون الله} (آلِهَة} يَعْنِي: الأَوْثَانَ {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وهم يخلقون} أَيْ: يَصْنَعُونَهَا بِأَيْدِيهِمْ كَقَوْلِهِ: {أَتَعْبُدُونَ مَا تنحتون} {وَلَا يملكُونَ لأَنْفُسِهِمْ} يَعْنِي: الأَوْثَانَ {ضَرًّا وَلا نَفْعًا} {الْآيَة(3/253)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)
2 -! (إِنْ هَذَا} يعنون: الْقُرْآن {إِلَّا أفك} {كذب} (افتراه} اختلفه؛ يَعْنُونَ: مُحَمَّدًا {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} قَالَ الْكَلْبِيّ: يعنون عبد ابْن الْحَضْرَمِيِّ وَعَدَّاسًا غُلَامَ عُتْبَةَ. قَالَ: {فقد جَاءُوا ظلما} أَي: شركا {وزورا} كذبا.
(ل 238) قَالَ مُحَمَّدٌ: نَصْبُ (ظُلْمًا وَزُورًا) عَلَى مَعْنَى: فَقَدْ جَاءُوا بِظُلْمٍ ويزور، فَلَمَّا سَقَطَتِ الْبَاءُ عُدِّيَ الْفِعْلُ فنصب.(3/253)
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)
{وَقَالُوا أساطير الْأَوَّلين} أَي: أَحَادِيث الْأَوَّلين {اكتتبها} مُحَمَّد بن عبد ابْن الْحَضْرَمِيِّ وَعَدَّاسٍ {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بكرَة وَأَصِيلا} .
قَالَ مُحَمَّد: (أساطير) خبر ابْتِدَاء مَحْذُوف؛ الْمَعْنى: وَقَالُوا: الَّذِي جَاءَ بِهِ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَوَاحِد الأساطير: أسطورة.
سُورَة الْفرْقَان من (آيَة 7 آيَة 11) .(3/253)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)
{وَقَالُوا مَال هَذَا الرَّسُول} فِيمَا يَدَّعِي {يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاق لَوْلَا} هَلَّا {أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَه نذيرا} يصدقهُ بمقالته(3/254)
أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
{أَو يلقى إِلَيْهِ كنز} فَإِنَّهُ فَقِيرٌ {أَوْ تَكُونُ لَهُ جنَّة يَأْكُل مِنْهَا} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: تَأْوِيلُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ وَنصب (فَيكون) عَلَى الْجَوَابِ بِالْفَاءِ، وَلَا يَجُوزُ النصب فِي {تكون لَهُ} لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ؛ الْمَعْنَى: لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ أَو يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جنَّة.(3/254)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ} يَعْنِي: قَوْلَهُمْ: إِنْ هَذَا إِلا إفْك افتراه، وَقَوْلهمْ: {أساطير الْأَوَّلين} وَقَوْلهمْ: {مَال هَذَا الرَّسُول} إِلَى قَوْله: {مسحورا} . {فضلوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا} يَعْنِي: مَخْرَجًا مِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي ضروا لَك؛ فِي تَفْسِير مُجَاهِد.(3/254)
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
{تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} وَإِنَّمَا قَالُوا: هِيَ جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ {وَيجْعَل لَك قصورا} مَشِيدَةً فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا عَلَى مقرإ مَنْ لَمْ يَرْفَعْهَا، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالرَّفْعِ؛ فَالْمَعْنَى: وَسَيَجْعَلُ لَكَ قُصُورًا فِي الْآخِرَةِ.(3/254)
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ بِالْجَزْمِ، فَهُوَ عَلَى جَوَابِ الْجَزَاءِ؛ الْمَعْنَى: إِنْ يَشَأْ يَجْعَلْ لَكَ جَنَّاتٍ، وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا فِي الْآخِرَةِ.
سُورَة الْفرْقَان من (آيَة 12 آيَة 16) .(3/255)
إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)
{إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} مَسِيرَةَ خَمْسِمَائَةِ سَنَةٍ {سَمِعُوا لَهَا تغيظا} عَلَيْهِم {وزفيرا} صَوتا(3/255)
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)
{وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقرنين} تَفْسِير قَتَادَة: ذكر لنا أَن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَقُولُ: " إِنَّ جَهَنَّمَ لَتَضِيقُ عَلَى الْكَافِرِ؛ كَضِيقِ الزُّجِّ عَلَى الرَّمْحِ ". وَمعنى (مُقرنين) : يُقْرَنُ هُوَ وَشَيْطَانُهُ الَّذِي كَانَ يَدْعُوهُ إِلَى الضَّلَالَةِ فِي سِلْسِلَةٍ وَاحِدَةٍ، يَلْعَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَيَتَبَرَّأُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} يَعْنِي: وَيْلًا وَهَلَاكًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (ثبورا) نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ؛ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: ثبرنا ثبورا.(3/255)
لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
{لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادعوا ثبورا كثيرا} .
قَالَ مُحَمَّد: (ثبورا) لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عَلَى لَفْظِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ مصدر.(3/255)
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)
{أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} قَالَهُ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ: أَنَّ جَنَّةَ الْخُلْدِ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ.(3/256)
لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
{كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا} سَأَلَ الْمُؤْمِنُونَ اللَّهَ الْجَنَّةَ؛ فَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهَا.
سُورَة الْفرْقَان من (آيَة 17 آيَة 20) .(3/256)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عبَادي هَؤُلَاءِ} عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يُضِلُّوهُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يقَوْلُهُ لِعِيسَى وَعُزَيْرٍ وَالْمَلَائِكَةِ {أَمْ هُمْ ضلوا السَّبِيل}(3/256)
قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
{قَالُوا سُبْحَانَكَ} يُنَزِّهُونَ اللَّهَ عَنْ ذَلِكَ {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ من دُونك من أَوْلِيَاء} أَيْ: لَمْ نَكُنْ نُوَالِيهِمْ عَلَى عِبَادَتِهِمْ إِيَّانَا {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ} فِي عَيْشِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِ عَذَاب {حَتَّى نسوا الذّكر} حَتَّى تَرَكُوا الذِّكْرَ لَمَّا جَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} أَيْ: هُلْكًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: رَجُلٌ بُورٌ، وَقُوْمٌ بُورٌ؛ لَا يُجْمَعُ وَلَا يُثَنَّى. هَذَا الِاخْتِيَارُ فِيهِ، وَأَصْلُ الْبَائِرِ: الْفَاسِدُ؛ يُقَالُ: أَرْضٌ بَائِرَةٌ؛ أَيْ: مَتْرُوكَةٌ مِنْ أَنْ يُزْرَعَ(3/256)
فِيهَا شَيْءٌ، وَبَارَتِ الْأَيِّمُ: إِذَا لم يرغب فِيهَا.(3/257)
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
{فقد كذبوكم بِمَا تَقولُونَ} أَنهم آلِهَة {فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صرفا وَلَا نصرا} لَا تَسْتَطِيعُ لَهُمْ آلِهَتُهُمْ صَرْفًا للعذاب وَلَا نصرا.(3/257)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاق} وَهَذَا جَوَاب للْمُشْرِكين (ل 239) حِينَ قَالُوا: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ؟ ! {وَجَعَلنَا بَعْضكُم لبَعض فتْنَة} تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ: يَعْنِي: الْأَنْبِيَاءَ وَقَوْمَهُمْ {أَتَصْبِرُونَ} يَعْنِي: الرُّسُلَ عَلَى مَا يَقُولُ لَهُمْ قَوْمُهُمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: فِي هَذَا إِضْمَارٌ: أَتَصْبِرُونَ اصْبِرُوا؛ كَذَلِكَ قَالَ ابْن عَبَّاس.
سُورَة الْفرْقَان من (آيَة 22 آيَة 26) .(3/257)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)
{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} يَعْنِي: لَا يَخْشَوْنَ الْبَعْثَ {لَوْلا} هلا {أنزل علينا الْمَلَائِكَة} فَيَشْهَدُوا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ {أَوْ نرى رَبنَا} مُعَايَنَةً؛ فَيُخْبِرُنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أنفسهم} الْآيَة.(3/257)
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)
{يَوْم يرَوْنَ الْمَلَائِكَة} وَهَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ {لَا بُشْرَى يَوْمئِذٍ للمجرمين} للْمُشْرِكين بِالْجنَّةِ {وَيَقُولُونَ حجرا محجوزا} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: حَرَامًا مُحَرَّمًا عَلَى الْكَافِرِينَ الْبُشْرَى يَوْمَئِذٍ بِالْجَنَّةِ.(3/257)
قَالَ مُحَمَّد: (يَوْم يرَوْنَ) مَنْصُوبٌ عَلَى مَعْنَى: يَقُولُونَ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ، ثُمَّ أَخْبَرَ فَقَالَ: {لَا بشرى} الْآيَةُ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْحَرَامِ: حِجْرٌ؛ لِأَنَّهُ حُجِرَ عَلَيْهِ بِالتَّحْرِيمِ، ثُمَّ يُقَالُ: حَجَّرْتُ حِجْرًا، وَاسْمُ مَا حجرت عَلَيْهِ حجر.(3/258)
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
{وَقدمنَا} أَيْ: عَمِدْنَا {إِلَى مَا عَمِلُوا من عمل} أَيْ: حَسَنٍ {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} فِي الْآخِرَةِ. تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: هُوَ الشُّعَاعُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْكُوَّةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَاحِدُ الْهَبَاءِ: هَبَاءَةٌ، وَالْهَبَاءُ: الْمُنْبَثُّ مَا سَطَعَ مِنْ سَنَابِكِ الْخَيْلِ، وَهُوَ مِنَ الْهُبْوَةِ والهبوة: الْغُبَار.(3/258)
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
{وَأَصْحَاب الْجنَّة يَوْمئِذٍ خير مُسْتَقرًّا} مِنْ مُسْتَقَرِّ الْمُشْرِكِينَ {وَأَحْسَنُ مَقِيلا}(3/258)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)
{وَيَوْم تشقق السَّمَاء بالغمام} هَذَا بَعْدَ الْبَعْثِ فَتَرَاهَا وَاهِيَةً مُتَشَقِّقَةً كَقَوْلِهِ: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أبوابا} وَيَكُونُ الْغَمَامُ سُتْرَةً بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْض {وَنزل الْمَلَائِكَة تَنْزِيلا} مَعَ الرَّحْمَن(3/258)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)
{الْملك يَوْمئِذٍ الْحق للرحمن} يَقُولُ: تَخْضَعُ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَئِذٍ لِمُلْكِ الله، والجبابرة لجبروت الله.
سُورَة الْفرْقَان من (آيَة 27 آيَة 32) .(3/258)
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)
{وَيَوْم يعَض الظَّالِم} يَعْنِي: أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ {عَلَى يَدَيْهِ} أَيْ: يَأْكُلُهَا نَدَامَةً.
قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ يَحْضُرُ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَزَجَرَهُ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ عَنْ ذَلِكَ، فَهُو قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ فِي الْآخِرَةِ. {يَا لَيْتَني اتَّخذت مَعَ الرَّسُول} يَعْنِي: مُحَمَّدًا {سَبِيلا} إِلَى الله باتباعه(3/259)
يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)
{يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فلَانا خَلِيلًا} يَعْنِي: عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ(3/259)
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
{لقد أضلني عَن الذّكر} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} قَالَ اللَّهُ: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خذولا} يَأْمُرُهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، ثُمَّ يَخْذُلُهُ فِي الْآخِرَة(3/259)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قومِي} يَعْنِي: مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ {اتَّخذُوا هَذَا الْقُرْآن مَهْجُورًا} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: يَقُولُ: يَهْجُرُونَ بِالْقَوْلِ فِيهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ: جَعَلُوهُ بِمَنْزِلَةِ الْهَجْرِ، وَالْهَجْرُ: الْهَذَيَانُ وَمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ؛ يُقَالُ: فُلَانٌ يَهْجُرُ فِي مَنَامه؛ أَي: يهذي.(3/259)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا من الْمُجْرمين} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ يُعَزِّي نَبِيَّهُ {وَكَفَى بِرَبِّك هاديا} إِلَى دينه {ونصيرا} للْمُؤْمِنين على أعدائهم(3/259)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)
{وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَوْلَا} هلا {نزل عَلَيْهِ الْقُرْآن جملَة وَاحِدَة} أَيْ: كَمَا نَزَلَ عَلَى مُوسَى وَعَلَى عِيسَى، قَالَ اللَّهُ: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا} يَعْنِي: وبيناه تبيينا.(3/259)
سُورَة الْفرْقَان من (آيَة 33 آيَة 39) .(3/260)
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)
قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَ فِي ثَلَاثٍ وَعشْرين سنة {وَلَا يأتوك بِمثل} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ فِيمَا كَانُوا يُحَاجُّونَهُ بِهِ {إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرا} تبيينا(3/260)
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
{أُولَئِكَ شَرّ مَكَانا} مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ {وَأَضَلُّ سَبِيلا} طَرِيقًا فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ طَرِيقَهُمْ إِلَى النَّارِ وَطَرِيقُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجنَّة(3/260)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35)
{وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} أَيْ: عَوْنًا وَعَضُدًا وَشَرِيكًا فِي الرسَالَة.(3/260)
فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
{فدمرناهم} أَي: فكذبوهما {فدمرناهم تدميرا} أهلكناهم إهلاكا(3/260)
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)
{وَقوم نوح} أَيْ: وَأَهْلَكْنَا قَوْمَ نُوحٍ {لَمَّا كذبُوا الرُّسُل} يَعْنِي: نوحًا(3/260)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)
{وعادا وثمودا} أَي: وأهلكنا عادا وثمودا {وَأَصْحَاب الرس} قَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّسُّ بِئْرٌ كَانَ عَلَيْهَا نَاسٌ.
قَالَ يَحْيَى: وَبَلَغَنِي أَنَّ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهُمْ شُعَيْبٌ [وَأَنَّهُ] أُرْسِلَ إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ، وَإِلَى [أهل] الرُّسُل جَمِيعًا.(3/260)
{وقرونا بَين ذَلِك كثيرا} أَيْ: وَأَهْلَكْنَا قُرُونًا يَعْنِي: أُمَمًا. قَالَ قَتَادَةُ: الْقَرْنُ: سَبْعُونَ سَنَةً(3/261)
وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
{وكلا} يَعْنِي: مَنْ ذُكِرَ مِمَّنْ مَضَى (ل 240) {ضربنا بِهِ الْأَمْثَال} أَيْ: خَوَّفْنَاهُمُ الْعَذَابَ {وَكُلًّا تَبَّرْنَا} أهلكنا {تتبيرا} إهلاكا بتكذيبهم رسلهم.
سُورَة الْفرْقَان: من (آيَة 40 43) .(3/261)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
{وَلَقَد أَتَوا} يَعْنِي: مُشْرِكِي الْعَرَبِ {عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أمْطرت مطر السوء} يَعْنِي: قَرْيَةَ قَوْمِ لُوطٍ، وَمَطَرُ السَّوْءِ: الْحِجَارَةُ الَّتِي رُمِيَ بِهَا مِنَ السَّمَاءِ مَنْ كَانَ خَارِجًا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلُ السَّفَرِ مِنْهُمْ قَالَ: {أفلم يَكُونُوا يرونها} فَيَتَفَكَّرُوا وَيَحْذَرُوا أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ؛ أَيْ: بَلَى قَدْ أَتَوْا عَلَيْهَا وَرَأَوْهَا. {بَلْ كَانُوا لَا يرجون} لَا يخَافُونَ {نشورا} بعثا وَلَا حسابا.(3/261)
إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)
{لَوْلَا أَن صَبرنَا عَلَيْهَا} عَلَى عِبَادَتِهَا، قَالَ اللَّهُ: {وَسَوْفَ يعلمُونَ حِين يرَوْنَ الْعَذَاب} إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ {مَنْ أضلّ سَبِيلا} أَيْ: مَنْ كَانَ أَضَلَّ سَبِيلًا فِي الدُّنْيَا؛ أَيْ: سَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَضَلَّ سَبِيلًا مِنْ مُحَمَّدٍ(3/261)
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)
{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} .(3/261)
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَقُولُ: يَتَّبِعُ هَوَاهُ وَيَدَعُ الْحَقَّ؛ فَهُوَ لَهُ كَالْإِلَهِ {أفأنت تكون عَلَيْهِ وَكيلا} حَفِيظًا تَحْفَظُ عَلَيْهِ عَمَلَهُ حَتَّى تُجَازِيَهُ بِهِ؛ أَيْ: أَنَّكَ لَسْتَ بِرَبّ، إِنَّمَا أَنْت نَذِير.
سُورَة الْفرْقَان من (آيَة 44 آيَة 49) .(3/262)
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَو يعْقلُونَ} يَعْنِي: جَمَاعَةَ الْمُشْرِكِينَ {إِنْ هُمْ إِلَّا كالأنعام} فِيمَا يَعْبُدُونَهُ {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا} يَعْنِي: أَخطَأ طَرِيقا(3/262)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مد الظل} مَدَّهُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنا} أَيْ: دَائِمًا لَا يَزُولُ {ثُمَّ جعلنَا الشَّمْس عَلَيْهِ} أَي: على الظل {دَلِيلا} أَيْ: تَتَلُوهُ وَتَتْبَعُهُ حَتَّى تَأْتِي عَلَيْهِ [كُله](3/262)
ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
{ثمَّ قبضناه} يَعْنِي: الْظِلَّ {إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} أَي: يَسِيرا علينا(3/262)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لباسا} يَعْنِي: سَكَنًا يَسْكُنُ فِيهِ الْخَلْقُ {وَالنَّوْم سباتا} يُسَبِتُ النَّائِمَ حَتَّى لَا يَعْقِلَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَصْلُ السَّبْتِ: الرَّاحَةُ. {وَجعل النَّهَار نشورا} يُنْشَرُ فِيهِ الْخَلْقُ لِمَعَايِشِهِمْ وَحَوَائِجِهِمْ(3/262)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)
(وَهُوَ الَّذِي(3/262)
أَرْسَلَ الرِّيَاحَ نُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} يَعْنِي: الْمَطَرَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (نُشُرًا) بِالضَّمِّ جَمْعُ: نَشُورٍ؛ مِثْلَ: رَسُولٌ وَرُسُلٌ. {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاء} يَعْنِي: الْمَطَر {طهُورا} لِلْمُؤْمِنِينَ يَتَطَهَّرُونَ بِهِ مِنَ الْأَحْدَاثِ والجنابة(3/263)
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
{لنحيي بِهِ بَلْدَة مَيتا} يَعْنِي: الْيَابِسَ الَّتُي لَا نَبَاتَ فِيهَا.
قَالَ مُحَمَّد: (مَيتا) وَلَفْظُ (الْبَلْدَةِ) مُؤَنَّثٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْبَلَدِ وَالْبَلْدَةِ وَاحِدٌ. {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خلقنَا أنعاما وأناسي كثيرا}
قَالَ مُحَمَّد: (أناسي) جَمْعُ إِنْسِيٍّ؛ مِثْلُ: كُرْسِيٍّ وَكَرَاسِيَّ.
سُورَة الْفرْقَان من (آيَة 50 آيَة 55) .(3/263)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
{وَلَقَد صرفناه بَينهم} أَيْ: قَسَمْنَاهُ؛ يَعْنِي: الْمَطَرَ؛ مَرَّةً لِهَذِهِ الْبَلْدَةِ، وَمَرَّةً لِبَلْدَةٍ أُخْرَى {لِيذكرُوا} بِهَذَا الْمَطَرِ؛ فَيَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ الْمَطَرِ الَّذِي(3/263)
يَعِيشُ بِهِ الْخَلْقُ، وَيَنْبُتُ بِهِ النَّبَاتُ فِي الْأَرْضِ الْيَابِسَةِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى {فَأَبَى أَكثر النَّاس إِلَّا كفورا} قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا.(3/264)
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51)
{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَة نذيرا} رَسُولا(3/264)
فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
{فَلَا تُطِع الْكَافرين} فِيمَا يَنْهَوْنَكَ عَنْهُ مِنْ طَاعَةِ الله {وجاهدهم بِهِ} بِالْقُرْآنِ، وَهَذَا الْجِهَادُ بِاللِّسَانِ مِنْ قبل أَن يُؤمر بقتالهم.(3/264)
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
{وَهُوَ الَّذِي مرج الْبَحْرين} أَيْ: أَفَاضَ أَحَدَهُمَا فِي الْآخَرِ {هَذَا عذب فرات} أَيْ: حُلْوٌ {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أَيْ: مُرٌّ {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} أَيْ: حَاجِزًا لَا يُرَى؛ لَا يَغْلِبُ الْمَالِحُ عَلَى الْعَذْبِ، وَلَا الْعَذْبُ عَلَى الْمَالِحِ.
{وَحِجْرًا مَحْجُورًا} حَرَامًا مُحَرَّمًا أَنْ يَغْلِبَ أَحَدُهُمَا على الآخر.(3/264)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بشرا} خَلَقَ مِنَ النُّطْفَةِ إِنْسَانًا {فَجَعَلَهُ نسبا وصهرا} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي: قَرَابَةَ النَّسَبِ وقرابة النِّكَاح.(3/264)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
{وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} أَيْ: عَوِينًا؛ يَقُولُ: يُظَاهِرُ الشَّيْطَانَ على ترك أَمر ربه.
سُورَة الْفرْقَان من (آيَة 56 آيَة 62) .(3/264)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56)
{وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا مبشرا} بِالْجنَّةِ {وَنَذِيرا} مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة إِن لم يُؤمنُوا(3/265)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
{قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ} عَلَى الْقُرْآنِ {مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى ربه سَبِيلا} يَقُولُ: إِنَّمَا جِئْتُكُمْ بِالْقُرْآنِ لِيَتَّخِذَ بِهِ مَنْ آمَنَ بِرَبِّهِ سَبِيلًا بِطَاعَتِهِ(3/265)
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
{الرَّحْمَن فاسأل بِهِ خَبِيرا} أَيْ: خَبِيرًا [بِالْعِبَادِ] .
قَالَ مُحَمَّدٌ: من قَرَأَ (الرَّحْمَن) بِالرَّفْعِ فَعَلَى الِابْتِدَاءِ (وَالْخَبَرُ {فَاسْأَلْ بِهِ} .(3/265)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرنَا وَزَادَهُمْ نفورا} أَيْ: زَادَهُمْ قَوْلُهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ) (ل 241) نفورا عَن الْقُرْآن.(3/265)
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بروجا} (أَيْ: نُجُومًا؛ يَعْنِي: نَفْسَهُ جَلَّ وَعز) {وَجعل فِيهَا سِرَاجًا} يَعْنِي: الشَّمْس {وقمرا منيرا} مضيئا(3/265)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَو أَرَادَ شكُورًا} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَقُولُ: مَنْ عَجَزَ فِي اللَّيْلِ كَانَ لَهُ فِي النَّهَارِ مُسْتَعْتَبٌ، وَمَنْ عَجَزَ فِي(3/265)
النَّهَارِ كَانَ لَهُ فِي اللَّيْلِ مُسْتَعْتَبٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: {خِلْفَةً} يَعْنِي: يخلف هَذَا هَذَا، وَمِثْلُهُ قَوْلُ زُهَيرٍ:
(بِهَا الْعِينُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... وَأَطْلَاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ)
الرِّيمُ: وَلَدُ الظَّبْيِ، وَجَمْعُهُ آرَامُ، يَقُولُ: إِذَا ذهب فَوْج جَاءَ فَوْج.
سُورَة الْفرْقَان من (آيَة 63 آيَة 67) .(3/266)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْض هونا} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: مَدَحَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَذَمَّ الْمُشْرِكِينَ؛ فَقَالَ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} أَيْ: حِلْمًا، يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ لَسْتُمْ بِحُلَمَاءَ، وَالْهَوْنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: اللَّيِنُ وَالسَّكِينَةُ. {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} تَفْسِير مُجَاهِد قَالُوا: سدادا(3/266)
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)
{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} يَعْنِي: يُصَلُّونَ، وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ لَا تُصَلُّونَ.
قَالَ يَحْيَى: بَلَغَنِي أَنَّهُ مَنْ صَلَّى مِنَ اللَّيْلِ رَكْعَتَيْنِ، فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لرَبهم سجدا وقياما(3/266)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)
{إِن عَذَابهَا كَانَ غراما} أَيْ: لِزَامًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْغَرَامُ فِي اللُّغَةِ: أَشَدُّ الْعَذَابِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ مُغْرَمٌ بِالنِّسَاءِ؛ أَيْ: مهلك بِهن.(3/267)
إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)
{إِنَّهَا ساءت مُسْتَقرًّا ومقاما} أَيْ: بِئْسَ الْمُسْتَقَرُّ هِيَ وَالْمَنْزِلُ.
قَالَ مُحَمَّد: (مُسْتَقرًّا ومقاما) مَنْصُوبَانِ عَلَى التَّمْيِيزِ؛ الْمَعْنَى: أَنَّهَا ساءت فِي المستقر وَالْمقَام.(3/267)
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلم يقترُوا} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: الْإِسْرَافُ: النَّفَقَةُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، والإِقْتَارُ: الْإِمْسَاكُ عَنْ حَقِّ اللَّهِ. {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قواما} وَهِذِهِ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ.
سُورَة الْفرْقَان من (آيَة 68 آيَة 71) .(3/267)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
{وَالَّذين لَا يدعونَ} أَيْ: لَا يَعْبُدُونَ {مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخر} قَالَ الْحَسَنُ: خَافَ قَوْمٌ أَنْ يُؤْخَذُوا بِمَا عَمِلُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ وَذَكَرُوا الْفَوَاحِشَ، وَقَالُوا: قَدْ قَتَلْنَا وَفَعَلْنَا؛ فَأَنْزَلَ الله {وَالَّذين لَا يدعونَ} أَيْ: لَا يَعْبُدُونَ {مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} يَعْنِي:(3/267)
بعد إسْلَامهمْ {وَلَا يزنون} يَعْنِي: بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِك يلق أثاما} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: نكالا(3/268)
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)
{يُضَاعف لَهُ الْعَذَاب} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: تَأْوِيلُ الْأَثَامِ فِي اللُّغَةِ: الْمُجَازَاةُ عَلَى الشَّيْءِ، يُقَالُ: قَدْ لَقِيَ أَثَامَ ذَلِكَ؛ أَيْ جَزَاءَ ذَلِكَ، وَمَنْ قَرَأَ {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَاب} بِالْجَزْمِ فَلِأَنَّ مُضَاعَفَةَ الْعَذَابِ لَقْيُ الْأَثَامِ. وَمَنْ قَرَأَ: (يُضَاعَفُ) بِالرَّفْعِ فَعَلَى مَعْنَى التَّفْسِيرِ؛ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: مَا لَقْيُ الْأَثَامِ، فَقِيلَ: يُضَاعف للآثم الْعَذَاب.(3/268)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
{إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عملا صَالحا} قَالَ قَتَادَةُ: {إِلا مَنْ تَابَ} أَيْ: رَجَعَ مِنْ ذَنْبِهِ {وَآمَنَ} بربه {وَعمل صَالحا} فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ {فَأُولَئِكَ يُبدل الله سيئاتهم حَسَنَات} فَأَمَّا التَّبْدِيلُ فِي الدُّنْيَا: فَطَاعَةُ اللَّهِ بَعْدَ عِصْيَانِهِ، وَذِكْرُ اللَّهِ بعد نسيانه(3/268)
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوب إِلَى الله متابا} أَيْ: يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ إِذَا تَابَ قبل الْمَوْت.
سُورَة الْفرْقَان من (آيَة 72 آيَة 77) .(3/268)
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)
{وَالَّذين لَا يشْهدُونَ الزُّور} الشّرك {وَإِذا مروا بِاللَّغْوِ} الْبَاطِلِ وَهُو مَا فِيهِ الْمُشْرِكُونَ {مروا كراما} أَي: لَيْسُوا من أَهله(3/268)
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صمًّا وعميانا} أَيْ: لَمْ يَصُمُّوا عَنْهَا،(3/268)
وَلم يعموا عَنْهَا.(3/269)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} أَيْ: يَرَوْنَهُمْ مُطِيعِينَ لِلَّهِ {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتقين إِمَامًا} يؤتم بِنَا فِي الْخَيْر.(3/269)
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)
{أُولَئِكَ يجزون الغرفة} كَقَوْلِهِ: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} . {ويلقون فِيهَا تَحِيَّة وَسلَامًا} التَّحِيَّة: السَّلَام.(3/269)
قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
{قل مَا يعبؤا بكم} مَا يَفْعَلُ بِكُمْ {رَبِّي لَوْلا دعاؤكم} لَوْلَا توحيدكم {فقد كَذبْتُمْ} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أَيْ: أَخْذًا بِالْعَذَابِ يَعِدُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ؛ فَأَلْزَمَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ عُقُوبَةَ كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ فَعَذَّبَهُمْ بِالسَّيْفِ.(3/269)
تَفْسِيرُ سُورَةِ طسم الشُّعَرَاءِ وَهِيَ مَكِّيَّة كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
سُورَة الشُّعَرَاء من (آيَة 1 آيَة 9) .(3/270)
طسم (1)
قَوْله: {طسم} قَالَ الْحَسَنُ: لَا أَدْرِي مَا تَفْسِيرُهَا، غَيْرَ أَنَّ قَوْمًا مِنَ السَّلَفِ كَانُوا يَقُولُونَ فِيهَا: أَسْمَاءُ السُّور وفواتحها(3/270)
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
{تِلْكَ آيَات الْكتاب} هَذِه آيَات الْقُرْآن {الْمُبين} الْبَين(3/270)
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)
{لَعَلَّك باخع نَفسك} أَيْ: قَاتِلٌ نَفْسَكَ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْقُرْآنَ؛ أَيْ: فَلَا تفعل(3/270)
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
{إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاء آيَة فظلت أَعْنَاقهم} يَعْنِي: فَصَارَتَ أَعْنَاقُهُمْ {لَهَا خَاضِعِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ، فَهَذَا جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (فظلت) مَعْنَاهُ: فَتَظَلُّ أَعْنَاقُهُمْ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَقَعُ فِيهِ لَفْظُ الْمَاضِي فِي مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ؛ تَقُولُ: إِنْ تَأْتِنِي أكرمتك؛ مَعْنَاهُ: أكرمك.(3/270)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)
{وَمَا يَأْتِيهم من ذكر} يَعْنِي: الْقُرْآنَ (مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنهُ(3/270)
معرضين} يَقُولُ: كُلَّمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْء جَحَدُوا بِهِ(3/271)
فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)
{فقد كذبُوا فسيأتيهم} {فِي الْآخِرَة} (أنباء) {أَخْبَار} (مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون} فِي الدُّنْيَا؛ يَقُولُ: فَسَيَأْتِيهِمْ تَحْقِيقُ ذَلِك الْخَبَر بدخولهم النَّار(3/271)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)
{أَو لم يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} يَعْنِي: مِنْ كُلِّ صِنْفٍ حَسَنٍ؛ فالواحد مِنْهُ زوج(3/271)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
{إِن فِي ذَلِك لآيَة} لَمَعْرِفَةً بِأَنَّ الَّذِي أَنْبَتَ هَذِهِ الْأَزْوَاجَ فِي الْأَرْضِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى {وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين} يَعْنِي: مَنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ(3/271)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
{وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز} فِي نقمته {الرَّحِيم} بِخَلْقِهِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَتَتِمُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ مَا أَعْطَاهُ فِي الدُّنْيَا، فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا رَحْمَةُ الدُّنْيَا؛ فَهِيَ زائلة عَنهُ.
سُورَة الشُّعَرَاء من (آيَة 10 آيَة 18) .(3/271)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)
{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يكذبُون ويضيق صَدْرِي} وَلَا ينشرح يتبليغ الرِّسَالَةِ فَشَجِّعْنِي؛ حَتَّى أُبَلِّغَهَا. {وَلا ينْطَلق لساني} لِلْعُقْدَةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ. يُقْرَأُ بِالرَّفْعِ: (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لساني) ، وَبِالنَّصْبِ: (وَيَضِيقَ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقَ لِسَانِي) أَيْ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونَ، وَأَخَافُ أَنْ يَضِيقَ صَدْرِي(3/271)
وَلَا يَنْطَلِقَ لِسَانِي.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَنْ قَرَأَهُمَا بِالرَّفْعِ فَعَلَى الِابْتِدَاءِ. {فَأرْسل إِلَى هَارُون} [كَقَوْلِه] {وأشركه فِي أَمْرِي}(3/272)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
{وَلَهُم عَليّ ذَنْب} أَيْ: وَلَهُمْ عِنْدِي؛ يَعْنِي: الْقِبْطِيَّ الَّذِي قَتَلَهُ خَطَأً حَيْثُ وَكَزَهُ،(3/272)
قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)
قَالَ الله: {كلا} أَيْ: لَيْسُوا بِالَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَتْلِكَ؛ حَتَّى تُبَلِّغَ عَنِّي الرِّسَالَةَ، ثمَّ اسْتَأْنف الْكَلَام فَقَالَ: {فاذهبنا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالمين} يُقُوْلُهُ لِمُوسَى وَهَارُونَ، وَهِيَ كَلِمَةٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: مَنْ كَانَ رُسُولَكَ إِلَى فُلَانٍ؟ فَيَقُولُ: فُلَانٌ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الرَّسُولُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْجَمِيعِ؛ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ يَحْيَى، وَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا بِمَعْنَى الرِّسَالَةِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرُ:
(لَقَدْ كَذِبَ الْوَاشُونَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسُوءٍ وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ)
أَيْ: بِرِسَالَةٍ؛ فَمَنْ تَأَوَّلَ: (إِنَّا رَسُولُ) عَلَى مَعْنَى: رِسَالَةٍ، يَقُولُ: الْمَعْنَى: إِنَّا ذَوَا رِسَالَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.(3/272)
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
{أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} فَلَا تَمْنَعْهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَلَا تَأْخُذ مِنْهُم الْجِزْيَة(3/272)
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} أَيْ: عِنْدَنَا صَغِيرًا.(3/272)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا دَخَلَ مُوسَى عَلَى فِرْعَونَ عَرَفَهُ عَدُوُ اللَّهِ، فَقَالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ لِمَ تَدَّعِ هَذِهِ النُّبُوَّةَ.
سُورَة الشُّعَرَاء من (آيَة 19 آيَة 22) .(3/273)
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)
{وَفعلت فعلتك الَّتِي فعلت} يَعْنِي: وَقَتَلْتَ النَّفْسَ الَّتِي قَتَلْتَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْأَجْوَدُ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْأَكْثَر: (وَفعلت فعلتك) بِفَتْحِ الْفَاءِ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ: قَتَلْتَ النَّفْسَ قَتْلَتَكَ؛ عَلَى مَذْهَبِ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَة. {وَأَنت من الْكَافرين} يَعْنِي: لِنِعْمَتِنَا، أَيْ: إِنَّا رَبَّيْنَاكَ صَغِيرا، وأحسنا إِلَيْك(3/273)
قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)
{قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالّين} (ل 243) تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: يَعْنِي: مِنَ الْجَاهِلِينَ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي بعض الْقِرَاءَة(3/273)
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)
{فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} يَعْنِي: النُّبُوَّة {وَجَعَلَنِي من الْمُرْسلين}(3/273)
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عبدت بني إِسْرَائِيل} مُوسَى يَقُولُهُ لِفِرْعَوْنَ، أَرَادَ: أَلَّا يُسَوِّغَ عَدُوَّ اللَّهِ مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِ؛ يَقُولُ: أَتَمُنُّ عَلَيَّ بِأَنِ اتَّخَذْتَ قَوْمِي عَبِيدًا وَكَانُوا أَحْرَارًا، وَأَخَذْتَ أَمْوَالَهُمْ فَأَنْفَقْتَ عَلَيَّ مِنْهَا وَرَبَّيْتَنِي بِهَا، فَأَنَا أَحَقُّ بِأَمْوَالِ قَوْمِي مِنْكَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْله: {عبدت} يُقَالُ مِنْهُ: عَبْدٌ مُعَبَّدٌ وَمُسْتَعْبَدٌ، وَعَبَّدْتُ(3/273)
الْغُلَامَ وَأَعْبَدْتُهُ؛ أَيْ: اتَّخَذْتُهُ عَبْدًا. وَقَالَ حَاتِمٌ:
(إِذَا كَانَ بَعْضُ الْمَالِ رَبًّا لِأَهْلِهِ ... فَإِنِّي بِحَمْدِ الله مَالِي معبد)
سُورَة الشُّعَرَاء من (آيَة 23 آيَة 51) .(3/274)
قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
قَوْله: {قَالَ فِرْعَوْن إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ} فِيمَا يَدَّعِي {لَمَجْنُونٌ} .(3/275)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32)
{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} قَدْ مَضَى تَفْسِيرُ قِصَّتِهِمْ فِي سُورَة الْأَعْرَاف(3/275)
قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50)
{قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبنَا منقلبون} .
قَالَ مُحَمَّد: {لَا ضير} وَهْوَ مِنْ: ضَارَهُ يَضُورُهُ وَيُضِيرُهُ؛ بِمَعْنَى: ضَرَّهُ؛ أَيْ: لَا ضَرَرَ عَلَيْنَا فِيمَا يَنَالُنَا فِي الدُّنْيَا.(3/275)
إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
{إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبنَا خطايانا أَن كُنَّا} بِأَن كُنَّا {أول الْمُؤمنِينَ} من السَّحَرَة.
سُورَة الشُّعَرَاء من (آيَة 52 آيَة 68) .(3/275)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بعبادي إِنَّكُم متبعون} أَي: يتبعكم فِرْعَوْن وَقَومه(3/276)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)
{إِن هَؤُلَاءِ لشرذمة قَلِيلُونَ} أَيْ: هُمْ قَلِيلٌ فِي كَثِيرٍ.
قَالَ مُحَمَّد: معنى {شرذمة} : طَائِفَةٌ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ: الْقِلَّةُ.
قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ قَطَعَ مُوسَى بِهِمُ الْبَحْر كَانُوا سِتّمائَة أَلْفَ مُقَاتِلٍ.
قَالَ الْحَسَنُ: سِوَى الْحَشَمِ. وَكَانَ مُقَدِّمَةُ فِرْعَوْنَ أَلْفَ أَلْفِ حِصَانٍ، وَمِائَتَيْ أَلْفِ حِصَانٍ(3/276)
وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)
{وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حذرون} وتقرأ: {حاذرون} .
قَالَ مُحَمَّد: والحاذر عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: الْمُسْتَعِدُّ، وَالْحَذِرُ: المتيقظ.(3/276)
فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)
{فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ} أَي: أَمْوَال {ومقام كريم} منزل حسن(3/276)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
{كَذَلِك} أَيْ: هَكَذَا كَانَ الْخَبَرُ. ثُمَّ انْقَطَعَ الْكَلَامُ، ثُمَّ قَالَ: {وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيل} رَجَعُوا إِلَى مِصْرَ بَعْدَ مَا أَهْلَكَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ؛ فِي تَفْسِير الْحسن(3/276)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
{فأتبعوهم مشرقين} يَعْنِي: حِينَ أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ؛ رَجَعَ إِلَى أَوَّلِ الْقِصَّةِ.(3/276)
قَالَ مُحَمَّد: معنى {اتَّبَعُوهُمْ} : لَحِقُوهُمْ، وَيُقَالُ: أَشْرَقْنَا؛ أَيْ: دَخَلْنَا فِي الشُّرُوقِ؛ كَمَا يُقَالُ: أَمْسَيْنَا وَأَصْبَحْنَا: دَخَلْنَا فِي الْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ، وَيُقَالُ: شَرُقَتِ الشَّمْسُ إِذَا طَلَعَتْ، وأشرقت إِذا أَضَاءَت وصفت.(3/277)
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
{فَلَمَّا ترَاءى الْجَمْعَانِ} جَمْعُ مُوسَى وَجَمْعُ فِرْعَوْنَ {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}(3/277)
قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
{قَالَ} مُوسَى {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سيهدين} إِلَى الطَّرِيق(3/277)
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)
{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بعصاك الْبَحْر} جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَى فَرَسٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ؛ فَضَرَبَهُ {فانفلق} الْبَحْرُ {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيم} وَالطَّوْدُ: الْجَبَلُ.
قَالَ قَتَادَةُ: صَارَ اثْنَى عَشْرَ طَرِيقًا لِكُلِّ سِبْطٍ طَرِيقٌ، وَصَارَ مَا بَيْنَ كُلِّ طَرِيقَيْنِ مِنْهُ مِثْلُ الْقَنَاطِيرِ يَنْظُرُ بَعضهم إِلَى بعض(3/277)
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
{وأزلفنا ثمَّ الآخرين} قَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُ: أَدْنَيْنَا فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ إِلَى الْبَحْرِ. قَالَ قَتَادَةُ: يُقَالُ: أَزْلَفَنِي كَذَا؛ أَيْ: أَدْنَانِي مِنْهُ(3/277)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)
{إِن فِي ذَلِك لآيَة} لَعِبْرَةً لِمَنِ اعْتَبَرَ وَحَذِرَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ مَا نَزَلَ بِهِمْ.
سُورَة الشُّعَرَاء من (آيَة 69 آيَة 83) .(3/277)
قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)
{فَنَظَلُّ لَهَا عاكفين} أَيْ: نَصِيرُ مُقِيمِينَ عَلَى عِبَادَتِهَا.(3/278)
قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
{قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَو ينفعونكم أَو يضرون} أَي: أَنَّهَا لَا تسمع ولاتنفع وَلَا تضر(3/278)
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالمين} أَيْ: إِلَّا مَنْ عَبَدَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مِنْ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِي بِعَدُوٍ؛ هَذَا تَفْسِيرُ الْحسن(3/278)
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
{الَّذِي خلقني فَهُوَ يهدين} يَعْنِي: الَّذِي خلقني وهداني(3/278)
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
{وَالَّذِي أطمع} وَهَذَا طَمَعُ يَقِينٍ {أَنْ يَغْفِرَ لي خطيئتي} يَعْنِي: قَوْله: {إِنِّي سقيم} وَقَوْلَهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} وَقَوْلَهُ لِسَارَّةَ: إِنْ سَأَلُوكِ فَقُولِي أَنَّك أُخْتِي {يَوْم الدّين} يُرِيدُ: يَدِينُ اللَّهُ النَّاسَ فِيهِ بأعمالهم (ل 244) أَي: يجازيهم(3/278)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
{رب هَب لي حكما} أَيْ: ثَبِّتْنِي عَلَى النُّبُوَّةِ {وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} يَعْنِي أهل الْجنَّة.
سُورَة الشُّعَرَاء من (آيَة 84 آيَة 104)(3/278)
وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)
{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينٍ إِلا وهم يتولونه وَيُحِبُّونَهُ(3/279)
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)
{وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} وَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْجَنَّةِ.(3/279)
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)
{وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّين} قَالَ هَذَا فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، وَكَانَ فِي طَمَعٍ مِنْ أَنْ يُؤْمِنَ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ يَدْعُ لَهُ(3/279)
إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
{إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سليم} من الشّرك.(3/279)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)
{وأزلفت الْجنَّة} أَي: أدنيت(3/279)
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)
{وبرزت الْجَحِيم} أظهرت {للغاوين} للْمُشْرِكين.(3/279)
وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92)
{وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبدُونَ من دون الله} يَعْنِي: الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى عِبَادَةِ مِنْ عَبَدُوا مِنْ دُونِ الله(3/279)
مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)
{هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ} يَعْنِي: هَلْ يَمْنَعُونَكُمْ مِنْ عَذَابِ الله؟ {أَو ينتصرون} يمتنعون.(3/279)
فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)
{فكبكبوا فِيهَا} أَيْ: قُذِفُوا فِيهَا؛ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {هم والغاوون} يَعْنِي: الشَّيَاطِينَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: {فَكُبْكِبُوا} أَصْلُهُ: كُبِّبُوا؛ مِنْ قَوْلِكَ: كَبَبْتُ الْإِنَاءَ، فَأُبْدِلَ مِنَ الْبَاءِ الْوُسْطَى كَافًا؛ اسْتِثْقَالًا لِاجْتِمَاعِ ثَلَاثِ بَاءَاتٍ.(3/279)
قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)
{قَالُوا} قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلشَّيَاطِينِ {وَهُمْ فِيهَا يختصمون} وَخُصُومَتُهُمْ تَبَرُّؤُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَلعن بَعضهم بَعْضًا(3/280)
تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97)
{تالله إِن كُنَّا} فِي الدُّنْيَا. أَيْ: لَقَدْ كُنَّا فِي الدُّنْيَا {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} بَين.(3/280)
إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)
{إِذْ نسويكم بِرَبّ الْعَالمين} أَي: نتخذكم آلِهَة(3/280)
وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)
{وَمَا أضلنا إِلَّا المجرمون} يَعْنِي: الشَّيَاطِين(3/280)
فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100)
{فَمَا لنا من شافعين} يَشْفَعُونَ لَنَا الْيَوْمَ عِنْدَ اللَّهِ(3/280)
وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)
{وَلَا صديق حميم} قَرِيبِ الْقَرَابَةِ، فَيَحْمِلَ عَنَّا؛ كَمَا كَانَ يَحْمِلُ الْحَمِيمُ عَنْ حَمِيمِهِ فِي الدُّنْيَا؛ قَالُوا هَذَا حِينَ شُفِعَ لِلْمُذْنِبِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَأُخْرِجُوا مِنْهَا(3/280)
فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)
{فَلَو أَن لنا كرة} رَجْعَةً إِلَى الدُّنْيَا {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤمنِينَ} .
سُورَة الشُّعَرَاء من (آيَة 105 آيَة 122) .(3/280)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)
{كذبت قوم نوح الْمُرْسلين} يَعْنِي: نوحًا(3/280)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ} أَخُوهُمْ فِي النَّسَبِ، وَلَيْسَ بِأَخِيهِمْ فِي الدّين.(3/280)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)
{وَمَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ} عَلَى مَا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ الْهدى {أجرا} . {إِن أجري} ثَوَابِي {إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} .(3/280)
قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)
{قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} يَعْنِي: السفلة(3/281)
قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112)
{قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} أَيْ: بِمَا يَعْمَلُونَ، إِنَّمَا نَقْبَلُ مِنْهُمُ الظَّاهِرَ، وَلَيْسَ لِي بِبَاطِنِ أَمرهم علم.(3/281)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)
{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: بِالْحِجَارَةِ فَلَنَقْتُلَنَّكَ بِهَا(3/281)
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)
{فافتح بيني وَبينهمْ فتحا} أَيْ: اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ قَضَاءً؛ وَهَذَا حِينَ أُمِرَ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، فاستجيب لَهُ فأهلكهم الله.
سُورَة الشُّعَرَاء من (آيَة 123 آيَة 140) .(3/281)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)
{أتبنون} عَلَى الاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ: قَدْ فَعَلْتُمْ {بِكُل ريع} بِكُلِّ فَجٍّ {آيَةً} أَيْ: عَلَمَا {تعبثون} أَيْ: تَلْعَبُونَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الرِّيعُ: الِارْتِفَاعُ مِنَ الْأَرْضِ.
قَالَ الشَّمَّاخُ:(3/281)
(سَقَى دَارَ سُعْدَى حَيْثُ شَطَّ بِهَا النَّوَى ... فَأُنْعِمَ مِنْهَا كُلُّ ريع وفدفد)(3/282)
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)
قَوْله: {وتتخذون مصانع} يَعْنِي: الْقُصُورَ؛ وَيُقَالُ: مَصَانِعَ (لِلْمَاءِ) {لَعَلَّكُمْ تخلدون} فِي الدُّنْيَا؛ أَيْ: لَا تَخْلُدُونَ فِيهَا، وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ (كَأَنَّكُمْ خَالدُونَ) .(3/282)
وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)
{وَإِذا بطشتم} بِالْمُؤْمِنِينَ {بطشتم جبارين} يَعْنِي: قتالين بِغَيْر حق.(3/282)
إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
{إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} يَقُولُ: خُلُقُهُمُ الْكَذِبُ، وَتُقْرَأُ: إِنْ هَذَا إِلَّا (خَلْقُ الْأَوَّلِينَ) أَيْ: هَكَذَا كَانَ الْخَلْقُ قَبْلَنَا وَنَحْنُ مِثْلُهُمْ، عَاشُوا مَا عَاشُوا، ثُمَّ مَاتُوا وَلَا بَعْثٌ عَلَيْهِمْ وَلَا حِسَاب.
سُورَة الشُّعَرَاء من (آيَة 141 آيَة 159) .(3/282)
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146)
{أتتركون فِيمَا هَاهُنَا آمِنين} عَلَى الِاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ: لَا تُتْرَكُونَ فِيهِ(3/283)
وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)
{ونخل طلعها هضيم} هَشِيمٌ؛ أَيْ: إِذَا مُسَّ تَهَشَّمَ للينه؛ هَذَا تَفْسِير مُجَاهِد(3/283)
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)
{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: شَرِهِينَ وَهُوَ من شَره النَّفس(3/283)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)
{إِنَّمَا أَنْت من المسحرين} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ: يَعْنِي: مِنَ الْمَسْحِورِينَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: كَأَنَّهُ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَلذَلِك شدد.(3/283)
مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)
{مَا أَنْتَ إِلَّا بَشْرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقين} قَالُوا لَهُ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ نَاقَةً، وَكَانَتْ صَخْرَةً يَحْلِبُونَ عَلَيْهَا اللَّبَنَ فِي سَنَتِهِمْ؛ فَدَعَا اللَّهَ فتصدعت الصَّخْرَة (ل 245) فَخَرَجَتْ مِنْهَا نَاقَةٌ عَشْرَاءُ فَنَتَجَتْ فَصِيلًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (عَشْرَاءُ) يَعْنِي: حَامِلا قريبَة الْولادَة.(3/283)
قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
{قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلكم شرب يَوْم مَعْلُوم} كَانَتْ تَشْرَبُ الْمَاءَ يَوْمًا وَيَشْرَبُونَهُ يَوْمًا؛ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ شِرْبِهَا شَرِبَتْ مَاءَهُمْ كُلَّهُ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ شِرْبِهِمْ كَانَ لِأَنْفُسِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ وَأَرْضِهِمْ، وَكَانَ سَبَبُ عَقْرِهِمْ إِيَّاهَا: كَانَتْ تَضُرُّ بِمَوَاشِيهِمْ كَانَتِ الْمَوَاشِي إِذَا رَأَتْهَا هَرَبَتْ مِنْهَا؛ فَإِذَا كَانَ الصَّيْفُ صَافَتِ النَّاقَةُ بِظَهْرِ الْوَادِي فِي بَرْدِهِ وَخَصْبِهِ، وَهَبَطَتْ مَوَاشِيهِمْ إِلَى بَطْنِ الْوَادِي فِي جَدْبِهِ(3/283)
وَحَرِّهِ، وَإِذَا كَانَ الشِّتَاءُ شَتَّتِ النَّاقَةُ فِي بَطْنِ الْوَادِي فِي دِفْئِهِ وَخَصْبِهِ، وَصَعَدَتْ مَوَاشِيهِمْ إِلَى ظَهْرِ الْوَادِي فِي جَدْبِهِ وَبَرْدِهِ؛ حَتَّى أَضَرَّ ذَلِكَ بِمَوَاشِيهِمْ لِلْأَمْرِ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ، فَبَيْنَمَا قَوْمٌ مِنْهُمْ يَوْمًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَفَنِيَ الْمَاءُ الَّذِي يَمْزِجُونَ بِهِ، فَبَعَثُوا رَجُلًا؛ لِيَأْتِيَهُمْ بِالْمَاءِ، وَكَانَ يَوْمُ شِرْبِ النَّاقَةِ فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ بِغَيْرِ مَاءٍ، وَقَالَ: حَالَتِ النَّاقَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ الْمَاءِ {ثُمَّ بَعَثُوا آخَرَ؛ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا تَنْتَظِرُونَ؛ فَقَدْ أَضَرَّتْ بِنَا وَبِمَوَاشِينَا؟} فَانْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَتَلَهَا، وَتَصَايَحُوا وَقَالُوا: عَلَيْكُمُ الْفَصِيلَ. وَصَعَدَ الْفَصِيلُ الْجَبَلَ فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} .
قَالَ قَتَادَة: ذكر لنا أَن صَالِحًا حِينَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْعَذَابَ يَأْتِيهِمْ لَبِسُوا الْأَنْطَاعَ وَالْأَكْسِيَةَ وَاطَّلَوْا، وَقَالَ لَهُمْ: آيَةُ ذَلِكَ أَنْ تَصْفَرَّ وُجُوهُكُمْ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَتَحْمَرَّ فِي الثَّانِي، وَتَسْوَدَّ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ. فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ اسْتَقْبَلَ الْفَصِيلُ الْقِبْلَةَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، أُمِّي {يَا رَبِّ، أُمِّي} يَا رَبِّ، أُمِّي! فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهُمُ الْعَذَابَ عِنْدَ ذَلِك.
سُورَة الشُّعَرَاء من (آيَة 160 آيَة 175) .(3/284)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165)
قَوْلُهُ: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ ربكُم من أزواجكم} يَعْنِي: أَقْبَالُ النِّسَاءِ {بَلْ أَنْتُمْ قوم عادون} أَي: مجاوزون لأمر الله(3/285)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)
{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لوط لتكونن من المخرجين} من قريتنا؛ أَي: نقتلك(3/285)
قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)
{قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} يَعْنِي: المبغضين(3/285)
إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)
{إِلَّا عجوزا فِي الغابرين} يَعْنِي: الْبَاقِينَ فِي عَذَابِ اللَّهِ.
سُورَة الشُّعَرَاء من (آيَة 176 آيَة 183) .(3/285)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)
{كذب أَصْحَاب ليكة الْمُرْسلين} وَالْأَيْكَةُ: الْغَيْضَةُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدْيِنَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَهِي سُورَةِ " ص " بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْفَرْقِ، بَيْنَ لَيْكَةِ وَالْأَيْكَةِ فِي(3/285)
سُورَة الْحجر.(3/286)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181)
{أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ المخسرين} يَعْنِي: المنتقصين لحقوق النَّاس(3/286)
وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182)
{وزنوا بالقسطاس الْمُسْتَقيم} يَعْنِي: الْعدْل(3/286)
وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)
{وَلَا تبخسوا النَّاس أشياءهم} أَيْ: لَا تَنْقُصُوهُمُ الَّذِي لَهُمْ، وَكَانُوا أَصْحَابَ نُقْصَانٍ فِي الْمِيزَانِ {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} قد مضى تَفْسِيره.
سُورَة الشُّعَرَاء من (آيَة 184 آيَة 191) .(3/286)
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
{وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ} يَعْنِي: الخليقة(3/286)
فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)
{فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} أَي: قطعا(3/286)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)
{فَأَخذهُم عَذَاب يَوْم الظلة} قَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا أَهْلَ غَيْضَةٍ وَشَجَرٍ، وَكَانَ أَكْثَرَ شَجَرِهِمُ الدَّوْمُ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْحَرَّ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، فَكَانَ لَا يُكِنُّهُمْ ظِلٌ، وَلَا يَنْفَعُهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَحَابَةً(3/286)
فَلَجَئُوا تَحْتَهَا يَلْتَمِسُونَ الرَّوْحَ؛ فَجَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَذَابًا، جَعَلَ تِلْكَ السَّحَابَةُ نَارًا، فَاضْطَرَمَتْ عَلَيْهِمْ، فَأَهْلَكَهُمُ بذلك.
سُورَة الشُّعَرَاء من (آيَة 192 آيَة 204) .(3/287)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)
{وَإنَّهُ لتنزيل رب الْعَالمين} يَعْنِي: الْقُرْآن(3/287)
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)
{نزل بِهِ الرّوح الْأمين} يَعْنِي: جِبْرِيل(3/287)
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)
{على قَلْبك} يَا مُحَمَّد(3/287)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
{وَإنَّهُ لفي زبر الْأَوَّلين} كُتُبِ الْأَوَّلِينَ؛ يَقُولُ: نَعْتُ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ فِي كُتُبِهِمْ؛ يَعْنِي: التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيل(3/287)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)
{أَو لم يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل} يَعْنِي: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ؛ أَيْ: قَدْ كَانَ لَهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ بِهِ آيَة.
(يكن) تُقْرَأُ بِالتَّاءِ وَالْيَاءِ. فَمَنْ قَرَأَهَا بِالتَّاءِ، قَالَ: (آيَةٌ) بِالرَّفْعِ؛ أَيْ: قَدْ كَانَتْ لَهُمْ آيَةٌ، وَمَنْ جَعَلَهَا عَمَلًا فِي بَابِ كَانَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ: (آيَةً) بِالنَّصْبِ، جَعَلَهَا عَمَلًا لِكَانَ، وَالِاسْمُ (أَن(3/287)
يُعلمهُ (ل 246) وَمَنْ قَرَأَ {آيَةٌ} بِالرَّفْعِ جَعَلَهَا اسْمًا لِكَانَ وَ (أَنْ يَعْلَمَهُ) خَبَرُهَا وَعَمَلُهَا، وَهَذَا الَّذِي أَرَادَ يحيى.(3/288)
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198)
{وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ} يَقُولُ: لَوْ أَنْزَلْنَاهُ بِلِسَانٍ أَعْجَمِيٍّ إِذًا لَمْ يَفْقَهُوهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الأعجمين جَمْعُ أَعْجَمَ، وَالْأُنْثَى عَجْمَاءُ؛ يُقَالُ: رَجُلٌ أَعْجَمُ؛ إِذَا كَانَتْ فِي لِسَانِهِ عُجْمَةٌ، وَإِنْ كَانَ عَرَبِيَّ اللِّسَانِ، وَرَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ إِذَا كَانَ مِنَ الْعَجَمِ وَإِنْ كَانَ فَصِيحُ اللِّسَان.(3/288)
كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)
{كَذَلِك سلكناه} أَيْ: سَلَكْنَا التَّكْذِيبَ بِهِ {فِي قُلُوب الْمُجْرمين} الْمُشْركين(3/288)
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)
{لَا يُؤمنُونَ بِهِ} بِالْقُرْآنِ {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} يَعْنِي: قيام السَّاعَة(3/288)
فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)
{فيقولوا} عِنْدَ ذَلِكَ: {هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ} أَيْ: مَرْدُودُونَ إِلَى الدُّنْيَا فَنُؤْمِنَ(3/288)
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204)
{أفبعذابنا يستعجلون} أَي: قد استعجلوا بِهِ.
سُورَة الشُّعَرَاء من (آيَة 205 آيَة 220) .(3/288)
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)
{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُم مَا كَانُوا يوعدون} يَعْنِي: الْعَذَابَ {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} .(3/289)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208)
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا منذرون} أَيْ: إِلَّا مِنْ بَعْدِ الْحُجَّةِ وَالرسل والإعذار(3/289)
ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
{ذكرى وَمَا كُنَّا ظالمين} أَيْ: مَا كُنَّا لِنُعَذِّبَهُمْ إِلَّا مِنْ بَعْدِ الْبَيِّنَةِ وَالْحُجَّةِ.
قَالَ مُحَمَّد: {ذكرى} قَدْ تَكُونُ نَصْبًا وَتَكُونُ رَفْعًا، فَالنَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى مَعْنَى: {إِلَّا لَهَا منذرون} ؛ أَيْ: مُذَكِّرُونَ ذِكْرًا، وَالرَّفْعُ عَلَى مَعْنَى: إِنْذَارُنَا ذِكْرَى؛ أَيْ: تَذْكِرَةٌ؛ يُقَالُ: ذَكَّرْتُهُ ذِكْرَى بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ، وذكرا وتذكيرا وَتَذْكِرَة.(3/289)
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)
{الشَّيَاطِينُ وَمَا تنزلت بِهِ} يَعْنِي: الْقُرْآن(3/289)
وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)
{وَمَا يَنْبَغِي لَهُم} أَنْ يَنْزِلُوا بِهِ؛ أَيْ: لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِك.(3/289)
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
{إِنَّهُم عَن السّمع لمعزولون} وَكَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُبْعَثَ النَّبِيُّ يَسْتَمِعُونَ أَخْبَارًا مِنْ [أَخْبَارِ] السَّمَاءِ، فَأَمَّا الْوَحْيُ فَلَمْ يَكُونُوا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَسْمَعُوهُ؛ فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَّلَّمَ مُنِعُوا مِنْ تِلْكَ الْمَقَاعِدَ الَّتِي كَانُوا يَسْتَمِعُونَ فِيهَا، إِلَّا مَا يَسْتَرِقُ أَحَدُهُمْ فَيُرْمَى بِالشِّهَابِ(3/289)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
{وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} تَفْسِير الْكَلْبِيّ: " أَن رَسُول اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَام خَرَجَ حَتَّى قَامَ عَلَى الصَّفَا وَقُرَيْشٌ فِي(3/289)
الْمَسْجِدِ، ثُمَّ نَادَى: يَا صَبَاحَاهُ {فَفَزِعَ النَّاسُ فَخَرَجُوا، فَقَالُوا: مَا لَكَ يَا ابْنَ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ؟} فَقَالَ: يَا آلَ غَالِبٍ. قَالُوا: هَذِهِ غَالِبٌ عِنْدَكَ. ثُمَّ نَادَى يَا آلَ لُؤَيٍّ. ثُمَّ نَادَى يَا آلَ مُرَّةَ. ثُمَّ نَادَى يَا آلَ كَعْبٍ. ثُمَّ نَادَى يَا آلَ قُصَيٍّ. فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: أَنْذَرَ الرَّجُلُ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ انْظُرُوا مَاذَا يُرِيدُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو لَهَبٍ: هَؤُلَاءِ عَشِيرَتُكَ قَدْ حَضَرُوا فَمَا تُرِيدُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنْذَرْتُكُمْ أَنَّ جَيْشًا يُصْبِحُونَكُمْ أَصَدَّقْتُمُونِي؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي أُنْذِرُكُمُ النَّارَ، وَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَنْفَعَةً، وَلَا مِنَ الْآخِرَةِ نَصِيبًا، إِلَّا أَنْ تَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ {تَبَّتْ يَدَا أبي لَهب} فَتَفَرَّقَتْ عَنْهُ قُرَيْشٌ وَقَالُوا: مَجْنُونٌ يهذي من أم رَأسه ".(3/290)
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)
{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤمنِينَ} كَقَوْلِهِ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لنت لَهُم} .
قَالَ مُحَمَّد: من كَلَام الْعَرَب: اخْفِضْ جَنَاحَكَ؛ يَعْنِي: أَلِنْ جَنَاحَكَ.(3/290)
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)
{فَإِن عصوك} يَعْنِي: الْمُشْركين {فَقل إِنِّي برِئ مِمَّا تَعْمَلُونَ} .(3/290)
الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)
{الَّذِي يراك حِين تقوم} فِي الصَّلَاة وَحدك(3/291)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
{وتقلبك فِي الساجدين} يَعْنِي: فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ؛ فِي تَفْسِير بَعضهم.
سُورَة الشُّعَرَاء من (آيَة 221 آيَة 227) .(3/291)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)
{هَل أنبئكم} أَلَا أُنَبِّئُكُمْ {عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِين}(3/291)
تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)
{تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} يَعْنِي: الكهنة(3/291)
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
{يلقون السّمع} كَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ تَسْتَمِعُ، ثُمَّ تَنْزِلُ إِلَى الْكَهَنَةِ فَتُخْبِرُهُمْ، فَتُحَدِّثُ الْكَهَنَةُ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَتَخْلِطُ بِهِ الْكَهَنَةُ كَذِبًا كَثِيرًا، فَيُحَدِّثُونَ بِهِ النَّاسَ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ سَمْعِ السَّمَاء، فَيكون حَقًا، و [أما] مَا [كَانَ] خَلَطُوا بِهِ مِنَ الْكَذِبِ يَكُونُ كَذِبًا {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} يَعْنِي: جَمَاعَتهمْ(3/291)
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)
{وَالشعرَاء يتبعهُم الْغَاوُونَ} يَعْنِي: الشَّيَاطِين(3/291)
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَاد} أَيْ: مِنْ أَوْدِيَةِ الْكَذِبِ {يَهِيمُونَ} .
قَالَ مُحَمَّد: يَعْنِي: يذهبون.(3/291)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)
{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} قَالَ قَتَادَة: (ل 247) يَعْنِي: يَمْدَحُ قَوْمًا بِبَاطِلٍ، وَيَذُمُّ قوما بباطل،(3/291)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ: {إِلا الَّذِينَ آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} .
قَالَ قَتَادَةُ: اسْتَثْنَى اللَّهُ الشُّعَرَاءَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ مِنْهُمْ: حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ،(3/291)
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظلمُوا} أَيْ: انْتَصَرُوا بِالْكَلَامِ؛ يَعْنِي: [هَجَوْا] عَنِ نَبِيِّ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظَلَمَهُمُ الْمُشْرِكُونَ {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظلمُوا} أَشْرَكُوا مِنَ الشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ {أَيَّ مُنْقَلب يَنْقَلِبُون} مِنْ بَيْنِ يَدَيِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَة؛ أَي: أَنهم سَيَنْقَلِبُونَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ إِلَى النَّار.
قَالَ مُحَمَّد: {إِي} بِالنَّصْبِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَسْمَاءِ الِاسْتِفْهَامِ، لَا يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا.(3/292)
تَفْسِيرُ سُورَةِ النَّمْلِ وَهِي مَكِيَّةُ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَة النَّمْل من (آيَة 1 آيَة 6)(3/293)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)
قَوْله: {طس تِلْكَ آيَات الْقُرْآن وَكتاب مُبين} بَين(3/293)
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
{هدى وبشرى للْمُؤْمِنين} يَهْتَدُونَ بِهِ، ويبشرون بِالْجنَّةِ(3/293)
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)
{الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة} يَعْنِي: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ يُحَافِظُونَ عَلَى وُضُوئِهَا وَمَوَاقِيتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة} الْمَفْرُوضَة(3/293)
فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)
{وَإنَّك لتلقى الْقُرْآن} أَي: لتأخذه {من لدن} أَي: من عِنْد {حَكِيمٌ} فِي أَمْرِهِ {عَلِيمٌ} بِخَلْقِهِ؛ يَعْنِي: نَفسه تبَارك وَتَعَالَى.
سُورَة النَّمْل من (آيَة 7 - آيَة 13) .(3/293)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
{إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهله} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: قِيلَ: الْمَعْنَى: اذْكُرْ إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ. {إِنِّي آنست نَارا} أَيْ: أَبْصَرْتُ {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} الطَّرِيقُ وَكَانَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تصطلون} لِكَيْ تَصْطَلُوا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: كُلُّ ذِي نُورٍ فَهُوَ شِهَابٌ فِي اللُّغَةِ، وَالْقَبَسُ: النَّارُ تُقْتَبَسُ؛ تَقُولُ: قَبَسْتُ النَّارَ قَبْسًا، وَاسْمُ مَا قبست: قبس.(3/294)
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ} بِأَنْ بُورِكَ {مَنْ فِي النَّارِ} يَعْنِي: نَفْسَهُ، وَلَمْ تَكُنْ نَارًا، وَإِنَّمَا كَانَ ضَوْءُ نُورِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَكَانَ مُوسَى يَرَى أَنَّهَا نَار {وَمن حولهَا} يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ، وَهِيَ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: " نُودِيَ أَنْ بوركت النَّار وَمن حولهَا ".(3/294)
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)
{فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ ولى مُدبرا} من الْفرق {وَلم يعقب} يَعْنِي: وَلَمْ يَرْجِعْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ هَاهُنَا {كَأَنَّهَا جَان} وَالْجَانُ: الصَّغِيرُ مِنَ الْحَيَّاتِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {فَإِذَا هِيَ ثعبان مُبين} وَالثُّعْبَانُ: الْكَبِيرُ مِنَ الْحَيَّاتِ. قِيلَ: فَالْمَعْنَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ خَلْقَهَا خَلْقُ الثُّعْبَانِ الْعَظِيمِ(3/294)
وَاهْتِزَازَهَا وَحَرَكَتَهَا كَاهْتِزَازِ الْجَانِّ؛ وَهَذَا مِنْ عَظِيمِ الْقُدْرَةِ. {يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لدي المُرْسَلُونَ} أَي: عِنْدِي(3/295)
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
{إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حسنا بعد سوء} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ فِي الْآخِرَةِ وَفِي الدُّنْيَا {إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيم} أَيْ: فَإِنَّهُ لَا يَخَافُ عِنْدِي. وَكَانَ مُوسَى مِمَّنْ ظَلَمَ، ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوْءٍ، فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ؛ وَهُوَ قَتْلُ ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ لَمْ يَتَعَمَّدْ قَتْلَهُ، وَلَكِنْ تَعَمَّدَ وَكْزَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: {إِلَّا من ظلم} قِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ؛ الْمَعْنَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: لَكِنْ مَنْ ظَلَمَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَغَيْرِهِمْ، ثمَّ تَابَ.(3/295)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
{وَأدْخل يدك} أَيْ: فِي جَيْبِكَ؛ أَيْ: فِي جَيْبِ قَمِيصِكَ {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غير سوء} قَالَ الْحَسَنُ: أَخْرَجَهَا - وَاللَّهِ - كَأَنَّهَا مِصْبَاح {فِي تسع آيَات} يَعْنِي: يَدَهُ، وَعَصَاهُ، وَالطُّوفَانَ، وَالْجَرَادَ، وَالْقُمَّلَ، وَالضَّفَادِعَ، وَالدَّمَ، وَالسِّنِينَ، وَنَقْصَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَوله: {فِي تسع} أَي: من تسع {فِي} بِمَعْنى (من) .(3/295)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)
{فَلَمَّا جَاءَتْهُم آيَاتنَا مبصرة} أَي: بَيِّنَة.
سُورَة النَّمْل (آيَة 14) .(3/295)
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
{وجحدوا بهَا واستيقنتها أنفسهم} أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالَ قَتَادَةُ: وَالْجَحْدُ لَا يَكُونُ إِلَّا من بعد الْمعرفَة {ظلما} لأَنْفُسِهِمْ {وعلوا} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي: تَرَفُّعًا عَنْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى.(3/295)
{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} كَانَ عاقبتهم أَن دمر الله عَلَيْهِم ثمَّ صيرهم إِلَى النَّار.
سُورَة النَّمْل من (آيَة 15 - آيَة 19) .
(ل 248)(3/296)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
{وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِمَا من الْمُؤمنِينَ(3/296)
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
{وَورث سُلَيْمَان دَاوُد} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: وَرِثَ نُبُوَّتَهُ وَمُلْكَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِدَاوُدَ تِسْعَةَ عَشْرَ وَلَدًا، فَوَرِثَ سُلَيْمَانُ مَنْ بَيْنِهِمْ نُبُوَّتَهُ وَمُلْكَهُ. {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} يَعْنِي: كُلُّ شَيْءٍ أُوتِيَ مِنْهُ(3/296)
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
{فهم يُوزعُونَ} أَيْ:
يُدْفَعُونَ أَلَّا يَتَقَدَّمَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ، قَالَ قَتَادَةُ: عَلَى كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ وَزَعَةٌ تَرُدُّ أُولَاهُمْ عَلَى أُخْرَاهُمْ(3/296)
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْل} قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ وَادٍ بِالشَّام.(3/296)
{قَالَت نملة يَا أَيهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَان وَجُنُوده} قَالَ اللَّهُ: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أَنَّ سُلَيْمَانَ يَفْهَمُ كَلَامَهُمْ.
قَالَ مُحَمَّد: لفظ النَّمْل أجري هَاهُنَا مَجْرَى لَفْظِ الْآدَمِيِّينَ حِينَ نَطَقَ؛ كَمَا ينْطق الآدميون.(3/297)
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
{فَتَبَسَّمَ} سُلَيْمَانُ {ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رب أوزعني} أَلْهِمْنِي.
قَالَ مُحَمَّدٌ: تَأْوِيلُ (أَوْزِعْنِي) : كُفَّنِي عَنِ الْأَشْيَاءَ إِلَّا عَنْ شكر نِعْمَتك.
سُورَة النَّمْل من (آيَة 20 - آيَة 22) .(3/297)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)
{وتفقد الطير} قَالَ قَتَادَة: ذكر لنا أَن سُلَيْمَانَ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مَفَازَةً فَدَعَا بِالْهُدْهُدْ لَيَعْلَمَ لَهُ مَسَافَةَ الْمَاءِ، وَكَانَ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْبَصَرِ بِذَلِكَ مَا لَمْ يُعْطَهُ غَيْرُهُ مِنَ الطَّيْرِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ يَدُلُّهُ عَلَى الْمَاءِ إِذَا نَزَلَ النَّاسُ، فَيُخْبِرُهُ كَمْ بَيْنَهُ وَبَين المَاء من قامة(3/297)
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
{لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} قَالَ قَتَادَةُ: وَعَذَابُهُ أَنْ يَنْتِفَ رِيشَهُ وَيَذَرُهُ فِي الْمَنْهِلِ؛ حَتَّى يَأْكُلَهُ الذَّرُّ وَالنَّمْلُ {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بسُلْطَان مُبين} بِعُذْر بَين(3/297)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
{فَمَكثَ غير بعيد} أَيْ: رَجَعَ مِنْ سَاعَتِهِ {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ: عَلِمْتُ مَا لَمْ تَعْلَمْ {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بنبإ يَقِين} أَيْ: بِخَبَرٍ حَقٍّ. وَ (سَبَأٌ) فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ(3/297)
وَقَتَادَةَ: أَرْضٌ بِالْيَمَنِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاس: " سُئِلَ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ سَبَإٍ، فَقَالَ: هُوَ رَجَلٌ ".
قَالَ مُحَمَّدٌ: ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ؛ أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يَقْرَأُ: {مِنْ سَبَأَ} مَنْصُوبَةً غَيْرَ مُجْرَاةٍ: قَالَ: وَتَفْسِيرُهَا: اسْمٌ مُؤَنَّثٌ لِامْرَأَةٍ أَوْ قَبِيلَةٍ، وَالَّذِي يُجْرِي يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ.(3/298)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَنْ قَالَ: هُوَ اسْمُ رَجُلٍ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَبِيلَةَ أَوِ الْأَرْضَ سُمِّيَتْ بِاسْمِ ذَلِكَ الرجل.
سُورَة النَّمْل من (آيَة 23 آيَة 28) .(3/299)
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
{وَأُوتِيت من كل شَيْء} أَيْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أُوْتِيَتْ مِنْهُ {وَلها عرش عَظِيم} أَيْ: سَرِيرٌ حَسَنٌ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ مِنْ ذَهَبٍ، وَقَوَائِمُهُ لُؤْلُؤٌ وَجَوْهَرٌ، وَكَانَ مُسَتَّرًا بِالْدِيبَاجِ وَالْحَرِيرِ، وَكَانَتْ عَلَيْهِ سَبْعُ مَغَالِيقَ، وَكَانَتْ دونه سَبْعَة أَبْيَات مغلقة.(3/299)
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)
{وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دون الله} قَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا مَجُوسًا {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ}(3/299)
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)
{أَلا يسجدوا لله} أَيْ: فَصَدَّهُمْ عَنِ الطَّرِيقِ بِتَرْكِهِمُ السُّجُودَ لِلَّهِ {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ} يَعْنِي: الخبيئة {فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} أَيْ: يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْض(3/299)
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
{قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ} إِلَى قَوْلِهِ: {يرجعُونَ} قَالَ قَتَادَة: ذكر لنا أَنَّهَا امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، كَانَتْ فِي بَيْتِ مَمْلَكَةٍ يُقَالُ لَهَا: بِلْقِيسُ ابْنَةُ(3/299)
شُرُحْبِيلَ، فَهَلَكَ قَوْمُهَا فَمَلَكَتْ، وَأَنَّهَا كَانَتْ إِذَا رَقَدَتْ غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ، فَلَمَّا غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَأَوَتْ إِلَى فِرَاشِهَا، أَتَاهَا الْهُدْهُدُ حَتَّى دَخَلَ مِنْ كُوَّةِ بَيْتِهَا، فَقَذَفَ الصَّحِيفَةَ عَلَى بَطْنِهَا؛ فَأَخَذَتِ الصَّحِيفَةَ فَقَرَأَتْهَا فَقَالَت: {يَا أَيهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كريم} حَسَنٌ؛ أَيْ: حَسَنٌ مَا فِيهِ، الْآيَة. {أَلا تعلوا عَليّ} أَيْ: لَا تَتَخَلَّفُوا عَنِّي {وَأْتُونِي مُسلمين} قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَيْ مُسْتَسْلِمِينَ؛ لَيْسَ يَعْنِي: الْإِسْلَام.
سُورَة النَّمْل من (آيَة 29 آيَة 35) .(3/300)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
{قَالَت يَا أَيهَا الْمَلأُ} إِلَى قَوْلِهِ: {مَاذَا تَأْمُرِينَ} قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لِنَا أَنَّهُ كَانَ لَهَا ثَلَاثمِائَة (ل 249) وَثَلَاثَةَ عَشْرَ رَجُلًا أَهْلُ مَشُورَتِهَا كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَلَى عَشْرَةِ آلَافٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْقِرَاءَةُ فِي قَوْله: {حَتَّى تَشْهَدُون} بِكَسْرِ النُّونِ، وَأَصْلُهُ: (تَشْهَدُونَنِي) فَحُذِفَتِ النُّونُ الْأُولَى لِلنَّصْبِ، وَحُذِفَتِ الْيَاءُ؛ لِأَنَّهَا آخِرُ آيَةٍ، وَالْكَسْرَةُ تَدُلُّ عَلَيْهَا.(3/300)
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
{قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّة} قَالَ(3/300)
اللَّهُ: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} .(3/301)
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يرجع المُرْسَلُونَ} تَقُولُ: إِنْ قَبِلَ هَدِيَّتَنَا فَهُوَ مِنَ الْمُلُوكِ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ النُّبُوَّةِ؛ كَمَا يَنْتَحِلُ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: بَعَثَتْ إِلَيْهِ بِجَوارٍ قَدْ لَبَّسَتْهُنَّ لُبْسَةَ الْغِلْمَانِ، وَبِغِلْمَانٍ قَدْ أَلْبَسَتْهُمْ لُبْسَةَ الْجَوَارِي؛ فَخَلَّصَ سُلَيْمَانُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَلَمْ يَقْبَلْ هَدِيَّتَهَا.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله (بِمَ) بِحَذْفِ الْأَلِفِ؛ لِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ مَعَ (مَا) فِي الِاسْتِفْهَامِ تُحْذَفُ مَعَهَا الْأَلِفُ مِنْ (مَا) لِيُفْصَلَ بَين الْخَبَر والاستفهام.
سُورَة النَّمْل من (آيَة 36 آيَة 40) .(3/301)
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
{ارْجع إِلَيْهِم} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: الرُّسُلَ {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أَي: لَا طَاقَة.(3/301)
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)
{قَالَ يَا أَيهَا الْمَلأ أَيّكُم يأتيني بِعَرْشِهَا} يَعْنِي: سَرِيرِهَا {قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسلمين} أَيْ: مُقِرِّينَ بِالطَّاعَةِ؛ فِي تَفْسِيرِ الْكَلْبِيّ(3/301)
قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
{قَالَ عفريت من الْجِنّ} أَيْ: مَارِدٌ.(3/301)
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: عِفْرٌ وَعِفْرِيتٌ، وَعِفْرِيَّةٌ وَعِفَارِيَّةٌ؛ إِذَا كَانَ شَدِيدًا وَثِيقًا. {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تقوم من مقامك} قَالَ قَتَادَةُ: وَمَقَامُهُ: مَجْلِسُهُ الَّذِي كَانَ يَقْضِي فِيهِ، فَأَرَادَ مَا هُوَ أعجل من ذَلِك(3/302)
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
{قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكتاب} وَكَانَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ يُقَالُ لَهُ: آصِفُ، يَعْلَمُ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ {قَالَ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طرفك} وَطَرْفُهُ: أَنْ يَبْعَثَ رَسُولًا إِلَى مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ، حَتَّى يُؤْتَى بِهِ، فَدَعَا الرَّجُلُ بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ {فَلَمَّا رَآهُ} رَأَى سُلَيْمَانُ السَّرِيرَ {مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أم أكفر} أَيْ: أَشْكُرُ النِّعْمَةَ أَمْ أَكْفُرُهَا؟ {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} .
يَحْيَى: عَنِ الْمُعَلَّى، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " إِنَّ صَاحِبَ سُلَيْمَانَ الَّذِي قَالَ: أَنَا آتِيكَ بِهِ كَانَ يُحْسِنُ الِاسْمَ الْأَكْبَرَ، فَدَعَا بِهِ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَسِيرَةُ شَهْرَيْنِ، وَهِيَ مِنْهُ عَلَى فَرْسَخٍ، فَلَمَّا جَاءَهُ الْعَرْشُ كَأَنَّ سُلَيْمَانَ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ مِثْلَ الْحَسَدِ لَهُ ثُمَّ فَكَّرَ، فَقَالَ: أَلَيْسَ هَذَا الَّذِي قَدِرَ عَلَى مَا لَمْ أَقْدِرُ عَلَيْهِ مُسَخَّرًا لِي؟ ! هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أم أكفر ".
سُورَة النَّمْل من (آيَة 41 آيَة 44) .(3/302)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)
{قَالَ نكروا لَهَا عرشها} قَالَ قَتَادَةُ: وَتَنْكِيرُهُ: أَنْ يُزَادَ فِيهِ، وَيُنْقَصَ مِنْهُ {نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي} أَيْ: أَتَعْرِفُهُ {أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذين لَا يَهْتَدُونَ} أَي: أم لَا تعرفه(3/303)
فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
{فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَت كَأَنَّهُ هُوَ} قَالَ قَتَادَةَ: شَبَّهَتْهُ بِهِ، وَكَانَتْ قَدْ تَرَكَتْهُ خَلْفَهَا، فَوَجَدَتْهُ أَمَامَهَا. {وأوتينا الْعلم من قبلهَا} سُلَيْمَان يَقُوله؛ يَعْنِي: النُّبُوَّة(3/303)
وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
{وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دون الله} صَدَّهَا أَنْ تَهْتَدِيَ لِلْحَقِّ {إِنَّهَا كَانَت من قوم كَافِرين} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (إِنَّهَا) بِكَسْرِ الْأَلِفِ، فَهُوَ عَلَى (الِاسْتِئْنَافِ) .(3/303)
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
{قيل لَهَا ادخلي الصرح} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: إِنَّ الْجِنَّ اسْتَأْذَنُوا سُلَيْمَانَ، فَقَالُوا: ذَرْنَا فَلْنَبْنِ لَهَا صَرْحًا أَيْ: قَصْرًا مِنْ قَوَارِيرَ فَنَنْظُرُ كَيْفَ عَقْلُهَا، وَخَافَتِ الْجِنُّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا سُلَيْمَانُ فَتُطْلِعَهُ عَلَى أَشْيَاءَ كَانَتِ الْجِنُّ تُخْفِيهَا مِنْهُ.
قَالَ يَحْيَى: بَلَغَنِي أَنَّ أَحَدَ أَبَوَيْهَا كَانَ جِنِيًّا، فَلِذَلِكُ تَخَوَّفُوا ذَلِكَ مِنْهَا.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: فَأَذِنَ لَهُمْ فَعَمَدُوا إِلَى الْمَاءِ فَفَجَّرُوهُ فِي أَرْضٍ فَضَاءٍ، ثُمَّ أَكْثَرُوا فِيهِ مِنَ الْحِيتَانِ وَالضَّفَادِعِ، ثُمَّ بَنُوا عَلَيْهِ سُتْرَةً مِنْ زُجَاجٍ، ثُمَّ بَنُوا حَوْلَهُ صَرْحًا مُمَرَّدًا مِنْ قَوَارِيرَ، وَالْمُمَرَّدُ: الْأَمْلَسُ، ثُمَّ أَدْخَلُوا [عَرْشَ سُلَيْمَانَ(3/303)
وَعَرْشَهَا وَكَرَاسِيَّ عُظَمَاءِ الْمُلُوكِ، ثُمَّ دَخَلَ سُلَيْمَانُ، وَدَخَلَ مَعَهُ عُظَمَاءُ جُنُوده] ثمَّ (ل 250) قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الصَّرْحَ وَفُتِحَ الْبَابُ؛ فَلَمَّا أَرَادَتِ الدُّخُولَ إِذَا هِيَ بِالْحِيتَانِ وَالضَّفَادِعِ، فَظَنَّتْ أَنَّهُ مَكْرٌ بِهَا لِتَغْرَقَ، ثُمَّ نَظَرَتْ فَإِذَا هِيَ بِسُلَيْمَانَ عَلَى سَرِيرِهِ، وَالنَّاسُ عِنْدَهُ عَلَى الْكَرَاسِيِّ؛ فَظَنَّتْ أَنَّهَا بمخاضة، فَكشفت عَن سَاقيهَا وَكَانَ بِهَا بَرَصٌ؛ فَلَمَّا رَآهَا سُلَيْمَانُ كَرِهَهَا، فَلَمَّا عَرِفَتِ الْجِنُّ أَنَّ سُلَيْمَانَ قَدْ رَأَى مِنْهَا مَا كَانَتْ تَكْتُمُ مِنَ النَّاسِ، قَالَتْ لَهَا الْجِنُّ: لَا تَكْشِفِي عَنْ سَاقَيْكِ، وَلَا عَنْ قَدَمَيْكِ؛ فَإِنَّمَا هُوَ صَرْحٌ مِنْ قَوَارِيرَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: كُلُّ بِنَاءٍ مُطُوَّلٍ: صَرْحٌ، وَالْمُمَرَّدِ يُقَالُ مِنْهُ: مَرَدْتُ الشَّيْءَ إِذَا بَلَطْتُهُ أَوْ مَلَسْتُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْأَمْرَدُ الَّذِي لَا شَعْرَ فِي وَجْهِهِ. {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظلمت نَفسِي} أَي: تقصتها؛ يَعْنِي: مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْكفْر.
سُورَة النَّمْل من (آيَة 45 آيَة 53) .(3/304)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)
{فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} قَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُ: إِذَا الْقَوْمُ بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ؛ هَذِهِ كَانَتْ خُصُومَتُهُمْ(3/305)
قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)
{قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قبل الْحَسَنَة} والسيئة: الْعَذَاب؛ لقَولهم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ من الْمُرْسلين} والحسنة: الرَّحْمَة(3/305)
قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
{قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ قَدْ أَصَابَهُمْ جُوعٌ، فَقَالُوا: بِشُؤْمِكَ، وَبِشُؤْمِ الَّذِينَ مَعَكَ أَصَابَنَا هَذَا {قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْد الله} يَعْنِي: عَمَلَكُمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: لَيْسَ ذَلِكَ مِنِّي، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ اللَّهِ {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تفتنون} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: تُصْرَفُونَ عَنْ دِينِكُمُ الَّذِي أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ(3/305)
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)
{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} قَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا مِنْ قَوْمِ صَالح(3/305)
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
{قَالُوا تقاسموا بِاللَّه} أَي: تحالفوا {لنبيتنه} لَنُبَيِّتَنَّ صَالِحًا وَأَهْلَهُ؛ يَعْنِي: الَّذِينَ عَلَى دِينِهِ {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} أَيْ: لِرَهْطِهِ {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهله}(3/305)
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)
{ومكروا مكرا} يَعْنِي: الَّذِي أَرَادوا بِصَالح {ومكروا مكرا} قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لِنَا أَنَّهُ بَيْنَا هُمْ مُعَايِنُونَ إِلَى صَالِحٍ لِيَفْتِكُوا بِهِ؛ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِم صَخْرَة فأهمدتهم(3/305)
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)
{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنا دمرناهم} بالصخرة {وقومهم أَجْمَعِينَ} بَعْدَ ذَلِكَ بِالصَّيْحَةِ.(3/305)
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (إِنَّا) بِكَسْرِ الْأَلِفِ، فَالْمَعْنَى: فَانْظُرْ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ، ثُمَّ فَسَّرَ فَقَالَ: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} .(3/306)
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)
{فَتلك بُيُوتهم خاوية} يَقُولُ: لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ، وَكَانُوا بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: الْحِجْرُ.
قَالَ مُحَمَّد: من قَرَأَ {خاوية} بِالنّصب فَهُوَ على الْحَال.
سُورَة النَّمْل من (آيَة 54 آيَة 58) .(3/306)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)
{أتأتون الْفَاحِشَة وَأَنْتُم تبصرون} أَنَّهَا الْفَاحِشَة.(3/306)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)
{أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُم أنَاس يتطهرون} أَيْ: يَتَنَزَّهُونَ عَنْ أَعْمَالِ قَوْمِ لوط.(3/306)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57)
{إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} يَعْنِي: الْبَاقِينَ فِي عَذَابِ اللَّهِ(3/306)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
{وأمطرنا عَلَيْهِم مَطَرا} قد مضى تَفْسِيره.(3/306)
سُورَة النَّمْل من (آيَة 59 آيَة 63) .(3/307)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عباده الَّذين اصطفىءآلله خير} على الِاسْتِفْهَام {أما تشركون} أَيْ: أَنَّ اللَّهَ خَيْرٌ مِنْ أوثانهم الَّتِي يعْبدُونَ(3/307)
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
{فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} أَيْ: حَسَنَةٌ. قَالَ الْحَسَنُ: وَالْحَدَائِقُ: النَّخْلُ {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تنبتوا شَجَرهَا} أَيْ: أَنَّ اللَّهَ هُوَ أَنْبَتَهَا {أإله مَعَ الله} عَلَى الِاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ: لَيْسَ مَعَهُ إِلَهٌ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} يَقُولُ: يَعْدِلُونَ الْأَوْثَانَ بِاللَّهِ، فَيَعْبُدُونَهَا.(3/307)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
{وَجعل بَين الْبَحْرين حاجزا} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: يَعْنِي: بَحْرَ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَالْحَاجِزُ: الْخَلْقُ الَّذِي بَيْنَهُمَا فَلَا يَبْغِي أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ {بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} يَعْنِي: جَمَاعَتهمْ.(3/307)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)
{ويجعلكم خلفاء الأَرْض} يَعْنِي: خَلَفًا مِنْ بَعْدِ خَلَفٍ (قَلِيلا مَا(3/307)
تذكرُونَ} يَقُولُ: أَقَلُّهُمُ الْمُتَذَكِّرُ؛ يَعْنِي: مَنْ يُؤمن.(3/308)
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
{أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْر} يَعْنِي: فِي أَهْوَالِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ {وَمن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نَشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحمته} يَعْنِي: الْمَطَر.
سُورَة النَّمْل من (آيَة 64 آيَة 70) .(3/308)
أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
{أَمن يبدؤ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ} يَعْنِي: الْبَعْث. {قل هاتوا برهانكم} أَمر الله النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنْ يَقُولَ لِلْمُشْرِكِينَ: هَاتُوا حُجَّتَكُمْ {إِن كُنْتُم صَادِقين} أَنَّ هَذِهِ الْأَوْثَانَ خَلَقَتْ خَلْقًا أَوْ صَنَعَتْ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَهَذَا كُله (ل 251) تبع للْكَلَام الأول {آللَّهُ خير أما يشركُونَ} أَيْ: أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ هَذَا كُلَّهُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ أَوْثَانِهِمْ.(3/308)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} والغيب هَاهُنَا: الْقِيَامَةُ؛ لَا يَعْلَمُ مَجِيئَهَا إِلَّا الله {وَمَا يَشْعُرُونَ} وَمَا يَشْعُرُ جَمِيعُ الْخَلْقِ {أَيَّانَ يبعثون} مَتى يبعثون(3/308)
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
{بل ادارك} أَيْ: تَدَارَكَ {عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ} {يَقُولُ عَلِمُوا فِي الْآخِرَةِ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ اللَّهُ، فَآمَنُوا حِينَ لَمْ يَنْفَعُهْمُ عِلْمُهُمْ} .(3/308)
أَيْ: إِيمَانُهُمْ {بَلْ هُمْ فِي شكّ مِنْهَا} يَعْنِي: الْآخِرَةَ {بَلْ هُمْ مِنْهَا عمون} أَيْ: عَمُوا عَنْهَا لَا يَدْرُونَ مَا الْحِسَابُ فِيهَا وَمَا الْعَذَابُ.(3/309)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67)
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابا وآباؤنا} على الِاسْتِفْهَام {أئنا لمخرجون} لَمَبْعُوثُونَ؛ أَيْ: لَا نُبْعَثُ. وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ مِنْهُ عَلَى إِنْكَارٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قِرَاءَةُ نَافِعٍ (إِذَا كُنَّا) بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى الْخَبَرِ، وَفِيهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْقُرَّاءِ. وَمَنْ قَرَأَ: (أئذا) اخْتَلَسَ الْيَاءَ، وَلَمْ يُخْلِصْ لَفْظَهَا.(3/309)
لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
{لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا من قبل} هَذَا قَوْلُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، أَيْ: قَدْ وُعِدَتْ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ بِالْبَعْثِ كَمَا وَعَدَنَا مُحَمَّدٌ، فَلَمْ نَرَهَا بُعِثَتْ؛ يَعْنِي: مَنْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى عَهْدِ مُوسَى. {إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أَي: كذب الْأَوَّلين وباطلهم.(3/309)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)
{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُجْرمين} الْمُشْرِكِينَ كَانَ عَاقِبَتُهُمْ أَنْ دَمَّرَ الله عَلَيْهِم، ثمَّ صيرهم إِلَى النَّارِ؛ يُحَذِّرُهُمْ أَنْ يُنَزِّلَ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَا نَزَلَ بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(3/309)
وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
{وَلَا تحزن عَلَيْهِم} إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا {وَلا تَكُنْ فِي ضيق مِمَّا يمكرون} أَيْ: لَا يَضِيقُ عَلَيْكَ أَمْرُكَ بِمَا يَمْكُرُونَ بِكَ وَبِدِينِكَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَيَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ وَيُذِلُّهُمْ لَكَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَكْثَرُ الْقِرَاءَةِ: (فِي ضيق) بِفَتْح الضَّاد.
سُورَة النَّمْل من (آيَة 71 آيَة 81) .(3/309)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71)
{وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد} الَّذِي تَعِدُنَا بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(3/310)
قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)
قَالَ اللَّهُ للنَّبِيِّ: {قُلْ عَسَى أَن يكون ردف لكم} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: اقْتَرَبَ مِنْكُمْ.
قَالَ مُحَمَّد: (ردف لكم) اللَّامُ فِيهِ زَائِدَةٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ؛ الْمَعْنَى: رَدِفَكُمْ؛ كَمَا تَقُولُ: رَكِبَكُمْ، وَجَاءَ بَعْدَكُمْ. {بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُون} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: قِيَامَ السَّاعَةِ الَّذِي يُهْلَكُ بِهِ آخِرُ كُفَّارِ هَذِه الآمة(3/310)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاس} فَبِفَضْلِ اللَّهِ يَتَقَلَّبُ الْكَافِرُ فِي الدُّنْيَا، وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يشكرون} يَعْنِي: من لَا يُؤمن(3/310)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورهمْ} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَدَاوَةِ رَسُولِ الله {وَمَا يعلنون} من الْكفْر.(3/310)
وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
{وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} بَين؛ يَعْنِي: اللَّوْح(3/310)
الْمَحْفُوظ(3/311)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)
{إِن هَذَا الْقُرْآن يقص على بني إِسْرَائِيل} يَعْنِي: الَّذين أدركوا النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام {أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} يَعْنِي: مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَوَائِلُهُمْ، وَمَا حَرَّفُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَمَا كَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ قَالُوا: هَذَا من عِنْد الله.(3/311)
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ} فَيُدْخِلُ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ، وَيُدْخِلُ الْكَافِرِينَ النَّار(3/311)
إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
{إِنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى} يَعْنِي: الَّذِينَ يَلْقَوْنَ اللَّهَ بِكُفْرِهِمْ {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا ولوا مُدبرين} يَقُولُ: إِنَّ الْأَصَمَّ لَا يَسْمَعُ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّى مُدْبِرًا.
قَالَ قَتَادَةَ: هَذَا مَثَلُ ضَرَبَهُ اللَّهُ، فَالْكَافِرُ لَا يَسْمَعُ الْهُدَى وَلَا يَفْهَمُهُ؛ كَمَا لَا يَسْمَعُ الْمَيِّتَ، وَلَا يَسْمَعُ الْأَصَمُّ الدُّعَاءَ إِذَا ولى مُدبرا.(3/311)
وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
{وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضلالتهم} يَعْنِي: الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ {إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} يَعْنِي: من أَرَادَ الله أَن يُؤْمِنُ؛ وَهَذَا سَمَعُ الْقَبُولِ، فَأَمَّا الْكَافِر تسمع أذنَاهُ وَلَا يعقله قلبه.
سُورَة النَّمْل (آيَة 82) .(3/311)
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
{وَإِذا وَقع القَوْل عَلَيْهِم} أَيْ: وَجَبَ الْغَضَبُ {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّة من الأَرْض تكلمهم} وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ: (تُحَدِّثُهُمْ) {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} قَالَ بَعْضُهُمْ: تَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا بِي لَا يُوقِنُونَ.
يَحْيَى: عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ؛ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: " هِيَ دَابَّةٌ ذَاتُ(3/311)
زَغَبٌ وَرِيشٍ، وَلَهَا أَرْبَعُ قَوَائِمَ، تَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ ".
سعيد (ل 252) عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ (زِيَادٍ) أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو، قَالَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ؛ حَتَّى يَجْتَمِعُ أَهْلُ الْبَيْتِ عَلَى الْإِنَاءِ الْوَاحِدِ، فَيَعْرِفُوا مُؤْمِنِيهِمْ مِنْ كَافِرِيهِمْ. قَالُوا: كَيْفَ ذَلِكَ؟ ! قَالَ: إِنَّ الدَّابَّةَ تَخْرُجُ حِينَ تَخْرُجَ وَهِيَ دَابَّةُ الْأَرْضِ؛ فَتَمْسَحُ كُلَّ إِنْسَانٍ عَلَى مَسْجِدِهِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنَ فَتكون نُكْتَة بَيْضَاء؛ فتفشو فِي وَجْهِهِ حَتَّى يَبْيَضَّ لَهَا وَجْهُهُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَتَكُونُ نُكْتَةً سَوْدَاء؛ فتفشو فِي وَجهه حَتَّى يسوء لَهَا وَجْهُهُ؛ حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَتَبَايَعُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ يَقُولُ هَذَا: كَيْفَ تَبِيعُ هَذَا يَا مُؤْمِنُ؟ وَيَقُولُ هَذَا: كَيْفَ تَبِيعُ هَذَا يَا كَافِرُ؟ فَمَا يَرُدُّ بَعْضُهُمْ عَلَى بعض ".
سُورَة النَّمْل من (آيَة 83 آيَة 86) .(3/312)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)
{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فوجا} يَعْنِي: كُفَّارَ كُلِّ أُمَّةٍ {فَهُمْ يُوزعُونَ} قَالَ قَتَادَةُ: لَهُمْ وَزَعَةٌ تَرُدُّ أولاهم على أخراهم(3/313)
حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)
{حَتَّى إِذا جَاءُوا قَالَ} اللَّهُ {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بهَا علما} أَيْ: لَمْ تُحِيطُوا عِلْمًا بِأَنَّ مَا عَبَدْتُمْ مِنْ دُونِي خَلَقُوا مَعِي شَيْئًا، وَلَا رَزَقُوا مَعِي شَيْئًا، وَإِنَّ عِبَادَتَكُمْ إِيَّاهُمْ لَمْ تَكُنْ مِنْكُمْ بِإِحَاطَةِ عِلْمٍ عَلِمْتُمُوهُ، إِنَّمَا ذَلِكَ كَانَ مِنْكُمْ عَلَى الظَّن {أماذا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} يَسْتَفْهِمُهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ؛ يحْتَج عَلَيْهِم(3/313)
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)
{وَوَقع القَوْل عَلَيْهِم} أَيْ: حَقَّ الْغَضَبُ {بِمَا ظَلَمُوا} أشركوا.
سُورَة النَّمْل من (آيَة 87 آيَة 88) .(3/313)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)
{يَوْم يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا من شَاءَ الله} وَهَذِهِ النَّفْخَةُ الْأُولَى.
يَحْيَى: عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عِمَارَةَ بْنِ غُرَابٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَام: " {إِلَّا من شَاءَ الله} : الشُّهَدَاءُ؛ يَقُولُونَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الصَّوْت ". {وكل أَتَوْهُ داخرين} أَيْ: صَاغِرِينَ؛ يَعْنِي: النَّفْخَةَ الْآخِرَةَ.
يَحْيَى: عَنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَام: " بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ(3/313)
أَرْبَعُونَ سَنَةً؛ الْأُولَى يُمِيتُ اللَّهُ بِهَا كُلَّ حَيٍّ، وَالْأُخْرَى يُحْيِي الله بهَا كل ميت ".(3/314)
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
{وَترى الْجبَال تحسبها جامدة} سَاكِنَةً {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} تَكُونُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ وُتَكُونَ كَثِيبًا مَهِيلًا، وَتُبَسُّ بَسًّا؛ كَمَا يُبَسُّ السويق. وَتَكون سرابا، تمّ تَكُونُ هَبَاءً مُنْبَثًّا؛ وَذَلِكَ حِينَ تَذْهَبُ مِنْ أُصُولِهَا، فَلَا يُرَى مِنْهَا شَيْءٌ؛ فَتَصِيرُ الْأَرْضُ كُلُّهَا مُسْتَوِيَةً {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كل شَيْء} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْقِرَاءَةُ (صُنْعَ اللَّهِ) بِالنَّصْبِ؛ عَلَى مَعْنَى: الْمَصْدَرِ؛ كَأَنَّهُ قَالَ: صَنَعَ اللَّهُ ذَلِكَ صُنْعًا.(3/314)
سُورَة النَّمْل من (آيَة 89 - آيَة 93) .(3/315)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)
{من جَاءَ بِالْحَسَنَة} ب " لَا إِلَه إِلَّا اللَّه " مخلصا {فَلهُ خير مِنْهَا} فِيهَا تَقْدِيمٌ: فَلَهُ مِنْهَا خَيْرٌ؛ أَي: حَظّ؛ يَعْنِي الْجنَّة(3/315)
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
{وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} يَعْنِي: الشِّرْكَ {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّار} أَيْ: أُلْقُوا فِيهَا عَلَى وُجُوهِهِمْ {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فِي الدُّنْيَا؛ يُقَال لَهُم ذَلِك فِي الْآخِرَة(3/315)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)
{إِنَّمَا أمرت} أَيْ: قُلْ: يَا مُحَمَّدُ: إِنَّمَا أُمِرْتُ {أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلدة} يَعْنِي: مَكَّةَ {الَّذِي حَرَّمَهَا} .(3/315)
وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)
{فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} أَيْ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُكْرِهَكُمْ(3/315)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
{سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فتعرفونها} فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا قَالَ فِي الدُّنْيَا مِنْ وَعْدِهِ؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .(3/315)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْقَصَصِ وَهِيَ مَكِيَّةٌ كلهَا
بِسم الله الحمن الرَّحِيم
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 1 - آيَة 6) .(3/316)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
قَوْله: {طسم تِلْكَ آيَات} هَذِه آيَات {الْكتاب الْمُبين} الْبَين(3/316)
نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)
{نتلو عَلَيْك من نبإ مُوسَى} مِنْ خَبَرِ مُوسَى {وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لقوم يُؤمنُونَ} يصدقون(3/316)
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} أَيْ: بَغَى {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} أَيْ: فِرَقًا {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يذبح أَبْنَاءَهُم ويستحيي نِسَاءَهُمْ} يَعْنِي: بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا بِمِصْرَ فِي يَدَيْ فِرْعَوْنَ، وَالطَّائِفَةُ الَّتِي كَانَ يُذَبِّحُ: الْأَبْنَاءَ، وَالْطَائِفَةُ الَّتِي كَانَ يَسْتَحْيِي: النِّسَاءُ، وَقَدْ كَانَ يفعل هَذَا فِرْعَوْن.(3/316)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)
{و} نَحن {نُرِيد أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْض} يَعْنِي: بَنِي إِسْرَائِيلَ {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ: وُلَاةً (فِي الأَرْض) (ل 253) {ونجعلهم الْوَارِثين} أَي: يَرِثُونَ الْأَرْضِ بَعْدَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَفَعَلَ الله ذَلِك بهم(3/316)
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
{وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ} مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ (مَا كَانُوا(3/316)
يحذرون} قَالَ قَتَادَة: ذكر لنا أَن حَازِرًا حَزَرَ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ يُوْلَدُ فِي هَذَا الْعَامُ غُلَامٌ يَسْلِبُكَ مُلْكَكَ، فَتَتَبَّعَ أَبْنَاءَهُمْ يَقْتُلُهُمْ حَذَرًا مِمَّا قَالَ لَهُ الْحَازِرُ.
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 7 - آيَة 13) .(3/317)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
{وأوحينا إِلَى أم مُوسَى} أَيْ: قَذَفَ فِي قَلْبِهَا، وَلَيْسَ بِوَحْيِ النُّبُوَّةِ {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خفت عَلَيْهِ} الطّلب {فألقيه فِي اليم} {فِي الْبَحْر} (وَلَا تخافي} عَلَيْهِ الضَّيْعَة {وَلَا تحزني} {أَنْ يُقْتَلَ} (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} قَالَ قَتَادَةُ: فَجَعَلَتْهُ فِي تَابُوتٍ، ثمَّ قَذَفته فِي الْبَحْر(3/317)
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
{فالتقطه آل فِرْعَوْن} قَالَ يَحْيَى: بَلَغَنِي أَنَّ الْغَسَّالَاتِ عَلَى النِّيلِ الْتَقَطْنَهُ {لِيَكُونَ لَهُمْ عدوا} {فِي دينهم} (وحزنا} يُحْزِنُهُمْ بِهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: {ليَكُون لَهُم عدوا وحزنا} أَيْ: لِيَصِيرَ الْأَمْرُ إِلَى ذَلِكَ؛(3/317)
لَا أَنَّهُمْ طَلَبُوهُ وَأَخَذُوهُ لِذَلِكَ، وَمَثْلُهُ مِنَ الْكَلَامِ قَوْلُهُمْ لِلَّذِي كَسَبَ مَالًا؛ فَأَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى الْهَلَاكِ: إِنَّمَا كَسَبَ فُلَانُ لِحَتْفِهِ، وَهُوَ لَمْ يَطْلُبِ الْمَالَ لِحَتْفِهِ، وَلَكِنْ صَارَ الْأَمْرُ إِلَى ذَلِكَ وَهَذِهِ اللَّامُ يُسَمِّيهَا بَعْضُ النَّحْوِييِّنَ لَام الصيرورة.(3/318)
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
{وَقَالَت امْرَأَة فِرْعَوْن قُرَّة عين لي وَلَك} تَقُولُهُ لِفِرْعَوْنَ. قَالَ قَتَادَةُ: أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ رَحْمَتُهَا حِينَ أَبْصَرَتْهُ {لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أَنَّ هَلَاكَهُمْ عَلَى يَدَيْهِ وَفِي زَمَانه(3/318)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: أَيْ: فَارِغًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، غَيْرِ ذِكْرِ مُوسَى لَا تَذْكُرُ غَيْرَهُ {إِنْ كَادَتْ لتبدي بِهِ} قَالَ قَتَادَةُ: لِتُبَيِّنَ أَنَّهُ ابْنُهَا مِنْ شِدَّةِ وَجْدِهَا {لَوْلا أَنْ ربطنا على قَلبهَا} بِالْإِيمَانِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الرَّبْطُ عَلَى الْقَلْبِ: إِلْهَامُ الصَّبْرِ وَتَشْدِيدُهُ وَتَقْوِيَتُهُ.(3/318)
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
{وَقَالَت} أم مُوسَى {لأخته} لأخت مُوسَى {قصيه} أَيْ: اتْبَعِي أَثَرَهُ {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جنب} أَيْ: مِنْ بَعِيدٍ {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أَنَّهَا أُخْتُهُ؛ جَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَكَأَنَّهَا لَا تريده(3/318)
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} قَالَ قَتَادَةُ: جَعَلَ لَا يُؤْتَى بِامْرَأَةٍ إِلَّا لَمْ يَأْخُذْ ثَدْيَهَا {فَقَالَت هَل أدلكم} أَلَا أَدُلُّكُمْ {عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يكفلونه لكم} أَي: يضمونه فيرضعونه(3/318)
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
{وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} يَعْنِي: الَّذِي قُذِفَ فِي قَلْبِهَا {وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} يَعْنِي: جَمَاعَتهمْ.
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 14 - آيَة 19) .(3/318)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
{وَلما بلغ أشده} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: بَلَغَ عِشْرِينَ سَنَةً {واستوى} بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} .(3/319)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)
{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ من أَهلهَا} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَوْمَ عِيدٍ لَهُمْ، وَهُمْ فِي لَهْوِهِمْ وَلَعِبِهِمْ {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شيعته} مَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ {وَهَذَا مِنْ عدوه} (قِبْطِيٌّ) مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} قَالَ قَتَادَةُ: أَرَادَ الْقِبْطِيُّ أَنْ يُسَخِّرَ الْإِسْرَائِيلِيَّ؛ لِيَحْمِلَ حَطَبًا لِمَطْبَخِ فِرْعَوْنَ فَأَبَى فَقَاتَلَهُ، فَوَكَزَهُ مُوسَى وَلم يتَعَمَّد قَتْلَهُ، وَلَمْ يَكُنْ يَحِلُّ قَتْلَ الْكَافِرِ يَوْمَئِذٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: لَكَزَهُ وَوَكَزَهُ (وَلَهَزَهُ) بِمَعْنًى وَاحِدٍ: إِذا دَفعه.(3/319)
{قَالَ} مُوسَى {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّه عَدو مضل مُبين} بَين الْعَدَاوَة(3/320)
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
{قَالَ} مُوسَى {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} يَعْنِي: بقتل القبطي(3/320)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
{فَلَنْ أكون ظهيرا} أَي: عوينا {للمجرمين} .
قَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُ: فَلَنْ أُعِينَ بعْدهَا على فجرة(3/320)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} مَنْ قَتْلِهِ النَّفْسَ؛ يَتَرَقَّبُ أَنْ يُؤْخَذَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَعْنَى (يَتَرَقَّبُ) : يَنْتَظِرُ سُوءًا يَنَالُهُ. {فَإِذَا الَّذِي استنصره بالْأَمْس يستصرخه} أَيْ: يَسْتَعِينُهُ {قَالَ لَهُ مُوسَى} للإسرائيلي {إِنَّك لغَوِيّ مُبين} أَيْ: بَيِّنُ الْغَوَاءِ [ثُمَّ أَدْرَكَتْ مُوسَى الرأفة عَلَيْهِ](3/320)
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
{فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدو لَهما} (ل 254) بِالْقِبْطِيِّ خَلَّى الْإِسْرَائِيلِيُّ عَنِ الْقِبْطِيِّ {وَقَالَ يَا مُوسَى} الْإِسْرَائِيلِيُّ يَقُوْلُهُ: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ} مَا تُرِيدُ {إِلا أَنْ تَكُونَ جبارا} أَيْ: قَتَّالًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقِيلَ الْمَعْنَى: فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ الْمُسْتَصْرِخُ أَنْ يَبْطِشَ مُوسَى بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا، وَلَمْ يَفْعَلْ مُوسَى، وَقَالَ لِلْمُسْتَصْرِخِ: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} قَالَ لَهُ الْمُسْتَصْرِخُ: {يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تقتلني} الْآيَةُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَصْلُ الْجَبَّارِ فِي اللُّغَةِ: الْمُتَعَظِّمُ الَّذِي لَا يَتَوَاضَعُ لِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ [فِي الأَرْض] .
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 20 آيَة 21) .(3/320)
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يسْعَى} أَيْ: يُسْرِعُ {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} .
قَالَ مُحَمَّد: (يأتمرون) هُوَ يَفْتَعِلُونَ مِنَ الْأَمْرِ؛ الْمَعْنَى: يَأْمُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِقَتْلِكَ.
قَالَ قَتَادَةُ: وَذَلِكَ أَنَّ الْقِبْطِيَّ [الْآخَرَ] لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ الْإِسْرَائِيلِيِّ لِمُوسَى: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ أَفْشَى عَلَيْهِ، فَائْتَمَرَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ لِيَقْتُلُوهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ وَهُوَ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَة، فَأخْبر مُوسَى.(3/321)
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
{فَخرج مِنْهَا} من الْمَدِينَة {خَائفًا يترقب} .
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 22 آيَة 24) .(3/321)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيل} يَعْنِي: الطَّرِيقِ إِلَى مَدْيَنَ، وَكَانَ خَرَجَ وَلَا يَعْرِفُ الطَّرِيقَ إِلَى مَدين.(3/321)
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
{وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ (تَذُودَانِ النَّاسَ عَنْ(3/321)
شِيَائِهِمَا) أَيْ: تَمْنَعَانِ غَنَمَهُمَا أَنْ تختلط بأغنام النَّاس {قَالَ} لَهما مُوسَى {مَا خطبكما} مَا أَمْرُكُمَا {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يصدر الرعاء} أَيْ: حَتَّى يَسْقِي النَّاسُ، ثُمَّ نتتبع فُضَالَتِهِمْ؛ هَذَا تَفْسِيرُ الْحَسَنِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ: (حَتَّى يُصْدِرَ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ، فَالْمَعْنَى: لَا نَقْدِرُ أَنْ نَسْقِيَ حَتَّى يَرُدَّ الرِّعَاءُ غَنَمَهُمْ وَقَدْ شَرِبَتْ، والرعاء جمع: رَاع.(3/322)
فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
{فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيّ من خير فَقير} يَعْنِي: الطَّعَام.
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 25 آيَة 28) .(3/322)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
{قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أجر مَا سقيت لنا} قَالَ الْحَسَنُ: وَيَقُولُونَ: هُوَ شُعَيْبٌ، وَلَيْسَ بِشُعَيْبٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ سَيِّدَ أَهْلِ الْمَاءِ يَوْمَئِذٍ. وَقَالَ ابْنُ(3/322)
عَبَّاسٍ: اسْمُ خَتَنِ مُوسَى: يَثْرَى(3/323)
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)
{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأمين} تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ فِي قَوْلِهِ: (الْقَوِيُّ) : أَنه سَأَلَهُمَا: هَل هَاهُنَا بِئْرٌ غَيْرُ هَذِهِ؟ فَقَالَتَا: نَعَمْ، وَلَكِنْ عَلَيْهَا صَخْرَةٌ لَا يَرْفَعُهَا إِلَّا أَرْبَعُونَ رَجُلًا، فَرَفَعَهَا مُوسَى وَحْدَهُ.
وَتَفْسِيرُ الْحَسَنِ: أَنَّ الْأَمَانَةَ الَّتِي رَأَتْ مِنْهُ؛ أَنَّهَا حِينَ جَاءَتْهُ تَدْعُوهُ. قَالَ لَهَا: كُوْنِي ورائي وَكره أَن يستدبرها.(3/323)
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحين} أَي: فِي الرِّفْق بك(3/323)
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
{قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَليْنِ قضيت} يَعْنِي: أَي الْأَجَليْنِ قضيت، و (مَا) زَائِدَة {فَلَا عدوان} أَيْ: فَلَا سَبِيلَ عَلَيَّ.
قَالَ مُحَمَّد: (عدوان) مَنْصُوبٌ بِ (لَا) وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْعَدَاءِ؛ وَهُوَ الظُّلْمُ؛ كَأَنَّهُ قَالَ: أَيُّ الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتَ فَلَا تَعْتَدِ عَلَيَّ؛ بَأَنْ تُلْزِمَنِي أَكْثَرَ مِنْهُ. {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكيل} أَي: شَهِيد.
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 29 آيَة 30) .(3/323)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
{فَلَمَّا قضى مُوسَى الْأَجَل} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَضَى أَوْفَاهُمَا وَأَبَرهمَا: الْعشْر.(3/323)
{وَسَار بأَهْله} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَقَامَ بَعْدَ أَنْ قَضَى الأَجَلَ عَشْرَ سِنِينَ {آنَسَ من جَانب الطّور نَارا} قَدْ مَضَى تَفْسِيرُهُ {أَوْ جَذْوَةٍ من النَّار} يَعْنِي: أَصْلَ شَرَرٍ {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} وَكَانَ (شاتيا)(3/324)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)
{نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى} .
قَالَ مُحَمَّد: (أَن) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ؛ الْمَعْنَى: نُوْدِيَ بِأَنَّهُ يَا مُوسَى، وَكَذَلِكَ {وَأَنْ ألق عصاك} عطف عَلَيْهَا.
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 31 آيَة 35) .(3/324)
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)
{كَأَنَّهَا جَان} كَأَنَّهَا حَيَّة {ولى مُدبرا} هَارِبا مِنْهَا {وَلم يعقب} أَيْ: يَرْجِعُ؛ فِي تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ(3/324)
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
{اسلك يدك فِي جيبك} اسْلُكْ؛ أَيْ: أَدْخِلْهَا فِي جَيْبِكَ [أَيْ: قَمِيصِكَ] {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غير سوء} .(3/324)
قَالَ مُحَمَّد: يُقَال: سلكت (ل 255) يَدِي وَأَسْلَكْتُهَا. {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} يَعْنِي: يدك {من الرهب} [أَيْ: مِنُ الرُّعْبِ] يَقُولُ: اضْمُمْهَا إِلَى صَدْرِكَ؛ فَيَذْهَبُ مَا فِيهِ مِنَ الرُّعْبِ، وَكَانَ قَدْ دَخَلَهُ فَزَعٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ {فَذَانِكَ برهانان من رَبك} أَيْ: بَيَانَانِ؛ يَعْنِي: الْعَصَا وَالْيَدَ.(3/325)
وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)
{فَأرْسلهُ معي ردْءًا} أَي: عونا {يصدقني} أَيْ: يَكُونُ مَعِي فِي الرِّسَالَةِ {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: رَدَأْتُهُ عَلَى كَذَا؛ أَيْ: أَعَنْتُهُ، وَمَنْ قَرَأَ (يُصَدِّقْنِي) بِالْجَزْمِ فَهُوَ عَلَى جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ: أَرْسِلْهُ يُصَدِّقْنِي، وَمَنْ رَفَعَ (يُصَدِّقُنِي) فَالْمَعْنَى: رِدْءًا مُصَدِّقًا لِي.
وَذَكَرَ ابْنُ مُجَاهِدٍ أَنَّ نَافِعًا وَحْدَهُ قَرَأَ (رِدًّا) مُنَوَّنَةً بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَأَنَّ سَائِرَ الْقُرَّاءِ يَقْرَءُونَ: (رِدْءًا) بِالْهَمْز.
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 36 آيَة 38) .(3/325)
وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
{وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهدى من عِنْده} أَيْ: إِنِّي أَنَا جِئْتُ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ {وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَة الدَّار} دَارُ الْآخِرَةِ؛ يَعْنِي: الْجَنَّةَ {إِنَّهُ لَا يفلح الظَّالِمُونَ} الْمُشْركُونَ(3/326)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
{وَقَالَ فِرْعَوْن يَا أَيهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَه غَيْرِي} قَالَ الْحَسَنُ: تَعَمَّدَ الْكَذِبَ {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} أَي: فاطبخ لي آجرا؛ فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ طَبَخَ الْآجُرَّ {فَاجْعَلْ لي صرحا} أَيِ: ابْنِ لِي قَصْرًا؛ فَبَنَى لَهُ صَرْحًا عَالِيًا، وَقَدْ عَلِمَ فِرْعَوْنُ أَنَّ مُوسَى رَسُولُ اللَّهِ، وَهَذَا القَوْل مِنْهُ كذب.
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 39 آيَة 43) .(3/326)
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)
{وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} يَوْم الْقِيَامَة(3/326)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
{فَانْظُر} يَا مُحَمَّدُ {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمين} أَيْ: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ صيرهم إِلَى النَّار.(3/326)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أَيْ: يَتْبَعُهُمْ مَنْ بَعْدَهَمْ مِنَ الْكفَّار(3/326)
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
{وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} يَعْنِي: الْغَرَقَ الَّذِي عَذَّبَهُمْ بِهِ (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ(3/326)
هم من المقبوحين} يَقُولُ: أَهْلُ النَّارِ مُشَوَّهُونَ سُودٌ زرق(3/327)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
{وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب} التَّوْرَاةَ؛ وَهُوُ أَوَّلُ كِتَابٍ نَزَلَ فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ وَالْأَحْكَامُ {بَصَائِرَ للنَّاس} .
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 44 آيَة 46) .(3/327)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)
{وَمَا كنت} يَا مُحَمَّد {بِجَانِب الغربي} يَعْنِي: غَرْبِيَّ الْجَبَلِ {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمر} يَعْنِي: الرِّسَالَةَ {وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدين} أَي: لم تشاهد ذَلِك(3/327)
وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)
{وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمر} كَانَ بَين عِيسَى وَمُحَمّد خَمْسمِائَة سنة، وَقيل: سِتّمائَة سَنَةٍ {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أَيْ: لَمْ تَكُنْ يَا مُحَمَّدُ مُقِيمًا بِمَدْيَنَ؛ فَتَعْلَمَ كَيْفَ كَانَ أَمْرُهُمْ، فَتُخْبِرَ أَهْلَ مَكَّةَ بِشَأْنِهِمْ وَأمرهمْ(3/327)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نادينا} قَالَ بَعْضُهُمْ: نُودِيَ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ: أَجَبْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي، وَأَعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا} يَعْنِي: قُرَيْشًا؛ فِي تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ {لَعَلَّهُم يتذكرون} لكَي يتذكروا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (رَحْمَةً) بِالنَّصْبِ، فَالْمَعْنَى: فَعَلْنَا ذَلِكَ لِلرَّحْمَةِ؛ كَمَا تَقُولُ: فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ الْخَيْر؛ أَي: لابتغاء الْخَيْر.(3/327)
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 47 آيَة 50) .(3/328)
وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
{وَلَوْلَا أَن تصيبهم مُصِيبَة} يَعْنِي: الْعَذَابَ {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بِالَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا} الْآيَةُ، يَقُولُ: وَلَوْ أَنَّا عَذَّبْنَاهُمْ لَاحْتَجُّوا، فَقَالُوا: رَبَّنَا لَوْلَا: هَلَّا {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ ونكون من الْمُؤمنِينَ} فَقَطَعَ اللَّهُ عُذْرَهُمْ بِمُحَمَّدٍ؛ فَكَذَّبُوهُ. قَالَ الله:(3/328)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)
{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ} يعنون: النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام {مثل مَا أُوتِيَ مُوسَى} أَيْ: هَلَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً؛ كَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى جُمْلَةً وَاحِدَةً.
قَالَ الله: {أَو لم يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قبل} وَقَدْ كَانَ كِتَابُ مُوسَى عَلَيْهِمْ حُجَّةً؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ {قَالُوا ساحران تظاهرا} مُوسَى وَمُحَمَّدٌ؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ؛ وَهَذَا قَوْلُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ {وَقَالُوا إِنَّا بِكُل كافرون} يَعْنِي: بِالتَّوْرَاةِ وَالْقُرْآن.(3/328)
قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)
قَالَ اللَّهُ: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا} مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ {أَتَّبِعْهُ} .(3/329)
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
{فَإِن لم يَسْتَجِيبُوا لَك} لِيَأْتُوا بِهِ، وَلَا يَأْتُونَ بِهِ؛ وَلَكِنَّهَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ {إِنَّ اللَّهَ لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} (ل 256) يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى شركهم.
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 51 آيَة 55) .(3/329)
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
{وَلَقَد وصلنا لَهُم القَوْل} أَخْبَرْنَاهُمْ بِأَنَّا أَهْلَكْنَا مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لكَي يتذاكروا، فَيَحْذَرُوا أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نزل بهم فيؤمنوا(3/329)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ} مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنَ {هُمْ بِهِ} بِالْقُرْآنِ {يُؤمنُونَ} يَعْنِي: مَنْ كَانَ مُسْتَمْسِكًا بِأَمْرِ مُوسَى وَعِيسَى، ثُمَّ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ(3/329)
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)
{وَإِذا يُتْلَى عَلَيْهِم} الْقُرْآنُ {قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا من قبله} مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ بِهِ {مُسْلِمِينَ}(3/329)
أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)
{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} عَلَى دِينِهِمْ {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} تَفْسِيرُ السُّدِّيُّ: يَدْفَعُونَ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ وَالْعَفْوِ الْأَذَى وَالْأَمْرَ الْقَبِيحَ {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ} يَعْنِي: الزَّكَاة الْوَاجِبَة(3/329)
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
{وَإِذا سمعُوا اللَّغْو} يَعْنِي: الشَّتْمَ وَالْأَذَى مِنْ كُفَّارِ قَومهمْ {أَعرضُوا عَنهُ} أَيْ: لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ {وَقَالُوا} لِلْمُشْرِكِينَ: (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلام(3/329)
عَلَيْكُم} كَلِمَةُ حِلْمٍ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَحِيَّةٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ {لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} أَي: لَا نَكُون مِنْهُم.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقِيلَ: مَعْنَى {سَلامٌ عَلَيْكُم} هَاهُنَا؛ أَيْ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْمُسَالَمَةُ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ (يُؤْمَرُوا بِقِتَالِهِمْ) .
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 56 آيَة 59) .(3/330)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، حَيْثُ أَرَادَهُ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ فَأَبَى {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} أَيْ: مَنْ قُدِّرَ لَهُ الْهُدَى(3/330)
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ} يَعْنِي: التَّوْحِيدَ {نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} لِقِلَّتِنَا فِي كَثْرَةِ الْعَرَبِ، وِإِنَّمَا يَنْفِي الْحَرْبَ عَنَّا أَنَّا عَلَى دِينِهِمْ؛ فَإِنْ آمَنَّا بِكَ وَاتَّبَعْنَاكَ خَشِينَا أَنْ يَتَخَطَّفَنَا النَّاسُ؛ قَالَ الله للنَّبِي: {أَو لَو نمكن لَهُم حرما آمنا} الْآيَةُ. يَقُولُ: قَدْ كَانُوا فِي حَرَمِي يَأْكُلُونَ رِزْقِي وَيَعْبُدُونَ غَيْرِي وَهُمْ آمِنُونَ، فَيَخَافُونَ إِنْ آمَنُوا أَنْ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ يَقْتُلُهُمْ وَيَسْبِيهِمْ؟ ! مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ {وَلَكِنَّ أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} يَعْنِي: من لم يُؤمن مِنْهُم(3/330)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)
(وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ(3/330)
قَرْيَة بطرت معيشتها} [هُوَ كَقَوْلِهِ: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى {بطرت معيشتها} أَيْ:] أَشِرَتْ فِي مَعِيشَتِهَا، وَنَصْبُ (معيشتها) بِإِسْقَاط (فِي) .(3/331)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى} أَيْ: مُعَذِّبَهُمْ؛ يَعْنِي: هَذِهِ الْأُمَّةَ {حَتَّى يبْعَث فِي أمهَا} يَعْنِي: مَكَّة {رَسُولا} وَالرَسُولُ: مُحَمَّدٌ {إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} مُشْرِكُونَ {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأبقى} {الْجنَّة} (أَفلا تعقلون} يَقَوْلُهُ لِلْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ قَالَ عَلَى الِاسْتِفْهَام.
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 60 آيَة 63) .(3/331)
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
{أَفَمَن وعدناه وَعدا حسنا} يَعْنِي الْجَنَّةَ {فَهُوَ لاقِيهِ [كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ] } أَيْ: أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ. يُقَالُ: نزلت فِي النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ(3/331)
قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)
{قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} الْغَضَبُ؛ يَعْنِي: الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ: (رَبَّنَا(3/331)
هَؤُلَاءِ الَّذين أغوينا أغويناهم} أضللناهم {كَمَا غوينا} {ضَلَلْنَا} (تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إيانا يعْبدُونَ} أَيْ: بِسُلْطَانٍ كَانَ لَنَا عَلَيْهِمُ اسْتَكْرَهْنَاهُمْ بِهِ، وَإِنَّمَا دَعَوْنَاهُمْ بِالْوَسْوَسَةِ؛ كَقَوْلِه إِبْلِيسَ: {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لي} .
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 64 آيَة 71) .(3/332)
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)
{وَقيل ادعوا شركاءكم} يَعْنِي: الأَوْثَانَ {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُم وَرَأَوا الْعَذَاب} أَيْ: وَدَخَلُوا الْعَذَابَ {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} أَيْ: لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُهْتَدِينَ فِي الدُّنْيَا مَا دَخَلُوا الْعَذَابَ.(3/332)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)
{وَيَوْم يناديهم} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسلين} يُسَتَفْهِمُهُمْ؛ يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَلَا يَسْأَلُ الْعِبَادَ عَنْ أَعْمَالهم إِلَّا الله وَحده(3/332)
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)
{فعميت عَلَيْهِم الأنباء} الْحُجَجُ؛ فِي تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ {يَوْمَئِذٍ فهم لَا يتساءلون} أَي يَحْمِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ مَنْ ذُنُوبِهِمْ شَيْئًا؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ.(3/332)
فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
{فَأَما من تَابَ} من شركه {وآمن} أَيْ: أَخْلَصَ الْإِيمَانَ لِلَّهِ {وَعَمِلَ صَالحا} فِي إِيمَانِهِ {فَعَسَى أَنْ يَكُونَ من المفلحين} و (عَسى) من الله وَاجِبَة(3/333)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} مِنْ خَلْقِهِ لِلنُّبُوَّةِ. {مَا كَانَ لَهُم الْخيرَة} يَعْنِي: أَن يختاروا هُوَ [الْأَنْبِيَاء (ل 257) فيتبعونهم] . {سُبْحَانَ الله} (ينزه نَفسه) {وَتَعَالَى} ارْتَفَعَ {عَمَّا يُشْرِكُونَ} .(3/333)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)
[ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُم اللَّيْل سرمدا} أَيْ: دَائِمًا لَا يَنْقَطِعُ، أَمْرُهُ يقَوْلُهُ لِلْمُشْرِكِينَ {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بضياء أَفلا تَسْمَعُونَ} ] .
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 72 آيَة 75) .(3/333)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُم النَّهَار سرمدا} أَيْ: دَائِمًا لَا يَنْقَطِعُ، أَمْرُهُ أَنْ يَقَوْلَهُ لِلْمُشْرِكِينَ {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} أَي: يسكن فِيهِ الْخلق.(3/333)
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
{وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَار لتسكنوا فِيهِ} يَعْنِي: فِي اللَّيْلِ {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضله} بِالنَّهَارِ؛ وَهَذَا رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ؛ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَتَتِمُّ عَلَيْهِ رَحْمَةُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَهِي رَحْمَةٌ لَهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَة نصيب.(3/334)
وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
{وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} أَيْ: أَحْضَرْنَا رَسُولًا {فَقُلْنَا هَاتُوا برهانكم} حُجَّتُكُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِمَا كُنْتُم عَلَيْهِ من الشّرك {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} يَعْنِي: أَوْثَانَهُمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا.
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 76 79) .(3/334)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} كَانَ ابْنَ عَمِّهِ؛ أَخِي أَبِيهِ {فبغى عَلَيْهِم} كَانَ عَامِلًا لِفِرْعَوْنَ، فَتَعَدَّى عَلَيْهِمْ وظلمهم {وَآتَيْنَاهُ من الْكُنُوز} أَيْ: مِنَ الْأَمْوَالِ؛ يَعْنِي: قَارُونَ {مَا إِن مفاتحه} يَعْنِي: مَفَاتِحُ خَزَائِنِهِ؛ فِي تَفْسِيرِ بَعضهم {لتنوء بالعصبة} أَيْ: لَتُثْقِلُ الْعُصْبَةَ {أُولِي الْقُوَّةِ} يَعْنِي: الشِّدَةَ؛ وَهُمْ هَا هُنَا أَرْبَعُونَ رَجُلًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: نَأَتْ بِالْعُصْبَةِ؛ أَيْ: مَالَتْ بِهَا، وَأَنْأَتِ الْعُصْبَةُ؛(3/334)
أَيْ: أَمَالَتْهَا.
قَوْلُهُ: {لَا تَفْرَحْ} لَا تَبْطَرْ {إِنَّ اللَّهَ لَا يحب الفرحين} يَعْنِي: الْبَطِرِينَ؛ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ لَا (يشركُونَ) اللَّهَ فِيمَا أَعْطَاهُمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مِنَ الْفَرَحِ مَا يَكُونُ مَعْنَاهُ: الأشر والبطر. قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَيْسَت بِمِفْرَاحٍ إِذَا الدَّهْرُ سَرَّنِي ... وَلَا جَازِعٌ مِنْ صَرْفِهِ الْمُتَحَوِّلِ)
يَقُولُ: لَسْتُ بِأَشِرٍ وَلَا بَطِرٍ؛ لَيْسَ هُوَ مِنَ الْفَرَحِ الَّذِي مَعْنَاهُ السرُور.(3/335)
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
{وابتغ فِيمَا آتاك الله} مِنْ هَذِهِ النِّعَمِ {الدَّارَ الآخِرَةَ} يَعْنِي: الْجَنَّةَ {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ من الدُّنْيَا} يَقُولُ: اعْمَلْ فِي دُنْيَاكَ لِآخِرَتِكَ. {وَأحسن} فِيمَا افْترض الله عَلَيْك(3/335)
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
{قَالَ} قَارون {إِنَّمَا أُوتِيتهُ} يَعْنِي: مَا أُعْطِيَ مِنَ الدُّنْيَا {على علم عِنْدِي} أَيْ: بِقُوَّتِي وَعِلْمِي.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ [أَقْرَأُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلتَّوْرَاةِ] وَلِذَلِكَ ادَّعَى أَنَّ الْمَالَ أُعْطِيَهُ لِعِلْمِهِ. قَالَ اللَّهُ: بل هِيَ فتْنَة: بلية. {أَو لم يعلم} يَعْنِي: قَارُونَ {أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأكْثر جمعا} مِنَ الْجُنُودِ وَالرِّجَالِ؛ أَيْ: بَلَى قَدْ عَلِمَ {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذنوبهم المجرمون} الْمُشْرِكُونَ لِتُعْلَمَ ذُنُوبُهُمْ مِنْ عِنْدِهِمْ(3/335)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
{فَخرج على قومه} يَعْنِي: قَارون {فِي زينته} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: أَنَّهُ خَرَجَ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ حُمْرٌ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ، وَمَعَهُ أَرْبَعمِائَة جَارِيَةٍ عَلَيْهِنَّ ثِيَابٌ حُمْرٌ عَلَى بِغَالٍ بِيضٍ (قَالَ(3/335)
الَّذين يُرِيدُونَ الْحَيَاة الدُّنْيَا} وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ {يَا لَيْتَ لَنَا مثل مَا أُوتِيَ قَارون} الْآيَة.
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 80 آيَة 82) .(3/336)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)
{وَقَالَ الَّذين أُوتُوا الْعلم} وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ لِلْمُشْرِكِينَ {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله} يَعْنِي: الْجنَّة {خير} {وَلَا يلقاها} يُعْطَاهَا؛ يَعْنِي: الْجَنَّةَ {إِلا الصَّابِرُونَ} وهم الْمُؤْمِنُونَ.(3/336)
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
{فَخَسَفْنَا بِهِ} بقارون {وَبِدَارِهِ} يَعْنِي: مَسْكَنَهُ، فَهُوَ يُخْسَفُ بِهِ كُلَّ يَوْمٍ قَامَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة(3/336)
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
{وَأصْبح الَّذِي تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله} أَيْ: أَنَّ اللَّهَ {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لمن يَشَاء} {} (ويكأنه لَا يفلح الْكَافِرُونَ} أَيْ: وَإِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: سَبِيلُهَا سَبِيلُ: (أَلَمْ تَرَ) وَقَدْ رَأَيْتُ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ وَأَصْحَابِ اللُّغَةِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَة (ويكأنه) اخْتِلَافًا كَثِيرًا؛ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ.(3/336)
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 83 آيَة 85) .(3/337)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
{لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ} يَعْنِي: شركا {وَلَا فَسَادًا} قتل الْأَنْبِيَاء وَالْمُؤمنِينَ(3/337)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
{من جَاءَ بِالْحَسَنَة} لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ {فَلَهُ خير مِنْهَا} أَيْ: فَلَهُ مِنْهَا خَيْرٌ. {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} بِالشِّرْكِ {فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يَقُولُ: جَزَاؤُهُمُ النَّارُ خَالِدِينَ فِيهَا.(3/337)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)
{إِن الَّذِي فرض} يَعْنِي: أنزل {عَلَيْك الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد} .
قَالَ يَحْيَى: بَلَغَنِي: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ هَاجَرَ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ وَهُوَ بِالْجَحْفَةِ مُوَّجِهٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: أَشْتَقْتَ يَا مُحَمَّدُ إِلَى بِلَادِكَ الَّتِي وُلِدْتَ بِهَا فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد} يَعْنِي إِلَى مَوْلِدِكَ الَّذِي خَرَجْتَ مِنْهُ، ظَاهِرًا عَلَى أَهْلِهِ ". {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} أَيْ: مُحَمَّدٌ جَاءَ بِالْهُدَى، فَآمَنَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ (ل 258) {وَمن هُوَ} أَيْ: أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ {فِي ضلال مُبين}(3/337)
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 86 آيَة 88) .(3/338)
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)
{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْك} يَعْنِي النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام. {أَن يلقى إِلَيْك الْكتاب} يَعْنِي: أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكَ [وَقَوْلُهُ: {ترجو} يَقُوله للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام] {إِلَّا رَحْمَة من رَبك} يَقُولُ: [وَلَكِنْ] نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ {فَلا تَكُونَنَّ ظهيرا} عوينا {للْكَافِرِينَ} .(3/338)
وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} يَعْنِي: إِلَّا هُوَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: {وَجهه} مَنْصُوبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، الْمَعْنَى: إِلَّا إِيَّاهُ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ يَحْيَى. {لَهُ الحكم} الْقَضَاء {وَإِلَيْهِ ترجعون} .(3/338)
تَفْسِيرُ سُوْرَةِ الْعَنْكَبُوتِ
وَهِيَ مَكِّيَةُ كُلُّهَا إِلَّا عَشْرَ آيَاتٍ مَدَنِيَّةٍ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقين} .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ المعنكبوت من (آيَة 1 آيَة 8) .(3/339)
الم (1)
قَوْله: {الم} قَدْ مَضَى (الْقَوْلُ فِيهِ) فِي أول سُورَة الْبَقَرَة(3/339)
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} يَعْنِي: يُبْتَلَوْنَ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ هُمْ قَوْمٌ كَانُوا بِمَكَّةَ مِمَّنْ أَسْلَمَ كَانَ قَدْ وُضِعَ عَنْهُم الْجِهَاد وَالنَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ مَا افْتُرِضَ الْجِهَادُ، وَقَبِلَ مِنْهُمْ أَنْ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَلَا(3/339)
يُجَاهِدُوا، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ فِي الْقِتَالِ حِينَ أَخْرَجَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ؛ فَلَمَّا أُمِرُوا بِالْجِهَادِ كَرِهُوا الْقِتَالَ(3/340)
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
{وَلَقَد فتنا} اخْتَبَرْنَا {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذين صدقُوا} بِمَا أَظْهَرَوُا مِنَ الْإِيمَانِ {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبين} يَعْنِي: الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَقُلُوبُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَهَذَا عِلْمُ الْفِعَالِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَعْنَى عِلْمُ الْفِعَالِ: الْعِلْمُ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْجَزَاءُ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ الصَّادِقَ وَالْكَاذِبَ قبل خلقهما.(3/340)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} يَعْنِي: الشّرك {أَن يسبقونا} حَتَّى لَا نَقْدِرَ عَلَيْهِمْ فَنُعَذِّبَهُمْ أَيْ: قَدْ حَسِبُوا ذَلِكَ وَلَيْسَ كَمَا ظنُّوا {سَاءَ مَا} أَي: بئس مَا {يحكمون} أَنْ يَظُنُّوا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ، ثُمَّ لَا يَبْعَثُهُمْ فَيَجْزِيَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله} يَقُولُ: مَنْ كَانَ يَخْشَى الْبَعْثَ، وَهَذَا الْمُؤْمِنُ {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآت} يَعْنِي: الْبَعْث(3/340)
وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)
{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} يَقُولُ: يُعْطِيهِ اللَّهُ ثَوَابَ ذَلِكَ. {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} أَي: عَن عِبَادَتهم.(3/340)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
{وَوَصينَا الْإِنْسَان بِوَالِديهِ} يَعْنِي: جَمِيعَ النَّاسِ بِوَالِدِيهِ {حُسْنًا} أَيْ: بِرًّا {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} أَيْ: أَرَادَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ علم} أَيْ: أَنَّكَ لَا تَعْلَمُ أَنَّ مَعِي شَرِيكًا؛ يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ {فَلا تطعهما} .
سُورَة النعكبوت من (آيَة 9 آيَة 13) .(3/340)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحين} (يَعْنِي: مَعَ الصَّالِحِينَ) وَهُمْ أَهْلُ الْجنَّة(3/341)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّه} رَجَعَتِ الْقِصَّةُ إِلَى الْكَلَامِ الْأَوَّلِ {الم أَحَسِبَ النَّاسُ} إِلَى قَوْلِهِ: {وليعلمن الْكَاذِبين} فَوَصَفَ الْمُنَافِقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كعذاب الله} أَيْ: إِذَا أُمِرَ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فِيهِ أَذًى، رَفَضَ مَا أُمِرَ بِهِ. وَأَقَامَ عَنِ الْجِهَادِ، وَجَعَلَ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ الْبَلِيَّةِ فِي الْقِتَالِ إِذَا كَانَتْ بَلِيَّةً كَعَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ خَوَّفَهُ عَذَابَ الْآخِرَةِ وَهُوَ لَا يُقِرُّ بِهِ {وَلَئِنْ جَاءَ نصر من رَبك} يَعْنِي: نصرا على الْمُشْركين {ليقولون} يَعْنِي: جَمَاعَتَهُمْ {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} يطْلبُونَ الْغَنِيمَة، قَالَ الله: {أَو لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالمين} أَيْ: أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ فِي صُدُورِهِمُ التَّكْذِيبُ بِاللَّهِ وبرسوله وهم يظهرون الْإِيمَان(3/341)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتبعُوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} أَيْ: مَا كَانَ فِيهِ مِنْ إِثْمٍ فَهُوَ [عَلَيْنَا] وَهَذَا مِنْهُمْ إِنْكَارٌ لِلْبَعْثِ وَالْحِسَابِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: (ولنحمل) هُوَ أَمْرٌ فِي تَأْوِيلِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، الْمَعْنَى: إِنْ تَتَّبِعُوا سَبِيلَنَا حملنَا خطاياكم أَيْ إِنْ كَانَ فِيهِ إِثْمٌ فَنحْن نحمله وَإِلَى هَذَا(3/341)
(ل 259) ذهب يحيى. {وَمَا هم} يَعْنِي: الْكَافِرِينَ {بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ} يَعْنِي: خَطَايَا الْمُؤْمِنِينَ {مِنْ شَيْءٍ} لَو أتبعوهم {وَإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} .(3/342)
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
{وليحملن أثقالهم} يَعْنِي: آثَامَ أَنْفُسِهِمْ {وَأَثْقَالا مَعَ أثقالهم} يَقُولُ: يَحْمِلُونَ مِنْ ذُنُوبِ مَنِ اتَّبَعَهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ، وَلَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ ذُنُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ شَيْئًا.
يَحْيَى: عَنْ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ عَلَيْهِ، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَأَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ ".
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 14 آيَة 18) .(3/342)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)
{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خمسين عَاما} قَالَ كَعْبٌ: لَبِثَ نُوحٌ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، ثُمَّ لَبِثَ بَعْدَ الطُّوفَانِ سِتّمائَة سنة {فَأَخذهُم الطوفان} إِلَى قَوْله: {آيَة للْعَالمين} قَدْ مَضَى تَفْسِيرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُوْرَةِ هُودٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَالطُّوفَانُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَا كَانَ كَثِيرًا مُهْلِكًا لِلْجَمَاعَةِ؛ كَالْغَرَقِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى جَمَاعَةٍ وَالْقَتْلِ الذَّرِيعِ وَالْمَوْت الجارف.(3/343)
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)
{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أوثانا وتخلقون إفكا} أَي: تَقولُونَ كذبا(3/343)
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
{وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ من قبلكُمْ} أَيْ: فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، يُحَذِّرُهُمْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا {وَمَا عَلَى الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين} أَيْ: لَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تُكْرِهَ النَّاس على الْإِيمَان.
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 19 آيَة 23) .(3/343)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)
{أَو لم يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} بَلَى قَدْ رَأُوا أَنَّ اللَّهَ قَدْ خَلَقَ الْعِبَادَ {ثُمَّ يُعِيدُهُ} يُخْبِرُ أَنَّهُ يَبْعَثُ الْعِبَادَ {إِنَّ ذَلِك على الله يسير} خلقهمْ وبعثهم(3/344)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
{ثمَّ الله ينشئ} يخلق {النشأة الْآخِرَة} يَعْنِي: الْبَعْث(3/344)
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)
{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء} يَعْنِي: مَا أَنْتُمْ بِسَابِقِي اللَّهِ بِأَعْمَالِكُمُ الْخَبِيثَةِ فَتَفُوتُونَهُ هَرَبًا؛ يَقُوْلُهُ للْمُشْرِكين.
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 24 آيَة 27) .(3/344)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)
{فَمَا كَانَ جَوَاب قومه} رَجَعَ إِلَى قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أَيْ: فِيمَا صَنَعَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهُ وَمَا نَجَّاهُ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ الْمُؤْمِنُونَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: من قَرَأَ (جَوَاب) بِالنّصب جعل (أَن قَالُوا) اسْم كَانَ.(3/344)
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
{ثمَّ قَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أوثانا مَوَدَّة بَيْنكُم} أَيْ: يُحِبُّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
قَالَ مُحَمَّد: (مَوَدَّة) مَنْصُوبٌ بِمَعْنَى: اتَّخَذْتُمْ هَذَا لِلْمَوَدَّةِ. {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْض} أَيْ: يَتَبَرَّأُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ(3/345)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)
{وَقَالَ إِنِّي مهَاجر إِلَى رَبِّي} إِبْرَاهِيمُ يَقُولُهُ؛ هَاجَرَ مِنْ أَرْضِ الْعرَاق إِلَى أَرض الشَّام(3/345)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
{وَآتَيْنَاهُ أجره} فِي الدُّنْيَا فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينٍ إِلَّا وَهُمْ يَتَوَلُّونَهُ وَيُحِبُّونَهُ.
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 28 آيَة 30) .(3/345)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28)
{ولوطا} أَيْ: وَأَرْسَلْنَا لُوطًا {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُم لتأتون الْفَاحِشَة} يَعْنِي: إِتْيَانَ الرِّجَالِ فِي أَدْبَارِهِمْ(3/345)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)
{أئنكم لتأتون الرِّجَال} .
قَالَ مُحَمَّد: (أئنكم) لَفْظُهُ لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى مَعْنَيَ التَّقْرِير والتوبيخ. {وتقطعون السَّبِيل} كَانُوا يَتَعَرَّضُونَ الطَّرِيقَ يَأْخُذُونَ الْغُرَبَاءَ؛ فَيَأْتُونَهُمْ فِي أَدْبَارِهِمْ، وَلَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكر} فِي مَجْمَعِكُمُ الْمُنْكَرَ؛ يَعْنِي: فِعْلَهُمْ ذَلِك.
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 31 35) .(3/345)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31)
{وَلما أَن جَاءَت رسلنَا} يَعْنِي: الْمَلَائِكَة {إِبْرَاهِيم بالبشرى} بِإِسْحَاقَ {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِه الْقرْيَة} يَعْنُونَ: قَرْيَةَ لُوْطٍ {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظالمين} مُشْرِكين(3/346)
وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)
{وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} لِمَا تَخَوَّفَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ فِعْلِ قَوْمِهِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ آدَمِيُّونَ. {وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ} الْمَلَائِكَة قالته للوط(3/346)
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34)
{إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يفسقون} يشركُونَ(3/346)
وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
{وَلَقَد تركنَا مِنْهَا آيَة (ل 260} بَيِّنَة} أَي: [عِبْرَة] {لقوم يعْقلُونَ} وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ قصَّة قوم لوط.
سُورَة الْقَصَص من (آيَة 36 آيَة 38) .(3/346)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36)
{وَإِلَى مَدين} أَيْ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى مَدْيَنَ {أَخَاهُمْ شعيبا} أَخُوهُمْ فِي النَّسَبِ، وَلَيْسَ بِأَخِيهِمْ فِي الدِّينِ {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ} أَي: صدقُوا بِهِ(3/347)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
{فَكَذبُوهُ فَأَخَذتهم الرجفة} الْعَذَابُ؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ {فَأَصْبَحُوا فِي دَارهم جاثمين} أَي: هالكين.(3/347)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
{وعادا وثمودا} أَي: وأهلكنا عادا وثمودا {وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} يَعْنِي: مَا رَأَوْا مِنْ آثَارِهِمْ {وَكَانُوا مستبصرين} فِي الضَّلَالَة.
سُورَة العنكبوت من (آيَة 39 - آيَة 40) .(3/347)
وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39)
{وَقَارُون} أَيْ: وَأَهْلَكْنَا قَارُونَ {وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَمَا كَانُوا سابقين} أَيْ: يَسْبِقُونَنَا؛ حَتَّى لَا نَقْدِرَ عَلَيْهِم فنعذبهم(3/347)
فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
{فكلا أَخذنَا بِذَنبِهِ} يَعْنِي: مِنْ أُهْلِكَ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حاصبا} يَعْنِي: قَوْمَ لُوطٍ الَّذِينَ رُجِمُوا بِالْحِجَارَةِ؛ مَنْ كَانَ خَارِجًا مِنْ مَدِينَتِهِمْ، وَأْهِلُ السَّفَرِ مِنْهُمْ. {وَمِنْهُمْ من أَخَذته الصَّيْحَة} ثَمُودُ {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْض} يَعْنِي: مَدِينَةَ قَوْمِ لُوطٍ وَقَارُونَ {وَمِنْهُم من أغرقنا} قوم نوح، وَفرْعَوْن وَقَومه. سُورَة العنكبوت من (آيَة 41 - آيَة 45) .(3/347)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
{مثل الَّذين اتخدوا من دون الله أَوْلِيَاء} يَعْنِي: أَوْثَانَهُمُ الَّتِي عَبَدُوهَا مَنْ دُونِ اللَّهِ {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتا وَإِن أوهن الْبيُوت} أَضْعَف الْبيُوت {لبيت العنكبوت} أَيْ: إِنَّ أَوْثَانَهُمْ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا كَمَا لَا يَكِنُّ بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ مِنَ حَرٍّ وَلَا بَرْدٍ {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} لَعَلِمُوا أَنَّ أَوْثَانَهُمْ لَا تُغْنِي عَنْهُم شَيْئا(3/348)
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
{وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس} أَيْ: نَصِفُهَا وَنُبَيِّنُهَا {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالمُونَ} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ(3/348)
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
{خلق الله السَّمَاوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ} أَيْ: لِلْبَعْثِ وَالْحِسَابِ {إِنَّ فِي ذَلِك لآيَة} لَعِبْرَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: إِنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ يَبْعَثُ الْخَلْقَ يَوْم الْقِيَامَة.(3/348)
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
{إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكر} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: إِنَّ الْعَبْدَ مَا دَامَ فِي صَلَاتِهِ لَا يَأْتِي فُحْشًا وَلَا مُنْكَرًا {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أكبر} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: قَالَ اللَّهُ: {فَاذْكُرُونِي أذكركم} فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ الْعَبْدُ ذَكَرَهُ اللَّهُ، فَذِكْرُ اللَّهِ الْعَبْدَ أَكْبَرُ من ذكر العَبْد إِيَّاه.
سُورَة العنكبوت من (آيَة 46 - آيَة 48) .(3/348)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظلمُوا مِنْهُم} قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي: مَنْ قَاتَلَكَ مِنْهُمْ وَلَمْ يُعْطِكَ الْجِزْيَةَ فَقَاتِلْهُ، وَإِنَّمَا أُمِرَ بِقِتَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، وَهَذَا مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ؛ لِيَعْمَلُوا بِهِ بِالْمَدِينَةِ [نسختها آيَة الْقِتَال](3/349)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)
{فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} يَعْنِي: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ {وَمِنْ هَؤُلَاءِ} يَعْنِي: مُشْرِكِي الْعَرَبِ {مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} يَعْنِي: الْقُرْآن(3/349)
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)
{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ} مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ {مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ المبطلون} لَوْ كُنْتَ تَقْرَأُ وَتَكْتُبُ، وَ (المبطلون) فِي تَفْسِيرِ بَعْضِهِمْ: مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ: أَيْ: إِنَّهُمْ يَجِدُونَكَ فِي كُتُبِهِمْ أُمِيًّا فَلَو كُنْتَ تَكْتُبُ لَارْتَابُوا.
سوررة العنكبوت من (آيَة 49 - آيَة 52) .(3/349)
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم} يَعْنِي: (النَّبِي) وَالْمُؤمنِينَ(3/350)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
{وَقَالُوا لَوْلَا} هَلَّا {أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ ربه} كَانُوا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِالْآيَاتِ، قَالَ اللَّهُ: {قُلْ إِنَّمَا الْآيَات عِنْد الله} إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُنْزِلَ آيَة أنزلهَا(3/350)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)
{أَو لم يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِم} أَيْ: تَتْلُوهُ وَأَنْتَ لَا تَقْرَأُ وَلَا تَكْتُبُ، فَكَفَاهُمْ ذَلِكَ لَوْ عقلوا(3/350)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدا} إِنِّي رَسُولُهُ وَإِنَّ هَذَا الْكِتَابَ مِنْ عِنْدِهِ؛ وَإِنَّكُمْ عَلَى الْكُفْرِ {وَالَّذين آمنُوا بِالْبَاطِلِ} وَالْبَاطِل: إِبْلِيس.
سُورَة العنكبوت من (آيَة 53 آيَة 60) .(3/350)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)
{ويستعجلونك بِالْعَذَابِ} كَانَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام يُخَوِّفُهُمُ الْعَذَابَ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا؛ فَكَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ اسْتِهْزَاءً وَتَكْذِيبًا. قَالَ اللَّهُ: {وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى} (ل 261) النفخة [الأولى] {لجاءهم الْعَذَاب} أَنَّ اللَّهَ أَخَّرَ عَذَابَ كُفَّارِ آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالِاسْتِئْصَالِ إِلَى النَّفْخَةِ الأُولَى؛ بِهَا يَكُونُ هَلاكُهُمْ(3/350)
يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
(يَوْمَ يَغْشَاهُمُ(3/350)
الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرجُلهم} كَقَوْلِهِ: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمن فَوْقهم غواش} {} (وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ: ثَوَابَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا(3/351)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)
{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أرضي وَاسِعَة} أَمَرَهُمُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَة {فأياي فاعبدون} أَيْ: فِي تِلْكَ الْأَرْضِ الَّتِي أَمَرَكُمْ أَنْ تُهَاجِرُوا إِلَيْهَا، يَعْنِي: الْمَدِينَة.
قَالَ مُحَمَّد: (فإياي) مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ الَّذِي ظَهَرَ تَفْسِيرُهُ؛ الْمَعْنَى فَاعْبُدُوا إِيَّايَ: فَاعْبُدُونِ.(3/351)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)
{لنبوئنهم} أَيْ: لَنُسْكِنَنَّهُمْ {مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا ... نعم أجر العاملين} نِعْمَ ثَوَابُ الْعَامِلِينَ فِي الدُّنْيَا؛ يَعْنِي: الْجنَّة(3/351)
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
{وكأين} أَيْ: وَكَمْ {مِنْ دَابَّةٍ لَا تحمل رزقها} يَعْنِي: تَأْكُلُ بِأَفْوَاهِهَا، وَلَا تَحْمِلُ شَيْئا لغد.
سُورَة العنكبوت من (آيَة 61 آيَة 63) .(3/351)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} يَقُولُ: فَكَيْفَ يُصْرَفُونَ بَعْدَ إِقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ(3/351)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)
[ {وَالله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عباده وَيقدر لَهُ} أَيْ: يَقْتُرُ. (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ(3/351)
شَيْءٍ عَلِيمٌ) {(3/352)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
} (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فأحي بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بل أَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ} أَيْ: أَنَّهُمْ قَدْ أَقَرُّوا بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ] ، ثُمَّ عبدُوا الْأَوْثَان من دونه؟ ! .
سُورَة العنكبوت من (آيَة 64 آيَة 66) .(3/352)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهو وَلعب} أَيْ: أَنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا أَهْلُ لَهْوٍ وَلَعِبٍ؛ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ هُمْ أَهْلُ الدُّنْيَا لَا يُقِرُّونَ بِالْآخِرَةِ {وَإِن الدَّار الْآخِرَة} يَعْنِي: الْجنَّة {لهي الْحَيَوَان} أَيْ: يَبْقَى فِيهَا أَهْلُهَا لَا يموتون {لَو كَانُوا يعلمُونَ} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ لَعَلِمُوا أَنَّ الْآخِرَةَ خير من الدُّنْيَا(3/352)
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)
{دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} إِذا خَافُوا الْغَرق(3/352)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
{ليكفروا بِمَا آتَيْنَاهُم} كَقَوْلِه: {بدلُوا نعْمَة الله كفرا} {} (وليتمتعوا) {فِي الدُّنْيَا} (فَسَوف يعلمُونَ} إِذَا صَارُوا إِلَى النَّارِ؛ وَهَذَا وَعِيد.
سُورَة العنكبوت من (آيَة 67 آيَة 69) .(3/352)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
{أَو لم يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} أَيْ: بَلَى قَدْ رَأَوْا ذَلِكَ {وَيُتَخَطَّف النَّاس من حَولهمْ} يَعْنِي: أَهْلَ الْحَرَمِ، يَقُولُ: إِنَّهُمْ آمِنُونُ، وَالْعَرَبُ حَوْلَهُمْ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا {أفبالباطل يُؤمنُونَ} أَفَبِإِبْلِيسَ يُصَدِّقُونَ؟ ! أَيْ: بِمَا وَسْوَسَ إِلَيْهِمْ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَهِيَ عِبَادَته {وبنعمة الله يكفرون} يَعْنِي: مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَام مِنَ الْهُدَى، وَهَذَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ؛ أَي: قد فعلوا.(3/353)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68)
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كذبا} فَعَبَدَ الْأَوْثَانَ دُونَهُ {أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ} بِالْقُرْآنِ {لما جَاءَهُ} أَي: لَا أحد أظلم مِنْهُ {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى} أَي: منزل {للْكَافِرِينَ} أَيْ: بَلَى فِيهَا مَثْوًى لَهُمْ(3/353)
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
{وَالَّذين جاهدوا فِينَا} يَعْنِي: عَمِلُوا لَنَا. {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} يَعْنِي: سُبُلَ الْهُدَى. {وَإِنَّ اللَّهَ لمع الْمُحْسِنِينَ} يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ(3/353)
تَفْسِيرُ سُوْرَةِ الرُّوْمِ وَهِيَ مَكِيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَة الرّوم من (آيَة 1 آيَة 7) .(3/354)
الم (1)
قَوْله: {الم} قد مضى القَوْل فِيهِ(3/354)
غُلِبَتِ الرُّومُ (2)
{غلبت الرّوم} غلبتهم فَارس(3/354)
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)
{فِي أدنى الأَرْض} أَرْضِ الرُّومِ بِأَذْرُعَاتٍ مِنَ الشَّامِ؛ بِهَا كَانَتِ الْوَقْعَةُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ شَمِتُوا، وَكَانَ يُعْجِبُهُمْ أَنْ يَظْهَرَ الْمَجُوسُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُعْجِبُهُمْ أَنْ يَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ؛ لِأَن الرّوم أهل كتاب، قَالَ اللَّهُ: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غلبهم سيغلبون} فَارس(3/354)
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)
{فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ من قبل وَمن بعد} مِنْ قَبْلِ أَنْ تُهْزَمَ الرُّومُ، وَمِنْ بَعْدِ مَا هُزِمَتْ {وَيَوْمَئِذٍ} يَوْمَ يَغْلِبُ الرُّومُ فَارِسَ {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} إِلَى قَوْلِهِ: {لَا يَعْلَمُونَ} فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلْمُشْرِكِينَ: لِمَ تَشْمَتُونَ؟ فَوَاللَّهِ لَتَظْهَرَنَّ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ: أَنَا أُبَايِعُكَ أَلَّا تَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ. فَتَبَايَعَا عَلَى خَطَرٍ بِسَبْعٍ مِنَ الْإِبِلِ. ثُمَّ رَجَعَ أَبُو بُكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَام: اذْهَبْ فَبَايِعْهُ(3/354)
إِلَى سَبْعِ سِنِينَ، مِدَّ فِي الْأَجَلِ وَزِدْ فِي الْخَطَرِ [وَلَمْ يَكُنْ حَرَامٌ ذَلِكَ يَوْمَئِذٍ، وِإِنَّمَا حُرِّمَ الْقُمَارُ وَهُوَ الْمَيْسِرُ بَعْدَ] غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ، فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ إِلَيْهِم (ل 262) قَالَ: اجْعَلُوا (الْوَعْدَ) إِلَى سَبْعِ سِنِينَ وَأَزِيدَكُمْ فِي الْخَطَرِ. فَفَعَلُوا فَزَادُوا فِيهِ ثَلَاثًا فَصَارَتْ عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ، وَصَارَتِ السُّنُونَ سَبْعًا؛ فَلَمَّا جَاءَتَ سَبْعُ سِنِينَ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسٍ، وَكَانَ اللَّهُ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا غَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسَ أَظْهَرَهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، وَالْمُؤْمِنُونَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، وَبِأَنَّ اللَّهَ صَدَقَ قَوْلَهُ وَصَدَقَ رَسُولَهُ.
قَالَ مُحَمَّد: (وعد الله) مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ؛ الْمَعْنَى: وَعَدَ اللَّهُ وَعْدًا. {وَلَكِنَّ أَكثر النَّاس} يَعْنِي: الْمُشْركين(3/355)
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
{لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاة الدُّنْيَا} قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ: يَعْلَمُونَ حِينَ زَرْعِهِمْ، وَحِينَ حَصَادِهِمْ، وَحِينَ نِتَاجِهِمْ {وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} لَا يقرونَ بهَا.
سُورَة الرّوم من (آيَة 8 آيَة 10) .(3/355)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)
{أَو لم يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ الله السَّمَاوَات وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} أَيْ: لَوْ تَفَكَّرُوا فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَعَلِمُوا أَنَّ الَّذِي خَلَقَهُمَا يَبْعَثُ الْخَلْقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَإِن كثيرا من النَّاس} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} .(3/356)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
{وَكَانُوا أَشد مِنْهُم قُوَّة} أَي: بطشا {وأثاروا الأَرْض} أَيْ: حَرَثُوهَا {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عمروها} أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرَ هَؤُلَاءِ {فَمَا كَانَ الله ليظلمهم} يَعْنِي: كُفَّارَ الْأَمَمِ الْخَالِيَةِ فَيُعَذِّبَهُمْ عَلَى غَيْرِ ذَنْبٍ {وَلَكِنْ كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ} بِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ؛ أَيْ: قَدْ [سَارُوا] فِي الْأَرْضِ وَرَأَوا آثَارَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُخَوِّفُهُمْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ إِنْ لم يُؤمنُوا.(3/356)
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا} أشركوا {السوأى} يَعْنِي: جَهَنَّمَ {أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ الله} يَعْنِي: بِأَنْ كَذَّبُوا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: من قَرَأَ: (عَاقِبَة) بِالرَّفْع جعل (السوأى) خَبَرًا لِكَانَ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ الْفُعْلَى مِنَ السُّوْءِ قَالَ الشَّاعِرُ:(3/356)
( ... أَمْ كَيْفَ يَجْزُونَنِي السُّوأَى مِنَ الْحسن)
سُورَة الرّوم من (آيَة 11 آيَة 15) .(3/357)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)
قَوْله: {وَالله يبدؤ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ} يَعْنِي: الْبَعْثَ {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يَوْم الْقِيَامَة(3/357)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} أَيْ: يَيْأَسُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْجَنَّةِ(3/357)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ} يَعْنِي: أوثانهم {شُفَعَاء}(3/357)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)
{يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} : فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السعير.(3/357)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
{فهم فِي رَوْضَة يحبرون} يكرمون.
سُورَة الرّوم من (آيَة 16 آيَة 19) .(3/357)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)
{فسبحان الله حِين تمسون} الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ كُلُّهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ.(3/357)
{فسبحان الله حِين تمسون} الْمغرب وَالْعشَاء {وَحين تُصبحُونَ} صَلَاة الْفجْر {وعشيا} صَلَاة الْعَصْر(3/358)
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
{وَحين تظْهرُونَ} صَلَاةَ الظُّهْرِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: تَقُولُ: أَظْهَرْنَا؛ أَيْ: دَخَلْنَا فِي الظَّهِيرَةِ؛ وَهُوَ وَقْتُ الزَّوَالِ.
قَالَ يَحْيَى: " نزلت هَذِه الْآيَة بعد مَا أسرِي بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَكُلُّ صَلَاةٍ ذُكِرَتْ فِي الْمَكِّيِّ مِنَ الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فَهِي رَكْعَتَانِ غُدْوَةً، وَرَكْعَتَانِ عَشِيَّة ".(3/358)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّت من الْحَيّ} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، وَيُخْرِجُ الْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ {ويحيي الأَرْض بعد مَوتهَا} يُحْيِيهَا بِالنَّبَاتِ بَعْدَ إِذْ كَانَتْ يَابِسَةً. {وَكَذَلِكَ تخرجُونَ} يَعْنِي: الْبَعْثَ؛ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا مَنِيًا كَمَنِيِّ الرِّجَالِ، فَتَنْبُتُ بِهِ جُسْمَانُهُمْ وَلُحْمَانُهُمْ؛ كَمَا تَنْبُتُ الْأَرْضُ الثرى.
سُورَة الرّوم من (آيَة 20 آيَة 24) .(3/358)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)
{وَمن آيَاته} تَفْسِيرُ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: وَمِنْ عَلَامَاتِ الرَّبِّ أَنَّهُ وَاحِدٌ {أَنْ خَلَقَكُمْ من تُرَاب} يَعْنِي: الْخَلْقَ الْأَوَّلَ: خَلْقَ آدَمَ {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} تنبسطون(3/359)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ من أَنفسكُم أَزْوَاجًا} يَعْنِي: الْمَرْأَةَ هِيَ مِنَ الرَّجُلِ {لتسكنوا إِلَيْهَا} أَيْ: تَسْتَأْنِسُوا بِهَا {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّة} محبَّة {وَرَحْمَة} يَعْنِي: الْوَلَد.(3/359)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)
{وَاخْتِلَاف أَلْسِنَتكُم وألوانكم} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ لِلْعَرَبِ كَلَامٌ، وَلِفَارِسَ كَلَامٌ، وَلِلرُّومِ كَلَامٌ (سَائِرهمْ من النَّاس) كَلَام {وألوانكم} أَبيض وأحمر وأسود.(3/359)
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
{وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وابتغاؤكم من فَضله} (263) كَقَوْلِهِ: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا من فَضله} مِنْ رِزْقِهِ بِالنَّهَارِ {إِنَّ فِي ذَلِك لآيَات لقوم يسمعُونَ} وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ سَمِعُوا عَنِ اللَّهِ مَا أنزل عَلَيْهِم(3/359)
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
{يريكم الْبَرْق خوفًا وَطَمَعًا} خَوْفًا لِلْمُسَافِرِ يَخَافُ أَذَاهُ وَمَعَرَّتَهُ، وَطَمَعًا لِلْمُقِيمِ فِي الْمَطَرِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ عَقِلُوا عَنِ اللَّهِ مَا أنزل عَلَيْهِم.
سُورَة الرّوم من (آيَة 25 آيَة 27) .(3/359)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْض بأَمْره} كَقَوْلِه: {إِن الله يمسك السَّمَاوَات وَالْأَرْض أَن تَزُولَا} . {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْض إِذا أَنْتُم تخرجُونَ} يَعْنِي: النَّفْخَةَ الْآخِرَةَ، وَفِيهَا تَقْدِيمٌ: إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً إِذَا أَنْتُمْ من الأَرْض تخرجُونَ(3/360)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)
{كل لَهُ قانتون} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: كُلٌّ لَهُ مُطِيعُونَ فِي الْآخِرَةِ؛ فَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ من الْكفَّار.(3/360)
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
{وَهُوَ الَّذِي يبدؤ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ} بعد الْمَوْت؛ يَعْنِي: الْبَعْث. {وَهُوَ أَهْون عَلَيْهِ} أَيْ: وَهُوَ أَسْرَعُ عَلَيْهِ بَدْءُ الْخَلْقِ خَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ، ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَعْنَى: وَهُوَ هَيِّنٌ عَلَيْهِ؛ كَمَا قَالُوا: اللَّهُ أَكْبَرُ بِمَعْنَى الْكَبِيرِ، وَكَمَا قَالُوا: أَجْهَلُ؛ بِمَعْنَى: جَاهِلٍ، وَأَنْشَدَ:
(وَقَدْ أَعْتِبُ ابْنَ الْعَمِّ إِنْ كَانَ ظَالِمًا ... وَأَغْفِرُ عَنْهُ الْجَهْلَ إِنْ كَانَ أجهلا)
سُورَة الرّوم من (آيَة 28 آيَة 29) .(3/360)
قَوْلُهُ: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} أَيْ: لَيْسَ لَهُ نِدٌّ وَلَا شبه(3/361)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ الْمَثَلَ فَقَالَ: {هَل لكم} يَعْنِي: ألكم؟ {مِمَّا ملكت أَيْمَانكُم} يَعْنِي: عبيدكم {من شُرَكَاء فِيمَا رزقناكم فَأنْتم فِيهِ سَوَاء} أَيْ: هَلْ يُشَارِكُ أَحَدُكُمْ مَمْلُوكَهُ فِي زَوجته وَمَاله؟ {تخافونهم} تخافون لائمتهم {كخيفتكم أَنفسكُم} يَعْنِي: كَخِيفَةِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا؛ أَيْ: أَنه لَيْسَ أحد مِنْكُم هَذَا؛ فَأَنَا أَحَقُّ أَلَّا يُشْرَكَ بِعِبَادَتِي غَيْرِي {كَذَلِك نفصل الْآيَات} نبينها(3/361)
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
{بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْر علم} أَتَاهُمْ مِنَ اللَّهِ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} أَي: لَا أحد يهديه.
سُورَة الرّوم من (آيَة 30 آيَة 32) .(3/361)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
{فأقم وَجهك} اي: وجهتك {للدّين حَنِيفا} أَي: مخلصا. {فطرت الله الَّتِي فطر} خلق {النَّاس عَلَيْهَا} .
قَالَ مُحَمَّد: (فطرت الله) نَصْبٌ بِمَعْنَى: اتَّبِعْ فِطْرَةَ اللَّهِ.(3/361)
قَالَ يَحْيَى: وَهْوَ قَوْلُهُ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ من ظُهُورهمْ ذرياتهم} الْآيَةُ. إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ؛ فَقَالَ: اكْتُبْ. قَالَ: رَبِّ مَا أَكْتُبُ! قَالَ: مَا هُوَ كَائِنٌ. قَالَ: فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ فَأَعْمَالُ الْعِبَادِ تُعْرَضُ كُلَّ يَوْم اثْنَيْنِ وَخمسين عَرْضَةً (فَيَجِدُونَهَا) عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ. ثُمَّ مَسَحَ بَعَدَ ذَلِكَ عَلَى ظَهْرِ آدَمَ فَأَخْرَجَ (مِنْهَا) كُلَّ نَسْمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا، فَأَخْرَجَهُمْ مِثْلَ الذَّرِّ. فَقَالَ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بلَى شَهِدنَا} ثُمَّ أَعَادَهُمْ فِي صُلْبِ آدَمَ، ثُمَّ يَكْتُبُ الْعَبْدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ: شَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا، عَلَى الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، فَمَنْ كَانَ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ شَقِيًّا عُمِّرَ حَتَّى يَجْرِيَ عَلَيْهُ الْقَلَمُ فَيَنْقُضُ الْمِيثَاقَ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِ فِي صُلْبِ آدَمَ بِالشِّرْكِ، وَمَنْ كَانَ فِي الْكتاب الأول سعيدا غمر حَتَّى يَجْرِيَ عَلَيْهِ الْقَلَمُ [فَيُؤْمِنَ] فَيَصِيرُ سَعِيدًا، وَمَنْ مَاتَ صَغِيرًا مِنْ أَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ أَنْ يجْرِي عَلَيْهِ الْقَلَم؛ فيكونون من آبَائِهِمْ فِي [الْجَنَّةِ مِنْ مُلُوكِ] أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ الْقَلَمُ، فَلَيْسَ يَكُونُونُ مَعَ آبَائِهِمْ فِي النَّارِ؛ لِأَنَّهُمْ مَاتُوا عَلَى الْمِيثَاقِ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ فِي صُلْبِ آدَمَ، وَلَمْ يَنْقُضُوا الْمِيَثَاقَ.
قَالَ يَحْيَى: وَقَدْ حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنْ يَزِيدَ(3/362)
الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: " سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ: لَمْ تَكُنْ لَهُمْ حَسَنَاتٌ؛ فَيُجْزَوا بِهَا فَيَكُونُوا مِنْ مُلُوكِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ سَيِّئَاتٌ؛ فَيُعَاقَبُوا بِهَا فَيَكُونُوا مِنْ أَهْلِ النَّارِ؛ فَهُمْ خَدَمٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ ".(3/363)
يَحْيَى: (عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ) عَنِ الزُّهْرِيِّ [عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْركين، فَقَالَ: الله أعلم (ل 264) بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ ".
قَالَ يَحْيَى: يَعْنِي: لَوْ بُلِّغُوا.
قَوْلُهُ: {لَا تَبْدِيل لخلق الله} يَعْنِي: لِدِينِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ {مَنْ يهد الله فَهُوَ الْمُهْتَدي} لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُضِلَّهُ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} وهم الْمُشْركُونَ.(3/364)
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)
{منيبين إِلَيْهِ} : أَيْ مُقْبِلِينَ بِالْإِخْلَاصِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ الزّجاج: (منيبين إِلَيْهِ) نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ بِفِعْلِ (فَأَقِمْ وَجهك) قَالَ: وَزَعَمْ جَمِيعُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ مَعْنَى هَذَا: فَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ؛ لِأَنَّ(3/364)
مُخَاطبَة النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام تَدْخُلُ فِيهَا الْأُمَّةُ. {وَلا تَكُونُوا من الْمُشْركين(3/365)
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شيعًا فِرَقًا؛ يَعْنِي: أَهْلَ الْكِتَابِ {كُلُّ حزب} كل قوم {بِمَا لديهم} أَيْ: بِمَا هُمْ عَلَيْهِ {فَرِحُونَ} أَي: راضون.
سُورَة الرّوم من (آيَة 33 آيَة 38) .(3/365)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)
{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبهم منيبين إِلَيْهِ} أَيْ: مُخْلِصِينَ فِي الدُّعَاءِ {ثُمَّ إِذا أذاقهم مِنْهُ رَحْمَة} يَعْنِي: كَشَفَ عَنْهُمْ ذَلِكَ {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُم} أَيْ: يَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ مِنَ النعم حَيْثُ أشركوا {فتمتعوا} إِلَى موتكم {فَسَوف تعلمُونَ} وَهَذَا وَعِيد(3/365)
أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)
{أم أنزلنَا عَلَيْهِم سُلْطَانا} أَي: حجَّة {فَهُوَ يتَكَلَّم} أَيْ: فَذَلِكَ السُّلْطَانُ يَتَكَلَّمُ {بِمَا كَانُوا بِهِ يشركُونَ} أَيْ: لَمْ تَنْزِلْ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ بذلك تَأْمُرهُمْ أَن يشركوا(3/365)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
{وَإِذا أذقنا النَّاس رَحْمَة} يَعْنِي: عَافِيَةً وَسَعَةً {فَرِحُوا بِهَا وَإِن تصبهم سَيِّئَة} يَعْنِي: شدَّة عُقُوبَة {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يقنطون} يَيْأَسُونَ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ رَخَاءٌ بَعْدَ(3/365)
تِلْكَ الشِّدَّةِ؛ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيل} .
قَالَ الْحَسَنُ: بَعْضُ هَذِهِ الْآيَةِ تَطَوُّعٌ، وَبَعْضُهَا مَفْرِوضٌ؛ فَأَمَّا قَوْلُهُ:(3/366)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
{فَآت ذَا الْقُرْبَى حَقه} فَهْوَ تَطَوُّعٌ، وَهُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ صِلَةِ الْقَرَابَةِ، وَأَمَا قَوْلُهُ: {وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} فَيَعْنِي: الزَّكَاةَ.
قَالَ يَحْيَى: حَدَّثُونَا أَنَّ الزَّكَاةَ فُرِضَتْ بِمَكَّةَ، وَلَكِنْ لم تكن شَيْئا مَعْلُوما.
سُورَة الرّوم من (آيَة 39 آيَة 40) .(3/366)
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِتُرْبُوَا فِي أَمْوَال النَّاس فَلَا يربوا عِنْدَ اللَّهِ} تَفْسِيرُ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ: قَالَ: تِلْكَ الْهَدِيَّةُ تُهْدِيهَا لَيُهَدَى إِلَيْكَ خَيْرٌ مِنْهَا لَيْسَ لَكَ فِيهَا أَجْرٌ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ فِيمَا وزر، وَبَعْضهمْ يقْرؤهَا: {ليربوا} أَيْ: لِيَرْبُوَ ذَلِكَ الرِّبَا {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله} يَعْنِي: تُرِيدُونَ بِهِ اللَّهَ {فَأُولَئِكَ هم المضعفون} يَعْنِي: الَّذِينَ يُضَاعِفُ اللَّهُ لَهُمُ الْحَسَنَاتِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: رَجُلٌ مُضْعِفٌ؛ أَيْ: ذُو أَضْعَافٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ؛ كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ مُوسِرٌ؛ أَي: ذُو يسَار.(3/366)
سُورَة الرّوم من (آيَة 41 آيَة 42) .(3/367)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ: الْفَسَادُ: الْهَلَاكُ، يَعْنِي: مِنْ أُهْلِكَ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ فِي بَرِّ الْأَرْضِ وَبَحْرِهَا {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لَعَلَّ مَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يَرْجِعَوا عَنْ شِرْكِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَيَتَّعِظُوا بهم(3/367)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
{فَانْظُر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قبل} كَانَ عاقبتهم أَن دمر الله عَلَيْهِم ثمَّ صيرهم إِلَى النَّار.
سُورَة الرّوم من (آيَة 43 آيَة 47) .(3/367)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)
{فأقم وَجهك} أَي: وجهتك {للدّين الْقيم} الْإِسْلَامِ {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله} يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} يَتَصَدَّعُونَ؛ أَيْ: يَتَفَرَّقُونَ: فَرِيقٌ فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير(3/367)
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)
{من كفر فَعَلَيهِ كفره} يُثَابُ عَلَيْهِ النَّارَ {وَمَنْ عَمِلَ صَالحا فلأنفسهم يمهدون} يَعْنِي: يُوَطِّئُونَ فِي الدُّنْيَا الْقَرَارَ فِي الْآخِرَة(3/367)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ من فَضله} أَي:(3/367)
بفضله يدخلهم الْجنَّة.(3/368)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَات} بالمطر {وليذيقكم من رَحمته} يَعْنِي: الْمَطَر {ولتجري الْفلك} يَعْنِي: السُّفُنَ {بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضله} يَعْنِي: طَلَبَ التِّجَارَةِ فِي الْبَحْرِ.
سُورَة الرّوم من (آيَة 48 آيَة 50) .(3/368)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)
{ويجعله كسفا} أَي: قطعا {فترى الودق} الْمَطَر {يخرج من خلاله} من خلال السَّحَاب.(3/368)
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)
{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ ينزل عَلَيْهِم} الْمَطَر {من قبله لمبلسين} أَيْ: يَائِسِينَ عَاجِزِينَ.
قَوْلُهُ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قبله} (ل 265) هُوَ كَلَامٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مَثْنَى مِثْلَ قَوْلِهِ: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: تَكْرِيرُ (قبل) على جِهَة التوكيد.(3/368)
فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
{فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} يَعْنِي: الْمَطَرَ (كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بعد(3/368)
مَوتهَا} يَعْنِي: النَّبَاتَ؛ أَيْ: فَالَّذِي أَنْبَتَ هَذَا النَّبَاتَ بِذَلِكَ الْمَطَرِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ الْخَلْقَ (يَوْمَ) الْقِيَامَة.
سُورَة الرّوم من (آيَة 51 آيَة 57) .(3/369)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
{وَلَئِن أرسلنَا ريحًا} فَأَهْلَكْنَا بِهِ ذَلِكَ الزَّرْعَ {فَرَأَوْهُ} يَعْنِي: الزَّرْعَ {مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بعده} [لَصَارُوا] مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الْمَطَرِ {يَكْفُرُونَ} {(3/369)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)
} (فَإنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى} يَعْنِي: الْكُفَّارَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذا ولوا مُدبرين} [يَقُولُ: إِنَّ الصُّمَّ لَا يَسْمَعُونَ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ] وَهَذَا مَثَلُ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ إِذَا تَوَلَّوْا عَنِ الْهُدَى لَمْ يَسْمَعُوهُ سَمَعَ قبُول.(3/369)
وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
قَالَ {وَمَا أَنْت بهاد الْعمي} يَعْنِي: الْكُفَّارَ هُمْ عُمْيٌ عَنِ الْهدى (إِن(3/369)
تسمع} إِنْ: يَقْبَلُ مِنْكَ {إِلا مَنْ يُؤمن بِآيَاتِنَا} .
قَالَ مُحَمَّد: (إِن تسمع) أَي: مَا تسمع.(3/370)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} يَعْنِي: نُطْفَةَ الرَّجُلِ {ثُمَّ جَعَلَ من بعد ضعف قُوَّة} يَعْنِي: الشبيبة.(3/370)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
{يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} يحلف الْمُشْركُونَ {مَا لَبِثُوا} فِي الدُّنْيَا فِي قُبُورهم {غيرساعة كَذَلِك كَانُوا يؤفكون} يَصُدُّونَ فِي الدُّنْيَا عَنِ الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ(3/370)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)
{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لقد لبثم فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْث} وَهَذَا مِنْ مَقَادِيمِ الْكَلَامِ. يَقُولُ: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ والْإِيمَانِ: لَقَدْ لَبِثْتُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ يَعْنِي: لُبْثَهُمُ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا وَفِي قُبُورِهِمْ إِلَى أَنْ بُعِثُوا {فَهَذَا يَوْم الْبَعْث وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُم} {فِي الدُّنْيَا} (لَا تعلمُونَ} أَن الْبَعْث حق(3/370)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
{فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} {أَشْرَكُوا} (مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} لَا يُرَدُّونَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُعْتَبُونَ؛ أَي: يُؤمنُونَ.
سُورَة الرّوم من (آيَة 58 آيَة 60) .(3/370)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58)
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآن من كل مثل} أَيْ: لِيَذَّكَّرُوا (وَلَئِنْ(3/370)
جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن أَنْتُم إِلَّا مبطلون} وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ أَن يَأْتِيهم بِآيَة(3/371)
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59)
{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذين لَا يعلمُونَ} يَعْنِي: الَّذِينَ يَلْقَوْنَ اللَّهَ بِشِرْكِهِمْ(3/371)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} الَّذِي وَعَدَكَ أَنَّهُ سَيَنْصُرُكَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يوقنون} أَيْ: لَا تُتَابِعِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مَا يَدْعُونَكَ إِلَيْهِ مِنْ تَرْكِ دِينِكَ.(3/371)
تَفْسِيرُ سُورَةِ لُقْمَانَ وَهِيَ مَكِيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَة لُقْمَان من (آيَة 1 آيَة 7) .(3/372)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)
قَوْلُهُ: {الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيم} هَذِهِ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ الْمُحْكَمِ؛ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْأَمْرِ وَالنَّهْي(3/372)
هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)
{هدى وَرَحْمَة للمحسنين} لِلْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ: {وَرَحْمَة} بِالنّصب فعلى الْحَال.(3/372)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
{الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة} الْمَفْرُوضَة {وَيُؤْتونَ الزَّكَاة} الْمَفْرُوضَة(3/372)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيث} تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ: يَخْتَارُ بَاطِلَ الْحَدِيثِ عَلَى الْقُرْآنِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ؛ وَكَانَ رَجُلًا رَاوِيَةً لِأَحَادِيثِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَشْعَارِهِمْ {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أَتَاهُ مِنَ(3/372)
اللَّهِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الشّرك {ويتخذها} يَتَّخِذُ آيَاتِ اللَّهِ الْقُرْآنَ {هُزُوًا} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ: {وَيَتَّخِذُهَا} بِالرَّفْع فعلى الِابْتِدَاء.(3/373)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مستكبرا} أَيْ: جَاحِدًا {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} أَيْ: قَدْ سَمِعَهَا بِأُذُنَيْهِ، وَلَمْ يَقْبَلْهَا قَلْبُهُ وَقَامَتْ عَلَيْهِ بِهَا الْحُجَّةُ. {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} صمما.
سُورَة لُقْمَان من (آيَة 8 - آيَة 11) .(3/373)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)
{خلق السَّمَاوَات بِغَيْر عمد ترونها} فِيهَا تَقْدِيمٌ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ: خَلَقَ السَّمَوَاتِ تَرَوْنَهَا بِغَيْرِ عَمَدٍ، وَتَفْسِيرُ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَهَا عَمَدٌ وَلَكِنْ لَا تَرَوْنَهَا {وَأَلْقَى فِي الأَرْض رواسي} يَعْنِي: الْجِبَالَ أَثْبَتَ بَهَا الْأَرْضَ {أَن تميد بكم} أَيْ: لِئَلَّا تَحَرَّكَ بِكُمْ {وَبَثَّ فِيهَا} خَلَقَ {مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} .(3/373)
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
{فَأَرُونِي مَاذَا خلق} يَقُوله للْمُشْرِكين (ل 266) {مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} يَعْنِي: الْأَوْثَان {بل الظَّالِمُونَ} الْمُشْركُونَ {فِي ضلال مُبين} بَين.
سُورَة لُقْمَان من (آيَة 12 آيَة 16) .(3/373)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: الْفِقْهَ وَالْعَقْلَ، وَالْإِصَابَةَ فِي الْقَوْلِ فِي غَيْرِ نبوة {أَن اشكر لله} النِّعْمَةَ. {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لنَفسِهِ} وَهُوَ الْمُؤمن {وَمن كفر} يَعْنِي: كَفَرَهَا {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} عَن خلقه {حميد} اسْتوْجبَ عَلَيْهِم أَن يحمدوه(3/374)
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
{إِن الشّرك لظلم عَظِيم} يَعْنِي: يَظْلِمُ بِهِ الْمُشْرِكُ نَفْسَهُ وينقصها.(3/374)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهنا على وَهن} أَيْ: ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: لَزِمَهَا لِحَمْلِهَا إِيَّاهُ أَنْ تَضْعُفَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.(3/374)
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
{وَإِن جَاهَدَاك} يَعْنِي: أَرَادَاكَ {عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ علم} أَيْ أَنَّكَ لَا تَعْلَمُ أَنَّ لِي شَرِيكًا؛ يَعْنِي: الْمُؤْمِنَ {فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} طَرِيقَ مَنْ أَقْبَلَ إِلَيَّ بِقَلْبِهِ مخلصا(3/374)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
{يَا بني} رَجَعَ إِلَى كَلَامِ لُقْمَانَ {إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَال حَبَّة} أَيْ: وَزْنَ حَبَّةٍ {مِنْ خَرْدَلٍ} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (مِثْقَالُ) بِالرَّفْع مَعَ تَأْنِيث (تَكُ) فَلِأَنَّ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ(3/374)
خَرْدَلٍ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى خَرْدَلَةٍ؛ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ: إِنْ تَكُ حَبَّةٌ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ.
قَالَ يَحْيَى: بَلَغَنَا أَنَّهَا الصَّخْرَةُ الَّتِي عَلَيْهَا الْحُوتُ الَّذِي عَلَيْهِ قَرَار الأَرْض. {أَو فِي السَّمَاوَات أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا الله} أَيْ: احْذَرْ؛ فَإِنَّهُ سَيُحْصِي عَلَيْكَ عَمَلَكَ وَيَعْلَمُهُ؛ كَمَا عَلِمَ هَذِهِ الْحَبَّةَ مِنَ الْخَرْدَلِ {إِنَّ اللَّهَ لطيف} باستخراجها {خَبِير} بمكانها.
سُورَة لُقْمَان من (آيَة 17 آيَة 19) .(3/375)
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
{وَأمر بِالْمَعْرُوفِ} بِالتَّوْحِيدِ {وانه عَن الْمُنكر} الشِّرْكِ {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور} والعزم أَن يصبر(3/375)
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)
{وَلَا تصاعر خدك للنَّاس} لَا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ عَنْهُمُ اسْتِكْبَارًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَنْ قَرَأَ (تُصَعِّرْ) فَعَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَصَابَ الْبَعِيرَ صَعْرٌ؛ إِذْ أَصَابَهُ دَاءٌ فَلَوَى مِنْهُ عُنُقَهُ.(3/375)
قَالَ الْمُتَلَمِّسُ:
(وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... أَقَمْنَا لَهُ مِنْ رَأْسِهِ فَتَقَوَّمَا)
قَوْلُهُ: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْض مرحا} أَيْ: تَعَظُّمًا {إِنَّ اللَّهَ لَا يحب كل مختال فخور} أَيْ: مُتَكَبِّرٍ فَخُورٍ، يَعْنِي: يُزْهَى بِمَا أُعْطِيَ، وَلَا يَشْكُرُ اللَّهَ(3/376)
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
{واقصد فِي مشيك} كَقَوْلِهِ: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مرحا} {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَات} يَعْنِي: أقبح {لصوت الْحمير} .
قَالَ مُحَمَّد: معنى (اغضض) : انْقُصْ؛ الْمَعْنَى: عَرَّفَهُ قُبْحَ رَفْعِ الْصَوْتِ فِي الْمُخَاطَبَةِ وَالْمُلَاحَاةِ بِقُبْحِ أصوات الْحمير؛ لِأَنَّهَا عالية.
سُورَة لُقْمَان من (آيَة 20 آيَة 22) .(3/376)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لكم مَا فِي السَّمَاوَات} يَعْنِي: شَمْسَهَا وَقَمَرَهَا وَنُجُومَهَا، وَمَا يَنْزِلُ مِنْهَا مِنْ مَاءٍ {وَمَا فِي الأَرْض} من شَجَرهَا وجبالها(3/376)
وأنهارها وبحارها وَبَهَائِمِهَا {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وباطنة} أَيْ: فِي بَاطِنِ أَمْرِكِمْ وَظَاهِرِهِ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي الله} فَيَعْبُدُ الْأَوْثَانَ دُونَهُ {بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هدى} أَتَاهُ مِنَ اللَّهِ {وَلا كِتَابٍ مُنِير} بَيِّنَ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الشّرك.(3/377)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
{بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} يعنون: عبَادَة الْأَوْثَان {أَو لَو كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السعير} أَيْ: أَيَتَّبِعُونَ مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ، وَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ؛ أَيْ: قَدْ فعلوا.(3/377)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)
{وَمن يسلم وَجهه} يَعْنِي: وِجْهَتَهُ فِي الدِّينِ {إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بالعروة الوثقى} لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ {وَإِلَى الله عَاقِبَة الْأُمُور} يَعْنِي: مصيرها فِي الْآخِرَة.
سُورَة لُقْمَان من (آيَة 23 آيَة 28) .(3/377)
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
{نمتعهم قَلِيلا} فِي الدُّنْيَا؛ يَعْنِي: إِلَى مَوْتِهِمْ.(3/377)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)
{بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} أَنهم مبعوثون(3/377)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
{وَلَو أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَات الله} يَقُولُ: لَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ يَكْتُبُ بِهَا عِلْمَهُ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ(3/377)
أَبْحُرٍ؛ يُسْتَمَدُّ مِنْهُ لِلْأَقْلَامِ لَانْكَسَرَتِ الْأَقْلَامُ وَنَفِدَ الْبَحْرُ وَلَمَاتَ الْكُتَّابُ، وَمَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ يَعْنِي بِمَا خَلَقَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ: {وَالْبَحْر} بِالرَّفْع فَهُوَ على الِابْتِدَاء.(3/378)
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
{مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفس وَاحِدَة} قَالَ الْمُشْرِكُونَ: يَا مُحَمَّدُ، خَلَقَنَا الله (ل 267) أَطْوَارًا: نُطَفًا ثُمَّ عَلَقًا ثُمَّ مُضَغًا ثُمَّ عِظَامًا ثُمَّ لَحْمًا، ثُمَّ أَنْشَأَنَا خَلْقًا آخَرَ كَمَا تَزْعُمْ، وَتَزْعُمُ أَنَّا نُبْعَثُ فِي سَاعَة وَاحِدَة؟ ّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَوَابًا لِقَوْلِهِمْ: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَة} إِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيُكُونُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (فَيَكُونُ) بِالرَّفْعِ فَعَلَى مَعْنَى: فَهُو يَكُونُ) .
سُورَة لُقْمَان من (آيَة 29 آيَة 32) .(3/378)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَار فِي اللَّيْل} هُوَ أَخْذُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا من صَاحبه(3/379)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)
{ليريكم من آيَاته} يَعْنِي: جَرْيَ السُّفُنِ. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} وَهُوَ الْمُؤمن(3/379)
وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
{وَإِذا غشيهم موج كالظلل} كالجبال. {فَمنهمْ مقتصد} هَذَا الْمُؤْمِنُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَعَادَ فِي كُفْرِهِ {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كل ختار} أَي: غدار {كفور} يَقُولُ: أَخْلَصَ لَهُ فِي الْبَحْرِ لِلْمَخَافَةِ مِنَ الْغَرَقِ، ثُمَّ غَدَرَ.
سُورَة لُقْمَان من (آيَة 33 آيَة 34) .(3/379)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
{وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَده} أَيْ: لَا يَفْدِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} يَعْنِي: الْبَعْثَ وَالْحِسَابَ، وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ. {وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور} الشَّيْطَانُ، وَتُقْرَأُ: (الْغُرُورُ) بِرَفْعِ الْغَيْنِ؛ يَعْنِي: غُرُورُ الدُّنْيَا، وَهُوَ أَبَاطِيلُهَا.(3/379)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} علم مجيئها {وَينزل الْغَيْث} الْمَطَرَ {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} من ذكر وَأُنْثَى وَكَيْفَ صَوَّرَهُ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الله عليم} بخلقه {خَبِير} بِأَعْمَالِهِمْ.(3/379)
تَفْسِيرُ الم السَّجْدَةُ وَهِيَ مَكِيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَة السَّجْدَة من (آيَة 1 آيَة 5) .(3/380)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
قَوْلُهُ: {الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ: لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: {تَنْزِيل} رَفْعٌ عَلَى خَبَرِ الِابْتِدَاءِ عَلَى إِضْمَارِ: الَّذِي تَتْلُو تَنْزِيلُ الْكِتَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفْعُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَيَكُونُ خَبْرُ الِابْتِدَاءِ {لَا رَيْبَ فِيهِ} .(3/380)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
{أم يَقُولُونَ افتراه} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا افْتَرَى الْقُرْآنَ، أَيْ: قَدْ قَالُوهُ وَهُوَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ {مَا أَتَاهُمْ من نَذِير من قبلك} يَعْنِي: قُريْشًا {لَعَلَّهُم يَهْتَدُونَ} لكَي يهتدوا(3/380)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)
{فِي سِتَّة أَيَّام} الْيَوْمُ مِنْهَا أَلْفَ سَنَةٍ. {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} يمنعكم من عَذَابه إِذْ أَرَادَ عذابكم {وَلَا شَفِيع} يَشْفَعُ لَكُمْ عِنْدَهُ؛ حَتَّى لِا يعذبكم.(3/380)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
{يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْض} أَيْ: يُنَزِّلُهُ مَعَ جَبْرِيلَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} أَيْ: يَصْعَدُ؛ يَعْنِي: جِبْرِيلَ إِلَى السَّمَاءِ {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ ألف سنة} مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا.
قَالَ يَحْيَى: بَين السَّمَاء وَالْأَرْض مسيرَة خَمْسمِائَة سنة، فَينزل مسيرَة خَمْسمِائَة سنة، ويصعد مسيرَة خَمْسمِائَة سنة فِي يَوْم وَفِي أقل مِنْ يَوْمٍ، وَرُبَّمَا سُئِلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَام عَنِ الْأَمْرِ يَحْضُرُهُ، فَيَنْزِلُ فِي أسْرع من الطّرف.
سُورَة السَّجْدَة من (آيَة 6 آيَة 11) .(3/381)
ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
{ذَلِك عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة} وَهَذَا تَبَعٌ لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ {لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثُمَّ قَالَ: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة} يَعْنِي: نَفسه و {الْغَيْب} : السِّرّ و {الشَّهَادَة} : الْعَلَانِيَة(3/381)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)
{وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} يَعْنِي: آدم(3/381)
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)
{ثمَّ جعل نَسْله} نَسْلَ آدَمَ بَعْدُ {مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} ضَعِيفٍ؛ يَعْنِي: النُّطْفَة(3/381)
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
{ثمَّ سواهُ} يَعْنِي: سَوَّى خَلْقَهُ كَيْفَ شَاءَ {قَلِيلا مَا تشكرون} أَي: أقلكم من يشْكر(3/381)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
{وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} أَيْ: إِذَا كُنَّا رُفَاتًا وَتُرَابًا {أئنا لفي خلق جَدِيد} وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى إِنْكَارٍ؛ أَيْ: إِنَّا لَا نُبْعَثُ بَعْدَ الْمَوْتِ(3/381)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
{قل يتوفاكم} أَيْ: يَقْبِضُ أَرْوَاحَكُمْ {مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وكل بكم} جُعَلِتِ الْأَرْضُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ مِثْلَ الطَّسْتِ يَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمْ، كَمَا يَلْتَقِطُ(3/381)
الطَّيْرُ الْحَبَّ.
قَالَ يَحْيَى: وَبَلَغَنِي أَنَّهُ يَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْبر وَالْبَحْر.
سُورَة السَّجْدَة من (آيَة 12 آيَة 14) .(3/382)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
{وَلَو ترى إِذْ المجرمون ناكسوا رُءُوسهم عِنْد رَبهم} خزايا نادمين {رَبنَا أبصرنا وَسَمعنَا} سَمِعُوا حِينَ لَمْ يَنْفَعْهُمُ السَّمَعُ، وَأَبْصَرُوا حِينَ لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْبَصَرُ {فارجعنا} إِلَى الدُّنْيَا {نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا موقنون} بِالَّذِي أَتَى بِهِ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ حق.(3/382)
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
{وَلَكِن حق القَوْل مني} أَيْ: سَبَقَ {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} يَعْنِي: الْمُشْركين من الْفَرِيقَيْنِ(3/382)
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
{فَذُوقُوا} يَعْنِي: عَذَابَ جَهَنَّمَ {بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يومكم هَذَا} (ل 268) يَعْنِي: بِمَا تَرَكْتُمُ الْإِيمَانَ بِلِقَاءِ يومكم هَذَا {إِنَّا نسيناكم} أَي: تركناكم فِي الْعَذَاب.
سُورَة السَّجْدَة من (آيَة 15 آيَة 17) .(3/382)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)
{وهم لَا يَسْتَكْبِرُونَ} عَن عبَادَة الله(3/382)
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
{تَتَجَافَى جنُوبهم عَن الْمضَاجِع} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ قَالَ: يَعْنِي: قِيَامَ اللَّيْل {يدعونَ رَبهم خوفًا} من عَذَابه {وَطَمَعًا} فِي رَحْمَتِهِ؛ يَعْنِي: الْجَنَّةَ.(3/382)
قَالَ مُحَمَّد: معنى {تَتَجَافَى} تفارق. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ} يَعْنِي: الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة(3/383)
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} على قدر أَعْمَالهم.
سُورَة السَّجْدَة من (آيَة 18 آيَة 20) .(3/383)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)
{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} يَعْنِي: مُشْرِكًا {لَا يَسْتَوُونَ} .(3/383)
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أعيدوا فِيهَا} يَقُولُ: إِذَا كَانُوا فِي أَسْفَلِهَا رَفَعَتْهُمْ بِلَهَبِهَا؛ حَتَّى إِذَا كَانُوا فِي أَعْلَاهَا رَجُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَضُرِبُوا بِمَقَامِعَ مِنْ حَدِيدٍ؛ فهووا إِلَى أَسْفَلهَا.
سُورَة السَّجْدَة من (آيَة 21 آيَة 25.(3/383)
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
{ولنذيقنهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى} الْأَقْرَبِ؛ يَعْنِي: بِالسَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ {دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَر} عَذَاب النَّار {لَعَلَّهُم} لَعَلَّ مَنْ يَبْقَى(3/383)
مِنْهُم {يرجعُونَ} من الشّرك إِلَى الْإِيمَان.(3/384)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)
{وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب} التَّوْرَاة {فَلَا تكن} يَا مُحَمَّدُ {فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِه} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ {وجعلناه هدى} يَعْنِي: مُوسَى {هدى لبني إِسْرَائِيل} .(3/384)
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
{وَجَعَلنَا مِنْهُم أَئِمَّة} يَعْنِي: أَنْبيَاء {يهْدُونَ} أَيْ: يَدْعُونَ {بِأَمْرِنَا} .(3/384)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} الْآيَةُ، يَفْصِلُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ {فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ} مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ؛ فَيُدْخِلُ الْمُؤْمِنِينَ الْجنَّة، وَيدخل الْمُشْركين النَّار.
سُورَة السَّجْدَة من (آيَة 26 آيَة 30) .(3/384)
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)
{أَو لم يهد لَهُم} يَعْنِي: يُبَيِّنْ لَهُمْ {كَمْ أَهْلَكْنَا من قبلهم من الْقُرُون} يَعْنِي: مَا قُصَّ مِمَّا أُهْلِكَ بِهِ الْأُمَم السالفة؛ حِين كذبُوا رسلهم {يَمْشُونَ فِي مساكنهم} أَيْ: يَمُرُّونَ؛ مِنْهَا مَا يُرَى، وَمِنْه مَا لَا يُرَى؛ كَقَوْلِهِ: {مِنْهَا قَائِم} ترَاهُ {وحصيد} لَا ترَاهُ {أَفلا يسمعُونَ} يَعْنِي: الْمُشْركين(3/384)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
{إِلَى الأَرْض الجرز} يَعْنِي: الْيَابِسَةَ؛ أَيْ: فَالَّذِي أَحْيَا هَذِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ.(3/384)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28)
{وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْفَتْح} يَعْنِي: الْقَضَاءَ بِعَذَابِهِمْ؛ قَالُوا ذَلِكَ استهزاءا وتكذيبا بِأَنَّهُ لَا يكون(3/385)
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)
{قل يَوْم الْفَتْح} الْقَضَاءِ {لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانهم} لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَرَى الْعَذَابَ إِلَّا آمَنَ؛ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُم.(3/385)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
{فَأَعْرض عَنْهُم وانتظر} بهم الْعَذَاب {إِنَّهُم منتظرون} نَزَلَتْ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِقِتَالِهِمْ.(3/385)
تَفْسِيرُ سُوْرَةِ الْأَحْزَابِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كلهَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَة الْأَحْزَاب من (آيَة 1 آيَة 5) .(3/386)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)
قَوْله: {يَا أَيهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافرين} فِي الشّرك بِاللَّه {وَالْمُنَافِقِينَ} أَي: وَلَا تُطِع الْمُنَافِقين(3/386)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قلبين فِي جَوْفه} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ: جَمِيلٌ كَانَ حَافِظًا لِمَا سَمِعَ، فَقَالَتْ قُرَيشٌ: مَا يَحْفَظُ جَمِيلٌ مَا يَحْفَظُ بِقَلْبٍ وَاحِدٍ؛ إِنَّ لَهُ لَقَلْبَيْنِ! فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ. {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتكُم} يَعْنِي: إِذَا قَالَ(3/386)
الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، لَمْ تَكُنْ مِثْلَ أُمِّهِ فِي الْتَحْرِيمِ أَبَدًا، وَلَكِنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أبناءكم} وَكَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَكُونُ ذَلِيلًا فَيَأْتِي الرَّجُلَ ذَا الْقُوَّةِ وَالشَّرَفِ فَيَقُولُ: أَنَا ابْنُكَ، فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَإِذَا قَبِلَهُ وَاتَّخَذَهُ ابْنًا أَصْبَحَ أَعَزَّ أَهْلِهِ؛ وَكَانَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مِنْهُمْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَنَّاهُ يَوْمَئِذٍ عَلَى مَا كَانَ يُصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ مَوْلًى لِرَسُولِ اللَّهِ؛ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُلْحِقُوهُمْ بِآبَائِهِمْ؛ فَقَالَ: {وَمَا جعل أدعياءكم ذَلِكُم قَوْلكُم بأفواهكم} يَعْنِي: ادِّعَاءَهُمْ هَؤْلَاءِ، وَقَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي.(3/387)
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
{ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ الله} أَيْ: أَعْدَلُ {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} يَقُولُ: قُولُوا: [وَلِيُّنَا فُلَانٌ] ، وَأَخُونَا فلَان. {وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح} إِثْم {فِيمَا أخطأتم بِهِ} (ل 269) إِنْ أَخْطَأَ الرَّجُلُ بَعْدَ النَّهْيِ فَنَسَبَهُ إِلَى [الَّذِي] تَبَنَّاهُ نَاسِيًا؛ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إِثْمٌ {وَلَكِن مَا تَعَمّدت قُلُوبكُمْ} أَنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى غَيْرِ آبَائِهِمْ.
سُورَة الْأَحْزَاب (آيَة 6) .(3/387)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: يَعْنِي: هُوَ أَبُوهُمْ {وأزواجه أمهاتهم} أَيْ: هُنَّ فِي التَّحْرِيمِ مِثْلُ أُمَّهَاتِهِمْ.
يَحْيَى: عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ(3/387)
عَائِشَةَ " أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لَهَا: يَا أُمَّهْ. فَقَالَتْ: لَسْتُ لَكِ بِأُمٍّ! إِنَّمَا أَنَا أُمُّ رِجَالِكُمْ ". {وَأولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: كَانَ نَزَلَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيةِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يهاجروا} فَتَوَارَثَ الْمُسْلِمُونَ بِالْهِجْرَةِ وَكَانَ لَا يَرِثُ الأَعْرَابِيُّ الْمُسْلِمَ مِنْ قَرِيبِهِ الْمُهَاجِرِ الْمُسْلِمِ شَيْئًا، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَصَارَتِ الْمَوَارِيثُ بِالْمِلَلِ. {إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أوليائكم} يَعْنِي: مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ {مَعْرُوفًا} يَعْنِي: بِالْمَعْرُوفِ: الْوَصِيَّةَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} فَقَالَ: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مسطورا} أَيْ: مَكْتُوبًا: لَا يَرِثُ كَافِرٌ مُسلما، وَقد قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا يَرث الْمُسلم الْكَافِر ".
سُورَة الْأَحْزَاب من (آيَة 7 آيَة 8) .(3/388)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)
{وَإِذا أَخذنَا من النَّبِيين ميثاقهم} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: فِي ظَهْرِ آدَمَ {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم ميثاقا غليظا} بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ.
كَانَ قَتَادَةُ إِذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَإِذْ أَخَذْنَا من النَّبِيين ميثاقهم} قَالَ: قَالَ رَسُول الله: " كُنْتُ أَوَّلَ النَّبِيِّينَ فِي الْخَلْقِ، وَآخرهمْ فِي الْبَعْث ".(3/389)
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
قَوْله: {ليسئل الصَّادِقين} يَعْنِي: النَّبِيين {عَن صدقهم} أَيْ: عَنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إِلَى قَومهمْ من الله.(3/389)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)
{إِذْ جاءتكم جنود} يَعْنِي: أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِم ريحًا} قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهِي الصَّبَا، كَانَتْ تَكُبُّهُمْ عَلَى وَجُوهِهِمْ وَتَنْزِعُ الْفَسَاطِيطَ حَتَّى أَظْعَنَتْهُمْ {وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} يَعْنِي: الْمَلَائِكَة.(3/390)
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَل مِنْكُم} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: جَاءُوا مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ أَسْفَلِ الْمَدِينَةِ، وَمِنْ أَعْلَاهَا {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِر} مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظنونا} يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ ظَنُّوا أَنَّ مُحَمَّدًا سيقتل وَأَنَّهُمْ سيهلكون.(3/390)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)
قَالَ اللَّهُ: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} أَيْ: اخْتُبِرُوا {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا} أَيْ: حُرِّكُوا بِالْخَوْفِ، وَأَصَابَتْهُمُ الْشِدَّةُ(3/390)
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبهم مرض} وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، الْمَرَضُ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ: النِّفَاقُ {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُوله} فِيمَ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُهُ {إِلا غرُورًا} أَيْ: وَعَدَنَا اللَّهُ النَّصْرَ فَلَا تَرَانَا نُنْصَرُ وَتَرَانَا نُقْتَلُ وَنُهْزَمُ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ أَلَّا يُقْتَلَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَأَلَّا يُهْزَمُوا فِي بَعْضِ الْأَحَايِينِ، وَإِنَّمَا وعدهم النَّصْر فِي الْعَاقِبَة.(3/390)
سُورَة الْأَحْزَاب من (آيَة 13 آيَة 14) .(3/391)
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
{وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا رَأَى الْمُنَافِقُونَ الْأَحْزَابَ جَبُنُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا وَاللَّهِ مَا لَكُمْ مُقَامٌ مَعَ هَؤُلَاءِ؟ فَارْجِعُوا إِلَى قَوْمِكُمْ يَعْنُونَ: الْمُشْرِكِينَ فَاسْتَأْمَنُوهُمْ. {إِنَّ بُيُوتَنَا عَورَة} أَيْ: خَالِيَةٌ نَخَافُ عَلَيْهَا السَّرَقَ. قَالَ اللَّهُ: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} إِنَّ اللَّهَ يَحْفَظُهَا إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا(3/391)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا} يَقُولُ: لَوْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ نَوَاحِيهَا {ثمَّ سئلوا الْفِتْنَة} يَعْنِي: الشّرك {لآتوها} لَجَاءُوهَا وَتُقْرَأُ: (لَآتَوْهَا) بِالْمَدِّ، الْمَعْنَى: لأعطوها.
سُورَة الْأَحْزَاب من (آيَة 15 آيَة 17) .(3/391)
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)
{وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قبل لَا يولون الأدبار} أَيْ: يَنْهَزِمُونَ {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مسئولا} يَعْنِي: يَسْأَلُهُمْ عَنِ الْعَهْدِ الَّذِي لَمْ يَفُوا بِهِ.(3/391)
يَحْيَى: عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ، وَلم نُبَايِعهُ على الْمَوْت ".(3/392)
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)
{وَإِذا لَا تمتعون} فِي الدُّنْيَا {إِلَّا قَلِيلا} يَعْنِي: إِلَى آجالكم(3/393)
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
{قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ} (ل 270) أَيْ: يَمْنَعُكُمْ {مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بكم سوءا} يَعْنِي: الْقَتْلَ وَالْهَزِيمَةَ؛ فِي تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: النَّصْرَ وَالْفَتْحَ.
سُورَة الْأَحْزَاب من (آيَة 18 آيَة 20) .(3/393)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18)
{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ والقائلين لإخوانهم هَلُمَّ إِلَيْنَا} يَأْمُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْفِرَارِ، وَهُوَ التعويق {وَلَا يأْتونَ الْبَأْس} يَعْنِي: الْقِتَال {إِلَّا قَلِيلا} أَيْ: بِغَيْرِ حِسْبَةٍ، وَإِنَّمَا قَلَّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لِغَيْرِ اللَّهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: إِلَّا إِتْيَانًا قَلِيلًا؛ وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ يحيى.(3/393)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
{أشحة عَلَيْكُم} يَقُولُ: لَا يَتْرُكُونَ لَكُمْ مِنْ حُقُوقِهِمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ شَيْئًا {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْف} يَعْنِي: الْقِتَالَ {رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ من الْمَوْت} خَوْفًا مِنَ الْقِتَالِ {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْف سلقوكم} أَيْ: صَاحُوا عَلَيْكُمْ {بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} قَالَ مُحَمَّدٌ: قِيلَ: الْمَعْنَى: خَاطَبُوكُمْ أَشَدَّ مُخَاطَبَةٍ(3/393)
وَأَبْلَغَهَا فِي الْغَنِيمَةِ، يُقَالُ: خَطِيبٌ مِسْلَاقٌ وَسَلَّاقٌ إِذَا كَانَ بَلِيغًا. {أشحة على الْخَيْر} الْغَنِيمَة {أُولَئِكَ لم يُؤمنُوا} أَيْ: لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَاب يود} الْمَنَافِقُونَ {لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَاب} أَيْ: فِي الْبَادِيَةِ مَعَ الْأَعْرَابِ {يسْأَلُون عَن أنبائكم} وَهُوَ كَلَام مَوْصُول.(3/394)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لم يذهبوا} قِيلَ: الْمَعْنَى: يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ بَعْدَ انْهِزَامِهِمْ وَذِهَابِهِمْ لَمْ يَذْهَبُوا؛ لِجُبْنِهِمْ وخوفهم.
سُورَة الْأَحْزَاب من (آيَة 21 - آيَة 22) .(3/394)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)
{وَذكر الله كثيرا} وَهَذَا ذِكْرُ التَّطَوُّعِ لَيْسَ فِيهِ وَقت.(3/394)
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
{وَلما رأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَاب} يَعْنِي: أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ تَحَازَبُوا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} كَانَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَلا إِنَّ نصر الله قريب} فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ أَصْحَاب النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: مَا أَصَابَنَا هَذَا بَعْدُ؛ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ أَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ} إِلَى قَوْله: {إِيمَانًا وتسليما} يَعْنِي: تَصْدِيقًا وَتَسْلِيمًا لِأَمْرِ اللَّهِ.
سُورَة الْأَحْزَاب من (آيَة 23 آيَة 24) .(3/394)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ} حِينَ بَايَعُوهُ عَلَى أَلَّا يَفِرُّوا وَصَدَقُوا فِي لِقَائِهِمُ الْعَدُوَّ؛ وَذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ. {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نحبه} يَعْنِي: أَجَلَهُ؛ فِي تَفْسِيرِ بَعْضِهِمْ {وَمِنْهُم من ينْتَظر} أَجله {وَمَا بدلُوا تبديلا} كَمَا بَدَّلَ الْمُنَافِقُونَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَصْلُ النَّحْبِ: النَّذْرِ؛ كَأَنَّ قَوْمًا نذورا إِنْ لَقُوا الْعَدُوَ أَنْ يُقَاتِلُوا؛ حَتَّى يُقْتَلُوا أَوْ يَفْتَحِ اللَّهُ، فَقُتِلُوا فَقِيلَ: فُلَانٌ قَضَى نَحْبَهُ؛ إِذا قتل.(3/395)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)
{لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقين إِن شَاءَ} أَيْ: يَمُوتُوا عَلَى نِفَاقِهِمْ فَيُعَذِّبَهُمْ {أَو يَتُوب عَلَيْهِم} فيرجعوا من نفاقهم.
سُورَة الْأَحْزَاب من (آيَة 25 آيَة 27) .(3/395)
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لم ينالوا خيرا} يَعْنِي: لَمْ يُصِيبُوا ظَفَرًا وَلَا غَنِيمَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ خَيْرًا لَوْ نَالُوهُ {وَكَفَى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال} بِالرِّيحِ وَالْجُنُودِ الَّتِي أَرَسَلَ عَلَيْهِمْ(3/395)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)
{وَأنزل الَّذين ظاهروهم} يَعْنِي: عَاوَنُوهُمْ {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يَعْنِي: قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ {مِنْ صَيَاصِيهِمْ} يَعْنِي: حُصُونَهُمْ.(3/395)
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَصْلُ الْكَلِمَةِ: قُرُونُ الْبَقَرِ؛ لِأَنَّهَا تَمْتَنِعُ بِهَا وَتَدْفَعُ عَنْ أَنْفُسِهَا، فَقِيلَ لِلْحُصُونِ: صَيَاصِيُّ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ وَصِيصِيَةُ الدِّيكِ شَوْكَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يتحصن بهَا.(3/396)
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
{وأرضا لم تطئوها} وَهِي خَيْبَر؛ فتحت عنْوَة.
سُورَة الْأَحْزَاب من (آيَة 28 آيَة 30) .(3/396)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
{يَا أَيهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {أجرا عَظِيما} قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَمْ يُخَيِّرْهُنَّ الطَّلَاقَ(3/396)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُن بِفَاحِشَة مبينَة} يَعْنِي: الزِّنَا؛ فِي تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ {يُضَاعف لَهَا الْعَذَاب ضعفين} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: فِي الْآخِرَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَعْنَى (يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَاب ضعفين) أَيْ: يُجْعَلُ مِثْلَيْنِ؛ الضِّعْفُ فِي اللُّغَةِ: الْمِثْلُ، يُقَالُ: هَذَا ضِعْفُ هَذَا؛ أَي: مثله.
سُورَة الْأَحْزَاب من (آيَة 31 آيَة 32) .(3/396)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} أَيْ: تُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ {نُؤْتِهَا أجرهَا مرَّتَيْنِ} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: فِي الْآخِرَةِ {وأعتدنا} أعددنا {لَهَا رزقا كَرِيمًا} يَعْنِي: الْجنَّة.(3/397)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)
{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تخضعن بالْقَوْل} قَالَ الْكَلْبِيّ: (ل 271) هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي فِيهِ مَا يَهْوَى الْمُرِيبُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ: {كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} وَلَمْ يَقُلْ: كَوَاحِدَةٍ لِأَنَّ أَحَدًا مَعْنًى عَامٌّ مِنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَالْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ. {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قلبه مرض} أَيْ: فُجُورٌ؛ فِي تَفْسِيرِ بَعْضِهِمْ.
قَالَ الْحَسَنُ: وَكَانَ أَكْثَرُ مَنْ يُصِيبُ الْحُدُودَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام المُنَافِقُونَ.
سُورَة الْأَحْزَاب من (آيَة 33 آيَة 34) .(3/397)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
{وَقرن فِي بيوتكن} مَنْ قَرَأَهَا بِالْفَتْحِ؛ فَهُوَ مِنَ الْقَرَارِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَالْأَصْلُ فِيهِ: (اقْرَرْنَ) فَحَذَفَ الرَّاءَ الْأُوْلَى لِثَقَلِ التَّضْعِيفِ،(3/397)
وَأَلْقَى حَرَكَتُهَا عَلَى الْقَافِ؛ فَصَارَتْ: (وَقَرْنَ) .
قَالَ يَحْيَى: وَتُقْرَأُ: (وَقِرْنَ) بِكَسْر الْقَاف، وَهُوَ مِنَ الْوَقَارِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَرَ فِي مَنْزِلِهِ يَقِرُّ وُقُورًا. {وَلا تبرجن تبرج الْجَاهِلِيَّة الأولى} أَيْ: قَبْلَكُمْ؛ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ، وَلَيْسَ يَعْنِي: أَنَّهَا كَانَتْ جَاهِلِيَّةً قبلهَا؛ كَقَوْلِه: {عادا الأولى} .
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: يَعْنِي الْجَاهِلِيَّةَ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا إِبْرَاهِيمُ قَبْلَ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا مُحَمَّدٌ {وَأَقِمْنَ الصَّلَاة} يَعْنِي: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ {وَآتِينَ الزَّكَاةَ} يَعْنِي: الْمَفْرُوضَةَ {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فِيمَا أَمَرَكُنَّ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ ليذْهب عَنْكُم الرجس} يَعْنِي: الشَّيْطَانَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الرِّجْسُ: الْإِثْمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ: كُلُّ مُسْتَنْكَرٍ مُسْتَقْذَرٍ مِنْ مَأْكُولٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ فَاحِشَةٍ، و (أهل الْبَيْت) مَنْصُوبٌ عَلَى وَجْهَيْنِ: عَلَى مَعْنَى: أَعْنِي أَهْلَ الْبَيْتِ، وَعَلَى النِّدَاءِ. {وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا} .
يَحْيَى: عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ أبي الْحَمْرَاء، قَالَ:(3/398)
" رابطت الْمَدِينَة سَبْعَة أشهر مَعَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام، وَسمعت النَّبِي إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ جَاءَ إِلَى بَابِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ فَقَالَ: الصَّلَاةَ ثَلَاثًا - {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا} ".
سُورَة الْأَحْزَاب (آيَة 35)(3/399)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} هُوَ كَلَامٌ وَاحِدٌ؛ كَقَوْلِهِ: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ من الْمُسلمين} وَالْإِسْلَامُ هَوَ اسْمُ الدِّينِ، قَالَ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يقبل مِنْهُ} وَهُو الْإِيمَانُ بِاللَّهِ {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} الْقُنُوتُ: الطَّاعَةُ {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ والصابرات} عَلَى مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ {والخاشعين والخاشعات} وَهُوَ الْخَوْفُ الثَّابِتُ فِي الْقَلْبِ {والمتصدقين والمتصدقات} يَعْنِي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} .
قَالَ يَحْيَى: بَلَغَنِي أَنَّهُ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ فَهُوَ مِنَ الصَّائِمِينَ والصائمات {والحافظين فروجهم والحافظات} مِمَّا لَا يَحِلُّ لَهُنَّ. {وَالذَّاكِرِينَ الله كثيرا وَالذَّاكِرَات} يَعْنِي: بِاللِّسَانِ؛ وَلَيْسَ فِي الذّكر وَقت.
سُورَة الْأَحْزَاب من (آيَة 36 - آيَة 39) .(3/400)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} يَعْنِي: إِذَا فَرَضَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ شَيْئا {أَن تكون لَهُم الْخيرَة} يَعْنِي: التخير {من أَمرهم} {وَمن يَعْصِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبينًا} أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّ يُزَوِّجَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ؛ فَأَبَتْ وَقَالَتْ: أُزَوِّجُ نَفْسِي رَجُلًا كَانَ عَبْدَكَ بِالْأَمْسِ. وَكَانَتْ ذَاتَ شَرَفٍ، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ، ثُمَّ صَارَتْ سُنَّةً بَعْدُ فِي جَمِيعِ الدِّينِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ خِيَارٌ عَلَى قَضَاء رَسُول الله وَحُكْمِهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: كَانَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ بِنْتُ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(3/401)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوجك وَاتَّقِ الله} [وَقَوله: {وأنعمت عَلَيْهِ} يَعْنِي: زَيْدًا] .
قَالَ اللَّهُ للنَّبِيِّ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مبديه} أَيْ: مُظْهِرُهُ {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَق أَن تخشاه} أَيْ: تَخْشَى عَيْبَةَ النَّاسِ {فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا} الْوَطَرُ: الْحَاجَةُ {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزوَاج أدعيائهم} قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ: يَا مُحَمَّدُ، زَعَمْتَ أَنَّ حَلِيلَةَ الِابْنِ لَا تَحِلُّ لِلْأَبِ وَقَدْ تَزَوَّجْتَ حَلِيلَةَ ابْنِكَ زَيْدٍ! فَقَالَ اللَّهُ: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الْآيَة (ل 272) قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَتَى زَيْدًا زَائِرًا فَأَبْصَرَهَا قَائِمَةً فَأَعْجَبَتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: سُبْحَانَ الله مُقَلِّب المقلوب.(3/401)
فَرَأَى زَيْدٌ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ هَوِيَهَا. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِي طَلَاقِهَا؛ فَإِنَّ فِيهَا كِبْرًا، وَإِنَّهَا لَتُؤْذِينِي بِلِسَانِهَا! فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ(3/402)
عَلَيْكَ زَوْجَكَ. فَأَمْسَكَهَا زَيْدٌ مَا شَاءَ الله ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَلَمَّا قَضَتْ عِدَّتَهَا أَنْزَلَ اللَّهُ نِكَاحَهَا رَسُولَ اللَّهِ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَالَ {وَإِذْ تَقُولُ للَّذي أنعم الله عَلَيْهِ} إِلَى قَوْله: {زَوَّجْنَاكهَا} فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ زَيْدًا؛ فَقَالَ: ائْتِ زَيْنَبَ، فَأَخْبِرْهَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ زَوَّجَنِيهَا. فَانْطَلَقَ زيد، فَاسْتَفْتَحَ الْبَابَ؛ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: زَيْدٌ. قَالَتْ: وَمَا حَاجَةُ زَيْدٍ إِلَيَّ وَقَدْ طَلَّقَنِي؟ ! فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ؛ فَقَالَتْ: مرْحَبًا برَسُول رَسُول الله، فَفتح لَهُ؛ فَدَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالَ زَيْدٌ: لَا يُبْكِي اللَّهُ عَيْنَكِ، قَدْ كُنْتِ نِعْمَتَ الْمَرْأَةُ أَوْ قَالَ: الزَّوْجَةُ إِنْ كُنْتِ لَتَبَرِّينَ قَسَمِي، وَتُطِيعِينَ أَمْرِي، فَقَدْ أَبْدَلَكِ اللَّهُ خَيْرًا مِنِّي. قَالَتْ: مَنْ؛ لَا أَبَا لَكَ؟ فَقَالَ: رَسُول الله. فخرت سَاجِدَة.(3/403)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)
قَوْلُهُ: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} يَعْنِي: أَحَلَّ {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذين خلوا من قبل} أَيْ: أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ حَرَجٌ فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ، وَقَدْ أَحَلَّ لِدَاوُدَ مِائَةَ امْرَأَةٍ، ولسليمان ثَلَاثمِائَة إمرأة وَسَبْعمائة سُرِّيَةٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: نَصْبُ (سُنَّةَ) عَلَى الْمَصْدَرِ؛ الْمَعْنَى: سَنَّ اللَّهُ سنة.
سُورَة الْأَحْزَاب من (آيَة 40 آيَة 43) .(3/403)
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ من رجالكم} يَعْنِي: أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَكُنْ أَبًا لِزَيْدٍ، وَإِنَّمَا كَانَ زَيْدٌ دَعِيًّا لَهُ {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتم النَّبِيين} .(3/403)
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ (رَسُولَ الله) بِالنَّصْبِ فَعَلَى مَعْنَى: وَلَكِنْ كَانَ رَسُول الله.(3/404)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)
{يَا أَيهَا الَّذين آمنو اذْكروا الله ذكرا كثيرا} يَعْنِي: بِاللِّسَانِ، وَهَذَا ذِكْرٌ لَيْسَ فِيهِ وَقْتٌ.
يَحْيَى: عَنْ خَدَاشٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ سِيَاهٍ، عَنْ أَنَسِ ابْن مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَام: " مَا مِنْ قَوْمٍ اجْتَمَعُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إِلَّا وَجْهَهُ، إِلَّا نَادَاهُمْ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: قُومُوا مَغْفُورًا لَكُمْ، قَدْ بُدِّلَتْ سَيِّئَاتِكُمْ حَسَنَاتٍ ". مِنْ حَدِيثِ يحيى بن مُحَمَّد.(3/404)
{وسبحوه بكرَة وَأَصِيلا} تَفْسِيرُ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا فِي الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة(3/405)
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)
{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} تَفْسِيرُ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ: صَلَاةُ اللَّهِ: الرَّحْمَةُ، وَصَلَّاةُ الْمَلَائِكَةِ: الِاسْتِغْفَارُ. {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} يَعْنِي: من الضَّلَالَة إِلَى الْهدى.
سُورَة الْأَحْزَاب من (آيَة 44 48) .(3/405)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
{تحيتهم يَوْم يلقونه سَلام} يَقُولُ: تُحَيِّيهِمُ الْمَلَائِكَةُ عَنِ اللَّهِ بِالسَّلَامِ {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} يَعْنِي: الْجنَّة.(3/405)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)
{إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا} عَلَى أُمَّتِكَ تَشْهَدُ عَلَيْهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَهُمْ {وَمُبَشِّرًا} فِي الدُّنْيَا بِالْجنَّةِ {وَنَذِيرا} من النَّار(3/405)
وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)
{وداعيا إِلَى الله بِإِذْنِهِ} يَعْنِي: بِالْوَحْي {وسراجا منيرا} مضيئا(3/405)
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ الله فضلا كَبِيرا} يَعْنِي: الْجنَّة(3/405)
وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
{ودع أذاهم} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَقُولُ: اصْبِرْ عَلَيْهِ.
سُورَة الْأَحْزَاب (آيَة 49) .(3/405)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إِلَى قَوْله: {فمتعوهن} الْمَتَاعُ مَنْسُوخٌ إِذَا كَانَ قَدْ سَمَّى لَهَا صَدَاقًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَمْ يُسَمِّهِ لَهَا، فَيَكُونُ لَهَا الْمُتْعَةُ وَلَا صَدَاقَ لَهَا إِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي(3/405)
الْبَقَرَة {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} هَذَا قَوْلُ الْعَامَّةِ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ.
وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: لَهَا الْمَتَاعُ؛ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِامْرَأَتِهِ تَوَارَثَا وَلَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهَا النِّصْفُ إِذَا طَلَّقَهَا {وَسَرِّحُوهُنَّ سراحا جميلا} إِلَى أَهْلِيهِنَّ لَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ لَيْسَ بَينهمَا حُرْمَة.
سُورَة الْأَحْزَاب (آيَة 50) .(3/406)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
{يَا أَيهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتيت أُجُورهنَّ} يَعْنِي: صَدُقَاتِهِنَّ {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْك وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنَّبِي خَالِصَة لَك} {ل 273} يَقُوله للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام {من دون الْمُؤمنِينَ} لَا تَكُونُ الْهِبَةُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ إِلَّا للنَّبِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ؛ إِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَدْ تَطَوَّعَ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا، فَأَعْطَاهَا الصَّدَاقَ.
وَمَقْرَأُ الْعَامَّةِ: (أَنْ وَهَبَتْ) بِفَتْحِ (أَنْ) وَتَفْسِيرُهَا عَلَى هَذَا الْمَقْرَإِ: كَانَتِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، وَمَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ فَعَلَى الْمُسْتَقْبَلِ.(3/406)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَنْ قَرَأَ {أَنْ} بِالْفَتْحِ فَالْمَعْنَى: لِأَنَّ، وَ {خَالِصَةً} مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ. {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرضنَا عَلَيْهِم} أَي: أَوْحَينَا {فِي أَزوَاجهم} [أَلَّا تُنْكَحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشُهَدَاءَ وَصَدَاقٍ، وَلَا يَنْكِحُ الرَّجُلُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ] {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يَقُولُ: يَتَزَوَّجُ أَرْبَعًا إِنْ شَاءَ، وَيَطَأُ بِمِلْكِ يَمِينِهِ مَا شَاءَ {لكيلا يكون عَلَيْك حرج} أَي: إِثْم.
سُورَة الْأَحْزَاب من (آيَة 51 آيَة 52) .(3/407)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
{ترجي من تشَاء مِنْهُنَّ} رَجِعَ إِلَى قِصَّةِ النَّبِيِّ.
تَفْسِيرُ الْحسن: يذكر النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام الْمَرْأَةَ لِلتَّزْوِيجِ ثُمَّ يُرْجِيهَا؛ أَيْ: يَتْرُكُهَا فَلَا يَتَزَوَّجُهَا، وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ امْرَأَةً لِيَتَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْرِضَ لِذِكْرِهَا؛ حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا أَوْ يَتْرُكَهَا. {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ من تشَاء} أَيْ: تَتَزَوَّجُ مَنْ تَشَاءُ {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْك} يَقُولُ: لَيْسَتْ [عَلَيْكَ] لَهُنَّ قِسْمَةٌ (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ(3/407)
أعينهن} إِذَا عَلِمْنَ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ الله {وَلَا يحزن} عَلَى أَنْ تَخُصَّ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ دُونَ الْأُخْرَى {وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ} مِنَ الْخَاصَّةِ الَّتِي تَخُصُّ مِنْهُنَّ لحاجتك.(3/408)
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ من أَزوَاج} يَعْنِي: أَزْوَاجَهُ التِّسْعَ، قَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ نِسَاءَهُ، فَاخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَصَرَهُ عَلَيْهِنَّ {وَلَو أعْجبك حسنهنَّ} يَعْنِي: حسن غيرما أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ؛ عَلَى مَا مَضَى مِنْ تَفْسِيرِ الْحَسَنِ {إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} يَطَأُ بِمَلْكِ يَمِينِهِ مَا شَاءَ {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رقيبا} يَعْنِي: حفيظا.
سُورَة الْأَحْزَاب من (آيَة 53 55) .(3/408)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: مُتَحَيِّنِينَ حِينَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: غَيْرَ مُنْتَظِرِينَ وَقْتَ إِدْرَاكِهِ؛ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِد(3/408)
و {غير} مَنْصُوبَةٍ عَلَى الْحَالِ. {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} أَيْ: تَفَرَّقُوا {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} يَعْنِي: بَعْدَ أَنْ تَأْكُلُوا {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحق} يُخْبِرُهُمْ أَنَّ هَذَا يُؤْذِي النَّبِيَّ. {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وقلوبهن} يَعْنِي: مِنَ الرِّيبَةِ وَالدَّنَسِ؛ فِي تَفْسِيرِ السُّدِّيِّ {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبدا} قَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: لَوْ قد مَاتَ تَزَوَّجْنَا نِسَاءَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَو تُخْفُوهُ} يَعْنِي مَا قَالُوا: لَوْ قَدْ مَاتَ تَزَوَّجْنَا نِسَاءَهُ. {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُل شَيْء عليما} ثُمَّ اسْتَثْنَى مَنْ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ فِي الْحِجَابِ فَقَالَ:(3/409)
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
{لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} إِلَى قَوْله: {وَلَا نسائهن} يَعْنِي: الْمُسْلِمَاتُ {وَلا مَا مَلَكَتْ أيمانهن} وَكَذَلِكَ الرَّضَاعُ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي ذُكِرَ مِمَّنْ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ فِي الْحجاب.
سُورَة الْأَحْزَاب (آيَة 56) .(3/409)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي} يَعْنِي: أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِلنَّبِيِّ، وَتَسْتَغْفِر لَهُ الْمَلَائِكَة {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا صلوا عَلَيْهِ} يَعْنِي: اسْتَغْفِرُوا لَهُ {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .(3/409)
يَحْيَى: عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ صَاحِبِ الرُّمَّانِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: " جَاءَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، فَقَالَ: أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً، بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ الله إِذْ قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَرَفْنَا السَّلَامَ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ؛ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ".
يَحْيَى: عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " أَكْثرُوا عَليّ (ل 274) الصَّلَاة يَوْم الْجُمُعَة ".
سُورَة الْأَحْزَاب من (آيَة 57 آيَة 58) .(3/410)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ كَانُوا يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ، وَيَسْتَخِفُّونَ بِحَقِّهِ، وَيَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْده ويكذبون عَلَيْهِ(3/411)
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكتسبوا} يَعْنِي: جَنَوْا؛ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ {فَقَدِ احتملوا بهتانا} كذبا {وإثما مُبينًا} بَيِّنًا.
يَحْيَى: عَنِ النَّضْرِ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ يَوْمًا فَنَادَى بِصَوْتٍ أَسْمَعَ الْعَوَاتِقَ فِي الْخُدُورِ: يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُسْلِمْ بِقَلْبِهِ، أَلَا لَا تُؤْذُوا الْمُؤْمِنِينَ وَلَا تَغْتَابُوهُمْ، وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ فَضَحَهُ فِي بَيته ".(3/411)
سُورَة الْأَحْزَاب (آيَة 59) .(3/412)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
{يدنين عَلَيْهِنَّ من جلابيبهن} وَالْجِلْبَابُ الرِّدَاءُ؛ يَعْنِي: يَتَقَنَّعْنَ بِهِ {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يؤذين} أَيْ: يُعْرَفَ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ مُسْلِمَاتٌ عَفَائِفُ فَلا يُؤْذَيْنَ؛ أَيْ: فَلا يُعَرَّضُ لَهُنَّ بِالْأَذَى، وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَتَعَرَّضُونَ النِّسَاءَ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانُوا يَلْتَمِسُونَ الْإِمَاءَ، وَلَمْ يَكُنْ تُعْرَفُ الْحُرَّةُ مِنَ الْأَمَةِ بِاللَّيْلِ؛ فَلَقِيَ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ أَذًى شَدِيدًا؛ فَذَكَرْنَ ذَلِكَ لِأَزْوَاجِهِنَّ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ؛ فَنَزَلْتَ هَذِهِ الْآيَةُ.
يَحْيَى: عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى أَمَةً عَلَيْهَا قِنَاعٌ، فَعَلَاهَا بِالدِّرَّةِ، وَقَالَ: اكْشِفِي رَأْسَكِ وَلَا تشبهي بالحرائر! ".(3/412)
سُورَة الْأَحْزَاب من (آيَة 60 آيَة 62) .(3/413)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)
{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَة} وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ يُرْجِفُونَ بِالنَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ يَقُولُونَ: يَهْلَكُ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابَهُ! {لَنُغْرِيَنَّكَ بهم} أَيْ: لَنَسُلِّطَنَّكَ عَلَيْهِمْ {ثُمَّ لَا يجاورونك فِيهَا إِلَّا قَلِيلا} .(3/413)
مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)
{ملعونين} قَالَ مُحَمَّد: {معلونين} مَنْصُوب على الْحَال؛ فَالْمَعْنى: لَا يُجَاوِرُونَكَ إِلَّا وَهُمْ مَلْعُونُونَ.(3/413)
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا من قبل} أَي: من أظهر الشّرك قَبْلُ، وَهَذَا إِذَا أُمِرَ النَّبِيُّونَ بِالْجِهَادِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: {سُنَّةَ اللَّهِ} مَصْدَرٌ؛ الْمَعْنَى: (سَنَّ) اللَّهُ سُنَّةً.
سُورَة الْأَحْزَاب من (آيَة 63 آيَة 68) .(3/413)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)
{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا علمهَا عِنْد الله} أَيْ: لَا يَعْلَمُ مَتَى مَجِيئُهَا إِلَّا اللَّهُ {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَة تكون قَرِيبا} أَي: أَنَّهَا قريب(3/414)
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)
{يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرسولا} وَإِنَّمَا صَارَت {الرسولا} و {السبيلا} ؛ لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ وَهَذَا جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، إِذَا كَانَتْ مُخَاطَبَةً.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الِاخْتِيَارُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: (السَّبِيلَا) بِالْأَلِفِ وَأَنْ يُوْقَفَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ أَوَاخِرَ الْآيِ وَفَوَاصِلَهَا يَجْرِي فِيهَا مَا يَجْرِي فِي أَوَاخِرِ أَبْيَاتِ الشِّعْرِ وَمَصَارِعِهَا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا خُوْطِبَ الْعَرَبُ بِمَا يَعْقِلُونَهُ فِي الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ، فَيُدَلُّ بِالْوَقْفِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَزِيَادَةُ الْحُرُوفِ نَحْو {الظنونا} و {السبيلا} و {الرسولا} أَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ قَدْ تَمَّ وَانْقَطَعَ وَأَنَّ مَا بَعْدَهُ مُسْتَأَنَفٌ.(3/414)
وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)
{رَبنَا إِنَّا أَطعْنَا سادتنا} وَهِي تقْرَأ على وَجه آخر: {سَادَاتِنَا} وَالسَّادَةُ جَمَاعَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالسَّادَاتُ جمَاعَة الْجَمَاعَة {وكبراءنا} أَي: فِي الضَّلَالَة(3/414)
رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
{رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} أَيْ: مِثْلَيْنِ. {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} وتقرأ (كثيرا) .
سُورَة الْأَحْزَاب من (آيَة 69 آيَة 73) .(3/414)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذوا مُوسَى} الْآيَةُ.
يَحْيَى: عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُوسَى آدر، وَكَانَ إِذا ذخل الْمَاءَ لِيَغْتَسِلَ وَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى صَخْرَةٍ. قَالَ: فَدَخَلَ الْمَاءَ يَوْمًا وَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلى صَخْرَةٍ فَتَدَهْدَهَتْ، فَخَرَجَ يَتْبَعُهَا فَرَأَوْهُ، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ".(3/415)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)
{وَقُولُوا قولا سديدا} أَي: عدلا؛ وَهُوَ: لَا إِلَه إِلَّا الله(3/415)
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
{يصلح لكم أَعمالكُم} لَا يَقْبَلُ الْعَمَلَ إِلَّا مِمَّنَ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مخلصا من قلبه.(3/415)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
{إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة} الْآيَةُ، تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ عَرَضَ الْعِبَادَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ أَنْ يأخذوها بِمَا فِيهَا، فَلَنْ: وَمَا فِيهَا؟ قِيلَ: إِنْ أَحْسَنْتُنَّ جوزيتن (ل 275) وَإِنْ أَسَأَتُنَّ عُوْقِبْتُنَّ {فَأَبَيْنَ أَنْ يحملنها} وَعَرَضَهَا عَلَى الْإِنْسِانِ وَالْإِنْسَانُ: آدَمُ فَقَبِلَهَا.
يَحْيَى: عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ " أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ} إِلَى قَوْلِهِ: (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكين(3/415)
والمشركات} فَقَالَ: هُمَا اللَّذَانِ ظَلَمَاهَا، هُمَا اللَّذَانِ خَانَاهَا: الْمُنَافِقُ وَالْمُشْرِكُ ". {وَكَانَ الله غَفُورًا} لِمَنْ تَابَ مِنْ شِرْكِهِ {رَحِيمًا} لِلْمُؤْمِنِينَ.(3/416)
تَفْسِيرُ سُورَةِ سَبَأَ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كلهَا
سُورَة سبأ من آيَة 1 إِلَى آيَة 5
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم(4/5)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)
قَوْله: {الْحَمد لله} , حَمَدَ نَفْسَهُ وَهُوَ أَهْلُ الْحَمْدِ {الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَة وَهُوَ الْحَكِيم} فِي أَمْرِهِ أَحْكَمَ كُلَّ شيءٍ {الْخَبِير} بخلقه(4/5)
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} مِنَ الْمَطَرِ {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} مِنَ النَّبَاتِ {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاء} مِنَ الْمَطَرِ وَغَيْرِ ذَلكَ {وَمَا يعرج فِيهَا} أَيْ: يَصْعَدُ يَعْنِي: مَا تَصْعَدُ بِهِ الْمَلائِكَةُ {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} لمن آمن.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: عَرَج يعرُجُ إِذا صَعِدَ , وعرِجَ - بالكسْر - يعرَجُ إِذا صَار أعْرجَ.(4/5)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَة} الْقِيَامَة {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالم الْغَيْب} من قَرَأَهَا بِالرَّفْع رَجَعَ إِلَى قَوْله: {وَهُوَ الرَّحِيم الغفور} عالِمُ الْغَيْب , وَمن قَرَأَهَا بِالْجَرِّ: (عالمِ الغيبِ) يَقُولُ: بلَى وربي عالمِ الغيْب، وفيهَا تقديمٌ، والغيبُ فِي تَفْسِير الْحَسَن فِي هَذَا الْموضع: مَا لم يكن {لَا يعزب عَنهُ} أَي: لَا يغيب {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} أَي: وزن ذرة يَقُولُ: ليعلم ابْن آدم أَن عمله الَّذِي عَلَيْهِ الثَّوَاب وَالْعِقَاب لَا يغيبُ عَن اللَّه مِنْهُ مِثْقَال ذرةٍ(4/6)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
{أُولَئِكَ لَهُم مغْفرَة} لذنوبهم {ورزق كريم} يَعْنِي: الْجنَّة(4/6)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
{وَالَّذين سعوا} عمِلُوا {فِي آيَاتنَا معاجزين} تَفْسِير الْحَسَن: مسابقين؛ أيْ: يظنون أَنهم يسْبقوننا حَتَّى لَا نقدر عَلَيْهِم فنبعثهم ونعذبهم.
قَالَ محمدٌ: يُقَال: مَا أَنْت بمعاجزي؛ أَي: بمُسابقي، وَمَا أَنْت بمعجزي؛ أَي: بسابقي.
{أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رجز} وَالرجز: الْعَذَاب؛ أَي: لَهُم عذابٌ من عَذَاب {أَلِيم} موجع.
سُورَة سبأ الْآيَات من الْآيَة 6 حَتَّى الْآيَة 9.(4/6)
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
{وَيرى الَّذين أُوتُوا الْعلم} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ {الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ من رَبك هُوَ الْحق} أَي: يعلمُونَ أَنَّهُ هُوَ الْحق {وَيهْدِي} أَي: ويعلمون أَن الْقُرْآن يهدي {إِلَى صِرَاط} إِلَى طَرِيق {الْعَزِيز الحميد} المستحمد إِلَى خلقه.(4/7)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)
{وَقَالَ الَّذين كفرُوا} قَالَه بَعضهم لبعضٍ {هَلْ نَدُلُّكُمْ} أَلا ندلكم {على رجل} يعنون: مُحَمَّدًا {ينبئكم} يُخْبِركُمْ {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُم لفي خلق جَدِيد} أَي: إِذا متم وتفرّقت عظامُكم وَكَانَت رُفاتًا أَنكُمْ لمبعوثون خلقا جَدِيدا - إِنْكَار للبعث؟(4/7)
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)
قَالَ اللَّه: {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة فِي الْعَذَاب} فِي الْآخِرَة {والضلال} فِي (الدّين) {الْبعيد} من الْهدى(4/7)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
{أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْديهم} يَعْنِي: أمامهم {وَمَا خَلفهم} يَعْنِي: وَرَاءَهُمْ {مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاء} الكسف: الْقطعَة.
سُورَة سبأ الْآيَات من الْآيَة 10 حَتَّى الْآيَة 11.(4/7)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا} يَعْنِي: النُّبُوَّة {يَا جِبَالُ أَوِّبِي} قُلْنَا: يَا جبال أوبي مَعَه؛ أَي: سبحي.(4/7)
قَالَ محمدٌ: ذكر ابْن قُتَيْبَة أَن أصل الْكَلِمَة من التأويب فِي السَّفر. قَالَ: وَهُوَ أَن [يسير] النَّهَار كُله وَينزل لَيْلًا كَأَن الْمَعْنى: أَوِّبي النَّهَار كُله بالتسبيح.
وَذكر الزّجاج: أَن أصل الْكَلِمَة من آبَ يئوب؛ إِذا رَجَعَ، كَأَنَّهُ أَرَادَ: سبحي مَعَه ورَجِّعي التَّسْبِيح؛ فاللَّه أعلم مَا أَرَادَ.
{وَالطير} هُوَ كَقَوْلِه: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجبَال يسبحْنَ وَالطير} أَي: وسخرنا لَهُ الطير {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيد} ألانه اللَّه لَهُ؛ فَكَانَ يعمله بِلَا نارٍ وَلَا مطرقة بأصابعه الثَّلَاثَة(4/8)
أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
{أَن اعْمَلْ سابغات} وَهِي الدروع {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} تَفْسِير مُجَاهِد: لَا تصغر المسمار وتعظم الْحلقَة؛ فيسلس، وَلَا تعظم المسمار وتصغر الْحلقَة فتنفصم الْحلقَة.
قَالَ محمدٌ: السابغ: الَّذِي يُغطي كل مَا تَحْتَهُ حَتَّى [يفضل وَذكر] (ل 276) لِأَنَّهَا تدل عَلَى الْمَوْصُوف وَمعنى السّرد: النّسْجُ، وَيُقَال للحرز أَيْضا: سرْدٌ، وَيُقَال لصانع الدِّرع: سرّاد وزرَّادٌ؛ تبدل من السِّين: الزَّاي.(4/8)
سُورَة سبأ الْآيَات من الْآيَة 12 حَتَّى الْآيَة 14.(4/9)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)
{ولسليمان الرّيح} أَي: وسخرنا لِسُلَيْمَان الرّيح {غُدُوُّهَا شهر ورواحها شهر} قَالَ الْحَسَن: وَكَانَ سُلَيْمَان إِذا أَرَادَ أَن يركب جَاءَت الرّيح فَوضع سَرِير مَمْلَكَته عَلَيْهَا وَوضع الكراسي والمجالس عَلَى الرّيح، وَجلسَ وُجُوه أَصْحَابه عَلَى مَنَازِلهمْ فِي الدِّين من الْجِنّ وَالْإِنْس يومئذٍ، وَالْجِنّ يَوْمئِذٍ ظَاهِرَة للإنس يَحُجُّون جَمِيعًا وَيصلونَ جَمِيعًا، وَالطير ترفرف عَلَى رَأسه ورءوسهم، وَالشَّيَاطِين حَرسُه لَا يتركون أحدا يتقدَّم بَين يَدَيْهِ {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} يَعْنِي: الصُّفر؛ فِي تَفْسِير مُجَاهِد سَالَتْ لَهُ مثل المَاء {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذن ربه} يَعْنِي: السُّخرة الَّتِي سخّرها اللَّه لَهُ {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أمرنَا} يَعْنِي: عَن طَاعَة اللَّه وعبادته {نذقه من عَذَاب السعير} فِي الْآخِرَة(4/9)
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ محاريب} يَعْنِي: الْمَسَاجِد والقصور؛ فِي تَفْسِير الكَلْبي.
قَالَ محمدٌ: يُقَال لأشرف مَوضِع فِي الدَّار أَو فِي الْبَيْت: محراب.(4/9)
قَوْله: {وتماثيل} يَعْنِي: صورًا من نُحَاس.
قَالَ الْحَسَن: ولمْ تكن الصُّور يومئذٍ محرَّمة {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِي} يَعْنِي: صحافًا كالحياض.
قَالَ محمدٌ: الجوابي جمع: جابية.
{وقدور راسيات} أَي: ثابتاتٌ فِي الأَرْض عِظَام لَا تحوَّل عَن أماكنها {اعْمَلُوا آل دَاوُد شكرا} أَي: توحيدًا. قَالَ بَعضهم: لما نزلت لم يزل إنسانٌ مِنْهُم قَائِما يُصَلِّي.
قَالَ: {وَقَلِيلٌ مِنْ عبَادي الشكُور} أَي: أقل النَّاس الْمُؤمن(4/10)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
{فَلَمَّا قضينا} أنزلنَا {عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ} وَهِي الأرضةُ؛ فِي تَفْسِير مُجَاهِد {تَأْكُل منسأته} أَي: عَصَاهُ.
قَالَ محمدٌ: وأصل الْكَلِمَة من قَوْلك: نسأت الدَّابَّة؛ إِذا سُقْتَهَا، فَقيل للعصاة: مِنْسَأةٌ.
وَأنْشد بَعضهم:
(إِذا دببت عَلَى المنساة من كبر ... فقد تبَاعد مِنْك اللَّهْو والغول)
وَفِيه لغةٌ أُخْرَى {تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} مَهْمُوزَة.(4/10)
قَالَ يحيى: مكث سُلَيْمَان حولا وَهُوَ متوكئ عَلَى عَصَاهُ لَا يعلمُونَ أَنَّهُ مَاتَ. وَذَلِكَ أَن الشَّيَاطِين كَانَت تزْعم للإنس أَنهم يعلمُونَ الْغَيْب، فَكَانُوا يعْملُونَ لَهُ حولا لَا يعلمُونَ أَنَّهُ مَاتَ.
قَالَ {فَلَمَّا خر} سُلَيْمَان؛ أَي: سقط {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} للإنس {أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ المهين} يَعْنِي: الْأَعْمَال [الَّتِي] سخرهم فِيهَا.
سُورَة سبأ الْآيَات من الْآيَة 15 حَتَّى الْآيَة 17.(4/11)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْاكَنِهِمْ آيَةٌ} أَي: لقد تبيّن لأهل سبإٍ؛ كَقَوْلِه: {واسأل الْقرْيَة} أَي: أهل الْقرْيَة.
قَالَ محمدٌ: قد مضى القَوْل فِي (سبإٍ) فِي تَفْسِير سُورَة النَّمْل، وَاخْتِلَاف الْقِرَاءَة فِيهِ، والتأويل.
قَالَ يحيى: ثمَّ أخبر بِتِلْكَ الْآيَة؛ فَقَالَ: {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} جنَّة(4/11)
عَن يَمِين، وجنةٌ عَن شمال {بَلْدَة طيبَة وَرب غَفُور} لمن آمن.
قَالَ محمدٌ {جَنَّتَانِ} بدل من {أيه} و {رب غَفُور} مَرْفُوع على معنى وَالله رب غَفُور.(4/12)
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
{فأعرضوا} عَمَّا جَاءَت بِهِ الرسُلُ {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِم سيل العرم} والعَرِمُ: الجسْرُ يُحبَسُ بِهِ المَاء، وَكَانَ سدًّا قد جعل فِي موضعٍ من الْوَادي [تَجْتَمِع] فِيهِ الْمِيَاه.
قَالَ مُجَاهِد: إِن ذَلكَ السَّيْل الَّذِي أرسَلَ اللَّه عَلَيْهِم من العرم مَاء أحْمَر، أَتَى اللَّه بِهِ من حَيْثُ شَاءَ، وَهُوَ شقّ السّدّ وهدَمَه. وحفر بطن الْوَادي عَن الجنّتيْن؛ فارتفعتا وغارَ عَنْهُمَا المَاء فيبستا قَالَ: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ} أَي: ثَمَرَة {خمط} وَهُوَ الْأَرَاك {وأثل} .
وَقَالَ محمدٌ: والأثل شَبيه بالطّرفاء، وَاخْتلف أهل اللُّغَة فِي مد الطّرفاء وقصره، وَأَكْثَرهم على الْمَدّ.(4/12)
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نجازي} أَي نعاقب {إِلَّا الكفور} .
قَالَ محمدٌ: قِيلَ معنى المجازاة هَا هُنَا: أَنَّهُ لَا يغْفر لَهُ، وَإِنَّمَا الْمَغْفِرَة لأهل الْإِيمَان.
سُورَة سبأ الْآيَات من الْآيَة 18 حَتَّى الْآيَة 19.(4/12)
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)
{وَجَعَلنَا بَينهم} أَي: وَكُنَّا جعلنَا بَينهم {وَبَيْنَ الْقرى الَّتِي باركنا فِيهَا} يَعْنِي: أَرض الشَّام {قُرًى ظَاهِرَةً} أَي: مُتَّصِلَة؛ ينظر بَعْضهَا إِلَى بعض {وقدرنا فِيهَا السّير} (ل 277) تَفْسِير الْكَلْبِيّ: يَعْنِي المقيل وَالْمَبِيت {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنْينَ} كَانُوا يَسِيرُونَ مسيرَة أَرْبَعَة أشهر فِي أَمَان لَا يُحَرك بَعضهم بَعْضًا، وَلَو لَقِي الرجلُ قاتِلَ أَبِيه لم يحركه(4/13)
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} قَالَ الْحَسَن: ملوا النِّعْمَة؛ كَمَا ملّت بَنو إِسْرَائِيل المنَّ والسَّلوى. قَالَ الله {وظلموا أنفسهم} . بشركهم {فجعلناهم أَحَادِيث} . لمَن بعدهمْ {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أَي: بدَّدْنا عظامهم وأوصالهم [فأكلهم] التُّرابُ.
قَالَ: محمدٌ وَقد قِيلَ فِي قَوْله: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أَي: مزّقناهمْ فِي الْبِلَاد؛ لأَنهم لما أذهب الله جنتيهم وغرق مكانهم تبدّدُوا فِي الْبِلَاد؛ فَصَارَت الْعَرَب تتمثل بهم فِي الْفرْقَة فَتَقول: تفرّقوا أَيدي سبأ، وأيادي سبأ؛ إِذا أخذُوا فِي وجوهٍ مُخْتَلفَة.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لكل صبار} على أَمر الله {شكور} لنعمة الله وَهُوَ الْمُؤمن.
سُورَة سبأ الْآيَات من الْآيَة 20 حَتَّى الْآيَة 22.(4/13)
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} يَعْنِي: جَمِيع الْمُشْركين {فَاتَّبَعُوهُ إِلا فريقا من الْمُؤمنِينَ} قَالَ بَعضهم: قَالَ إِبْلِيس: خُلِقتُ من نارٍ وخُلِقَ آدم من طينٍ، وَالنَّار تَأْكُل الطين! فَلذَلِك ظن أَنَّهُ سيضل عامتهم.
قَالَ محمدٌ: وَمن قَرَأَ: {صَدَقَ} بِالتَّخْفِيفِ نصبَ الظنَّ مصْدَرًا عَلَى معنى: صدق عَلَيْهِم إِبْلِيس ظنا ظَنّه، وَصدق فِي ظَنّه.(4/14)
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
{وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَان} هُوَ كَقَوْلِه: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُم عَلَيْهِ بفاتنين} يَقُولُ: لَسْتُم بمضلي أحدٍ {إِلا من هُوَ صال الْجَحِيم} .
قَوْله: {إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَة} وَهَذَا علم الفعال {مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شكّ} وَإِنَّمَا جحد الْمُشْركُونَ الْآخِرَة ظنًّا مِنْهُم وشكًّا {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْء حفيظ} حَتَّى يجازيهم فِي الْآخِرَة.(4/14)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
{وَمَا لَهُم فيهمَا} يَعْنِي: السَّمَاوَات وَالْأَرْض {وَمن شرك} أَي: مَا خلقُوا شَيْئا مِمَّا فيهمَا {وَمَا لَهُ مِنْهُم} أَي: وَمَا لله من أوثانهم {من ظهير} أَي: عُوين.(4/14)
سُورَة سبأ الْآيَات من الْآيَة 23 حَتَّى الْآيَة 24.(4/15)
وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
{وَلَا تَنْفَع الشَّفَاعَة عِنْده} عِنْد اللَّه {إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أَي: لَا يشفع الشافعون إِلَّا للْمُؤْمِنين.
{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبهم} الْآيَة. قَالَ يحيى: إِن أهل السَّمَاوَات لم يسمعوا الوحْيَ فِيمَا بَين عِيسَى وَمُحَمّد؛ فَلَمَّا بعث اللَّه جِبْرِيل بِالْوَحْي إِلَى محمدٍ سَمِعَ أهل السَّمَاوَات صوتَ الْوَحْي مثل جر السلاسِل عَلَى الصخور - أَو الصَّفا - فَصعِقَ أهل السَّمَاوَات مَخَافَة أَن تَقُوم السَّاعَة، فَلَمَّا فرغ من الْوَحْي، وانحذر جِبْرِيل جعل كلما يمُرُّ بِأَهْل سَمَاء فزع عَن قُلُوبهم - يَعْنِي: خُلي عَنْهَا - فَسَأَلَ بَعضهم بَعْضًا - يسْأَل أهل كل سَمَاء الَّذين فَوْقهم إِذا خُلي عَن قُلُوبهم مَاذَا قَالَ ربكُم؟ فَيَقُولُونَ الْحق؛ أَي: هُوَ الْحق - يعنون: الْوَحْي.
قَالَ محمدٌ: وَقيل: إِن تَأْوِيل {فزع عَن قُلُوبهم} أَي: كشف اللَّه الْفَزع عَن قُلُوبهم.(4/15)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَو فِي ضلال مُبين} بيِّن، وَهِي كلمة عَرَبِيَّة؛ يَقُولُ الرجل لصَاحبه: إنَّ أَحَدنَا لصَادِق - يَعْنِي: نَفسه - وَكَقَوْلِه: إنّ أَحَدنَا لكاذبِ؛ يَعْنِي صَاحبه - أَي: نَحْنُ عَلَى الْهدى وَأَنْتُم فِي ضلالٍ مُبين، وَكَانَ هَذَا بِمَكَّة وَأمر الْمُسلمين يَوْمئِذٍ ضَعِيف.
سُورَة سبأ الْآيَات من الْآيَة 25 حَتَّى الْآيَة 27.(4/15)
قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)
{قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نسْأَل عَمَّا تَعْمَلُونَ} كَقَوْلِه {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ}(4/16)
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
{ثمَّ يفتح بَيْننَا بِالْحَقِّ} أَي: يقْضِي {وَهُوَ الفتاح} القَاضِي {الْعَلِيم} بخلقه.(4/16)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
{قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاء} أَي: جعلتموهم شُرَكَاء؛ فعبدتموهم، يَقُولُ: أروني مَا نفعوكم وأجابوكم بِهِ! كلَّا لَسْتُم بالذين تأتون بِمَا نفعوكم وأجابوكم بِهِ إِذْ كُنْتُم تدعونهم؛ أَي: أَنهم لم ينفعوكم وَلم يجيبوكم، ثمَّ اسْتَأْنف الْكَلَام؛ فَقَالَ {كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: هُوَ الَّذِي لَا شريك لَهُ وَلَا ينفع إِلَّا هُوَ.
سُورَة سبأ الْآيَات من الْآيَة 28 حَتَّى الْآيَة 31.(4/16)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ} يَعْنِي: جمَاعَة الْإِنْس وَإِلَى جمَاعَة الْجِنّ {بشيرا} بِالْجنَّةِ {وَنَذِيرا} من النَّار {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أَنهم مبعوثون ومجاوزون.(4/16)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ} لن نصدق {بِهَذَا الْقُرْآن وَلَا بِالَّذِي بَين يَدَيْهِ} يعنون: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل.
{وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ} أَي: الْمُشْركُونَ {مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} يَوْم الْقِيَامَة {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} وهم السفلة (ل 278) {للَّذين استكبروا} وهم الرؤساء.
سُورَة سبأ الْآيَات من الْآيَة 32 حَتَّى الْآيَة 36.(4/17)
وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
{بل مكر اللَّيْل وَالنَّهَار} أَي: بل قَوْلكُم لنا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّه ونجعل لَهُ أندادا} يَعْنِي: أوثانهم عدلوها بِاللَّه فعبدوها دونه(4/17)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِير إِلَّا قَالَ مترفوها} يَعْنِي: أهل السعَة وَالنعْمَة(4/17)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لمن يَشَاء وَيقدر} أَي: يقتر {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} يَعْنِي: جمَاعَة الْمُشْركين {لَا يعلمُونَ} .
سُورَة سبأ الْآيَات من الْآيَة 37 حَتَّى الْآيَة 39.(4/17)
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)
{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تقربكم عندنَا زلفى} الزلفى: الْقرْبَة {إِلا مَنْ آمَنَ} أَي: لَيْسَ الْقرْبَة عندنَا إِلَّا لمن آمن وَعمل صَالحا {فَأُولَئِكَ لَهُم جَزَاء الضعْف} يَعْنِي: تَضْعِيف الْحَسَنَات؛ كَقَوْلِه {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ثمَّ نزل بعد ذَلكَ بِالْمَدِينَةِ: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سبع سنابل} الْآيَة.(4/18)
{وَالَّذين يسعون} يعْملُونَ {فِي آيَاتنَا معاجزين} أيْ: يظنون أَنهم يسْبقوننا حَتَّى لَا نقدر عَلَيْهِم فنعذبهم {أُولَئِكَ فِي الْعَذَاب محضرون} مدخلون(4/18)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
{وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ} أَي: فِي طَاعَة اللَّه {فَهُوَ يخلفه} تَفْسِير السّديّ: {فَهُوَ يخلفه} ؛ يَعْنِي: فِي الْآخِرَة؛ أَي: يعوضهم بِهِ الْجنَّة.
سُورَة سبأ الْآيَات من الْآيَة 40 حَتَّى الْآيَة 42.(4/18)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40)
{وَيَوْم يحشرهم جَمِيعًا} يَعْنِي: الْمُشْركين وَمَا عبدُوا (ثُمَّ نَقُولُ(4/18)
لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} يجمع اللَّه يَوْم الْقِيَامَة بَين الْمَلَائِكَة ومَنْ عَبدهَا، فَيَقُول للْمَلَائكَة: أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يعْبدُونَ؟ عَلَى الِاسْتِفْهَام وَهُوَ أعلم بذلك مِنْهُم(4/19)
قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
{قَالُوا} {قَالَت الْمَلَائِكَة} (سُبْحَانَكَ} ينزِّهون اللَّه عَمَّا قَالَ الْمُشْركُونَ.
{أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم} أَي: أَنَا لمْ نَكُنْ نواليهم عَلَى عِبَادَتهم إيانًا {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} الشَّيَاطِينَ هِيَ الَّتِي دَعَتْهُمْ إِلَى عبادتنا؛ فهم بطاعتهم الشَّيَاطِين عَابِدُونَ لَهُم {بل أَكْثَرُهُم} يَعْنِي: جمَاعَة الْمُشْركين {بِهِم} أَي: بالشياطين {مُّؤْمِنُونَ} مصدقون بِمَا وسوسوا إِلَيْهِم بِعبَادة من عبدُوا؛ فعبدوهم(4/19)
فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
{وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} {أشركوا} (ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} وهم جَمِيعًا قرناء فِي النَّار: الشَّيَاطِين، وَمن أَضَلُّوا؛ يلعن بعضُهم بَعْضًا، وَيَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ.
سُورَة سبأ الْآيَات من الْآيَة 43 حَتَّى الْآيَة 45.(4/19)