بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
صلى الله على مُحَمَّد نَبِي الرَّحْمَة، وعَلى آله وَسلم.
قَالَ أَبُو عمر: قرئَ على أبي عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي زمنين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقرطبة [فِي] شعْبَان سنة خمس وَتِسْعين وثلاثمائة:
الْحَمد لله الَّذِي أنزل الْكتاب على مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله؛ ليَكُون للْعَالمين نذيرا، وَجعله دَاعيا إِلَيْهِ وسراجا منيرا؛ فَبلغ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم مَا أرسل بِهِ، ونصح لمن أرسل إِلَيْهِ، وَكَانَ كَمَا وَصفه الله بِالْمُؤْمِنِينَ رءوفا رحِيما صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَسْلِيمًا.
وَبعد؛ فَإِنِّي قَرَأت كاب يحيى بن سَلام فِي تَفْسِير الْقُرْآن، فَوجدت فِيهِ تَكْرَارا كثيرا، وَأَحَادِيث (ذكرهَا) ؛ يقوم علم التَّفْسِير دونهَا، فطال بذلك الْكتاب [وَإنَّهُ للَّذي] خبرته من قلَّة نشاط أَكثر الطالبين للعلوم فِي زَمَاننَا هَذَا - إِلَّا إِلَى مَا يخف فِي هَذَا الْكتاب على الدارس، وَيقرب للمقيد - نظرت فِيهِ، فاختصرت فِيهِ مكرره وَبَعض أَحَادِيثه، وزدت فِيهِ من غير كتاب يحيى تَفْسِير مَا لم يفسره يحيى، وتبعت ذَلِك إعرابا كثيرا ولغة؛ على مَا نقل عَن النَّحْوِيين، وَأَصْحَاب اللُّغَة السالكين لمناهج الْفُقَهَاء فِي التَّأْوِيل؛ زَائِدا على الَّذِي ذكره يحيى من ذَلِك.
وأبتدئ بِبَعْض مَا افْتتح بِهِ يحيى كِتَابه؛ فَمن ذَلِك: أَنه قَالَ: حَدثنِي سُفْيَان(1/111)
الثَّوْريّ، عَن عبد الْأَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قَالَ فِي الْقُرْآن بِغَيْر علم، فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار ".
يَحْيَى: وَأَخْبَرَنِي صَاحِبٌ لِي، عَنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عُرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَة " أَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان قَالَ لعُثْمَان بن عَفَّان: مَا كنت صانعا إِذا قيل: قِرَاءَة فلَان، وَقِرَاءَة فلَان؛ كَمَا صنع أهل الْكتاب فأصنعه الْآن. فَجمع عُثْمَان النَّاس على هَذَا الْمُصحف؛ وَهُوَ حرف زيد ".
يحيى: وحَدثني الْحسن بْنِ [دِينَارٍ] عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين " أَن جِبْرِيل كَانَ يَأْتِي النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم فَيعرض عَلَيْهِ الْقُرْآن عرضة كل عَام؛ فَلَمَّا كَانَ الْعَام الَّذِي قبض فِيهِ، أَتَاهُ فَعرض عَلَيْهِ مرَّتَيْنِ ".
قَالَ ابْن سِيرِين: فَكَانُوا (يرَوْنَ أَن قراءتنا هَذِه) على العرضة الْآخِرَة.(1/112)
قَالَ يحيى: وحدثونا أَن السُّور لم تنزل كل سُورَة مِنْهَا جملَة، إِلَّا الْيَسِير مِنْهَا، وَلَكِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قد كَانَ سمى السُّور؛ فَكلما نزل من الْقُرْآن شَيْء، أَمر أَن يضعوه من السُّور فِي الْمَكَان الَّذِي يَأْمُرهُم بِهِ؛ حَتَّى تمت السُّور، وَكَانَ يَأْمر أَن يَجْعَل فِي بعض السُّور المكية من الْمدنِي، وَأَن يَجْعَل فِي بعض السُّور الْمَدِينَة من الْمَكِّيّ، وَكَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلام يَأْتِي النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُول: إِن الله - تبَارك وَتَعَالَى - يَأْمُرك أَن تجْعَل آيَة كَذَا بَين ظهراني كَذَا، وَكَذَا (بَين كَذَا وَكَذَا) من السُّورَة.
وَقد نزل الْمَكِّيّ قبل الْمدنِي وَأَن هَذَا [التَّأْلِيف الَّذِي] بَين السُّور لم ينزل على هَذَا التَّأْلِيف، وَلكنه وضع هَكَذَا، لم يَجْعَل الْمَكِّيّ من [السُّور] على حِدة؛ يتبع بعضه بَعْضًا فِي تأليف السُّور، وَلم يَجْعَل الْمدنِي من السُّور على حِدة؛ يتبع بعضه بَعْضًا فِي تأليف السُّور.
وَقد نزل بِمَكَّة بعض مَا أَمر بِهِ لما يكون بِالْمَدِينَةِ [يعْملُونَ بِهِ] إِذا قدمُوا الْمَدِينَة، وَأَن بعض الْآيَات نزلت الْآيَة مِنْهَا قبل الْآيَة، وَهِي بعْدهَا [فِي التَّأْلِيف، وَقد فسرنا هَذِه الْوُجُوه فِي موَاضعهَا من التَّفْسِير وَإِن مَا نزل بِمَكَّة، وَمَا نزل فِي طَرِيق الْمَدِينَة قبل أَن يبلغ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام الْمَدِينَة فَهُوَ من الْمَكِّيّ، وَمَا نزل على النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَسْفَاره بَعْدَمَا قدم الْمَدِينَة فَهُوَ من الْمدنِي] وَمَا كَانَ (ل 3) وَأَكْثَره مكي.(1/113)
قَالَ يحيى: وَلَا يعرف الْقُرْآن إِلَّا من عرف اثْنَتَيْ خصْلَة: الْمَكِّيّ وَالْمَدَنِي، والناسخ والمنسوخ، والتقديم وَالتَّأْخِير، والمقطوع والموصول، وَالْخَاص وَالْعَام، والإضمار والعربية.
قَالَ مُحَمَّد: وَجَمِيع مَا نقلته من كتاب يحيى أَخْبرنِي بِهِ أبي رَحمَه الله عَن أبي الْحسن عَليّ بن الْحسن، عَن أبي دَاوُد أَحْمد بن مُوسَى، عَن يحيى بن سَلام.
وَمِنْه مَا حَدثنِي بِهِ [أبي] عَن أبي الْحسن عَن يحيى بن مُحَمَّد بن يحيى ابْن سَلام عَن أَبِيه، عَن جده، وكل مَا أدخلته من طَرِيق يحيى بن مُحَمَّد فقد قلت: إِنَّه من طَرِيق (حَدِيث) يحيى بن مُحَمَّد.
وأسأل الله العون والتأييد والإرشاد والتسديد؛ لَا إِلَه إِلَّا الله هُوَ [الفعال لما يُرِيد] .(1/114)
[بَاب] مَا جَاءَ فِي
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم(1/117)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
قَالَ يَحْيَى: حَدَّثَنِي أَبُو أُمَيَّةَ بْنُ يَعْلَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: ((كُنَّا نَكْتُبُ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ زَمَانًا؛ فَلَمَّا نَزَلَتْ: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَو ادعوا الرَّحْمَن} كتبا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ)) {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} كَتَبْنَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ".
يَحْيَي: وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: ((لَمْ تَنْزِلْ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ إِلا فِي هَذِهِ الآيَةِ: {إِنَّهُ مِنْ سليمان ... . .} وَيَجْعَلُهُ مِفْتَاحَ الْقِرَاءَةِ إِذَا قَرَأَ)) .
يَحْيَي: وَحَدَّثَنِي أَبُو الأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ؛ أَنَّهُ قَالَ: ((هَذَانِ الاسْمَانِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ مَمْنُوعَانِ؛ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ أَنْ يَنْتَحِلَهُمَا: اللَّهُ، وَالرَّحْمَنُ)) .
قَالَ مُحَمَّد: قِيلَ: الجالب للباء فِي ((باسم اللَّه)) معنى الِابْتِدَاء؛ كَأَنَّك قُلْت: أبدأ باسم اللَّه.(1/117)
تَفْسِير فَاتِحَة الْكتاب وَهِي مَكِّيَّة كلهَا
[آيَة [1 - 7](1/118)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
قَوْله: {الْحَمد لله} حمد نَفسه، وَأمر الْعباد أَن يحمدوه، وَالْحَمْد: شكر النِّعْمَة. {رَبِّ الْعَالمين} الْعَالمُونَ: الْخلق.(1/118)
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
{ملك يَوْم الدّين} قَالَ قَتَادَة: يَوْم يَدِينُ اللَّهُ النَّاس فِيهِ بأعمالهم.
قَالَ مُحَمَّد: معنى ((الدّين)) فِي اللُّغَة: الْجَزَاء؛ وَمن كَلَام الْعَرَب: دنته بِمَا صنع - أَي: جازيته.
قَالَ يَحْيَى: مَنْ قَرَأَ {مَلِكِ} فَهُوَ مِنْ بَابِ: الْمُلْكِ؛ يَقُولُ: هُوَ مَلِكُ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَأَخْبَرَنِي بَحْرٌ السَّقَّاءُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا(1/118)
يقرءونها: {مَالك يَوْم الدّين} بِكَسْر الْكَاف، وتفسيرها على هَذَا المقراء: مَالِكُهُ الَّذِي يَمْلِكُهُ.
وَقَرَأَ بَعْض الْقُرَّاء: ((مَالِكَ)) ؛ بِفَتْح الْكَاف، يَجعله نِدَاء: يَا مَالِكَ يَوْم الدِّين.(1/119)
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
{إياك نعْبد} .
قَالَ مُحَمَّد: معنى الْعِبَادَة فِي اللُّغَة: الطَّاعَة مَعَ الخضوع، وَمن هَذَا يُقَال: طَرِيق مُعَبَّدٌ إِذا كَانَ مذللا بِكَثْرَة الْمَشْي عَلَيْهِ.(1/119)
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
{اهدنا} أرشدنا {الصِّرَاط} : الطَّرِيق.(1/119)
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
{صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم} بِالْإِسْلَامِ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالّين} قَالَ (الحَسَن) : المغضوب عَلَيْهِم: الْيَهُود، والضالون: النَّصَارَى. وَهَذَا دُعَاء أَمر اللَّه رَسُوله أَن يَدْعُو بِهِ، وَجعله سنة لَهُ وَلِلْمُؤْمنِينَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ {غَيْرِ} بِالْخَفْضِ فَهُوَ على الْبَدَل من ((الَّذِينَ)) وَجَاز أَن يكون على النَّعْت.(1/119)
تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة وَهِي مَدَنِيَّة كلهَا
[آيَة 1 - 5](1/120)
الم (1)
قَوْله: عز ذكره: {الم}
قَالَ يَحْيَى: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: مَا أَدْرِي مَا تَفْسِيرُ {الم} و {الر} و {المص} وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، غير أَن قوما (ل 4) مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَقُولُونَ: أَسْمَاءُ السُّوَرِ وَفَوَاتِحُهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَذكر ابْن سَلام فِي تَفْسِير {الم} وَغير ذَلِكَ من حُرُوف المعجم الَّتِي فِي أَوَائِل السُّور - تفاسير غير متفقة فِي مَعَانِيهَا وَهَذَا الَّذِي ذكره يحيى عَنِ الْحَسَن، وَالله أعلم وَقد سَمِعْتُ بَعْض من أقتدي بِهِ من مَشَايِخنَا يَقُولُ: إِن الْإِمْسَاك عَنْ تَفْسِيرهَا أفضل.(1/120)
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} يَعْنِي: هَذَا الْكتاب لَا شكّ فِيهِ. {هدى لِلْمُتقين} : الَّذين يَتَّقُونَ الشّرك.(1/120)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
{الَّذين يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ} يَعْنِي: يصدقون بِالْبَعْثِ والحساب، وَالْجَنَّة وَالنَّار؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاة} يَعْنِي: الصَّلَوَات الْمَفْرُوضَة،(1/120)
يتمونها على مَا سنّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ صَلَاة مِنْهَا {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ} يَعْنِي: الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة على سنتها أَيْضا.(1/121)
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} يَعْنِي: الْقُرْآن {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قبلك} يَعْنِي: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور؛ يصدقون بِهَا وَلا يعْملُونَ إِلَّا بِمَا فِي الْقُرْآن(1/121)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
{أُولَئِكَ على هدى} بَيَان {مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون} السُّعَدَاء. [آيَة 6 - 7](1/121)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ (آنذرتهم} أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} يَعْنِي: الَّذين سبق لَهُم - فِي علم الْغَيْب - أَنهم يلقون اللَّه بكفرهم(1/121)
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
{ختم الله على قُلُوبهم} يَعْنِي: طبع؛ فهم لَا يفقهُونَ الْهدى {وعَلى سمعهم} فَلَا يسمعونه {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} فَلَا يبصرونه.
قَالَ مُحَمَّد: ((غِشَاوَةٌ)) يَعْنِي: غطاء. [آيَة 8 - 10] .(1/121)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
قَالَ يحيى: ثمَّ ذكر صفنا آخر من النَّاس - يَعْنِي: الْمُنَافِقين - فَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هم بمؤمنين} إِنَّمَا تكلمُوا بِهِ فِي الْعَلَانِيَة(1/122)
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
{يخادعون الله وَالَّذين آمنُوا} حَتَّى يكفوا عَنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالهمْ. وَسبي ذَرَارِيهمْ، ومُخَادَعَتُهُمْ لرَسُول اللَّه وَلِلْمُؤْمنِينَ مخادعة لله {وَمَا يُخَادِعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ} أَي أَن ذَلِك يرجع عَلَيْهِم عَذَابه، وثواب كفره {وَمَا يَشْعُرُونَ} أَن ذَلِك رَاجع عَلَيْهِم.(1/122)
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
{فِي قُلُوبهم مرض} قَالَ الحَسَن: يَعْنِي: شكًّا {فَزَادَهُمُ الله مَرضا} بالطبع على قُلُوبهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} موجع فِي الْآخِرَة {بِمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ} بقلوبهم فِي قِرَاءَة من قَرَأَهَا بالتثقيل، وَمن قَرَأَهَا بِالتَّخْفِيفِ ((يكذبُون)) يَعْنِي: فِي قَوْلهم: آمنا؛ وَقُلُوبهمْ على الْكفْر. [آيَة 11 - 15](1/122)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْض} يَعْنِي: لَا تُشْرِكُوا {قَالُوا إِنَّمَا نَحن مصلحون} أَي: أظهرُوا الْإِيمَان(1/122)
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)
{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ}(1/122)
أَن اللَّه يعذبهم فِي الْآخِرَة.(1/123)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمن النَّاس} إِذا قَالَ لَهُم النَّبِي والمؤمنون: آمنُوا كَمَا آمن الْمُؤْمِنُونَ - قَالَ بَعضهم لبَعض: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمن السُّفَهَاء} يعنون: من آمن، وَلم يعلنوا قَوْلهم هَذَا {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لَا يعلمُونَ} أَنهم سفهاءُ؛ فِي تَفْسِير الحَسَن.
قَالَ مُحَمَّد: أصل السَّفه: خفَّة الْحلم؛ ومِنْهُ يُقَال: ثوب سَفِيه إِذا كَانَ خَفِيفا. وَقيل: أصل السَّفه: الْجَهْل.(1/123)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
{وَإِذا خلوا إِلَى شياطينهم} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: رؤساءهم فِي (الشّرك) {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحن مستهزئون} بِمُحَمد (وَأَصْحَابه)(1/123)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
{الله يستهزئ بهم} قَالَ مُحَمَّد: يَعْنِي: يجازيهم جَزَاء الِاسْتِهْزَاء.
يَحْيَى: عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: ((يجاء بالمستهزئين يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ يُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَيُدْعَوْنَ [لِيَدْخُلُوا] فَيَجِيئُونَ؛ فَإِذَا بَلَغُوا الْبَابَ أُغْلِقَ فَيَرْجِعُونَ، ثُمَّ يُدْعَوْنَ لِيَدْخُلُوا فَيَجِيئُونَ؛ فَإِذَا بَلَغُوا الْبَابَ أُغْلِقَ فَيَرْجِعُونَ، ثُمَّ يُدْعَوْنَ لِيَدْخُلُوا فَيَجِيئُونَ، فَإِذَا (ل 5) بَلَغُوا الْبَابَ أُغْلِقَ فَيَرْجِعُونَ، ثُمَّ يُدْعَوْنَ حَتَّى أَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ فَلا يَجِيئُونَ مِنَ الْيَأْسِ)) .(1/123)
{ويمدهم فِي طغيانهم يعمهون} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: يَتَرَدَّدُونَ.
قَالَ مُحَمَّد: معنى: ((يمدهُمْ)) : يُطِيل لَهُم؛ تَقُولُ: مددت فلَانا فِي غيه ومددت لَهُ؛ فَإِذا كَانَ فِي الشَّرّ قُلْت: مددته، وَإِذا كَانَ فِي الْخَيْر قُلْت أمددته والطغيان: العتو والتكبر. وَالْعَمَهُ فِي كَلَام الْعَرَب: الْحيرَة والضلال [يُقَال] عَمه الرجل فِي الْأَمر يعمه عُمُوها؛ إِذا تاه فِيهِ وتحير؛ فَهُوَ عَمه، وعامه. [آيَة 16 - 18](1/124)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} يَعْنِي: اخْتَارُوا الضَّلَالَة عَلَى الْهدى؛ فِي تَفْسِير الحَسَن {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتهمْ وَمَا كَانُوا مهتدين} .
قَالَ مُحَمَّد: يَعْنِي: فَمَا ربحوا فِي تِجَارَتهمْ.(1/124)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} الآيةُ، قَالَ الْحسن، يَعْنِي: مثلهم كَمثل رَجُل يمشي فِي لَيْلَة مظْلمَة فِي يَدِهِ شعلة من نَار فَهُوَ يبصر بِهَا مَوضِع قَدَمَيْهِ؛ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِك، إِذْ أطفئت ناره؛ فَلم يبصر؛ كَيفَ يمشي؟ ! وَإِن الْمُنَافِق تكلم بقول لَا إِلَه إِلَّا اللَّه فناكح بِهَا الْمُسلمين، وحقن دَمه وَمَاله؛ فَلَمَّا كَانَ عِنْد الْمَوْت، سلبه اللَّه إِيَّاهَا. قَالَ يَحْيَى: لِأَنَّهُ لم يكن لَهَا حَقِيقَة فِي قلبه(1/125)
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
{صم بكم عمي} صم عَنِ الْهدى، فَلَا يسمعونه، بكم عَنْهُ؛ فَلَا ينطقون بِهِ، عمي عَنْهُ؛ فَلَا يبصرونه. {فَهُمْ لَا يرجعُونَ} يَعْنِي: لَا يتوبون من نفاقهم. [آيَة 19 - 20](1/125)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظلمات ورعد وبرق} هَذَا مثل آخر؛ ضربه اللَّه مثلا لِلْمُنَافِقين.
والصيب: الْمَطَر، والظلمات مثل الشدَّة، والرعد مثل التخويف، والبرق مثل نور الإِسْلام، وَفِي الْمَطَر الرزق أَيْضا. فَضرب اللَّه ذَلِك مثلا لَهُم؛ لأَنهم كَانُوا إِذا أَصَابُوا فِي الإِسْلام رخاء وطمأنينة، سروا بذلك فِي حَال دنياهم، وَإِذا أَصَابَتْهُم شدَّة قطع بهم عِنْد ذَلِكَ فَلم (يصبروا عَلَى بلائها)(1/125)
وَلم يحتسبوا أجرهَا {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْت} وَهَذَا كَرَاهِيَة للْجِهَاد {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بالكافرين} أَي: هُوَ من ورائهم؛ حَتَّى (يخزيهم) بكفرهم.(1/126)
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
{يكَاد الْبَرْق يخطف أَبْصَارهم} [حَتَّى أظهرُوا الإِيمَان وأسروا الشّرك] لشدَّة ضوئه {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} أَي: بقوا لَا يبصرون {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} حِين أظهرُوا الإِيمَان، وأسروا الشّرك.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: {أَوْ كَصَيِّبٍ من السَّمَاء} مَعْنَاهُ: أَو كأصحاب صيب، و ((أَو)) دخلت هَذَا لغير شكّ؛ وَهِي الَّتِي يَقُولُ النحويون: إِنَّهَا تدخل للْإِبَاحَة.
وَالْمعْنَى: أَن التَّمْثِيل مُبَاح لكم فِي الْمُنَافِقين؛ إِن مثلتموهم بِالَّذِي استوقد نَارا فَذَلِك مثلهم، وَإِن مثلتموهم بأصحاب الصيب فَهُوَ مثلهم. وَيُقَال: صاب الْمَطَر يصوب؛ إِذا نزل. [آيَة 21 - 23](1/126)
[آيَة 24](1/127)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
{يَا أَيهَا النَّاس اعبدوا ربكُم} أَي: لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يَعْنِي: خَلقكُم وَخلق الْأَوَّلين؛ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} أَي: لكَي تتقوا(1/127)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} يَعْنِي: بساطا ومهادا {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [عَلَى الأَرْض] .
قَالَ مُحَمَّد: كُلُّ مَا علا عَلَى الأَرْض فاسمه: بِنَاء. وَالْمعْنَى: أَنَّهُ جعلهَا سقفا مثل قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا}
وَقَوله: {فراشا} أَي: لم يَجْعَلهَا [بِحَيْثُ] لَا يُمكن الِاسْتِقْرَار عَلَيْهَا. {فَلا تَجْعَلُوا الله أنداداً} يَعْنِي: أعدالا تعدلونهم [بِهِ] {وَأَنْتُمْ تعلمُونَ} أَنَّهُ خَلقكُم، وَخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَأَنَّهُمْ لَا يخلقون(1/127)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نزلنَا على عَبدنَا} يَعْنِي: مُحَمَّدًا {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مثله} أَي: من مثل هَذَا الْقُرْآن {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فيشهدوا أَنه مثله {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقين} بِأَن هَذَا الْقُرْآن لَيْسَ من كَلَام الله(1/127)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} أيْ: لَا تقدرون على ذَلِكَ {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة} وَهِي: أَحْجَار من كبريت.
قَالَ مُحَمَّد: وقودها بِفَتْح الْوَاو (ل 6) حطبها، والْوُقُود بِالضَّمِّ [الْمصدر] يُقَال: وقدت النَّار تقد وقوداً.(1/127)
[آيَة 25](1/128)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تحتهَا الْأَنْهَار}
قَالَ مُحَمَّد: يَعْنِي: بساتين تجْرِي من تحتهَا [الْأَنْهَار؛ ذَلِكَ إِلَى شَجَرهَا] لَا إِلَى أرْضهَا.
يَحْيَى: قَالَ: وَبَلَغَنِي عَنْ أَبَانَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالك؛ أَنه قَالَ: ((أَنَّهَا الْجَنَّةِ تَجْرِي (فِي غَيْرِ أُخْدُودٍ) الْمَاءُ وَاللَّبَنُ وَالْعَسَلُ وَالْخَمْرُ وَهُوَ أيسر عَلَيْهِ، فطينة النَّهر مَسْلَك أذفر، ورضراضه الدّرّ والياقوت، وحافاته قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ)) .(1/128)
{كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا من قبل} أَي: فِي الدُّنيا يعرفونه بأسمائه؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة {وَأُتُوا بِهِ متشابها} قَالَ الْكَلْبِيّ: يَعْنِي: متشابها فِي المنظر، مُخْتَلفا فِي الْمطعم {وَلَهُمْ فِيهَا أَزوَاج مطهرة} من الْإِثْم والأذى؛ فِي تَفْسِير الْحسن.
قَالَ مُحَمَّد: أهل الْحجاز يَقُولُونَ للْمَرْأَة: هِيَ زوج الرجل، وَبَنُو تَميم يَقُولُونَ: زَوْجَة الرجل.
يَحْيَى: عَنْ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: ((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِسَاءِ أهل الْجنَّة: يدخلهَا عُرُبًا أَتْرَابًا، لَا يَحِضْنَ، وَلا يلدن، وَلَا يمتخطن، وَلَا يقضين حَاجَة)) . [آيَة 26 - 27](1/129)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
{إِن الله لَا يستحي أَن يضْرب مثلا ... } الآيةُ، وَذَلِكَ أَن اللَّه لما ذكر فِي كِتَابه العنكبوت والنمل والذباب - قَالَ الْمُشْركُونَ: مَاذَا أَرَادَ اللَّه بِذكر هَذَا فِي(1/129)
كِتَابه؟ {وَلَيْسَ يقرونَ أَن اللَّه أنزلهُ، وَلَكِن يَقُولُونَ للنَّبِي صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم: إِن كنت
صَادِقا، فَمَاذَا أَرَادَ اللَّه بِهَذَا مثلا؟} فَأنْزل اللَّه: {إِن الله لَا يستحي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقهَا} أَي: مثلا بعوضة ((مَا)) فِي هَذَا الْموضع زَائِدَة {فَمَا فَوْقَهَا} يَعْنِي: فَمَا أكبر مِنْهَا. {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} يَعْنِي: الْمُشْركين(1/130)
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بعد ميثاقه} وَهُوَ الْمِيثَاق الَّذِي أَخذ عَلَيْهِم فِي صلب آدم، وَتَفْسِيره فِي سُورَة الْأَعْرَاف {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصل} قَالَ ابْنُ عَبَّاس: يَعْنِي: مَا أَمر اللَّه بِهِ من الْإِيمَان بالنبيين كلهم {وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} أَي يعْملُونَ فِيهَا بالشرك والمعاصي {أُولَئِكَ هم الخاسرون} خسروا أنفسهم أَنْ يغنموها فيصيروا فِي الْجَنَّةِ؛ فصاروا فِي النَّار. [آيَة 28 - 29](1/130)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} أَي: نطفا فِي أصلبة آبائكم؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة: {فأحياكم} فِي الْأَرْحَام، وَفِي الدُّنيا {ثُمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ} يَعْنِي: الْبَعْث.(1/130)
قَالَ مُحَمَّد: تَأْوِيل ((كَيفَ)) اسْتِفْهَام فِي معنى التَّعَجُّب؛ إِنَّمَا هُوَ للْمُؤْمِنين؛ أَي: اعجبوا من هَؤُلاءِ؛ كَيفَ يكفرون وَقد ثبتَتْ حجَّة الله عَلَيْهِم؟ !(1/131)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
{هُوَ الَّذِي خلق لكم} سخر لكم {مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}
قَالَ مُحَمَّد: يَعْنِي: أقبل على خلق السَّمَاء؛ كَذَلِك جَاءَ عَنِ الْحَسَن.
يَحْيَى: وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ، ((أَنَّ رَجُلا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فسوهن سبع سموات} وَعَن قَوْله عز ذكره: {أَنْتُم أَشَدُّ خَلْقًا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالأَرْضَ بعد ذَلِك دحها} فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ خَلَقَ الأَرْضَ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ، ثُمَّ عَادَ؛ فحدا الأَرْضَ، وَخَلَقَ فِيهَا جِبَالَهَا وَأَنْهَارَهَا وأشجارها ومرعاها)) . [آيَة 30](1/131)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة} الْآيَة، تَفْسِير الحَسَن: إِن اللَّه أخبر الْمَلَائِكَة؛ أَنه جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة، [يكون من] وَلَده من يسفك الدِّمَاء، فِيهَا، وَيفْعل كَذَا؛ فَقَالَت الْمَلَائِكَة: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ(1/131)
يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّح بحَمْدك ونقدس لَك} أَي: نصلي لَك؛ فِي تَفْسِير بَعضهم.
قَالَ مُحَمَّد: معنى: يسفك: يصب؛ تَقُولُ: سفكت الشَّيْء! إِذا صببته.
وَمعنى ((نُسَبِّح بحَمْدك)) : أَي: نبرئك من السوء ونعظمك، وكل من عمل خيرا (ل 7) أَرَادَ اللَّه بِهِ، فقد سبح الله؛ أَي: عظمه. وَمعنى: {نقدس لَك} أَي: نطهر أَنْفُسنَا لَك، وأصل الْقُدس فِي اللُّغَة: الطَّهَارَة.
قَالَ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تعلمُونَ} تَفْسِير قَتَادَة: علم أَنه سينشأ من ذَلِكَ الْخَلِيفَة أَنْبيَاء، ورسل، وَقوم صَالِحُونَ. [الْآيَة 31 - 33](1/132)
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عرضهمْ على الْمَلَائِكَة} قَالَ مُجَاهِد: خلق اللَّه آدم آخر سَاعَات النَّهَار من يَوْم الْجُمُعَة بعد مَا خلق الْخلق كلهم.
قَالَ الْكَلْبِيّ: ثمَّ علمه أَسمَاء الْخلق [كلهم] بالسُّرْيَانيَّة اللِّسَان الأول سرًّا من الْمَلَائِكَة، ثمَّ حشر اللَّه الدَّوَابّ كلهَا، وَالسِّبَاع وَالطير وَمَا ذَرأ فِي الأَرْض، ثمَّ قَالَ للْمَلَائكَة: (أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدم أنبئهم(1/132)
بِأَسْمَائِهِمْ} فَقَالَ آدم عَلَيْهِ السَّلام: هَذَا كَذَا، وَهَذَا كَذَا. قَالَ قَتَادَة: فَسمى كُلَّ نوع باسمه. فَلَمَّا أنبأهم آدم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ اللَّه للْمَلَائكَة: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} قَالَ الحَسَن وَقَتَادَة: لما قَالَ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْض خَليفَة} قَالُوا فِيمَا بَينهم: مَا اللَّه بخالق خلقا هُوَ أكْرم عَلَيْهِ منا [وَلا أعلم] وَهُوَ الَّذِي كتموا. [آيَة 34 - 35](1/133)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
{وَإِذا قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم} قَالَ قَتَادَة: أكْرم اللَّه آدم؛ بِأَن أَسجد لَهُ مَلَائكَته {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيس ... .} الْآيَة، قَالَ بَعضهم: خلق اللَّه الْخلق شقيا وسعيدا؛ فَكَانَ إِبْلِيس مِمَّن خلقه شقيا؛ فَلَمَّا أُمِرَ بِالسُّجُود {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافرين} يخبر عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ كَانَ مِمَّن خلقه شقياً.(1/133)
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شئتما} لَا حِسَاب عَلَيْكُمَا فِيهِ.
قَالَ مُحَمَّد: من كَلَام الْعَرَب: رغد فلَان يَرْغَدُ إِذا صَار فِي خصبٍ وسعةٍ. وَفِيه لُغَة أُخْرَى: أرغد. {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فتكونا من الظَّالِمين} يَعْنِي لأنفسكما بخطيئتكما، والشجرة الَّتي نهي عَنْهَا آدم حَوَّاء -: هِيَ السنبلة؛ فِي تَفْسِير ابْن عَبَّاس.
وقَالَ قَتَادَة: هِيَ التِّين [وَقيل: هِيَ شَجَرَة الْعِنَب](1/133)
[آيَة 36 - 39](1/134)
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
{فأزلهما الشَّيْطَان عَنْهَا} قَالَ مُحَمَّد: ((أزلهما)) هُوَ من: الزلل؛ الْمَعْنى: كَسَّبَهُمَا الزَّلَّةَ والخطيئةَ.
قَالَ يَحْيَى: بلغنَا أَن إِبْلِيس دخل فِي الْحَيَّة فكلمهما مِنْهَا، وكَانت أحسن الدَّوَابّ، فمسخها اللَّه، ورد قَوَائِمهَا فِي جوفها، وأمشاها على بَطنهَا.
وبلغنا أَن أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: حَوَّاء هِيَ الَّتي دلّت الشَّيْطَان على مَا كَانَا نهيا عَنهُ.(1/134)
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
{وَقُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} آدم وَمَعَهُ حَوَّاء وإبليس والحية الَّتي دخل إِبْلِيس فِيهَا لَا تقدر على ابْن آدم فِي مَوضِع إِلَّا لدغته، وَلا يقدر عَلَيْهَا فِي مَوضِع إِلَّا شدخها {وَلكم فِي الأَرْض مُسْتَقر} من يَوْم يُولد إِلَى يَوْم يَمُوت {ومتاع} يَعْنِي: مَعَايشهمْ الَّتي يستمتعون بِهَا {إِلَى حِين} يَعْنِي: الْمَوْت {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ ربه كَلِمَات فَتَابَ عَلَيْهِ} وعَلى حَوَّاء.
يَحْيَى: عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ (عَبْدِ الْمَلِكِ) بْنِ أَبِي سُلَيْمَان، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ قَوْلُهُمَا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وترحمنا(1/134)
لنكونن من الخسرين}
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {فَتلقى} مَعْنَاهُ: قبل وَأخذ. {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مني هدى} أَي رَسُول {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خوف عَلَيْهِم} فِي الْآخِرَة من النَّار {وَلا هم يَحْزَنُونَ} على الدُّنْيَا. [آيَة 40](1/135)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمت عَلَيْكُم} خَاطب بِهَذَا من أدْرك النَّبي عَلَيْهِ السَّلَام مِنْهُم؛ يذكرهم مَا فعل [بأولهم] أَنَّهُ أنجاهم من آل فِرْعَوْن، وأنجاهم من الْغَرق، وظلل عَلَيْهِم الْغَمَام؛ وَغير ذَلِكَ من نعْمَة اللَّه الَّتي لَا تحصى {وَأَوْفُوا بعهدي أوف بعهدكم} تَفْسِير الْكَلْبِيّ: بعهدي فِي الْإِيمَان بِمُحَمد {أوف بعهدكم} الَّذِي عهِدت لكم من الْجَنَّةِ {وإياي فارهبون} {ل 8} هُوَ كَقَوْلِه: {قاتقون} .
قَالَ [مُحَمَّد: يُقَال: وفيت] بالعهد وأوفيت بِهِ.
قَوْله: {فارهبون} أَصله: فارهبوني بِالْيَاءِ، وحذفت لِأَنَّهَا رَأس آيَة.(1/135)
[آيَة 41 - 45] .(1/136)
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
{وآمنوا بِمَا أنزلت} يَعْنِي: الْقُرْآن {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} يَعْنِي: [بِهَذَا قُرَيْظَة] وَالنضير؛ لِأَن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم عَلَيْهِم ((الْمَدِينَة)) فعصوا اللَّه، وَكَانُوا أول من كفر بِهِ من الْيَهُود {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثمنا قَلِيلا} يَعْنِي: الْآيَات الَّتِي وصف اللَّه بهَا مُحَمَّدا صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم فِي كِتَابهمْ، فَأَخْفَوْهَا من الْأُمِّيين، وجهال من الْيَهُود، وَكَانَ الَّذين يَفْعَلُونَ ذَلِكَ علماؤهم؛ كَعْب بْن الْأَشْرَف وَأَصْحَابه، وَكَانَت لَهُم مَأْكَلَةٌ من الْيَهُود كُلّ عَام؛ فَذَلِك الثّمن الْقَلِيل؛ خَافُوا إِن تابعوا النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَن تذْهب مأكلتهم(1/136)
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
{وَلَا تلبسوا الْحق بِالْبَاطِلِ} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: لَا تخلطوا الإِسْلام باليهودية والنصرانية.
قَالَ مُحَمَّد: يُقَال لَبَسْت عَلَيْهِم الْأَمر [إِذا غَمَّيْته] ؛ فَكَأَن معنى الْآيَة: لَا تلبسوا أَمر النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بِمَا تحرفون وتكتمون.(1/136)
{الْحق} يَعْنِي: مُحَمَّدا صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم {وَأَنْتُم تعلمُونَ} أَي: تجدونه مَكْتُوبًا عنْدكُمْ(1/137)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الراكعين} أَمرهم أَن يدخلُوا فِي دين مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام(1/137)
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أَي: تتركون الْعَمَل بِهِ {وَأَنْتُمْ تتلون الْكتاب} بِخِلَاف مَا تَفْعَلُونَ {أَفَلا تَعْقِلُونَ} مَا تأمرون بِهِ؛ يَعْنِي بذلك أَحْبَارهم.
قَالَ مُحَمَّد: جَاءَ عَنِ ابْن عَبَّاس - فِي تَفْسِير {أَتَأْمُرُونَ النَّاس بِالْبرِّ} قَالَ: نزلت فِي قوم من أَحْبَار يهود؛ كَانَ الرجل مِنْهُم يَقُولُ لمن أسلم من ذَوي قرَابَته - إِذا وثق بِهِ فِي السِّرّ -: اثْبتْ على الَّذِي أَنْت عَلَيْهِ؛ مِمَّا يَأْمُرك بِهِ هَذَا الرجل؛ يعنون: مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُ حق، وَلا يَفْعَلُونَهُ هُم؛ للرياسة الَّتي كَانُوا حازوها، والمآكل الَّتي كَانُوا يأكلونها؛ فكشف اللَّه سرهم، وَأخْبر بذلك عَنْهُم.(1/137)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)
{وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة} أَي: على الصَّلاة، فَخص الصَّلاة لمكانها من الدِّين. تَفْسِير الحَسَن: اسْتَعِينُوا بِالصبرِ على الدِّين كُله. وَقَالَ مُجَاهِد: الصَّبْر - هَا هُنَا الصَّوْم؛ وليعلم أَنَّهُمَا عون على طَاعَة اللَّه.
قَالَ مُحَمَّد: وأصل الصَّبْر: الْحَبْس، وَإِنَّمَا سمي الصَّائِم صَابِرًا؛ لحبسه نَفسه عَنِ الْأكل وَالشرب. {وَإِنَّهَا لكبيرة} يَعْنِي: الصَّلاة. {إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ} الْخُشُوع هُوَ: الْخَوْف الثَّابِت فِي الْقلب.(1/137)
[آيَة 46 - 50](1/138)
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
{الَّذين يظنون} [يعلمُونَ] {إِنَّهُم ملاقوا رَبهم} .
قَالَ مُحَمَّد: الظَّن فِي كَلَام الْعَرَب بمعنيين: شكّ ويقين؛ قَالَ دُرَيْد بن الصمَّة:
(فَقلت لَهُم ظنُّوا بألفي مقَاتل ... سراتهم بالفارسي المسرد)
وَمعنى ظنُّوا: أَي: أيقنوا.(1/138)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
قَوْله: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: أهل زمانهم(1/138)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نفس شَيْئا} أَي: لَا تغني.
قَالَ مُحَمَّد: يُقَال: جَزَى عني فلَان، بِلَا همز؛ أَي: نَاب عني، وأجزأني: كفاني. {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} أَي: لَا تكون الشَّفَاعَة إِلَّا للْمُؤْمِنين (وَلا يُؤْخَذُ(1/138)
مِنْهَا عدل} أَي: لَا يقبل مِنْهَا فدَاء {وَلَا هم ينْصرُونَ} أَي: لَا أحد ينتصر لَهُم.
قَالَ مُحَمَّد: إِنَّمَا يُقَال للْفِدَاء: عدل؛ لِأَنَّهُ مثل للشَّيْء؛ يُقَال: هَذَا عدل هَذَا وعديله؛ والْعِدْلُ - بِكَسْر الْعين - هُوَ: مَا حُمِلَ على الظّهْر.(1/139)
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يسومونكم} {يلونكم} (سوء الْعَذَاب} أَي: أشده {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نساءكم} فَلَا يقتلونهن {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ من ربكُم عَظِيم} يَعْنِي: إِذْ نجاكم مِنْهُ.
قَالَ مُحَمَّد: الْبلَاء يتَصَرَّف فِي النَّقْل على وُجُوه؛ وَهُوَ هَا هُنَا النِّعْمَة. (ل 9)(1/139)
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وأغرقنا آل فِرْعَوْن} [مَاتُوا] وَفرْعَوْن فيهم {وَأَنْتُم تنْظرُون} يَعْنِي: أوليهم.
قَالَ مُحَمَّد فِي قَوْله: {وَإِذ فرقنا بكم الْبَحْر} هُوَ كَقَوْلِه: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فرق كالطود الْعَظِيم} . [آيَة 51 - 52](1/139)
[آيَة 53 - 54](1/140)
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)
{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} تَفْسِيره مَذْكُور فِي سُورَة الْأَعْرَاف {وَأَنْتُم ظَالِمُونَ} يَعْنِي: لأنفسكم(1/140)
ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
{ثمَّ عَفَوْنَا عَنْكُم} يَعْنِي: التَّوْبَة الَّتي جعلهَا اللَّه (لَهُم فَقتل بَعضهم نَفسه) قَالَ قَتَادَة: أمروا أَن ينتحروا بالشفار فَفَعَلُوا، فَلَمَّا بلغ اللَّه فيهم نقمته سَقَطت الشفار من أَيْديهم؛ فَكَانَ ذَلِكَ للمقتول شَهَادَة، وللحي تَوْبَة {لَعَلَّكُمْ تشكرون} أَي: لتشكرونا.(1/140)
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} الْكتاب: التَّوْرَاة، وَالْفرْقَان: حلالها وحرامها {لَعَلَّكُمْ تهتدون} لكَي تهتدوا.(1/140)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قوم إِنَّكُم ظلمتم أَنفسكُم} قَالَ مُحَمَّد: الِاخْتِيَار فِي الْعَرَبيَّة يَا قوم بِحَذْف الْيَاء للنداء، وَبقيت الكسرة لتدل عَلَيْهَا. {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارئكم} خالقكم {فَتَابَ عَلَيْكُم}
قَالَ مُحَمَّد: الْمَعْنى: ففعلتم فَتَابَ عَلَيْكُم، وَهُوَ من الِاخْتِصَار.(1/140)
[آيَة 55 - 57](1/141)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نؤمن لَك} أَي: لن نصدقك {حَتَّى نَرَى الله جهرة} أَي: عيَانًا {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تنْظرُون} قَالَ قَتَادَة: أميتوا عُقُوبَة، ثمَّ بعثوا؛ ليستكملوا بَقِيَّة آجالهم(1/141)
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
{وظللنا عَلَيْكُم الْغَمَام} قَالَ قَتَادَة: سَأَلُوا موسي الْأَبْنِيَة؛ وهم فِي التيه فِي الْبَريَّة، فظلل اللَّه عَلَيْهِم الْغَمَام. قَالَ مُجَاهِد: الْغَمَام غير السَّحَاب.
قَالَ مُحَمَّد: وَاحِد الْغَمَام: غمامة؛ وَهِي عِنْد أهل اللُّغَة الْبَيْضَاء من السَّحَاب {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} قَالَ قَتَادَة: الْمَنّ كَانَ ينزل عَلَيْهِم من طُلُوع الْفجْر إِلَى طُلُوع الشَّمْس، وَكَانَ أَشد بَيَاضًا من الثَّلج، وأحلي من الْعَسَل؛ فَيَأْخُذ أحدهم مَا يَكْفِيهِ يَوْمه؛ فَإِن تعدى ذَلِكَ فسد، وَلم يبْق عِنْده حَتَّى إِذا كَانَ يَوْم سادسهم - يَعْنِي: يَوْم الْجُمُعَة - أخذُوا مَا يكفيهم لذَلِك الْيَوْم، وليوم سابعهم - يَعْنِي: السبت - فَيبقى عِنْدهم؛ لِأَن يَوْم السبت كَانُوا يعْبدُونَ اللَّه - جلّ وَعز - فِيهِ، وَلا يشخصون لشَيْء من الدُّنْيَا، وَلا يطلبونه. والسلوى:(1/141)
السُّمَاني طَائِر إِلَى الْحمرَة كَانَت تحشرها عَلَيْهِم الْجنُوب؛ فَيذْبَح الرجل مَا يَكْفِيهِ ليومه ذَلِك؛ فَإِن تعدى ذَلِكَ فسد، وَلم يبْق عِنْده، إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة؛ فَإِنَّهُم كَانُوا يذبحون مَا يكفيهم ليومهم وللسبت. {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رزقناكم وَمَا ظلمونا} أَي: نقصونا {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يظْلمُونَ} ينقصُونَ بمعصيتهم. [آيَة 58 - 59](1/142)
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} إِلَى قَوْله: {وسنزيد الْمُحْسِنِينَ} قَالَ الْكَلْبِيّ: لما فصلت بَنو إِسْرَائِيل من التيه، ودخلوا إِلَى الْعُمْرَان، فَكَانُوا بجبال أرِيحَا من الْأُرْدُن قِيلَ لَهُم: ادخُلُوا هَذِه الْقَرْيَةَ، فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رغدا. وَكَانَ بَنو إِسْرَائِيل قد خطئوا خَطِيئَة؛ فَأحب اللَّه أَن يستنقذهم مِنْهَا - إِن تَابُوا وقَالَ لَهُم: إِذا انتهيتم إِلَى بَاب الْقرْيَة، فاسجدوا، وَقُولُوا: حِطَّةٌ - نحط عَنْكُم خطاياكم {وسنزيد الْمُحْسِنِينَ} الَّذين لم يَكُونُوا من أهل تِلْكَ الْخَطِيئَة - إحسانا إِلَى إحسانهم، فَأَما المحسنون: فَقَالُوا الَّذِي أمروا بِهِ، وَأما الَّذين عصوا: فَقَالُوا قولا غير(1/142)
الَّذِي قِيلَ لَهُم قَالُوا: [ ... ] بالسُّرْيَانيَّة [قالوها استهزاء وتبديلا لقَوْل] اللَّه.(1/143)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
قَالَ الله تَعَالَى (ل 10) : {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} يَعْنِي: عذَابا من السَّمَاء {بِمَا كَانُوا يفسقون} قَالَ يَحْيَى: وَبَلغنِي أَن ذَلِكَ الْعَذَاب الطَّاعُون، فَمَاتَ مِنْهُم سَبْعُونَ ألفا.
وَمعنى حطة: احْطُطْ عَنَّا خطايانا.
قَالَ مُحَمَّد: وَارْتَفَعت بِمَعْنى: مَسْأَلَتنَا حطة.
يَحْيَى: وَأَخْبَرَنِي صَاحِبٌ لِي عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الطَّاعُونُ بَقِيَّةُ رِجْزٍ وَعَذَابٍ عُذِّبَ بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ؛ فَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلا تَخْرُجُوا مِنْهَا؛ وَإِنْ وَقَعَ بِأَرْضٍ وَلَسْتُمْ بِهَا، فَلا تَقْدَمُوا عَلَيْهَا)) .(1/143)
[آيَة 60](1/144)
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كل أنَاس مشربهم} قَالَ قَتَادَة: كَانَ هَذَا وهم فِي الْبَريَّة، اشتكوا إِلَى مُوسَى الظمأ، فسقوا من حجر كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام يحملهُ [مَعَه] من الْجَبَل الطُّوراني، فَكَانُوا إِذا نزلُوا ضربه مُوسَى بعصاه، فانفجرت مِنْهُ اثْنَتَا عشرَة عينا لكل سِبْطٍ عين.
قَالَ مُحَمَّد: وَمعنى السبط فِي اللُّغَة: الْجَمَاعَة الَّذين يرجعُونَ إِلَى أَب وَاحِد. {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تعثوا} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: لَا تسيروا فِي الأَرْض مفسدين.
قَالَ مُحَمَّد: يُقَال: عَثِيَ يَعْثَى عُثِيًّا، وَعَثَى يعثوا عُثُوًّا، وَعَاثَ يَعِيثُ عَيْثًا؛ بِمَعْنى وَاحِد، وَذَلِكَ فِي الْإِسْرَاع فِي إِفْسَاد الشَّيْء، وَمن هَذَا قَول عدي ابْن الرّقاع:
(لَوْلَا الْحيَاء وَإِن رَأْسِي قد عثا ... فِيهِ المشيب لزرت أم الْقَاسِم)(1/144)
[آيَة 61](1/145)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِد} إِلَى {وبصلها} قَالَ قَتَادَة: لما أنزل اللَّه عَلَيْهِم الْمَنّ والسلوى فِي التيه مَلُّوهُ وَذكروا عَيْشًا كَانَ لَهُم بِمصْر؛ فَقَالَ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُم: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا} يَعْنِي: مصرا من الْأَمْصَار {فَإِنَّ لكم مَا سَأَلْتُم} وقَالَ الْكَلْبِيّ. ((اهْبِطُوا مِصْرَ)) بِغَيْر ألف؛ يَعْنِي: مصر بِعَينهَا. قَالَ قَتَادَة: والفوم: الْحبّ الَّذِي يختبزه النَّاس {وَضربت عَلَيْهِم الذلة والمسكنة} يَعْنِي: الْجِزْيَة.(1/145)
قَالَ مُحَمَّد: وَقد قِيلَ الذلة: الصَّغَار، والمسكنة: الخضوع.
{وَبَاءُوا بِغَضَبٍ من الله} يَعْنِي: استوجبوا.
قَالَ مُحَمَّد: معنى باءوا فِي اللُّغَة: رجعُوا؛ يُقَال: بؤت بِكَذَا فَأَنا أَبُوء بِهِ، وَلا يُقَال: بَاء إِلَّا بِشَرٍّ.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله} يَعْنِي: بِأَمْر الله. [آيَة 62](1/146)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
{وَالَّذِينَ هادوا} يَعْنِي: تهودوا {وَالنَّصَارَى} قَالَ قَتَادَة: سموا نَصَارَى؛ لأَنهم كَانُوا بقرية يُقَال لَهَا: ناصرة.
{وَالصَّابِينَ} قَالَ قَتَادَة: هُم قوم يقرءُون الزَّبُورَ، ويعبدون الْمَلَائِكَة.
قَالَ يحيى: وَبَعْضهمْ يقرءونها: {والصائبين} مَهْمُوزَة.(1/146)
قَالَ مُحَمَّد: وأصل الْكَلِمَة من قَوْلهم: صَبَأَ نَابُهُ إِذا خرج؛ فَكَانَ معنى الصابئين: خَرجُوا من دين إِلَى دين.
والتهود أَصله: التعود؛ يُقَال للعائد: هائد، ومتهوِّد.
{فَلهم أجرهم} يَعْنِي: من آمن بِمُحَمد صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم وَعمل بِشَرِيعَتِهِ {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} قَالَ مُحَمَّد: الْقِرَاءَة {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِم} بِالرَّفْع، وَالنّصب جَائِز وَقد قُرِئَ بهما. [آيَة 63 - 64](1/147)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطّور} يَعْنِي: فَوق رءوسكم {خُذُوا مَا آتيناكم} يَعْنِي: التَّوْرَاة {بِقُوَّة} بجد {واذْكُرُوا مَا فِيهِ} أَي: احْفَظُوا مَا فِيهِ، وَاعْمَلُوا بِهِ. وَالطور: جبل كَانُوا فِي أَصله [فاقتلع وأشرف] فَفَعَلُوا.(1/147)
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} (ل 11) حِين لم يعجل لكم الْعَذَاب {لكنتم من الخاسرين} يَعْنِي: الْمُعَذَّبين.(1/147)
[آيَة 65 - 66](1/148)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السبت} يَقُولُ هَذَا لعلمائهم {فَقُلْنَا لَهُمْ كونُوا قردة خَاسِئِينَ} أَي: صاغرين؛ فِي تَفْسِير الحَسَن.
قَالَ مُحَمَّد: وَقيل: خَاسِئِينَ؛ يَعْنِي مبعدين، يُقَال: خسأت فلَانا عني وخسأت الْكَلْب؛ أَي: باعدته.
قَالَ يَحْيَى: واعتداؤهم: أَخذهم الصَّيْد فِي يَوْم السبت، وَسَيَأْتِي تَفْسِيره فِي سُورَة الْأَعْرَاف.(1/148)
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
{فجعلناها نكالا} أَي: عِبْرَة {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: لما سلف من ذنوبهم قبل أَن يصيدوا الْحيتَان {وَمَا خلفهَا} يَعْنِي: مَا بعد تِلْكَ الذُّنُوب؛ وَهُوَ أَخذهم الْحيتَان.
قَالَ مُحَمَّد: وَالْهَاء الَّتِي فِي ((جعلناها)) هِيَ على هَذَا التَّأْوِيل للفعلة. وَقيل: الْمَعْنى جعلنَا قَرْيَة أَصْحَاب السبت {نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} من الْقرى {وَمَا خلفهَا} ليتعظوا بهم. وَالله أعلم. [آيَة 67 - 68](1/148)
[آيَة 69 - 70](1/149)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} إِلَى قَوْله: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}(1/149)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)
قَوْله {لَا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عوان بَين ذَلِك} قَالَ الحَسَن: الفارض: الْهَرِمَةُ، والْبِكْرُ: الصَّغِيرَة، والْعَوَانُ: بَين ذَلِك.
قَالَ مُحَمَّد: يُقَال من الفارض: فَرُضَتْ تفرض فروضاً(1/149)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
قَالَ يَحْيَى: وَقَوله: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} يَعْنِي: صَافِيَة الصُّفْرَة.(1/149)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)
قَالَ مُحَمَّد: وَقَوله: {إِنَّ الْبَقَرَ تشابه علينا} يَعْنِي: إِن جنس الْبَقر تشابه علينا. [آيَة 71 - 73](1/149)
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
قَالَ يَحْيَى: وَقَوله: {لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} تَفْسِير ابْن عَبَّاس: لَا يُحْرَثُ عَلَيْهَا وَلَا يُسْقَى [عَلَيْهَا] .(1/149)
وَقَوله: {مسلمة} يَعْنِي: من الْعُيُوب؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة. وَقَوله عَزَّ وَجَلَّ: {لَا شية فِيهَا} يَعْنِي: لَا سَواد فِيهَا، وَلا بَيَاض؛ فِي تَفْسِير مُجَاهِد.
قَالَ مُحَمَّد: الْقِرَاءَة {لَا شية} بِالنّصب على النَّفْي والوشي فِي اللُّغَة: خلط لون بلون؛ تَقُولُ: وَشَيْتُ الثَّوْب أَشِيهِ شية ووشيا؛ فَكَأَن الْمَعْنى: لَا لون فِيهَا يُخَالف مُعظم لَوْنهَا؛ وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ مُجَاهِد.
والذلول من الدَّوَابّ: الخاضعة، وَهِي بَيِّنَة الذل. والذل ضد الصعوبة؛ يُقَال: هَذَا جمل ذَلُول بَيِّنُ الذِّلِّ، بِكَسْر الذَّال.
قَالَ يَحْيَى: وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {قَالُوا الْآن جِئْت بِالْحَقِّ} أَيْ: بَيَّنْتُ، وَقَدْ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا أُمِرَ الْقَوْمُ بِأَدْنَى بَقَرَةٍ؛ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، شُدِّدَ عَلَيْهِمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لولم يَسْتَثْنُوا، مَا بُيِّنَتْ لَهُمْ)) .
يَحْيَى: وَحَدَّثَنِي الْمُعَلَّى، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ(1/150)
ابْن جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ((قَتَلَ رَجُلٌ عَمَّهُ، فَأَلْقَاهُ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ، فَأَعْطَوْهُ دِيَّتَيْنِ فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ؛ فَأَتَوْا مُوسَى فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَذْبَحُوا بَقَرَةً فَيَضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا، فَشَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؛ وَلَوْ كَانُوا اعْتَرَضُوا الْبَقَرَ أَوَّلَ مَا أُمِرُوا، لأَجْزَأَهُمْ ذَلِكَ)) .
قَالَ مُحَمَّد: وَمعنى ((اعْترضُوا)) أخذُوا مِنْهَا بِغَيْر تَخْيِير.(1/151)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
{فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} يَعْنِي: ألْقى قتلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض.
قَالَ مُحَمَّد: ادارأتم أَصله: [تدارأتم] ؛ فأدغمت التَّاء فِي الدَّال؛ وَمَعْنَاهُ: تدافعتم؛ يُقَال: دَرأ الْكَوْكَب بضوئه؛ أَي دفع.(1/151)
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ} قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ بَعضهم يَقُولُ: رُمِيَ قَبره بِبَعْضِهَا - قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: بفخذها - فَفَعَلُوا، فَقَامَ فَأخْبر بقاتله، ثمَّ مَاتَ.
قَالَ ابْن عَبَّاس: طلبوها، فوجدوها عِنْد رَجُل بر بِوَالِديهِ، فَبلغ ثمنهَا مِلْءَ مَسْكِها دَنَانِير.
قَالَ يَحْيَى: وَذكر لَنَا أَن وليه الَّذِي كَانَ يطْلب دَمه هُوَ [الَّذِي] قَتله؛ فَلم يُورث بعده قَاتل. [آيَة](1/151)
[آيَة 74](1/152)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قسوة} قَالَ يَحْيَى: يَعْنِي بل أَشد قسوة.
قَالَ مُحَمَّد: وَقيل: إِن الْألف زَائِدَة، وَالْمعْنَى فَهِيَ كالحجارة وَأَشد قسوة. وَمثل هَذَا من الشّعْر (ل 12) :
(أَلا زعمت ليلى [بِأَنِّي فَاجر ... لنَفْسي] تُقَاهَا أَو عَلَيْهَا فجورها)
قَوْله - عَن ذكره -: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يتفجر مِنْهُ} أَي: تجْرِي {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يشقق فَيخرج مِنْهُ المَاء} يَعْنِي الْعُيُون الَّتي لَا تكون أَنهَارًا.
{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ من خشيَة الله} قَالَ مُجَاهِد: كُلّ حجر انفجر مِنْهُ مَاء أَو تردى من رَأس جبل فَهُوَ من خشيَة الله. [آيَة 75](1/152)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
{أفتطمعون أَن يُؤمنُوا لكم} يَقُولُ: هَذَا للنَّبِي صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم وَلِلْمُؤْمنِينَ أَن يصدقوكم؛ يَعْنِي: جمَاعَة الْيَهُود؛ لِأَن الْخَاصَّة قد تتبع مِلَّته (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ(1/152)
مِنْهُم يسمعُونَ كَلَام الله} قَالَ الحَسَن: يَعْنِي: كتاب اللَّه التَّوْرَاة {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عقلوه} حرفوا مَا فِي التَّوْرَاة من صفة مُحَمَّد صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم وَدينه [ {وهم يعلمُونَ} ] . [آيَة 76 - 78](1/153)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُم} تَفْسِير الْكَلْبِيّ: أتحدثونهم بِمَا بَين اللَّه لكم فِي كتابكُمْ من أَمر نَبِيّهم، ثمَّ لَا تتبعونهم، وَلا تدخلون فِي دينهم؛ هَذِه حجَّة لَهُم عَلَيْكُم {أَفَلا تَعْقِلُونَ} قَالُوا هَذَا وهم يتلاومون(1/153)
أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)
{أَو لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يسرون} مِمَّا قَالَ الْيَهُود بَعضهم لبَعض {وَمَا يعلنون} .
قَالَ مُحَمَّد: جَاءَ عَنِ ابْن عَبَّاس؛ أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي طوائف من أَحْبَار الْيَهُود؛ كَانُوا إِذا لقوا الَّذين آمنُوا، قَالُوا: نشْهد أَن صَاحبكُم صَادِق، وَأَنا نجد فِي كتَابنَا نَعته وَصفته {وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} .(1/153)
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أماني} يَعْنِي: أَحَادِيث مَا يُحَدِّثهُمْ قراؤهم بِهِ فيقبلونه {وَإِنْ هُمْ إِلا يظنون} أَي: هُم عَلَى غير يَقِين إِن صدقت قراؤهم صدقُوا، وَإِن كذبت قراؤهم كذبُوا.(1/153)
قَالَ مُحَمَّد: ارْتَفع ((أُمِّيُّونَ)) بِالِابْتِدَاءِ، و ((مِنْهُم)) الْخَبَر. وَقد قِيلَ: الْمَعْنى اسْتَقر مِنْهُم أُمِّيُّونَ، وَمن كَلَامهم: فِيك أُميَّة: أَي: جَهَالَة؛ وَلذَلِك قِيلَ للَّذي لَا يكْتب: أُمِّي. [آيَة 79 - 80](1/154)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
{فويل للَّذين يَكْتُبُونَ الْكتاب يأيديهم ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} قَالَ الْكَلْبِيّ: هُم أَحْبَار الْيَهُود وعلماؤهم عَمدُوا إِلَى نعت النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابهمْ، فزادوا فِيهِ، ونقصوا، ثمَّ أَخْرجُوهُ لسفلتهم فَقَالُوا: هَذَا نعت النَّبي الَّذِي يَبْعَثهُ اللَّه فِي آخر الزَّمَان لَيْسَ كنعت هَذَا الرجل، فَإِذا نظرت السفلة إِلَى مُحَمَّد صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم لم يرَوا فِيهِ النَّعْت الَّذِي فِي كِتَابهمْ الَّذِي كتبت أَحْبَارهم. وَكَانَت للأحبار مأكلة فَقَالَ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثمنا قَلِيلا} يَعْنِي: تِلْكَ المأكلة {فَوَيْلٌ لَهُمْ} فِي الآخِرَةِ {مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}(1/154)
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَة} قَالَ قَتَادَة: قَالَتِ الْيَهُود: لن يدخلنا اللَّه النَّار إِلَّا عدد الْأَيَّام الَّتي عَبدنَا فِيهَا الْعجل؛ أَي: إِذا انْقَطَعت تِلْكَ الْأَيَّام، انْقَطع عَنَّا الْعَذَاب، قَالَ اللَّه - عز ذكره - للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلام قل لَهُم: {أتخذتم عِنْد الله عهدا} .(1/154)
قَالَ مُحَمَّد: الْمَعْنى: عهد إِلَيْكُم أَنَّهُ لَا يعذبكم إِلَّا هَذَا الْمِقْدَار؟ ! {فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تعلمُونَ} أَي: إِنَّكُم لن تَتَّخِذُوا عِنْد الله عهدا، وَإِنَّكُمْ تَقولُونَ عَلَيْهِ مَا لَا تعلمُونَ أَنَّهُ الْحق.
[آيَة 81 - 83](1/155)
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
{بلَى من كسب سَيِّئَة} السَّيئَة هَا هُنَا: الشّرك {وأحاطت بِهِ خطيئته} أَي: مَاتَ وَلم يتب من شركه ... . الْآيَة.(1/155)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبدُونَ إِلَّا الله} قَالَ مُحَمَّد: ((لَا تَعْبدُونَ)) جَائِز أَن يكون فِيهِ الرّفْع؛ على معنى أَلا تعبدوا فَلَمَّا سَقَطت ((أَن)) رفع ((تَعْبدُونَ)) وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى بعد هَذَا: {لَا تسفكون دماءكم} الرّفْع فِيهِ على معنى: أَلا [تسفكوا] . {وبالوالدين إحسانا} أَي: وصيناهم بالوالدين إحسانا {وَقُولُوا للنَّاس حسنا} تَفْسِير الحَسَن. يأمرونهم بِمَا أَمر اللَّه [بِهِ] وينهونهم عَمَّا نهى الله عَنهُ
{ثمَّ توليتم} [أَي جحدتم] (ل 13) {إِلَّا قَلِيلا مِنْكُم} الْقَلِيل يَعْنِي: الَّذين اتبعُوا النَّبي {وَأَنْتُم معرضون} [عَمَّا] جَاءَ بِهِ النَّبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم.(1/155)
[آيَة 84 - 85](1/156)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَاركُمْ} أَي: لَا يخرج بَعْضكُم بَعْضًا {ثمَّ أقررتم وَأَنْتُم تَشْهَدُون}
قَالَ مُحَمَّد: ثمَّ أقررتم يَعْنِي: اعترفتم [بِصِحَّة مَا] قد أَخذ عَلَيْكُم فِي الْعَهْد، وَأخذ على أوائلكم {وَأَنْتُم تَشْهَدُون} أَن هَذَا حق.(1/156)
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
{ثمَّ أَنْتُم هَؤُلَاءِ}
[قَالَ مُحَمَّد] : ((هَؤُلَاءِ)) بِمَعْنى الَّذين، وَقد قِيلَ: أَرَادَ يَا هَؤُلَاءِ. {تقتلون أَنفسكُم} أَي: يقتل بَعْضكُم بَعْضًا {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم} أَي: تعاونون عَلَيْهِم {بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} يَعْنِي: بالظلم. {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} قَالَ الحَسَن: نكثوا؛ فَقتل بَعضهم بَعْضا، وَأخرج بَعضهم بَعْضًا، وَكَانَ الْفِدَاء مَفْرُوضًا(1/156)
عَلَيْهِم أَيْضا، فاختلفت أحكامهم؛ فَقَالَ اللَّه تَعَالَى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} يَعْنِي: الْفِدَاء {وتكفرون بِبَعْض} يَعْنِي: الْقَتْل والإخراج من الدّور {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُم} يَقُوله ليهود الْمَدِينَة {إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} قَالَ الْكَلْبِيّ: الخزي الْقَتْل وَالنَّفْي؛ فَقُتِلَت قُرَيْظَة، وَنُفِيَت النَّضِير؛ أخزاهم الله بِمَا صَنَعُوا. [آيَة 86 - 88](1/157)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَة} تَفْسِير الحَسَن: يَعْنِي: اخْتَارُوا الْحَيَاة الدُّنْيَا على الْآخِرَة(1/157)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
{وقفينا من بعده بالرسل} أَي: أتبعناه بهم {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْن مَرْيَم الْبَينَات} قَالَ الْكَلْبِيّ: يَعْنِي: الْآيَات الَّتي كَانَ يُرِيهم عيسي عَلَيْهِ السَّلام {وأيدناه} أعناه {بِروح الْقُدس} يَعْنِي: جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلام.
قَالَ مُحَمَّد: أصل الْقُدس: الطَّهَارَة. {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تقتلون} فَلَمَّا قَالَ لَهُم النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام هَذَا سكتوا، وَعرفُوا أَنَّهُ وَحي من اللَّه عيرهم بِمَا صَنَعُوا، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّد {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} لَا نعقل وَلا نفقه مَا تَقُولُ، وَكَانَت أوعية للْعلم، فَلَو كنت صَادِقا سَمِعْنَا مَا تَقُولُ.(1/157)
قَالَ مُحَمَّد: تُقْرأ على وَجْهَيْن: ((غلف وغلف)) . وأجود الْقِرَاءَتَيْن: ((غلف)) بتسكين اللَّام، وَمَعْنَاهَا: ذَوَات غُلْفٍ، الْوَاحِد مِنْهَا: أَغْلَفُ؛ يُقَال: غلفْتُ السَّيْف؛ إِذا جعلته فِي غلاف، فَهُوَ سيف أغلف، ومِنُهُ يُقَال لمن لم يختتن: أغلف. فكأنهم قَالُوا: قُلُوبنَا فِي أوعية مثل قَوْلهم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تدعونا إِلَيْهِ} .
وَمن قَرَأَ ((غُلُفٌ)) فَهُوَ جمع غلاف؛ فَيكون معنى هَذَا: أَن قُلُوبنَا أوعية للْعلم فَمَا لَهَا لَا تفهم عَنْك؟ ! [آيَة 89 - 90](1/158)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ الله مُصدق لما مَعَهم} يَعْنِي: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} قَالَ قَتَادَة: كَانَت الْيَهُود تَسْتَنْصِر بِمُحَمد صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم على كفار الْعَرَب، كَانُوا يَقُولُونَ اللَّهُمَّ ائْتِ بِهَذَا النَّبي الَّذِي يقتل الْعَرَب ويذلهم، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُ من غَيرهم حسدوهم، وَكَفرُوا بِهِ. قَالَ اللَّه - تَعَالَى -: {فَلَعْنَةُ الله على الْكَافرين} .
قَالَ مُحَمَّد: الاستفتاح هَا هُنَا بِمَعْنى الدُّعَاء، والْفُتَاحَةُ أَيْضا الْحُكُومَة،(1/158)
يُقَال: فِتاحة وفُتاحة بِكَسْر الْفَاء وَبِضَمِّهَا، وفَاتحت الرجل: إِذا حاكمته.(1/159)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
{بئس مَا اشْتَروا بِهِ أنفسهم} أَي: بئس مَا باعوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ {أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ الله بغيا} حدا {أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} .
قَالَ يَحْيَى: وكُلُّ شَيْء فِي الْقُرْآن ((اشْتَروا)) فَهُوَ شِرَاء، إِلَّا هَذِه الْآيَة، وكُلُّ شَيْء فِي الْقُرْآن {شروا} فَهُوَ بيع.
قَالَ مُحَمَّد: {بغيا} مصدر الْمَعْنى: كفرُوا بغيا لِأَن أنزل اللَّه الفَضْل على نبيه صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم {فَبَاءُوا بغضب على غضب} قَالَ قَتَادَة: غضب اللَّه عَلَيْهِم بكفرهم بالإنجيل، وَغَضب عَلَيْهِم [بكفرهم] بِالْقُرْآنِ. [آيَة 91 - 93](1/159)
[آيَة 94 - 95](1/160)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} (ل 14) بِمَا بعده؛ يَعْنِي الْإِنْجِيل وَالْقُرْآن {وَهُوَ الْحق} يَعْنِي: الْقُرْآن {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} أَي: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل.
قَالَ مُحَمَّد: نصب {مُصدقا} على الْحَال، وَهَذِه حَال مُؤَكدَة.
قَوْله تَعَالَى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤمنين} وَكَانَ أَعدَاء اللَّه يَقُولُونَ: [إِن] آبَاءَهُم الَّذين قتلوا أَنْبيَاء اللَّه من قبل [وَلَيْسَ فِيمَا] أنزل الله عَلَيْهِم قتل أَنْبِيَائهمْ فكذبهم اللَّه فِي قَوْلهم {نُؤْمِنُ بِمَا أنزل علينا} وَهُوَ تَفْسِير الْحسن.(1/160)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} يَعْنِي: أوَّلهم {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} .(1/160)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)
{وَإِذ أَخذنَا ميثاقكم} أَي: واذْكُرُوا إِذْ أَخذنَا ميثاقكم {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة} قد مضى تَفْسِيره {واسمعوا} قَالُوا: {سمعنَا وعصينا} سَمِعْنَا مَا تَقُولُ، وعصينا أَمرك. قَالَ: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بكفرهم} .(1/160)
قَالَ مُحَمَّد: الْمَعْنى: أُدْخِلَ فِي قُلُوبهم؛ كَذَلِك قَالَ ابْن عَبَّاس. وَمن كَلَام الْعَرَب اشرب عني مَا أَقُول؛ أَي: اقبله وَعِهِ.
قَالَ يَحْيَى: قَالَ الحَسَن: لَيْسَ كلهم تَابَ. وَقيل: فَالَّذِينَ لم يتوبوا هم الَّذين بَقِي حب الْعجل فِي قُلُوبهم؛ وهم الَّذين قَالَ اللَّه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحيوة الدُّنْيَا} الْآيَة. {قل بئس مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤمنين} أَي: لَو كَانَ الإِيمَان فِي قُلُوبكُمْ، لحجزكم عَنْ عبَادَة الْعجل. ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهِم لقَولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هوداً أَو نصرى} ولقولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَة} وَأَشْبَاه ذَلِكَ فَقَالَ: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أَنكُمْ من أهل الْجنَّة(1/161)
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهم} يَعْنِي: بِمَا أسلفوا من الْأَعْمَال الخبيثة؛ لأَنهم يعلمُونَ أَنهم معذَّبون؛ يَعْنِي بِهِ الْخَاصَّة الَّذين جَحَدُوا وَكَفرُوا حسدا وبغيا. [آيَة 96](1/161)
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَو يعمر ألف سنة} قَالَ ابْن عَبَّاس: الَّذين أشركوا هُم الْمَجُوس، وَذَلِكَ أَن(1/161)
الْمَجُوس كَانُوا يأْتونَ الْملك بالتحية فِي النيروز والمهرجان، فَيَقُولُونَ لَهُ: عش أَيهَا الْملك ألف سنة كلهَا مثل يَوْمك هَذَا.
قَالَ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} أَي: مَا عمره بِمُبَاعِدِهِ من الْعَذَاب. [آيَة 97 - 100](1/162)
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله} يَعْنِي: نزل الْقُرْآن {مُصَدِّقًا لِمَا بَين يَدَيْهِ} من كتاب اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ قَتَادَة: ذكر لنا أَن عُمَر بْن الخَطَّاب أَتَى نَفرا من الْيَهُود، فَلَمَّا أبصروه رحبوا بِهِ؛ فَقَالَ: أما وَالله مَا جِئْت لِحُبِّكُمْ، وَلا لرغبة فِيكُم، وَلَكِن جِئْت لأسْمع مِنْكُم. فَسَأَلَهُمْ وسألوه؛ فَقَالُوا لَهُ: من صَاحب صَاحبكُم؟ قَالَ: جِبْرِيل. قَالَ: قَالُوا: ذَاك عدونا من أهل السَّمَاء يطلع مُحَمَّدًا عَلَى سرنا؛ وَهُوَ(1/162)
إِذا جَاءَ جَاءَ بِالْحَرْبِ والسَّنَةِ، وَكَانَ صَاحب صاحبنا مِيكَائِيل، وَكَانَ إِذا جَاءَ جَاءَ بالْخِصْب وبالسِّلْم. فَقَالَ عُمَر: أتعرفون جِبْرِيل، وتنكرون مُحَمَّدًا؟ وفارقهم عِنْد ذَلِكَ وَتوجه نَحْو النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام ليحدثه حَدِيثه؛ فَوَجَدَهُ قد نزلت عَلَيْهِ هَذِه الْآيَة.
وَفِي رِوَايَة الْكَلْبِيّ: أَن الْيَهُود قَالَتْ: إِن جِبْرِيل عَدو لَنَا، فَلَو أَن مُحَمَّدًا يزْعم أَن مِيكَائِيل الَّذِي يَأْتِيهِ صدقناه، وَإِن جِبْرِيل عَدو لميكائيل؛ فَقَالَ عُمَر: إِنِّي أشهد أَن من كَانَ عدوا لجبريل، فَإِنَّهُ عَدو لميكائيل.(1/163)
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)
قَوْله تَعَالَى: {أَو كلما عَاهَدُوا عهدا نبذه} أَي: نقضه {فريق مِنْهُم} يَعْنِي: الْيَهُود {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤمنُونَ} كَقَوْلِه: {فقليلا مَا يُؤمنُونَ} . [آيَة 101](1/163)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ الله} يَعْنِي: مُحَمَّدًا {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاء ظُهُورهمْ} أَي: لَا يعْملُونَ بِهِ {كَأَنَّهُمْ لَا يعلمُونَ} أَي: كَأَنَّهُمْ لَيْسَ عِنْدهم [من الله فِيهِ عهدا] . [آيَة](1/163)
[آيَة 102](1/164)
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
(ل 15) قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِين} يَقُولُ: نبذوا كتاب اللَّه، وَاتبعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَان.
قَالَ مُحَمَّد: ((تتلوا)) ؛ أَي: تروي التِّلَاوَة وَالرِّوَايَة شَيْء وَاحِد.
قَوْله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السحر} قَالَ الْكَلْبِيّ: لما ابتلى اللَّه - عز وَجل - سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلام بِمَا كَانَ من أَمر الشَّيَاطِين، كتبت الشَّيَاطِين سحرًا كثيرا، ودفنوه تَحت كرسيه، ثمَّ لما قبض اللَّه سُلَيْمَان أَتَت الشَّيَاطِين إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ من الْإِنْس، فَقَالُوا: أَلا ندلكم عَلَى مَا كَانَ سُلَيْمَان يملك بِهِ الْإِنْس، وَتَدين لَهُ بِهِ الْجِنّ، وتسخر لَهُ [بِهِ] الرِّيَاح؟ قَالُوا: بلَى. قَالُوا: احفروا تَحت كرسيه، فَفَعَلُوا وَاسْتَخْرَجُوا كتبا كَثِيرَة، فَلَمَّا قرءوها فَإِذا هِيَ الشّرك بِاللَّهِ؛ فَقَالَ صلحاء بني إِسْرَائِيل: معَاذ اللَّه من هَذَا أَن نتعلمه، وتعلمه سفلَة بني إِسْرَائِيل [وفشت الْكَلِمَة] لِسُلَيْمَان فِي بني إِسْرَائِيل حَتَّى عذره اللَّه على لِسَان مُحَمَّد صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْملكَيْنِ} يَقُول: اتبعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَان، وَاتبعُوا مَا أنزل على الْملكَيْنِ بِبَابِل هاروت وماروت.(1/164)
قَالَ قَتَادَة: السحر سحران: سحر تعلمه الشَّيَاطِين، وسحر يُعلمهُ هاروت وماروت.
وقَالَ الحَسَن: إِن الْملكَيْنِ بِبَابِل إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَإِن من عزم عَلَى تعلم السحر، ثمَّ أتاهما سَمِعَ كَلَامهمَا، من غير أَن يراهما.
وقَالَ مُجَاهِد: عجبت الْمَلَائِكَة من ظلم بني آدم؛ وَقد جَاءَتْهُم الرُّسُل، فَقَالَ لَهُم رَبهم: اخْتَارُوا مِنْكُم اثْنَيْنِ أنزلهما يحكمان فِي الأَرْض، فَكَانَا هاروت وماروت، فحكما فعدلا؛ حَتَّى نزلت عَلَيْهِمَا الزهرة فِي صُورَة أحسن امْرَأَة تخاصم [زَوجهَا] فافتتنا بِهَا وأراداها على نَفسهَا فطارت الزهرة؛ فَرَجَعت حَيْثُ كَانَت، ورجعا إِلَى السَّمَاء فزجرا فاستشفعا بِرَجُل من بني آدم، فَقَالَا: سَمِعْنَا رَبك يذكرك بِخَير، فاشفع لَنَا، فَقَالَ لَهما: كَيفَ يشفع أهل الأَرْض لأهل السَّمَاء؟ ثمَّ واعدهما يَوْمًا يَدْعُو لَهما فِيهِ فَدَعَا لَهما فخيرا بَين عَذَاب الدُّنيا، وَعَذَاب الْآخِرَة، فَنظر أَحدهمَا إِلَى الآخر، فَقَالَ: ألم تعلم أَن أَفْوَاج عَذَاب اللَّه فِي الْآخِرَة، كَذَا وَكَذَا، وَفِي الْخلد أَيْضا؟ فاختارا عَذَاب الدُّنيا؛ فهما يعذبان بِبَابِل.
قَالَ مُحَمَّد: وَقد ذكر يَحْيَى عَنْ غير مُجَاهِد؛ أَن الْمَرْأَة الَّتِي افتتنا بِهَا كَانَت من نسَاء أهل الدُّنيا. وَالله أعلم.(1/165)
{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحن فتْنَة} أَي: بلَاء {فَلَا تكفر} .
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله {فتْنَة} مَعْنَاهُ: ابتلاء واختبار؛ وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ يَحْيَى.
قَالَ قَتَادَة: أَخذ عَلَيْهِمَا أَلا يعلمَا أحدا حَتَّى يَقُولَا لَهُ: إِنَّمَا نَحْنُ فتْنَة فَلا تَكْفُرْ {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} وَهُوَ أَن يبغض كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى صَاحبه {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ الله} قَالَ الحَسَن: من شَاءَ اللَّه سلطهم عَلَيْهِ، وَمن شَاءَ مَنعهم مِنْهُ {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} يَعْنِي: لمن اخْتَارَهُ {مَا لَهُ فِي الْآخِرَة من خلاق} يَعْنِي: نَصِيبا فِي الجَنَّة، قَالَ قَتَادَة: قد علم أهل الْكتاب فِي عهد اللَّه إِلَيْهِم أَن السَّاحر لَا خلاق لَهُ عِنْد اللَّه يَوْم الْقِيَامَة {وَلَبِئْسَ مَا شروا بِهِ أنفسهم} أَي: مَا باعوها بِهِ {لَوْ كَانُوا يعلمُونَ} قَالَ الحَسَن: لَو كَانُوا عُلَمَاء أتقياء، مَا اخْتَارُوا السحر. [آيَة 103 - 104](1/166)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} يَعْنِي: الثَّوَاب يَوْم الْقِيَامَة {خَيْرٌ لَو كَانُوا يعلمُونَ} أَي: لَو كَانُوا عُلَمَاء لآمنوا بعلمهم ذَلِكَ، وَاتَّقوا وَلا يُوصف الْكفَّار بِأَنَّهُم عُلَمَاء.(1/166)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} قَالَ الْكَلْبِيّ: رَاعنا كلمة كَانَت الْعَرَب (تكني بِهَا) ؛ يَقُولُ الرجل لصَاحبه: راعني سَمعك؛ فَلَمَّا سمعتهم الْيَهُود يَقُولُونَ هَذَا للنَّبِي (ل 16) عَلَيْهِ السَّلام أعجبهم ذَلِكَ، و ((راعني)) فِي(1/166)
كَلَام الْيَهُود كلمة يسب [بِهَا بَعضهم بَعْضًا] فَقَالُوا: قومُوا بِنَا نسب مُحَمَّدا [فأعلنوا] لَهُ السب، فَكَانُوا يأتونه، فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّد رَاعنا. وَيضْحَكُونَ، فعرفها رَجُل من الْأَنْصَار كَانَ يعرف لغتهم، فَقَالَ: يَا أَعدَاء الله، عَلَيْكُم لعنة اللَّه، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَئِن سَمِعْتُ رجلا مِنْكُم بعد مجلسي هَذَا يُعِيدهَا لَأَضرِبَن عُنُقه، فَقَالُوا: أولستمَ تقولونها للنَّبِي؟ ! فَقَالَ اللَّه للَّذين آمنُوا: {لَا تَقولُوا} لمُحَمد: {رَاعنا} وَلَكِن قُولُوا: {انظرنا} ؛ أَي: انتظرنا نتفهم. فَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: الْآن لَئِن سَمِعْتُمْ بِالرجلِ من الْيَهُود يَقُولُ لنبيكم: رَاعنا - فأوجعوه ضربا. فانتهت عَنْهَا الْيَهُود بعد ذَلِكَ.
قَالَ مُحَمَّد: وَذكر غير يَحْيَى؛ أَن الْمُسلمين كَانُوا يَقُولُونَ لرَسُول اللَّه صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم: رَاعنا وأرعنا سَمعك، وأصل الْكَلِمَة من راعيت الرجل؛ إِذا تأملته، وتعرفت أَحْوَاله [ومِنْهُ يُقَال: أرعني سَمعك] . وَكَانَت الْيَهُود يَقُولُونَهَا لرَسُول اللَّه صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم وَهِي بلغتهم سبّ، ويحرفونها إِلَى مَا فِي قُلُوبهم من السب لرَسُول اللَّه صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم والطعن عَلَيْهِ.
قَوْله تَعَالَى: {واسمعوا} يَعْنِي: وَاسْتَمعُوا مَا يَأْمُركُمْ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا تَكُونُوا كالكافرين الَّذين لَا يَقُولُونَ: انظرنا، وَلا يسمعُونَ قَول رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم {عَذَاب أَلِيم} أَي: موجع. [آيَة 105](1/167)
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
قَوْله تَعَالَى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْركين} أَي: وَلا من الْمُشْركين {أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ ربكُم} يَعْنِي: الْوَحْي الَّذِي يَأْتِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يسرهم ذَلِك؛ حسدا لرَسُول الله وَلِلْمُؤْمنِينَ.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: {من خير من ربكُم} دخلت ((من)) هَا هُنَا على جِهَة التوكيد وَالزِّيَادَة، كَمَا تَقُولُ: مَا جَاءَنِي من أحد، وَمَا جَاءَنِي أحد.
{وَاللَّهُ يَخْتَصُّ برحمته من يَشَاء} قَالَ الْحسن: يَعْنِي: النُّبُوَّة. [آيَة 106 - 108](1/168)
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
قَوْله تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَة} أَي: نبدل حكمهَا، وَنثْبت خطها: {أَو ننسها} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: ننسها رَسُوله؛ وَقد نسي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْض مَا كَانَ نزل من الْقُرْآن، فَلم يُثْبت فِي الْقُرْآن.
قَالَ يَحْيَى: وتقرأ {أَوْ نَنْسَأْهَا} مَهْمُوزَة؛ أَي: نؤخرها؛ فَلم تثبت فِي الْقُرْآن {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} يَقُولُ: هَذِه الْآيَة الناسخة خير فِي زَمَاننَا هَذَا لأَهْلهَا، وَتلك الأولى المنسوخة خير لأَهْلهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَان، وَهِي مثلهَا بعد(1/168)
فِي حَقّهَا وصدقها. {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض} فَهُوَ يحكم فيهمَا بِمَا يُرِيد {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ من ولي وَلَا نصير} يمنعكم إِن أَرَادَ بكم عذَابا.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: {أَلَمْ تَعْلَمْ} لفظ: {الم} هَا هُنَا لفظ الِاسْتِفْهَام؛ وَمَعْنَاهُ: التَّوْقِيف والتقرير؛ وَمعنى الْآيَة: أَن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ؛ فَهُوَ أعلم بِوَجْه الصّلاح فِيمَا يتعبدهم بِهِ من نَاسخ ومنسوخ، وَغير ذَلِكَ.(1/169)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
قَوْله تَعَالَى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى من قبل} قَالَ قَتَادَة: كَانَ الَّذِي سَأَلُوا مُوسَى أَن قَالُوا: {أَرِنَا الله جهرة} {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضل سَوَاء السَّبِيل} [أَي: قصد] الطَّرِيق. [آيَة 109 - 110](1/169)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
قَوْله تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أهل الْكتاب} يَعْنِي: من لم يُؤمن مِنْهُم (لَوْ(1/169)
يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بعد مَا تبين لَهُم} يَعْنِي: أَن مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، وَأَن دينه الْحق {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا}
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله تَعَالَى: {حَسَدًا من عِنْد أنفسهم} الْمَعْنى: أَن كِتَابهمْ أَمرهم بِمَا هُم عَلَيْهِ [من الشّرك] وَبَين ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير} {ل 17} قَالَ قَتَادَة: كَانَت هَذِه الْآيَة قبل أَن يؤمروا بِقِتَال أهل الْكتاب؛ ثمَّ أنزل اللَّه بعد ذَلِك سُورَة بَرَاءَة، وأتى فِيهَا بأَمْره وقضائه؛ وَهُوَ: {قتلوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه} الْآيَة [آيَة 111 - 112](1/170)
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَو نَصَارَى} قَالَت الْيَهُود: لن يدْخل الجَنَّة إِلَّا من كَانَ يَهُودِيّا، وَقَالَت النَّصَارَى: لن يدْخل الجَنَّة أَلا من كَانَ نَصْرَانِيّا، قَالَ اللَّه - تَعَالَى -: {قل هاتوا ... . .} قَالَ الحَسَن: يَعْنِي: حجتكم ثمَّ كذبهمْ،(1/170)
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
وَأخْبر تَعَالَى أَن الجَنَّة إِنَّمَا هِيَ للْمُؤْمِنين؛ فَقَالَ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجهه لله} أَي: أخْلص دينه لله {وَهُوَ محسن} {فَلهُ أجره} (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هم يَحْزَنُونَ} على الدُّنْيَا] الْآيَة.
[أَيَّة](1/170)
[آيَة 113](1/171)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتلون الْكتاب} يَعْنِي: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل؛ أَي: فَكيف اخْتلفُوا وَتَفَرَّقُوا [فِي الْكتاب] ، وَالْكتاب وَاحِد جَاءَ من عِنْد اللَّه يصدق بعضه بَعْضا. {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}
قَالَ مُحَمَّد: يَعْنِي من كذب من الْأُمَم: أمة نوح وَعَاد وَثَمُود وَغَيرهم؛ أَي: أَن هَؤُلاءِ أَيْضا قَالُوا: لن يدْخل الجَنَّة أَلا من كَانَ عَلَى ديننَا؛ فِيمَا ذكر ابْن عَبَّاس. {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
قَالَ يَحْيَى: فَيكون حكمه فيهم أَن يكذبهم جَمِيعًا، ويدخلهم النَّار. [آيَة 114 - 115](1/171)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ منع مَسَاجِد الله} الْآيَة تَفْسِير الْكَلْبِيّ: أَن الرّوم غزوا بني إِسْرَائِيل، فحاربوهم فظهروا عَلَيْهِم، فَقتلُوا مُقَاتلَتهمْ، وَسبوا ذَرَارِيهمْ، وأحرقوا التَّوْرَاة، وهدموا بَيت الْمُقَدّس، وألقوا فِيهِ الْجِيَف(1/171)
فَلم يعمرا؛ حَتَّى بناه أهل الْإِسْلَام؛ فَلم يدْخلهُ رومي بعد إِلَّا خَائفًا {لَهُم فِي الدُّنْيَا حزي} وَهُوَ: فتح مدينتهم رُومِية، وَقتل مُقَاتلَتهمْ، وَسبي ذَرَارِيهمْ {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم} .(1/172)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} .
قَالَ مُحَمَّد: الْمَعْنى هُوَ: خالقهما {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قَالَ بَعضهم: يَعْنِي: فثم قبْلَة اللَّه.
يَحْيَى: عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ عَاصِم بن عبيد اللَّهِ الْعُمَرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [كَانَ] فِي سَفَرٍ فَنَزَلُوا مَنْزِلا فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ، فَجَعَلَ أَحَدُهُمْ يَجْمَعُ الْحَصْبَاءَ، فَيَجْعَلُهَا مَسْجِدًا فَيُصَلِّي، فَلَمَّا أَصْبَحُوا؛ إِذَا هُمْ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمغْرب} الْآيَة)) .(1/172)
[آيَة 116 - 118](1/173)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ولدا سُبْحَانَهُ} ينزه نَفسه عَمَّا يَقُولُونَ {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض كل لَهُ قانتون} قَالَ الحَسَن: كُلٌّ لَهُ قَائِم بِالشَّهَادَةِ، [بِأَنَّهُ عبد لله](1/173)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
{بديع السَّمَاوَات وَالْأَرْض} أَي: ابتدعهما بِغَيْر مِثَال {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كن فَيكون} .
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله {كُنْ فَيَكُونُ} الْمَعْنى: فَهُوَ يكون.(1/173)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
{وَقَالَ الَّذين لَا يعلمُونَ} وهم مشركو الْعَرَب {لَوْلَا} هلا {يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قبلهم مثل قَوْلهم} يَعْنِي: قَول قوم مُوسَى لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلام {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} وَمَا سَأَلُوا من الْآيَات {تَشَابَهَتْ قُلُوبهم} فِي الْكفْر مثل قَوْله: {يضهئون قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} {وَقد بَينا الْآيَات لقوم يوقنون} يصدقون.
قَالَ مُحَمَّد: يَعْنِي الْآيَات الَّتي أَتَى بِهَا صلوَات اللَّه عَلَيْهِ فِي نَحْو انْشِقَاق الْقَمَر؛ وَغير ذَلِك من آيَاته.(1/173)
[آيَة 119 - 120](1/174)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بشيرا وَنَذِيرا} بشيرا بِالْجنَّةِ، وَنَذِيرا من النَّار {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} من قَرَأَها [تَسْأَلُ] بِفَتْح التَّاء تَفْسِيره لَا تسْأَل عَنْ حَالهم؛ فَإِن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ عَنْ [أَبِيهِ] فَأنْزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - {وَلا تَسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} وتقرأ على وَجه آخر {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَاب الْجَحِيم} أَي: لَا تُسْأل عَنْهُمْ إِذا أَقمت عَلَيْهِم الْحجَّة (ل 18)(1/174)
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى} يَعْنِي بذلك الْعَامَّة مِنْهُم {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} . {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الْهدى} ؛ يَعْنِي: الإِسْلام الَّذِي أَنْت عَلَيْهِ. (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ(1/174)
وَلَا نصير} [يُثبتهُ] بذلك؛ وَقد علم جلّ جَلَاله أَنَّهُ لَا يتبع أهواءهم. [آيَة 121 - 123](1/175)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَته} قَالَ قَتَادَة: هُم أَصْحَاب نَبِي اللَّه آمنُوا بِكِتَاب اللَّه، وَأَحلُّوا حَلَاله، وَاجْتَنبُوا حرَامه، وَعمِلُوا بِمَا فِيهِ.(1/175)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)
قَوْله تَعَالَى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فضلتكم على الْعَالمين} يَعْنِي: عَالم أهل زمانهم(1/175)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نفس شَيْئا} أَي: لَا تُغني {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عدل} أَي: فدَاء {وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} أَي: أَن الشَّفَاعَة لَا تكون إِلَّا للْمُؤْمِنين {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} يَعْنِي: يمْنَعُونَ من الْعَذَاب. [آيَة 124 - 125](1/175)
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
{وَإِذا ابتلى} اختبر {إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} عمل بِهن؛ تَفْسِير ابْن عَبَّاس هِيَ: الْمَنَاسِك. {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ للنَّاس إِمَامًا} قَالَ الْكَلْبِيّ: يَعْنِي: يُهْتَدَى بهديك(1/175)
وسنتك، فأعجب ذَلِكَ إِبْرَاهِيم {قَالَ وَمن ذريتي} أَي: وَمن كَانَ من ذريتي فَلْيَكُن إِمَامًا [لغير] ذريتي قَالَ اللَّه {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} من ذريتك؛ أَي: أَن أجعلهم أَئِمَّة يقْتَدى بهم.(1/176)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مثابة للنَّاس} قَالَ الحَسَن: يَعْنِي: يثوبون إِلَيْهِ كُلَّ عَام.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله {مثابة} أَي: معادا؛ تَقُولُ: ثُبْتُ إِلَى كَذَا [وأَثْبُتُ إِلَى كَذَا] ؛ أَي: عدت إِلَيْهِ، وثاب إِلَيْهِ جِسْمه بعد الْعلَّة؛ أَي عَاد.
قَوْله تَعَالَى: {وَأمنا} قَالَ الحَسَن: كَانَ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّة؛ كَانَ الرجل إِذا جر جريرة، ثمَّ لَجأ إِلَى الْحرم لم يُطْلَبْ، وَلم يُتَنَاوَلْ فَأَما فِي الْإِسْلَام فَإِن الْحرم لَا يمْنَع من حدٍّ يجب عَلَيْهِ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} يَعْنِي: موطئ قَدَمَيْهِ.
يَحْيَى: عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: ((يَا رَسُولَ الله؛ لَوْ صَلَّيْنَا خَلْفَ الْمَقَامِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مصلى} .
قَالَ مُحَمَّد: قِرَاءَة يَحْيَى: {وَاتَّخِذُوا} بِكَسْر الْخَاء، وَقَرَأَ بَعْض الْقُرَّاء: {وَاتَّخَذُوا} بِفَتْح الْخَاء؛ وَمَعْنَاهَا: أَن النَّاس اتَّخذُوا هَذَا.(1/176)
يَحْيَى: عَنْ حَمَّادٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: ((الْمَقَامُ جَاءَ بِهِ ((مَلَكٌ) فَوَضَعَهُ تَحْتَ قَدَمِ إِبْرَاهِيمَ)) .
يَحْيَى: عَنْ حَمَّادٍ، وَحَدَّثَنِي الْحَجَّاجُ، عَنْ مَوْلًى لِبَنِي هَاشِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ((الْحِجْرُ وَالْمَقَامُ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ)) .
قَوْله تَعَالَى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} قَالَ قَتَادَة: أَي: من عبَادَة الْأَوْثَان، وَقَول الزُّور والمعاصي. {لِلطَّائِفِينَ والعاكفين} تَفْسِير ابْن عَبَّاس: الطائفون: الَّذين يطوفون بِالْبَيْتِ، والعاكفون: الْقعُود حوله ينظرُونَ إِلَيْهِ {والركع السُّجُود} الَّذين يصلونَ إِلَيْهِ. [آيَة 126](1/177)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وارزق أَهله من الثمرات} قَالَ الْكَلْبِيّ: يحمل [إِلَيْهِ] من الْآفَاق.
قَوْله تَعَالَى: {مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} الْآيَة قَالَ الحَسَن: لما قَالَ إِبْرَاهِيمُ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي مجيبك، وأجعله بَلَدا آمنا لمن(1/177)
{آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} يَوْم الْقِيَامَة {وَمن كفر} فَإِنِّي أمتعه {قَلِيلا} وأرزقه من الثمرات، وأجعله آمنا فِي الْبَلَد؛ وَذَلِكَ إِلَى قَلِيل؛ يَعْنِي إِلَى خُرُوج مُحَمَّد وَذَلِكَ أَن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - كرم مُحَمَّدًا أَن يخرجهم من الْحرم؛ وَهُوَ الْمَسْجِد الْحَرَام.
قَالَ: {ثمَّ أضطره} عِنْد الْمَوْت {إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . [آيَة 127 - 130](1/178)
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِد من الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل} يَعْنِي: بُنْيَانه.
قَالَ مُحَمَّد: قَوَاعِد الْبَيْت: أساسه؛ وَاحِدهَا: قَاعِدَة وَأما قَوَاعِد [النِّسَاء فواحدها: قَاعد، وَهِي الْعَجُوز] .(1/178)
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
(ل 19) قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً} يَعْنِي: جمَاعَة {مسلمة لَك} فَفعل اللَّه ذَلِكَ. {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} أَي: عَلِّمْنَا. قَالَ قَتَادَة: الْمَنَاسِك: الطّواف بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة، وَالْوُقُوف بِعَرَفَة، والإفاضة مِنْهَا، وَالْوُقُوف(1/178)
بِجمع، والإفاضة مِنْهَا، وَرمى الْجمار.
قَالَ الحَسَن: إِن جِبْرِيل أرى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنَاسِك كلهَا، وَلكنه أَصْلٌ عَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام(1/179)
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
{رَبنَا وَابعث فيهم} يَعْنِي: فِي ذُريَّته {رَسُولا مِنْهُمْ} فَاسْتَجَاب اللَّه لَهُ، فَبعث مُحَمَّدا عَلَيْهِ السَّلام فِي ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم يعْرفُونَ وَجهه وَنسبه. {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} قَالَ قَتَادَة: الْكتاب: الْقُرْآن، وَالْحكمَة: السّنة {ويزكيهم} قَالَ بَعضهم يَعْنِي: يَأْخُذ صَدَقَاتهمْ؛ وَهِي الطَّهَارَة {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} الْعَزِيز فِي نقمته، الْحَكِيم فِي أمره.(1/179)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفسه} أَي: عجز رأيُهُ عَنِ النّظر لنَفسِهِ، فَضَلَّ.
قَالَ مُحَمَّد: وقِيلَ: الْمَعْنى: إِلَّا من سفهت نفسُهُ؛ أَي: جهلت.
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} أَي: اخترناه {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لمن الصَّالِحين} وهم أهل الْجنَّة. [آيَة 131 - 134](1/179)
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)
{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} أخْلص.(1/180)
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
قَوْله تَعَالَى: {وَأوصى بهَا إِبْرَاهِيم بنيه} يَعْنِي: كلمة التَّوْحِيد {وَيَعْقُوب} أَي: وَأوصى بِهَا أَيْضا يَعْقُوب بنيه بعد إِبْرَاهِيم قَالَ: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّين} أَي: اخْتَار لكم الْإِسْلَام(1/180)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوب الْمَوْت} أَي: لم تَكُونُوا يَوْمئِذٍ حضورا؛ خَاطب بِهَذَا من كَانَ حول النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام من بني إِسْرَائِيل {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبدُونَ} أَي شَيْء تَعْبدُونَ {مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق} وَكَانَ (الحَسَن) يقْرؤهَا: ((نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَي: وإله إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق.
قَالَ مُحَمَّد: من قَرَأَ بِهَذَا فَإِنَّهُ كره أَن يَجْعَل الْعَمَّ أَبًا.
قَوْله تَعَالَى: {إِلَهًا وَاحِدًا} قَالَ مُحَمَّد: نصب {إِلَهًا وَاحِدًا} على معنى: نعْبد إلهك فِي حَال وحدانيته(1/180)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
{تِلْكَ أمة قد خلت} يَعْنِي: جمَاعَة قد مَضَت {وَلا تسْأَلُون عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ} أَي: إِنَّكُم إِنَّمَا تسْأَلُون عَنْ أَعمالكُم. [آيَة 135](1/180)
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تهتدوا} قَالَتِ الْيَهُودُ: كُونُوا يَهُودًا تَهْتَدُوا(1/180)
وَقَالَتِ النَّصَارَى: كُونُوا نَصَارَى تَهْتَدُوا؛ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: قل يَا مُحَمَّد {بل مِلَّة إِبْرَاهِيم} أَي: بل نَكُون على مِلَّة إِبْرَاهِيم {حَنِيفا} قَالَ الحَسَن: الحنيف. المخلص.
قَالَ مُحَمَّد: وَمعنى الحنف فِي اللُّغَة: الْميل؛ يُقَال: رجل حَنِفٌ [وَرجل حنيف] ؛ وَرجل أحنف، وَهُوَ الَّذِي تميل قدماه كُل وَاحِدَة مِنْهُمَا إِلَى أُخْتهَا بأصابعها، فَالْمَعْنى: إِن إِبْرَاهِيم (حَنَفَ) إِلَى دين اللَّه. [آيَة 136 - 138](1/181)
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
وقَالَ الحَسَن: ثمَّ أَمر اللَّه الْمُؤمنِينَ أَن يَقُولُوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط} يَعْنِي: يُوسُف وَإِخْوَته(1/181)
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فقد اهتدوا} قَالَ مُحَمَّد: الْمَعْنى: فَإِن (أَتَوا) بِتَصْدِيق مثل تصديقكم فِي إيمَانكُمْ بِكُل مَا أَتَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاء - فقد(1/181)
اهتدوا. قَالَ: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هم فِي شقَاق} قَالَ الحَسَن: يَعْنِي: فِي تَعَادٍ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.(1/182)
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
{صبغة الله} أَي: دين اللَّه {وَمَنْ أَحْسَنُ من الله صبغة} دينا.
قَالَ مُحَمَّد: يجوز أَن تكون {صبغة الله} مَنْصُوبَة عَلَى معنى: بل تكون أهل صبغة الله. [آيَة 139 - 141](1/182)
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبنَا وربكم} الْآيَة.
قَالَ مُحَمَّد: قِيلَ: إِن تَأْوِيل هَذِه الْآيَة: أَن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أَمر الْمُسلمين أَن يَقُولُوا للْيَهُود الَّذين ظاهروا من لَا يوحد [اللَّه من النَّصَارَى وَعَبدَة الْأَوْثَان، ويحتجوا عَلَيْهِم بأنكم تَزْعُمُونَ أَنكُمْ توحدون [اللَّه وَحده وَنحن نوحد الله، فَلم ظاهرتم من لَا يوحد اللَّه؟] {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعمالكُم} .
(ل 20) ثمَّ أعلموهم أَنكُمْ مخلصون دون من خالفكم.(1/182)
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
قَوْله تَعَالَى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أأنتم أعلم أم الله} قَالَ الحَسَن: يَعْنِي بذلك علماءهم؛ لأَنهم كتموا مُحَمَّدا عَلَيْهِ السَّلام وَدينه؛ وَفِي دينه أَن إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا مُسلمين، وَلم يَكُونُوا مُشْرِكين.
قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَة عِنْده من الله} أَي: لَا أحد أظلم مِنْهُ. [آيَة 142](1/183)
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
قَوْله تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاس} وهم مشركو الْعَرَب فِي تَفْسِير الْحسن {مَا ولاهم} أَي: مَا حَولهمْ {عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} هِيَ بَيت الْمُقَدّس؛ نزلت هَذِه الْآيَة بعد مَا صرف النَّبي عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الْكَعْبَة؛ فَهِيَ قبلهَا فِي التَّأْلِيف، وَهِي بعْدهَا فِي التَّنْزِيل؛ وَذَلِكَ أَن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما حوله اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَى الْكَعْبَة من بَيت الْمُقَدّس، قَالَ الْمُشْركُونَ: يَا مُحَمَّد، رغبت عَنْ قبْلَة آبَائِك، ثمَّ رجعت إِلَيْهَا؟ وَأَيْضًا وَالله لترجعَنَّ إِلَى دينهم؛ فَأنْزل اللَّه: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} الْآيَة.
[الْآيَة 143](1/183)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسطا} أَي: عدلا؛ يَعْنِي: أمة مُحَمَّد {لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} يَوْم الْقِيَامَة بِأَن الرُّسُل قد بلغت قَومهَا عَنْ رَبهَا {وَيَكُونَ الرَّسُول عَلَيْكُم شَهِيدا} أَنَّهُ قد بلغ رِسَالَة ربه إِلَى أمته؛ وَهَذَا تَفْسِير قَتَادَة.
قَالَ مُحَمَّد: وَأنْشد بَعضهم:
(هُم وسط يرضى الْأَنَام بحكمهم ... إِذا نزلت إِحْدَى اللَّيَالِي بمعظم)
يَعْنِي: بوسط: عدلا خيارا.
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} يَعْنِي: بَيت الْمُقَدّس {وَإِلَّا لنعلم} يَعْنِي: علم الفعال {مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذين هدى الله} يَعْنِي: صرف الْقبْلَة، قَالَ قَتَادَة: ((كَانَت الْقبْلَة فِيهَا بلَاء وتمحيص، صلى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّة أقامته بِمَكَّة إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وصلت الْأَنْصَار نَحْو بَيت الْمُقَدّس حَوْلَيْنِ قبل قدوم النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الْمَدِينَة، وَصلى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد قدومه الْمَدِينَة نَحْو بَيت الْمُقَدّس سِتَّة عشر شهرا، ثمَّ وَجهه اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْكَعْبَة؛ فَقَالَ قَائِلُونَ: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} لَقَد اشتاق الرجل إِلَى مولده)) .
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضيع إيمَانكُمْ} يَعْنِي: صَلَاتكُمْ إِلَى بَيت الْمُقَدّس، قَالَ قَتَادَة: لما صرفت الْقبْلَة قَالَ قوم: كَيفَ بأعمالنا الَّتي كُنَّا(1/184)
نعمل؟ فَأنْزل الله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ} وَقد يَبْتَلِي الله - تَعَالَى - الْعباد بِمَا شَاءَ من أمره، الْأَمر بعد الْأَمر؛ ليعلم من يطيعه مِمَّن يعصيه؛ وكُلُّ ذَلِكَ مَقْبُول؛ إِذا كَانَ فِي إِيمَان بِاللَّهِ، وإخلاص لَهُ، وَتَسْلِيم لقضائه. [آيَة 144 - 145](1/185)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
قَوْله تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجهك فِي السَّمَاء} تَفْسِير الْكَلْبِيّ: ((أَن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لجبريل: وددت أَن اللَّه صرفني عَنْ قبْلَة الْيَهُود إِلَى غَيرهَا. فَقَالَ جِبْرِيل: إِنَّمَا أَنَا عَبْد مثلك، فَادع اللَّه وسَلْهُ ثمَّ ارْتَفع جِبْرِيل، فَجعل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدِيم النّظر إِلَى السَّمَاء رَجَاء أَن يَأْتِيهِ جِبْرِيل بِالَّذِي سَأَلَ اللَّه؛ فَأنْزل اللَّه عَلَيْهِ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} )) ، {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً ترضاها} أَي: تحبها {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِد الْحَرَام} يَعْنِي: تلقاءه.
قَالَ مُحَمَّد: وَأنْشد بَعضهم:
(أَقُول لأم زِنْبَاعٍ أقيمي ... صُدُور العيس شطر بني تَميم)
يَعْنِي: تِلْقَاء بني تَمِيم.(1/185)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تبعوا قبلتك} قَالَ مُحَمَّد: يَعْنِي [الْآيَات الَّتي أَتَى] الْأَنْبِيَاء؛ مثل النَّاقة والعصا [وَغير ذَلِكَ؛ إِن أهل الْكتاب قد علمُوا أَن مَا أَتَى بِهِ النَّبِي] (ل 21) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق [وَأَن صفته الَّتي جَاءَ بِهَا فِي كتبهمْ وهم] يجحدون الْعِلْم بذلك؛ فَلَا تغني الْآيَات عِنْد من يجْحَد مَا يعرف. {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لمن الظَّالِمين} هَذَا الْخطاب للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلام ولسائر أمته. [آيَة 146 - 148](1/186)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم} قَالَ الْكَلْبِيّ: لما قدم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة، قَالَ ابْن الخَطَّاب لعبد اللَّه بْن سَلام [إِن اللَّه - تَعَالَى - أنزل على نبيه أَن أهل الْكتاب {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُم} كَيفَ هَذِه الْمعرفَة يَا ابْن سَلام قَالَ: نَعْرِف نَبِي اللَّه بالنعت الَّذِي نَعته [اللَّه بِهِ] إِذا رَأَيْنَاهُ فِيكُم كَمَا يعرف أَحَدنَا ابْنه؛ إِذا رَآهُ مَعَ [الغلمان] ؛ وَالَّذِي يحلف بِهِ عَبْد اللَّه بْن سَلام لأَنا بِمُحَمد أَشد معرفَة مني لِابْني. فَقَالَ لَهُ عُمَر: وَكَيف ذَلِكَ؟ قَالَ عَرفته بِمَا نَعته اللَّه لَنَا فِي كِتَابه، وَأما ابْني [فَلَا أدرى] مَا أحدثته أمه. فَقَالَ لَهُ عُمَر: وفقك اللَّه، فقد أصبت وصدقت.(1/186)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ من الممترين} يَعْنِي: الشاكين؛ أَنَّك رَسُول اللَّهِ، ويعرفون الْإِسْلَام(1/187)
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
{وَلكُل} يَعْنِي: كُل ذِي مِلَّة {وِجْهَةٌ} يَعْنِي: قبْلَة {هُوَ موليها} أَي: مستقبلها {فاستبقوا الْخيرَات} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: لَا تُفْتَنُنَّ فِي قبلتكم.
قَالَ مُحَمَّد: وَقيل: الْمَعْنى: فبادروا إِلَى مَا أَمرتكُم بِهِ من أَمر الْقبْلَة؛ وَهُوَ نَحْو قَول قَتَادَة. [آيَة 149 - 150](1/187)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)
{وَمن حَيْثُ خرجت} يَعْنِي: من مَكَّة {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ من رَبك} يَعْنِي: أَن الْقبْلَة: الْكَعْبَة {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أَي: تلقاءه وَنَحْوه.(1/187)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} تَفْسِير الحَسَن: أخبرهُ اللَّه - تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يحوله عَنِ الْكَعْبَة إِلَى غَيرهَا أبدا فيحتج عَلَيْهِ بذلك محتجون؛ كَمَا احْتج عَلَيْهِ مشركو الْعَرَب فِي قَوْلهم: رغبت عَنْ قبْلَة آبَائِك، ثمَّ رجعت إِلَيْهَا {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} قَالَ الحَسَن: لَا يحْتَج بِمثل تِلْكَ الْحجَّة، إِلَّا الَّذين ظلمُوا: {فَلَا تخشوهم} فِي أَمْرِي، يَعْنِي: امضوا عَلَى مَا آمركُم بِهِ {واخشوني} فِي تَركه.(1/187)
[آيَة 151 - 154](1/188)
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُم آيَاتنَا ويزكيكم} يطهركم من الشّرك {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحكمَة} الْكتاب: الْقُرْآن، وَالْحكمَة: السّنة؛ يَقُولُ كَمَا فعلت ذَلِك بكم(1/188)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
{فاذكروني} بطاعتي {أذكركم} برحمتي.(1/188)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} قد مضى تَفْسِيره(1/188)
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
{وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لَا تشعرون} كَيفَ الْحَيَاة الَّتي هِيَ حَيَاة الشُّهَدَاء.
قَالَ مُحَمَّد: {أموات} مَرْفُوع على معنى: هُم أموات، وَكَذَلِكَ {بل أَحيَاء} الْمَعْنى: بل هُم أَحيَاء.
يَحْيَى: عَنِ الْمُعَلَّى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَرْوَانَ، عَنْ هُذَيْلٍ، عَنْ عبد الله ابْن مَسْعُودٍ قَالَ: ((أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلَ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرْعَى فِي الْجَنَّةِ؛ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى قناديل معلقَة بالعرش)) .(1/188)
[آيَة 155 - 157](1/189)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
{ولنبلونكم بِشَيْء من الْخَوْف} يَعْنِي: [الْقِتَال] ؛ فِي تَفْسِير السّديّ. {وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ والثمرات} يَعْنِي بِنَقص الْأَنْفس: الْمَوْت {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} .
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: {بِشَيْء} ، وَلم يقل: بأَشْيَاء - هُوَ من الِاخْتِصَار؛ الْمَعْنى: بِشَيْء من الْخَوْف، وَشَيْء من الْجُوع، وَشَيْء من نقص الْأَمْوَال.(1/189)
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
وَقَوله: {إِنَّا لله} أَي: نَحْنُ وَأَمْوَالنَا لله، وَنحن عبيده يصنع بِنَا مَا يَشَاء؛ يَعْنِي: ذَلِكَ صَلَاح لَنَا وَخير، ومعني {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} أَي: نَحْنُ مقرون [بأننا نبعث] ونعطى الثَّوَاب عَلَى تصديقنا، وَالصَّبْر عَلَى مَا ابتلانا بِهِ.
يَحْيَى: عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي خَلِيفَةَ قَالَ: ((كَانَ عُمَرُ يَمْشِي فَانْقَطَعَ شِسْعَ نَعْلِهِ فَاسْتَرْجَعَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِي فَسَاءَنِي ذَلِكَ، وَكُلُّ مَا سَاءَكَ فَهُوَ مُصِيبَةٌ)) .
يَحْيَى: عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى وَالْعين لَا يملكهَا (ل 22) أَحَدٌ صَبَابَةَ الْمَرْءِ إِلَى أَخِيهِ)) .(1/189)
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [يَعْنِي مغْفرَة] {وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المهتدون} يَعْنِي: الموفقين. [آيَة 158 - 163](1/190)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله} .
قَالَ مُحَمَّد: الشعائر وَاحِدهَا: شعيرَة؛ وهى كُلُّ شَيْء جعله اللَّه علما من أَعْلَام الطَّاعَة. {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جناج عَلَيْهِ} أَي: لَا إِثْم عَلَيْهِ {أَنْ يطوف بهما} يَعْنِي: أَن يتطوف.
يَحْيَى: عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: ((كَانَ إِسَافٌ(1/190)
عَلَى الصَّفَا، وَنَائِلَةُ عَلَى الْمَرْوَةِ؛ وَهُمَا صَنَمَانِ؛ فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلامُ، كَرِهُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا مِنْ أَجْلِهِمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} الْآيَة)) .(1/191)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا من الْبَينَات وَالْهدى} وهم أَصْحَاب الْكتاب؛ كتموا مُحَمَّدًا صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم والإِسْلام {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: عَنْ أَبِي صَالحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُمِلَ عَلَى سَرِيرِهِ، قَالَ رُوحُهُ وَجَسَدُهُ: وَيْلَكُمْ أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِي، فَإِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَرَجَعَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، أَتَاهُ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ؛ أَصْوَاتُهُمَا كَالرَّعْدِ الْقَاصِفِ، وَأَبْصَارُهُمَا كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ يَخُدَّانِ الأَرْضَ بِأَنْيَابِهِمَا، وَيَطَآنِ فِي أَشْعَارِهِمَا، فَيُجْلِسَانِهِ، ثُمَّ يَقُولانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي. فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْتَ. ثُمَّ يَقُولانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْتَ. ثُمَّ يَقُولانِ لَهُ: مَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْتَ؛ هَكَذَا كُنْتَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ، فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَيُقَالُ لَهُ: هَذِهِ الْجَنَّةُ؛ الَّتِي لَوْ كُنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ، وَصَدَّقْتَ رَسُولَهُ - صِرْتَ إِلَيْهَا؛ لَنْ تَرَاهَا أَبَدًا. ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ؛ فَيُقَالُ لَهُ: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي أَنْتَ صَائِرٌ إِلَيْهَا، ثُمَّ يَضِيقُ عَلَيْهِ(1/191)
قَبْرُهُ، ثُمَّ يُضْرَبُ ضَرْبَةً بِمِرْزَبَّةٍ مِنْ حَدِيدٍ لَوْ أَصَابَتْ جَبَلا لَا رفض مَا أَصَابَتْ مِنْهُ. قَالَ: فَيَصِيحُ عِنْدَ ذَلِكَ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ فَلا يَسْمَعُهَا شَيْءٌ إِلا لَعَنَهُ، فَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ ذِكْرُهُ: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ ويلعنهم اللاعنون} .(1/192)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
قَوْله تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلحُوا وبينوا} أَمر مُحَمَّد وَالْإِسْلَام. {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِم} الْآيَة.(1/192)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ خَاصَّة؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة(1/192)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
{وَلَا هم ينظرُونَ} أَي: لَا يؤخرون بِالْعَذَابِ. [آيَة 164 - 167](1/192)
[أَيَّة 168](1/193)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
{وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بعد مَوتهَا} أَي: حِين لم يكن فِيهَا نَبَات فأنبتت {وَبث فِيهَا} يَعْنِي: خلق {وتصريف الرِّيَاح} يَعْنِي: تلوينها؛ فِي تَفْسِير السّديّ {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَات لقوم يعْقلُونَ} وهم الْمُؤْمِنُونَ.(1/193)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دون الله أندادا} يَعْنِي: أعدالا يعدلونهم بِهِ؛ أَي: يَعْبُدُونَهُمْ {يحبونهم كحب الله} كحب الْمُؤمنِينَ اللَّهِ {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله} من الْمُشْركين لأوثانهم {وَلَوْ يَرَى الَّذين ظلمُوا} أَي: أشركوا {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} أَي: [أَنَّك] ستراهم إِذا دخلُوا النَّار؛ وهنالك يعلمُونَ أَن {الْقُوَّةَ} الْقُدْرَة {لله جَمِيعًا} وَإِن كَانُوا عَن قدرَة اللَّه وعزته فِي الدُّنْيَا غافلين(1/193)
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)
{إِذْ تَبرأ الَّذين اتبعُوا} قَالَ قَتَادَة: وهم الرؤساء فِي الشّرك {من الَّذين اتبعُوا} وهم الضُّعَفَاء؛ اتَّبَعُوهُمْ على عبَادَة الْأَوْثَان {وَرَأَوا الْعَذَاب} أَي: دخلُوا فِيهِ {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} يَعْنِي: مَا كَانُوا يتواصلون بِهِ فِي الدُّنْيَا(1/193)
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
{كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِم} أَي: ندامة.(1/193)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)
{يَا أَيهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلَالا طيبا}
قَالَ مُحَمَّد: يَعْنِي: لَا تَأْكُلُوا، وَلا تنفقوا مِمَّا يحرم عَلَيْكُم. {وَلَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان} أَي: مَا يَأْمُركُمْ بِهِ.
قَالَ مُحَمَّد: خطوَات جمع: خطْوَة، والخطوة بِالضَّمِّ: (ل 23) مَا بَين(1/193)
الْقَدَمَيْنِ. وَالْمعْنَى: لَا تتبعوا سَبِيل الشَّيْطَان ومسلكه. والخطوة بِفَتْح الْخَاء: الفَعْلة الْوَاحِدَة. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبين} يَعْنِي: بَين الْعَدَاوَة. [آيَة 169 - 171](1/194)
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تعلمُونَ} أَنه الْحق.(1/194)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
{بل نتبع مَا ألفينا} أَي: وجدنَا {عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [وَلَو كَانُوا مهتدين مَا اتَّبَعُوهُمْ] .(1/194)
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلا دُعَاء ونداء} تَفْسِير الحَسَن: كَمثل الرَّاعِي يَصِيح بالغنم فَترفع رءوسها لَا تَدْرِي مَا يَقُولُ، ثمَّ تضع رءوسها؛ فَكَذَلِك هُم إِذا دعوا إِلَى الْهدى {صم بكم عمي} صم عَنِ الْحق؛ فَلَا يسمعونه، بكم عَنْهُ؛ فَلَا ينطقون بِهِ، عمي عَنْهُ؛ فَلَا يبصرونه.
قَالَ مُحَمَّد: يُقَال: نعق يَنْعِق، ونعق ينعق لفتان.(1/194)
[آيَة 172 - 173](1/195)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} يَعْنِي: الْحَلَال(1/195)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} إِلَى قَوْله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَاد} تَفْسِير مُجَاهِد: غير بَاغ؛ أَي: يَبْغِي على النَّاس، وَلا عَاد؛ أَي: قَاطع سَبِيل، وَلا مفارق الْأَئِمَّة، وَلا خَارج فِي مَعْصِيّة الله {فَلَا إِثْم عَلَيْهِ} أَي: فَلهُ الرُّخْصَة فِي أَن يَأْكُل.
قَالَ يَحْيَى: يَأْكُل حَتَّى يشْبع، وَلَا يتزود. [آيَة 174 - 176](1/195)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ الله من الْكتاب} هُم أهل الْكتاب الَّذين حرفوا كتاب اللَّه {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} يَعْنِي: المأكلة الَّتي كَانَت لَهُم {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّار} أَي: سَوف يَأْكُلُون بِهِ النَّار {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَي: لَا يكلمهم بِمَا يحبونَ، وَقد يكلمهم ويسألهم عَنْ(1/195)
أفعالهم {وَلَا يزكيهم} أَي: وَلا يطهرهم من إثمهم {وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} موجع.(1/196)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَاب بالمغفرة} قَالَ الحَسَن: يَعْنِي: اخْتَارُوا الضَّلَالَة على الْهدى، وَالْعَذَاب على الْمَغْفِرَة {فَمَا أصبرهم على النَّار} أَي: فَمَا أجرأهم على الْعَمَل الَّذِي يدخلهم النَّار(1/196)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لفي شقَاق بعيد} يَعْنِي: لفي فِرَاق بعيد من الْحق؛ وهم أهل الْكتاب. [آيَة 177] .(1/196)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قبل الْمشرق وَالْمغْرب} تَفْسِير قَتَادَة: يَقُولُ: لَيْسَ الْبر أَن تَكُونُوا نَصَارَى؛ فتصلوا إِلَى الْمشرق، وَلا أَن تَكُونُوا يهودا؛ فتصلوا إِلَى الْمغرب إِلَى بَيت الْمُقَدّس. {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّه} .
قَالَ مُحَمَّد: يَعْنِي: وَلَكِن الْبر بر من آمن بِاللَّهِ. {وَآتَى المَال على حبه} قَالَ ابْن مَسْعُود: تؤتيه وَأَنت صَحِيح شحيح؛ تَأمل الْحَيَاة، وتخشى الْفقر.(1/196)
{ذَوي الْقُرْبَى} هم الْقَرَابَة {وَابْن السَّبِيل} يَعْنِي: [الضَّيْف] {وَفِي الرّقاب} يَعْنِي: المكاتَبِين {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاة} الْمَفْرُوضَة {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} عَلَيْهِ من الْحق {وَالصَّابِرِينَ فِي البأساء وَالضَّرَّاء} قَالَ قَتَادَة: البأساء: الْبُؤْس والفقر، وَالضَّرَّاء: السقم والوجع {وَحِينَ الْبَأْسِ} يَعْنِي: مَوَاطِن الْقِتَال فِي الْجِهَاد.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله تَعَالَى: {والموفون} يجوز أَن يكون مَرْفُوعا، على معنى: وهم الموفون، والنعت إِذا طَال جَازَ أَن يرفع بعضه، وَينصب بعضه فِي مَذَاهِب النَّحْوِيين. [آيَة 178 - 179](1/197)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ) الْآيَة تَفْسِير الحَسَن: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة فيهم بغي قد كَانَ إِذا قتل من الْحَيّ مِنْهُم مَمْلُوك قَتله حَيّ آخَرُونَ، قَالُوا: لَا نقْتل بِهِ إِلَّا حرًّا، وَإِذا قتل من الْحَيّ مِنْهُم امْرَأَة قَتلهَا حَيّ آخَرُونَ، قَالُوا: لَا نقْتل بِهَا إِلَّا رجلا، فَأنْزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هَذِه الْآيَة، ونهاهم عَنِ الْبَغي، ثمَّ أنزل اللَّه بعد ذَلِكَ فِي الْمَائِدَة: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا(1/197)
أَن النَّفس بِالنَّفسِ} يَعْنِي: النَّفس الَّتي قَتَلَتْ بِالنَّفسِ الَّتي قُتِلَتْ، وَهَذَا [فِي الْأَحْرَار] .
قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَان} تَفْسِير قَتَادَة: يَقُول: من قتل عمدا (ل 24) فعفي عَنْهُ وَقبلت مِنْهُ الدِّيَة {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [أَمر المتبع أَن] يتبع بِالْمَعْرُوفِ [وَأمر الْمُؤَدِّي] أَن يُؤَدِّي بِإِحْسَانٍ {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَة} قَالَ قَتَادَة: كَانَ أهل التَّوْرَاة أمروا [بالحدود] وَكَانَ أهل الْإِنْجِيل أمروا بِالْعَفو، وَجعل لهَذِهِ الْأمة الْقصاص وَالْعَفو وَالدية؛ إِن شَاءُوا قتلوا، وَإِن شَاءُوا عفوا، وَإِن شَاءُوا أخذُوا الدِّيَة؛ إِذا تراضوا عَلَيْهَا. {وَرَحْمَة} أَي: رحم اللَّه بِهَا هَذِه الْأمة، وأطعمهم الدِّيَة؛ قَالَ قَتَادَة: وَلم [تحل] لأحد قبلهم فِي الْقَتْل عمدا {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِك} يَعْنِي: على الْقَاتِل فَقتله بعد مَا قبل مِنْهُ الدِّيَة {فَلَهُ عَذَاب أَلِيم} يَعْنِي: الْقَاتِل يقْتله الْوَالِي، وَلا ينظر فِي ذَلِكَ إِلَى عَفْو الْوَلِيّ.(1/198)
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
{وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة} أَي: بَقَاء؛ يخَاف الرجل الْقصاص؛ وَهِي بذلك حَيَاة لَهُ {يَا أولي الْأَلْبَاب} الْعُقُول: يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لكَي تتقوا الْقَتْل.(1/198)
[آيَة 180 - 182](1/199)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
{كتب عَلَيْكُم} أَي: فرض عَلَيْكُم {إِذَا حَضَرَ أحدكُم الْمَوْت} الْآيَة. قَالَ قَتَادَة: الْخَيْر: المَال، وَأمر تبَارك وَتَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة بِالْوَصِيَّةِ للْوَالِدين والأقربين، ثمَّ نسخ ذَلِك فِي سُورَة النِّسَاء بقوله: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدس} وَصَارَت الْوَصِيَّة لمن لَا يَرث من قريب أَو بعيد.
قَالَ مُحَمَّد: وَقَوله عَزَّ وَجَلَّ {حَقًّا على الْمُتَّقِينَ} نصب ((حَقًا)) ؛ على معنى: كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِم حَقًا.(1/199)
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} قَالَ الحَسَن: هِيَ الْوَصِيَّة؛ من بدلهَا بعد مَا سَمعهَا، فَإِنَّمَا إثمها على من بدلهَا.(1/199)
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
{فَمن خَافَ} يَعْنِي: علم {مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَو إِثْمًا} الجنف: أَن يُوصي بجور؛ وَهُوَ لَا يتَعَمَّد الْجور، وَالْإِثْم: أَن يُوصي بجور وَهُوَ يعلم ذَلِك {فَأصْلح بَينهم} يَعْنِي: بَين الموصَى لَهُ وَالْوَرَثَة {فَلَا إِثْم عَلَيْهِ}
قَالَ مُحَمَّد: الجنف فِي كَلَام الْعَرَب: الْميل عَنِ الْحق؛ يُقَال مِنْهُ: جنف يجنف.(1/199)
[آيَة 183 - 185](1/200)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} تَفْسِير قَتَادَة: هُوَ شهر رَمَضَان؛ وَكَانُوا أمروا أَن يَصُومُوا ثَلَاثَة أَيَّام من كُلِّ شهر، ويصلوا رَكْعَتَيْنِ غدْوَة، وَرَكْعَتَيْنِ عَشِيَّة؛ فَكَانَ ذَلِكَ بَدْء الصّيام وَالصَّلَاة. {أَيَّامًا معدودات} قَالَ مُحَمَّد: يجوز أَن يكون نصب(1/200)
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
{أَيَّامًا معدودات} على معنى: كتب عَلَيْكُم أَن تَصُومُوا أَيَّامًا معدودات. {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعدَّة من أَيَّام أخر} قَالَ مُحَمَّد: يُرِيد: فَعَلَيهِ عدَّة من أَيَّام أخر، ويكمل عدَّة مَا فَاتَهُ. {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فديَة طَعَام مَسَاكِين} تَفْسِير ابْن عَبَّاس: قَالَ:(1/200)
رخص للشَّيْخ الْكَبِير والعجوز الْكَبِيرَة - وهما يطيقان الصَّوْم - أَن يفطرا؛ إِن شاءا، ويطعما مَكَان كُلِّ يَوْم مِسْكينا. {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يَعْنِي: الشَّيْخ الْكَبِير، والعجوز الْكَبِيرَة؛ وهما يطيقان الصَّوْم، ثمَّ نسخ ذَلِكَ بقوله بعد هَذَا: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}(1/201)
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآن} قَالَ مُحَمَّد: يجوز أَن يكون {شهر رَمَضَان} مَرْفُوعا على معنى: والأيامُ الَّتي كُتبت عَلَيْكُم شهرُ رَمَضَان. {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بكم الْعسر} أَي: إِنَّمَا أَرَادَ اللَّه بِرُخْصَة الْإِفْطَار فِي السّفر التَّيْسِير عَلَيْكُم {ولتكملوا الْعدة ولتكبروا الله} قَالَ مُحَمَّد: يَعْنِي: ولتعظموا اللَّه، كَذَلِك جَاءَ عَنِ ابْن عَبَّاس {على مَا هدَاكُمْ} [آيَة 186 - 187](1/201)
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
{وَإِذا سَأَلَك عبَادي عني} تَفْسِير قَتَادَة: قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لما أنزل اللَّه - تبَارك وَتَعَالَى - {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم} قَالَ رَجُل: كَيفَ نَدْعُو يَا رَسُول اللَّه؟ فَأنْزل اللَّه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}(1/202)
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
(ل 25) {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} إِلَى قَوْله {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لكم} قَالَ قَتَادَة: الرَّفَث: الغشيان. {هُنَّ لِبَاس لكم} أَي: سكن لكم. {عَلِمَ اللَّهُ أَنكُمْ كُنْتُم تختانون أَنفسكُم} قَالَ قَتَادَة: كَانَ الْمُسلمُونَ فِي أول مَا فرض عَلَيْهِم الصّيام؛ إِذا رقدوا لم يحل لَهُم النِّسَاء، وَلا الطَّعَام، وَلا الشَّرَاب بعد رقادهم؛ فَكَانَ قوم يصيبون من ذَلِك بعد رقادهم، فَكَانَت تِلْكَ خِيَانَة الْقَوْم أنفسهم، فَتَابَ عَلَيْهِم بعد ذَلِكَ، وَأحل ذَلِكَ إِلَى طُلُوع الْفجْر، وقَالَ: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كتب الله لكم} تَفْسِير مُجَاهِد: يَعْنِي: الْوَلَد يَطْلُبهُ الرجل؛ فَإِن كَانَ مِمَّن كتب اللَّه لَهُ الْوَلَد، رزقه إِيَّاه.
قَالَ مُحَمَّد: وَهَذَا أَمر نَدْبٍ لَا فرض. {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيط الْأسود من الْفجْر} [يَعْنِي: سَواد اللَّيْل، وَتبين هَذَا من هَذَا] .
قَالَ يَحْيَى: الْفجْر فجران: فَأَما [الَّذِي] كَأَنَّهُ ذَنْب السرحان؛ فَإِنَّهُ لَا يحل شَيْئا وَلا يحرمه، وَأما المستطيل الَّذِي يَأْخُذ بالأفق فَإِنَّهُ يُحل الصَّلاة،(1/202)
وَيُوجب الصّيام.
قَالَ مُحَمَّد: وَقَوله: {الْخَيط الْأَبْيَض} يَعْنِي: بَيَاض النَّهَار {مِنَ الْخَيْطِ الْأسود} يَعْنِي: سَواد اللَّيْل؛ ويتبين هَذَا من هَذَا عِنْد طُلُوع الْفجْر الثَّانِي.
وَقَوله تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} هُوَ أَمر إِبَاحَة {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد} تَفْسِير السّديّ: كَانَ الرجل يعْتَكف؛ فَإِذا خرج من مُصَلَّاهُ، فلقي امْرَأَته غشيها، فنهاهم اللَّه عَنْ ذَلِكَ؛ حَتَّى يفرغ من اعْتِكَافه {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} أَي: لَا تقربُوا مَا نهاكم الله عَنهُ. [آيَة 188](1/203)
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وتدلوا بهَا إِلَى الْحُكَّام} تَفْسِير الحَسَن: هُوَ الرجل يَأْكُل مَال الرجل ظلما، ويجحده إِيَّاه، ثمَّ يَأْتِي بِهِ إِلَى الْحُكَّام، والحكام إِنَّمَا يحكمون بِالظَّاهِرِ؛ فَإِذا حكم لَهُ، استحله بِحكمِهِ. {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُم تعلمُونَ} أَنَّهُ لَيْسَ لكم بِحَق.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله تَعَالَى: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّام} يَعْنِي: الْأَمْوَال، وأصل الْكَلِمَة فِي اللُّغَة: من قَوْلك: أدليت الدَّلْو؛ إِذا أرسلتها، وَتقول: أدلى فلَان بحجته؛ أَي: أرسلها.(1/203)
[آيَة 189](1/204)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيت للنَّاس وَالْحج} قَالَ قَتَادَة: ذكر لَنَا: أَنهم سَأَلُوا نَبِي اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم خلقت هَذِه الْأَهِلّة؟ فَأنْزل اللَّه هَذِه الْآيَة؛ أَي: هِيَ مَوَاقِيت للنَّاس؛ لصومهم وإفطارهم وحجهم وعدة نِسَائِهِم وَمحل دَيْنهم.
قَوْله تَعَالَى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبيُوت من أَبْوَابهَا} تَفْسِير قَتَادَة: قَالَ: كَانَ هَذَا الْحَيّ من الْأَنْصَار إِذا أهل أحدهم لم يدْخل بَيْتا وَلا دَارا من بَابه، إِلَّا أَن يتسور حَائِطا تسورا، وَأَسْلمُوا وهم كلهم على ذَلِكَ؛ حَتَّى نَهَاهُم الله. [آيَة 190 - 193](1/204)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يقاتلونكم} وَذَلِكَ قبل أَن يؤمروا بِقِتَال الْمُشْركين كَافَّة؛ فَكَانُوا لَا يُقَاتلُون إِلَّا من قَاتلهم {وَلا تَعْتَدُوا} يَعْنِي: فِي حربكم؛ فتقاتلوا من لم يُقَاتِلُوكُمْ، ثمَّ أَمر بقتالهم فِي سُورَة بَرَاءَة.(1/204)
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)
{واقتلوهم حَيْثُ ثقفتموهم} أَي: وَجَدْتُمُوهُمْ {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أخرجوكم} يَعْنِي: من مَكَّة {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ من الْقَتْل} الْفِتْنَة هَا هُنَا: الشّرك {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم} أَمر اللَّه - جلّ ذكره - نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلا يقاتلهم فِيهِ حَتَّى يبدءوا بِقِتَال؛ وَكَانَ هَذَا قبل أَن يُؤمر بقتالهم كَافَّة.(1/205)
فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)
{فَإِن انْتَهوا} يَعْنِي: عَنْ قتالكم، ودخلوا فِي دينكُمْ {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .(1/205)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أَي: شرك {فَإِن انْتَهوا} عَن شركهم {فَلَا عدوان} أَي: فَلَا سَبِيل {إِلا عَلَى الظَّالِمين} يَعْنِي: الْمُشْركين.
قَالَ مُحَمَّد: أصل الْعدوان: الظُّلم، (ل 26) وَمعنى الْعدوان هَا هُنَا: الْجَزَاء [يَقُولُ] : لَا جَزَاء [ظلم] إِلَّا على الظَّالِمين. [آيَة 194 - 195](1/205)
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قصاص} تَفْسِير مُجَاهِد: قَالَ:(1/205)
كَانَ الْمُشْركُونَ صدوا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَيْت عَام الْحُدَيْبِيَة فِي ذِي الْقعدَة، [فحجزوا] عَلَيْهِ بذلك، فرجعه اللَّه إِلَى الْبَيْت فِي ذِي الْقعدَة من قَابل، واقتص لَهُ مِنْهُم، فَأَقَامَ فِيهِ ثَلَاثَة أَيَّام. {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم} يَقُولُ: إِن استحلوا مِنْكُم الْقِتَال، فاستحلوه مِنْهُم(1/206)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} تَفْسِير الحَسَن: يَقُولُ: إنَّ ترككم الْإِنْفَاق فِي سَبِيل اللَّه إلقاءٌ مِنْكُم بِأَيْدِيكُمْ إِلَى مَا يهلككم عِنْد اللَّه {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يحب الْمُحْسِنِينَ} قَالَ قَتَادَة: أَمرهم أَن ينفقوا فِي سَبِيل اللَّه، وَأَن يحسنوا فِيمَا رزقهم الله. [آيَة 196](1/206)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
{وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} تَفْسِير قَتَادَة: قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا هِيَ حجَّة وَعمرَة؛ فَمن قضاهما، فقد قضى الْفَرِيضَة، أَو قضى مَا عَلَيْهِ؛ فَمَا أصَاب بعد ذَلِك، فَهُوَ تطوع)) .
قَالَ يَحْيَى: الْعَامَّةُ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَرِيضَتَانِ، إِلا أَنَّ سَعِيدًا(1/206)
(أَخْبَرَنَا) عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: ((الْحَجُّ فَرِيضَةٌ، وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ)) .
وَالْقِرَاءَة على هَذَا التَّفْسِير: بِنصب الْحَج، وَرفع الْعمرَة، ومقرأة الْعَامَّة: بِالنّصب فيهمَا.
قَوْله تَعَالَى: {فَإِن أحصرتم} الْإِحْصَار: أَن يعرض للرجل مَا يحول بَينه وَبَين الْحَج من مرض أَو عَدو {فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي} قَالَ ابْن عَبَّاس: مَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي شَاة {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} قَالَ عَطَاء: كل هدي بلغ الْحرم ثمَّ عطب - فقد بلغ مَحَله، إِلَّا هدي الْمُتْعَة والمحصر.
قَالَ مُحَمَّد: الْمحل: الْموضع الَّذِي يحل [فِيهِ النَّحْر] ؛ وَهُوَ من: حل يحِل؛ أَي: وَجب يجب. {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نسك} .
يحيى: عَن مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَهُوَ يُوقِدُ تَحْتَ(1/207)
قِدْرٍ لَهُ، فَنَكَسَ رَأْسَهُ فَإِذَا الْهَوَامُّ تَجُولُ فِي رَأْسِهِ، فَقَالَ: أَتُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ يَا كَعْبُ؟ قَالَ: نعم. فَسكت النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَقَالَ لَهُ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْلِقْهُ، وَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ فَرْقًا بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوْ أَهْدِ شَاةً)) .
قَالَ يَحْيَى: الْفرق: ثَلَاثَة آصَع، صَاع بَين اثْنَيْنِ. {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} من أهلَّ بِعُمْرَة فِي أشهر الْحَج فِي شَوَّال، أَو فِي ذِي الْقعدَة، أَوْ فِي ذِي الْحجَّة، ثمَّ حج من عَامه ذَلِكَ - فَهُوَ متمتع عَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي، فَإِن لم يجد صَامَ ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج.
مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ((مِنْ يَوْمِ يُهِلُّ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ؛ فَإِنْ فَاتَهُ ذَلِكَ صَامَ أَيَّامَ مِنًى)) .
قَوْله تَعَالَى: {وَسَبْعَة إِذا رجعتم} .
يَحْيَى: عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ(1/208)
قَالَ: ((صَامَ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ)) .
وقَالَ مُجَاهِد: إِن شَاءَ صامها فِي الطَّرِيق. {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَام} قَالَ عَطَاء: من كَانَ مِنْهَا عَلَى رَأس لَيْلَة، فَهُوَ من حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام. [آيَة 197](1/209)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
{الْحَج أشهر مَعْلُومَات} هِيَ: شَوَّال، وَذُو الْقعدَة، وَعشر ذِي الْحجَّة {فَمن فرض} أَي: أوجب {فِيهِنَّ الْحَج} على نَفسه {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} قَالَ ابْن عَبَّاس: الرَّفَث: الْجِمَاع، والفسوق: الْمعاصِي، والجدال: أَنْ يُمَارِي بَعضهم بَعْضًا حَتَّى يغضبوا.
يَحْيَى: عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ؛ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالنِّسَاءَ؛ فَإِنَّ الإِعْرَابَ مِنَ الرَّفَثِ وَالإِعْرَابُ أَنْ [يُعْرِبَ] لَهَا بِالْقَوْلِ، يَقُولُ: لَوْ كُنَّا حَلالا [لَفَعَلْنَا كَذَا] . قَالَ: [فَأَخْبَرْتُ] بِذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: صَدَقَ ابْن الزبير)) .
(ل 27) {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله} هُوَ كَقَوْلِه: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خير فَلَنْ يكفروه(1/209)
{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} تَفْسِير قَتَادَة: قَالَ: كَانَ أنَاس من أهل الْيمن يحجون وَلا يتزودون، فَأَمرهمْ اللَّه بالزاد وَالنَّفقَة فِي سَبِيل اللَّه، ثمَّ أخْبرهُم أَن خير الزَّاد التَّقْوَى. [آيَة 198](1/210)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فضلا من ربكُم} يَعْنِي: التِّجَارَة فِي الْحَج {فَإِذَا أَفَضْتُم من عَرَفَات} قَالَ قَتَادَة: أَفَاضَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عَرَفَات بعد غرُوب الشَّمْس.
وقَالَ الحَسَن: إِنَّ جِبْرِيل أرى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلام الْمَنَاسِك كلهَا؛ حَتَّى إِذا بلغ إِلَى عَرَفَات، قَالَ: يَا إِبْرَاهِيم؛ أعرفت مَا رَأَيْت من الْمَنَاسِك؟ قَالَ: نعم. وَلذَلِك سميت عَرَفَة. {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمشعر الْحَرَام} قَالَ قَتَادَة: هِيَ الْمزْدَلِفَة.
يَحْيَى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَن جَابر ابْن عَبْدِ اللَّهِ: ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما صَلَّى الصُّبْحَ، وَقَفَ بِجَمْعٍ، ثُمَّ أَفَاضَ)) .
قَالَ قَتَادَة: إِنَّمَا سُمِّي جمعا؛ لِأَنَّهُ يجمع فِيهِ بَين الْمغرب وَالْعشَاء.(1/210)
{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ من قبله لمن الضَّالّين} .
تَفْسِير الحَسَن: من الضَّالّين فِي مَنَاسِككُم وحجكم ودينكم كُله. [آيَة 199 - 202](1/211)
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} وَهِي الْإِفَاضَة من عَرَفَة. قَالَ قَتَادَة: كَانَت قُرَيْش وكُلُّ ابْن أُخْت لَهُم وحليف لَا يقفون بِعَرَفَة، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ أهل اللَّه فَلَا [نخرج] من حرمه(1/211)
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)
{فَإِذا قضيتم مَنَاسِككُم} قَالَ السّديّ: يَعْنِي: إِذا فَرَغْتُمْ من مَنَاسِككُم {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُم أَو أَشد ذكرا} قَالَ قَتَادَة: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة؛ إِذا قضوا مناسكهم، ذكرُوا آبَاءَهُم وَفعل آبَائِهِم؛ بذلك يخْطب خطيبهم إِذا خطب، وَبِه يحدث محدثهم إِذا حدث، فَأَمرهمْ اللَّه - عز وَجل - إِذا قضوا مناسكم أَن يذكروه كذكرهم آبَاءَهُم، أَو أَشد ذكرا؛ يَعْنِي بل أَشد ذِكْرًا. {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} أَي: من نصيب؛ وهم الْمُشْركُونَ، لَيْسَ لَهُم همة إِلَّا الدُّنيا، لَا يسْأَلُون اللَّه شَيْئا إِلَّا لَهَا؛ وَذَلِكَ أَنهم لَا يقرونَ بِالآخِرَة وَلَا يُؤمنُونَ بهَا.(1/211)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
{وَمِنْهُم من يَقُول} وهم الْمُؤْمِنُونَ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة} الْآيَة قَالَ الحَسَن: والحسنة فِي الدُّنيا طَاعَة الله، وَفِي الْآخِرَة الْأجر. وقَالَ بَعضهم: الْحَسَنَة فِي الدُّنْيَا كُلُّ مَا كَانَ من رخاء الدُّنيا، وَمن ذَلِكَ الزَّوْجَة الصَّالِحَة(1/212)
أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
{أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} أَي: ثَوَاب مَا عمِلُوا وَهِي الْجنَّة. [آيَة 203](1/212)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} قَالَ ابْن عَبَّاس: هِيَ أَيَّام التَّشْرِيق يُذْكر اللَّه فِيهَا، وَيُرْمى فِيهَا الْجمار، وَمَا مَضَت بِهِ السّنة من التَّكْبِير فِي دبر الصَّلَوَات {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ} تَفْسِير قَتَادَة: يَعْنِي: فَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ من أَيَّام التَّشْرِيق فنفر، فَلَا إِثْم عَلَيْهِ، وَمن تَأَخّر إِلَى الْيَوْم [الثَّالِث] فَلَا إِثْم عَلَيْهِ.
قَوْله تَعَالَى: {لِمَنِ اتَّقى}
يَحْيَى: عَنِ الْحَارِثِ بْنِ نَبْهَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)) . [آيَة 204](1/212)
[آيَة 205 - 206](1/213)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} وَهُوَ الْمُنَافِق الَّذِي يقر بِالْإِيمَان فِي الْعَلَانِيَة {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قلبه} من الْكفْر والجحود بِمَا أقرّ بِهِ فِي الْعَلَانِيَة {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام} أَي: كَاذِب فِي القَوْل(1/213)
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
{وَإِذا تولى} أَي: فارقك {سَعَى فِي الأَرْضِ ليفسد فِيهَا} الْآيَة.
قَالَ الْكَلْبِيّ: نزلت فِي الْأَخْنَس بْن شريق الثَّقَفِيِّ وَكَانَ شَدِيد الْخِصَام؛ فَأَما إهلاكه الْحَرْث والنسل فيعني: قطع الرَّحِم الَّذِي [كَانَ] بَينه وَبَين ثَقِيف؛ فبيتهم لَيْلًا فَأهْلك مَوَاشِيهمْ، وأحرق حرثهم؛ وَكَانَ حسن الْعَلَانِيَة، سيئ السريرة.(1/213)
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذته الْعِزَّة بالإثم} تَفْسِير قَتَادَة: إِذا قِيلَ لَهُ: اتَّقِ الله؛ {ل 28} فَإِن هَذَا الَّذِي تصنع لَا يحِق لَك، قَالَ: إِنِّي لِأَزْدَادَ بِهَذَا عِنْد اللَّه قربَة.
قَالَ اللَّه: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} والمهاد والبساط والفراش وَاحِد. [آيَة 207](1/213)
[آيَة 208 - 209](1/214)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} أَي: يَبِيع نَفسه بِالْجِهَادِ {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} بِالْمُؤْمِنِينَ.(1/214)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّة} يَعْنِي: فِي الْإِسْلَام جَمِيعًا {وَلا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان} يَعْنِي: أمره.(1/214)
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءتكم الْبَينَات} يَعْنِي بالزلل: الْكفْر {فَاعْلَمُوا أَنَّ الله عَزِيز} فِي نقمته {حَكِيم} فِي أمره. [آيَة 210 - 212](1/214)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
{هَل ينظرُونَ} أَي: مَا ينظرُونَ {إِلا أَنْ يَأْتِيهم الله} يَوْم الْقِيَامَة {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة} أَي: وتأتيهم الْمَلَائِكَة {وَقُضِيَ الأَمْرُ} يَعْنِي: الْمَوْت.(1/214)
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
{سل بني إِسْرَائِيل كَمَا آتَيْنَاهُم من آيَة بَيِّنَة} تَفْسِير الحَسَن: يَعْنِي: مَا نجاهم اللَّه من آل فِرْعَوْن، وظلل عَلَيْهِم الْغَمَام وَغير ذَلِكَ، وآتيناهم بَيِّنَات من الْهدى، بَين لَهُم الْهدى من الْكفْر {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ} يَقُولُ: بدلُوا ذَلِكَ، وَاتَّخذُوا الْيَهُودِيَّة والنصرانية {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أخبر أَنَّهُ ستشتد نقمته على الْيَهُود وَالنَّصَارَى الَّذين بدلُوا دين الله.(1/214)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ويسخرون من الَّذين آمنُوا} فِي طَلَبهمْ(1/214)
الْآخِرَة {وَالَّذين اتَّقوا} وهم الْمُؤْمِنُونَ {فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَي: خير مِنْهُم {وَاللَّهُ يَرْزُقُ من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب} قَالَ بَعضهم: يَعْنِي: من غير أَن يُحَاسب نَفسه؛ لِأَن مَا عِنْد اللَّه لَا ينقص؛ كَمَا ينقص مَا فِي أَيدي النَّاس. [آيَة 213](1/215)
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيين مبشرين ومنذرين} تَفْسِير قَتَادَة: ذكر لَنَا أَنَّهُ كَانَ بَين آدم ونوح - عَلَيْهِمَا السَّلام - عشرَة قُرُون كلهم يعْمل بِطَاعَة اللَّه على الْهدى، وعَلى شَرِيعَة من الْحق، ثمَّ اخْتلفُوا بعد ذَلِكَ، فَبعث اللَّه نوحًا عَلَيْهِ السَّلام فَكَانَ أول رَسُول أرْسلهُ اللَّه إِلَى أهل الأَرْض. {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَينَات بغيا بَينهم} أَي: حسدا بَينهم {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ من الْحق بِإِذْنِهِ} أَي: بأَمْره. [آيَة 214 - 215](1/215)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا من قبلكُمْ} أَي: سنَن الَّذين مضوا من قبلكُمْ.(1/215)
قَالَ مُحَمَّد: الْمَعْنى: وَلما يصبكم مثل الَّذِي أصَاب الَّذين خلوا من قبلكُمْ؛ وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ يحيى. {مستهم البأساء وَالضَّرَّاء} البأساء: الْبُؤْس، وَالضَّرَّاء: الْمَرَض والجراح {وزلزلوا} أَصَابَتْهُم الشدَّة {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهُ} قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ: {حَتَّى يَقُولُ} بِالرَّفْع - فَالْمَعْنى: حَتَّى قَالَ الرَّسُول، وَمن نصب فعلى معنى: حَتَّى يكون من قَول الرَّسُول.
قَالَ اللَّه: {أَلا إِنَّ نصر الله قريب} قَالَ الحَسَن: وَذَلِكَ أَن اللَّه وعدهم النَّصْر والظهور، فاستبطئوا ذَلِكَ؛ لما وصل إِلَيْهِم من الشدَّة، فَأخْبر الله النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَالْمُؤمنِينَ؛ بِأَن من مضى قبلكُمْ من الْأَنْبِيَاء وَالْمُؤمنِينَ؛ كَانَ إِذا بلغ الْبلَاء مِنْهُم هَذَا، عجلت لَهُم نصري؛ فَإِذا ابتليتم أَنْتُم بذلك أَيْضا فأبشروا؛ فَإِن نصري قريب.(1/216)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
{يَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفقُونَ} الْآيَة. نزلت هَذِه الْآيَة قبل أَن تنزل آيَة الزَّكَاة، وَلم يكن ذَلِكَ يَوْمئِذٍ شَيْئا موقَّتا. [آيَة 216](1/216)
[آيَة 217](1/217)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
{كتب عَلَيْكُم الْقِتَال} أَي: فرض عَلَيْكُم {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} قَالَ الْكَلْبِيّ: (ل 29) كَانَ هَذَا حِين كَانَ الْجِهَاد فَرِيضَة (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تعلمُونَ} قَالَ الْكَلْبِيّ: علم أَنه سَيكون فيهم من يُقَاتل فِي سَبِيل اللَّه، فيستشهد.
قَالَ مُحَمَّد: {كُرْهٌ لكم} مَعْنَاهُ: مشقة لكم، لَا أَن الْمُؤمنِينَ يكْرهُونَ فرض؛ وَيُقَال: كرهت الشَّيْء كَرها وكُرها وَكَرَاهَة. وَالْقِرَاءَة: ((كره)) بِالضَّمِّ؛ وتأويله: ذُو كره لكم.(1/217)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} تَفْسِير مُجَاهِد: قَالَ: ((أرسل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلا فِي سَرِيَّة فَمر بِابْن الحَضْرَميِّ يحمل خمرًا من الطَّائِف إِلَى مَكَّة، فَرَمَاهُ بِسَهْم فَقتله وَكَانَ بَين النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَبَين قُرَيْش عهد فَقتله آخر لَيْلَة من جُمَادَى الْآخِرَة وَأول لَيْلَة من رَجَب، فَقَالَت قُرَيْش: أَفِي الشَّهْر الْحَرَام ولَنَا عهد؟ ! فَأنْزل اللَّه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ الله وَكفر بِهِ} أَي: بِاللَّه {وَالْمَسْجِد الْحَرَام} أَي: وَصد عَنِ الْمَسْجِد الْحَرَام {وَإِخْرَاج أَهله مِنْهُ} يَعْنِي: النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَأَصْحَابه؛ أخرجهم(1/217)
الْمُشْركُونَ من الْمَسْجِد؛ كل هَذَا {أكبر عِنْد الله} من قتل ابْن الحَضْرَميِّ {وَالْفِتْنَةُ} يَعْنِي: الشّرك {أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} .
قَالَ يَحْيَى: وَكَانَ هَذَا قبل أَن يُؤمر بقتالهم عَامَّة.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْر الْحَرَام قتال فِيهِ} ((قتال)) مخفوض عَلى الْبَدَل من الشَّهْر الْحَرَام، الْمَعْنى: ويسألونك عَنْ قتال فِي الشَّهْر الْحَرَام.
وَقَوله: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} ((قتال)) مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، و ((كَبِير)) خَبره. {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} أَي: وَلنْ يستطيعوا {فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالهم} أَي: بطلت. [آيَة 218](1/218)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يرجون رَحْمَة الله} أَي: يطمعون فِي رَحْمَة اللَّه؛ يَعْنِي: الْجَنَّة. قَالَ الحَسَن: وَهُوَ على الْإِيجَاب؛ يَقُولُ: يفعل ذَلِكَ بهم. وقَالَ قَتَادَة: ذكر فِي الْآيَة الأولى قصَّة قتل ابْن الحَضْرَميِّ، وَمَا قَالَ الْمُشْركُونَ، وَمَا أنزل اللَّه فِي ذَلِكَ، ثمَّ أثنى اللَّه على أَصْحَاب النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحسن الثَّنَاء؛ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} الْآيَة.(1/218)
[آيَة 219 - 220](1/219)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وإثمهما أكبر من نفعهما} الميسر: الْقمَار كُله. وَقَوله: {فِيهِمَا إِثْم كَبِير} كَانُوا إِذا شربوا الْخمر فسكروا، عدا بَعضهم على بَعْض، وَكَانُوا يتقامرون حَتَّى لَا يبْقى لأَحَدهم شَيْء، فَكَانَ يُورث ذَلِكَ بَينهم عَدَاوَة.
وَقَوله: {وَمَنَافع للنَّاس} مَا كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِهِ من شربهَا وَبَيْعهَا، وَمن الْقمَار قبل أَن يحرمهما اللَّه، قَالَ قَتَادَة: ذمها اللَّه فِي هَذِه الْآيَة، وَلم يحرمها؛ لما أَرَادَ أَن يبلغ بِهَا من الْمدَّة وَهِي يَوْمئِذٍ لَهُم حَلَال، ثمَّ أنزل اللَّه بعد ذَلِكَ آيَة هِيَ أَشد مِنْهَا: {يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُم سكرى حَتَّى تعلمُوا مَا تَقولُونَ} فَكَانُوا يشربونها؛ حَتَّى إِذا حضرت الصَّلاة أَمْسكُوا، وَكَانَ السكر عَلَيْهِم فِيهَا حَرَامًا، وَأحل لَهُم مَا خلا ذَلِكَ، فَذكر لَنَا أَن نَبِي اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قَالَ - لما نزلت هَذِه الْآيَة -: إِن اللَّه قد تقرب فِي تَحْرِيم هَذِه الْخمر. ثمَّ أنزل الله تَحْرِيمهَا فِي سُورَة الْمَائِدَة، فَقَالَ: {يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ والأنصاب والأزلم ... . .} إِلَى قَوْله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فجَاء تَحْرِيمهَا فِي هَذِه الْآيَة قليلها وكثيرها.(1/219)
قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} يَعْنِي: الصَّدَقَة {قل الْعَفو} تَفْسِير الحَسَن: يَعْنِي: مَا فضل عَنْ نَفَقَتك، أَو نَفَقَة عِيَالك.
قَالَ يَحْيَى: وَكَانَ هَذَا قبل أَن تنزل آيَة الزَّكَاة.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: {الْعَفْوَ} من قَرَأَهَا بِالنّصب فعلى معنى: قل: أَنْفقُوا الْعَفو، وَمن قَرَأَهَا بِالرَّفْع فعلى معنى: الَّذِي يُنْفقُونَ الْعَفو. وَالْعَفو فِي اللُّغَة: (ل 30) الْفضل وَالْكَثْرَة؛ يُقَال: قد عَفا الْقَوْم؛ إِذا كَثُرُوا.
يَحْيَى: عَنْ أَبِي الأَشْهَبِ، عَنِ الْحسن، عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: ((إِنَّ خَيْرَ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَلا يَلُومُ اللَّهُ عَلَى الْكَفَافِ)) .
قَوْله تَعَالَى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} تَفْسِير [قَتَادَة: أَي أَن الدُّنيا] دَار بلَاء وفناء، وَأَن الْآخِرَة دَار جَزَاء وَبَقَاء.(1/220)
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} الْآيَة] تَفْسِير قَتَادَة:(1/220)
لما نزلت هَذِه الْآيَة: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ [أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ] اشتدت عَلَيْهِم؛ فَكَانُوا لَا يخالطونهم فِي مطعم وَلا نَحوه؛ فَأنْزل اللَّه [بعد ذَلِكَ: (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ] } {فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ المصلح} فَرخص اللَّه لَهُم. {وَلَوْ شَاءَ الله لأعنتكم} أَي: لترككم فِي الْمنزلَة] الأولى؛ لَا تخالطونهم؛ فَكَانَ ذَلِكَ عَلَيْكُم عنتا شَدِيدا. [والعنت: الضّيق] .
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: {فإخوانكم} الْقِرَاءَة بِالرَّفْع؛ على معنى: فهم إخْوَانكُمْ. [آيَة 221](1/221)
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
{وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأمة مُؤمنَة} يَتَزَوَّجهَا الْمُسلم؛ إِذا لم يجد طولا {خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعجبتكُم} ثمَّ] نسخ المشركات من أهل الْكتاب فِي سُورَة الْمَائِدَة؛ فأحلهن؛ فَقَالَ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وَالْمُحصنَات فِي هَذِه الْآيَة: الْحَرَائِر {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [فَحرم] اللَّه أَن يتَزَوَّج الْمسلمَة أحد(1/221)
من الْمُشْركين؛ فَقَالَ: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ} تتزوجه الْمسلمَة {خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّار} يَعْنِي: الْمُشْركين يدعونَ إِلَى النَّار؛ أَي: إِلَى دينهم، قَالَ: {وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} بأَمْره {وَيبين آيَاته للنَّاس} يَعْنِي: الْحَلَال وَالْحرَام {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لكَي: يتذكروا. [آيَة 222 - 223](1/222)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَفْسِير الحَسَن: إِن الشَّيْطَان أَدخل على أهل الْجَاهِلِيَّة فِي حيض النِّسَاء من الضّيق مَا أَدخل على الْمَجُوس؛ فَكَانُوا لَا يجالسونهن فِي بَيت، وَلا يَأْكُلُون مَعَهُنَّ، وَلا يشربون؛ فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلام سَأَلَ الْمُسلمُونَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، فَأنْزل اللَّه: {قُلْ هُوَ أَذًى} أَي: قذر {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض وَلَا تقربوهن} يَعْنِي: المجامعة {حَتَّى يطهرن} يَعْنِي: حَتَّى يريْن الْبيَاض {فَإِذَا تطهرن يَعْنِي: اغْتَسَلْنَ (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمركُم الله} قَالَ ابْن عَبَّاس: يَعْنِي: من حَيْثُ أَمركُم الله أَن تجتنبوهن. وَقَالَ السّديّ: (من حَيْثُ) يَعْنِي: فِي حَيْثُ أَمركُم اللَّه؛ يَعْنِي: فِي الْفرج {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحب المتطهرين} من الذُّنُوب.(1/222)
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنى شِئْتُم}
يَحْيَى: عَنْ نَصْرِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: ((قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَتَى امْرَأَتَهُ مِنْ خَلْفِهَا، جَاءَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم} ؛ إِنْ شِئْتُمْ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهَا، وَإِنْ شِئْتُمْ مِنْ خَلْفِهَا، غَيْرَ أَنَّ السَّبِيلَ مَوْضِعُ الْوَلَدِ)) .
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: {حرث لكم} كِنَايَة، وأصل الْحَرْث: الزَّرْع؛ أَي: هُوَ للْوَلَد كالأرض للزَّرْع.
يَحْيَى: عَنْ نَصْرِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ [جَدِّهِ] قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا هِيَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى)) .(1/223)
يَحْيَى: عَنْ عَبْدِ الْقُدُّوسِ بْنِ [حَبِيبٍ] عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي مَوَاضِعَ حُشُوشِهِنَّ.))(1/224)
[قَوْله تَعَالَى: {وَقدمُوا لأنفسكم} يَعْنِي: الْوَلَد.
يَحْيَى: عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، [عَنْ] صعصعة، عَن أبي ذَر] (ل 31) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَا من مُسلمين يتوفى لَهما ثَلاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا حِنْثًا، إِلا أَدْخَلَهُمَا [اللَّهُ] الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ)) .
يَحْيَى: عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لأَنْ أُقَدِّمَ سُقْطًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَخْلُفَ مِائَةَ فَارِسٍ؛ كُلُّهُمْ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) .(1/225)
{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنكُمْ ملاقوه وَبشر الْمُؤمنِينَ} بِالْجنَّةِ. [آيَة 224 - 225](1/226)
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
{وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَين النَّاس} تَفْسِير الحَسَن: كَانَ الرجل يُقَال لَهُ: لم لَا تبر أَبَاك أَو أَخَاك أَو قرابتك أَو تفعل كَذَا لخير؟ ! فَيَقُول: قد حَلَفت بِاللَّهِ لَا أبره، وَلا أَصله، وَلَا أصلح الَّذِي بيني وَبَينه؛ يعتل بِاللَّهِ؛ فَأنْزل اللَّه {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأيمانكم} يَعْنِي: الْحلف؛ أَي: لَا تعتلوا بِاللَّهِ.
قَالَ مُحَمَّد: الْمَعْنى: لَا تجْعَلُوا اللَّه بِالْحلف بِهِ مَانِعا لكم من أَن تبروا. وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ الحَسَن.
يَحْيَى: عَنِ الْحَسَنُ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ؛ إِذَا حَلَفت على يَمِين فَرَأَيْت خيرا مِنْهَا، فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكفر عَن يَمِينك)) .(1/227)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم} ) .
يَحْيَى: عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: ((دَخَلْتُ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَلَى عَائِشَةَ، فَسَأَلَهَا عُبَيْدٌ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ. فَقَالَتْ: هُوَ قَوْلُ أَحَدِكُمْ: لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ)) .
وقَالَ الحَسَن وَقَتَادَة: وَهُوَ الْخَطَأ غير الْعمد؛ وَذَلِكَ أَن تحلف عَلَى الشَّيْء؛ وَأَنت ترى أَنه كَذَلِك؛ فَلَا يكون كَمَا حَلَفت عَلَيْهِ. {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ} تَفْسِير قَتَادَة: يَعْنِي: مَا تعمدتم بِهِ(1/227)
المأثم؛ وَهَذَا فِيهِ الْكَفَّارَة. [آيَة 226 - 227](1/228)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِم} أَي: يحلفُونَ {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} الْآيَة. كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة، وَفِي صدر من الإِسْلام يغْضب أحدهم على امْرَأَته، فَيحلف بِاللَّهِ لَا يقربهَا كَذَا وَكَذَا فيدعها لَا أيِّمًا وَلا ذاتَ بعل؛ فَأَرَادَ اللَّه أَن يعْصم الْمُؤمنِينَ عَنْ ذَلِكَ بِحَدّ يحده لَهُم؛ فحد لَهُم أَرْبَعَة أشهر. {فَإِنْ فَاءُوا} تَفْسِير الحَسَن: يَعْنِي بالفيء: الرُّجُوع إِلَى الْجِمَاع {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم} [آيَة 228](1/228)
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} والأقراء: الْحيض؛ فِي قَول أهل الْعرَاق، وَفِي قَول أهل الْمَدِينَة: الْأَطْهَار.
قَالَ قَتَادَة: جعل عدَّة الْمُطلقَة فِي هَذِه الْآيَة ثَلَاث حيض، ثمَّ نسخ مِنْهَا الْمُطلقَة الَّتِي لم يدْخل بِهَا زَوجهَا، فَقَالَ فِي سُورَة الْأَحْزَاب: (يَا أَيهَا الَّذِينَ(1/228)
آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تعتدونها} فَهَذِهِ لَيست عَلَيْهَا عدَّة.
وَنسخ أَيْضا من الثَّلَاثَة قُرُوء الَّتِي لَا تحيض من صغر أَو كبر وَالْحَامِل؛ فَقَالَ: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ من الْمَحِيض من نِسَائِكُم} فَهَذِهِ للعجوز الَّتِي لَا تحيض {إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ واللائي لم يحضن} فَهَذِهِ الَّتِي لم تَحض أَيْضا ثَلَاثَة أشهر.
قَالَ: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} فَهَذِهِ أَيْضا لَيست من القروء فِي شَيْء أجلهَا أَن تضع حملهَا.
قَالَ مُحَمَّد: القروء: وَاحِدهَا قرء؛ يُقَال: أَقرَأت الْمَرْأَة وقرأت؛ إِذا حَاضَت، أَو طهرت؛ وَإِنَّمَا جعل الْحيض قرءا، وَالطُّهْر قرءا؛ لِأَن أصل الْقُرْء فِي كَلَام الْعَرَب: الوَقْت؛ يُقَال: رَجَعَ فلَان لقرئه؛ أَي: لوقته الَّذِي كَانَ يرجع فِيهِ؛ فالحيض يَأْتِي لوقت، وَالطُّهْر يَأْتِي لوقت وَالله أعلم بِمَا أَرَادَ. {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أرحامهن} تَفْسِير مُجَاهِد قَالَ: لَا يحل للمطلقة أَن تَقُول إِنِّي حَائِض، وَلَيْسَت بحائض [أَو تَقُول: إِنِّي حُبْلَى وَلَيْسَت بحبلى، أَو تَقُول: لست بحائض وَهِي حَائِض] أَو تَقُول: لست بحبلى، وَهِي حُبْلَى؛ لتبين من زَوجهَا قبل أَن تَنْقَضِي الْعدة، وتُضِيف الْوَلَد إِلَى الزَّوْج الثَّانِي، وتستوجب الْمِيرَاث؛ إِذا مَاتَ الرجل [فَتَقول: لم تنقض عدتي] وَقد انْقَضتْ عدتهَا، وَالنَّفقَة فِي الْحمل.(1/229)
(ل 32) {وبعولتهن} يَعْنِي: الْأزْوَاج {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِك} فِي الْعدة التطليقة والتطليقتين {إِنْ أَرَادوا إصلاحا} يَعْنِي: حسن الصُّحْبَة {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة} يَعْنِي: فَضِيلَة فِي الْحق. [آيَة 229](1/230)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
{الطَّلَاق مَرَّتَانِ} قَالَ يَحْيَى: بلغنَا أَن أهل الْجَاهِلِيَّة لم يكن لَهُم حد فِي الطَّلَاق، كَانَ يُطلق أحدهم الْعشْر وَأَقل من ذَلِكَ وَأكْثر، فَجعل اللَّه حد الطَّلَاق ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان} وبلغنا أَن رجلا قَالَ: ((يَا رَسُول الله، قَول الله: {الطَّلَاق مَرَّتَانِ} فَأَيْنَ الثَّالِثَة؟ قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان} .(1/230)
قَالَ مُحَمَّد: الْقِرَاءَة (فإمساك) بِالرَّفْع عَلَى معنى: فَالْوَاجِب عَلَيْكُم إمْسَاك بِمَعْرُوف، أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان. وَمعنى (بِمَعْرُوف) بِمَا يعرف من إِقَامَة الْحق؛ فِي إمْسَاك الْمَرْأَة وَقَوله تَعَالَى: {الطَّلَاق مَرَّتَانِ} مَعْنَاهُ: الطَّلَاق الَّذِي يملك فِيهِ الرّجْعَة تَطْلِيقَتَانِ. {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُود الله} يَعْنِي: أَمر اللَّه فِي أَنفسهمَا؛ وَذَلِكَ أَنه يُخاف من الْمَرْأَة فِي نَفسهَا إِذا كَانَت مبغضة لزَوجهَا فتعصي اللَّه فِيهِ، ويُخاف من الزَّوْج إِن لم يطلقهَا أَن يتَعَدَّى عَلَيْهَا.
قَالَ مُحَمَّد: الَّذِي يدل عَلَيْهِ تَفْسِير يَحْيَى: أَن الْقِرَاءَة كَانَت عِنْده [يُخَافَا] بِضَم الْيَاء، وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا أَبُو جَعْفَر وَحَمْزَة. وَقرأَهَا نَافِع وَغير وَاحِد [يخافا] بِالْفَتْح؛ ذكره أَبُو عبيد.
قَالَ أَبُو عبيد: وَالْقِرَاءَة عندنَا بِضَم الْيَاء؛ لقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ} فَجعل الْخَوْف لغَيْرِهِمَا، وَلم يقل: فَإِن خافا.(1/231)
قَالَ قَتَادَة: خَاطب بِهَذَا الْوُلَاة {أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُود الله} يَعْنِي: سنة اللَّه وَأمره فِي الطَّلَاق {فَلَا تعتدوها} أَي: لَا تتعدوها إِلَى غَيرهَا {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هم الظَّالِمُونَ} لأَنْفُسِهِمْ.
قَالَ مُحَمَّد: وَمعنى حُدُود اللَّه: مَا حَده مِمَّا لَا تجوز مجاوزته إِلَى غَيره، وأصل الْحَد فِي اللُّغَة: الْمَنْع؛ يُقَال: حددت الدَّار؛ أَي: بيّنت الْأَمْكِنَة الَّتِي تمنع غَيرهَا أَن يدْخل فِيهَا، وحددت الرجل أَقمت عَلَيْهِ الْحَد، وَالْحَد: هُوَ الَّذِي يمْتَنع بِهِ النَّاس من أَن يدخلُوا فِيمَا يجلب إِلَيْهِم الْعقُوبَة.
قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} يَعْنِي: الثَّالِثَة {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيره} .
يَحْيَى: عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: ((أَنَّ تَمِيمَةَ بِنْتَ عُبَيْدِ بْنِ وَهْبٍ الْقُرَظِيَّةَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، فَخَلَفَ عَلَيْهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَطَلَّقَهَا، فَأَتَتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَتْهُ؛ هَلْ تَرْجِعُ إِلَى زَوْجِهَا الأَوَّلِ. فَقَالَ لَهَا: هَلْ غَشِيَكِ؟ فَقَالَتْ: مَا كَانَ، مَا عِنْدَهُ بِأَغْنَى عَنْهُ مِنْ هُدْبَةِ ثَوْبِي؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا، حَتَّى تَذُوقِي من عُسَيْلَةِ غَيْرِهِ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، قَدْ غَشِيَنِي. فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَاحْرِمْهَا إِيَّاهُ. فَأَتَتَ أَبَا بَكْرٍ بَعْدَهُ فَلَمْ يُرَخِّصْ لَهَا، ثُمَّ أَتَتْ عُمَرَ فَلَمْ يرخص لَهَا)) .(1/232)
[آيَة 230](1/233)
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُود الله} يَعْنِي: إِن أيقنا أَن يُقِيمَا حُدُود اللَّه. تَفْسِير بَعضهم: يَقُولُ: {فَإِن طَلقهَا} يَعْنِي: الزَّوْج الْأَخير {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} عَلَى الْمَرْأَة وَالزَّوْج الأول الَّذِي طَلقهَا ثَلَاثًا {أَن يتراجعا} إِن أحبا. وَفِي تفسيرهم: فَإِن طَلقهَا، أَوْ مَاتَ عَنْهَا، فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا أَن يتراجعا. [آيَة 231](1/233)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} إِلَى قَوْله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فقد ظلم نَفسه} .
يَحْيَى: عَنِ الْجَهْمِ بْنِ وَرَّادٍ؛ أَنَّ رَجُلا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لامْرَأَتِهِ: لأُطَلِّقَنَّكِ، ثُمَّ [لأَحْبِسَنَّكِ] تسع حيض لَا تقدرين على أَنْ تَتَزَوَّجِي غَيْرِي. قَالَتْ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ ! قَالَ: أُطَلِّقُكِ تَطْلِيقَةً، ثُمَّ [أَدَعُكِ] حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِكِ رَاجَعْتُكِ، ثُمَّ أُطَلِّقُكِ أُخْرَى، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ انْقِضَاءِ عدتك رَاجَعتك ثمَّ أطلقك ثُمَّ [تَعْتَدِّينَ مِنْ] ثَلاثِ حِيَضٍ، فَأنْزل الله (ل 33) هَذِهِ الآيَةَ {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} إِلَى آخِرِهَا.(1/233)
قَالَ يَحْيَى: فَإِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ قَبْلَ أَنْ يُرَاجِعَهَا، فَهُوَ تَسْرِيحٌ. {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا}
يَحْيَى: عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: ((كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ؛ فَإِذَا سُئِلَ، قَالَ: كُنْتُ لاعِبًا. وَيَتَزَوَّجُ؛ فَإِذَا سُئِلَ، قَالَ: كُنْتُ لاعِبًا. وَيُعْتِقُ؛ فَإِذَا سُئِلَ، قَالَ: كُنْتُ لاعِبًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَات الله هزوا} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ طَلَّقَ لاعِبًا أَوْ تَزَوَّجَ لاعِبًا أَوْ أَعْتَقَ لاعبا فَهُوَ جَائِز)) .(1/234)
[آيَة 232](1/235)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} يَعْنِي: انْقِضَاء الْعدة {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} أَي: تحبسوهن {أَن ينكحن أَزوَاجهنَّ} {ذَلِكُم أزكى لكم وأطهر} يَعْنِي: لقلب الرجل، وقلب الْمَرْأَة.
يَحْيَى: عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ ((أَنَّ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ زَوَّجَ أُخْتَهُ رَجُلا، فَطَلَّقَهَا الرَّجُلُ تَطْلِيقَةً، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا خَطَبَهَا، فَأَرَادَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ، فَغَضِبَ مَعْقِلٌ، وَقَالَ: زَوَّجْتُهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا؛ لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ؛ إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ} )) أَيْ: عَلِمَ اللَّهُ حَاجَتَهُ إِلَيْهَا، وحاجتها إِلَيْهِ.(1/235)
[آيَة 233](1/236)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
{والوالدات} يَعْنِي: المطلقات؛ فِي تَفْسِير مُجَاهِد {يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يتم الرضَاعَة} تَفْسِير قَتَادَة: قَالَ: أنزل اللَّه فِي أول هَذِه الْآيَة {حَوْلَيْنِ كَامِلين} ثمَّ أنزل الْيُسْر وَالتَّخْفِيف؛ فَقَالَ: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} {وعَلى الْمَوْلُود لَهُ} يَعْنِي: الْأَب {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} على قدر ميسرته {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بولده} تَفْسِير قَتَادَة: قَالَ: نهى اللَّه الْوَالِد أَن يَنْزعهُ من أمه؛ إِذا رضيت أَن ترْضِعه بِمَا كَانَ مسترضعا بِهِ غَيرهَا، ويدفعه إِلَى غَيرهَا، ونهيت الوالدة أَن تقذف الْوَلَد إِلَى زَوجهَا؛ إِذا أَعْطَاهَا مَا كَانَ مسترضعا غَيرهَا [وتدفعه إِلَى غَيرهَا] . {وَعَلَى الْوَارِثِ مثل ذَلِك} تَفْسِير قَتَادَة: قَالَ: عَلَى وَارِث الْمَوْلُود إِن كَانَ الْمَوْلُود لَا مَال لَهُ {مثل ذَلِك} أَي: مثل الَّذِي كَانَ عَلَى وَالِده لَو كَانَ حَيا من أجر الرَّضَاع. وقَالَ الحَسَن: وعَلى الرِّجَال دون النِّسَاء، وَتَفْسِير ابْن عَبَّاس: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قَالَ: هُوَ فِي الضرار {فَإِنْ أَرَادَا فصالا} يَعْنِي: فطاما {عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وتشاور} قبل انْقِضَاء الْحَوْلَيْنِ بعد أَن يَسْتَطِيع الْفِطَام، وَلا يدْخل عَلَيْهِ فِيه ضَرُورَة {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} .(1/236)
{وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ} أَي: لأولادكم {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} تَفْسِير مُجَاهِد: حِسَاب مَا رضع الصَّبِي؛ إِذا تَرَاضيا أَن يسترضعا لَهُ إِذا خافا الضَّيْعَة عَلَيْهِ. [آيَة 234](1/237)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يتربص بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} وَفِي الْعشْر ينْفخ فِي الْوَلَد الرّوح، فنسخت هَذِه الآيةُ الآيةَ الَّتِي بعْدهَا فِي التَّأْلِيف {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاج} وَهِي قبل هَذِه فِي التَّنْزِيل، وَوضعت فِي هَذَا الْموضع. قَالَ الحَسَن: وَكَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلام يَأْتِي النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَيَقُول: يَا مُحَمَّد، إِن اللَّه يَأْمُرك أَن تضع آيَة كَذَا بَين ظهراني آيَة كَذَا وَكَذَا من السُّورَة.
يَحْيَى: عَنْ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: ((نُسِخَ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ الْحَامِلُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا؛ فَقَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ الْقُصْرَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَملهنَّ} (فَإِذا بلغن أَجلهنَّ} أَي: انْقَضتْ الْعدة {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُم} أَي: فَلَا إِثْم عَلَيْكُم {فِيمَا فعلن فِي أَنْفسهنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قَالَ مُجَاهِد: يُرِيد النِّكَاح الْحَلَال.(1/237)
[آيَة 235](1/238)
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أكننتم فِي أَنفسكُم} يَعْنِي: أسررتم فِي أَنفسكُم، قَالَ عِكْرِمَة: التَّعْرِيض أَن يَقُولُ: أَنْت فِي [نَفسِي] (ل 34) وَتقول هِيَ: مَا يقدر من أَمر يكن؛ من غير أَن يواعدها أَلا تنْكح غَيره، {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تواعدوهن سرا} تَفْسِير قَتَادَة: يَقُولُ: لَا تَأْخُذُوا ميثاقها فِي عدتهَا أَلا تنْكح زوجا غَيره {إِلَّا أَن يَقُولُوا قولا مَعْرُوفا} هُوَ التَّعْرِيض {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} يَعْنِي: انْقِضَاء الْعدة {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} يَعْنِي: فِي أَن تزوجوهن فِي الْعدة وَفِي جَمِيع الْأَشْيَاء بعد.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: {وَلا تَعْزِمُوا عقدَة النِّكَاح} الْمَعْنى: عَلَى عقدَة النِّكَاح، فاختصر على. [آيَة 236](1/238)
[آيَة 237](1/239)
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لم تمَسُّوهُنَّ} يَعْنِي: تجامعوهن {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلى المقتر قدره} الموسع: الَّذِي وُسع عَلَيْهِ فِي الرزق، والمقتر: المقتر عَلَيْهِ {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} .
يَحْيَى: وَلَيْسَ فِي الْمُتْعَة أَمر مُؤَقّت، إِلَّا مَا أحب لنَفسِهِ من طلب الفَضْل فِي ذَلِكَ، وَقد كَانَ فِي السّلف من يمتع بالخادم، وَمِنْهُم من يمتع بالكسوة، وَمِنْهُم من يمتع بِالطَّعَامِ.
قَالَ مُحَمَّد: {مَتَاعا} يجوز أَن يكون النصب فِيهِ على معنى: ومتعوهن مَتَاعا وَيُقَال: أوسع الرجلُ؛ إِذا اسْتغنى، وأقتر؛ إِذا كَانَ مقترا عَلَيْهِ، وأصل الإقتار: الضّيق.(1/239)
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تمَسُّوهُنَّ} أَي: تجامعوهن {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة فَنصف مَا فرضتم} .
قَالَ مُحَمَّد: الْقِرَاءَة (فَنصف) بِالرَّفْع؛ عَلَى معنى: فَعَلَيْكُم نصف مَا فرضتم.
قَالَ سَعِيد بْن الْمسيب: كَانَ لَهَا الْمَتَاع فِي سُورَة الْأَحْزَاب؛ فنسختها هَذِه الْآيَة؛ فَصَارَ لَهَا نصف الصَدَاق {إِلا أَن يعفون} يَعْنِي: النِّسَاء (أَوْ يَعْفُوَ(1/239)
الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح} قَالَ شُرَيْح: هُوَ الزَّوْج؛ إِن شَاءَ عَفا عَنْ نصف الصَدَاق، فَأعْطى الْمَرْأَة الصَدَاق تَاما، وَإِن شَاءَت الْمَرْأَة عفت عَنْ نصف الصَدَاق، فَسلمت الصَدَاق كُله للزَّوْج.
يَحْيَى: وَكَانَ الحَسَن يَقُولُ: الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح هُوَ الْوَلِيّ. {وَأَن تعفوا أقرب للتقوى} يَقُولُ ذَلِكَ من التَّقْوَى {وَلا تنسوا الْفضل بَيْنكُم} أَي: لَا تتركوه. [آيَة 238 - 239](1/240)
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)
{حَافظُوا على الصَّلَوَات} يَعْنِي: الصَّلَوَات الْخمس؛ عَلَى وضوئها، ومواقيتها، وركوعها وسجودها {وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} وَهِي فِي الْخمس.
يَحْيَى: عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: ((سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاةِ الْوُسْطَى فَقَالَ: هِيَ صَلاةُ الْعَصْرِ الَّتِي فَرَّطَ فِيهَا نَبِيُّ اللَّهِ سُلَيْمَانُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) .(1/240)
{وَقومُوا لله قَانِتِينَ} أَي: مُطِيعِينَ.
قَالَ مُحَمَّد: معنى {قَانِتِينَ} هُنَا: أَي: ممسكين عَنِ الْكَلَام؛ وأصل القتوت: الطَّاعَة.(1/241)
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} تَفْسِير قَتَادَة قَالَ: هَذَا عِنْد الضراب(1/241)
بِالسُّيُوفِ؛ رَاكِبًا كنت، أَو ساعيا، أَو مَاشِيا؛ إِن اسْتَطَعْت فركعتين، وَإِلَّا فركعة تومئ برأسك إِيمَاء أَيْنَمَا تَوَجَّهت.
قَالَ يَحْيَى: وَبَلغنِي أَنَّهُ إِذا كَانَ الْأَمر أَشد من ذَلِكَ، كبر أَربع تَكْبِيرَات.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: {فَرِجَالا أَوْ ركبانا} مَعْنَاهُ: فصلوا رجَالًا أَو ركبانا، و {رجَالًا} جمع راجل؛ كَمَا قَالُوا: صَاحب وصحاب، وَالْخَوْف هَا هُنَا؛ بِالْيَقِينِ لَا بِالظَّنِّ. {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لم تَكُونُوا تعلمُونَ} يَعْنِي: فصلوا لله تَعَالَى. [آيَة 240 - 242](1/242)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غير إِخْرَاج} تَفْسِير قَتَادَة: قَالَ: كَانَت الْمَرْأَة إِذا توفّي عَنْهَا زَوجهَا ينْفق عَلَيْهَا من مَاله حولا مَا لم تخرج؛ فَإِن خرجت، فَلَا نَفَقَة لَهَا؛ فنسخ الْحول فِي قَوْله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعشرا} (ل 35) وَنسخ النَّفَقَة فِي الْحول فِي هَذِه الْآيَة: (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا(1/242)
تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دين) .
قَالَ مُحَمَّد: تقْرَأ {وَصِيَّة} بِالرَّفْع وَالنّصب؛ فَمن نصب أَرَادَ: فليوصوا وَصِيَّة، وَمن رفع فعلى معنى: فَعَلَيْهِم وَصِيَّة. وَنصب {مَتَاعًا} بِمَعْنى: متعوهن مَتَاعا.
قَوْله: {فَإِنْ خرجن فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفسهنَّ من مَعْرُوف} يَعْنِي: أَن يتزين، ويتشوفن، ويلتمسن الْأزْوَاج.(1/243)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاته لَعَلَّكُمْ تعقلون} أَي: لكَي تعقلوا.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله {حَقًا} نصب عَلَى معنى: يحِق حَقًا. [آيَة 243 - 245](1/243)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا من دِيَارهمْ وهم أُلُوف} الْآيَة. تَفْسِير قَتَادَة: هُم قوم فروا من الطَّاعُون، فمقتهم اللَّه عَلَى فرارهم من الْمَوْت {فَقَالَ لَهُم الله موتوا} فأماتهم اللَّه عُقُوبَة، ثمَّ بَعثهمْ ليستوفوا بَقِيَّة آجالهم.
قَالَ الْكَلْبِيّ: وَكَانُوا ثَمَانِيَة آلَاف، فأماتهم اللَّه، فَمَكَثُوا ثَمَانِيَة أَيَّام.
قَالَ مُحَمَّد: وَقَوله: {ألم تَرَ} هُوَ عَلَى جِهَة التَّعَجُّب؛ كَقَوْلِه: ألم تَرَ إِلَى مَا صنع فلَان؟ !(1/244)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قرضا حسنا} أَي: حَلَالا محتسبا {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أضعافا كَثِيرَة} قَالَ الحَسَن: هَذَا فِي التَّطَوُّع، وَكَانَ الْمُشْركُونَ يخلطون أَمْوَالهم بالحرام؛ حَتَّى جَاءَ الإِسْلام فَنزلت هَذِه الْآيَة، فَأمروا أَن يتصدقوا من الْحَلَال، وَلما نزلت قَالَت الْيَهُود: هَذَا ربكُم يستقرضكم، وَإِنَّمَا يستقرض الْفَقِير؛ فَهُوَ فَقير وَنحن أَغْنِيَاء، فَأنْزل اللَّه {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنحن أَغْنِيَاء}
قَالَ مُحَمَّد: أصل الْقَرْض مَا يَفْعَله الرجل وَيُعْطِيه؛ ليجازي بِهِ، وَالْعرب تَقُولُ: لَك عِنْدِي قرض حسن، وقرض سيئ.
وَقَوله: {فَيُضَاعِفَهُ} من قَرَأَهُ بِالرَّفْع فَهُوَ عطف على {يقْرض} وَمن نصب فعلى جَوَاب الِاسْتِفْهَام {وَالله يقبض ويبسط} يقبض عَمَّن يَشَاء، ويبسط(1/244)
الرزق لمن يَشَاء {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يَعْنِي: الْبَعْث. [آيَة 246](1/245)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
{ألم تَرَ إِلَى الملإ} يَعْنِي: الْأَشْرَاف {مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .
قَالَ مُحَمَّد: الْقِرَاءَة {نُقَاتِل} بِالْجَزْمِ؛ عَلَى جَوَاب الْمَسْأَلَة.
قَالَ الْكَلْبِيّ: إِن بني إِسْرَائِيل مَكَثُوا زَمَانا من الدَّهْر لَيْسَ عَلَيْهِم ملك، فأحبوا أَن يكون عَلَيْهِم ملك يُقَاتل عدوهم، فَمَشَوْا إِلَى نَبِي لَهُم من بني هَارُون يُقَال لَهُ: أشمويل، فَقَالُوا لَهُ: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيل الله} فَقَالَ لَهُم نَبِيّهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وأبنائنا} وَكَانَ عدوهم من قوم جالوت {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم} [آيَة 247 - 248](1/245)
[آيَة 247 - 248](1/246)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} وَكَانَ طالوت من سبط قد عمِلُوا ذَنبا عَظِيما، فَنُزِعَ مِنْهُم الْملك فِي ذَلِكَ الزَّمَان فأنكروه {وَقَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} وَهُوَ من سبط الْإِثْم، يعنون: الذَّنب الَّذِي كَانُوا أَصَابُوا {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُم} اخْتَارَهُ لكم {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعلم والجسم} وَكَانَ طالوت أعلمهم يَوْمئِذٍ وأطولهم.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله {بسطة} أَي: سَعَة؛ من قَوْلك: بسطت الشَّيْء؛ إِذا فرشته ووسعته.(1/246)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
قَالَ الْكَلْبِيّ فَقَالُوا: ائتنا بِآيَة نعلم أَن اللَّه اصطفاه عَلَيْنَا {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ} عَلامَة {مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سكينَة من ربكُم} قَالَ يَحْيَى: يَعْنِي: رَحْمَة من ربكُم، فِي تَفْسِير بَعضهم.
قَالَ مُحَمَّد: وَقيل: سكينَة فعيلة؛ من: السّكُون؛ الْمَعْنى: فِيهِ مَا تسكنون؛ إِذا أَتَاكُم.(1/246)
{وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآل هَارُون} وَكَانَ فِيهِ عَصا مُوسَى ورضاض الألواح وقفيز مَنٍّ كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام (ل 36) تَركه عِنْد فتاه يُوشَع بْن نون وَهُوَ فِي الْبَريَّة.
فِي تَفْسِير بَعضهم: فَأَقْبَلت بِهِ الْمَلَائِكَة تحمله حَتَّى وَضعته فِي دَار طالوت فَأصْبح فِي دَاره. قَالَ الحَسَن: وَكَانَ التابوت من خشب. [آيَة 249](1/247)
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ ... .} إِلَى قَوْله: {إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم} قَالَ الْكَلْبِيّ: لما سَار بهم طالوت، اتخذ بهم مفازة من الأَرْض فعطشوا فَقَالَ لَهُم نَبِيّهم {إِن الله مبتليكم} أَي: مختبركم {بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يطعمهُ} يَعْنِي: وَمن لم يشربه {فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُم} جعلُوا يشربون مِنْهُ وَلا يروون، وَأما الْقَلِيل فكفتهم الغرفة، وَرجع الَّذين عصوا وَشَرِبُوا.(1/247)
قَالَ يحيى: {غرفَة} تقْرَأ بِفَتْح الْغَيْن ورفعها؛ فَمن قَرَأَها بِالنّصب؛ يَعْنِي: غرفته الَّتِي اغترف مرّة وَاحِدَة، وَمن قَرَأَهَا بِالرَّفْع؛ أَرَادَ: الغرفة ملْء الْيَد. {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَه} قَالَ الْكَلْبِيّ: وَكَانُوا ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر رجلا بعدة أهل بدر {قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يظنون} [يعلمُونَ] {أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصابرين} قِيلَ لِلْحسنِ: أَلَيْسَ الْقَوْم جَمِيعًا كَانُوا مُؤمنين الَّذين جاوزوا؟ ! قَالَ: بلَى، وَلَكِن تفاضلوا بِمَا شحت أنفسهم من الْجِهَاد فِي سَبيله. [آيَة 250 - 252](1/248)
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)
{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبنَا أفرغ علينا} يَعْنِي: أنزل عَلَيْنَا {صَبْرًا وَثَبِّتْ أقدامنا} أَي: وَاجعَل لنا الظفر عَلَيْهِم.(1/248)
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} قَالَ(1/248)
مُحَمَّد: يَعْنِي: آتى اللَّه دَاوُد؛ لِأَنَّهُ مُلِّكَ بعد قَتله جالوت {وَعلمه مِمَّا يَشَاء} يَعْنِي: الْوَحْي الَّذِي كَانَ يَأْتِيهِ من اللَّه {وَلَوْلا دِفْاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} تَفْسِير قَتَادَة: يبتلى الْمُؤْمن بالكافر، وَيُعَافى الْكَافِر بِالْمُؤمنِ.
قَالَ مُحَمَّد: وَقيل: الْمَعْنى: وَلَوْلَا دفاع اللَّه الْكَافرين بِالْمُسْلِمين، لكثر الْكفْر؛ فَنزلت بِالنَّاسِ السُّخطة فاستؤصل أهل الأَرْض. وَنصب {بَعضهم} بَدَلا من {النَّاس} الْمَعْنى: وَلَوْلَا دفاع اللَّه بَعْض النَّاس بِبَعْض.(1/249)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} قَالَ مُحَمَّد: معنى آيَات اللَّه هَا هُنَا: أَعْلَامه الَّتِي تدل عَلَى توحيده، و {تِلْكَ} بِمَعْنى هَذِه. [آيَة 253 - 254](1/249)
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بعض} قَالَ الحَسَن: يَعْنِي: بِمَا آتَاهُم الله من النُّبُوَّة والرسالة {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ الله وَرفع بَعضهم دَرَجَات} قَالَ(1/249)
الحَسَن: يَعْنِي: فِي الدُّنيا عَلَى وَجه مَا أعْطوا {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْن مَرْيَم الْبَينَات} قَالَ مُحَمَّد: يُرِيد الْأَعْلَام الَّتِي تدل عَلَى إِثْبَات نبوته من إِبْرَاء الأكمه والأبرص، وإحياء الْمَوْتَى، وَغير ذَلِكَ مِمَّا أَتَاهُ اللَّه، وَقَوله: {تِلْكَ الرُّسُل} يُرِيد: الْجَمَاعَة {وأيدناه} يَعْنِي: عِيسَى عَلَيْهِ السَّلام أعنَّاه {بِروح الْقُدس} وروح الْقُدس جِبْرِيل {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بعدهمْ} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: من بعد مُوسَى وَهَارُون.(1/250)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} يَعْنِي: الزَّكَاة {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خلة} قَالَ قَتَادَة: {وَلَا خلة} أَي: وَلا صداقة، إِلَّا لِلْمُتقين {وَلَا شَفَاعَة} أَي: للْمُشْرِكين {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لأَنْفُسِهِمْ. [آيَة 255](1/250)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيّ القيوم} قَالَ الحَسَن: الْقَائِم عَلَى كُلِّ نفس بكسبها يحفظ عَلَيْهَا عَملهَا حَتَّى يجازيها بِهِ {لَا تَأْخُذُهُ سنة وَلَا نوم} قَالَ الحَسَن: السّنة: النعاس، وَالنَّوْم؛ يَعْنِي: النّوم الْغَالِب.(1/250)
قَالَ مُحَمَّد: يُقَال: وَسن الرجل يوسن وسنا؛ إِذا نعس. {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} كَقَوْلِه: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا من بعد إِذْنه} (ل 37) وَكَقَوْلِه: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارتضى} . {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلفهم} قَالَ الحَسَن: يَعْنِي: أول أَعْمَالهم وَآخِرهَا {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ} يَعْنِي: مَا يعلم الْأَنْبِيَاء من الْوَحْي {وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض} [قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: مَلأ كرسيه السَّمَوَات وَالْأَرْض] .
يَحْيَى: عَنِ الْمُعَلَّى بْنِ هِلالٍ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ((إِنَّ الْكُرْسِيَّ الَّذِي وَسِعَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَمَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَلا يَعْلَمُ قَدْرَ الْعَرْشِ إِلا الَّذِي خلقه)) .(1/251)
{وَلَا يئوده حفظهما} قَالَ مُجَاهِد: أَي: لَا يثقل عَلَيْهِ.
قَالَ مُحَمَّد: يَقُولُ: آده الشي يئوده، وَفِيه لُغَة أُخْرَى: وأده يئده. [آيَة 256 - 257](1/252)
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تبين الرشد من الغي} تَفْسِير سَعِيد بْن جُبَيْر: قَالَ: كَانَ قوم من أَصْحَاب النَّبي عَلَيْهِ السَّلَام استرضعوا أَوْلَادهم فِي الْيَهُود فِي الْجَاهِلِيَّة، فكبروا على الْيَهُودِيَّة؛ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام، وَأسلم الْآبَاء، أَرَادوا أَن يكرهوا أَبْنَاءَهُم عَلَى الإِسْلام فَأنْزل اللَّه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغي} يَعْنِي: الْهدى من الضَّلَالَة {فَمَنْ يكفر بالطاغوت} بالشيطان {وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} أَي: لَا انْقِطَاع لَهَا.(1/252)
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
{الله ولي الَّذين آمنُوا} قَالَ الحَسَن: وَلِي هدَاهُم وتوفيقهم {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} يَعْنِي: من الضَّلَالَة إِلَى الْهدى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ من النُّور إِلَى الظُّلُمَات} من الْهدى إِلَى الضَّلَالَة.
قَالَ مُحَمَّد: والطاغوت هَا هُنَا وَاحِد فِي معنى جمَاعَة؛ وَهَذَا جَائِز فِي اللُّغَة؛ إِذا كَانَ فِي الْكَلَام دَلِيل عَلَى الْجَمَاعَة. [آيَة 258](1/253)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الْملك} الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ هُوَ نمروذ؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة. قَالَ قَتَادَة: وَهُوَ أول ملك تجبر فِي الأَرْض، وَهُوَ صَاحب الصرح [الَّذِي بني] بِبَابِل {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيت} قَالَ قَتَادَة: ذكر لنا أَن نمروذ دَعَا برجلَيْن فَقتل أَحدهمَا، واستحيى الآخر؛ فَقَالَ: أَنَا أحيي وأميت؛ أَي: أستحيي من شِئْت، وأقتل من شِئْت {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فبهت الَّذِي كفر} قَالَ مُحَمَّد: يَعْنِي: انْقَطَعت حجَّته {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} يَعْنِي: الْمُشْركين الَّذين يلقون اللَّه بشركهم، أَي: لَا يهْدِيهم إِلَى الْحجَّة، وَلا يهْدِيهم من الضَّلَالَة إِلَى دينه. [آيَة](1/253)
[آيَة 259](1/254)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} قَالَ مُحَمَّد: الْمَعْنى: هَلْ رَأَيْت كَذَلِك أَو كَالَّذي مر عَلَى قَرْيَة؟ {عَلَى طَرِيق التَّعَجُّب. {وَهِيَ خاوية على عروشها} قَالَ مُحَمَّد: يَعْنِي: وَهِي خراب على سقوفها، وَالْأَصْل فِي ذَلِكَ أَن تسْقط السقوف، ثمَّ تسْقط الْحِيطَان عَلَيْهَا. {قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِه الله بعد مَوتهَا} قَالَ قَتَادَة: هُوَ عَزِيز، والقرية بَيت الْمُقَدّس بعد مَا خربه بخْتنصر، فَقَالَ: أَنى تُعْمَرُ هَذِه بعد خرابها؟} {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَو بعض يَوْم} ذكر لَنَا أَنَّهُ مَاتَ ضحى، وَبعث قبل غرُوب الشَّمْس، فَقَالَ: لَبِثت يَوْمًا، ثمَّ الْتفت، فَرَأى بَقِيَّة من الشَّمْس من ذَلِكَ الْيَوْم، فَقَالَ: أَو بَعْض يَوْم {قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يتسنه} أَي: لم يتَغَيَّر. قَالَ الْكَلْبِيّ: كَانَ مَعَه سلتان: سلة من تين، وسلة من عِنَب، وزِقٌّ فِيهِ عصير. {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} فَنظر إِلَى حِمَاره فَإِذا هوعظام بالية، فَرَأى الْعِظَام قد تحركت، وسعى بَعْضهَا إِلَى بَعْض، وَجَاء الرَّأْس إِلَى مَكَانَهُ، ثمَّ رَأَى العصب وَالْعُرُوق ألقيت عَلَيْهَا، ثمَّ وُضعَ عَلَيْهَا اللَّحْم، ثمَّ بسط عَلَيْهَا الْجلد، ثمَّ نفخ فِيهِ الرّوح؛ فَإِذا هُوَ قَائِم ينهق فَخر عُزَيْر سَاجِدا {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير} .(1/254)
قَالَ يَحْيَى: قَرَأَهَا قوم [ {نُنْشِزُهَا} بالزاي، وَقوم آخَرُونَ: {كَيْفَ نُنْشِرُهَا} وَهُوَ أَجود الْوَجْهَيْنِ] ! وتصديقه فِي كتاب اللَّه {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أنشره} . (ل 38) قَالَ مُحَمَّد: من قَرَأَ {نُنْشِزُهَا} بالزاي، فَالْمَعْنى: نحرك بَعْضهَا إِلَى بَعْض ونزعجه؛ ومِنْهُ يُقَال: نشزت الْمَرْأَة على زَوجهَا. [آيَة 260](1/255)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى} الْآيَة.
قَالَ يَحْيَى: بلغنَا أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلام خرج يسير عَلَى حمَار لَهُ؛ فَإِذا هُوَ بجيفة دَابَّة يَقع عَلَيْهَا طير السَّمَاء، فَيَأْخُذ مِنْهَا بضعَة بضعَة، وتأتيها سِبَاع الْبر؛ فتأخذ مِنْهَا عضوا عضوا، وَيَقَع من أَفْوَاه الطير اللَّحْم، فتأخذه الْحيتَان.
فَقَامَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلام مُتَعَجِّبا، فَقَالَ: يَا رب، أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى؟ ! {قَالَ أَو لم تؤمن قَالَ بلَى} يَا رب، قد آمَنت، وَلَكِن لأعْلم؛ حَتَّى يطمئن قلبِي - يَعْنِي: يسكن - كَيفَ تجمع لحم هَذِه الدَّابَّة بعد مَا أرم.
فَقَالَ لَهُ: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} قَالَ مُحَمَّد: يَعْنِي:(1/255)
فَضَمَّهُنَّ إِلَيْك؛ تَقُولُ: صرت الشَّيْء فانصار؛ أَي: أملته فَمَال. {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءا} قَالَ مُحَمَّد: يَعْنِي: فقطعهن، ثمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءا؛ فاختصر ((فقطعهن)) . {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يأتينك} قل: تعالين بِإِذن اللَّه يأتينك {سعيا} أَي: مشيا على أرجلهن.
قَالَ يَحْيَى: فَأخذ أَرْبَعَة أطيار مُخْتَلفَة ألوانها وأسماؤها وريشها، أَخذ ديكا وطاوساً وحمامة وغرابا؛ فَقطع أعناقها، ثمَّ خلط ريش بَعْضهَا بِبَعْض، وَدِمَاء بَعْضهَا بِبَعْض، ثمَّ فرق بَينهَا عَلَى أَرْبَعَة أجبل؛ فنوديت من السَّمَاء بِالْوَحْي أيتها الْعِظَام المتفرقة، وأيتها اللحوم المتمزقة، وأيتها الْعُرُوق المتقطعة اجتمعي يرجع الله فِيك أرواحك، فَجعل يجْرِي الدَّم إِلَى الدَّم، وَتَطير الريشة إِلَى الريشة، ويثب الْعظم إِلَى الْعظم، فعلق عَلَيْهَا رءوسها، وَأدْخل فِيهَا أرواحها؛ فَقيل: يَا إِبْرَاهِيم إِن اللَّه حِين خلق الأَرْض وَضَعَ بَيته فِي وَسطهَا، وَجعل الأَرْض أَربع زَوَايَا، وَالْبَيْت أَرْبَعَة أَرْكَان؛ كل ركن فِي زَاوِيَة من زَوَايَا الأَرْض؛ فَأرْسل عَلَيْهَا من السَّمَاء أَرْبَعَة أرياح: الشمَال، والجنوب، وَالدبور، وَالصبَا؛ فَإِذا نفخ فِي الصُّور يَوْم الْقِيَامَة، اجْتمعت أجساد الْقَتْلَى والهلكى من أَرْبَعَة أَرْكَان الأَرْض، وَأَرْبع زواياها كَمَا اجْتمعت أَرْبَعَة(1/256)
أطيار من أَرْبَعَة أجبل. [آيَة 261 - 262](1/257)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيل الله} الْآيَة.
يَحْيَى: عَنِ الْمُعَلَّى بْنِ هِلالٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّهُ مَنْ جَهَّزَ غَيْرَهُ بِمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ دِرْهَم سَبْعمِائة ضِعْفٍ، وَمَنْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ - كتب لَهُ بِكُل دِرْهَم سَبْعمِائة ضِعْفٍ، وَبِكُلِّ ضِعْفٍ سَبْعُونَ أَلْفَ ضعف.(1/257)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله} يَعْنِي: فِي طَاعَة اللَّه {ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبهم} تَفْسِير قَتَادَة: قَالَ: علم اللَّه أَن نَاسا يمنون فِي عطيتهم، فَنهى عَن ذَلِك. [آيَة 263 - 264](1/257)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
{قَول مَعْرُوف} أَي: حسن {وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَة يتبعهَا أَذَى} أَي: يمن بِهَا عَلَى من تصدق عَلَيْهِ بهَا.(1/257)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بالمن والأذى} تَفْسِير الحَسَن: قَالَ: كَانَ بَعْض الْمُؤمنِينَ يَقُولُ: فعلت كَذَا، وأنفقت كَذَا؛ فَقَالَ الله: {يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بالمن والأذى} فَيصير مثلكُمْ فِيمَا يحبطه اللَّه من أَعمالكُم {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخر} وَهُوَ الْمُنَافِق {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَاب} قَالَ قَتَادَة: الصفوان: الْحجر {فَأَصَابَهُ وابل} مطر شَدِيد {فَتَركه صَلدًا} أَي: نقيا {لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْء مِمَّا كسبوا} هَذَا مثل ضربه الله - تَعَالَى - لأعمال الْكفَّار يَوْم الْقِيَامَة؛ يَقُول: {لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كسبوا} يَوْمئِذٍ؛ كَمَا ترك الْمَطَر الوابل هَذَا الْحجر لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء. [آيَة 265 - 266](1/258)
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (ل 39) قَالَ الحَسَن: يَعْنِي: احتسابا فمثلهم فِي نَفَقَتهم {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} يَعْنِي: مَكَانا مرتفعا من الأَرْض {أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} أَي:(1/258)
مرَّتَيْنِ {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فطل} الطل: أَضْعَف من الْمَطَر. قَالَ الْحسن: يَقُولُ: لَا يخلف خَيرهَا عَلَى كُلِّ حَال؛ فَكَذَلِك لَا يخلفهم اللَّه نَفَقَتهم أَن يُصِيبُوا مِنْهَا خيرا.(1/259)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} إِلَى قَوْله: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَار} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي: ريحًا شَدِيدَة فِيهَا سموم {فاحترقت} يَقُولُ: أمنكم من يود ذَلِكَ؟ ! أَي: لَيْسَ مِنْكُم من يوده فاحذروا أَلا تكون منزلتكم عِنْد اللَّه كَذَلِك؛ أحْوج مَا تَكُونُونَ إِلَى أَعمالكُم يُحْبطها ويُبْطلها؛ فَلَا تقدرون مِنْهَا على شَيْء؛ وَهَذَا مثل المفرط فِي طَاعَة اللَّه حَتَّى يَمُوت. [آيَة 267](1/259)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كسبتم} تَفْسِير الْحسن: هَذَا فِي النَّفَقَة الْوَاجِبَة؛ كَانُوا يتصدقون بأردأ دراهمهم، وأردأ طعامهم؛ فنهاهم اللَّه عَنْ ذَلِك؛ فَقَالَ: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} وَهُوَ الردىء {مِنْهُ تنفقون} قَالَ مُحَمَّد: {لَا تيمموا} يَعْنِي: لَا تقصدوا {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تغمضوا فِيهِ} تَفْسِير الْكَلْبِيّ: يَقُولُ: لَو كَانَ لبعضكم على بَعْض حق فَأعْطِي دون حَقه - لم يَأْخُذهُ مِنْهُ، إِلَّا أَن يرى أَنَّهُ قد تغامض لَهُ عَنْ بَعْض حَقه؛ وَكَذَلِكَ [قَول] اللَّه لَا تستكملوا الْأجر كُله، إِلَّا أَنَّ يتغمدكم مِنْهُ برحمة {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِي حميد} غَنِي عَمَّا(1/259)
عنْدكُمْ لمن بخل بِصَدَقَتِهِ، حميد لمن احتسب بِصَدَقَتِهِ. [آيَة 268 - 271](1/260)
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
{الشَّيْطَان يَعدكُم الْفقر} يُخْبِرهُمْ أَنهم حِين يُنْفقُونَ الرَّدِيء إِنَّمَا هُوَ مَا يلقِي الشَّيْطَان فِي قُلُوبهم من الْفقر {وَاللَّهُ يَعدكُم} عَلَى مَا تنفقون {مَغْفِرَةً مِنْهُ} لذنوبكم {وفضلاً} . قَالَ الحَسَن: يَعْنِي: جنَّة {وَاللَّهُ وَاسع عليم} وَاسع لخلقه، عليم بأمرهم.(1/260)
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
قَوْله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} يَعْنِي: الْفِقْه فِي الْقُرْآن {وَمَا يذكر إِلَّا أولو الْأَلْبَاب} أولو الْعُقُول؛ وهم الْمُؤْمِنُونَ(1/260)
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ تذرتم مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} يَعْنِي: يُحْصِيه {وَمَا للظالمين} {الْمُشْركين} (مِنْ أَنْصَارٍ) !(1/260)
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
2 - 2! (إِن تبدوا الصَّدقَات} يَعْنِي: الزَّكَاة {فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تخفوها} يَعْنِي: صَدَقَة التَّطَوُّع {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خير لكم ونكفر عَنْكُم من سَيِّئَاتكُمْ} .
قَالَ مُحَمَّد: الْقِرَاءَة {نكفر} بِالْجَزْمِ؛ عَلَى مَوضِع {خَيْرٌ لَكُمْ} ؛ لِأَن الْمَعْنى يكن خيرا لكم.(1/260)
قَالَ يَحْيَى: وسمعتهم يَقُولُونَ: يسْتَحبّ أَن تكون الزَّكَاة عَلَانيَة، وَصدقَة التَّطَوُّع سرا.
يَحْيَى: عَنْ مَالِكِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ؛ الصَّلاةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ. يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ؛ النَّاسُ غَادِيَانِ: فَغَادٍ فَمُشْتَرٍ رَقَبَتَهُ فَمُعْتِقُهَا، وَغَادٍ فَبَائِعٌ رَقَبَتَهُ فموبقها)) .(1/261)
[آيَة 272 - 274](1/262)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
{لَيْسَ عَلَيْك هدَاهُم} الْآيَة تَفْسِير قَتَادَة: قَالَ: ذكر لَنَا أَن رجلا من أَصْحَاب النَّبِي قَالَ: [لَيْسَ عَلَيْنَا هدى] عَلَى من لَيْسَ من أهل ديننَا؛ فَأنْزل اللَّه: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ}
قَالَ يَحْيَى: فَهَذِهِ الصَّدَقَة الَّتِي هِيَ عَلَى غير الْمُسلمين هِيَ تطوع، وَلا يُعْطون من الْوَاجِب شَيْئا.(1/262)
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْض} قَالَ الحَسَن: أحصرهم الْفقر، وهم أهل تعفف {يَحْسبهُم الْجَاهِل} بفقرهم {أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} أَي: إلحاحا. قَالَ مُجَاهِد: هُم مهاجرو قُرَيْش بِالْمَدِينَةِ مَعَ النَّبي عَلَيْهِ السَّلَام أَمر الله بِالصَّدَقَةِ عَلَيْهِم.(1/262)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} الْآيَة نزلت فِي علف الْخَيل. [آيَة 275](1/263)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ} يَعْنِي: من قُبُورهم يَوْم الْقِيَامَة {إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَان من الْمس} يَعْنِي: الخبل [يَعْنِي مَجْنُون، تَقُولُ: رَجُل مَجْنُون، أَي: مخبول؛ كَذَلِك آكل الرِّبَا] .
يَحْيَى: عَنْ حَمَّادٍ [عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ] أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ (ل 40) بِهِ، فَكَانَ فِي حَدِيثِهِ: ((فَإِذَا أَنَا بِرِجَالٍ بُطُونِهِمْ كَالْبُيُوتِ، يَقُومُونَ فَيَقَعُونَ لِظُهُورِهِمْ وَلِبُطُونِهِمْ. فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ ! فَقَالَ: هَؤُلاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا. ثُمَّ تَلا هَذِهِ الْآيَة {الَّذين يَأْكُلُون الرِّبَا} الآيَةَ)) .(1/263)
وَقَوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البيع مثل الرِّبَا} هُوَ الَّذِي كَانُوا يعْملُونَ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّة؛ إِذا حل دين أحدهم عَلَى صَاحبه، قَالَ الْمَطْلُوب: أخرني وَأَزِيدك؛ فَكَانُوا فِي الإِسْلام إِذا فعلوا ذَلِكَ، قَالَ لَهُم الْمُسلمُونَ: إِن هَذَا رَبًّا. قَالوا: لَا، سَوَاء عَلَيْنَا زِدْنَا فِي أول البيع، أَو عِنْد مَحل الْأَجَل؛ فأكذبهم اللَّه؛ فَقَالَ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ موعظة من ربه} يَعْنِي: الْبَيَان الَّذِي فِي الْقُرْآن فِي تَحْرِيم الرِّبَا {فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سلف} أَي: غفر اللَّه لَهُ مَا سلف {وَأمره إِلَى الله} إِن شَاءَ عصمه مِنْهُ بعد، وَإِن شَاءَ لم يفعل {وَمَنْ عَاد} فاستحل الرِّبَا {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} .
قَالَ مُحَمَّد: الْمَعْنى: من اسْتحلَّ الرِّبَا وقَالَ: هُوَ مثل البيع، واعتقد ذَلِكَ بعد نهي اللَّه عَنهُ - فَهُوَ كَافِر. [آيَة 276 - 277](1/264)
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
{يمحق الله الرِّبَا} يَعْنِي: يمحقه يَوْم الْقِيَامَة، فيبطله {ويربي الصَّدقَات} لأَهْلهَا؛ أَي: يُضَاعِفهَا.
يَحْيَى: عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا تَصَدَّقَ عَبْدٌ بِصَدَقَةٍ فَتَقَعُ فِي يَدِ السَّائِلِ؛ حَتَّى تَقَعَ فِي يَدِ اللَّهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ؛ حَتَّى تَصِيرَ اللُّقْمَةُ مِثْلَ أُحُدٍ)) . {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أثيم} وَالْكفْر أعظم الْإِثْم(1/265)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} يَعْنِي: مَا افْترض اللَّه عَلَيْهِم {لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم} يَعْنِي: الْجَنَّة {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هم يَحْزَنُونَ} على الدُّنْيَا. [آيَة 278 - 279](1/265)
[آيَة 280 - 281](1/266)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِي من الرِّبَا} يَعْنِي: مَا بَقِي مِمَّا أربوا فِيهِ فِي الْجَاهِلِيَّة أَلا يأخذوه، وَمَا أخذُوا قبل إسْلَامهمْ فَهُوَ حَلَال لَهُم {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} يَعْنِي: إِذْ كُنْتُم مُؤمنين.(1/266)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ من الله وَرَسُوله} أَي: فاعلموا أَنكُمْ بِحَرب من اللَّه وَرَسُوله، وأنكم مشركون.
قَالَ مُحَمَّد: من قَرَأَ {فَآذِنُوا} غير مَوْصُولَة فَهُوَ من: آذن يُؤذن؛ أَي: أعلم، وَمن قَرَأَهَا مَوْصُولَة فَهِيَ من: أذن يَأْذَن؛ إِذا أصغى للشَّيْء وسَمعه. {وَإِنْ تُبْتُمْ} أَي: أسلمتم {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} يَقُولُ: يبطل الفَضْل إِذا كَانَ بَقِي دينا عَلَى الْمَطْلُوب {لَا تظْلمُونَ} فتأخذون الْفضل {وَلَا تظْلمُونَ} من رُءُوس أَمْوَالكُم شَيْئا.(1/266)
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى ميسرَة} .
قَالَ مُحَمَّد: {ذُو عسرة} بِالرَّفْع؛ هُوَ عَلَى معنى: فَإِن وَقع ذُو عسرة. يَحْيَى: عَنْ أَبِي الأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((رَحِمَ اللَّهُ مَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، أَوْ مَحَا عَنْهُ)) .(1/266)
يَحْيَى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْءَمَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ لَهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) .
قَوْله: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خير لكم} [قَالَ الْحسن] أَي: خير لكم فِي يَوْم ترجعون فِيهِ إِلَى الله(1/267)
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} يَعْنِي: لَا ينقصُونَ؛ يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ يُوفونَ حسناتهم يَوْم الْقِيَامَة. [آيَة](1/267)
[آيَة 282](1/268)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
{وليكتب بَيْنكُم كَاتب الْعدْل} أَي: لَا يَزِيد عَلَى الْمَطْلُوب، وَلا ينقص من حق الطَّالِب {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا علمه الله} الْكِتَابَة، وَترك غَيره فَلم يُعلمهُ {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} يَعْنِي: الْمَطْلُوب {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يبخس مِنْهُ شَيْئا} (ل 41) أَي: لَا ينقص من حق الطَّالِب {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق سَفِيها} [يَعْنِي: جَاهِلا] {أَو ضَعِيفا} يَعْنِي: فِي عقله {أَوْ لَا يَسْتَطِيع أَن يمل هُوَ} يَعْنِي: الَّذِي عَلَيْهِ الْحق {فَلْيُمْلِلْ وليه} أَي: ولي الْحق {بِالْعَدْلِ} لَا يزْدَاد شَيْئا.
قَوْله: {أَنْ تضل إِحْدَاهمَا} أَي: تنسى إِحْدَاهمَا الشَّهَادَة {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى} أَي: تذكر الَّتِي حفظت شهادتها الْأُخْرَى.
قَالَ مُحَمَّد: من قَرَأَ {أَن تضل} بِفَتْح الْألف؛ فعلى معنى: من أجل أَن تضل؛ كَذَلِك قَالَ قطرب، وَلغيره من النَّحْوِيين فِيهِ قَول غير هَذَا؛ فَالله أعلم.(1/268)
{وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دعوا} تَفْسِير قَتَادَة: قَالَ: كَانَ الرجل يَأْتِي الْحَيّ الْعَظِيم يطْلب مِنْهُم من يشْهد، فَلَا يتبعهُ مِنْهُم رَجُل، فنهي عَنْ ذَلِكَ. قَالَ الحَسَن: وَإِن وجد غَيره فَهُوَ وَاسع. {وَلَا تسأموا} أَي: لَا تملوا {أَنْ تَكْتُبُوهُ} يَعْنِي: الْحق. {صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجله ذَلِكُم أقسط} أَي: أعدل {وأقوم للشَّهَادَة} أَي: أصوب {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} أَي: أَجْدَر أَلا تَشكوا؛ إِذا كَانَ ذَلِكَ مَكْتُوبًا {إِلا أَنْ تكون تِجَارَة حَاضِرَة} أَي: حَالَة {تديرونها بَيْنكُم} لَيْسَ فِيهَا أجل {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جنَاح} حرج {أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تبايعتم} يَعْنِي: أشهدوا عَلَى حقكم؛ كَانَ فِيهِ أجل أَو لم يكن.
قَالَ الحَسَن: وَهَذَا مَنْسُوخ؛ نسخه {فَإِن أَمن بَعْضكُم بَعْضًا} (وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} تَفْسِير مُجَاهِد: لَا يُقَام عَنْ شغله وَحَاجته، فيجد فِي نَفسه، أَو يحرج.
قَالَ يَحْيَى: وَبَلَغَنِي عَنْ عَطَاءٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا إِذَا دُعِيَ لِيُشْهَدَ، أَوْ لِيَشْهَدَ بِمَا عِنْدَهُ. {وَإِن تَفعلُوا} أَي: تضاروا الْكَاتِب وَالشَّاهِد {فَإِنَّهُ فسوق بكم} أَي: مَعْصِيّة {وَاتَّقوا الله} أَي: لَا تعصوه فيهمَا. [آيَة 283](1/269)
[آيَة 284](1/270)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمن بَعْضكُم بَعْضًا} يَعْنِي: فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق أَمينا عِنْد صَاحب الْحق، فَلم يرتهن مِنْهُ فِي السّفر؛ لِثِقَتِهِ بِهِ {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَته} أَي: ليؤد الْحق الَّذِي عَلَيْهِ. {وَلَا تكتموا الشَّهَادَة} أَي: عِنْد الْحُكَّام {وَمَنْ يَكْتُمْهَا} فَلَا يشْهد؛ إِذا دُعِيَ {فَإِنَّهُ آثم قلبه} .
يَحْيَى: عَنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُول: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ((لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ مَخَافَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ الْحَقَّ إِذَا شَهِدَهُ أَو علمه)) .(1/270)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} تَفْسِير قَتَادَة: قَالَ: نزلت هَذِه الْآيَة، فكبرت عَلَيْهِم، فَأنْزل اللَّه بعْدهَا آيَة فِيهَا يسر وَتَخْفِيف؛ فنسختها {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كسبت} أَي: من خير {وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت} أَي: من شَرّ.
يَحْيَى: عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفسهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَتَكَلَّم بِهِ)) . [آيَة 285 - 286](1/271)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ من ربه} الْآيَة قَالَ الْحسن: هَذَا دُعَاء أَمر الله رَسُوله وَالْمُؤمنِينَ أَن يدعوا بِهِ(1/271)
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وسعهَا} إِلَّا طاقتها؛ وَهَذَا فِي حَدِيث النَّفس {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا} قَوْله: {إِن نَسِينَا} هَذَا فِيمَا يتخوف فِيهِ العَبْد المأثم، أَن ينسى أَن يعْمل بِمَا أَمر بِهِ،(1/271)
أَو ينسى فَيعْمل بِمَا نهي عَنهُ {أَو أَخْطَأنَا} هَذَا فِيمَا يتخوف فِيهِ العَبْد المأثم؛ أَن يُخطئ، فَيكون مِنْهُ أَمر يخَاف فِيهِ المأثم لم يتعمده. {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصرا} أَي: ثقلا {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذين من قبلنَا} يَعْنِي: مَا كَانَ شدد بِهِ عَلَى بني إِسْرَائِيل؛ وَكَانَ من ذَلِكَ الإصر مَا كَانَ حرَّم عَلَيْهِم من الشحوم، وكُلِّ ذِي ظفر، وَأمر السبت، وكُلُّ مَا كَانَ عهد إِلَيْهِم أَلا يفعلوه مِمَّا أُحل لَنَا {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} يَعْنِي: الوسوسة؛ فِي تَفْسِير ابْن عَبَّاس.
يَحْيَى: عَنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ أبي هُرَيْرَة ((أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله (ل 42) إِنِّي لأُحَدِّثُ نَفْسِي بِالشَّيْءِ مَا يَسُرُّنِي أَنِّي تَكَلَّمْتُ بِهِ، وَأَنَّ لِيَ الدُّنْيَا. قَالَ: ذَلِكَ مَحْضُ الإِيمَانِ)) . {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْم الْكَافرين} قَالَ الْحسن: هَذَا دُعَاء أَمر اللَّه بِهِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤمنِينَ، وَقد أخبر الله النَّبِي أَنَّهُ قد غفر لَهُ.
يَحْيَى: عَنْ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ((إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ(1/272)
كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، فَوَضَعَهُ تَحْتَ الْعَرْش، فَأنْزل مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ لَا تُقْرَآنِ فِي بَيْتٍ، فَيَقْرَبُهُ الشَّيْطَانُ ثَلاثَ لَيَالٍ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ ربه} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ)) .(1/273)
تَفْسِير سُورَة آل عمرَان وَهِي مَدَنِيَّة كلهَا
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم [آيَة 1 - 6](1/274)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
قَوْله: {الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم} ((الْحَيّ)) الَّذِي لَا يَمُوت، ((القيوم)) قَالَ الحَسَن: يَعْنِي: الْقَائِم عَلَى كُلِّ نفس بكسبها حَتَّى يجزيها بِهِ(1/274)
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)
{نزل عَلَيْك الْكتاب} الْقُرْآن {بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} يَعْنِي: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيل}(1/274)
مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)
{من قبل} يَعْنِي: من قبل الْقُرْآن {هُدًى للنَّاس} يَعْنِي: أنزل هَذِه الْكتب جَمِيعًا هدى للنَّاس {وَأنزل الْفرْقَان} تَفْسِير قَتَادَة: فرق اللَّه فِي الْكتاب بَين الْحق وَالْبَاطِل. {إِنَّ الَّذين كفرُوا بآيَات الله} تَفْسِير الحَسَن: يَعْنِي: بدين اللَّه. {وَالله عَزِيز} فِي نقمته {ذُو انتقام} من أعدائه(1/274)
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيفَ يَشَاء} كَقَوْلِه: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ ركبك} [آيَة](1/274)
[آيَة 7 - 10](1/275)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكتاب وَأخر متشابهات} تَفْسِير مُجَاهِد: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} ، يَعْنِي: مَا فِيهِ من الْحَلَال وَالْحرَام، وَمَا سوى ذَلِك مِنْهُ الْمُتَشَابه. {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زيغ} الْآيَة. كَانَ الحَسَن يَقُولُ: نزلت فِي الْخَوَارِج. قَالَ الحَسَن: وَمعنى {ابْتِغَاء الْفِتْنَة} : طلب الضَّلَالَة. قَالَ مُحَمَّد: الْفِتْنَة تتصرف عَلَى ضروب؛ فَكَانَ الضَّرْب الَّذِي ابتغاه هَؤُلاءِ إِفْسَاد ذَات الْبَين فِي الدِّين، وَمعنى {الزيغ} : الْجور، والميل عَنِ الْقَصْد.
يَحْيَى: عَنِ الْحَارِثِ بْنِ نَبْهَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلا هَذِهِ الآيَةَ، فَقَالَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ، فَهُمُ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ؛ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ، فَلا تُجَالِسُوهُمْ، أَوْ قَالَ: احْذَرُوهُمْ)) .(1/275)
يَحْيَى: وَفِي تَفْسِير ابْن عَبَّاس: قَالَ: نزل الْقُرْآن عَلَى أَرْبَعَة أوجه: حَلَال وَحرَام لَا يسع النَّاس جَهله، وَتَفْسِير يُعلمهُ الْعلمَاء، وعربية تعرفها الْعَرَب، وَتَأْويل لَا يُعلمهُ إِلَّا اللَّه.
يَقُولُ الراسخون فِي الْعِلْم: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أولو الْأَلْبَاب} أولو الْعُقُول؛ وهم الْمُؤْمِنُونَ.(1/276)
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
{رَبنَا لَا تزغ قُلُوبنَا} الْآيَة. قَالَ الْحسن: هَذَا دُعَاء، أَمر اللَّه الْمُؤمنِينَ(1/276)
أَن يدعوا بِهِ.(1/277)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُم أَمْوَالهم} أَي: لن تنفعهم {وَأُولَئِكَ هُمْ وقود النَّار} يَعْنِي: حطبها. [آيَة 11 - 13](1/277)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قبلهم} الْآيَة.
قَالَ الحَسَن: هَذَا مثل ضربه اللَّه لمشركي الْعَرَب؛ يَقُولُ: كفرُوا، وصنعوا كصنيع آل فِرْعَوْن وَالَّذين من قبلهم من الْكفَّار {فَأَخذهُم الله بِذُنُوبِهِمْ} فَهَزَمَهُمْ يَوْم بدر، وحشرهم إِلَى جَهَنَّم.
قَالَ مُحَمَّد: الدأب فِي اللُّغَة: الْعَادة؛ يُقَال: هَذَا دأبه.(1/277)
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فئتين التقتا} هما فئتا بدر؛ فِئَة الْمُؤمنِينَ، وَفِئَة مُشْركي الْعَرَب. {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعين} قَالَ الحَسَن: يَقُولُ: قد كَانَ لكم أَيهَا الْمُشْركُونَ آيَة (ل 43) فِي فِئَتكُمْ، وَفِئَة رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه؛ إِذْ ترونهم مثليكم رَأْي الْعين؛ لما أَرَادَ الله أَن يرعب قُلُوبهم، ويخذلهم(1/277)
ويخزيهم، وَكَانَ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَلَائِكَة وَجِبْرِيل، يَقُول، لَقَدْ كَانَ لكم فِي هَؤُلاءِ عِبْرَة ومتفكر؛ أَيّدهُم اللَّه، ونصرهم على عدوهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ} وهم الْمُؤْمِنُونَ.
قَالَ قَتَادَة: وَكَانَ الْمُشْركُونَ آلفوا يَوْم بدر، أَو قاربوا الْألف، وَكَانَ أَصْحَاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثمِائَة وَبضْعَة عشر رجلا. [آيَة 14](1/278)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
{زين للنَّاس حب الشَّهَوَات} قَالَ مُحَمَّد: هُوَ كَقَوْلِه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} . {والقناطير المقنطرة} [قَالَ قَتَادَة] يَعْنِي: المَال الْكثير بعضه عَلَى بَعْض {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} قَالَ الحَسَن: يَعْنِي: الراعية.
قَالَ مُحَمَّد: يُقَال: سامت الْخَيل، فَهِيَ سَائِمَة؛ إِذا رعت، وسوَّمتها فَهِيَ مسومة؛ إِذا رعيتها {وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِك مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا} الْمَتَاع: مَا يسْتَمْتع بِهِ، ثمَّ يذهب. {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} الْمرجع للْمُؤْمِنين؛ يَعْنِي: الْجنَّة.(1/278)
[آيَة 15 - 17](1/279)
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} يَعْنِي: الَّذِي ذكر من مَتَاع الْحَيَاة الدُّنيا {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} إِلَى قَوْله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ}
يَحْيَى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُول: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ((إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَرَأَوْا مَا فِيهَا - قَالَ اللَّهُ: لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا. قَالُوا: رَبَّنَا لَيْسَ شَيْءٌ أَفْضَلَ مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ: بَلَى أُحِلُّ عَلَيْكُم رِضْوَانِي)) .(1/279)
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
{الصابرين والصادقين} أَي: صدقت نيتهم، واستقامت قُلُوبهم وألسنتهم فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة {وَالْقَانِتِينَ} يَعْنِي: المطيعين {والمستغفرين} يَعْنِي: أهل الصَّلاة. يَقُولُ: هَلْ يَسْتَوِي هَؤُلاءِ وَالْكفَّار؟ أَي: أَنهم لَا يستوون عِنْد الله. [آيَة 18 - 19](1/280)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِما بِالْقِسْطِ} فِيهَا تَقْدِيم وَتَأْخِير؛ يَقُول: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ قَائِما بِالْقِسْطِ؛ أَي بِالْعَدْلِ [وَيشْهد الْمَلَائِكَة وَيشْهد أولو الْعِلْم وهم الْمُؤْمِنُونَ]
قَالَ مُحَمَّد: نصب {قَائِما} عَلَى الْحَال؛ وَهِي حَال مُؤَكدَة. {فَإِن توليتم مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} يَعْنِي: مَا بَين لَهُم {فَاعْلَمُوا أَن الله عَزِيز حَكِيم}
قَالَ يَحْيَى: أَحسب أَنهم فسروا كُلَّ شَيْء فِيهِ وَعِيد: عَزِيز فِي نقمته، وكُلَّ شَيْء لَيْسَ فِيهِ وَعِيد: عَزِيز فِي ملكه.(1/280)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وَكَانُوا عَلَى الإِسْلام {إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا} أَي: حسداً {بَينهم}(1/280)
قَالَ مُحَمَّد: نصب {بغيا} عَلَى معنى: للبغي. {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحساب} يَعْنِي: الْعَذَاب؛ أَي: إِذا أَرَادَ أَن يعذبهم، لم يؤخرهم عَنْ ذَلِكَ الْوَقْت؛ هَذَا تَفْسِير الحَسَن. [آيَة 20 - 22](1/281)
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
{فَإِن حاجوك فَقل أسلمت} أَي: أخلصت {وَجْهي} أَي: ديني {لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} أَي: وَأسلم من اتبعني وَجهه لله. {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ والأميين} يَعْنِي: مُشْركي الْعَرَب؛ وَكَانَت هَذِه الْأمة أُميَّة لَا كتاب لَهَا؛ حَتَّى نزل الْقُرْآن. {أأسلمتم} أَي: أخلصتم {فَإِن أَسْلمُوا} أَخْلصُوا {فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بالعباد} أَي: بأعمال الْعباد(1/281)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} يَعْنِي: بدين اللَّه {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم} موجع. [آيَة 23](1/281)
[آيَة 24 - 25](1/282)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا من الْكتاب} الْآيَة. \ قَالَ قَتَادَة: هُم الْيَهُود؛ دعاهم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المحاكمة إِلَى كتاب اللَّه [وَأَحْكَامه؛ أَي] كتاب الله الَّذِي أنزلهُ عَلَيْهِ (ل 44) فَوَافَقَ كِتَابهمْ الَّذِي أنزل عَلَيْهِم، فتولوا عَنْ ذَلِكَ، وأعرضوا عَنْهُ.(1/282)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّار إِلَّا أَيَّامًا معدودات} عدد الْأَيَّام الَّتِي عبدُوا فِيهَا الْعجل؛ يَعْنِي بِهِ أوائلهم، ثمَّ رَجَعَ الْكَلَام إِلَيْهِم؛ فَقَالَ: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يفترون} أَي: يختلقون من الْكَذِب عَلَى اللَّه، قَالَ قَتَادَة، وَهُوَ قَوْلهم {نَحن أَبنَاء الله وأحباؤه}(1/282)
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
{فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا ريب فِيهِ} لَا شكّ فِيهِ.
قَالَ مُحَمَّد: الْمَعْنى - وَالله أعلم - فَكيف يكون حَالهم فِي ذَلِكَ الْيَوْم؛ وَهَذَا من الِاخْتِصَار. {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كسبت} أما الْمُؤْمن فيوفى حَسَنَاته فِي الْآخِرَة، وَأما الْكَافِر فيجازى بِهَا فِي الدُّنيا، ولَهُ فِي الْآخِرَة عَذَاب النَّار. [آيَة 26](1/282)
[آيَة 27](1/283)
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
{قل اللَّهُمَّ مَالك الْملك} الْآيَة. قَالَ قَتَادَة: ((ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ ربه أَن يَجْعَل ملك فَارس وَالروم فِي أمته، فَأنْزل اللَّه هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا)) .(1/283)
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَار فِي اللَّيْل} وَهُوَ أَخذ كل وَاحِد مِنْهُمَا من صَاحبه؛ نُقْصَان اللَّيْل فِي زِيَادَة النَّهَار، ونقصان النَّهَار فِي زِيَادَة اللَّيْل {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} تَفْسِير الحَسَن وَقَتَادَة: تخرج المُؤْمن من الْكَافِر، وَتخرج الْكَافِر من الْمُؤمن {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب} يَعْنِي: بِغَيْر محاسبة مِنْهُ لنَفسِهِ. [آيَة 28 - 32](1/283)
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} يَعْنِي: فِي النصحية {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تقاة} .
يَحْيَى: عَنِ الْفُرَاتِ بْنِ سَلْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: ((أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ أَبِي فَلَمْ يَتْرُكُوهُ؛ حَتَّى سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ ثُمَّ تَرَكُوهُ، فَلَمَّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا وَرَاءُكَ؟ قَالَ: شَرٌّ يَا رَسُول الله، وَاللَّهِ مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ، وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ! قَالَ: فَكَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟ قَالَ: أَجِدُهُ مُطْمَئِنًّا بِالإِيمَانِ قَالَ: فَإِنْ عَادُوا فعد)) .(1/284)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عملت من خير محضرا} أَي: موفرا كثيرا {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَينهَا وَبَينه أمدا بَعيدا} فَلَا يَجْتَمِعَانِ أبدا.
قَالَ مُحَمَّد: نصب (يَوْمًا) عَلَى معنى: ويحذركم اللَّه نَفسه فِي ذَلِكَ الْيَوْم.(1/284)
قَوْله: {ويحذركم الله نَفسه} يَعْنِي: عُقُوبَته {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} أَي: رَحِيم؛ أما المُؤمن فَلهُ رَحْمَة الدُّنيا وَالْآخِرَة، وَأما الْكَافِر فرحمته فِي الدُّنيا مَا رزقه اللَّه فِيهَا، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَة إِلَّا النَّار.(1/285)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتبعُوني يحببكم الله} قَالَ الْحسن: جعل محبَّة رَسُوله محبته، وطاعته طَاعَته.(1/285)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
{قل أطِيعُوا الله وَالرَّسُول} أَي: أطِيعُوا اللَّه فِي الْفَرَائِض. [آيَة 33 - 37](1/285)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} أَي: اخْتَار. {وَآل إِبْرَاهِيم} يَعْنِي: إِبْرَاهِيم وَولده، وَولد وَلَده {وَآل عمرَان على الْعَالمين}(1/285)
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
{ذُرِّيَّة بَعْضهَا من بعض} قَالَ قَتَادَة: أَي: فِي النِّيَّة وَالْعَمَل وَالْإِخْلَاص(1/285)
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
{إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْني محررا} تَفْسِير قَتَادَة: قَالَ: كَانَت امْرَأَة عمرَان حررت لله مَا فِي بَطنهَا، وَكَانُوا يحررون الذُّكُور؛ فَكَانَ الْمُحَرر إِذا حرر يكون فِي الْمَسْجِد يقوم عَلَيْهِ ويكنسه لَا يبرح مِنْهُ،(1/285)
وَكَانَت الْمَرْأَة لَا يُسْتَطَاع أَن (يصنع) ذَلِكَ بِهَا؛ لما يُصِيبهَا من الْأَذَى(1/286)
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وضعت} وَهِي تقْرَأ على وَجه آخر: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَان الرَّجِيم} أَي: الملعون أَن يضلها وإياهم {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا} أَي: ضمهَا إِلَيْهِ؛ فِي تَفْسِير من خفف قرَاءَتهَا، وَمن ثقلهَا يَقُولُ: {وَكَفَّلَهَا} أَي: فكفلها اللَّه زَكَرِيَّا، بِنصب زَكَرِيَّا.
قَالَ الْكَلْبِيّ: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} لفتها فِي خرقها، (ل 45) ثمَّ أرْسلت بِهَا إِلَى مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس، فَوَضَعتهَا فِيهِ فتنافسها الْأَحْبَار بَنو هَارُون، فَقَالَ لَهُم زَكَرِيَّا: أَنا أحقكم بِهَا عِنْدِي أُخْتهَا فذروها لِي، فَقَالَت الْأَحْبَار: لَو تركت لأَقْرَب النَّاس إِلَيْهَا لتركت لأمها، وَلَكنَّا نقترع عَلَيْهَا؛ فَهِيَ لمن خرج سَهْمه، فاقترعوا عَلَيْهَا بأقلامهم الَّتِي كَانُوا يَكْتُبُونَ بِهَا الْوَحْي، فقرعهم زَكَرِيَّا، فَضمهَا إِلَيْهِ، واسترضع لَهَا؛ حَتَّى إِذا شبت بنى لَهَا محرابا فِي الْمَسْجِد، وَجعل بَابه فِي وَسطه لَا يرتقى إِلَيْهَا إِلَّا بسلم، وَلا يَأْمَن عَلَيْهَا غَيره.(1/286)
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
{وجد عِنْدهَا رزقا} قَالَ قَتَادَة: كَانَ يجد عِنْدهَا فَاكِهَة الشتَاء فِي الصَّيف،(1/286)
وَفَاكِهَة الصَّيف فِي الشتَاء. [آيَة 38 - 39](1/287)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّة} أَي: من عنْدك {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} يَعْنِي: تقية، قَالَ الْكَلْبِيّ: وَكَانَت امْرَأَة زَكَرِيَّا عاقرا قد دخلت فِي السن، وزَكَرِيا شيخ كَبِير؛ فَاسْتَجَاب الله لَهُ.(1/287)
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
{فنادته الْمَلَائِكَة} ناداه جِبْرِيل {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} يَعْنِي: عِيسَى عَلَيْهِ السَّلام {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} يَعْنِي: يحيى؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة؛ أَحْيَاهُ اللَّه بِالْإِيمَان، وَالسَّيِّد: الحَسَن الْخلق، والحصور: الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاء أَي حصر عَنْهُن.
قَالَ مُحَمَّد: وأصل الْحصْر: الْحَبْس. [آيَة 40 - 43](1/287)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَام} أَي: من أَيْن يكون لي؟ ! (وَقَدْ بَلَغَنِيَ(1/287)
الْكبر وامرأتي عَاقِر} أَي: لَا تَلد، قَالَ الْحسن: أَرَادَ أَن يعلم كَيفَ وهب ذَلِك لَهُ؛ وَهُوَ كَبِير وَامْرَأَته عَاقِر؛ لِيَزْدَادَ علما {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}(1/288)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا رمزا} أَي: إِيمَاء، فَعُوقِبَ فَأخذ بِلِسَانِهِ؛ فَجعل لَا يبين الْكَلَام، وَإِنَّمَا عُوقِبَ؛ لِأَن الْمَلَائِكَة شافهته، فبشر بِيَحْيَى مشافهة، فَسَأَلَ الْآيَة بعد أَن شافهته الْمَلَائِكَة {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كثيرا وَسبح بالْعَشي وَالْإِبْكَار} يَعْنِي: الصَّلَاة.(1/288)
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
{إِن الله اصطفاك} أَي: اختارك لدينِهِ {وطهرك} من الْكفْر(1/288)
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
{يَا مَرْيَم اقتني لِرَبِّك} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي: أطيلي الْقيام فِي الصَّلَاة.
قَالَ مُحَمَّد: وأصل الْقُنُوت: الطَّاعَة. [آيَة 44 - 48](1/288)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْك وَمَا كنت لديهم} {عِنْدهم} (إِذْ يلقون أقلامهم} أَي: يستهمون بهَا.(1/288)
{أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لديهم إِذْ يختصمون} فِيهَا أَيهمْ يضمها إِلَيْهِ(1/289)
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
{اسْمه الْمَسِيح} أَي: مُسِحَ بِالْبركَةِ؛ فِي تَفْسِير الْحسن. {ووجيها فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} قَالَ مُحَمَّدٌ: وَجُهَ الرجل، وأوجهني أَي: صيرني وجيها. {وَمن المقربين} عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة.(1/289)
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
{ويكلم النَّاس فِي المهد} أَي: فِي حِجْرِ أُمِّهِ {وَكَهْلا} كَبِيرا {وَيُعَلِّمُهُمْ} أَي: يعلمهُمْ كَبِيرا؛ فَأَرَادَتْ أَن تعلم كَيفَ ذَلِك؛ فَقَالَت: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}(1/289)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)
{ويعلمه الْكتاب} يَعْنِي: الْخط {وَالْحكمَة} يَعْنِي: السّنة. [آيَة 49 - 51](1/289)
وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
{أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ} أَي: أُصَوِّرُ [من الطين] {كَهَيْئَةِ الطير} كَشَبَهِ الطَّيْرِ.(1/289)
{وأبرئ الأكمه والأبرص} قَالَ قَتَادَة: الأكمه: الَّذِي تلده أمه وَهُوَ مضموم الْعَينَيْنِ. {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تدخرون فِي بُيُوتكُمْ} يَعْنِي: أنبئكم بِمَا أكلْتُم البارحة، وَبِمَا خبأتم فِي بُيُوتكُمْ.(1/290)
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)
{وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُم} تَفْسِير قَتَادَة: كَانَ الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى أَلين مِمَّا جَاءَ بِهِ مُوسَى؛ أحلّت لَهُم فِي الْإِنْجِيل أَشْيَاء كَانَت عَلَيْهِم فِي التَّوْرَاة حَرَامًا [آيَة 52 - 58](1/290)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
{فَلَمَّا أحسن عِيسَى مِنْهُم الْكفْر} أَي: رأى. {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى الله} أَي: مَعَ الله {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحن أنصار الله} والحواريون: هم أصفياء الْأَنْبِيَاء.(1/290)
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
{فاكتبنا مَعَ الشَّاهِدين} أَي: فاجعلنا(1/290)
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
{ومكروا ومكر الله} مكروا بقتل عِيسَى، ومكر الله بهم فأهلكهم، وَرفع عِيسَى إِلَيْهِ.(1/290)
قَالَ مُحَمَّد: الْمَكْر من النَّاس الخديعة، وَهُوَ من الله (ل 46) الْجَزَاء، يجازي من مكر بمكره.(1/291)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي متوفيك ورافعك إِلَيّ} قَالَ السّديّ: معنى {متوفيك} : قابضك من بَين بني إِسْرَائِيل {ورافعك إِلَيّ} فِي السَّمَاء.
قَالَ مُحَمَّد: تَقول: توفيت [الْعدَد] واستوفيته؛ بِمَعْنى: قَبضته. {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فِي النَّصْر، وَفِي الْحجَّة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَالَّذين اتَّبعُوهُ مُحَمَّد وَأهل دينه؛ اتبعُوا دين عيسي وَصَدقُوا بِهِ.(1/291)
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)
{فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} أما فِي الدُّنْيَا: فَهُوَ مَا عذب بِهِ الْكفَّار من الوقائع وَالسيف حِين كذبُوا رسلهم، وَأما فِي الْآخِرَة: [فيعذبهم] بالنَّار(1/291)
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
{وَالله لَا يحب الظَّالِمين} يَعْنِي: الْمُشْركين [آيَة 59 - 60](1/291)
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ من تُرَاب} قَالَ الْكَلْبِيّ: لما قدم نَصَارَى نَجْرَان، قَالُوا: يَا مُحَمَّد؛ أَتَذكر صاحبنا؟ قَالَ: وَمن صَاحبكُم؟ قَالُوا: عيسي ابْن مَرْيَم؛ أتزعم أَنه عبد؟ فَقَالَ لَهُم نَبِي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أجل هُوَ عبد الله. قَالُوا: أرنا فِي خلق الله عبدا مثله فِيمَن رَأَيْت أَو سَمِعت؟ فَأَعْرض عَنْهُم نَبِي الله عَلَيْهِ السَّلَام يَوْمئِذٍ، وَنزل عَلَيْهِ جِبْرِيل، فَقَالَ: (إِنَّ مَثَلَ(1/291)
عِيسَى عِنْد الله ... .} الْآيَة. [آيَة 61 - 64](1/292)
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَك من الْعلم} الْآيَة.
قَالَ الْكَلْبِيّ: ثمَّ عَادوا إِلَى النَّبِي، فَقَالُوا: هَل سَمِعت بِمثل صاحبنا؟ ! قَالَ: نعم. قَالُوا: وَمن هُوَ؟ قَالَ: آدم، خلقه الله من تُرَاب. فَقَالُوا لَهُ: إِنَّه لَيْسَ كَمَا تَقول؟ فَقَالَ لَهُم رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثمَّ نبتهل} أَي: نتلاعن {فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ على الْكَاذِبين} منا ومنكم. قَالُوا: نعم نُلَاعِنك؛ فَرجع رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأخذ بيد عَليّ وَفَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن فَهموا أَن يلاعنوه، ثمَّ نكصوا، وَعَلمُوا أَنهم لَو فعلوا - لوقعت اللَّعْنَة عَلَيْهِم، فَصَالَحُوهُ على الْجِزْيَة.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: {ثمَّ نبتهل} الْمَعْنى: نتداعى باللعن؛ (يُقَال: أبهله الله؛ أَي: لَعنه الله) وَفِيه لُغَة أُخْرَى: بهله.(1/292)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
{فَإِن توَلّوا} يَعْنِي: عَمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَإِنَّ الله عليم بالمفسدين} يَعْنِي: الْمُشْركين(1/293)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
{قل يَا أهل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} أَي: عدل {بَيْننَا وَبَيْنكُم} يَعْنِي: لَا إِلَه إِلَّا الله. {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا من دون الله} .
يَحْيَى: عَنِ الْمُعَلَّى بْنِ هِلالٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: ((جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ. فَقَالَ: يَا عَدِيُّ أَلْقِ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ. فَأَلْقَيْتُهُ فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَةَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله} قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا نَتَّخِذُهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ. قَالَ: بَلَى؛ أَلَيْسُوا يُحِلُّونَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ؛ فَتَسْتَحِلُّونَهُ، وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْكُمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ؛ فَتُحَرِّمُونَهُ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ)) . {فَإِنْ توَلّوا فَقولُوا} يَعْنِي: النَّبِي وَالْمُؤمنِينَ {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسلمُونَ}(1/293)
[آيَة 65 - 68](1/294)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)
{يَا أهل الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلا من بعده أَفلا تعقلون} قَالَ الْحسن: وَذَلِكَ أَنهم نحلوه أَنه كَانَ على دينهم؛ فَقَالَت الْيَهُود ذَلِك، وَقَالَت النَّصَارَى ذَلِك. فكذبهم الله جَمِيعًا، وَأخْبر أَنه كَانَ مُسلما، ثمَّ احْتج عَلَيْهِم أَنه إِنَّمَا أنزلت التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل بعده؛ أَي: إِنَّمَا كَانَت الْيَهُودِيَّة بعد التَّوْرَاة، والنصرانية بعد الْإِنْجِيل.(1/294)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)
{هَا أَنْتُم هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ علم} أَي: بِمَا كَانَ فِي زمانكم وأدركتموه {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ} أَن إِبْرَاهِيم لم يكن يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا، وَلَكِن حَنِيفا مُسلما وَمَا كَانَ من الْمُشْركين {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .(1/294)
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبعُوهُ} قَالَ قَتَادَة: أَي: على مِلَّته {وَهَذَا النَّبِي} (ل 47) يَعْنِي: مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَام {وَالَّذين آمنُوا} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ الَّذين (عرفُوا) نَبِي الله واتبعوه. [آيَة](1/294)
[آيَة 69 - 71](1/295)
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)
{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يَعْنِي: من لم يُؤمن مِنْهُم {لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أنفسهم} بِمَا يودون من ذَلِك {وَمَا يَشْعُرُونَ}(1/295)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
{يَا أهل الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُم تَشْهَدُون} أَنَّهَا آيَات الله (وَأَنه) رَسُوله، يَعْنِي بِهِ خَاصَّة عُلَمَائهمْ؛ لأَنهم يَجدونَ نعت مُحَمَّد فِي كِتَابهمْ، ثمَّ كفرُوا بِهِ وأنكروه.(1/295)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
{يَا أهل الْكتاب لم تلبسُونَ} أَي: لم تخلطون الْحق بِالْبَاطِلِ؟ ! قَالَ الْحسن: يَعْنِي: مَا حرفوا من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل بِالْبَاطِلِ الَّذِي قبلوه عَن الشَّيْطَان. {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُم تعلمُونَ} أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، وَأَن دينه حق. [آيَة 72 - 74](1/295)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمنُوا} بِمُحَمد {وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لمن تبع دينكُمْ} تَفْسِير الْكَلْبِيّ: كتبت يهود خَيْبَر إِلَى يهود الْمَدِينَة أَن آمنُوا بِمُحَمد أول النَّهَار،(1/295)
واكفروا آخِره؛ أَي: اجحدوا آخِره، ولَبِّسوا على ضعفة أَصْحَابه، حَتَّى تشككوهم فِي دينهم، فَإِنَّهُم لَا علم لَهُم وَلَا دراسة يدرسونها {لَعَلَّهُم يرجعُونَ} عَن مُحَمَّد، وَعَما جَاءَ بِهِ. وَقَالَ مُجَاهِد: صلت الْيَهُود مَعَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أول النَّهَار صَلَاة الصُّبْح، وكفرت آخِره؛ مكرا مِنْهُم، ليرى النَّاس أَنه قد بَدَت لَهُم الضَّلَالَة بعد إِذْ كَانُوا اتَّبعُوهُ. {قُلْ إِن الْهدى هدى الله} يَعْنِي: أَن الدّين دين الْإِسْلَام {أَن يُؤْتى أحد مثل أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} فِيهَا تَقْدِيم: إِنَّمَا قَالَت يهود خَيْبَر ليهود الْمَدِينَة: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لمن تبع دينكُمْ} أَي: لَا تصدقوا إِلَّا من تبع دينكُمْ؛ فَإِنَّهُ لن يُؤْتى أحد مثل مَا أُوتِيتُمْ، وَلنْ (يحاجكم) بِمثل دينكُمْ أحد عِنْد ربكُم،(1/296)
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)
فَقَالَ الله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هدى الله} وَالْفضل بيد الله، وَفضل الله: الْإِسْلَام {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء وَالله وَاسع} لخلقه {عليم} بأمرهم.(1/296)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
{يخْتَص برحمته} أَي: بِدِينِهِ؛ وَهُوَ الْإِسْلَام {مَنْ يَشَاء} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ. [آيَة 75 - 76](1/296)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تأمنه بقنطار يؤده إِلَيْك} يَعْنِي: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ.(1/296)
قَالَ قَتَادَة: كُنَّا نُحدث أَن القنطار مائَة رَطْل من ذهب، أَو ثَمَانُون ألفا من الْوَرق. {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دمت عَلَيْهِ قَائِما} يَعْنِي: إِن سَأَلته حِين تعطيه إِيَّاه رده إِلَيْك، وَإِن أنظرته بِهِ أَيَّامًا ذهب بِهِ. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيين} يعنون: مُشْركي الْعَرَب {سَبِيل} إِثْم. تَفْسِير الْحسن: كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّمَا كَانَت لَهُم هَذِه الْحُقُوق وَتجب علينا وهم على دينهم، فَلَمَّا تحولوا عَن دينهم لم يثبت لَهُم علينا حق. قَالَ الله - عز وَجل -: {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِب وهم يعلمُونَ} أَنهم كاذبون(1/297)
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
{بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى} قَالَ الْحسن: يَعْنِي: أدّى الْأَمَانَة وآمن {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} . [آيَة 77 - 79](1/297)
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانهمْ ثمنا قَلِيلا} هم {أهل الْكتاب} كتبُوا كتبا بِأَيْدِيهِم، وَقَالُوا: هَذَا من عِنْد الله؛ فاشتروا بِهِ ثمنا قَلِيلا؛ أَي عرضا من عرض الدُّنْيَا، وحلفوا أَنه من عِنْد الله. {أُولَئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَة} أَي: لَا نصيب لَهُم [فِي] الْجنَّة. {وَلَا يكلمهم الله} بِمَا يحبونَ [وَذَلِكَ] يَوْم الْقِيَامَة، وَقد يكلمهم ويسألهم عَن أَعْمَالهم. قَالَ: {وَلَا ينظر إِلَيْهِم} نظرة رَحْمَة [يَوْم الْقِيَامَة] {وَلا يزكيهم} أَي: لَا يطهرهم من ذنوبهم {وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} موجع(1/298)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكتاب} تَفْسِير قَتَادَة: حرفوا كتاب الله، وابتدعوا فِيهِ، وَزَعَمُوا أَنه من عِنْد الله.(1/298)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ الله الْكتاب وَالْحكم والنبوة} كَمَا آتى عيسي {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دون الله} أَي: اعبدوني؛ يَقُول: لَا يفعل ذَلِك من آتَاهُ الله الْكتاب وَالْحكم والنبوة.
قَالَ الْحسن: احْتج (ل 48) عَلَيْهِم بِهَذَا؛ لقَولهم [إِن عيسي يَنْبَغِي لَهُ أَن يعبد] وَأَنَّهُمْ قبلوا ذَلِك عَن الله، وَهُوَ فِي كِتَابهمْ الَّذِي نزل من عِنْد الله.
قَالَ {وَلَكِنْ كُونُوا ربانيين} أَي: وَلَكِن يَقُول لَهُم: كونُوا ربانيين؛ أَي: عُلَمَاء فُقَهَاء {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تدرسون} تقرءون(1/298)
[آيَة 80 - 82](1/299)
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ والنبيين أَرْبَابًا} أَي: من دون الله {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} على الِاسْتِفْهَام أَي: لَا يفعل.(1/299)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لما آتيناكم مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذَلِكُم إصري} [أَي: عهد ثقيل] {قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدين} .
يَقُوله الله: أَنا شَاهد مَعَهم وَعَلَيْهِم، بِمَا أعْطوا من الْمِيثَاق وَالْإِقْرَار، قَالَ قَتَادَة: هَذَا مِيثَاق أَخذه الله على النَّبِيين أَن يصدق بَعضهم بَعْضًا، وَأَن يبلغُوا كتاب الله ورسالاته إِلَى عباده، وَأخذ مِيثَاق أهل الْكتاب فِي كِتَابهمْ فِيمَا بلغتهم رسلهم؛ أَن يُؤمنُوا بِمُحَمد ويصدقوه وينصروه(1/299)
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
{فَمن تولى بعد ذَلِك} {أَي:} بعد الْعَهْد والميثاق الَّذِي أَخذ الله عَلَيْهِم {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آيَة 83 - 85](1/299)
[آيَة 83 - 85](1/300)
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
{أفغير دين الله يَبْغُونَ} (يطْلبُونَ) {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها} تَفْسِير الْحسن: وَله أسلم من فِي السَّمَوَات، ثمَّ انْقَطع الْكَلَام، ثمَّ قَالَ: {وَالأَرْضِ} أَيْ: وَمَنْ فِي الأَرْضِ طَوْعًا وَكرها؛ يَعْنِي: طَائِعا وكارها. قَالَ الْحَسَنُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَاللَّهِ لَا يَجْعَلُ اللَّهُ مَنْ دَخَلَ فِي الإِسْلامِ طَوْعًا؛ كم دَخَلَهُ كَرْهًا)) .
قَالَ يَحْيَى: لَا أَدْرِي أَرَادَ الْمُنَافِقَ، أَوِ الَّذِي قُوتِلَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَّا الْمُؤمن فَأسلم طَائِعا؛ فنفعه ذَلِك وَقُبِلَ مِنْهُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَأَسْلَمَ كَارِهًا؛ فَلَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ.
قَالَ يَحْيَى: يَعْنِي بِالْكَافِرِ: الْمُنَافِقَ الَّذِي لَمْ يُسْلِمْ قلبه.
قَالَ مُحَمَّد: {طَوْعًا} مصدر، وضع مَوضِع الْحَال.(1/300)
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط} الأسباط: يُوسُف وَإِخْوَته، إِلَى قَوْله {مُسلمُونَ} قَالَ الْحسن: هَذَا مَا أَخذ الله على رَسُوله، وَلم يُؤْخَذ عَلَيْهِ مَا أَخذ على الْأَنْبِيَاء فِي قَوْله: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} إِذْ لَا نَبِي بعده(1/300)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين} خسر نَفسه؛ فَصَارَ فِي النَّار، وخسر أَهله من الْحور الْعين. [آيَة 86 - 89](1/301)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حق} قَالَ مُجَاهِد: نزلت فِي رجل من بني عَمْرو بن عَوْف كفر بعد إيمَانه. {وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} يَعْنِي: الْكتاب فِيهِ الْبَينَات والحجج. {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} يَعْنِي: من لَا يُرِيد أَن يهديه مِنْهُم(1/301)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)
{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} يَعْنِي بِالنَّاسِ: الْمُؤمنِينَ خَاصَّة(1/301)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)
{خَالِدين فِيهَا} أَي: فِي تِلْكَ اللَّعْنَة، وثوابها النَّار. {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هم ينظرُونَ} يؤخرون بِالْعَذَابِ.(1/301)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
{إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِك وَأَصْلحُوا} يَعْنِي: من أَرَادَ الله أَن يهديه {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آيَة 90 - 91](1/301)
[آيَة 92](1/302)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
قَوْله عز ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كفرا} قَالَ الْحسن: هم أهل الْكتاب كَانُوا مُؤمنين، ثمَّ كفرُوا ثمَّ ازدادوا كفرا؛ أَي: مَاتُوا على كفرهم.
يَقُول: لن يقبل الله إِيمَانهم الَّذِي كَانَ قبل ذَلِك، [إِذا مَاتُوا] على كفرهم {وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}(1/302)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} قَالَ مُحَمَّد: يُقَال: هَذَا مِلْءُ هَذَا؛ أَي: مِقْدَار مَا يمْلَأ، والْمَلْءُ الْمصدر فبالفتح، يُقَال: مَلَأت الشَّيْء ملئا؛ هَذَا هُوَ الِاخْتِيَار (عِنْد اللغويين)(1/302)
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تحبون} قَالَ الْحسن: يَعْنِي الزَّكَاة (ل 49) الْوَاجِبَة {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِن الله بِهِ عليم} يحفظه لكم حَتَّى يجازيكم بِهِ. [آيَة 93 - 96](1/302)
[آيَة 97 - 98](1/303)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فاتلوها} [أَي: فاقرءوها] {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أَن فِيهَا مَا تذكرُونَ [أَنه] حرمه عَلَيْكُم. قَالَ الْحسن: وَكَانَ الَّذِي حرم إِسْرَائِيل على نَفسه: لُحُوم الْإِبِل، وَقَالَ بَعضهم: أَلْبَانهَا.(1/303)
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
{قل صدق الله} أَن إِبْرَاهِيم كَانَ مُسلما {فَاتَّبِعُوا مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا} والحنيف: المخلص.(1/303)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} قَالَ الْحسن: يَعْنِي: وضع قبْلَة لَهُم. {للَّذي ببكة مُبَارَكًا} تَفْسِير حبيب بن أبي ثَابت: قَالَ: الْبَيْت وَمَا حوله بكة، وأسفل من ذَلِك مَكَّة، وَإِنَّمَا سمي الْموضع بكة؛ لِأَن النَّاس يتزاحمون فِيهِ.
قَالَ مُحَمَّد: البك أَصله فِي اللُّغَة: الدّفع، وَنصب {مُبَارَكًا} على الْحَال(1/303)
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} قَالَ الْحسن: مقَام إِبْرَاهِيم من الْآيَات الْبَينَات {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمنا} قَالَ الحَسَن: كَانَ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّة؛ لَو أَن رجلا جر جريرة، ثمَّ لَجأ إِلَى الْحرم - لم يُطْلب وَلم يُتَنَاول، وَأما(1/303)
فِي الْإِسْلَام؛ فَإِن الْحرم لَا يمْنَع من حد، من أصَاب حدا أقيم عَلَيْهِ. {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاس حج الْبَيْت} قَالَ مُحَمَّد: الْحَج فِي اللُّغَة مَعْنَاهُ: ((الْقَصْد؛ يُقَال: حججْت الشَّيْء أحجه حجا؛ إِذا قصدته مرّة بعد مرّة، وَمن هَذَا قَول الشَّاعِر:
(وَأشْهد من عَوْف حلولا كَثِيرَة ... يحجون سبّ الزبْرِقَان المزعفرا)
أَي: يكثرون الِاخْتِلَاف إِلَيْهِ؛ لسؤدده، وَكَانَ الرئيس يعتم بعمامة صفراء تكون علما لرئاسته.
قَوْله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا}
يَحْيَى: (عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ) ((أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ [إِنَّ اللَّهَ قَالَ] : {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} فَمَا السَّبِيل؟ قَالَ: الزَّاد والراحة)) .(1/304)
{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَن الْعَالمين} قَالَ الْحسن: الْكفْر: أَن يَقُول:(1/305)
لَيْسَ بفريضة؛ فيكفر بِهِ. [آيَة 99 - 100](1/306)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
{قل يَا أهل الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله} يَعْنِي: الْإِسْلَام {مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عوجا} أَي: تطلبون بهَا العوج. {وَأَنْتُمْ شُهَدَاء} على ذَلِك فِيمَا تقرون من كتاب الله أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، وَأَن الْإِسْلَام دين الله.
قَالَ مُحَمَّد: يُقَال فِي الْأَمر: (عِوَج) بِالْكَسْرِ؛ إِذا كَانَ فِي الدّين، وَيُقَال(1/306)
لكل شَيْء مائل: فِيهِ (عَوَج) بِالْفَتْح؛ كالعصا والحائط وَشبه ذَلِك.(1/307)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا من الَّذين أُوتُوا الْكتاب} يَعْنِي: من لم يُؤمن مِنْهُم. [آيَة 101 - 103](1/307)
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
{وَمن يعتصم بِاللَّه} أَي: يسْتَمْسك بدين الله(1/307)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاته} قَالَ ابْن مَسْعُود: حق تُقَاته أَن يطاع فَلَا يعْصى، ويشكر فَلَا يكفر، وَيذكر فَلَا ينسى. قَالَ قَتَادَة: نزلت هَذِه الْآيَة فَثقلَتْ عَلَيْهِم، ثمَّ أنزل الله الْيُسْر وَالتَّخْفِيف، فَقَالَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم واسمعوا وَأَطيعُوا}(1/307)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
{واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا} قَالَ الْحسن وَغَيره: حَبل الله: الْقُرْآن. قَالَ مُحَمَّد: وأصل الْحَبل فِي اللُّغَة: الْعَهْد.
قَالَ (الْأَعْشَى) :
(وَإِذا أجوزها حبال قَبيلَة ... أخذت من الْأُخْرَى إِلَيْهَا حبالها}(1/307)
يَعْنِي: عهودها.
قَوْله: {وَلا تَفَرَّقُوا واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم} أَي: اشكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبكُمْ} بِالْإِيمَان {فأصبحتم} يَعْنِي: فصرتم {بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فأنقذكم مِنْهَا} بِالْإِسْلَامِ.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: {شَفَا حُفْرَة} يَعْنِي: حرف حُفْرَة؛ أَي: قد كُنْتُم أشرفتم على النَّار. [آيَة 104 - 109](1/308)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ} يَعْنِي: [بتوحيد الله] {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكر} يَعْنِي: الشّرك بِاللَّه.
قَالَ [مُحَمَّد] : قَوْله: {ولتكن مِنْكُم أمة} قيل: مَعْنَاهُ: ولتكونوا كلكُمْ أمة.(1/308)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا} هم أهل الْكتاب، يَقُول: لَا تَفعلُوا كفعلهم. (ل 50) {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} إِلَى قَوْله: {بِمَا كُنْتُم تكفرون}
يَحْيَى: عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ [عَنْ أَبِي غَالِبٍ] قَالَ: ((كُنْتُ مَعَ أَبِي أُمَامَةَ وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى دَرَجِ الْمَسْجِدِ بِدِمَشْقَ؛ فَإِذَا بِرُءُوسٍ مِنْ رُءُوسِ الْخَوَارِجِ مَنْصُوبَةً، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الرُّءُوسُ؟ {قَالُوا: رُءُوسُ خَوَارِجَ جِيءَ بِهَا مِنَ الْعِرَاقِ، فَقَالَ: كِلابُ أَهْلِ النَّارِ، كِلابُ أَهْلِ النَّارِ، كِلابُ أَهْلِ النَّارِ} شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ، شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ، شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ! خَيْرُ قَتِيلٍ مَنْ قَتَلُوهُ، خَيْرُ قَتِيلٍ مَنْ قَتَلُوهُ، خَيْرُ قَتِيلٍ مَنْ قَتَلُوهُ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ أَوْ قَتَلُوهُ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ أَوْ قَتَلُوهُ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ أَوْ قَتَلُوهُ. ثُمَّ بَكَى، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: رَحْمَةً لَهُمْ؛ إِنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ، فَخَرَجُوا مِنَ الإِسْلامِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكتاب مِنْهُ آيَات محكمات} حَتَّى انْتَهَى إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} إِلَى قَوْلِهِ: {بِمَا كُنْتُم تكفرون} فَقُلْتُ: هُمْ هَؤُلاءِ يَا أَبَا أُمَامَةَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: شَيْءٌ تَقُولُهُ(1/309)
بِرَأْيِكَ، أَمْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُهُ؟ قَالَ: إِنِّي إِذَنْ لَجَرِيءٌ، إِنِّي إِذَنْ لَجَرِيءٌ، إِنِّي إِذَنْ لَجَرِيءٌ! لَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير مرّة وَلَا مرَّتَيْنِ. حَتَّى بلغ سبعا، وَوضع أصبعيه فِي أُذُنَيْهِ ثمَّ قَالَ: وَإِلَّا فصمتا. ثمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَّ يَقُولُ: تَفَرَّقَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى سَبْعِينَ فِرْقَةً؛ وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَسَائِرُهَا فِي النَّارِ، وَلَتَزِيدَنَّ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الأُمَّةُ وَاحِدَةً؛ فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَسَائِرُهَا فِي النَّارِ: فَقُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: عَلَيْكَ بِالسَّوَادِ الأَعْظَمِ. قَالَ: فَقُلْتُ: فِي السَّوَادِ الأَعْظَمِ مَا قَدْ تَرَى. قَالَ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ خير من الْفرْقَة وَالْمَعْصِيَة)) .(1/310)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)
{تِلْكَ آيَات الله} هَذِه آيَات الله(1/311)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
{وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور} يَعْنِي: عواقبها فِي الْآخِرَة. [آيَة 110 - 112](1/311)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تأمرون بِالْمَعْرُوفِ} يَعْنِي: بتوحيد الله {وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكر} يَعْنِي: عَن الشّرك بِاللَّه.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: {كُنْتُم} قيل: مَعْنَاهُ: أَنْتُم.
يَحْيَى: عَنْ أَبِي الأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنْتُمْ تُوفُونَ(1/311)
سَبْعِينَ أُمَّةً، أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ)) . {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكتاب لَكَانَ خيرا لَهُم} يَعْنِي: عامتهم، ثمَّ قَالَ: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ} يَعْنِي: من آمن مِنْهُم {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} يَعْنِي: فسق الشّرك.(1/312)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
{لن يضروكم إِلَّا أَذَى} بالألسنة. {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ} .(1/312)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
{ضربت عَلَيْهِم الذلة أَيْنَمَا ثقفوا} أَي: حَيْثُمَا وجدوا {إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} قَالَ السّديّ: يَعْنِي بِأَمَان وعهد من الله، وَمن النَّاس {وَبَاءُوا بغضب من الله} يَعْنِي: استوجبوا غَضَبه {ضربت عَلَيْهِم المسكنة} يَعْنِي: مَا يُؤْخَذ مِنْهُم من الْجِزْيَة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حق} يَعْنِي: أوائلهم، وَلَيْسَ يَعْنِي الَّذين أدركوا النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام.(1/312)
[آيَة 113 - 116](1/313)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
{لَيْسُوا سَوَاء} يَقُول: لَيْسَ كل أهل الْكتاب كَافِرًا. {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَة} بِأَمْر الله؛ يَعْنِي: من آمن مِنْهُم {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْل} يَعْنِي: سَاعَات اللَّيْل {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} يصلونَ.
قَالَ مُحَمَّد: وَاحِد (الآناء) : إِنًى؛ مثل: مِعًى وأمعاء، وَقيل: وَاحِدهَا: إِنِّي.(1/313)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)
{ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ} يَعْنِي: بِالْإِيمَان [بِمُحَمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} عَن التَّكْذِيب بِمُحَمد {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات} يَعْنِي: الْأَعْمَال الصَّالِحَة {وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحين} وهم أهل الْجنَّة.(1/313)
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تكفروه} يَقُول: تجازون بِهِ.(1/313)
[آيَة 117 - 118](1/314)
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صر} يَعْنِي: الْبرد الشَّديد {أَصَابَتْ حَرْثَ قوم ظلمُوا أنفسهم} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي [نفقات الْكفَّار] لَا يكون لَهُم فِي الْآخِرَة مِنْهَا ثَوَاب، وَتذهب [كَمَا يذهب] هَذَا الزَّرْع الَّذِي أَصَابَته الرّيح [فأهلكته](1/314)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً من دونكم} يَعْنِي: (ل 51) من غير الْمُسلمين {لَا يَأْلُونَكُمْ خبالا} أَي: شرا {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} أَي: مَا ضَاقَ بكم {قَدْ بَدَت الْبغضَاء من أَفْوَاههم} أَي: ظَهرت {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أكبر} فِي البغض والعداوة وَلم يظهروا الْعَدَاوَة، وأسروها فِيمَا بَينهم؛ فَأخْبر الله بذلك عَنْهُم رَسُوله. [آيَة 119 - 120](1/314)
هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
{هَا أَنْتُم أولاء تحبونهم} يَقُول للْمُؤْمِنين: أَنْتُم تحبون الْمُنَافِقين؛ لأَنهم أظهرُوا الْإِيمَان، فأحبوهم على مَا أظهرُوا، وَلم يعلمُوا مَا فِي قُلُوبهم.(1/314)
{وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} أَي: وهم لَا يُؤمنُونَ؛ [فِيهَا] إِضْمَار {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا} مَخَافَة على دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالهمْ {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغيظ} مِمَّا يَجدونَ فِي قُلُوبهم.
قَالَ الله لنَبيه: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} الْآيَة.(1/315)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
{إِن تمسسكم حَسَنَة تسؤهم} يَعْنِي بِالْحَسَنَة: النَّصْر {وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَة} نكبة من الْمُشْركين {يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كيدهم شَيْئا} أَي: أَنهم لَا شَوْكَة لَهُم إِلَّا أَذَى بالألسنة. {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يعْملُونَ مُحِيط} أَي: يجازيهم بِمَا يعْملُونَ. [آيَة 121 - 125](1/315)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
{وَإِذ غَدَوْت من أهلك} يَعْنِي: يَوْم أحد {تبوئ} أَي: تنزل {الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ}(1/315)
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} قَالَ الْكَلْبِيّ: يَعْنِي: بني حَارِثَة، وَبني سَلمَة، حَيَّيْنِ من الْأَنْصَار، وَكَانُوا هموا أَلا يخرجُوا مَعَ رَسُول الله، فَعَصَمَهُمْ الله وَهُوَ قَوْله: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} .(1/315)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّة} يذكرهم نعْمَته عَلَيْهِم. قَالَ قَتَادَة: نَصرهم الله يَوْم بدر بِأَلف من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ(1/316)
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)
{إِذْ تَقول للْمُؤْمِنين} رَجَعَ إِلَى قصَّة أحد {أَلَنْ يكفيكم أَن يمدكم} أَي: يقويكم ربكُم {بِثَلاثَةِ آلافٍ من الْمَلَائِكَة منزلين} ينزلهم الله عَلَيْكُم من السَّمَاء(1/316)
بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
{بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ من فورهم هَذَا} من (وجههم) هَذَا {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: عَلَيْهِم سِيما الْقِتَال.
قَالَ مُحَمَّد: السُّومة: الْعَلامَة الَّتِي يُعْلم بهَا الْفَارِس نَفسه.
قَالَ الشّعبِيّ: وعده خَمْسَة آلَاف إِن جَاءُوا من ذَلِك الْفَوْر، فَلم يجيئوا من ذَلِك الْفَوْر، وَلم يمده بِخَمْسَة آلَاف، وَإِنَّمَا أمده بِأَلف مُردفِينَ، وبثلاثة آلَاف منزلين؛ فهم أَرْبَعَة آلَاف، وهم الْيَوْم فِي جنود الْمُسلمين. [آيَة 126 - 132](1/316)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)
{وَمَا جعله الله} يَعْنِي: المدد {إِلا بُشْرَى لَكُمْ} تستبشرون بهَا وتفرحون(1/316)
{ولتطمئن قُلُوبكُمْ بِهِ} أَي: لتسكن بِهِ [قُلُوبكُمْ] {وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أويكبتهم} أَي: يخزيهم(1/317)
لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
{فينقلبوا خائبين} قَالَ مُحَمَّد: قَوْله {طرفا} يَعْنِي: قِطْعَة، وَقَوله: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} قيل: الأَصْل فِيهِ: يكبدهم؛ أَي: يصيبهم فِي أكبادهم بالحزن والغيظ، التَّاء مبدلة فِيهِ من دَال؛ لقرب مخرجيهما.(1/317)
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} الْآيَة.
يَحْيَى: عَنْ أَبِي الأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَام أُدْمِيَ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ أَدْمَوْا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ؟ ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَو يعذبهم فَإِنَّهُم ظَالِمُونَ} ) .
قَالَ يحيى: فِيهَا تَقْدِيم وَتَأْخِير؛ قَالَ: ليقطع طرفا من الَّذين كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ؛ فَإِنَّهُم ظَالِمُونَ، لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء.(1/317)
وَمعنى: {أَو يَتُوب عَلَيْهِم} يرجعُونَ إِلَى الْإِيمَان {أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} بإقامتهم على الشّرك.(1/318)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أضعافا مضاعفة} كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة إِذا حل دين أحدهم على صَاحبه؛ فتقاضاه، قَالَ: أخر عني وَأَزِيدك. [آيَة 133 - 136](1/318)
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وجنة عرضهَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض} قَالَ كريب مولى ابْن عَبَّاس: سبع سموات وَسبع أَرضين يلفقن جَمِيعًا كَمَا تلفق الثِّيَاب بَعْضهَا إِلَى بعض، وَلَا يصف أحد طولهَا.(1/318)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} أَي: فِي الْيُسْر والعسر (ل 52) {والكاظمين الغيظ} قَالَ مُحَمَّد: أصل الكظم: الْحَبْس.
يَحْيَى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا جَرَعَ أَحَدٌ جَرْعَةً خَيْرٌ لَهُ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ)) .(1/318)
قَوْله: {وَالْعَافِينَ عَن النَّاس}
يَحْيَى: عَنْ أَبِي الأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَفْضَلُ أَخْلَاق (الْمُسلمين) الْعَفو)) .(1/319)
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظلمُوا أنفسهم ذكرُوا الله} فخافوه وتابوا إِلَيْهِ {وَلم يصروا} أَي: لم يقيموا {عَلَى مَا فعلوا} من الْمعْصِيَة.
يَحْيَى: عَنْ أَبَانَ الْعَطَّارِ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: لَا قَلِيلَ مَعَ إِصْرَارٍ، وَلا كَثِيرَ مَعَ اسْتِغْفَار. [آيَة 137 - 140](1/319)
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} يَعْنِي: مَا عذب الله بِهِ الْأُمَم السالفة حِين(1/319)
كذبُوا رسلهم {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أَي: كَانَ عاقبتهم أَن دمر الله عَلَيْهِم، ثمَّ صيرهم إِلَى النَّار؛ يُحَذرهُمْ بذلك(1/320)
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
{هَذَا بَيَان للنَّاس} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: هَذَا الْقُرْآن بَيَان للنَّاس عَامَّة {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتقين} خصوا بِهِ(1/320)
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
{وَلَا تهنوا وَلَا تحزنوا} أَي: لَا تضعفوا عَن قتال الْمُشْركين {وَأَنْتُم الأعلون} يَعْنِي: الظاهرين المنصورين {إِنْ كُنْتُمْ} يَعْنِي: إِذا كُنْتُم {مُؤْمِنِينَ}(1/320)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْم قرح مثله} قَالَ قَتَادَة: الْقرح: الْجراح، وَذَلِكَ يَوْم أحد؛ فَشَا فِي أَصْحَاب رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ الْقَتْل والجراحة؛ فَأخْبرهُم الله أَن الْقَوْم قد أَصَابَهُم من ذَلِك مثل مَا أَصَابَكُم، وَأَن الَّذِي أَصَابَكُم عُقُوبَة؛ وَتَفْسِير تِلْكَ الْعقُوبَة بعد هَذَا الْموضع.
قَالَ مُحَمَّد: يُقَال: قَرْح وقُرْح، وَقد قرئَ بهما، والقرح بِالضَّمِّ: ألم الْجراح، والقرح بِالْفَتْح: الْجراح. {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُم شُهَدَاء} قَالَ قَتَادَة: لَوْلَا أَن الله جعلهَا دُوَلا مَا أوذي الْمُؤْمِنُونَ، وَلَكِن قد يدال الْكَافِر من الْمُؤمن، ويدال الْمُؤمن من الْكَافِر؛ ليعلم الله من يطيعه(1/320)
مِمَّن يعصيه؛ وَهَذَا علم الفعال. [آيَة 141 - 144](1/321)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
{وليمحص الله الَّذين آمنُوا} أَي: يختبرهم؛ فِي تَفْسِير مُجَاهِد {ويمحق الْكَافرين} أَي: يمحق أَعْمَالهم يَوْم الْقِيَامَة.
قَالَ مُحَمَّد: وَقيل: معنى {وَلِيُمَحِّصَ الله} أَي: يمحص ذنوبهم؛ والتمحيص أَصله: التنقية، والتخليص.(1/321)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلما يعلم الله} أَي: وَلم يعلم الله {الَّذِينَ جاهدوا مِنْكُم وَيعلم الصابرين} .
قَالَ مُحَمَّد: الْقِرَاءَة {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} بِالْفَتْح على الصّرْف من الْجَزْم(1/321)
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُم تنْظرُون} إِلَى(1/321)
السيوف بأيدي الرِّجَال.
قَالَ قَتَادَة: أنَاس من الْمُسلمين لم يشْهدُوا يَوْم بدر، فَكَانُوا يتمنون أَن يرَوا قتالا؛ فيقاتلوا، فسيق إِلَيْهِم الْقِتَال يَوْم أحد. قَالَ غير قَتَادَة: فَلم يثبت مِنْهُم إِلَّا من شَاءَ الله.(1/322)
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خلت من قبله الرُّسُل} الْآيَة تَفْسِير قَتَادَة قَالَ: ذَلِك يَوْم أحد حِين أَصَابَهُم الْقرح وَالْقَتْل؛ فَقَالَ أنَاس مِنْهُم: لَو كَانَ نَبيا مَا قتل، وَقَالَ نَاس من علية أَصْحَاب النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: قَاتلُوا على مَا قَاتل عَلَيْهِ نَبِيكُم؛ حَتَّى يفتح الله لكم، أَو تلحقوا بِهِ؛ فَقَالَ الله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أعقابكم} يَقُول ارتددتم [على أعقابكم] كفَّارًا بعد إيمَانكُمْ {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} إِنَّمَا يضر نَفسه {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ يجزيهم بِالْجنَّةِ.
قَالَ مُحَمَّد: يُقَال لمن كَانَ على شَيْء، ثمَّ رَجَعَ عَنهُ: انْقَلب على عَقِبَيْهِ. [آيَة 145](1/322)
[آيَة 146 - 148](1/323)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا} لَا يَسْتَقْدِم، وَلَا يسْتَأْخر عَنهُ.
قَالَ مُحَمَّد: وَنصب {كتابا} على معنى: كتب ذَلِك كتابا. {وَمن يرد ثَوَاب الدُّنْيَا ثؤته مِنْهَا} مثل قَوْله: (ل 53) {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيد وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} يَعْنِي: الْجنَّة.
قَالَ مُحَمَّد: وَقَوله: {وَمن يرد ثَوَاب الدُّنْيَا} قيل: مَعْنَاهُ: من كَانَ إِنَّمَا يقْصد بِعَمَلِهِ الدُّنْيَا(1/323)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
{وكأين من نَبِي} أَي: وَكم من نَبِي {قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} أَي: جموع كَثِيرَة، وتقرأ: {قَاتل مَعَه} {فَمَا وهنوا} أَي: ضعفوا وعجزوا. {وَمَا اسْتَكَانُوا} أَي: وَمَا ارْتَدُّوا عَن بصيرتهم.
قَالَ مُحَمَّد: الرّبَّة: الْجَمَاعَة، وَيُقَال للْجمع: رِبِّي؛ كَأَنَّهُ نسب إِلَى الربة؛ فَإِذا جمع قيل: ربيون، وَمعنى اسْتَكَانُوا: خشعوا وذلوا.(1/323)
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)
{وَمَا كَانَ قَوْلهم} حِين لقوا عدوهم {إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإسرافنا فِي أمرنَا} يُرِيدُونَ: خطاياهم.(1/324)
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
{فآتاهم الله} أَعْطَاهُم {ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَة} أما ثَوَاب الدُّنْيَا: فالنصر على عدوهم، وَأما ثَوَاب الْآخِرَة: فالجنة.
قَالَ مُحَمَّد: تقْرَأ {وَمَا كَانَ قَوْلهم} بِالرَّفْع وَالنّصب؛ فَمن قَرَأَ بِالرَّفْع: جعل خبر ((كَانَ)) مَا بعد ((إِلَّا)) وَالْأَكْثَر فِي الْكَلَام أَن يكون الِاسْم هُوَ مَا بعد ((إِلَّا)) فَيكون الْمَعْنى: وَمَا كَانَ قَوْلهم إِلَّا استغفارهم. [آيَة 149 - 151](1/324)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كفرُوا} يَعْنِي: الْيَهُود؛ فِي تَفْسِير الْحسن {يردوكم على أعقابكم} أَي: إِلَى الشّرك {فتنقلبوا} إِلَى الْآخِرَة {خَاسِرِينَ}(1/324)
بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
{بل الله مولاكم} وَلِيكُم ينصركم ويعصمكم من أَن ترجعوا كَافِرين(1/324)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرعب} قَالَ الْحسن: يَعْنِي: مُشْركي الْعَرَب {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ ينزل بِهِ سُلْطَانا} أَي: حجَّة بِمَا هم عَلَيْهِ من(1/324)
الشّرك {ومأواهم النَّار} أَي: مصيرهم إِلَى النَّار {وَبِئْسَ مثوى الظَّالِمين} منزل الظَّالِمين الْمُشْركين {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} تَفْسِير الْحسن وَغَيره: [إِذا] تقتلونهم.
قَالَ مُحَمَّد: يُقَال: سنة حسوس؛ إِذا أَتَت على كل شَيْء، وجراد محسوس؛ إِذا قَتله الْبرد. {حَتَّى إِذا فشلتم} الْآيَة، قَالَ الْحسن: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((رَأَيْتنِي البارحة؛ كَأَن عليَّ درعا حَصِينَة، (فَأَوَّلتهَا} الْمَدِينَة، فأكمِنوا للْمُشْرِكين فِي أزقتها حَتَّى يدخلُوا عَلَيْكُم فِي أزقتها؛ فتقتلوهم. فَأَبت الْأَنْصَار من ذَلِك فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، منعنَا مدينتنا من تبع والجنود فنخلي بَين هَؤُلَاءِ الْمُشْركين وَبَينهَا يدْخلُونَهَا؟ {فَلَيْسَ رَسُول الله سلاحه، فَلَمَّا خَرجُوا من عِنْده أقبل بَعضهم على بعض، فَقَالُوا: مَا صنعنَا؛ أَشَارَ علينا رَسُول الله، فَرددْنَا رَأْيه، فَأتوهُ فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، نكمن لَهُم فِي أزقتها؛ حَتَّى يدخلُوا فنقتلهم فِيهَا؛ فَقَالَ: إِنَّه لَيْسَ لبني لبس لأمته - أَي: سلاحه - أَن يَضَعهَا؛ حَتَّى (يُقَاتل) قَالَ: فَبَاتَ رَسُول الله دونهم بليلة؛ فَرَأى رُؤْيا، فَأصْبح فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْت البارحة كَأَن بقرًا ينْحَر، فَقلت: بقر} وَالله خير، وَإنَّهُ كائنة فِيكُم مُصِيبَة، وَإِنَّكُمْ ستلقونهم وتهزمونهم غَدا؛ فَإِذا هزمتموهم فَلَا تتبعوا المدبرين))(1/325)
فَفَعَلُوا فلقوهم فهزموهم؛ كَمَا قَالَ رَسُول الله فأتبعوا المدبرين على وَجْهَيْن: أما بَعضهم: فَقَالُوا: مشركون وَقد أمكننا الله من أدبارهم فنقتلهم، فَقَتَلُوهُمْ على وَجه الْحِسْبَة، وَأما بَعضهم: فَقَتَلُوهُمْ لطلب الْغَنِيمَة، فَرجع الْمُشْركُونَ عَلَيْهِم فهزموهم، حَتَّى صعدوا أحدا؛ وَهُوَ قَوْله: [آيَة 152](1/326)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
{وَلَقَد صدقكُم الله وعده} لقَوْل رَسُول الله: إِنَّكُم ستلقونهم فتهزمونهم، فَلَا تتبعوا المدبرين. وَقَوله: {حَتَّى إِذا فشلتم} أَي: ضعفتم فِي أَمر رَسُول الله {وتنازعتم} اختلفتم فصرتم فرْقَتَيْن؛ تقاتلونهم على وَجْهَيْن. {وعصيتم} الرَّسُول {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تحبون} من النَّصْر على عَدوكُمْ {مِنْكُمْ من يُرِيد الدُّنْيَا} يَعْنِي: الْغَنِيمَة {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَد عَفا عَنْكُم} حِين لم يستأصلكم {وَاللَّهُ ذُو فضل على الْمُؤمنِينَ} .(1/326)
[آيَة 153 - 155](1/327)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
{إِذْ تصعدون} إِلَى الْجَبَل {وَلا تَلْوُونَ عَلَى أحد} يَعْنِي: النَّبِي.
(ل 54) {وَالرَّسُول يدعوكم فِي أخراكم} جعل يَقُول: إليَّ عباد الله حَتَّى خص الْأَنْصَار؛ فَقَالَ: يَا أنصار الله [إليَّ، أَنا] رَسُول الله، فَرَجَعت الْأَنْصَار والمؤمنون. {فَأَثَابَكُمْ غما بغم}
قَالَ يحيى: كَانُوا تحدثُوا يَوْمئِذٍ أَن نَبِي الله أُصِيب، وَكَانَ الْغم الآخر قتل أَصْحَابهم والجراحات الَّتِي فيهم؛ وَذكر لنا أَنه قُتِل يَوْمئِذٍ سَبْعُونَ رجلا: سِتَّة وَسِتُّونَ من الْأَنْصَار، وَأَرْبَعَة من الْمُهَاجِرين.(1/327)
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بغم} أَي: جازاكم غما مُتَّصِلا بغم. وَقَوله: {إِذْ تصعدون} تقْرَأ: {تصعدون} و {تَصْعَدُونَ} ، فَمن قَرَأَ بِضَم التَّاء فَالْمَعْنى: تبعدون فِي الْهَزِيمَة، يُقَال: أصعد فِي الأَرْض؛ إِذا أمعن فِي الذّهاب، وَصعد الْجَبَل والسطح. {لِكَيْ لَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} من الْغَنِيمَة {وَلا مَا أَصَابَكُم} فِي أَنفسكُم من الْقَتْل والجراحات.
قَالَ مُحَمَّد: قيل: أَي: ليَكُون غمكم؛ بأنكم خالفتم النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَقَط.(1/328)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} تَفْسِير قَتَادَة: كَانُوا يَوْمئِذٍ فريقين: فَأَما الْمُؤْمِنُونَ: فغشاهم الله النعاس أَمَنَة مِنْهُ وَرَحْمَة، والطائفة الْأُخْرَى: المُنَافِقُونَ لَيْسَ لَهُم هَمٌّ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا من الْأَمر من شَيْء} قَالَ الْكَلْبِيّ: (هم المُنَافِقُونَ) قَالُوا لعبد الله بن أبي بن سلول: قتل بَنو الْخَزْرَج! فَقَالَ: وَهل لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ الله: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ} يَعْنِي: النَّصْر {كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا} قَالَ الْكَلْبِيّ: كَانَ مَا أخفوا فِي أنفسهم أَن قَالُوا: لَو كُنَّا على شَيْء من الْأَمر - أَي: من الْحق - مَا قتلنَا هَا هُنَا، وَلَو كُنَّا فِي بُيُوتنَا مَا أَصَابَنَا الْقَتْل. قَالَ الله للنَّبِي: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ(1/328)
كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وليمحص مَا فِي قُلُوبكُمْ} أَي: يطهره {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} بِمَا فِي الصُّدُور(1/329)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ التقى الْجَمْعَانِ} تَفْسِير قَتَادَة قَالَ: كَانَ أنَاس من أَصْحَاب النَّبِي توَلّوا عَن الْقِتَال، وَعَن نَبِي الله عَلَيْهِ السَّلَام يَوْم أحد وَكَانَ ذَلِك من أَمر الشَّيْطَان وتخويفه؛ فَأنْزل الله: {وَلَقَد عَفا الله عَنْهُم ... .} الْآيَة. [156 - 159](1/329)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْض} يَعْنِي: التِّجَارَة {أَوْ كَانُوا غُزًّى} يَعْنِي: فِي الْغَزْو.
قَالَ مُحَمَّد: {غزى} جمع (غَازٍ} مثل: قَاس وقسى، وعاف وَعفى قَالَ الْحسن: هم المُنَافِقُونَ {وَقَالُوا لإخوانهم} يَعْنِي: إخْوَانهمْ فِيمَا يظْهر المُنَافِقُونَ من الْإِيمَان. {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قتلوا} قَالُوا هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا نِيَّة لَهُم فِي الْجِهَاد. قَالَ الله: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبهم} وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يجاهدون قوما على دينهم، فَذَلِك عَلَيْهِم عَذَاب وحسرة(1/329)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)
(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ(1/329)
مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خير مِمَّا تجمعون} أَي: من الدُّنْيَا.(1/330)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُم} أَي: فبرحمة من الله ورضوان و (مَا) صلَة زَائِدَة {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُم} أمره أَن يعْفُو عَنْهُم مَا لم يلْزمهُم من حكم أَو حد. {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمر} أمره الله أَن يشاور أَصْحَابه فِي الْأُمُور؛ لِأَنَّهُ أطيب لأنفس الْقَوْم، وَأَن الْقَوْم إِذا شاور بَعضهم بَعْضًا، وَأَرَادُوا بذلك وَجه الله - عزم الله لَهُم على أرشده. [آيَة 160 - 163](1/330)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لكم} الْآيَة، وَقد أعلم الله وَرَسُوله وَالْمُؤمنِينَ أَنهم منصورون، وَكَذَلِكَ إِن خذلهم لن ينصرهم من بعده نَاصِر.(1/330)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: أَن يغله أَصْحَابه من الْمُؤمنِينَ {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .(1/330)
يَحْيَى: عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ((وَالَّذِي نَفسِي (ل 55) بِيَدِهِ، لَا يَغُلُّ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْمَالِ بَعِيرًا إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَامِلَهُ عَلَى عُنُقِهِ لَهُ رُغَاءٌ، وَلا بَقَرَةً إِلا جَاءَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَامِلَهَا عَلَى عُنُقِهِ وَلَهَا خُوَارٌ، وَلا شَاةً إِلا جَاءَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَامِلَهَا عَلَى عُنُقِهِ وَهِيَ تَيْعَرُ)) .
قَالَ مُحَمَّد: معنى (تَيْعر) : تصيح.(1/331)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاء بسخط من الله} أَي: اسْتوْجبَ سخط الله؛ يَقُول: أَهما سَوَاء؟ ! على وَجه الِاسْتِفْهَام أَي: أَنَّهُمَا ليسَا بِسَوَاء {وَمَأْوَاهُ} مصيره.(1/331)
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
{هم دَرَجَات عِنْد الله} يَعْنِي: أهل النَّار بَعضهم أَشد عذَابا من بعض، وَأهل الْجنَّة بَعضهم أرفع دَرَجَات من بعض.
قَالَ مُحَمَّد: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ الله} الْمَعْنى: هم [ذَوُو] دَرَجَات. [آيَة 164](1/331)
[آيَة 165 - 168](1/332)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} يَعْنِي: يصلحهم. {وَيُعلمهُم الْكتاب} الْقُرْآن {وَالْحكمَة} السّنة {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ} أَن يَأْتِيهم النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام {لفي ضلال مُبين} بَين.(1/332)
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
{أَو لما أَصَابَتْكُم مُصِيبَة} أَي: يَوْم أحد. {قَدْ أَصَبْتُمْ مثليها} يَوْم بدر {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} أَي: من أَيْن أوتينا وَنحن مُؤمنُونَ وَالْقَوْم مشركون؟ ! {قُلْ هُوَ من عِنْد أَنفسكُم} بمعصيتكم رَسُول الله حِين أَمركُم أَلا تتبعوا المدبرين(1/332)
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} يَعْنِي: جمع الْمُؤمنِينَ، وَجمع الْمُشْركين يَوْم أحد {فبإذن الله} أَي: الله أذن فِي ذَلِك {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} وَهَذَا علم الفعال. {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَو ادفعوا} أَي: كَثُرُوا السوَاد {قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمئِذٍ أقرب مِنْهُم للْإيمَان} وَإِذا قَالَ الله: {أقرب} قَالَ الْحسن: فَهُوَ الْيَقِين؛ أَي: إِنَّهُم كافرون.
قَالَ الْكَلْبِيّ: كَانُوا ثَلَاثمِائَة مُنَافِق؛ رجعُوا مَعَ عبد الله بن أبي ابْن سلول؛(1/332)
فَقَالَ لَهُم جَابر بن عبد الله: أنْشدكُمْ الله فِي نَبِيكُم ودينكم وذراريكم. قَالُوا: وَالله لَا يكون الْيَوْم قتال، وَلَو نعلم قتالا لَاتَّبَعْنَاكُمْ. قَالَ الله: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}(1/333)
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
{الَّذين قَالُوا لإخوانهم} يَعْنِي: من قُتِلَ من الْمُؤمنِينَ يَوْم أُحُد هم فِيمَا أظهره المُنَافِقُونَ من الْإِيمَان إخْوَانهمْ {وَقَعَدُوا} عَن الْقِتَال {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قتلوا} أَي: مَا خَرجُوا مَعَ مُحَمَّد. قَالَ الله لنَبيه: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقين} أَي: لَا تَسْتَطِيعُونَ أَن تدرءوه، يَعْنِي: تدفعوه. [آيَة 169 - 171](1/333)
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْد رَبهم يرْزقُونَ} .
قَالَ مُحَمَّد: {بل أَحيَاء} بِالرَّفْع؛ الْمَعْنى: بل هم أَحيَاء.(1/333)
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضله} أَي: من الشَّهَادَة والرزق {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلفهم} الْآيَة، يَقُول بَعضهم لبَعض: تركنَا إِخْوَاننَا: فلَانا وَفُلَانًا وَفُلَانًا يُقَاتلُون الْعَدو؛ فَيُقْتَلون إِن شَاءَ الله؛ فيصيبون من الرزق والكرامة والأمن.
يَحْيَى: عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ((لَمَّا قَدِمَتْ أَرْوَاحُ أَهْلِ أُحُدٍ عَلَى اللَّهِ، جُعِلَتْ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ(1/333)
تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ يُجَاوِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا بِصَوْتٍ لَمْ تَسْمَعِ الْخَلائِقُ بِمِثْلِهِ؛ يَقُولُونَ: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا الَّذِينَ خَلَّفْنَا مِنْ بَعْدِنَا عَلِمُوا مِثْلَ الَّذِي عَلِمْنَا فَسَارَعُوا إِلَى مِثْلِ مَا سَارَعْنَا فِيهِ؛ فَإِنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ لَيُخْبِرَنَّ نَبِيَّهُ بِذَلِكَ حَتَّى يُخْبِرَهُمْ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} إِلَى قَوْله: {أجر الْمُؤمنِينَ} [آيَة 172 - 175](1/334)
[176 - 177](1/335)
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بعد مَا أَصَابَهُم الْقرح} يَعْنِي: الْجراح؛ وَذَلِكَ يَوْم أُحُد؛ حَيْثُ قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((رَحِمَ اللَّهُ قوما ينتدبون حَتَّى يعلم الْمُشْركُونَ أَنا لم نستأصل، وَأَن فِينَا بَقِيَّة فَانْتدبَ قوم مِمَّن أَصَابَتْهُم الْجراح)) .(1/335)
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاس قد جمعُوا لكم} إِلَى قَوْله: (ل 56) {وَالله ذُو فضل عَظِيم} تَفْسِير الْكَلْبِيّ: بلغنَا: ((أَن أَبَا سُفْيَان يَوْم [أحد] حِين أَرَادَ أَن ينْصَرف قَالَ: يَا مُحَمَّد، موعد مَا بَيْننَا وَبَيْنكُم موسم بدر الصُّغْرَى أَن نُقَاتِل بهَا إِن شِئْت؛ فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَلِك بَيْننَا وَبَيْنك. فَانْصَرف أَبُو سُفْيَان فَقدم مَكَّة، فلقي رجلا من أَشْجَع يُقَال لَهُ: نعيم بن مَسْعُود؛ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قد وَاعَدت مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه وَلَا أخرج إِلَيْهِم، وأكره أَن يخرج مُحَمَّد وَأَصْحَابه وَلَا أخرج؛ فيزيدهم ذَلِك عَليّ جرْأَة، وَيكون الْخلف مِنْهُم أحب إِلَيّ، فلك عشرَة من الْإِبِل إِن أَنْت حَبسته عني فَلم يخرج؛ فَقدم الْأَشْجَعِيّ الْمَدِينَة، وَأَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَهَّزُونَ لميعاد أبي سُفْيَان؛ فَقَالَ: أَيْن تُرِيدُونَ؟ فَقَالُوا: واعدنا أَبَا سُفْيَان أَن نَلْتَقِي بِمَوْسِم بدر فنقتتل بهَا، فَقَالَ: بئس الرَّأْي رَأَيْتُمْ، أَتَوْكُم فِي دِيَاركُمْ وقراركم؛ فَلم يُفْلت مِنْكُم إِلَّا شريد؛ وَأَنْتُم تُرِيدُونَ أَن تخْرجُوا إِلَيْهِم وَقد جمعُوا لكم عِنْد الْمَوْسِم، وَالله إِذن لَا يفلت مِنْكُم أحد؛ فكره أَصْحَاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن(1/335)
يخرجُوا، فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأخْرجَن، وَإِن لم يخرج معي مِنْكُم أحد! فَخرج مَعَه سَبْعُونَ رجلا؛ حَتَّى وافوا مَعَه بَدْرًا، وَلم يخرج أَبُو سُفْيَان وَلم يكن قتال، فتسوقوا فِي السُّوق، ثمَّ انصرفوا)) .
فَهُوَ قَوْله: {الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس} يَعْنِي: نعيما الْأَشْجَعِيّ {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل}(1/336)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
{فانقلبوا بِنِعْمَة من الله} يَعْنِي: الْأجر {وَفضل} يَعْنِي: مَا تسوقوا بِهِ {لَمْ يمسسهم سوء} قتل وَلَا هزيمَة.(1/336)
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أَي: يخوفكم من أوليائه الْمُشْركين {فَلا تَخَافُوهُمْ}(1/336)
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
{وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر} (أَي: اخْتَارُوا الْكفْر) على الْإِيمَان، وهم المُنَافِقُونَ؛ فِي تَفْسِير الْحسن. {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حظا} نَصِيبا من الْجنَّة. [آيَة 178 - 180](1/336)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نملي لَهُم خير لأَنْفُسِهِمْ} الْآيَة، قَالَ مُحَمَّد: معنى {نُمْلِي لَهُم} نطيل لَهُم ونمهلهم، وَنصب (أَنَّمَا) بِوُقُوع (يَحسبن) عَلَيْهَا.(1/337)
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يُمَيّز} أَي: يعْزل {الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} ميز الْمُؤمنِينَ من الْمُنَافِقين يَوْم أحد؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة. {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} قَالَ المُنَافِقُونَ: مَا شَأْن مُحَمَّد؛ إِن كَانَ صَادِقا لَا يخبرنا بِمن يُؤمن بِهِ قبل أَن يُؤمن؟ فَقَالَ الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ الله يجتبي} أَي: يستخلص {مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاء} فيطلعه على مَا يَشَاء (من الْغَيْب) .(1/337)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خيرا لَهُم} قَالَ مُحَمَّد: يَعْنِي: الْبُخْل خيرا لَهُمْ. {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سيطوقون مَا بخلوا بِهِ} قَالَ الْكَلْبِيّ: يطوق شجاعين فِي عُنُقه؛ فيلدغان جَبهته وَوَجهه؛ يَقُولَانِ: أَنا كَنْزك الَّذِي كنزت، أَنا الزَّكَاة الَّتِي بخلت بهَا. {وَلِلَّهِ مِيرَاث السَّمَاوَات وَالْأَرْض} أَي: يبْقى، وتفنون أَنْتُم. [آيَة 181](1/337)
[آيَة 182 - 185](1/338)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} قَالَت الْيَهُود: إِن الله استقرضكم، وَإِنَّمَا يستقرض الْفَقِير، قَالُوهُ لقَوْل الله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قرضا حسنا} قَالَ الله: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وقتلهم الْأَنْبِيَاء بِغَيْر حق} يَعْنِي: بِهَذَا: أوائلهم الَّذين قتلوا الْأَنْبِيَاء {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} يَعْنِي: فِي الْآخِرَه(1/338)
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} من القربان الَّذِي تَأْكُله النَّار؛ فَلم تؤمنوا بهم وَقَتَلْتُمُوهُمْ {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إِنَّ اللَّهَ عهد إِلَيْكُم ذَلِك؛ يَعْنِي بِهِ أوائلهم وَكَانَت الْغَنِيمَة قبل هَذِه (ل 57) الْأمة [لَا تحل لَهُم] كَانُوا يجمعونها فتنزل عَلَيْهَا نَار من السَّمَاء؛ فتأكلها.
قَالَ مُجَاهِد: وَكَانَ الرجل إِذا تصدق بِصَدقَة فتقبلت مِنْهُ أنزلت عَلَيْهَا(1/338)
نَار، فَأَكَلتهَا.(1/339)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} يَعْنِي: الْحجَج والكتب {وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} يَعْنِي: الْحَلَال وَالْحرَام.
قَالَ الْحسن: أَمر الله نبيه بِالصبرِ وَعَزاهُ، وأعلمه أَن الرُّسُل قد لقِيت فِي جنب الله أَذَى.(1/339)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغرُور} عَزَّى الله رَسُوله وَالْمُؤمنِينَ عَن الدُّنْيَا، وَأخْبرهمْ أَن ذَلِك يصير بَاطِلا. [آيَة 186 - 187](1/339)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
{لتبلون} لتختبرن {فِي أَمْوَالكُم وَأَنْفُسكُمْ} الْآيَة؛ ابْتَلَاهُم فِي أَمْوَالهم [وأنفسهم] فَفرض عَلَيْهِم أَن يجاهدوا فِي سَبيله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم، وَأَن يؤدوا الزَّكَاة، ثمَّ أخْبرهُم أَنهم سيؤذون فِي جنب الله، وَأمرهمْ بِالصبرِ.(1/339)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكتاب لتبيننه للنَّاس} الْآيَة، هَذَا مِيثَاق أَخذه الله على الْعلمَاء من أهل الْكتاب؛ أَن يبينوا للنَّاس مَا فِي كِتَابهمْ، وَفِيه رَسُول الله وَالْإِسْلَام {فنبذوه وَرَاء ظُهُورهمْ} وَكَتَبُوا كتبا بِأَيْدِيهِم؛ فحرفوا كتاب الله {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} يَعْنِي: مَا كَانُوا يصيبون عَلَيْهِ من عرض الدُّنْيَا {فَبِئْسَ مَا يشْتَرونَ} اشْتَروا النَّار بِالْجنَّةِ.(1/339)
يَحْيَى: عَنْ خِدَاشٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: ((مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ عِنْدَهُ فَكَتَمَهُ؛ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بلجام من نَار)) . [آيَة 188 - 189](1/340)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا} هم الْيَهُود، قَالَ الْحسن: دخلُوا على رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَام، فصبروا على دينهم، فَخَرجُوا إِلَى النَّاس؛ فَقَالُوا لَهُم: مَا صَنَعْتُم مَعَ مُحَمَّد؟ فَقَالُوا: آمنا بِهِ ووافقناه، فَقَالَ الله: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذين يفرحون بِمَا أَتَوا} يَقُول: فرحوا بِمَا فِي أَيْديهم حِين لم يوافقوا مُحَمَّدًا {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} أَي: بمنجاة. [آيَة 190 - 194](1/340)
[آيَة 195](1/341)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)
{إِن فِي خلق السَّمَاوَات وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولي الْأَلْبَاب} [يَعْنِي: أولي الْعُقُول] ؛ وهم الْمُؤْمِنُونَ.(1/341)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وعَلى جنُوبهم} تَفْسِير قَتَادَة: قَالَ: هَذِه حالاتك يَا ابْن آدم؛ فاذكر الله وَأَنت قَائِم؛ فَإِن لم تستطع فاذكره وَأَنت جَالس، فَإِن لم تستطع فاذكره وَأَنت على جَنْبك؛ يسرا من الله وتخفيفا. {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَات وَالْأَرْض رَبنَا} يَقُولُونَ: رَبنَا {مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا} أَي: إِن ذَلِك سيصير بِإِذن الله إِلَى الميعاد {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَاب النَّار} اصرف عَنَّا عَذَاب النَّار(1/341)
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
{وَمَا للظالمين} الْمُشْركين {مِنْ أَنْصَارٍ}(1/341)
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي للْإيمَان} وَهُوَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام {أَن آمنُوا بربكم} الْآيَة. قَالَ الْحسن: أَمرهم الله أَن يدعوا بتكفير مَا مضى من الذُّنُوب والسيئات، والعصمة فِيمَا بَقِي.(1/341)
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رسلك} أَي: على أَلْسِنَة رسلك؛ وعد الله الْمُؤمنِينَ على أَلْسِنَة رسله أَن يدخلهم الْجنَّة إِذا أطاعوه.(1/341)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بعض} أشرك الله بَين الذّكر وَالْأُنْثَى {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} إِلَى قَوْله: {حسن الثَّوَاب} هَذَا للرِّجَال دون النِّسَاء؛ فَسَأَلت عَائِشَة النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((هَل على النِّسَاء جِهَاد؟ قَالَ: نعم، جِهَاد لَا قتال(1/341)
فِيهِ؛ الْحَج وَالْعمْرَة)) .
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: {أَنِّي لَا أضيع} تقْرَأ بِفَتْح الْألف وبكسرها؛ فَمن قَرَأَهَا بِالْفَتْح فَالْمَعْنى: فَاسْتَجَاب لَهُم رَبهم بِأَنِّي لَا أضيع، وَمن قَرَأَهَا بِالْكَسْرِ فَالْمَعْنى: قَالَ لَهُم: إِنِّي لَا أضيع، و ((ثَوَابًا) } مصدر مُؤَكد. [آيَة 196 - 198](1/342)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَاد} بِغَيْر عَذَاب، إِنَّمَا هُوَ مَتَاع قَلِيل ذَاهِب.
قَالَ مُحَمَّد: وَقيل: معنى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كفرُوا فِي الْبِلَاد} أَي: تصرفهم فِي التِّجَارَة، وإصابتهم الْأَمْوَال؛ خطاب للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَالْمرَاد: الْمُؤْمِنُونَ؛ أَي: لَا يَغُرنكُمْ أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ. (ل 58)(1/342)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
قَوْله: {نُزُلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أَي: ثَوابًا وَرِزْقًا(1/342)
قَالَ مُحَمَّد: {نزلا} مصدر مُؤَكد. [آيَة 199 - 100](1/343)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤمن بِاللَّه} يَعْنِي: من آمن مِنْهُم {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشعين لله} الْخُشُوع: المخافة الثَّابِتَة فِي الْقلب. قَالَ قَتَادَة: ذكر لنا؛ أَنَّهَا نزلت فِي النَّجَاشِيّ وأناس من أَصْحَابه؛ آمنُوا بِنَبِي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم.(1/343)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} تَفْسِير قَتَادَة: أَي: اصْبِرُوا على طَاعَة الله، وَصَابِرُوا أهل الضَّلَالَة، وَرَابطُوا فِي سَبِيل الله {وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تفلحون} وَهِي وَاجِبَة [لمن فعل] والمفلحون: السُّعَدَاء.
قَالَ مُحَمَّد: أصل المرابطة: أَن يرْبط هَؤُلَاءِ خيولهم، وَهَؤُلَاء خيولهم بالثغر؛ كُلٌّ مُعِدٌّ لصَاحبه، فَسُمي الْمقَام بالثغور رِبَاطًا.(1/343)
تَفْسِير سُورَة النِّسَاء وَهِي مَدَنِيَّة كلهَا
بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم [آيَة 1 - 3](1/344)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
قَوْله: {يَا أَيهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ من نفس وَاحِدَة} [يَعْنِي: آدم {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يَعْنِي: حَوَّاء] قَالَ قَتَادَة: خلقهَا من ضلع من أضلاعه القصيراء. وَقَالَ [مُجَاهِد: من جنبه الْأَيْسَر.
يَحْيَى:] عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ ((إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ، وَإِنَّكَ إِنْ تُرِدْ إِقَامَةَ] الضِّلْعِ تَكْسِرْهَا، فَدَارِهَا تَعِشْ بِهَا)) . {وَبث مِنْهُمَا} أَي: [خلق. {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تساءلون بِهِ والأرحام} أَي: وَاتَّقوا الْأَرْحَام أَن(1/344)
تقطعوها. هَذَا تَفْسِير من قَرَأَهَا بِالنّصب، وَمن قَرَأَهَا بِالْجَرِّ، أَرَادَ: الَّذِي تسْأَلُون بِهِ والأرحام، وَهُوَ قَول الرجل: نشدتك بِاللَّه وبالرحم. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} حفيظاً.(1/345)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
{وَآتوا الْيَتَامَى أَمْوَالهم} يَعْنِي: إِذا بلغُوا {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبيث بالطيب} قَالَ الْحسن: الْخَبيث: أكل أَمْوَال الْيَتَامَى ظلما، وَالطّيب: الَّذِي رزقكم الله؛ يَقُول: لَا تذروا الطّيب، وتأكلوا الْخَبيث {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالكُم} يَعْنِي: مَعَ أَمْوَالكُم {إِنَّهُ كَانَ حوبا كَبِيرا} أَي: ذَنبا.
قَالَ مُحَمَّد: وَفِيه لُغَة أُخْرَى: حَوْبًا بِفَتْح الْحَاء، وَقد قرئَ بهَا.(1/345)
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
{وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا} أَي: تعدلوا {فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لكم} يَعْنِي: مَا حل لكم من النِّسَاء قَالَ قَتَادَة: يَقُول: كَمَا خِفْتُمْ الْجور فِي الْيَتَامَى، وأهمكم ذَلِك، فَكَذَلِك فخافوه فِي جَمِيع النِّسَاء، وَكَانَ الرجل فِي الْجَاهِلِيَّة يتَزَوَّج الْعشْر فَمَا دون ذَلِك، فأحل الله لَهُ أَرْبعا؛ فَقَالَ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع} يَقُول: إِن خفت أَلا تعدل فِي أَربع فانكح ثَلَاثًا، فَإِن خفت أَلا تعدل فِي ثَلَاث فانكح اثْنَتَيْنِ، فَإِن خفت أَلا تعدل فِي(1/345)
اثْنَتَيْنِ فانكح وَاحِدَة، أَو مَا ملكت يَمِينك، يطَأ بِملك يَمِينه كم يَشَاء {ذَلِكَ أدنى أَلا تعولُوا} أَي: أَجْدَر أَلا تميلوا. [آيَة 4 - 5](1/346)
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
{وَآتوا النِّسَاء صدقاتهن نحلة} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: فَرِيضَة.
قَالَ مُحَمَّد: اخْتلف القَوْل فِي {نِحْلَةً} فَقيل: الْمَعْنى: نحلة من الله - عز وَجل - للنِّسَاء، إِذْ جعل على الرجل الصَدَاق، وَلم يَجْعَل على الْمَرْأَة شَيْئا، يُقَال: نحلت الرجل إِذا وهبت لَهُ هبة، ونحلت الْمَرْأَة، وَقَالَ بَعضهم: معنى {نحلة} : ديانَة؛ كَمَا تَقول: فلَان ينتحل كَذَا؛ أَي: يدين بِهِ. و {صدقاتهن} جمع: صَدَقَة، يُقَال: هُوَ صدَاق الْمَرْأَة، وَصدقَة الْمَرْأَة. {فَإِنْ طِبْنَ لكم عَن شَيْء مِنْهُ} يَعْنِي: الصَدَاق {نفسا} [يَعْنِي: نَفسهَا] {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: مَا طابت بِهِ نَفسهَا فِي غير كُرْهٍ؛ فقد أحل الله لَهَا أَن تَأْكُله.
قَالَ مُحَمَّد: يُقَال: هنأني الطَّعَام ومرأني بِغَيْر ألف؛ فَإِذا أفردوا مرأني قَالُوا: أمرأني بِالْألف.(1/346)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
{وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُم} قَالَ الْكَلْبِيّ: يَعْنِي: النِّسَاء وَالْأَوْلَاد؛ إِذا علم الرجل أَن امْرَأَته سَفِيهَة مفْسدَة، أَو ابْنه سَفِيه مُفسد؛ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يُسَلط أَيهمَا على مَاله.
(ل 59) قَالَ مُحَمَّد: والسفه فِي اللُّغَة أَصله: الْجَهْل. (الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِوَامًا) لمعايشكم وصلاحكم، وتقرأ {قيَاما}
قَالَ مُحَمَّد: يُقَال: هَذَا قوام أَمرك وقيامه؛ أَي: مَا يقوم بِهِ أَمرك. وَمن قَرَأَ (قِيَمًا) فَهُوَ رَاجع إِلَى هَذَا؛ أَي: جعلهَا الله قيم الْأَشْيَاء؛ فبها تقوم. {وارزقوهم فِيهَا} يَعْنِي: من الْأَمْوَال {وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُم قولا مَعْرُوفا} يَعْنِي: الْعدة الْحَسَنَة. [آيَة 6](1/347)
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
{وابتلوا الْيَتَامَى} أَي: اختبروا عُقُولهمْ وَدينهمْ {حَتَّى إِذا بلغُوا النِّكَاح} يَعْنِي: الْحلم. {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رشدا} صلاحا فِي دينهم {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يكبروا} أَي: مبادرة أَن يكبروا فيأخذوها مِنْكُم(1/347)
{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ} تَفْسِير قَتَادَة: قَالَ: كَانَ الرجل يَلِي مَال الْيَتِيم يكون لَهُ الْحَائِط من النّخل، فَيقوم على (صَلَاحه وسقيه، فَيُصِيب من تمره، وَتَكون لَهُ الْمَاشِيَة، فَيقوم على) صَلَاحهَا، ويلي علاجها ومؤنتها، فَيُصِيب من جزازها وعوارضها ورسلها [يَعْنِي بالعوارض: الخرفان، وَالرسل: السّمن وَاللَّبن] فَأَما رِقَاب المَال فَلَيْسَ لَهُ أَن يستهلكه.
يَحْيَى: عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ (عَنْ أَبِي الْخَيْرِ) ((أَنَّهُ سَأَلَ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الأَنْصَارِ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ} فَقَالُوا: فِينَا وَاللَّهِ أُنْزِلَتْ، كَانَ الرَّجُلُ يَلِي مَالَ الْيَتِيمِ لَهُ النَّخْلُ، فَيَقُومُ لَهُ عَلَيْهَا؛ فَإِذَا طَابَتِ الثَّمَرَةُ، كَانَتْ يَدُهُ مَعَ أَيْدِيهِمْ مِثْلَ مَا كَانُوا مُسْتَأْجِرِينَ بِهِ غَيْرَهُ فِي الْقِيَامِ عَلَيْهَا)) .
يَحْيَى: عَنْ نَصْرِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ: ((أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فِي حِجْرِي يَتِيمًا أَفَأَضْرِبُهُ؟ قَالَ: اضْرِبْهُ مِمَّا كُنْتَ ضَارِبًا مِنْهُ وَلَدَكَ. قَالَ: أَفَآكُلُ مِنْ مَالِهِ؟ قَالَ: بِالْمَعْرُوفِ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ(1/348)
مِنْ مَالِهِ مَالا، وَلا وَاقٍ مَالَكَ بِمَالِهِ)) .
قَوْله: {وَكَفَى بِاللَّهِ حسيبا} أَي: حفيظاً [آيَة 7 - 10](1/349)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
{لِلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} الْآيَة، هَذَا حِين بَين الله فَرَائض الْمَوَارِيث، نزلت آيَة الْمَوَارِيث قبل هَذِه الْآيَة، وَهِي بعْدهَا فِي التَّأْلِيف؛ وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة لَا يُعْطون النِّسَاء من الْمِيرَاث، وَلَا الصَّغِير شَيْئا، وَإِنَّمَا كَانُوا يُعْطون من يحترف وينفع وَيدْفَع، فَجعل الله لَهُم من ذَلِك (مِمَّا(1/349)
قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) !(1/350)
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
2 - 2! (وَإِذا حضر الْقِسْمَة أولُوا الْقُرْبَى} الْآيَة، يَعْنِي: قسْمَة الْمَوَارِيث.
تَفْسِير الْحسن: إِن كَانُوا يقتسمون مَالا أَو مَتَاعا أعْطوا مِنْهُ، وَإِن كَانُوا يقتسمون دورا أَو رَقِيقا قيل لَهُم: ارْجعُوا رحمكم الله؛ فَهَذَا قَول مَعْرُوف، وَكَانَ الْحسن يَقُول: لَيست بمنسوخة. وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: هِيَ مَنْسُوخَة نسختها آيَة الْمَوَارِيث.
يحيى: وَهُوَ قَول الْعَامَّة أَنَّهَا مَنْسُوخَة.(1/350)
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلفهم ذُرِّيَّة ضعافاً} تَفْسِير قَتَادَة: قَالَ: يَقُول: من حضر مَيتا فليأمره بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان، ولينهه عَن الحيف والجور فِي وَصيته، وليخش على عِيَاله مَا كَانَ خَائفًا على عِيَال من حَضَره الْمَوْت.(1/350)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} أَي: إِنَّمَا يَأْكُلُون بِهِ نَارا. [آيَة 11](1/350)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} يَعْنِي: أَكثر من اثْنَتَيْنِ.
{فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَة فلهَا النّصْف}
قَالَ مُحَمَّد: (أَعْطَيْت الابنتان الثُّلثَيْنِ) بِدَلِيل لَا يفْرض مُسَمّى لَهما؛ وَالدَّلِيل قَوْله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فلهَا نصف مَا ترك} فقد صَار للْأُخْت النّصْف، كَمَا أَن للابنة النّصْف {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} فَأعْطيت (ل 60) البنتان الثُّلثَيْنِ؛ كَمَا أَعْطَيْت الْأخْتَان، وَأعْطِي جملَة الْأَخَوَات الثُّلثَيْنِ؛ قِيَاسا على مَا ذكر الله فِي جملَة الْبَنَات. {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ ولد} ذكر أَو ولد ابْن ذكر [أَو أنثي] وَإِن ترك ابْنَتَيْن أَو أَكثر وأبويه فَكَذَلِك أَيْضا، وَإِن ترك ابْنَته وأبويه، فللابنة النّصْف وَللْأُمّ ثلث مَا بَقِي وَمَا بَقِي فللأب، وَلَيْسَ للْأُم مَعَ الْوَلَد الْوَاحِد أَو أَكثر؛ ذكرا كَانَ أَو أنثي إِلَّا السُّدس. {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} هَذَا إِذا لم يكن لَهُ وَارِث غَيرهمَا؛ فِي قَول زيد والعامة. {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فلأمه السُّدس} إِذا كَانَ لَهُ أَخَوان فَأكْثر حجبوا الْأُم عَن الثُّلُث، وَكَانَ لَهَا السُّدس وَلَا يحجبها الْأَخ الْوَاحِد عَن الثُّلُث، وَلَا الأخوان إِذا كَانَا أَخَوَيْهِ لِأَبِيهِ أَو أَخَوَيْهِ لأمه، أَو بَعضهم من الْأَب وَبَعْضهمْ من الْأُم فَهَؤُلَاءِ ذُكُورا كَانُوا أَو إِنَاثًا أَو بَعضهم ذُكُور وَبَعْضهمْ إناث يحجبون الْأُم عَن(1/351)
الثُّلُث؛ فَلَا تَأْخُذ إِلَّا السُّدس {من بعد وَصِيَّة يُوصي بِهِ أَو دين} فِيهَا تَقْدِيم؛ يَقُول: من بعد دين يكون عَلَيْهِ أَو وَصِيَّة يُوصي بهَا. {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} تَفْسِير مُجَاهِد: لَا تَدْرُونَ أَيهمْ أقرب لكم نفعا فِي الدُّنْيَا {فَرِيضَة من الله} قَالَ السّديّ يَعْنِي: قسْمَة الْمَوَارِيث لأَهْلهَا الَّذين ذكرهم الله فِي هَذِه الْآيَة.
قَالَ مُحَمَّد: {فَرِيضَةً} مَنْصُوب على التوكيد وَالْحَال؛ أَي: مَا ذكرنَا لهَؤُلَاء الْوَرَثَة مَفْرُوضًا فَرِيضَة مُؤَكدَة، لقَوْله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} . [آيَة 12](1/352)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} أَو ولد ولد، وَولد الْبَنَات لَا يَرِثُونَ شَيْئا، وَلَا يحجبون وَارِثا. {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ} ذكر أَو أُنْثَى {فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تركن} {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لم يكن لكم ولد} أَو ولد ولد، وَلَا يَرث ولد(1/352)
الْبَنَات شَيْئا وَلَا يحجبون. {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تركْتُم} فَإِن ترك رجل امْرَأتَيْنِ أَو ثَلَاثًا أَو أَرْبعا، فالربع بَينهُنَّ سَوَاء؛ إِذا لم يكن لَهُ ولد، فَإِن كَانَ لَهُ ولد أَو ولد ولد؛ ذكر أَو أنثي، فالثمن بَينهُنَّ سَوَاء. {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُث} وَذكرهمْ كأنثاهم فِيهِ سَوَاء. قَالَ قَتَادَة: والكلالة: الَّذِي لَا ولد لَهُ وَلَا وَالِد وَلَا جد {غير مضار} فِي الْمِيرَاث أَهله، يَقُول: لَا يقر بِحَق لَيْسَ عَلَيْهِ، وَلَا يُوصي بِأَكْثَرَ من الثُّلُث مضارة لَهُم.
قَالَ مُحَمَّد: {غير} مَنْصُوب على الْحَال، الْمَعْنى: يُوصي بهَا غير مضار {وَصِيَّةً مِنَ الله} تِلْكَ الْقِسْمَة. [آيَة 13 - 14](1/353)
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)
{تِلْكَ حُدُود الله} أَي: سنته وَأمره فِي قسْمَة الْمَوَارِيث {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فِي قسْمَة الْمَوَارِيث؛ كَمَا أمره الله {ندخله جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} الْآيَة.(1/353)
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
{وَمن يعْص الله وَرَسُوله} فِي قسْمَة الْمَوَارِيث {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} الْآيَة وَذَلِكَ أَن الْمُنَافِقين كَانُوا لَا يورثون النِّسَاء وَلَا الصّبيان الصغار؛ كَانُوا يظهرون.(1/353)
الْإِسْلَام وهم على مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الشّرك، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة لَا يورثون النِّسَاء. [آيَة 15 - 16](1/354)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)
{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} يَعْنِي: الزِّنَا، الْآيَة.
قَالَ يحيى: وَقيل: هَذِه الْآيَة نزلت بعد الآيةَ الَّتِي بعْدهَا فِي التَّأْلِيف(1/354)
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
{والذان يأتيانها مِنْكُم} يَعْنِي: الْفَاحِشَة {فآذوهما} بالألسنة {فَإِن تابا وأصلحا} الْآيَة.
ثمَّ نزلت هَذِه الْآيَة: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} يَعْنِي: مخرجا من الْحَبْس؛ فِي تَفْسِير السّديّ، ثمَّ نزل فِي سُورَة النُّور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} . [آيَة 17 - 18](1/354)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
{إِنَّمَا التَّوْبَة على الله} يَعْنِي: التجاوز من الله {لِلَّذِينَ يعْملُونَ السوء بِجَهَالَة} (ل 61) قَالَ قَتَادَة: كل ذَنْب أَتَاهُ عبد فَهُوَ بِجَهَالَة. {تمّ يتوبون من قريب} يَعْنِي: مَا دون الْمَوْت، يُقَال: مَا لم يُغَرْغر. {فَأُولَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِم} قَالَ الْحسن: نزلت هَذِه الْآيَة فِي الْمُؤمنِينَ،(1/355)
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
ثمَّ ذكر الْكفَّار؛ فَقَالَ: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَة للَّذين يعْملُونَ السَّيِّئَات} ؛ يَعْنِي: الشّرك بِاللَّه {حَتَّى إِذَا حضر أحدهم الْمَوْت} عِنْد مُعَاينَة ملك الْمَوْت قبل أَن يخرج من الدُّنْيَا {قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُم عذَابا أَلِيمًا} . [آيَة 19](1/355)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن ترثوا النِّسَاء كرها} كَانَ الرجل فِي الْجَاهِلِيَّة يَمُوت عَن امْرَأَته، فيلقي وليه عَلَيْهَا ثوبا؛ فَإِن أحب أَن يَتَزَوَّجهَا تزَوجهَا، وَإِلَّا تَركهَا حَتَّى تَمُوت، فيرثها، إِلَّا أَن تذْهب إِلَى أَهلهَا من قبل أَن يلقِي عَلَيْهَا ثوبا، فَتكون أَحَق بِنَفسِهَا {وَلَا تعضلوهن} تحبسوهن {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} يَعْنِي: الصَدَاق {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَة مبينَة} نُهِيَ الرجل إِذا لم يكن لَهُ بامرأته حَاجَة أَن يَضرهَا فيحبسها لتفتدي مِنْهُ {إِلا أَنْ يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة} تَفْسِير بَعضهم: إِلَّا أَن تكون هِيَ النَّاشِزَة فتختلع مِنْهُ. الْفَاحِشَة المبينة: عصيانها ونشوزها.(1/355)
{وعاشروهن بِالْمَعْرُوفِ} أَي: اصحبوهن بِالْمَعْرُوفِ {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خيرا كثيرا} يكره الرجل الْمَرْأَة، فيمسكها وَهُوَ لَهَا كَارِه، فَعَسَى الله أَن يرزقه مِنْهَا ولدا، ثمَّ يعطفه الله عَلَيْهَا، أَو يطلقهَا، فيتزوجها غَيره، فَيجْعَل الله للَّذي تزَوجهَا فِيهِ خيرا كثيرا. [آيَة 20 - 21](1/356)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)
{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زوج} يَعْنِي: طَلَاق امْرَأَة، وَنِكَاح أُخْرَى. {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئا أتأخذونه بهتانا} أَي: ظلما {وإثما مُبينًا} بَينا.
يَقُول لَهُ: لَا يحل لَهُ أَن يَأْخُذ مِمَّا أَعْطَاهَا شَيْئا، إِلَّا أَن تنشز؛ فتفتدي مِنْهُ.
قَالَ مُحَمَّد: {بهتانا} مصدر مَوْضُوع مَوضِع الْحَال؛ الْمَعْنى: أتأخذونه مباهتين وآثمين. والبهتان: الْبَاطِل الَّذِي يتحير من بُطْلَانه.(1/356)
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بعض} يَعْنِي: المجامعة {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غليظا} هُوَ قَوْله: {إمْسَاك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان} فِي تَفْسِير قَتَادَة.
قَالَ قَتَادَة: وَقد كَانَت فِي عقد الْمُسلمين عِنْد نكاحهم: الله عَلَيْك لتمسكن(1/356)
بِمَعْرُوف، أَو لتسرحن بِإِحْسَان. [آيَة 22 - 23](1/357)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سلف} يَعْنِي: مَا قد مُضِيّ قبل التَّحْرِيم {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا} بغضا من الله {وَسَاءَ سَبِيلا} أَي: بئس المسلك.(1/357)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
قَوْله: {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} والجدات كُلهنَّ مثل الْأُم، وَأم أبي الْأُم مثل الْأُم {وَبَنَاتُكُمْ} وَبَنَات الابْن وَبَنَات الِابْنَة وأسفل من ذَلِك فَهِيَ كالابنة {وَأَخَوَاتُكُمْ} إِن كَانَت لِأَبِيهِ وَأمه أَو لِأَبِيهِ أَو لأمه فَهِيَ أُخْت {وعماتكم} فَإِن كَانَت عمته [أَو عمَّة أَبِيه] أَو عمَّة أمه وَمَا فَوق ذَلِك فَهِيَ عمَّة {وَخَالاتُكُمْ} فَإِن كَانَت خَالَته أَو خَالَة أَبِيه أَو خَالَة أمه أَو خَالَة فَوق ذَلِك - فَهِيَ خَالَته {وَبَنَات الْأَخ} فَإِن كَانَت ابْنة أَخِيه أَو ابْنة ابْن أَخِيه لِأَبِيهِ وَأمه أَو لِأَبِيهِ أَو لأمه أَو ابْنة ابْنة أَخِيه وَمَا أَسْفَل من ذَلِك - فَهِيَ بنت أَخ.(1/357)
{وَبَنَات الْأُخْت} فَإِن كَانَت ابْنة أُخْته أَو ابْنة ابْن أُخْته (أَو ابْنة ابْنة أُخْته) وأسفل من ذَلِك - فَهِيَ ابْنة أُخْت. {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أرضعنكم وأخواتكم من الرضَاعَة} يحرم من الرضَاعَة مَا يحرم من النّسَب؛ فَلَا تحل لَهُ أمه من الرضَاعَة وَلَا مَا فَوْقهَا من الْأُمَّهَات، وَلَا أُخْته من الرضَاعَة، وَلَا عمته من الرضَاعَة، وَلَا عمَّة أَبِيه من الرضَاعَة، وَلَا عمَّة أمه من الرضَاعَة، وَلَا مَا فَوق ذَلِك، وَلَا خَالَة من الرضَاعَة، وَلَا خَالَة أَبِيه، وَلَا خَالَة أمه، وَلَا مَا فَوق ذَلِك، وَلَا ابْنة أَخِيه من الرضَاعَة، وَلَا ابْنة ابْن أَخِيه من الرضَاعَة، وَلَا ابْنة ابْنة أَخِيه من الرضَاعَة، وَلَا مَا سفل من ذَلِك، وَلَا ابْنة أُخْته من الرضَاعَة وَلَا ابْنة ابْن أُخْته، (ل 62) وَلَا ابْنة ابْنة أُخْته من الرضَاعَة، وَلَا مَا أَسْفَل من ذَلِك. وَإِذا أرضعت الْمَرْأَة غُلَاما لم يتَزَوَّج ذَلِك الْغُلَام شَيْئا من بناتها؛ لَا مَا قد ولد (مَعَه وَلَا قبل) ذَلِك وَلَا بعده، ويتزوج إخْوَته من أَوْلَادهَا إِن شَاءُوا، وَكَذَلِكَ إِذا أرضعت جَارِيَة لم يتَزَوَّج تِلْكَ الْجَارِيَة أحد من أَوْلَادهَا؛ لَا مَا ولد قبل رضاعها، وَلَا مَا بعده،، يتَزَوَّج إخوتها من أَوْلَادهَا إِن شَاءُوا.
{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} لَا تحل للرجل أم امْرَأَته، وَلَا أمهاتها. {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهن فَلَا جنَاح عَلَيْكُم} فَإِذا تزوج الرجل الْمَرْأَة، فَطلقهَا قبل أَن يدْخل بهَا، أَو مَاتَت وَلم يدْخل بهَا - تزوج ابْنَتهَا إِن شَاءَ، وَإِن كَانَ قد دخل بهَا لم يتَزَوَّج ابْنَتهَا، وَلَا ابْنة ابْنَتهَا، وَلَا مَا أَسْفَل من ذَلِك.(1/358)
{وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} فَلَا تحل لَهُ امْرَأَة ابْنه، وَلَا امْرَأَة ابْن ابْنه، وَلَا امْرَأَة ابْن ابْنة ابْنه وَلَا أَسْفَل من ذَلِك، وَإِنَّمَا قَالَ الله: {الَّذين من أصلابكم} لِأَن الرجل كَانَ يتبنى الرجل فِي الْجَاهِلِيَّة، وَقد كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبني زيدا، فأحل الله [لَهُ] نِكَاح نسَاء الَّذين تبنوا، وَقد تزوج النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - امْرَأَة زيد بعد مَا طَلقهَا. {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سلف} مَا مضى قبل التَّحْرِيم؛ فَإِن كَانَت أُخْتهَا لأَبِيهَا وَأمّهَا، أَو أُخْتهَا لأَبِيهَا، (أَو أُخْتهَا لأمها، أَو من الرضَاعَة) - فَهِيَ أُخْت، وَجَمِيع النّسَب وَالرّضَاع فِي الْإِمَاء بِمَنْزِلَة الْحَرَائِر. [آيَة 24](1/359)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
{وَالْمُحصنَات من النِّسَاء} الْمُحْصنَات هَا هُنَا: اللَّاتِي لَهُنَّ الْأزْوَاج؛ يَقُول: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم وبناتكم} إِلَى هَذِه الْآيَة، ثمَّ قَالَ: {وَالْمُحصنَات من النِّسَاء} أَي: وَحرم عَلَيْكُم الْمُحْصنَات مِنَ النِّسَاءِ {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُم} ؛ يَعْنِي: من السبايا؛ فَإِذا سبيت الْمَرْأَة من أهل الشّرك، وَلها زوج، ثمَّ وَقعت فِي سهم رجل؛ فَإِن كَانَت من أهل الْكتاب، وَكَانَت حَامِلا لم يَطَأهَا؛ حَتَّى تضع، وَإِن كَانَت لَيست بحامل، لم يقربهَا؛ حَتَّى تحيض، وَإِن لم يكن لَهَا زوج فَكَذَلِك أَيْضا، وَإِن كَانَت من غير أهل الْكتاب لم يَطَأهَا،(1/359)
حَتَّى تَتَكَلَّم بِالْإِسْلَامِ فَإِذا قَالَت: لَا إِلَه إِلَّا الله، استبرأها بِحَيْضَة، إِلَّا أَن تكون حَامِلا؛ فيكف عَنْهَا، حَتَّى تضع.
يَحْيَى: عَنِ الْمُعَلَّى، عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: ((أَصَبْنَا يَوْمَ أَوْطَاسٍ سَبَايَا نَعْرِفُ أَنْسَابَهُنَّ وَأَزْوَاجَهُنَّ، فَامْتَنَعْنَا مِنْهُنَّ؛ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا ملكت أَيْمَانكُم} من السبايا)) . {كتاب الله عَلَيْكُم} يَعْنِي: حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم وبناتكم وأخواتكم إِلَى هَذَا الْموضع، ثمَّ قَالَ: كتاب الله عَلَيْكُم؛ يَعْنِي: بِتَحْرِيم مَا قد ذكر.
قَالَ مُحَمَّد: {كتاب الله} مَنْصُوب على معنى: كتب عَلَيْكُم كتابا. {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم} يَعْنِي: مَا بعد ذَلِكُم من النِّسَاء. {أَن تَبْتَغُوا بأموالكم} تتزوجوا بأموالكم؛ لَا يتَزَوَّج فَوق أَربع.(1/360)
{محصنين غير مسافحين} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي: ناكحين غير زانين {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي: النِّكَاح. {فَآتُوهُنَّ} فأعطوهن {أُجُورهنَّ} قَالَ: صدقاتهن. {فَرِيضَة} ((كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رخص فِي الْمُتْعَة يَوْم فتح مَكَّة إِلَى أجل؛ على أَلا يرثوا وَلَا يورثوا، ثمَّ نهى عَنْهَا بعد ثَلَاثَة أَيَّام)) فَصَارَت مَنْسُوخَة نسختها الْمِيرَاث وَالْعدة. {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} قَالَ الْحسن: لَا بَأْس على الرجل أَن تضع لَهُ الْمَرْأَة من صَدَاقهَا الَّذِي فرض لَهَا؛ كَقَوْلِه: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مريئاً} [آيَة 25 - 26](1/361)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا} (ل 63) يَعْنِي: غنى {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَات} يَعْنِي: الْحَرَائِر الْمُؤْمِنَات {فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ} يَعْنِي: إماءكم الْمُؤْمِنَاتِ، وَلَا يحل نِكَاح إِمَاء أهل الْكتاب {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضكُم من بعض} ؛ يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ، حرهم ومملوكهم، وَذكرهمْ وأنثاهم، وَالله أعلم بأيمانكم {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذن أهلهن} أَي: ساداتهن (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ(1/361)
بِالْمَعْرُوفِ} يَعْنِي: مَا تراضوا عَلَيْهِ من الْمهْر {محصنات غير مسافحات} يَعْنِي: ناكحات غير زانيات {وَلا متخذات أخدان} المسافحة: المجاهرة بِالزِّنَا، وَذَات الخدن: الَّتِي كَانَ لَهَا خَلِيل فِي السِّرّ {فَإِذا أحصن} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: أحصنتهن البعولة {فَإِن أتين بِفَاحِشَة} يَعْنِي: الزِّنَا {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا على الْمُحْصنَات} يَعْنِي: الْحَرَائِر {من الْعَذَاب} يَعْنِي: من الْجلد؛ تجلد خمسين جلدَة لَيْسَ عَلَيْهَا رجم، وَإِن كَانَ لَهَا زوج. {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُم} قَالَ قَتَادَة: إِنَّمَا أَمر الله نِكَاح الْإِمَاء الْمُؤْمِنَات لمن خشِي الْعَنَت على نَفسه - والعنت: الضّيق - أَي: لايجد مَا يستعف بِهِ، وَلَا يصبر فيزني. {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} يَعْنِي: عَن نِكَاح الْإِمَاء.(1/362)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
{يُرِيد الله ليبين لكم} حَلَاله وَحَرَامه {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ من قبلكُمْ} يَعْنِي: شرائع من كَانَ قبلكُمْ من الْمُؤمنِينَ فِيمَا حرم عَلَيْكُم من الْأُمَّهَات وَالْبَنَات وَالْأَخَوَات ... إِلَى آخر الْآيَة. {وَيَتُوب عَلَيْكُم} أَي: يتَجَاوَز عَمَّا كَانَ من نكاحكم إياهن قبل التَّحْرِيم. [آيَة 27 - 30](1/362)
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)
{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} هِيَ مثل الأولى قبلهَا. {وَيُرِيدُ الَّذين يتبعُون الشَّهَوَات} يَعْنِي: الْيَهُود فِي استحلالهم نِكَاح بَنَات(1/362)
الْأَخ. {أَن تميلوا} يَعْنِي: أَن تأثموا.(1/363)
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} فِي نِكَاح الْإِمَاء، وَلم يكن أحل نِكَاحهنَّ لمن كَانَ قبلكُمْ {وَخلق الْإِنْسَان ضَعِيفا} أَي: لَا يصبر عَن النِّسَاء.(1/363)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} يَعْنِي: بالظلم {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَة} يَعْنِي: تِجَارَة حَلَالا لَيْسَ فِيهَا رَبًّا {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تقتلُوا أَنفسكُم} .
يَحْيَى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، (عَنْ) أَبِي بَكْرِ (بْنِ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ (عَنْ) أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ((أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَام بَعَثَ رَجُلا فِي سَرِيَّةٍ فَأَصَابَهُ كَلْمٌ، فَأَصَابَتْهُ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ، فَصَلَّى وَلَمْ يَغْتَسِلْ، فَعَابَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَجَاءَهُ فَأَخْبَرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ: - {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بكم رحِيما} .(1/363)
[آيَة 31](1/364)
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
قَوْله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلكُمْ مدخلًا كَرِيمًا} يَعْنِي: الْجنَّة. قَالَ قَتَادَة: إِنَّمَا وعد الله الْمَغْفِرَة من اجْتنب الْكَبَائِر.
يَحْيَى: عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْكَبَائِرُ تِسْعٌ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ [إِلا بِالْحَقِّ] ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ، وَالسِّحْرُ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ)) .
يَحْيَى: عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: كَانَ الْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ مِنَ الْكَبَائِرِ يَوْمَ بَدْرٍ.
يَحْيَى: عَنْ نَصْرِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَن الْحسن: ((أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام ذُكِرَتْ عِنْدَهُ الْكَبَائِرُ، فَقَالَ: فَأَيْنَ تَجْعَلُونَ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ؟)) .(1/364)
يَحْيَى: عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا تَقولُونَ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: هُنَّ فَوَاحِشُ، وفيهن عُقُوبَة)) . [آيَة 32 - 33](1/365)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
قَوْله: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} الْآيَة.
تَفْسِير مُجَاهِد: نزلت فِي النِّسَاء يقلن: يَا ليتنا كُنَّا [رجَالًا فنغزو، ونبلغ مبلغ] (ل 64) الرِّجَال.(1/365)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
{وَلكُل جعلنَا موَالِي} يَعْنِي: الْعصبَة.
يَحْيَى: عَنْ نَصْرِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَلْحِقُوا الْمَالَ بِالْفَرَائِضِ، فَمَا أَبْقَتِ(1/365)
الْفَرَائِضُ، فَأَوْلُ رَحِمٍ ذَكَرٍ)) . {وَالَّذِينَ عاقدت أَيْمَانكُم فآتوهم نصِيبهم} تَفْسِير قَتَادَة قَالَ: كَانَ الرجل يعاقد الرجل فِي الْجَاهِلِيَّة؛ فَيَقُول: دمي دمك، وترثني وأرثك، تُطلب بِي وأُطلب بك، فَجعل لَهُ السُّدس من جَمِيع المَال، ثُمَّ يقسم أهل الْمِيرَاث ميراثهم، ثُمَّ نسخ ذَلِكَ بَعد فِي الْأَنْفَال فَقَالَ: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كتاب الله} فَصَارَت الْمَوَارِيث لِذَوي الْأَرْحَام. [آيَة 34 - 35](1/366)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
{الرِّجَال قوامون على النِّسَاء} أَي: مسلطون على أدب النِّسَاء، وَالْأَخْذ على أَيْدِيهنَّ.
قَالَ قَتَادَة: ذكر [لنا] أَن رجلا لطم امْرَأَته على عهد نَبِيَّ الله، فَأَتَت الْمَرْأَة نَبِيَّ الله، فَأَرَادَ نَبِيَّ الله أَن يَقُصَّهَا مِنْهُ فَأنْزل الله: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ(1/366)
عَلَى النِّسَاءِ) {} (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعضهم على بعض} جعل شَهَادَة امْرَأتَيْنِ شَهَادَة رجل وَاحِد، وفضلوا فِي الْمِيرَاث {وَبِمَا أَنْفقُوا من أَمْوَالهم} يَعْنِي: الصَّدقَات {فالصالحات} يَعْنِي: المحسنات إِلَى أَزوَاجهنَّ {قَانِتَاتٌ} أَي: مطيعات لِأَزْوَاجِهِنَّ {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} لغيب أَزوَاجهنَّ فِي فروجهن {بِمَا حفظ الله} أَي: بِحِفْظ الله إياهن. {وَاللَّاتِي تخافون نشوزهن} عصيانهن؛ يَعْنِي: تنشز على زَوجهَا؛ فَلَا تَدعه أَن يَغْشَاهَا {فَعِظُوهُنَّ واهجروهن فِي الْمضَاجِع واضربوهن} قَالَ قَتَادَة: ابدأ فعظها بالْقَوْل، فَإِن عَصَتْ فاهجرها؛ فَإِن عَصَتْ فاضربها ضربا غير شائن. {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} تَفْسِير الْكَلْبِيّ: يَقُولُ: فَإِن أطعنكم فِي الْجِمَاع، فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا؛ يَقُولُ: لَا تكلفوهن الْحبّ، فَإِنَّمَا جعلت الموعظة لَهُن وَالضَّرْب فِي المضجع لَيْسَ على الْحبّ، وَلَكِن على حَاجته إِلَيْهَا.(1/367)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
{وَإِن خِفْتُمْ} {علمْتُم} (شقَاق بَينهمَا} قَالَ الْحسن: يَقُولُ: إِن نشزت حتَّى(1/367)
تشاق زَوجهَا {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهله وَحكما من أَهلهَا} إِذَا نشزت، وَرفع ذَلِكَ إِلَى الإِمَام، بعث الإِمَام حكما من أهل الْمَرْأَة، وَحكما من أهل الرجل يصلحان بَينهمَا، ويجمعان وَلَا يفرقان، وَينْظرَانِ من أَيْن يَأْتِي الدرء، فَإِن اصطلحا فَهُوَ أَمر الله وَإِن أَبَيَا ذَلِكَ وأبت الْمَرْأَة إِلَّا نُشُوزًا وَقفهَا الإِمَام على النُّشُوز، فَإِن افتدت من زَوجهَا، فقد حل لَهُ أَن يخلعها. {إِن يريدا إصلاحا} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي: الْحكمَيْنِ {يُوَفِّقِ الله بَينهمَا} [آيَة 36 - 37](1/368)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
{واعبدوا الله} يَعْنِي: واحفظوا الله {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا} أَي: لَا تعدلوا بِهِ غَيره {وبالوالدين إحسانا} {وَالْجَار ذِي الْقُرْبَى} الَّذِي لَهُ قرَابَة {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} الْأَجْنَبِيّ الَّذِي لَيست لَهُ قرَابَة. {والصاحب بالجنب} يَعْنِي: الرفيق فِي السّفر، فِي تَفْسِير ابْن جُبَيْر. وَقَالَ غَيره: يَعْنِي: الْمَرْأَة.
قَالَ مُحَمَّد: وَقيل: فِي الْجَار الْجنب: إِنَّه الْغَرِيب، والجنابة فِي اللُّغَة:(1/368)
[الْبعد] : يُقَال: رجل جنب: [غَرِيب] .
يَحْيَى: عَنِ الْمُعَلَّى بْنِ هِلالٍ، عَنْ مُحَرَّرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْجِيرَانُ ثَلاثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلاثَةُ حُقُوقٍ؛ فَأَمَّا الْجَارُّ الَّذِي لَهُ ثَلاثَةُ حُقُوقٍ؛ فَالْجَارُ الْمُسْلِمُ ذُو الرَّحِمِ؛ فَلَهُ حَقُّ الإِسْلامِ، وَحَقُّ الرَّحِمِ، وَحَقُّ الْجِوَارِ. وَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقَّانِ: فَالْجَارُ الْمُسْلِمُ؛ لَهُ حَقُّ الإِسْلامِ، وَحَقُّ الْجِوَارِ، وَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ: فَالْجَارُ الْمُشْرِكُ؛ لَهُ حَقُّ الْجوَار)) .(1/369)
قَوْله: {وَابْن السَّبِيل} يَعْنِي: الضَّيْفَ.
يَحْيَى: عَنْ عُثْمَانِ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ؛ جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ: ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ، فَهُوَ صَدَقَةٌ)) .
قَوْله: {وَمَا ملكت أَيْمَانكُم} . (ل 65) يَحْيَى: عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَالِحٍ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ سَفِينَةَ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ آخِرُ قَوْلِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ: الصَّلاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، حَتَّى جَعَلَ [يُلَجْلِجُهَا] فِي صَدْرِهِ، وَمَا يَفِيضُ بِهِ لِسَانُهُ)) .(1/370)
يَحْيَى: عَنْ أَبِي الأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْمَمْلُوكُ أَخُوكَ، فَإِنْ عَجَزَ فَجُدْ مَعَهُ، مَنْ رَضِيَ مَمْلُوكَهُ فَلْيُمْسِكْهُ، وَمَنْ كَرِهَهُ فَلْيَبِعْهُ،(1/371)
وَلا تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللَّهِ)) .
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله فِي أول الْآيَة: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وبالوالدين إحسانا} الْمَعْنى: أوصاكم الله بِعِبَادَتِهِ، وأوصاكم بالوالدين إحسانا، وَكَذَلِكَ جَمِيع مَا ذكر الله فِي هَذِهِ الْآيَة، الْمَعْنى: أَحْسنُوا إِلَى هَؤُلاءِ كلهم.
قَوْله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ من كَانَ مختالا فخورا}
قَالَ مُحَمَّد: المختال: يَعْنِي: التَّيَّاه الجهول.(1/372)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضله} قَالَ الحَسَن: هم الْيَهُود؛ منعُوا حُقُوق الله فِي أَمْوَالهم، وكتموا مُحَمَّدًا؛ وهم يعلمُونَ أَنَّهُ رَسُول الله. [آيَة 38 - 42](1/372)
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
{وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخر} .
قَالَ بَعضهم: هم المُنَافِقُونَ.(1/372)
{وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا} [صاحبا] {فسَاء قرينا} فبئس القرين.
قَالَ مُحَمَّد: {سَاءَ قرينا} مَنْصُوب على التَّفْسِير.(1/373)
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)
{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ الله} يَعْنِي: الزَّكَاة الْوَاجِبَة {وَكَانَ اللَّهُ بهم عليما} أَي: عليما بِأَنَّهُم مشركون.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله {وماذا عَلَيْهِم} الْمَعْنى: أَي شَيْء عَلَيْهِم؟ .(1/373)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
{إِن الله لَا يظلم} لَا ينقص {مِثْقَال ذرة} أَي: وزن ذرة.
قَالَ مُحَمَّد: يُقَال: هَذَا على مِثْقَال هَذَا؛ أَي: على وَزنه. {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ} ويعط من عِنْده.
قَالَ مُحَمَّد: من قَرَأَ {حَسَنَةٌ} بِالرَّفْع، فَالْمَعْنى: وَإِن تحدث حَسَنَة.(1/373)
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أمة بِشَهِيد} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة يشْهد على قومه؛ أَنه قد بَلغهُمْ.
قَالَ مُحَمَّد: الْمَعْنى: فَكيف تكون حَالهم؟ ! وَهَذَا من الِاخْتِصَار. {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ} أَي: جحدوه {لَو تسوى بهم الأَرْض} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: لَو ساخوا فِيهَا.(1/373)
{وَلَا يكتمون الله حَدِيثا} تَفْسِير ابْن عَبَّاس: يَعْنِي بِهَذَا: جوارحهم. [آيَة 43 - 44](1/374)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُم سكارى} قَدْ مَضَى تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة فِي تَفْسِير: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخمر وَالْميسر}
قَوْله: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيل حَتَّى تغتسلوا} تَفْسِير ابْن عَبَّاس: هُوَ الْمُسَافِر إِن لم يجد المَاء تيَمّم وَصلى {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُم من الْغَائِط} قَالَ مُحَمَّد: الْغَائِط: الْحَدث، وأصل الْغَائِط: الْمَكَان المطمئن من الأَرْض؛ فَكَانُوا إِذَا أَرَادوا قَضَاء الْحَاجة، أَتَوا غائطا من الأَرْض، فَفَعَلُوا ذَلِك فِيهِ، فكنى عَن الحَدِيث بالغائط.
وقولُه: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} فِيهِ إِضْمَار: لَا تَسْتَطِيعُونَ [قرب] المَاء من الْعلَّة؛ ذكره إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق.(1/374)
{أَو لامستم النِّسَاء} الْمُلَامسَة فِي قَول عَليّ وَابْن عَبَّاس وَالْحسن: الْجِمَاع، وَكَانَ ابْن مَسْعُود يَقُولُ: هُوَ الْمس بِالْيَدِ، وَيرى مِنْهُ الْوضُوء. {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} أَي: تعمدوا تُرَابا نظيفا. {فَامْسَحُوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ} .
يَحْيَى: عَنِ الْمَعَلَّى، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: ((أَجْنَبْتُ وَأَنَا فِي الإِبِلِ فَتَمَعَّكْتُ فِي الرَّمْلِ؛ كَمَا تَتَمَعَّكُ الدَّابَّة، ثمَّ أتيت النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَقَدْ دَخَلَ الرَّمْلُ فِي رَأْسِي وَلِحْيَتِي فَأَخْبَرْتُهُ. فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ التَّيَمُّمُ. ثُمَّ ضَرَبَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَام بكفيه (ل 66) جَمِيعًا التُّرَابَ، ثُمَّ نَفَضَهُمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِوَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً. ثُمَّ قَالَ: كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَصْنَعَ هَكَذَا)) وَبِهِ يَأْخُذُ يَحْيَى.(1/375)
يَحْيَى: عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْجَرِيحُ وَالْمَجْدُورُ وَالْمَقْرُوحُ؛ إِذَا خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ، تَيَمَّمَ.(1/376)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا من الْكتاب} يَعْنِي: الْيَهُود {يشْتَرونَ الضَّلَالَة} أَي: يختارون {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيل} يَعْنِي: طَرِيق الْهدى [آيَة 45 - 47](1/377)
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن موَاضعه} قَالَ الْحسن: حرفوا كَلَام الله؛ وَهُوَ الَّذِي وضعُوا من قِبَلِ أنفسهم من الْكتاب، ثُمَّ ادعوا أَنَّهُ من كتاب الله {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} تَفْسِير الحَسَن: غير مسمع منا مَا تحب.
قَالَ مُحَمَّد: قيل فِي قَوْله: {غير مسمع} : كَانُوا يَقُولُونَهُ سرا فِي أنفسهم. {وراعنا ليا بألسنتهم} قد مضى تَفْسِير {رَاعنا} فِي سُورَةِ الْبَقْرَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: {ليا} أَصله: لَوْيًا؛ وَلَكِن الْوَاو أدغمت فِي الْيَاء؛ وَمَعْنَاهُ: التحريف؛ أَي: يحرفُونَ [رَاعنا إِلَى مَا] فِي قُلُوبهم من السب والطعن(1/377)
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم {وطعنا فِي الدّين} فِي الْإِسْلَام. {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سمعنَا وأطعنا واسمع وانظرنا} حَتَّى نتفهم. {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وأقوم} لأمرهم {وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤمنُونَ إِلَّا قَلِيلا} قَالَ قَتَادَة: قَلَّ من آمن من الْيَهُود.(1/378)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قبل أَن نطمس وُجُوهًا فنزدها على أدبارها} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: من قِبَل أقفائها {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَاب السبت} مسخ أَصْحَاب السبت قردة {وَكَانَ أَمر الله مَفْعُولا} أَي: إِذا أَرَادَ الله أمرا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ. [آيَة 48 - 52](1/378)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرك بِهِ} أَي: يعدل بِهِ غَيره {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}
يَحْيَى: عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: ((سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُوجِبَتَيْنِ؛ فَقَالَ: مَنْ مَاتَ (لَا) يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا(1/378)
دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّه شَيْئا دخل النَّار)) .(1/379)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أنفسهم} تَفْسِير قَتَادَة: هم الْيَهُود زكوا أنفسهم بِأَمْر لم يبلغوه؛ قَالُوا: نَحْنُ أَبنَاء الله وأحباؤه {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يظْلمُونَ ينقصُونَ (فتيلاً} الفتيل: مَا كَانَ فِي بطن النواة من لحائها.(1/379)
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
{انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِب} أَي: يختلقونه {وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبينًا} {بَينا}(1/379)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ والطاغوت} قَالَ مُجَاهِد: الجبت: الكاهن، والطاغوت: الشَّيْطَان. {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا} قَالَ الْكَلْبِيّ: هُمْ قوم من الْيَهُود أَتَوا مَكَّة فسألتهم قُرَيْش وأناس من غطفان؛ فَقَالَت قُرَيْش: نَحن نعمر هَذَا الْمَسْجِد، ونحجب هَذَا الْبَيْت، ونسقي الْحَاج؛ أفنحن أمثل أم مُحَمَّد وَأَصْحَابه؟ فَقَالَت الْيَهُود: بل أَنْتُم أمثل. فَقَالَ عُيَيْنَة بْن حصن وَأَصْحَابه الَّذِينَ مَعَه. أما قُرَيْش فقد عدوا مَا فيهم ففضلوا على مُحَمَّد وَأَصْحَابه. فناشدوهم أَنَحْنُ أهْدى أم مُحَمَّد وَأَصْحَابه؟ فَقَالُوا: لَا وَالله، بل أَنْتُم أهْدى؛(1/379)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
فَقَالَ الله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ الله} الْآيَة.
قَالَ مُحَمَّد: يَقُولُ: أُولَئِكَ الَّذِينَ باعدهم الله من رَحمته، واللعنة أَصْلهَا:(1/379)
المباعدة. [آيَة 53 - 57](1/380)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} النقير: النقرة تكون فِي ظهر النواة.
قَالَ مُحَمَّد: الْمَعْنى: أَنهم لَو أعْطوا الْملك، مَا أعْطوا النَّاس مِنْهُ النقير؛ والنقير هَا هُنَا تَمْثِيل.(1/380)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُم الله من فَضله} قَالَ الْكَلْبِيّ: النَّاس فِي هَذِهِ الْآيَة: النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم؛ قَالَت الْيَهُود: (ل 67) انْظُرُوا إِلَى هَذَا الَّذِي [لَا يشْبع] من الطَّعَام، [وَلَا] وَالله مَا لَهُ هم إِلَّا النِّسَاء حسدوه لِكَثْرَة نِسَائِهِ وعابوه بذلك؛ فَقَالُوا: لَو كَانَ نَبيا مَا رغب فِي كَثْرَة النِّسَاء؛ فأكذبهم الله، فَقَالَ: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ(1/380)
إِبْرَاهِيم الْكتاب وَالْحكمَة} يَعْنِي: النُّبُوَّة {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} فسليمان بْن دَاوُد من آل إِبْرَاهِيم، وَقد كَانَ عِنْد سُلَيْمَان ألف امْرَأَة، وَعند دَاوُد مائَة امْرَأَة، فَكيف يحسدونك يَا مُحَمَّد على تسع نسْوَة؟ !(1/381)
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
{فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ من صد عَنهُ} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي: الْيَهُود مِنْهُم من آمن بِمَا أنزل على مُحَمَّد، وَمِنْهُم من صد عَنْهُ؛ يَعْنِي: جحد بِهِ {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سعيراً} لمن صد عَنهُ.(1/381)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيرهَا}
قَالَ يحيى: بلغنَا أَنَّهَا تَأْكُل كل شَيْء حتَّى تَنْتَهِي إِلَى الْفُؤَاد؛ فَيَصِيح الْفُؤَاد فَلَا يُرِيد الله أَن تَأْكُل أفئدتهم؛ فَإِذا لم تَجِد شَيْئا تتَعَلَّق بِهِ مِنْهُم، خبت - أَي: سكنت - ثُمَّ يعادون خلقا جَدِيدا؛ فتأكلهم كلما أُعِيد خلقهمْ.(1/381)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
وَقَوله: {وندخلهم ظلا ظليلاً} قَالَ الْحسن: يَعْنِي: دَائِما. [آيَة 58 - 59](1/381)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
{أَنْ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهلهَا} الْآيَة. ((لما فتح رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، دَعَا عُثْمَان بْن طَلْحَة، فَقَالَ: أرنا الْمِفْتَاح، فَلَمَّا أَتَاهُ بِهِ قَالَ عَبَّاس. يَا رَسُول الله اجمعه لي مَعَ السِّقَايَة. فَكف عُثْمَان يَده؛ مَخَافَة أَن يَدْفَعهُ إِلَى الْعَبَّاس؛ فَقَالَ رَسُول الله: يَا عُثْمَان، إِن كنت تؤمن(1/381)
بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فأرنا الْمِفْتَاح، فَقَالَ: هاك فِي أَمَانَة الله؛ فَأَخذه رَسُول الله، فَفتح بَاب الْكَعْبَة، ثُمَّ دخل فأفسد مَا كَانَ فِي الْبَيْت من التماثيل، وَأخرج مقَام إِبْرَاهِيم فَوَضعه، حَيْثُ وَضعه، ثُمَّ طَاف بِالْكَعْبَةِ مرّة أَو مرَّتَيْنِ، وَنزل عَلَيْهِ جِبْرِيل يَأْمُرهُ برد الْمِفْتَاح إِلَى أَهله، فَدَعَا عُثْمَان، فَقَالَ: هاك الْمِفْتَاح؛ إِن الله يَقُولُ: وأدوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا. وَقَرَأَ الْآيَة كلهَا)) .(1/382)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} قَالَ الْكَلْبِيّ: هُمْ أُمَرَاء السَّرَايَا {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: إِلَى كتاب الله وَسنة رَسُوله {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأحسن تَأْوِيلا} يَعْنِي: عَاقِبَة فِي الْآخِرَة. [آيَة 60 - 63](1/382)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت} إِلَى قَوْله: {يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} قَالَ الْكَلْبِيّ: إِن رجلا من الْمُنَافِقين كَانَ بَينه وَبَين رجل من الْيَهُود خُصُومَة؛(1/382)
فَقَالَ الْيَهُودِيّ: انْطلق بِنَا إِلَى مُحَمَّد نَخْتَصِم إِلَيْهِ. وَقَالَ الْمُنَافِق: بل إِلَى كَعْب ابْن الْأَشْرَف؛ وَهُوَ الطاغوت هَا هُنَا.
قَالَ الْكَلْبِيّ: فَأبى الْمُنَافِق أَن يخاصمه إِلَى النَّبي، وأبى الْيَهُودِيّ إِلَّا أَن يخاصمه إِلَى النَّبي؛ فاختصما إِلَى النَّبي، فقضي لِلْيَهُودِيِّ، فَلَمَّا خرجا من عِنْده، قَالَ الْمُنَافِق: انْطلق بِنَا إِلَى عُمَر بْن الخَطَّاب أخاصمك إِلَيْهِ، فَأقبل مَعْهُ الْيَهُودِيّ؛ فدخلا على عمر، فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيّ: يَا عُمَر إِنِّي اختصمت أَنَا وَهَذَا الرجل إِلَى مُحَمَّد؛ فَقضى لي عَلَيْهِ، فَلم يرض هَذَا بِقَضَائِهِ، وَزعم أَنَّهُ يخاصمني إِلَيْك، فَقَالَ عُمَر لِلْمُنَافِقِ: أَكَذَلِك؟ قَالَ: نعم، فَقَالَ: رويدكما؛ حتَّى أخرج إلَيْكُمَا؛ فَدخل الْبَيْت فَاشْتَمَلَ على السَّيْف، ثُمَّ خرج إِلَى الْمُنَافِق فَضَربهُ حتَّى برد.(1/383)
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
{فَكيف إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة} قَالَ الْحسن: وَهَذَا كَلَام مُنْقَطع عَمَّا قبله وَعَما بعده؛ يَقُولُ: إِذا أَصَابَتْهُم؛ يَعْنِي: أَن يظهروا مَا فِي قُلُوبهم؛ فيقتلهم رَسُول الله. وَفِيه مضمار، والإضمار الَّذِي فِيهِ فَيَقُول: إِذَا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة، لم ينجهم مِنْهَا وَلم يغثهم، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْكَلَام الأول. إِلَى قَوْله: {يصدون عَنْك صدودا} (ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أردنَا إِلَّا إحساناً وتوفيقاً} أَي: إِن أردنَا إِلَّا الْخَيْر.(1/383)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
قَالَ الله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} مِنَ الشّرك والنفاق(1/383)
{فَأَعْرض عَنْهُم} فَلَا تقتلهم (ل 68) مَا جعلُوا يظهرون الْإِيمَان {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بليغا} يَقُولُ لَهُم: إِن أظهرتم مَا فِي قُلُوبكُمْ قتلتكم. [آيَة 64 - 65](1/384)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا ليطاع بِإِذن الله} قَالَ مُجَاهِد: وَاجِب للرسل أَن يطاعوا، وَلَا يطيعهم أحد إِلَّا بِإِذن الله.(1/384)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
{فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم} أَي: اخْتلفُوا فِيهِ {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قضيت} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي: شكا. [آيَة 66 - 70](1/384)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)
{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُم} قَالَ الْكَلْبِيّ: كَانَ رجال من الْمُؤمنِينَ وَرِجَال من الْيَهُود [جلوساٍ فَقَالَت الْيَهُود: لقد استتابنا الله من أَمر فتبنا إِلَيْهِ مِنْهُ، وَمَا كَانَ ليفعله أحد غَيرنَا [قتلنَا] أَنْفُسنَا فِي طَاعَة الله حتَّى رَضِي عَنَّا، فَقَالَ ثَابت بن(1/384)
قيس بْن شماس: إِن الله يعلم لَو أمرنَا مُحَمَّد أَن نقْتل أَنْفُسنَا لقتلت نَفسِي، فَأنْزل الله: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيل مِنْهُم} .
قَالَ مُحَمَّد: من قَرَأَ {إِلا قَلِيلٌ} فَالْمَعْنى: مَا فعله إِلَّا قَلِيل. {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} فِي الْعَاقِبَة. {وَأَشد تثبيتا} فِي الْعِصْمَة والمنعة من الشَّيْطَان.(1/385)
وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67)
{وَإِذا لآتيناهم من لدنا} {من عندنَا} (أجرا عَظِيما} يَعْنِي: الْجنَّة.(1/385)
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
{وَمَنْ يُطِعِ الله وَالرَّسُول} الْآيَة.
تَفْسِير قَتَادَة: ذكر لنا أَن رجَالًا قَالُوا: هَذَا نَبِي الله نرَاهُ فِي الدُّنْيَا، فَأَما فِي الْآخِرَة فيرفع بفضله فَلَا نرَاهُ؛ فَأنْزل الله هَذِهِ الْآيَة. [آيَة 71 - 74](1/385)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)
{فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} الثَّبَات: السَّرَايَا، والجميع: الزَّحْف.(1/385)
قَالَ مُحَمَّد: الثَّبَات: الْجَمَاعَات المفترقة، وَاحِدهَا: ثبة.(1/386)
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)
{وَإِن مِنْكُم لمن ليبطئن} عَنِ الْغَزْو وَالْجهَاد، فِي تَفْسِير الْحسن.
قَالَ مُحَمَّد: {ليبطئن} مَعْنَاهُ: يتَأَخَّر؛ يُقَال: أَبْطَأَ الرجل؛ إِذا تَأَخّر، وبطؤ إِذَا ثقل. {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} أَي: نكبة {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهم شَهِيدا} حَاضرا(1/386)
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
{وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ} يَعْنِي: الْغَنِيمَة {لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ يكن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} أَي: أصبت من الْغَنِيمَة؛ وَهَؤُلَاء المُنَافِقُونَ.
وَقَوله: {كَأَن لم يكن بَيْنكُم وَبَينه مَوَدَّة} فِيمَا يظْهر.
قَالَ مُحَمَّد: {فَأَفُوزَ} مَنْصُوب؛ على جَوَاب التَّمَنِّي بِالْفَاءِ.(1/386)
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يشرون الْحَيَاة الدُّنْيَا بِالآخِرَة} أَي: يبيعون. [آيَة 75](1/386)
[آيَة 76](1/387)
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
{وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيل الله وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} قَالَ الْحسن: يَعْنِي: وَعَن الْمُسْتَضْعَفِينَ من أهل مَكَّة من الْمُسلمين. {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِه الْقرْيَة الظَّالِم أَهلهَا} وهم مشركو أهل مَكَّة.
قَالَ مُحَمَّد: {الظَّالِم أَهلهَا} نعت للقرية. {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْك} من عنْدك {وَلِيًّا}(1/387)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
{الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله} أَي: فِي طَاعَة الله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} الشَّيْطَان {فَقَاتلُوا أَوْلِيَاء الشَّيْطَان} وهم الْمُشْركُونَ {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفا} أخْبرهُم أَنَّهُم يظهرون عَلَيْهِم؛ فِي تَفْسِير الْحسن. [آيَة 77 - 78](1/387)
[آيَة 79](1/388)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُم كفوا أَيْدِيكُم} الْآيَة. قَالَ الْكَلْبِيّ: كَانُوا مَعَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ قبل أَن يُهَاجر إِلَى الْمَدِينَة، وَكَانُوا يلقون من الْمُشْركين أَذَى كثيرا؛ فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلا تَأذن لنا فِي قتال (هَؤُلاءِ الْقَوْم) ؛ فَإِنَّهُم قد آونا؟ فَقَالَ لَهُم رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ؛ فَإِنِّي لَمْ أُؤْمَرْ بِقِتَالِهِمْ)) فَلَمَّا هَاجر رَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام و [سَار] ِإلى بدر عرفُوا أَنَّهُ الْقِتَال كَرهُوا، أَو بَعضهم.
(ل 69) قَالَ الله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ علينا الْقِتَال لَوْلَا} هلا {أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} إِلَى الْمَوْت.
قَالَ الله للنَّبِي: {قل مَتَاع الدُّنْيَا قَلِيل} أَي: إِنَّكُم على كل حَال ميتون، وَالْقَتْل خير لكم.(1/388)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
ثُمَّ أخْبرهُم - ليعزيهم ويصبرهم - فَقَالَ: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُم فِي بروج مشيدة} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: فِي قُصُور مُحصنَة.
قَالَ الحَسَن: ثُمَّ ذكر الْمُنَافِقين خَاصَّة فَقَالَ: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَة} النَّصْر وَالْغنيمَة {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} نكبة من الْعَدو {يَقُولُوا هَذِهِ من عنْدك} أَي: إنَّمَا أَصَابَنَا هَذَا عُقُوبَة مذ خرجت فِينَا؛ يتشاءمون بِهِ. {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} النَّصْر على الْأَعْدَاء والنكبة. {فَمَا لهَؤُلَاء الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}(1/388)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
{مَا أَصَابَك من حَسَنَة}(1/388)
[فظهرت بهَا على الْمُشْركين] {فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ} من نكبة نكبوا بهَا يَوْم أحد {فَمن نَفسك} أَي: بِذُنُوبِهِمْ، وَكَانَت عُقُوبَة من الله؛ بمعصيتهم رَسُول الله؛ حَيْثُ اتبعُوا المدبرين. [آيَة 80 - 82](1/389)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمن تولى} كفر {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} تحفظ عَلَيْهِم أَعْمَالهم؛ حَتَّى تجزيهم بهَا.(1/389)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
{وَيَقُولُونَ طَاعَة} يَعْنِي بِهِ: الْمُنَافِقين؛ يَقُولُونَ ذَلِكَ لرَسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام.
قَالَ مُحَمَّد: وَارْتَفَعت {طَاعَة} بِمَعْنى: أمرنَا طَاعَة. {فَإِذَا بَرَزُوا} خَرجُوا {مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُم} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي غيرت طَائِفَة مِنْهُمْ {غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يكْتب مَا يبيتُونَ} أَي: يغيرون
قَالَ مُحَمَّد: قِيلَ: الْمَعْنى: قَالُوا وقدروا لَيْلًا غير [مَا أتوك] نَهَارا، وَالْعرب تَقُولُ لكل مَا فُكِّر فِيهِ، أَو خِيضَ بلَيْل: قد بَيت، وَمن هَذَا قَول الشَّاعِر:
(أَتَوْنِي فَلم أَرض مَا بيتوا ... وَكَانُوا أَتَوْنِي لأمر نكر)(1/389)
قَوْله: {فَأَعْرض عَنْهُم} لَا تقتلهم، وَلَا تحكم عَلَيْهِم أَحْكَام الْمُشْركين؛ مَا كَانُوا إِذا لقوك أعطوك الطَّاعَة، وَلم يظهروا الشّرك. {وتوكل على الله} فَإِنَّهُ سيكفيكهم {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} لمن توكل عَلَيْهِ.(1/390)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
{أَفلا يتدبرون الْقُرْآن} يَقُولُ: لَو تدبروه، لم ينافقوا ولآمنوا. {وَلَو كَانَ} هَذَا الْقُرْآن {مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} تَفْسِير قَتَادَة: قَول الله لَا يخْتَلف هُوَ حق لَيْسَ فِيهِ بَاطِل، وَإِن قَول النَّاس يخْتَلف. [آيَة 83 - 84](1/390)
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَو الْخَوْف أذاعوا بِهِ}
قَالَ قَتَادَة: إِذا جَاءَهُم أَمر من الْأَمْن - أَي: من أَن إخْوَانهمْ آمنون ظاهرون - أَو الْخَوْف - يَعْنِي: الْقَتْل والهزيمة - أذاعوا بِهِ؛ أَي: أفشوه. {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم} أولي الْعلم مِنْهُم. {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يستنبطونه مِنْهُم} الَّذِينَ يفحصون عَنهُ، ويهمهم ذَلِكَ، يَقُولُ: إِذَا كَانُوا أعلم بِموضع الشُّكْر فِي النَّصْر والأمن، وَأعلم بالمكيدة فِي الْحَرْب.(1/390)
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتبعتم الشَّيْطَان إِلَّا قَلِيلا} فضل الله الْإِسْلَام، وَرَحمته الْقُرْآن.
قَالَ يحيى: قَوْله: {لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلا} فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير؛ يَقُولُ: لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم إِلَّا قَلِيلا وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ [إِلا قَلِيلا] .
قَالَ مُحَمَّد: قِيلَ: إِن هَذِهِ الْآيَة نزلت فِي جمَاعَة من الْمُنَافِقين، وضعفة من الْمُسلمين؛ كَانُوا إِذا أعلم النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُ ظَاهر على قوم، أَو إِذَا تجمع قوم يخَاف من جمع مثلهم - أذاع ذَلِكَ المُنَافِقُونَ؛ ليحذر من يحبونَ أَن يحذر من الْكفَّار، وليقوى قلب من يحبونَ أَن يقوى قلبه، وَكَانَ ضعفة الْمُسلمين يشيعون ذَلِكَ مَعَهم من غير علم مِنْهُم بِالضَّرَرِ فِي ذَلِكَ؛ فَقَالَ الله: {وَلَوْ ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول} الْآيَة.(1/391)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تكلّف إِلَّا نَفسك وحرض} (ل 70) أَي: أخْبرهُم بِحسن ثَوَاب الله فِي الْآخِرَة للشهداء. {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَعَسَى من الله وَاجِبَة {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسا} عذَابا {وَأَشد تنكيلا} عُقُوبَة. [آيَة 85 - 86](1/391)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نصيب مِنْهَا} أَي: حَظّ (وَمَنْ يَشْفَعْ(1/391)
شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} أَي: إِثْم.
قَالَ الْحسن: (والشفاعة الْحَسَنَة مَا يجوز} فِي الدّين أَن يشفع فِيهِ، (والشفاعة السَّيئَة مَا يحرم فِي الدّين أَن يشفع فِيهِ) . {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كل شَيْء مقيتاً} أَي: مقتدرا؛ فِي تَفْسِير الْكَلْبِيّ.
قَالَ مُحَمَّد: وَأنْشد بَعضهم:
(وَذي ضغن كَفَفْت النَّفس عَنْهُ ... وَكنت على مساءته مقيتا)(1/392)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
قَوْله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَن مِنْهَا أَو ردوهَا} التَّحِيَّة: السَّلَام، وَمعنى: {أحسن مِنْهَا} إِذَا قَالَ الرجل: السَّلام عَلَيْكُم، رد عَلَيْهِ: السَّلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله، وَإِذا قَالَ: السَّلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله رد عَلَيْهِ: السَّلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته.
وَمعنى: {أَو ردوهَا} أَي: ردوا عَلَيْهِ مثل مَا يسلم؛ وَهَذَا إِذا سلم عَلَيْك الْمُسلم. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كل شَيْء حسيباً} قَالَ مُحَمَّد: يَعْنِي: محاسبا؛ فِي قَول بَعضهم. [آيَة 87](1/392)
[آيَة 87 - 91](1/393)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا ريب فِيهِ} لَا شكّ فِيهِ {وَمَنْ أَصْدَقُ من الله حَدِيثا} أَي: لَا أحد أصدق مِنْهُ.(1/393)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} قَالَ مُحَمَّد: {فئتين} نصب على الْحَال الْمَعْنى: أَي شَيْء لكم فِي الِاخْتِلَاف فِي أَمرهم؟ {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} هُمْ قوم من الْمُنَافِقين كَانُوا بِالْمَدِينَةِ؛ فَخَرجُوا مِنْهَا إِلَى مَكَّة، ثُمَّ خَرجُوا من مَكَّة إِلَى الْيَمَامَة تجارًا فَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَام، وأظهروا مَا فِي قُلُوبهم من الشّرك، فَلَقِيَهُمْ الْمُسلمُونَ، فَكَانُوا فيهم (فئتين - أَي:)) فرْقَتَيْن - فَقَالَ بَعضهم: قد حلت دِمَاؤُهُمْ؛ هُمْ مشركون مرتدون،(1/393)
وَقَالَ بَعضهم: لم تحل دِمَاؤُهُمْ؛ هُمْ قوم عرضت لَهُم فتْنَة. فَقَالَ الله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقين فئتين} وَلَيْسَ يَعْنِي: أَنهم فِي تِلْكَ الْحَال الَّتِي أظهرُوا فِيهَا الشّرك مُنَافِقُونَ، وَلكنه نسبهم إِلَى (خبثهمْ} الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ مِمَّا فِي قُلُوبهم من النِّفَاق، يَقُولُ: قَالَ بَعْضكُم كَذَا، وَقَالَ بَعْضكُم كَذَا؛ [هلا] كُنْتُم فيهم فِئَة [وَاحِدَة] وَلم تختلفوا فِي قَتلهمْ؟ ثُمَّ قَالَ: {وَالله أركسهم بِمَا كسبوا} صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: ردهم إِلَى الشّرك بِمَا كَانَ فِي قُلُوبهم من الشَّك والنفاق. {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِد لَهُ سَبِيلا}(1/394)
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)
{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فتكونون سَوَاء} أَي: فِي الْكفْر شرعا سَوَاء {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُم أَوْلِيَاء} أَي: لَا توالوهم. {حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيل الله} فيرجعوا إِلَى الدَّار الَّتِي خَرجُوا مِنْهَا؛ يَعْنِي: الْمَدِينَة {فَإِنْ تَوَلَّوْا} وأبوا الْهِجْرَة {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}(1/394)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
ثُمَّ اسْتثْنِي قوما نهى عَنْ قِتَالهمْ؛ فقَالَ: {إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} قَالَ مُحَمَّد: يَعْنِي: إِلَّا من اتَّصل بِقوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق، ومعني (اتَّصل) : انتسب.
قَالَ يحيى: وَهَؤُلَاء بَنو مُدْلِج كَانَ بَينهم وَبَين قُرَيْش عهد، وَكَانَ بَين رَسُول الله وقريش عهد؛ فَحرم الله من بني مُدْلِج مَا حرم من قُرَيْش؛ وَهَذَا مَنْسُوخ(1/394)
نسخته الْآيَة {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} . {أَو جاءوكم حصرت صُدُورهمْ} أَي: كارهة صُدُورُهُمْ. {أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَومهمْ} الْآيَة. قَالَ مُحَمَّد: وتقرأ {حَصِرَةً صدروهم} أَي: ضَاقَتْ؛ الْحصْر فِي اللُّغَة: الضّيق.
قَوْله: {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لكم عَلَيْهِم سَبِيلا} يَعْنِي: حجَّة؛ وَهَذَا مَنْسُوخ أَيْضا؛ نسخته آيَة الْقِتَال.(1/395)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ ويأمنوا قَومهمْ} تَفْسِير مُجَاهِد: قَالَ [هُمْ] أنَاس من أهل مَكَّة؛ كَانُوا يأْتونَ النَّبي يسلمُونَ عَلَيْهِ رِيَاء، ثُمَّ يرجعُونَ إِلَى قُرَيْش يرتكسون فِي الْأَوْثَان يَبْتَغُونَ (بركتها، أَو يأمنوا} هَا هُنَا وَهَا هُنَا؛ فَأمروا (ل 71) بقتالهم؛ إِن لم يعتزلوا ويصلحوا. [آيَة 92](1/395)
[آيَة 92 - 93](1/396)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
{وَمَا كَانَ لمُؤْمِن} يَعْنِي: لَا يَنْبَغِي لمُؤْمِن {أَنْ يقتل مُؤمنا إِلَّا خطئا} أَي إِلَّا أَن يكون لَا يتَعَمَّد لقَتله. {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خطئا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهله} يَعْنِي: أهل الْقَتِيل {إِلا أَنْ يصدقُوا} يَعْنِي: إِلَّا أَن يصدق أهل الْقَتِيل؛ فيتجاوزوا عَنِ الدِّيَة. {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} قَالَ الْحسن: كَانَ الرجل يسلم وَقَومه حَرْب، فيقتله رجل من الْمُسلمين خطأ - فَفِيهِ تَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة [وَلَا دِيَة] لِقَوْمِهِ. {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وتحرير رَقَبَة مُؤمنَة} مَا كَانَ من عهد بَين الْمُسلمين وَبَين الْمُشْركين، أَو أهل الذِّمَّة؛ فَقتل رجل مِنْهُم - فَفِيهِ الدِّيَة لأوليائه، وَعتق رَقَبَة مُؤمنَة. {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابعين تَوْبَة من الله} تجاوزا من الله.
قَالَ مُحَمَّد: {تَوْبَة من الله} الْقِرَاءَة بِالْفَتْح؛ الْمَعْنى: فعل الله ذَلِك تَوْبَة مِنْهُ.(1/396)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا} الْآيَة.
قَالَ يحيى: بَلغنِي أَن عُمَر بْن الخَطَّاب قَالَ: لما أنزل الله الموجبات الَّتِي أوجب عَلَيْهَا النَّار؛ لمن عمل بهَا: وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا (أَو أشباه) ذَلِكَ كُنَّا نبث عَلَيْهِ الشَّهَادَة حتَّى نزلت هَذِهِ الْآيَة {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِك لمن يَشَاء} فَكَفَفْنَا عَنِ الشَّهَادَة.
يَحْيَى: عَنْ عَاصِمِ بْنِ حَكِيمٍ، (عَنْ خَالِدِ بن أبي كَرِيمَة، عَن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَيْسُورٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ) ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: ((لَا تُنْزِلُوا الْعَارِفِينَ الْمُحَدِّثِينَ الْجَنَّةَ وَلا النَّارَ، حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَقْضِي فِيهِمْ يَوْم الْقِيَامَة)) . [آيَة 94](1/397)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل الله} الْآيَة.
تَفْسِير قَتَادَة: هَذَا فِي شَأْن مرداس رجل من غطفان، ذكر لنا أَن نَبِيَّ الله بعث جَيْشًا عَلَيْهِم غَالب اللَّيْثِيّ إِلَى أهل فدك، وفيهَا نَاس من غطفان، وَكَانَ مرداس مِنْهُم ففر أَصْحَابه، وَقَالَ لَهُم مرداس: إِنِّي مُؤمن وَإِنِّي غير متابعكم؛ فصبحته الْخَيل غدْوَة، فَلَمَّا لقُوَّة سلم عَلَيْهِم، فَدَعَاهُ أَصْحَاب نَبِي الله؛(1/397)
فَقَتَلُوهُ، وَأخذُوا مَا كَانَ مَعْهُ من مَتَاع؛ فَأنْزل الله {يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لمن ألْقى إِلَيْكُم السّلم لست مُؤمنا} لِأَن تَحِيَّة الْمُؤمنِينَ السَّلام؛ بهَا يَتَعَارَفُونَ، ويلقى بَعضهم بَعْضًا. {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِم كَثِيرَة} يعطيكموها {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} أَي: ضلالا {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بِالْإِسْلَامِ.
قَالَ مُحَمَّد: وَمن قَرَأَ: {لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} فَالْمَعْنى: استسلم لكم. [آيَة 95 - 96](1/398)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم.
يَحْيَى: عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: ((لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ} وَلَمْ يَذْكُرِ الضَّرَرَ {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل الله} - جَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ إِلَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛(1/398)
فَقَالَ: أَنَا كَمَا تَرَى وَكَانَ أَعْمَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: ادْعُوا لِي زَيْدًا وَلْيَأْتِ بِاللَّوْحِ أَوِ الْكَتِفِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَر} .
قَالَ مُحَمَّد: الْقِرَاءَة {غَيْرَ} بِالْفَتْح؛ على معنى: الِاسْتِثْنَاء. {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} يَعْنِي: الْجنَّة. وَهَذِه نزلت بَعْدَمَا صَار الْجِهَاد تَطَوّعا.
قَالَ: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} الْآيَة.(1/399)
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
قَالَ مُحَمَّد: {دَرَجَات} نصب على الْبَدَل، من قَوْله: {أجرا عَظِيما}
يَحْيَى: (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مَكْحُولٍ) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ((إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمِائَةَ دَرَجَةٍ، بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، وَلَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، وَلا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، (ل 72) وَلا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا بَعْدِي، مَا قَعَدْتُ خِلافَ سَرِيَّةٍ تغزوا،(1/399)
ولوددت أَنِّي أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أَحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلَ ثُمَّ أَحْيَا ثمَّ أقتل)) . [آيَة 97 - 101](1/400)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أنفسهم قَالُوا فيمَ كُنْتُم} قَالَت لَهُم الْمَلَائِكَة: فيمَ كُنْتُم؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} يَعْنِي: مقهورين فِي أَرض مَكَّة {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَة فتهاجروا فِيهَا} أَي: إِلَيْهَا. تَفْسِير قَتَادَة: قَالَ: هَؤُلاءِ قوم كَانُوا بِمَكَّة تكلمُوا بِالْإِسْلَامِ؛ فَلَمَّا خرج أَبُو جهل وَأَصْحَابه، خَرجُوا مَعْهُ؛ فَقتلُوا يَوْم بدر، وَاعْتَذَرُوا [بالأعذار] ، فَأبى الله أَن يقبل ذَلِك مِنْهُم،(1/400)
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)
ثُمَّ عذر الله الَّذِينَ بِمَكَّة واستثناهم، فَقَالَ: (إِلا(1/400)
الْمُسْتَضْعَفِينَ من الرِّجَال وَالنِّسَاء والوالدان لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة} أَي: لَا قُوَّة لَهُم فَيخْرجُونَ من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة {وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} لَا يعْرفُونَ طَرِيقا إِلَى الْمَدِينَة.(1/401)
فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
{فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُم} و {عَسى} من الله وَاجِبَة.(1/401)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وسعة} أَي: مُهَاجرا فيهاجر إِلَيْهِ.
قَالَ مُحَمَّد: المراغم وَالْمُهَاجِر وَاحِد؛ يُقَال: راغمت وَهَاجَرت، وَأَصله: أَن الرجل إِذا أسلم خرج عَنْ قومه مراغما لَهُم؛ أَي: مغاضبا مقاطعا. {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُوله} الْآيَة.
يَحْيَى: عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ قَالَ: ((سَمِعَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ؛ أَنَّ بَنِي كِنَانَةَ قَدْ ضَرَبَتِ الْمَلائِكَةُ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدْ أَدْنَفَ لِلْمَوْتِ، فَقَالَ: أَخْرِجُونِي إِلَى النَّبِيِّ. فَوُجِّهَ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ فَانْتَهَى إِلَى عَقَبَةٍ سَمَّاهَا فَتُوُفِّيَ بِهَا؛ فَأَنْزَلَ الله فِيهِ هَذِه الْآيَة)) .(1/401)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ} أَن يقتلكم {الَّذين كفرُوا} هَذَا قصر صَلَاة الْخَوْف. [آيَة 102 - 104](1/401)
[آيَة 102 - 104](1/402)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاة} قَالَ مُجَاهِد: ((إِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَأَصحابه كَانُوا بعسفان، وَالْمُشْرِكُونَ بضجنان فتواقفوا فصلى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام بِأَصْحَابِهِ الظّهْر أَرْبعا؛ ركوعهم وسجودهم وقيامهم مَعًا، فهم بهم الْمُشْركُونَ أَن (يُغيرُوا) على أمتعتهم وأثقالهم، فَأنْزل الله {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فأقمت لَهُم الصَّلَاة} الْآيَة) .
قَوْله: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركُمْ} أَي: يضعون أسلحتهم وهم (يحذرون} .
قَالَ مُحَمَّد: ذكر يحيى سُنة صَلَاة الْخَوْف، وَنقل فِيهَا اخْتِلَافا؛ فاختصرت ذَلِكَ؛ إِذْ لَهُ مَوْضِعه من كتب الْفِقْه.(1/402)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} يَعْنِي: بِاللِّسَانِ (قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى(1/402)
جنوبكم} تَفْسِير قَتَادَة: افْترض الله ذكره عِنْد الْقِتَال {فَإِذا اطمأننتم} يَعْنِي: فِي أمصاركم. {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} يَقُولُ: فَأتمُّوا الصَّلَاة {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أَي: مَفْرُوضًا(1/403)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
{وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} أَي: لَا تضعفوا فِي طَلَبهمْ {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تألمون} يَعْنِي: وجع الْجراح {وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لَا يرجون} أَي: من ثَوَابه مَا لَا يَرْجُو الْمُشْركُونَ، يرغبهم بذلك فِي الْجِهَاد. [آيَة 105 - 106](1/403)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله} فِي الْوَحْي {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خصيماً} تَفْسِير الحَسَن: ((أَن رجلا من الْأَنْصَار سرق درعا فاتهم عَلَيْهَا حتَّى فَشَتْ القالة؛ أَنَّهُ سرق الدرْع؛ فَانْطَلق فاستودعها رجلا من الْيَهُود، ثُمَّ أَتَى قومه، فَقَالَ: ألم تروا إِلَى هَؤُلاءِ الَّذِينَ اتهموني على الدرْع؛ فوَاللَّه مَا زلت أطلب وأبحث حتَّى وَجدتهَا عِنْد فلَان الْيَهُودِيّ؛ فَأتوا الْيَهُودِيّ فوجدوا عِنْده الدرْع، (ل 73) فَقَالَ: وَالله مَا سرقتها، إنَّمَا استودعنيها ثُمَّ قَالَ الْأنْصَارِيّ لِقَوْمِهِ: انْطَلقُوا إِلَى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَقولُوا لَهُ، فَليخْرجْ فليعذرني، فَتسقط عني القالة، فَأتى قومه رَسُول الله فَقَالُوا: يَا رَسُول االله، اخْرُج فاعذر فلَانا، حتَّى تسْقط عَنْه القالة، فَأَرَادَ رَسُول الله أَن يفعل، فَأنْزل الله: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا(1/403)
تكن للخائنين خصيماً} أَي: أَن الْأنْصَارِيّ هُوَ سَرَقهَا؛ فَلَا تعذرنه،(1/404)
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
واستغفر الله مِمَّا كنت هَمَمْت بِهِ أَن تعذره. [آيَة 107 - 113](1/404)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
{وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ} أَي: أَن الْأنْصَارِيّ [سَرَقهَا أَي] خانها، والأنصاري: طعمة بْن أُبَيْرِق وَكَانَ منافقاً)) .(1/404)
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ من الله} {أَي: يستحيون من النَّاس، وَلَا يستحيون من الله} .(1/404)
{وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يرضى من القَوْل} يَعْنِي: مَا قَالَ الْأنْصَارِيّ: إِن الْيَهُودِيّ سَرَقهَا.(1/405)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
ثُمَّ أقبل على قوم الْأنْصَارِيّ فَقَالَ: {هَا أَنْتُم هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِم وَكيلا} أَي: حفيظا لأعمالهم؛ فِي تَفْسِير الْحسن(1/405)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
(قَالَ الْحسن) : ثُمَّ استتابه الله، فَقَالَ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفسه} إِلَى قَوْله: {عَلِيمًا حَكِيمًا} .(1/405)
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثمَّ يرم بِهِ بَرِيئًا} أَي: [مَا رمي بِهِ] الْيَهُودِيّ وَهُوَ مِنْهَا بَرِيء {فَقَدِ احْتَمَلَ بهتانا} كذبا {وإثما مُبينًا} بَينا،(1/405)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
قَالَ الحَسَن: ثُمَّ قَالَ لنَبيه عَلَيْهِ السَّلَام: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} فِيمَا أَرَادوا من النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يعْذر عَنْ صَاحبهمْ {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أنفسهم} أَي: حِين جَاءُوا إِلَيْك لتعذره {وَمَا يضرونك} ينقصونك {من شَيْء} .
قَالَ مُحَمَّد: قِيلَ: إِن الْمَعْنى فِي قَوْله: {أَن يضلوك} أَي: أَن يخطئوك فِي حكمك، وَمَا يضلون إِلَّا أنفسهم، لأَنهم يعْملُونَ عمل الضَّالّين، وَالله يعْصم نبيه من متابعتهم. [آيَة 114](1/405)
[آيَة 115 - 116](1/406)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجوَاهُمْ} يَعْنِي: قوم الْأنْصَارِيّ {إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاح بَين النَّاس}(1/406)
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
قَالَ الحَسَن: فَلَمَّا أنزل الله فِي الْأنْصَارِيّ مَا أنزل استحيا أَن يُقيم بَين ظهراني الْمُسلمين، فلحق بالمشركين؛ فَأنْزل الله: {وَمَنْ يُشَاقق الرَّسُول} أَي: يُفَارق {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيل الْمُؤمنِينَ} يَعْنِي: غير دين الْمُؤمنِينَ {نُوَلِّهِ مَا تولى}(1/406)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
قَالَ الْحسن: ثُمَّ استتابه الله، فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرك بِهِ} الْآيَة. فَلَمَّا نزلت هَذِهِ الْآيَة رَجَعَ إِلَى الْمُسلمين. [آيَة 117 - 121](1/406)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا} قَالَ الحَسَن: يَعْنِي: إِلَّا أَمْوَاتًا.
قَالَ يحيى: كَقَوْلِه: {أَمُوت غير أَحيَاء} يَعْنِي: أصنامهم.
قَالَ مُحَمَّد: وَقيل: الْمَعْنى: إِلَّا مَا سموهُ بأسماء الْإِنَاث؛ مثل اللات والعزى وَمَنَاة.(1/406)
{وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا} قَالَ الحَسَن: أَي: إِن تِلْكَ الْأَوْثَان لم تَدعهُمْ إِلَى عبادتها، إنَّمَا دعاهم إِلَى عبادتها الشَّيْطَان.
قَالَ مُحَمَّد: المريد: العاتي؛ يُقَال: مُرِيد ومارد.(1/407)
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)
قَوْله تعالي: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ} يَعْنِي: إِبْلِيس {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبا مَفْرُوضًا} .
وَقَالَ مُحَمَّد: الْمَعْنى: أفترضه لنَفْسي.(1/407)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)
{ولأضلنهم} لأغوينهم {ولأمنينهم} أَي: بِأَنَّهُم لَا عَذَاب عَلَيْهِم {ولآمرنهم فليبتكن آذان الْأَنْعَام} هِيَ: الْبحيرَة؛ كَانُوا يقطعون أَطْرَاف آذانها ويحرمونها. {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الخصاء.
وَقَالَ الحَسَن: هُوَ مَا تَشِمُ النِّسَاء فِي أيديها ووجوهها؛ كَانَ نسَاء أهل الْجَاهِلِيَّة يفعلن ذَلِكَ.(1/407)
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
{وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا محيصا} ملْجأ. [آيَة 122](1/407)
[آيَة 123 - 126](1/408)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
{وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ من الله قيلا} أَي: لَا أحد.(1/408)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكتاب} (ل 74) قَالَ الْحَسَن: قَالَت الْيَهُود للْمُؤْمِنين: كتَابنَا قبل كتابكُمْ، وَنَبِينَا قبل نَبِيكُم، [وَكِتَابنَا القَاضِي على مَا قبله من الْكتب] وَنحن أهْدى مِنْكُم قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: كَذبْتُمْ، إِنَّا صدقنا بِكِتَابِكُمْ ونبيكم، وكذبتم بكتابنا وَنَبِينَا، وَكِتَابنَا القَاضِي على مَا قبله من [الْكتب] .
قَالَ مُحَمَّد: الْمَعْنى: لَيْسَ ثَوَاب الله - عزَّ وجلَّ - بأمانيكم، وَلَا أماني أهل الْكِتَابِ. {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}
يَحْيَى: عَنِ الْمُعَلَّى بْنِ هِلالٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَن أبي بكر ابْن زُهَيْرٍ ((أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ الصَّلاحُ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام: أَيَّةُ آيَةٍ؟ قَالَ: قَوْلُ اللَّهِ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} فَكُلُّ سُوءٍ عَمِلْنَاهُ نُجْزَى بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ تَمْرَضُ؟ أَلَيْسَ تَحْزَنُ؟ أَلَيْسَ تَنْصَبُ؟ أَلَيْسَ تُصِيبُكَ(1/408)
اللأْوَاءُ؛ يَعْنِي: الأَوْجَاعَ وَالأَمْرَاضَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَهُوَ مِمَّا تُجْزَوْنَ بِهِ)) .(1/409)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجهه لله} أَي: أخْلص {وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا} أَي: لَا أحد أحسن دينا مِنْهُ.
قَالَ الْكَلْبِيّ: لما قَالَت الْيَهُود للْمُؤْمِنين: كتَابنَا قبل كتابكُمْ، وَنَبِينَا قبل نَبِيكُم، وَقَالَ لَهُم الْمُؤْمِنُونَ مَا قَالُوا؛ فَأنْزل الله: {لَيْسَ بأمانيكم} إِلَى قَوْله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} ففضل الله الْمُؤمنِينَ على الْيَهُود.
قَالَ مُحَمَّد: تَفْسِير بَعضهم: الْخَلِيل هُوَ من بَاب الْخلَّة والمحبة الَّتِي لَا خلل فِيهَا. [آيَة 127](1/409)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
{ويستفتونك فِي النِّسَاء} قَالَ الْكَلْبِيّ: ((سُئِلَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [مَا لَهُنَّ] من الْمِيرَاث، فَأنْزل الله الرّبع وَالثمن)) . {قُلِ اللَّهُ يفتيكم فِيهِنَّ} إِلَى قَوْله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} أَي: عَنْ أَن تنكحوهن.
يَحْيَى: عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ، عَن عَليّ ابْن أَبِي طَالِبٍ ((أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكتاب} الآيَةِ، قَالَ: تَكُونُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ الرَّجُلِ بِنْتُ عَمِّهِ يَتِيمَةً فِي حِجْرِهِ، وَلَهَا مَالٌ فَلا يَتَزَوَّجَهَا لِذَمَامَتِهَا، وَلَكِنْ يَحْبِسُهَا حَتَّى يَرِثَهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ)) .
وقولُه: {لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كتب لَهُنَّ} يَعْنِي: ميراثهن.
وقولُه: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْولدَان} يَقُول: يفتيكم فِيهِنَّ، وَفِي الْمُسْتَضْعَفِينَ من الْولدَان؛ أَلا تَأْكُلُوا [من] أَمْوَالهم.
قَالَ قَتَادَة: وَكَانُوا لَا يورثون الصَّغِير، وَإِنَّمَا كَانُوا يورثون من يحترف، وينفع وَيدْفَع. {وَأَنْ تقوموا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} وَهُوَ تبع للْكَلَام الأول، قل الله يفتيكم فِيهِنَّ، وَفِي يتامى النِّسَاء، وَفِي الْمُسْتَضْعَفِينَ من الْولدَان، وَفِي أَن تقوموا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ.(1/410)
[آيَة 128 - 130](1/411)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
{وَإِن امْرَأَة خَافت} يَعْنِي: علمت {من بَعْلهَا} يَعْنِي: زَوجهَا {نُشُوزًا} يَعْنِي: بغضا {أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جنَاح} لَا حرج. {عَلَيْهِمَا أَن يصالحا بَينهمَا صلحا وَالصُّلْح خير} الْآيَة، قَالَ بَعضهم: هِيَ الْمَرْأَة تكون عِنْد الرجل فتكبر فَلَا تَلد، فيريد أَن يتَزَوَّج عَلَيْهَا أشب مِنْهَا، ويؤثرها على الْكَبِيرَة، فَيَقُول لَهَا: إِن رضيت أَن أوثرها عَلَيْك وَإِلَّا طَلقتك، أَو يُعْطِيهَا من مَاله على أَن ترْضى أَن يُؤثر عَلَيْهَا الشَّابَّة.
وقولُه: {وأحضرت الْأَنْفس الشُّح} أَي: شحت بنصيبها من زَوجهَا لِلْأُخْرَى؛ فَلم ترض. {وَإِنْ تُحْسِنُوا} [الْفِعْل] {وتتقوا} الْميل والجور فِيهِنَّ {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} .(1/411)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاء} فِي الْحبّ {وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تميلوا كل الْميل} قَالَ الحَسَن: فتأتي وَاحِدَة، وَتَدَع الْأُخْرَى {فتذروها كالمعلقة}(1/411)
قَالَ الحَسَن: لَا أيم، وَلَا ذَات بعل. {وَإِن تصلحوا} الْفِعْل فِي أمرهن {وتتقوا} الْميل والجور فِيهِنَّ {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رحِيما} .(1/412)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
قَوْله: {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} أَي: وَاسِعًا لَهما فِي الرزق (ل 75) حكيماً فِي أمره. [آيَة 131 - 134](1/412)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)
قَوْله: {وَكفى بِاللَّه وَكيلا} لمن توكل عَلَيْهِ.(1/412)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} [أَي: يذهبكم] بِعَذَاب الاستئصال. {وَيَأْتِي بِآخَرين} [بِقوم] يطيعونه.(1/412)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} يَعْنِي: ثَوَاب الْآخِرَة لمن أَرَادَ الْآخِرَة.
هُوَ كَقَوْلِه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} إِلَى قَوْله: {كَانَ سَعْيهمْ مشكورا} .(1/412)
[آيَة 135 - 136](1/413)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} إِلَى قَوْله: {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} يَقُولُ: اشْهَدُوا على أَنفسكُم وعَلى أَبْنَائِكُم [وعَلى آبائكم] وأمهاتكم وقراباتكم؛ أَغْنِيَاء كَانُوا أَو فُقَرَاء {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أولى بهما} أَي: أولى بغناه وَفَقره مِنْكُم.
قَالَ قَتَادَة: يَقُولُ: لَا يمنعنك غنى غَنِي، وَلَا فقر فَقير أَن تشهد عَلَيْهِ بِمَا تعلم. {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} (فتدعوا) الشَّهَادَة. {وَإِن تلووا} أَلْسِنَتكُم فتحرفوا الشَّهَادَة {أَوْ تُعْرِضُوا} فَلَا تشهدوا بهَا {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}(1/413)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} .
قَالَ الْكَلْبِيّ: خَاطب بِهَذَا من آمن من أهل الْكتاب؛ وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا عِنْد إسْلَامهمْ: أنؤمن بِكِتَاب مُحَمَّد، ونكفر بِمَا سواهُ؟ !
فَقَالَ الله: {قل آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نزل على رَسُوله} الْآيَة.(1/413)
[آيَة 137 - 140](1/414)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} الْآيَة، هُمْ أهل الْكِتَابَيْنِ، فِي تَفْسِير قَتَادَة. قَالَ: آمَنت الْيَهُود بِالتَّوْرَاةِ، ثُمَّ كفرت بهَا - يَعْنِي: مَا حرفوا مِنْهَا - وَآمَنت النَّصَارَى بالإنجيل ثُمَّ كفرت بِهِ - يَعْنِي: مَا حرفوا مِنْهُ. {ثُمَّ ازْدَادُوا} كلهم {كُفْرًا} بِالْقُرْآنِ {لَمْ يَكُنِ الله ليغفر لَهُم} قَالَ الحَسَن: يَعْنِي: من مَاتَ مِنْهُم على كفره. {وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا} أَي: سَبِيل هدى؛ يَعْنِي: الْأَحْيَاء، وَأَرَادَ بِهَذَا عامتهم، وَقد تسلم الْخَاصَّة مِنْهُم. {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُم عذَابا أَلِيمًا}(1/414)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دون الْمُؤمنِينَ} كَانُوا يتولون الْيَهُود، وَقد أظهرُوا الْإِيمَان. {أيبتغون عِنْد الله الْعِزَّة} أَي: أيريدون بهم الْعِزَّة؟ !(1/414)
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيث غَيره} يَعْنِي: مَا أنزل فِي سُورَة الْأَنْعَام: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا فَأَعْرض عَنْهُم} الْآيَة.(1/414)
[آيَة 141 - 143](1/415)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
{الَّذين يتربصون بكم} هم المُنَافِقُونَ؛ كَانُوا يتربصون برَسُول الله وَبِالْمُؤْمِنِينَ {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فتح من الله} نصر وغنيمة {قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} . {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} نكبة على الْمُؤمنِينَ {قَالُوا} للْكَافِرِينَ. {ألم نستحوذ عَلَيْكُم} أَي: ندين بدينكم {وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤمنِينَ} يعنون: من آمن بِمُحَمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: كُنَّا لكم عيُونا نأتيكم بأخبارهم، ونعينكم عَلَيْهِم؛ وَكَانَ ذَلِكَ فِي السِّرّ. قَالَ الله: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْم الْقِيَامَة} فَيجْعَل الْمُؤمنِينَ فِي الْجنَّة، وَيجْعَل الْكَافرين فِي النَّار. {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} أَي: حجَّة فِي الْآخِرَة.(1/415)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
{إِن الْمُنَافِقين يخادعون الله} بقَوْلهمْ: {إِذا لقوا الَّذين ءامنوا قَالُوا ءامنا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعكُمْ} وَهُوَ خداعهم.
قَالَ مُحَمَّد: يجازيهم جَزَاء الخداع. {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كسَالَى} عَنْهَا {يراءون النَّاس} يظهرون مَا(1/415)
لَيْسَ فِي قُلُوبهم. {وَلا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلا} قَالَ الحَسَن: إنَّمَا قل؛ لأنَّه كَانَ لغير الله.(1/416)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} قَالَ قَتَادَة: (ل 76) لَيْسُوا بمؤمنين مُخلصين، وَلَا بمشركين مصرحين {وَمن يضلل الله} عَنِ الْهدى {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا} يَعْنِي: سَبِيل هدى. [آيَة 144 - 147](1/416)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ} يَقُولُ: لَا تَفعلُوا كَفعل الْمُنَافِقين؛ اتَّخذُوا الْمُشْركين أَوْلِيَاء من دون الْمُؤْمِنِينَ {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُم سُلْطَانا مُبينًا} قَالَ ابْن عَبَّاس: حجَّة بَيِّنَة.(1/416)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ من النَّار} وَهُوَ الْبَاب السَّابِع الْأَسْفَل.(1/416)
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شكرتم وآمنتم} أَي: أَن الله غَنِي لَا يعذب شاكراً وَلَا مُؤمنا. [آيَة 148 - 149](1/416)
[آيَة 150 - 151](1/417)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ} قَالَ قَتَادَة: عذر الله الْمَظْلُوم أَن يَدْعُو. وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ الضَّيْف ينزل فيحول رَحْله، فَيَقُول: فعل الله بِهِ، لم ينزلني!(1/417)
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
{إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَو تعفوا عَن سوء} الْآيَة هُوَ كَقَوْلِه: {إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يُعلمهُ الله} .(1/417)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُله} قَالَ قَتَادَة: هم الْيَهُود وَالنَّصَارَى؛ آمَنت الْيَهُود بِالتَّوْرَاةِ وبموسى، وَكَفرُوا بالإنجيل وَعِيسَى، وَآمَنت النَّصَارَى بالإنجيل وَعِيسَى، وَكَفرُوا بِالْقُرْآنِ وَمُحَمّد - عَلَى جَمِيعهم السَّلام. {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَين ذَلِك سَبِيلا} قَالَ السّديّ: يَعْنِي: دينا. قَالَ الله: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} الْآيَة. [آيَة 152 - 153](1/417)
[آيَة 154](1/418)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يفرقُوا بَين أحد مِنْهُم} هُوَ كَقَوْلِه: {قُولُوا ءامنا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيم} الْآيَة.(1/418)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِم كتابا من السَّمَاء} أَي: خَاصَّة عَلَيْهِم {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أرنا الله جهرة} أَي: عيَانًا {وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبينًا} حجَّة (بَيِّنَة) .(1/418)
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
{ورفعنا فَوْقهم الطّور بميثاقهم} الْآيَة، فقد مضى تَفْسِيره فِي سُورَة الْبَقَرَة. [آيَة 155 - 159](1/418)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
{فبمَا نقضهم ميثاقهم} أَي: فبنقضهم ميثاقهم، و (مَا) صلَة.(1/418)
{وَقَوْلهمْ قُلُوبنَا غلف} قد مضى تَفْسِيره.
قَالَ الله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤمنُونَ إِلَّا قَلِيلا} قَالَ قَتَادَة: قَلَّ من آمن من الْيَهُود.(1/419)
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)
{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيما} هُوَ مَا قذفوا بِهِ مَرْيَم.(1/419)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْن مَرْيَم} (مسح) بِالْبركَةِ. {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صلبوه وَلَكِن شبه لَهُم} قَالَ قَتَادَة: ذكر لنا أَن عِيسَى قَالَ لأَصْحَابه: أَيّكُم يقذف عَلَيْهِ شبهي؛ فَإِنَّهُ مقتول؟ قَالَ رجل من أَصْحَابه: أَنَا يَا رَسُول الله. فَقتل ذَلِكَ الرجل، وَمنع الله نبيه (وَرَفعه إِلَيْهِ) . {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ من علم} كَانَ بَعضهم يَقُولُ: هم النَّصَارَى، اخْتلفُوا فِيهِ فصاروا ثَلَاث فرق.
قَالَ الله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا} (أَي: مَا قتلوا ظنهم يَقِينا) {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}(1/419)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا ليُؤْمِنن بِهِ قبل مَوته} قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: قبل موت عِيسَى إِذَا نزل.
وَقَالَ السّديّ: يَقُولُ لَا يَمُوت مِنْهُم أحد حتَّى يُؤمن بِعِيسَى؛ أَنَّهُ عَبْد الله وَرَسُوله، فَلَا يَنْفَعهُ ذَلِكَ عِنْد مُعَاينَة ملك الْمَوْت.(1/419)
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} أَي: يشْهد عَلَيْهِم؛ أَنَّهُ قد بلغ رِسَالَة ربه، وَأقر بالعبودية على نَفسه. [آيَة 160 - 162](1/420)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيل الله كثيرا} قَالَ مُجَاهِد: صدوا أنفسهم وَغَيرهم.(1/420)
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاة والمؤتون الزَّكَاة} قَالَ قَتَادَة: اسْتثْنى الله مِنْهُم من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَمَا أنزل عَلَيْهِم، وَمَا أنزل على نَبِيَّ الله.
قَالَ مُحَمَّد: اخْتلف (ل 77) القَوْل فِي إِعْرَاب {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} فَقَالَ بَعضهم: الْمَعْنى: يُؤمنُونَ بِمَا أنزل إِلَيْك، وبالمقيمين الصَّلَاة؛ أَي: ويؤمنون بالنبيين المقيمين الصَّلَاة.
وَقَالَ بَعضهم: الْمَعْنى: وَاذْكُر المقيمين الصَّلَاة، وهم المؤتون الزَّكَاة.(1/420)
[آيَة 163 - 165](1/421)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وأوحينا إِلَى إِبْرَاهِيم} أَي: وكما أَوْحَينَا إِلَى إِبْرَاهِيم {وَإِسْمَاعِيل} إِلَى قَوْله: {والأسباط} والأسباط: يُوسُف وَإِخْوَته. {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} يَعْنِي: كتابا؛ وَكَانَ دَاوُد بَين مُوسَى وَعِيسَى، وَلَيْسَ فِي الزبُور حَلَال وَلَا حرَام، وَإِنَّمَا هُوَ تحميد وتمجيد وتعظيم لله.(1/421)
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
{وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قبل} قَالَ مُحَمَّد: الْمَعْنى: وَأَرْسَلْنَا رسلًا قد قصصناهم عَلَيْك {وَرُسُلا لَمْ نقصصهم عَلَيْك}
قَالَ يحيى: قَالَ بَعضهم: ((قِيلَ: يَا رَسُول الله، كم المُرْسَلُونَ؟ قَالَ: ثَلَاثمِائَة وَبضْعَة عشر رجلا جَمَّاءَ الْغَفِيرِ. قِيلَ: أَكَانَ آدم نَبيا مكلما أَو غير مُكَلم؟ قَالَ: بل كَانَ نَبيا مكلما)) .(1/421)
قَالَ مُحَمَّد: يُقَال: جَاءَ الْقَوْم جما غفيرا، أَو جماء الْغَفِير - إِضَافَة - أَي:(1/422)
كلهم بلفهم ولفيفهم.(1/423)
{وكلم الله مُوسَى تكليما} أَي: كلَاما من غير وَحي.(1/424)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
{مبشرين ومنذرين} يَعْنِي: مبشرين بِالْجنَّةِ، ومنذرين بالنَّار. [آيَة 166 - 170](1/424)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْك} يَعْنِي: الْقُرْآن {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يشْهدُونَ} أَنَّهُ أنزلهُ إِلَيْك. {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدا} قَالَ مُحَمَّد: الْمَعْنى: وَكفى الله شَهِيدا، وَالْبَاء مُؤَكدَة.(1/424)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168)
{إِن الَّذين كفرُوا وظلموا} أَي: أنفسهم. {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ ليغفر لَهُم} يَعْنِي: إِذَا مَاتُوا على كفرهم {وَلَا ليهديهم طَرِيقا} أَي: طَرِيق هدى؛ يَعْنِي: الْعَامَّة من أحيائهم. [آيَة 171 - 173](1/424)
[آيَة 171 - 173](1/425)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
{يَا أهل الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} الغلو: تعدِي الْحق.
قَوْله: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} أَي: أَنَّهُ كَانَ من غير بِشْر. {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقولُوا ثَلَاثَة} الْآيَة. أَي: آلِهَتنَا ثَلَاثَة {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِد} قَالَ مُحَمَّد: اخْتلف القَوْل فِي قَوْله: {خيرا لكم} وَالِاخْتِيَار أَنَّهُ مَحْمُول على مَعْنَاهُ؛ كَأَنَّهُ قَالَ: انْتَهوا وائتوا خيرا لكم. وَكَذَلِكَ قَوْله: {فَآمِنُوا خَيْرًا لكم} هُوَ على مثل هَذَا الْمَعْنى.(1/425)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عبدا لله} أَي: لن يحتشم {وَلا الْمَلائِكَةُ المقربون} أَن يَكُونُوا عباداً لله. [آيَة 174 - 175](1/425)
[آيَة 176](1/426)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
{يَا أَيهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ ربكُم} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي: حجَّة {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُم نورا مُبينًا} بَينا؛ يَعْنِي: الْقُرْآن.(1/426)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
{ويهديهم إِلَيْهِ} (أَي: فِي الدُّنْيَا) {صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}(1/426)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَة} قَالَ قَتَادَة: الْكَلَالَة الَّذِي لَا ولد لَهُ وَلَا وَالِد وَلَا جد.
قَوْله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تضلوا} لِئَلَّا تضلوا {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عليم} .
قَالَ مُحَمَّد: ذكر يحيى فِي هَذِه السُّورَة مسَائِل من الْفَرَائِض؛ فاختصرت كثيرا مِنْهَا؛ إِذْ للفرائض بأسرها موَاضعهَا من كتب الْفِقْه، وَلَا توفيق إِلَّا بِاللَّه [وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل] .(1/426)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كلهَا
سُورَة الْمَائِدَة من آيَة (1) إِلَى آيَة (3) .(2/5)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
قَوْله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَوْفوا بِالْعُقُودِ} قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي: الْعُهُودَ الَّتِي أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ فِيمَا أَحَلَّ لَهُمْ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ {أُحِلَّتْ لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام} وَالْأَنْعَامُ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم} يَقُولُ: مِمَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الخِنْزِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نَهَى عَنْهُ.(2/5)
{غير محلي الصَّيْد} مِنْ غَيْرِ أَنْ تُحِلُّوا الصَّيْدَ {وَأَنْتُم حرم} .(2/6)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْت الْحَرَام} وَكَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرُوا بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً.
قَوْلُهُ: {وَلا القلائد} يَعْنِي: أَصْحَابَ الْقَلَائِدِ، وَكَانَتِ الْقَلَائِدُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِهِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، وَلَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ جَعَلَ فِي عُنُقِهِ قَلَائِدَ مِنْ شَعْرٍ أَوْ [وبرٍ، فَأَمِنَ] بِهَا إِلَى مَكَّةَ وَإِذَا (ل 78) خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ تَعَلَّقَ مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ مَكَّةَ، فَيَأْمَنُ بِهِ إِلَى أَرْضِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلا آمِّينَ الْبَيْت الْحَرَام} يَعْنِي: حُجَّاجَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْفَضْلَ وَالرِّضْوَانَ الَّذِي كَانُوا يَبْتَغُونَهُ أَنْ يُصْلِحَ اللَّهُ لَهُمْ مَعَايِشَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَلَّا يُعَاقِبَهُمْ فِيهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَاحِد {امين} آمٌّ؛ وَهُمُ الْقَاصِدُونَ، وَشَعَائِرُ اللَّهِ: مَا جَعَلَهُ اللَّهُ عَلَمًا لِطَاعَتِهِ، وَاحِدُهَا: شَعِيرَةٌ، وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ (مُحَرَّمٌ) ؛ يَقُولُ: لَا تُقَاتِلُوا فِيهِ.
{وَإِذَا حللتم فاصطادوا} أَيْ: إِذَا خَرَجْتُمْ مِنْ إِحْرَامِكُمْ وَهِيَ إِبَاحَةٌ؛ إِنْ(2/6)
شَاءَ صَادَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ.
{وَلَا يجرمنكم شنآن قوم} لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ. {أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدوا} .
قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي بِالْقَوْمِ: أَهْلَ مَكَّةَ؛ يَقُولُ: لَا تَعْتَدُوا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ هَذَا حِينَ صَدُّوهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَام.
قَالَ مُحَمَّد: {يجرمنكم} حَقِيقَتُهُ فِي اللُّغَةِ: يُكْسِبَنَّكُمْ؛ يُقَالُ: فُلَانٌ جَارِمٌ أَهْلَهُ [وَجَرِمَةَ أَهْلَهُ] أَيْ: كَاسَبَهُمْ، وَتَقُولُ: جَرَمَنِي كَذَا؛ أَيْ: كَسَبَنِي كَذَا.
وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى: أجرمني.(2/7)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
{حر مت عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} يَعْنِي: مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَصْلُ الْإِهْلَالِ: رَفْعُ الصَّوْتِ؛ فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: مَا ذُكِرَ عِنْدَ ذَبْحِهِ غَيْرَ اسْمِ الله.
{والمنخنقة} قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الَّتِي تَخْتَنِقُ فِي حُبُلِهَا فَتَمُوتُ، وَكَانُوا يَأْكُلُونَهَا {والموقوذة} كَانُوا يَضْرِبُونَهَا بِالْخَشَبَةِ حَتَّى تَمُوتَ، ثُمَّ يَأْكُلُونَهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْوَقْذَةُ: الضَّرْبَةُ؛ يُقَالُ: وَقَذْتُهَا أَقْذُهَا وَقْذًا، وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى: أَوْقَذْتُهَا أُوقِذُهَا إيقاذاً.(2/7)
{والمتردية} الَّتِي تَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ فَتَمُوتُ {والنطيحة} يَعْنِي: الْكَبْشَيْنِ [يَتَنَاطَحَانِ] فَيَمُوتُ أَحَدُهُمَا.
{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذكيتم} يَعْنِي: مَا أَدْرَكْتُمْ ذَكَاتَهُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَا خَلَا الْخِنْزِيرَ {وَمَا ذبح على النصب} حِجَارَةٌ كَانَتْ [يَعْبُدُهَا] أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَيَذْبَحُونَ لَهَا {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ} قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الْقِدَاحُ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا فِي الْأُمُورِ، فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَخَذَ قَدَحًا؛ فَقَالَ: هَذَا يَأْمُرُنِي بِالْخُرُوجِ، وَيَأْخُذُ قَدَحًا آخَرَ فَيَقُولُ: هَذَا يَأْمُرُنِي بِالْمُكُوثِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: أُخِذَ الِاسْتِقْسَامُ مِنَ الْقَسَمِ، وَهُوَ النَّصِيبُ؛ فَكَأَنَّ الِاسْتِقْسَامَ طَلَبُ النَّصِيبِ.
{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} قَالَ الْحَسَنُ: يَئِسُوا [أَنْ] يَسْتَحِلُّوا فِيهِ مَا اسْتَحَلُّوا فِي دِينِهِمْ.
{فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} قَالَ قَتَادَة: ذكر لنا أَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ [نَهَى] اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَخْلَصَ لِلْمُسْلِمِينَ حَجَّهُمْ.
يحيى: عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {الْيَوْمَ أكملت لكم دينكُمْ} وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ؛ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: لَوْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْنَا لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. فَقَالَ ابْنُ(2/8)
عَبَّاسٍ: فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدَيْنِ اثْنَيْنِ: يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ ".
{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ: فِي مَجَاعَةٍ؛ رَجَعَ إِلَى الْكَلَامِ الْأَوَّلِ مِنْ قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثم} أَي: يتعمده. سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (4) إِلَى الْآيَة (5) .(2/9)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أحل لكم الطَّيِّبَات} يَعْنِي: الْحَلَالَ مِنَ الذَّبَائِحِ.
{وَمَا علمْتُم من الْجَوَارِح مكلبين} أَيْ: مُضْرِينَ (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا(2/9)
علمكُم الله} قَالَ مُجَاهِدٌ: الْجَوَارِحُ هِيَ مِنَ الطَّيْرِ وَالْكِلَابِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: {مُكَلِّبِينَ} نُصِبَ عَلَى الْحَالِ؛ يُقَالُ: رَجُلٌ مُكَلِّبٌ وَكَلَّابٌ؛ إِذَا كَانَ صَاحِبَ صَيْدٍ بِالْكِلَابِ؛ الْمَعْنَى: وَأُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ مَا عَلَّمْتُمْ؛ وَهَذَا مِنَ الِاخْتِصَارِ [إِذْ كَانَ فِي الْكَلَامِ مَا] يَدُلُّ عَلَيْهِ.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن الله سريع الْحساب} قَالَ السّديّ: (ل 79) يَعْنِي: كَأَنَّهُ قَدْ جَاءَ الْحِسَابُ.(2/10)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} يَعْنِي: ذَبَائِحَهُمْ {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الْمُحْصنَات هَا هُنَا: الْحَرَائِرُ، وَلَا يَحِلُّ نِكَاحُ إِمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} يَعْنِي: الصَّدَاقَ إِذَا [سُمِّيَ] لَهَا، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهَا إِيَّاهُ.
{مُحْصِنِينَ غير مسافحين} يَعْنِي: نَاكِحِينَ غَيْرَ زَانِينَ {وَلا متخذي أخدان} يَعْنِي: الْخَلِيلَ وَالْخَلِيلَةَ فِي السِّرِّ.
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عمله} قَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا نَزَلَ تَحْلِيلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رِجَالًا قَالُوا: كَيْفَ نَتَزَوَّجُ نِسَاءً عَلَى غَيْرِ دِينِنَا؟ فَأَنْزَلَ الله: {وَمن يكفر بِالْإِيمَان} الْآيَة. سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (6) فَقَط.(2/10)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاة} الْآيَةَ.
يحيى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَدَعَا بِوُضُوءٍ. قَالَتْ: فَأَتَيْتُهُ بِإِنَاءٍ [فِيهِ مَاءٌ] قَدْرَ مُدٍّ وَثُلُثٍ (أَوْ مُدٍّ وَرُبُعٍ) فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا فِي الْإِنَاءِ، ثُمَّ مضمض ثَلَاثًا، ثُمَّ مَضْمَضَ ثَلَاثًا، وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا، وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ مَا أَقْبَلَ مِنْهُ وَمَا أَدْبَرَ، وَمَسَحَ أُذُنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ [ثَلَاثًا] قَالَتْ: فَأَتَانِي غلامٌ مِنْ بَنِي عَبْدُ الْمُطَّلِبِ - يَعْنِي: ابْنَ عَبَّاسٍ - فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: أَبَى النَّاسُ إِلَّا الْغَسْلَ، وَلَا أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا الْمَسْحَ ".(2/11)
{وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} .
يَحْيَى: عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ (عَنِ الْحَسَنِ) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ؛ فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ، وَأَنْقُوا الْبَشَرَ ".(2/12)
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: رَجُلٌ جُنُبٌ، وَامْرَأَةٌ جُنُبٌ، وَكَذَلِكَ فِي التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ؛ هَذَا أَفْصَحُ اللُّغَاتِ. {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إِلَى قَوْله: {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} قَدْ مَضَى تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ.
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم من حرج} أَيْ: مِنْ ضِيقٍ.
{وَلَكِنْ يُرِيدُ ليطهركم} مِنَ الذُّنُوبِ {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تشكرون} لكَي تشكروا؛ فتدخلوا الْجنَّة. سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (7) إِلَى الْآيَة (10)(2/13)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي واثقكم بِهِ} وَهُوَ الْمِيثَاق الَّذِي أَخذ عَلَيْهِم فِي صلب آدم؛ وَتَفْسِيره فِي سُورَة الْأَعْرَاف.(2/13)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ} بِالْعَدْلِ؛ وَهُيَ(2/13)
الشَّهَادَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ {اعْدِلُوا هُوَ أقرب للتقوى} أَي: فَإِنَّهُ من التَّقْوَى.(2/14)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم مغْفرَة} أَيْ: وَفِي الْوَعْدِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم. {وَأجر عَظِيم} الْجنَّة. سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (11) إِلَى الْآيَة (13) .(2/14)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يبسطوا إِلَيْكُم أَيْديهم فَكف أَيْدِيكُم عَنْكُم} قَالَ الْحَسَنُ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِبَطْنِ نَخْلٍ مُحَاصِرًا غَطْفَانَ، وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ كَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ بَعَثَتْهُ لِيَفْتِكَ بِرَسُولِ اللَّهِ؛ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَرِنِي سَيْفَكَ هَذَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: هَاكَ.
فَأَخَذَهُ؛ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى السَّيْفِ مَرَّةً، وَإِلَى رَسُولِ اللَّهِ مَرَّةً؛ فَقَالَ: أَمَا تَخَافُنِي يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: لَا. فَغَمَدَ سَيْفَهُ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابه الرحيل ".(2/14)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} قَالَ الْحَسَنُ: فَمَا ضَمِنُوا عَنْهُمْ مِنْ شَيْءٍ قَبِلُوهُ وَفَعَلُوهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: النَّقِيبُ فِي اللُّغَةِ هُوَ كَالْأَمِينِ وَكَالْكَفِيلِ؛ يُقَالُ: نَقَبَ الرَّجُلُ عَلَى الْقَوْمِ يَنْقُبُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَأَرْسَلَهُمْ مُوسَى إِلَى الْجَبَّارِينَ.
{وَقَالَ الله إِنِّي مَعكُمْ} عَلَى الشَّرْطِ {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أَيْ: نَصَرْتُمُوهُمْ {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حسنا} يَعْنِي: الصَّدَقَةَ وَالنَّفَقَةَ فِي الْحَقِّ {لأكفرن عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ} .
(ل 80) قَالَ مُحَمَّدٌ: الْعَزَرُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ: الرَّد فَتَأْوِيل: {وعزرتموهم} : نَصَرْتُمُوهُمْ؛ بِأَنْ رَدَدْتُمْ عَنْهُمْ أَعْدَاءَهُمْ. وَتَقُولُ أَيْضًا: عَزَّرْتُ فُلَانًا؛ إِذَا أَدَّبْتَهُ، وَمَعْنَاهُ: فَعَلْتُ بِهِ مَا يَرْدَعُهُ عَنِ الْقَبِيحِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: فَلَمَّا أَرْسَلَ مُوسَى مِنْ كُلِّ سِبْطٍ نَقِيبًا إِلَى الْجَبَّارِينَ وَجَدُوهُمْ يَدْخُلُ فِي كُمِّ أَحِدِهِمُ اثْنَانِ مِنْهُمْ، ثُمَّ يُلْقِيهِمْ إِلْقَاءً، فَرَجَعَ النُّقَبَاءُ كُلُّهُمْ يَنْهَى سِبْطَهُ عَنْ قِتَالِهِمْ، إِلَّا يُوشَعَ بْنَ نُونٍ وَكَالُوبَ؛ فَإِنَّهُمَا أَمَرَا الْأَسْبَاطَ بِقِتَالِ الْجَبَّارِينَ وَمُجَاهَدَتِهِمْ؛ فَعَصَوْهُمَا.
{فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيل} يَعْنِي: قصد الطَّرِيق(2/15)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
{فبمَا نقضهم ميثاقهم} (أَي: فبنقضهم ميثاقهم) {لعناهم} يَعْنِي بِاللَّعْنِ: الْمَسْخَ؛(2/15)
فَجَعَلَ مِنْهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ مُسِخُوا فِي زَمَانِ دَاوُدَ قِرَدَةً، وَفِي زَمَانِ عِيسَى خَنَازِيرَ {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} وَهُوَ مَا حَرَّفُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
{وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} أَيْ: نَسُوا كِتَابَ اللَّهِ، وَضَيَّعُوا فَرَائِضَهُ، وَعَطَّلُوا حُدُودَهُ.
{وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلا مِنْهُم} يَعْنِي: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْخَائِنَةُ وَالْخِيَانَةُ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْخَائِنَةُ صِفَةً لِلرَّجُلِ؛ كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ طَاغِيَةٌ، وَرَاوِيَةٌ لِلْحَدِيثِ.
{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} وَهَذَا مَنْسُوخ. سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (14) إِلَى الْآيَة (17)(2/16)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخذنَا ميثاقهم} أَيْ: كَمَا أَخَذْنَا مِيثَاقَ الْيَهُودِ {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} هِيَ مِثْلُ الْأُولَى.
{فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَة} أَيْ: أَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ {وَالْبَغْضَاءَ} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي بِهِ: عَامَّتَهُمْ.
قَالَ مُحَمَّد: {أغرينا} حَقِيقَتُهُ فِي اللُّغَةِ: أَلْصَقْنَا، وَتَأْوِيلُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ؛ أَيْ: صَارُوا فِرَقًا؛ يكفر بَعضهم بَعْضًا.(2/17)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
{يَا أهل الْكتاب قد جَاءَكُم رَسُولنَا} قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مُحَمَّدٌ.
{يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ من الْكتاب} يَعْنِي: مَا حَرَّفُوهُ مِنْهُ {وَأَخْفَوُا الْحَقَّ فِيهِ} .
{وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} مِمَّا كَانَ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ؛ أَيْ: يُحِلُّهُ لَهُمْ.
{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ الله نور وَكتاب مُبين} يَعْنِي: الْقُرْآن(2/17)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رضوانه سبل السَّلَام} وَالسَّلَامُ هُوَ اللَّهُ؛ كَقَوْلِهِمْ: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبلنا} . سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (18) إِلَى الْآيَة (19) .(2/17)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وأحباؤه} قَالَتِ الْيَهُودُ لِأَنْفُسِهَا، وَقَالَتِ النَّصَارَى لِأَنْفُسِهَا.
قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُونَ: قُرْبُنَا مِنَ اللَّهِ وَحُبُّهُ إِيَّانَا كَقُرْبِ الْوَلَدِ مِنْ وَالِدِهِ، وَكَحُبِّ الْوَالِدِ وَلَدَهُ؛ لَيْسَ عَلَى حَدِّ مَا قَالَتِ النَّصَارَى لِعِيسَى قَالَ اللَّهُ لِلنَّبِيِّ: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} فَجَعَلَ مِنْكُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ، لَوْ كَانَ لَكُمْ هَذَا الْقُرْبُ، وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ مَا عَذَّبَكُمْ! {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاء} للْمُؤْمِنين {ويعذب من يَشَاء} الْكَافرين.(2/18)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
{يَا أهل الْكتاب قد جَاءَكُم رَسُولنَا} وَهُوَ مُحَمَّدٌ {يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا} لِئَلَّا تَقُولُوا {يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فقد جَاءَكُم بشير} {يبشر} بِالْجنَّةِ {ونذير} يُنْذِرُ مِنَ النَّارِ.
قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْفَتْرَةَ الَّتِي كَانَتْ مَا بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ سِتّمائَة سَنَةٍ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ من ذَلِك. سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (20) إِلَى الْآيَة (23) .(2/18)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ ملوكا} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: جَعَلَ لَكُمْ أَزْوَاجًا وَخَدَمًا [وَبُيُوتًا] . قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَكَانَ مِنْهُمْ فِي حَيَاةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ نَبِيًّا.
قَوْلُهُ: {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا من الْعَالمين} يَعْنِي: مَا ظَلَّلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْغَمَامِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى (وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ) مِمَّا أُوتُوا.(2/19)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} يَعْنِي: الَّتِي بُورِكَ فِيهَا، وَهِيَ [الشَّام] {الَّتِي كتب الله لكم} أَنْ تَدْخُلُوهَا.
{وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أدباركم فتنقلبوا} (ل 81) إِلَى الْآخِرَةِ {خَاسِرِينَ}(2/19)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قوما جبارين} إِلَى قَوْلِهِ: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْم الْفَاسِقين} قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانُوا بِجِبَالِ أَرِيحَا مِنَ الْأُرْدُنِ فَجَبُنَ الْقَوْمُ أَنْ يَدْخُلُوهَا؛ فَأَرْسَلُوا جَوَاسِيسَ مِنْ كُلِّ سِبْطٍ رَجُلًا؛ لِيَأْتُوهُمْ بِخَبَرِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَدَخَلَ الِاثْنَا عَشَرَ؛ فَمَكَثُوا بِهَا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ خَرَجُوا، فَصَدَقَ اثْنَانِ(2/19)
وَكَذَبَ عَشَرَةٌ، فَقَالَتِ الْعَشَرَةُ:
رَأَيْنَا أَرْضًا تَأْكُلُ أَهْلَهَا، وَرَأَيْنَا بِهَا حُصُونًا مَنِيعَةً، وَرَأَيْنَا رِجَالًا جَبَابِرَةً، يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ مِنْهُمْ مِائَةٌ مِنَّا، فَجَبُنَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا؛ فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ.(2/20)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
قَالَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا:
يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَالْآَخَرُ: كَالُوبُ؛ وَهُمَا اللَّذَانِ قَالَ اللَّهُ: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} بِمَخَافَتِهِمَا اللَّهَ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِالْقَوْمِ مِنْ هَؤُلَاءِ؛ إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ مُلِئُوا مِنَّا رُعْبًا.
{ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤمنين} . سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (24) إِلَى الْآيَة (26) .(2/20)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
{قَالُوا يَا مُوسَى} أَيُكَذَّبُ مِنَّا عَشَرَةٌ وَيُصَدَّقُ اثْنَانِ؟ ! {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا داموا فِيهَا} الْآيَةَ، وَكَانَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم (حديداً)(2/20)
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
فَقَالَ: {رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفسِي وَأخي} أَيْ: وَأَخِي لَا يَمْلِكُ إِلَّا نَفْسَهُ {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقين} يَعْنِي: قومه.(2/20)
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى إِذْ سَمَّيْتَهُمْ فَاسِقِينَ: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تأس} فَلَا تَحْزَنْ {عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} فَتَاهُوا(2/20)
أَرْبَعِينَ سَنَةً.
قَالَ الْكَلْبِيُّ:
لَمَّا قَالُوا: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا، قَالَ اللَّهُ: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالَ: فَلَمْ يَدْخُلْهَا أحدٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَ مُوسَى، هَلَكُوا (أَجْمَعُونَ) فِي التِّيهِ إِلَّا رَجُلَيْنِ: يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَكَالُوبُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَثِيَابًا لَا تُخَرَّقُ وَلَا تُدَنَّسُ تَشِبُّ مَعَ الصَّغِيرِ، وَخِفَافًا لَا تُخَرَّقُ، فَكَانَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي تِيهِهِمْ؛ حَتَّى دَخَلُوا أَرِيحَا.
قَالَ يحيى: دَخَلَهَا أَبْنَاؤُهُمْ، وَيُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَكَالُوبُ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: وَمَعْنَى {يتيهون فِي الأَرْض} كَانُوا يُصْبِحُونَ حَيْثُ يُمْسُونَ، ويُمْسُونَ حَيْثُ يُصْبِحُونَ، وَفِي تِيهِهِمْ ذَلِكَ ضرب لَهُم مُوسَى الْحجر. سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (27) إِلَى الْآيَة (31) .(2/21)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
{واتل عَلَيْهِم} اقْرَأْ عَلَيْهِمْ {نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ} أَيْ: خَبَرَهُمَا: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} الْآيَةَ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ:
كَانَتْ حَوَّاءُ تَلِدُ فِي [كُلِّ] بَطْنٍ اثْنَيْنِ: غُلَامًا وَجَارِيَةً؛ فَوَلَدَتْ فِي أَوَّلِ بَطْنٍ قَابِيلَ وَأُخْتَهُ، وَفِي الْبَطْنِ الثَّانِي هَابِيلَ وَأُخْتَهُ؛ فَلَمَّا أَدْرَكُوا، أُمِرَ آدَمُ أَنْ يَنْكِحَ قَابِيلُ أُخْتَ هَابِيلَ، وَهَابِيلُ أُخْتَ قَابِيلَ؛ فَقَالَ آدَمُ لِامْرَأَتِهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، فَذَكَرَتْهُ لِابْنَيْهَا فَرَضِيَ هَابِيلُ بِالَّذِي أُمِرَ بِهِ وَسَخِطَ قَابِيلُ لِأَنَّ أُخْتَهُ كَانَتْ أَحْسَنَهُمَا؛ فَقَالَ: مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهَذَا قَطُّ، وَلَكِنَّ هَذَا عَنْ أَمْرِكَ يَا آدَمُ {قَالَ آدَمُ: فَقَرِّبَا قُرْبَانَكُمَا؛ فَأَيُّكُمَا كَانَ أَحَقَّ بِهَا، أَنْزَلَ اللَّهُ نَارًا مِنَ السَّمَاءِ فَأَكَلَتِ الْقُرْبَانَ. فَرَضِيَا بِذَلِكَ؛ فَعَمَدَ هَابِيلُ، وَكَانَ صَاحِبَ مَاشِيَةٍ إِلَى خَيْرِ غِذَاءٍ غَنَمِهِ وَزُبْدٍ وَلَبَنٍ، وَكَانَ قَابِيلُ زَرَّاعًا فَأَخَذَ مِنَ ثَمَرِ زَرْعِهِ، ثُمَّ صَعِدَا الْجَبَلَ وَآدَمُ مَعَهُمَا، فَوَضَعَا الْقُرْبَانَ عَلَى الْجَبَلِ فَدَعَا آدَمُ رَبَّهُ، وَقَالَ قَابِيلُ فِي نَفْسِهِ: مَا أَدْرِي أَيُقْبَلُ مِنِّي أَمْ لَا؟ لَا يَنْكِحُ هَابِيلُ أُخْتِي أَبَدًا، فَنَزَلَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْ قُرْبَانَ هَابِيلَ، وَتَجَنَّبَتْ قُرْبَانَ قَابِيلَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ زَاكِيَ الْقَلْبِ، فَنَزَلُوا مِنَ الْجَبَلِ [فَانْطَلَقَ قَابِيلُ إِلَى هَابِيلَ وَهُوَ فِي غَنَمِهِ فَقَالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ] قَالَ: لِمَ؟} قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَقَبَّلَ مِنْكَ، وَرَدَّ عَلَيَّ قُرْبَانِي، [وَتَنْكِحُ أُخْتِيَ الْحُسْنَى، وَأَنْكِحُ أُخْتَكَ الْقَبِيحَةَ] وَيَتَحَدَّثُ النَّاسُ بَعْدَ الْيَوْمِ أَنَّكَ خَيْرٌ مني.(2/22)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
فَقَالَ لَهُ هَابِيلُ: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بباسط يَدي إِلَيْك لأقتلك} (ل 82)(2/22)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
{إِنِّي أُرِيد أَن تبوء} ترجع {بإثمي وإثمك} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: بِإِثْمِي: قَتْلِي، وَإِثْمِكَ: الَّذِي مَضَى؛ يَعْنِي: مِنْ قبل قَتْلِي.(2/22)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: فَشَجَّعَتْهُ نَفْسُهُ فَقتله {فَأصْبح من الخاسرين} الَّذِينَ خَسِرُوا الْجَنَّةَ.
يحيى: عَنْ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
إِنَّ اللَّهَ ضَرَبَ لَكُمُ ابْنَيْ آدَمَ مَثَلًا؛ فَخُذُوا بِخَيْرِهِمَا، ودعوا شرهما ".(2/23)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْض} الْآيَةَ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ:
وَكَانَ قَتَلَهُ عَشِيَّةً، وَغَدَا إِلَيْهِ غَدْوَةً لِيَنْظُرَ مَا فَعَلَ؛ فَإِذَا هُوَ بِغُرَابٍ حَيٍّ يَحْثِي التُّرَابَ عَلَى غُرَابٍ مَيْتٍ، فَقَالَ: {يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فأواري سوءة أخي} كَمَا يُوَارِي هَذَا الْغُرَابُ سَوْءَةَ أَخِيهِ {} فَدَعَا بِالْوَيْلِ، وَأَصْبَحَ مِنَ النادمين.
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (32) فَقَط.(2/23)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْض} يَعْنِي: مَا تَسْتَوْجِبُ بِهِ الْقَتْلَ {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} قَالَ الْحَسَنُ: مِنْ إِحْيَائِهَا أَنْ يُنَجِّيَهَا مِنَ(2/23)
الْقَوَدِ، فَيَعْفُوَ عَنْهَا، أَوْ يُفَادِيَهَا مِنَ الْعُدْوَانِ، وَيُنَجِّيَهَا مِنَ الْغَرَقِ، وَمِنَ الْحَرْقِ، وَمِنَ السَّبُعِ، وَأَفْضَلُ إِحْيَائِهَا أَنْ يُنَجِّيَهَا مِنْ كُفْرِهَا وَضَلَالَتِهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاس جَمِيعًا} أَيْ: يُعَذَّبُ كَمَا يُعَذَّبُ قَاتِلُ النَّاسِ جَمِيعًا. وَمَنْ أَحْيَاهَا أُجِرَ فِي إِحْيَائِهَا؛ كَمَا يُؤْجَرُ مَنْ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا.
يحيى: عَنِ الْمُعَلَّى، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ قَابُوسِ بْنِ الْمُخَارِقِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَرَأَيْتَ إِنْ عَرَضَ لِي رَجُلٌ يُرِيدُ نَفْسِي وَمَالِي، فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ. قَالَ: نَشَدْتُهُ بِاللَّه فل يَنْتَهِ. قَالَ: اسْتَعْدِ عَلَيْهِ السُّلْطَانَ. قَالَ: لَيْسَ بِحَضْرَتِنَا سُلْطَانٌ.
قَالَ: اسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِالْمُسْلِمِينَ. قَالَ: نَحْنُ بفلاةٍ مِنَ الْأَرْضِ لَيْسَ قُرْبَنَا أحدٌ.
قَالَ: فَجَاهِدْهُ دُونَ مَالِكَ حَتَّى تَمْنَعَهُ، أَوْ تُكْتَبَ فِي شُهَدَاءِ الْآخِرَةِ ".(2/24)
{وَلَقَد جَاءَتْهُم رسلنَا بِالْبَيِّنَاتِ} يَعْنِي: أَهْلَ الْكِتَابِ {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْض لمسرفون} لَمُشْرِكُونَ؛ يَعْنِي: مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْهُم.
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (33) إِلَى الْآيَة (35) .(2/25)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُوله} الْآيَةَ.
يحيى: عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ:
أَنَّ نَاسًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ الْمَدِينَةَ وَأَسْلَمُوا، وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَخْرُجُوا فِي إِبِلٍ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ؛ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَفَعَلُوا حَتَّى صَحُّوا؛ فَقَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ، وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ فِي طَلَبِهِمْ، فَأُتِيَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا ".(2/25)
قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ هَذَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ الْحُدُودُ.
يحيى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْءَمَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛
أَنَّهُ لَمَّا جِيءَ بِهِمْ؛ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله} الْآيَةَ ".
قَالَ يحيى: سَأَلْتُ الْجَهْمَ بْنَ وَرَّادٍ الْكُوفِيَّ عَنْ قَوْلِهِ: {من خلاف} فَقَالَ: يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَعْنَى {أَوْ ينفوا من الأَرْض} (أَنْ يُعْجِزُوا فَلَا يُقْدَرُ عَلَيْهِمْ) .(2/26)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
{إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَن تقدروا عَلَيْهِم} الْآيَةَ.
قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلْتُ فِي أهل الشّرك خَاصَّة.(2/26)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: تَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ وَالْعَمَل بِمَا يرضيه.
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (36) إِلَى الْآيَة (40) .(2/26)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
{يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} قَالَ الْحَسَنُ: كُلَّمَا رَفَعَتْهُمْ بِمَسَّهَا حَتَّى يَصِيرُوا إِلَى أَعْلَاهَا أُعِيدُوا فِيهَا.(2/27)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
{وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} هِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا " {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} (ل 83) بِمَا عَمِلَا {نَكَالا مِنَ اللَّهِ} يَعْنِي: عُقُوبَةً.
يحيى: عَنِ الْمُعَلَّى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ آدَمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: " قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ يَدَ سَارِقٍ مِنَ الْكُوعِ وَحَسَمَهَا ".
يحيى: عَنِ النَّضْرِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ:
مُرَّ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ بِرَجُلٍ قَدْ أُخِذَ فِي حدٍّ فَسَبُّوهُ، فَقَالَ: لَا تَسُّبُوهُ! وَلَكِنِ احْمَدُوا اللَّهَ الَّذِي نَجَّاكُمْ ".
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (41) فَقَط.(2/27)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
{يَا أَيهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ يَقُولُ: لَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَضُّرُكَ، إِنَّمَا ضُرُّهُ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ} أَيْ: يَقُولُ الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوكَ {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ الله فتنته} يَعْنِي: ضَلَالَتَهُ. إِلَى قَوْلِهِ: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خزي} يَعْنِي: الْجِزْيَةَ.
قَالَ قَتَادَةُ:
وَكَانَ هَذَا فِي قَتِيلٍ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، قَتَلَتْهُ النَّضِيرُ، وَكَانَ قَتِيلَ عَمْدٍ، وَكَانَ النَّضِيرُ إِذَا قَتَلَتْ مِنْ قُرَيْظَةَ قَتِيلًا لَمْ يُعْطُوهُمُ الْقَوَدَ وَيُعْطُوهُمُ الدِّيَةَ، وَإِذَا قَتَلَتْ قُرَيْظَةُ مِنَ النَّضِيرِ قَتِيلًا لَمْ يَرْضَوْا دُونَ الْقَوَدِ؛ فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى قَدِمَ نَبِيُّ اللَّهِ الْمَدِينَةَ بِأَثَرِ قَتِيلِهِمْ؛ فَأَرَادُوا أَنْ يَرْفَعُوا ذَلِكَ إِلَيْهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: إِنَّ قَتِيلَكُمْ قَتِيلُ عَمْدٍ، وَإِنَّكُمْ مَتَى تَرْفَعُوهُ إِلَى محمدٍ أَخْشَى عَلَيْكُمُ الْقَوَدَ؛ فَإِنْ قَبِلَ مِنْكُمُ الدِّيَةَ وَإِلَّا فَكُونُوا مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (42) إِلَى الْآيَة (43) .(2/28)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
ثُمَّ قَالَ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ للسحت} يَعْنِي: [الْيَهُودَ] وَالسُّحْتُ الرُّشَا.
{فَإِنْ جاءوك فاحكم بَينهم} الْآيَةَ. قَالَ قَتَادَةُ: رُخِّصَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، أَوْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بَعْدُ؛ فَقَالَ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْك الْكتب بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ من الْكتب وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْآيَةَ الْأُولَى.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {سَمَّاعُونَ للكذب} أَيْ: قَائِلُونَ لَهُ، وَمَعْنَى {مِنْ بعد موَاضعه} مِنْ بَعْدِ أَنْ وَضَعَهُ اللَّهُ مَوْضِعَهُ؛ فَأَحَلَّ حَلَالَهُ، وَحَرَّمَ حَرَامَهُ.(2/29)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حكم الله} الْآيَةَ. قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: عِنْدَهُمْ بَيَانُ مَا تَشَاجَرُوا فِيهِ مِنْ شَأْنِ قَتِيلِهِمْ؛ أَيْ: إِنَّ فِي التَّوْرَاة أَن النَّفس بِالنَّفسِ.
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (44) إِلَى الْآيَة (45) .(2/29)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلمُوا} أَيْ: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الْمُسْلِمُونَ {للَّذين هادوا والربانيون والأحبار} قَالَ قَتَادَةُ: الرَّبَّانِيُّونَ: فُقَهَاءُ الْيَهُودِ، وَالْأَحْبَارُ: عُلَمَاؤُهُمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقِيلَ: الرَّبَّانِيُّونَ: الْعُبَّادُ.
{فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ} فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى أَهْلِهَا من كَانُوا {واخشون} فِي تَرْكِ إِقَامَتِهَا.
{وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يحكم بِمَا أنزل الله} قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَتَّخِذْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دِينًا وَيُقِرَّ بِهِ {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .(2/30)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
{وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا} يُرِيدُ: التَّوْرَاةَ {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إِلَى قَوْله: {والجروح قصاص} وَهَذِهِ الْآيَةُ مَفْرُوضَةٌ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَكُلُّ مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ؛ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَنْسَخْهُ بِالْقُرْآنِ فَهُوَ ثَابِتٌ يُعْمَلُ بِهِ.
{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: كَفَّارَةً لِذَنْبِهِ.
يحيى: عَنِ الْمُعَلَّى، عَنْ أَبَانٍ، عَنِ الشِّعْبِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ:
سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ}(2/30)
قَالَ:
هُوَ الرَّجُلُ تُكْسَرُ سِنُّهُ، أَوْ يُجْرَحُ فِي جَسَدِهِ؛ فَيَعْفُو فَيُحَطُّ عَنْهُ مِنْ خَطَايَاهُ بِقَدْرِ مَا عَفَا عَنْهُ؛ إِنْ كَانَ نِصْفَ الدِّيَةِ فَنِصْفُ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَ رُبُعَ الدِّيَةِ فَرُبُعُ خَطَايَاهُ، وَإِن كَانَ ثلث (ل 84) الدِّيَة فثلث خطاياه، وَإِن كَانَت الدِّيَة كلهَا فخطاياه كلهَا ".
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (46) إِلَى الْآيَة (47) .(2/31)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
{وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَم} إِلَى قَوْلِهِ: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الْفسق هَا هُنَا: الشِّرْكُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَعْنَى {قَفَّيْنَا} : أتبعنا، والمصدر مِنْهُ: تقفية.
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (48) إِلَى الْآيَة (50) .(2/31)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} يَعْنِي: التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: الْمُهَيْمِنُ: الْقَاضِي عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ.
{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شرعة ومنهاجا} قَالَ قَتَادَةُ: لِلتَّوْرَاةِ شَرِيعَةٌ، وَلِلْإِنْجِيلِ شَرِيعَةٌ، وَلِلْقُرْآنِ شَرِيعَةٌ؛ أَحَلَّ اللَّهُ فِيهَا مَا شَاءَ، وَحَرَّمَ مَا شَاءَ {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أمة وَاحِدَة} يَعْنِي: مِلَّةً وَاحِدَةً {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ} ليختبركم {فِيمَا آتَاكُم} فِيمَا أَعْطَاكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.(2/32)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
{واحذرهم أَن يفتنوك} أَيْ: يَصُدُّوكَ {عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا} يَعْنِي: الْيَهُودَ، عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذنوبهم} فَيَقْتُلُوهُمْ وَيُجْلِيهِمْ وَتُؤْخَذُ مِنْهَمُ الْجِزْيَةُ بِالصَّغَارِ وَالذُّلِّ.
{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاس لفاسقون} يَعْنِي: الْيَهُودَ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ.(2/32)
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّة يَبْغُونَ} وَهُوَ مَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ وَحكمه.
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (51) إِلَى الْآيَة (53) .(2/32)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء} أَيْ: فِي الدِّينِ {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم} فِي الدِّينِ {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} .(2/32)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} يَعْنِي: الْمُنَافِقين {يُسَارِعُونَ فيهم} فِي أَهْلِ الْكِتَابِ؛ أَيْ: يُوَافِقُونَهُمْ فِي السِّرِّ {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تصيبنا دَائِرَة} فَيُنْصَرُوا عَلَيْنَا؛ فَنَكُونَ قَدْ (أَخَذْنَا) بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مَوَدَّةً. قَالَ اللَّهُ: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَو أَمر من عِنْده} الْآيَةَ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ:
فَجَاءَ اللَّهُ بِالْفَتْحِ؛ فَنَصَرَ نَبِيَّهُ، وَجَاءَ أَمْرُ اللَّهِ مِنْ عِنْدِهِ بِإِجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَتْلِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَسَبْيِ ذَرَارِيهِمْ؛ فَنَدِمَ الْمُنَافِقُونَ حَتَّى ظَهَرَ نِفَاقُهُمْ، وَأُجْلِيَ أَهْلُ وُدِّهِمْ عَنْ أَرْضِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ آمَنُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لمعكم} الْآيَة.
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (54) إِلَى الْآيَة (57) .(2/33)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافرين} هُوَ كَقَوْلِهِ: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رحماء بَينهم} .(2/33)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمنُوا} الْآيَةَ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: بَلَغَنَا:
أَنَّ(2/33)
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَّامٍ وَرَهْطًا مِنْ مُسْلِمِي أَهْلِ الْكِتَابِ أَتَوُا النَّبِيَّ عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بُيُوتُنَا قَاصِيَةٌ، وَلَا نَجِدُ مُتَحَدَّثًا دُونَ الْمَسْجِدِ، وَإِنَّ قَوْمَنَا لَمَّا رَأَوْنَا أَنَّنَا قَدْ صَدَقْنَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَتَرَكْنَاهُمْ وَدِينَهُمْ أَظْهَرُوا لَنَا الْعَدَاوَةَ، وَأَقْسَمُوا أَلَّا يُخَالِطُونَا وَلَا يُجَالِسُونَا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا.
فَبَيْنَمَا هُمْ [كَذَلِكَ] يَشْكُونَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ؛ إِذْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا اقْتَرْأَهَا رَسُولُ اللَّهِ، قَالُوا:
رَضِينَا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَوْلِيَاءَ، وَأَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بَيْنَ قَائِمٍ وَرَاكِعٍ وَسَاجِدٍ، وَإِذَا هُوَ بِمِسْكِينٍ يَسْأَلُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ؛ فَقَالَ لَهُ: هَلْ أَعْطَاكَ أحدٌ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَاذَا؟ قَالَ: خاتمٌ مِنْ فِضَّةٍ. قَالَ: مَنْ أَعْطَاكَهُ؟ قَالَ: ذَلِكَ الرَّجُلُ الْقَائِمُ، فَإِذَا هُوَ عليٌّ. قَالَ: عَلَى أَيِّ حَالٍ أَعْطَاكَهُ؟ قَالَ: أَعْطَانِيهِ وَهُوَ رَاكِعٌ [فَزَعَمُوا أَنَّ] رَسُولَ اللَّهِ كبر عِنْد ذَلِك ".
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (58) إِلَى الْآيَة (60) .(2/34)
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هزوا وَلَعِبًا} قَالَ [الْكَلْبِيُّ] :
كَانَ إِذَا(2/34)
نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ لِلصَّلَاةِ، قَالَتِ الْيَهُودُ وَالْمُشْرِكُونَ: قَدْ قَامُوا لَا قَامُوا.
وَإِذَا رَكَعُوا وَسَجَدُوا (استهزءوا) بهم وَضَحِكُوا؛(2/35)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
فَقَالَ الله لنَبيه: {قل يَا أهل الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَن أَكْثَرَكُم فَاسِقُونَ} ، أَيْ: بِفِسْقِكُمْ نَقَمْتُمْ ذَلِكَ عَلَيْنَا،(2/35)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
ثُمَّ قَالَ: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ من ذَلِك مثوبة} [يَعْنِي: ثَوَابًا] {عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ: جَعَلَ اللَّهُ ذَلِك مِنْهُم (ل 85) بِمَا عَبَدُوا الطَّاغُوتَ؛ يَعْنِي: الشَّيْطَانَ.
{أُولَئِكَ شَرّ مَكَانا} فِي الْآخِرَةِ {وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل} يَعْنِي: عَنْ قَصْدِ طَرِيقِ الْهُدَى.
قَالَ مُحَمَّد: وَقيل: إِن {عبد الطاغوت} نسقٌ عَلَى قَوْلِهِ: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضب عَلَيْهِ} .
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (61) إِلَى الْآيَة (64) .(2/35)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
{وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} قَالَ الْكَلْبِيُّ:
هَؤُلَاءِ مُنَافِقُو أَهْلِ الْكِتَابِ، كَانُوا إِذَا دَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، قَالُوا: آمَنَّا، وَقَدْ دَخَلُوا حِينَ دَخَلُوا عَلَى النَّبِيِّ كُفَّارًا، وَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ وَهُمْ كُفَّارٌ وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا سَمِعُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ؛ وَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ.
قَالَ: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يكتمون} كَانُوا يكتمون دين الْيَهُودِيَّة(2/36)
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
{وَترى كثيرا مِنْهُم} يَعْنِي: الْيَهُودَ {يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ والعدوان} يَعْنِي: الْمَعْصِيَةَ وَالظُّلْمَ {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} قَالَ الْحَسَنُ: [هُوَ] أَخْذُ الرِّشْوَةِ عَلَى الْحُكْمِ {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يعْملُونَ} يَعْنِي: حكامهم(2/36)
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
{لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} إِلَى قَوْلِهِ: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} أَيْ: حِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ، وَبِئْسَ مَا صَنَعَ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ حِينَ لَمْ ينهوهم عَن ذَلِك.(2/36)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} قَالَ الْكَلْبِيُّ:
كَانُوا مِنْ أَخْصَبِ النَّاسِ وَأَكْثَرِهِمْ خَيْرًا، فَلَمَّا عَصَوُا اللَّهَ، وَبَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا - كَفَّ اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْضَ الَّذِي كَانَ بَسَطَ لَهُمْ؛ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَتِ الْيَهُودُ: كَفَّ اللَّهُ يَدَهُ عَنَّا، فَهِيَ مَغْلُولَةٌ؛ أَيْ: لَا يَبْسُطُهَا عَلَيْنَا.
قَالَ اللَّهُ: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} وَهُمُ الْيَهُودُ.(2/36)
قَالَ قَتَادَةُ:
حَمَلَهُمْ حَسَدُ محمدٍ وَالْعَرَبِ عَلَى أَنْ كَفَرُوا بِهِ، وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ.
{كُلَّمَا أوقدوا نَارا للحرب} لِحَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ {أَطْفَأَهَا اللَّهُ} يَعْنِي: أَذَلَّهُمُ اللَّهُ، وَنَصَرَهُ عَلَيْهِمْ.
{ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا} أَي: يدعونَ فِيهَا إِلَّا خِلَافِ دِينِ اللَّهِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِك.
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (65) إِلَى الْآيَة (66) .(2/37)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقوا} قَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُ:
لَوْ آمَنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَاتَّقَوْا مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} الْآيَة.(2/37)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرجُلهم} .
قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: لَأَعْطَتْهُمُ السَّمَاءُ مَطَرَهَا، وَالْأَرْضُ نَبَاتَهَا. وَإِقَامَتُهُمُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ: أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ أُمِرُوا بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: {مِنْهُمْ أمة مقتصدة} أَيْ: مُتَّبِعَةٌ؛ يَعْنِي: مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِرَسُولِ اللَّهِ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا} بئس مَا {يعْملُونَ} يَعْنِي: مَنْ ثَبَتَ مِنْهُمْ عَلَى الْيَهُودِيَّة والنصرانية.
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (67) إِلَى الْآيَة (69) .(2/37)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
{يَا أَيهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ من رَبك} الْآيَةَ.
يحيى: عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنِ الْحَسَنِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَكَا إِلَى رَبِّهِ مِنْ قَوْمِهِ؛ فَقَالَ: يَا رَبِّ، إِنَّ قَوْمِي قَدْ خَوَّفُونِي، فَأَعْطِنِي مِنْ قِبَلِكَ آيَةً أَعْلَمُ أَنْ لَا مَخَافَةَ عَلَيَّ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ وَادِيَ كَذَا فِيهِ شَجَرَةُ كَذَا، [فَلْيَدْعُ] غُصْنًا مِنْهَا يَأْتِهِ، فَانْطَلَقَ إِلَى الْوَادِي، فَدَعَا غُصْنًا مِنْهَا فَجَاءَ يَخُطُّ فِي الْأَرْضِ خَطًّا حَتَّى انْتَصَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَحَبَسَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَحْبِسَهُ، ثُمَّ قَالَ: ارْجِعْ كَمَا جِئْتَ. فَرَجَعَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: عَلِمْتُ يَا رَبِّ أَنْ لَا مَخَافَة عَليّ ".(2/38)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا والصابئون وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر} يَعْنِي: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بمحمدٍ، وَدَخَلَ فِي دِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: اخْتَلَفَ الْقَوْلُ فِي رَفْعِ {الصابئون} وَالْأَجْوَدُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّأْخِيرِ، وَمَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، الْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا - فَلَا خوف عَلَيْهِم، (ل 86) والصابئون وَالنَّصَارَى(2/38)
كَذَلِك أَيْضا.
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (70) إِلَى الْآيَة (71) .(2/39)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} قَدْ مَضَى تَفْسِيرُ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.
{وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فريقا كذبُوا وفريقا يقتلُون} يَعْنِي بِهِ: أوائلهم.(2/39)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
{وَحَسبُوا أَلا تكون فتْنَة} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: وَحَسِبُوا أَلَّا يُبْتَلُوا فِي الدِّينِ يُجَاهِدُونَ فِيهِ، وَتُفْرَضُ عَلَيْهِمُ الطَّاعَةُ بِمُحَمَّدٍ.
{فَعَمُوا وَصَمُّوا} يَعْنِي: عَنِ الْهُدَى {ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِم} أَيْ: جَعَلَ لَهُمْ مَتَابًا، فَاسْتَنْقَذَهُمْ بِمُحَمَّدٍ {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُم} يَعْنِي: من كفر مِنْهُم.
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (72) إِلَى الْآيَة (76) .(2/39)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله ثَالِث ثَلَاثَة} قَالَ قَتَادَةُ: قَالُوا:
عِيسَى إِلَهٌ، وَأُمُّهُ إِلَهٌ، وَاللَّهُ إِلَهٌ. قَالَ اللَّهُ: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَه وَاحِد} .(2/40)
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
قَوْله:
{مَا الْمَسِيح ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صديقَة، كَانَا يأكلان الطَّعَام} أَيْ: فَكَيْفَ يَكُونَانِ إِلَهَيْنِ، وَهُمَا مَخْلُوقَانِ يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ.
{انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنى يؤفكون} كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنْهَا؟ يَعْنِي: عَنِ الْآيَاتِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: فِعِّيلٌ مِنْ أبنية الْمُبَالغَة، وَقَوله: {صديقَة} أَيْ: مُبَالِغَةٌ فِي الصِّدْقِ.
وَقَوْلُهُ: {كَانَا يأكلان الطَّعَام} قِيلَ: إِنَّهُ مِنَ الِاخْتِصَارِ وَالْكِنَايَةِ، وَنَبَّهَ بِأَكْلِ الطَّعَامِ عَلَى عَاقِبَتِهِ؛ وَهُوَ الْحَدث، وَالله أعلم.(2/40)
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (77) إِلَى الْآيَة (81) .(2/41)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
{يَا أهل الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} وَالْغُلُوُّ: مُجَاوَزَةُ الْحَقِّ.
{وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قبل} يَعْنِي: الْيَهُود.
{وأضلوا كثيرا} يَعْنِي: مَنِ اتَّبَعَهُمْ {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاء السَّبِيل} يَعْنِي: عَنْ قَصْدِ طَرِيقِ الْهُدَى.(2/41)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْن مَرْيَم}
قَالَ قَتَادَةُ:
يَعْنِي: فِي زمَان دَاوُد وَعِيسَى ابْن مَرْيَمَ؛ مُسِخُوا فِي زَمَانِ دَاوُدَ قِرَدَةً حِينَ أَكَلُوا الْحِيتَانَ، وَمُسِخُوا فِي زمَان عِيسَى خنازير(2/41)
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
{ترى كثيرا مِنْهُم} يَعْنِي: مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ {يَتَوَلَّوْنَ الَّذين كفرُوا} يَتَوَلَّوْنَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، [وَهُمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا] {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} لِأَن سخط الله عَلَيْهِم. سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (82) فَقَط.(2/41)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمنُوا الْيَهُود وَالَّذين أشركوا} يَعْنِي: مُشْرِكِي الْعَرَبِ؛ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يومئذٍ {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} يَعْنِي: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ.
{ذَلِكَ بِأَن مِنْهُم قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} يَعْنِي: الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ {وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ.
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (83) إِلَى الْآيَة (86) .(2/42)
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُول} مُحَمَّدٍ {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع} إِلَى قَوْله: {مَعَ الشَّاهِدين} أَيْ: مَعَ مَنْ شَهِدَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ حَقٌّ. سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (87) إِلَى الْآيَة (88) .(2/42)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أحل الله لكم} إِلَى قَوْلِهِ:(2/42)
{الَّذِي أَنْتُم بِهِ مُؤمنُونَ} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ:
أَنَّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ جَعَلَ أَحَدُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ أَلَّا يَغْشَى النِّسَاءَ أَبَدًا، وَجَعَلَ أَحَدُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لَا يفْطر نَهَار أَبَدًا، وَجَعَلَ أَحَدُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَنَامُ لَيْلًا أَبَدًا {فَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ مِمَّنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَلَّا يَغْشَى النِّسَاءَ؛ وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ تَأْتِي أَزْوَاجَ النَّبِيِّ فِي شَارَةٍ حَسَنَةٍ وَرِيحٍ طَيِّبَةٍ؛ فَلَمَّا جَعَلَ عُثْمَانُ عَلَى نْفَسِهِ مَا جَعَلَ، أَتَتْهُنَّ فِي غَيْرِ تِلْكَ الشَّارَةِ؛ فَأَنْكَرْنَ عَلَيْهَا؛ فَقَالَتْ: إِنَّمَا تَصْنَعُ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا؛ وَإِنَّ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا جَعَلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَذَا وَكَذَا} فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ذَكَرْنَ ذَلِكَ لَهُ، فَغَضِبَ وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَلَمْ أُحَدَّثْ عَنْكُمْ بِكَذَا وَكَذَا؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: لَكِنِّي أَنَا أَصُومُ وَأفْطر، وأقوم وأنام، وأغشى النِّسَاء وَأَدَعُ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مني (ل 87) فَاسْتَغْفَرَ الْقَوْمُ مِنْ ذَلِكَ، وَرَاجَعُوا أَمرهم الأول ".
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (89) .(2/43)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ: قَالَا:
هُوَ الْخَطَأ غير الْعمد؛ وَذَلِكَ أَن تحلف عَلَى الشَّيْء وَأَنت ترى أَنه كَذَلِك، فَلَا(2/43)
يكون كَمَا حَلَفت عَلَيْهِ {وَلَكِنْ يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} أَيْ: مَا حَلَفْتُمْ فِيهِ مُتَعَمِّدِينَ.
{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوسط مَا تطْعمُونَ أهليكم} قَالَ مُجَاهِدٌ:
أَوْسَطُ مَا تُطْعِمُ أَهْلَكَ: أَشْبَعُهُ {أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِير رَقَبَة} فَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ رَقَبَةً كَبِيرَةً، وَإِنْ شَاءَ صَغِيرَةً. وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ (أَوْ) فَهُوَ فِيهِ مُخَيَّرٌ؛ يَفْعَلُ أَيَّ ذَلِكَ شَاءَ {فَمن لم يجد} أَيْ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ مِنَ: الطَّعَامِ، أَوِ الْكِسْوَةِ، أَوِ الْعِتْقِ {فَصِيَامُ ثَلَاثَة أَيَّام} قَالَ قَتَادَةُ: وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَات} .
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (90) إِلَى الْآيَة (91) .(2/44)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} يَعْنِي: الْقمَار كُله {والأنصاب} وَهِيَ أَصْنَامُهُمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ من دون الله {والأزلام} الْقِدَاحُ وَهِيَ السِّهَامُ. قَالَ قَتَادَةُ:
كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَخَذَ قَدَحَيْنِ؛ فَقَالَ: هَذَا يَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ وَهُوَ مصيبٌ فِي سَفَرِهِ خَيْرًا، وَيَأْخُذُ قَدَحًا آخَرَ، فَيَقُولُ: هَذَا يَأْمُرُهُ بِالْمُكُوثِ، وَلَيْسَ بِمُصِيبٍ فِي سَفَرِهِ خَيْرًا، مكتوبٌ عَلَيْهِمَا هَذَا، وَالْمَنِيحُ بَيْنَهُمَا، فَأَيُّهُمَا خَرَجَ عَمِلَ بِهِ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ.(2/44)
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَنِيحُ: سَهْمٌ لَيْسَ عَلَيْهِ كِتَابٌ؛ فَإِذَا خَرَجَ أَعَادَ الضَّرْبَ.
يُقَالُ: يَسَّرْتَ، إِذَا ضَرَبْتَ بِالْقِدَاحِ، وَالضَّارِبُ بِهَا: يَاسِرٌ [وَالْجَمِيعُ: يُسُرٌ وَأَيْسَارٌ] .
قَوْلُهُ: {رِجْسٌ مِنْ عمل الشَّيْطَان} إِلَى قَوْله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فَجَاءَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، مَا أَسْكَرَ مِنْهَا وَمَا لَمْ يُسْكِرْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ: اسمٌ لِكُلِّ مَا اسْتُقْذِرَ، وَيُقَالُ:
رَجُسَ الرَّجُلُ يَرْجُسُ؛ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا قَبِيحًا.
يحيى: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من شَرِبَ الْخَمْرَ، ثُمَّ لَمْ يَسْكَرْ أَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ ثُمَّ سَكِرَ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً؛ فَإِنْ مَاتَ فِيهَا مَاتَ كَعَابِدِ الْأَوْثَانِ، وَكَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ: الْقَيْحُ وَالدَّم ".(2/45)
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (92) إِلَى الْآيَة (93) .(2/46)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقوا} يَعْنِي: شَرِبُوا: مِنَ الْخَمْرِ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ.
قَالَ الْحَسَنُ:
لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، قَالُوا: كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهَا رجسٌ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} [إِثْم](2/46)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
{فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا} شربهَا {وآمنوا} (مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمُوا} بِتَحْرِيمِهَا {وَعمِلُوا الصَّالِحَات ثمَّ اتَّقوا} شربهَا {وأحسنوا} الْعَمَلَ بَعْدَ تَحْرِيمِهَا فَلَمْ يَشْرَبُوهَا؛ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ محسنٌ {وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ} الَّذين يَأْخُذُونَ بِالسنةِ.
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (94) إِلَى الْآيَة (95) .(2/46)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ليبلونكم الله} ليختبركم اللَّهُ {بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُم ورماحكم} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ قَالَ:
رِمَاحُكُمْ أَوْ نِبَالُكُمْ؛ تَنَالُ كَبِيرَ الصَّيْدِ(2/46)
وَصَغِيرَهُ، تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ أَخْذًا {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} .
{فَمَنِ اعْتدى بعد ذَلِك} قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ:
فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ التَّحْرِيمِ وَصَادَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلَهُ عذابٌ أَلِيمٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ قَتَلَهُ نَاسِيًا لِإْحِرَامِهِ غَيْرَ متعمدٌ لِقَتْلِهِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَإِنْ قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا وَهُوَ ذَاكِرٌ لِإِحْرَامِهِ فَلَهُ عذابٌ أَلِيمٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ جَزَاء.(2/47)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عدل مِنْكُم} الْآيَةَ، كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: حُكْمُ (ل 88) الْحَكَمَيْنِ ماضٍ أَبَدًا، وَقَدْ يَحْكُمُ الحكمان بِمَا حكم بِهِ رَسُول الله، وَلَكِن لابد مِنْ أَنْ يَحْكُمَا. قَالَ قَتَادَةُ:
وَإِذَا كَانَ صَيْدًا لَا يَبْلُغُ النَّعَمَ، حَكَمًا طَعَامًا أَوْ صَوْمًا، وَيَحْكُمَانِ عَلَيْهِ فِي الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ.
{ليذوق وبال أمره} أَيْ: عُقُوبَةَ فِعْلِهِ {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سلف} قَبْلَ التَّحْرِيمِ {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتقام} قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ عَادَ لَمْ يحكم عَلَيْهِ، الله يَنْتَقِمُ مِنْهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: بَلْ يُحْكَمُ عَلَيْهِ أَبَدًا. سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (96) إِلَى الْآيَة (97) .(2/47)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
قَوْلُهُ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} قَالَ الْحَسَنُ:
لَا بَأْسَ أَنْ يصيد الْمحرم الْحيتَان {وَطَعَامه} قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: مَا أَلْقَى الْبَحْرُ مِنْ حُوتٍ مَيْتٍ فَهُوَ طَعَامُهُ {مَتَاعًا لكم} بلاغاً لكم {وللسيارة} يَعْنِي: الْمُسَافِرِينَ،(2/47)
وَهُوَ مَا يَتَزَوَّدُهُ النَّاسُ مِنْ صَالِحِ السَّمَكِ فِي أَسْفَارِهِمْ.
قَالَ مُحَمَّد: {مَتَاعا لكم} مَصْدَرٌ؛ أَيْ: مَتَّعْتُكُمْ بِهِ مَتَاعًا.
{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} .(2/48)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ والقلائد} قَالَ قَتَادَةُ:
كَانَتْ هَذِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَوَاجِزَ، كَانَ الرَّجُلُ لَوْ جَرَّ كُلَّ جَرِيرَةٍ، ثُمَّ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ لَمْ يُتَنَاوَلْ، وَكَانَ الرَّجُلُ لَوْ لَقِيَ قَاتِلَ أَبِيهِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَمْ يَمَسَّهُ، وَكَانَ الرَّجُلُ لَوْ لَقِيَ الْهَدْيَ مُقَلَّدًا وَهُوَ يَأْكُلُ [الْقَضْبَ] مِنَ الْجُوعِ لَمْ يَمَسَّهُ، وَكَانَ الرَّجَلُ إِذَا أَرَادَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ تَقَلَّدَ قِلَادَةً مِنْ شَعَرٍ، حَتَّى يَبْلُغَ مَكَّةَ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصْدِرَ مِنْ مَكَّةَ تَقَلَّدَ قِلَادَةً مِنْ لِحَاءِ السَّمُرِ أَوْ مِنَ الْإِذْخَرِ، فمنعته حَتَّى يَأْتِي أَهله.
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (98) إِلَى الْآيَة (103) .(2/48)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْتَقِمَ مِنْهُ. {وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .(2/49)
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
{قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} يَعْنِي: الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَة الْخَبيث} كَثْرَة الْحَرَام.(2/49)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} قَالَ الْحَسَنُ:
سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي قَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا فَأَكْثَرُوا؛ حَتَّى غَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ غَضَبًا شَدِيدًا، فَقَالَ: سَلُونِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شيءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".(2/49)
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} فَبُيِّنَتْ لَهُمْ {ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرين} يَعْنِي: أَهْلَ الْكِتَابِ: [حَدَّثَنَا يحيى] ، وَبَلَغَنِي أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ:
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ [فَبَيَّنْتُهُ لَهُمْ] فَأَصْبَحُوا بهَا [كَافِرين] .(2/49)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
قَوْلُهُ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلَا حام} إِلَى(2/49)
قَوْله: {لَا يعْقلُونَ} يَعْنِي: لَا يَعْقِلُونَ تَحْرِيمَ الشَّيْطَانِ الَّذِي يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ.
قَالَ قَتَادَةُ:
كَانَتِ الْبَحِيرَةُ مِنَ الْإِبِلِ؛ كَانَتِ النَّاقَةُ إِذَا نَتَجَتَ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ، نَظَرَ إِلَى الْبَطْنِ الْخَامِسِ؛ فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا أَكَلَهُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ مَيْتَةً اشْتَرَكَ فِيهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى نَحَرُوا أُذُنَهَا؛ أَيْ: شَقُّوهَا، وَتُرِكَتْ فَلَا يُشْرَبُ لَهَا لَبَنٌ، وَلَا يُجَزُّ لَهَا وبرٌ، وَلَا يُرْكَبُ لَهَا ظَهْرٌ.
وَالسَّائِبَةُ: كَانُوا يَسِيبُونَ مَا بَدَا لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ مَاءٍ وَلَا مَرْعًى.
وَالْوَصِيلَةُ مِنَ الْغَنَمِ:
كَانُوا إِذَا نَتَجَتِ الشَّاةُ سَبْعَةَ أَبْطُنٍ، نَظَرُوا إِلَى الْبَطْنِ السَّابِعِ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا ذُبِحَ، فَكَانَ لِلرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ مَيْتَةً اشْتَرَكَ فِيهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى تُرِكَتْ، وَإِنْ جَاءَتْ بِذَكَرٍ وَأُنْثَى قِيلَ: وَصَلَتْ أَخَاهَا فَمَنَعَتْهُ الذَّبْحَ.
وَكَانَ الْحَامُ إِذَا رُكِبَ [مِنْ وَلَدِهِ عَشَرَةً قِيلَ] حَمَى ظَهْرَهُ فَلَا (يُزَمُّ) وَلَا يخطم وَلَا يركب.
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (104) إِلَى الْآيَة (105) .(2/50)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم} يَعْنِي: إِذَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْكُمْ.(2/50)
{لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} لَيْسَ هَذَا فِي ضَلَالِ الْكُفْرِ (ل 89) وَلَكِنْ فِي الضَّلَالِ عَنِ الْحَقِّ فِي الْإِسْلَامِ.
يحيى: عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ:
أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قُرِئَتْ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ ابْن مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا بِزَمَانِهَا، قُولُوهَا مَا قُبِلَتْ مِنْكُمْ فَإِذَا رُدَّتْ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ".
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: إِنَّمَا أَلْزَمَكُمُ اللَّهُ أَمْرَ أَنْفُسِكُمْ، وَإِذَا قُلْتُ: عَلَيْكَ فلَانا، فَالْمَعْنى: الزم فلَانا.
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (106) إِلَى الْآيَة (108) .(2/51)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} إِلَى قَوْله: {وآخران من غَيْركُمْ} .
قَالَ يحيى: فِيهَا تَقْدِيمٌ؛ يَقُولُ:
يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا حَضَرَ أَحُدَكُمُ الْمَوْتُ(2/51)
فَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عدلٍ مِنْكُمْ.
قَالَ مُحَمَّد: {شَهَادَة بَيْنكُم} رفع بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر {اثْنَان} الْمَعْنَى: شَهَادَةُ هَذِهِ الْحَالِ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ.
قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي:
مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَشِيرَةِ، لِأَنَّ الْعَشِيرَةَ أَعْلَمُ بِالرَّجُلِ وَبِوَلَدِهِ وَمَالِهِ، وَأَجْدَرُ أَلَّا يَنْسَوْا مَا يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْعَشِيرَةِ أحدٌ فَآخَرَانِ مِنْ غَيْرِ الْعَشِيرَةِ {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فأصابتكم مُصِيبَة الْمَوْت} فَإِنْ شَهِدَا وَهُمَا عَدْلَانِ مَضَتْ شَهَادَتُهُمَا وَإِنِ ارْتِيبَ فِي شَهَادَتِهِمَا حُبِسَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَفِيهَا تَقْدِيم {تحبونهما من بعد الصَّلَاة} [صَلَاةِ الْعَصْرِ] إِنِ ارْتَبْتُمْ. قَالَ الْحَسَنُ: وَلَوْ كَانَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ [الصَّلَاةِ] مَا حَلَفَا دُبُرَ الصَّلاةِ {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثمين} .
فتمضي شَهَادَتهمَا(2/52)
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
{فَإِن عثر} يَعْنِي: اطُّلِعَ {عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} أَيْ: شَهِدَا بِزُورٍ {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} يَعْنِي: الْوَرَثَةَ {الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} الْآيَةَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى:
فَلْيَقُمِ الْأَوْلَيَانِ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْوَصِيَّة.(2/52)
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
{ذَلِك أدنى} أَجْدَرُ {أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَان بعد أَيْمَانهم} قَالَ الْحَسَنُ: فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُنَكِّلَ الشُّهُودُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ.
قَالَ يحيى: وَلَمْ تَكُنْ عِنْدَ الْحَسَنِ مَنْسُوخَةً، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ وَلَا يَحْلِفُ الشَّاهِدَانِ الْيَوْمَ؛ إِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ قَالَ اللَّهُ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ من} . وَقَالَ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوي عدل مِنْكُم} وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَحْلِفَ.
قَوْلُهُ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} يَعْنِي: الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى شِرْكِهِمْ.
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (109) إِلَى الْآيَة (113) .(2/53)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لنا} قَالَ مُجَاهِدٌ: تُنْزَعُ أَفْئِدَتُهُمْ فَلَا يَعْلَمُونَ، ثُمَّ تُرَدُّ إِلَيْهِمْ فَيَعْلَمُونَ.(2/54)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم} أَيْ: يَقُولُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
{اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أيدتك} أعنتك.
{بِروح الْقُدس} يَعْنِي: جِبْرِيلَ: {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المهد} يَعْنِي: حجر أمه {وكهلا} أَيْ: كَبِيرًا {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيئَةِ الطير} يَعْنِي: كَشَبَهِ الطَّيْرِ {وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ} يَعْنِي: الْأَعْمَى [الَّذِي تَلِدُهُ] أُمُّهُ وَهُوَ مَضْمُومُ الْعَيْنَيْنِ.
وَإِذْ كَفَفْتُ بني إِسْرَائِيل عَنْك} إِلَى(2/54)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَن آمنُوا بِي وبرسولي} يَعْنِي: وحيه إِلَى عِيسَى يَأْمُرهُم أَن يتبعوه(2/54)
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُونَ: هَلْ رَبُّكَ فاعلٌ، وَهُوَ كَلَامُ الْعَرَبِ: مَا أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؛ أَيْ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ ذَلِكَ.
يحيى: عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
هُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِاللَّهِ مِنْ أَنْ يَقُولُوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ، وَلَكِنْ قَالُوا:(2/54)
هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ، أَيْ: هَلْ تَقْدِرُ عَلَى هَذَا مِنْهُ؟ "
{قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (ل 90) قَالَه عِيسَى(2/55)
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
{قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وتطمئن قُلُوبنَا} أَيْ: تَسْكُنُ؛ إِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْمَائِدَة.
{وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا من الشَّاهِدين} أَنَّهَا نَزَلَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (114) إِلَى الْآيَة (115) .(2/55)
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وآخرنا} قَالَ قَتَادَةُ: أَرَادُوا أَنْ تَكُونَ لِعَقِبِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمعنى {عيدا} : مجمعا، و {مائدة} الْأَصْلُ فِيهَا مِنْ قَوْلِكَ: مَادَنِي؛ أَيْ: أَعْطَانِي؛ فَكَأَنَّهَا تَمِيدُ الْآكِلِينَ؛ أَي: تعطيهم.(2/55)
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
{قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} عَلَى شَرْطٍ {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُم فَإِنِّي أعذبه} فِي الدُّنْيَا ... الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْزَلَ عَلَى الْمَائِدَةِ كُلَّ شَيْءٍ غَيْرَ اللَّحْمِ.(2/55)
قَالَ قَتَادَةُ:
وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ لَمَّا صَنَعُوا فِي الْمَائِدَةِ مَا صَنَعُوا مِنَ الْخِيَانَةِ وَغَيْرِهَا، حُوِّلُوا خَنَازِيرَ، وَكَانُوا أُمِرُوا أَلَّا يَخُونُوا فِيهِ، وَلَا يُخَبِّئُوا وَلَا يَدَّخِرُوا لغدٍ، فخانوا وخبئوا وَادخرُوا.
سُورَة الْمَائِدَة من الْآيَة (116) إِلَى الْآيَة (120) .(2/56)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} يَعْنِي: لِبَنِي إِسْرَائِيلَ خَاصَّةً {اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يَقُولُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. {قَالَ سُبْحَانَكَ} يُنَزِّهُ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ علام الغيوب} وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَمْ يقلهُ.(2/56)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} (وَفَاةَ الرَّفْعِ إِلَى السَّمَاءِ) .(2/56)
{كنت أَنْت الرَّقِيب} الْحَفِيظَ {عَلَيْهِمْ}(2/57)
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
{إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك} أَيْ: فَبِإِقَامَتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ {وَإِنْ تغْفر لَهُم} فبتوبة كَانَت مِنْهُم.(2/57)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقين صدقهم} وَهِي تقْرَأ على وَجه آخر {يَوْمٌ} مُنَوَّنَةٌ.
{لَهُمْ جناتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ... ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} النجَاة الْعَظِيمَة(2/57)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
{لله ملك السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا فِيهِنَّ} أَيْ: وَمُلْكُ مَا فِيهِنَّ {وَهُوَ على كل شَيْء قدير} .(2/57)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا. فِي قَوْلِ قَتَادَةَ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مَدَنِيَّاتٍ فِي آخِرِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُم} إِلَى قَوْله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} . سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (1) إِلَى الْآيَة (5) .(2/58)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
قَوْله: {الْحَمد لله} حمد نَفسه {الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَجعل الظُّلُمَات والنور} الظُّلُمَاتُ: اللَّيْلُ، وَالنُّورُ: ضَوْءُ النَّهَارِ.
{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} عَدَلُوا بِهِ أَصْنَامَهُمُ الَّتِي عَبَدُوهَا من دون الله.(2/58)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} يَعْنِي: آدَمَ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ بَعْدُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ضَعِيفٍ؛ يَعْنِي: النُّطْفَةَ {ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} قَالَ قَتَادَة: {ثمَّ قضى أَََجَلًا} يَعْنِي: الْمَوْت {وَأجل مُسَمّى عِنْده} مَا بَيْنَ الْمَوْتِ إِلَى الْبَعْثِ {ثمَّ أَنْتُم تمترون} تشكون فِي السَّاعَة.(2/58)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)
{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَات رَبهم} يَعْنِي: الْقُرْآنَ، {إِلا كَانُوا عَنْهَا معرضين} يَعْنِي بِهِ: مُشْركي الْعَرَب.(2/59)
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)
{فقد كذبُوا بِالْحَقِّ} يَعْنِي: بِالْقُرْآنِ {لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهم أنباء مَا كَانُوا يه يستهزءون} يَأْتِيهِمْ عِلْمُهُ فِي الْأَرْضِ، فَيَأْخُذُهُمُ الله فيدخلهم النَّار.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (6) إِلَى الْآيَة (7) .(2/59)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
{كم أهلكنا} عذبنا {من قبلهم} يَعْنِي: كُفَّارَ مَكَّةَ. إِلَى قَوْلِهِ: {فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ} يُحَذِّرُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَيُخَوِّفُهُمْ مَا أَهْلَكَ بِهِ الْأُمَمَ حِينَ كَذَّبُوا رسلهم {وأنشأنا} خَلْقَنَا {مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: الْقَرْنُ: ثَمَانُونَ سنة.(2/59)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قرطاس} الْآيَةَ، قَالَ الْحَسَنُ:
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ: بِكِتَابٍ يَقْرَءُونَهُ وَقَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نقرؤه من الله (ل 91) إِلَى كُلِّ رَجُلٍ بِاسْمِهِ؛ أَنْ آمن بِمُحَمد؛ فَإِنَّهُ رَسُولي.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (8) إِلَى الْآيَة (10) .(2/59)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)
{وَقَالُوا لَوْلَا} هلا {أنزل عَلَيْهِ ملك} أَيْ: يَأْمُرُنَا بِاتِّبَاعِهِ.
قَالَ اللَّهُ: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ} بعذابهم {ثمَّ لَا ينظرُونَ} لَا يُؤَخَّرُونَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَلَكِ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ إِذَا سَأَلُوا نَبِيَّهُمُ الْآيَةَ فَجَاءَتْهُمْ فَلَمْ يُؤْمِنُوا، أَهْلَكَهُمُ الله.(2/60)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا} أَيْ: لَجَعَلْنَا ذَلِكَ الْمَلَكَ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يلبسُونَ} أَيْ: وَلَخَلَطْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَخْلِطُونَ؛ لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا أَنْ يَكُونَ مَلَكٌ مَعَ آدَمِيٍّ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَأَضْلَلْنَاهُمْ بِمَا ضَلُّوا بِهِ قبل أَن يبْعَث الْملك.(2/60)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون} يَعْنِي: نَزَلَ بِهِمْ عُقُوبَةُ اسْتِهْزَائِهِمْ.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (11) إِلَى الْآيَة (17) .(2/60)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} كَانَ عاقبتهم أَن دمر الله عَلَيْهِم، ثمَّ صيرهم إِلَى النَّار.(2/61)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
{كتب على نَفسه الرَّحْمَة} أَيْ: أَوْجَبَهَا. {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أَيْ: خَسِرُوهَا بِمَصِيرِهِمْ إِلَى النَّارِ {فهم لَا يُؤمنُونَ} يُغني: من مَاتَ على كفره.(2/61)
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض} يَعْنِي: خَالِقَهُمَا.
{وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أكون أول من أسلم} يَعْنِي: من أمته.(2/61)
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
{من يصرف عَنهُ يَوْمئِذٍ} يَعْنِي: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ عَذَابُهُ {فقد رَحمَه} .
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (18) إِلَى الْآيَة 21) .(2/61)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
{وَهُوَ القاهر فَوق عباده} قَهَرَهُمْ بِالْمَوْتِ، وَبِمَا شَاءَ مِنْ أمره {وَهُوَ الْحَكِيم} فِي أمره {الْخَبِير} بخلقه.(2/61)
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} قَالَ الْكَلْبِيُّ:
قَالَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لِلنَّبِيِّ: مَنْ يَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ فَيَشْهَدُ لَكَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شهيدٌ بيني وَبَيْنكُم} فَهُوَ شَهِيدٌ أَنِّي رَسُولُهُ.
{وَأُوحِيَ إِلَيّ هَذَا الْقُرْآن لأنذركم بِهِ وَمن بلغ} أَيْ: مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ.(2/61)
قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْعَجَمِ وَغَيْرِهِمْ.
{أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى} وَهَذَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ: قَدْ شَهِدْتُمْ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى؟(2/62)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كذبا} فَيَعْبُدُ مَعَهُ الْأَوْثَانَ؛ أَيْ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُ {إِنَّهُ لَا يفلح الظَّالِمُونَ} الْمُشْركُونَ.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (22) إِلَى الْآيَة (24) .(2/62)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ للَّذين أشركوا أَيْن شركاؤكم} يَعْنِي: أَوْثَانَهُمْ.
{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فتنتهم} يَعْنِي: مَعْذِرَتَهُمْ {إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}(2/62)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
{انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} بِاعْتِذَارِهِمْ بِالْكَذِبِ {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يفترون} يَعْنِي: الْأَوْثَانَ الَّتِي عَبَدُوهَا ضَلَّتْ عَنْهُمْ؛ فَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ:
مَنْ قَرَأَ {رَبِّنَا} بِالْخَفْضِ، فَهُوَ عَلَى النَّعْتِ وَالثَّنَاءِ، وَمَنْ قَرَأَ {فِتْنَتَهُمْ} بِالنَّصْبِ، فَهُوَ خبر {تكن} ، وَالِاسْم {إِلَّا أَن قَالُوا} .(2/62)
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (25) إِلَى الْآيَة (26) .(2/63)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} لِئَلَّا يَفْقَهُوهُ. {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} يَعْنِي: صَمَمًا عَنِ الْهُدَى.
{وَإِنْ يرَوا كل آيَة} يَعْنِي: مَا سَأَلُوا النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْآيَاتِ.
{لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذا جاءوك يجادلونك} وَمُجَادَلَتُهُمْ أَنْ {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} كَذِبُ الْأَوَّلِينَ وَبَاطِلُهُمْ؛ يَعْنُونَ: الْقُرْآنَ.(2/63)
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
{وهم ينهون عَنهُ وينئون عَنهُ} قَالَ الْحَسَنُ: يَنْهَوْنَ عَنِ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ، وَيَتَبَاعَدُونَ عَنْهُ {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أنفسهم} بذلك {وَمَا يَشْعُرُونَ} أَنهم يهْلكُونَ أنفسهم.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (27) إِلَى الْآيَة (29) .(2/63)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} إِلَى الدُّنْيَا {وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بدا لَهُم} فِي الْآخِرَة(2/63)
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
{مَا كَانُوا يخفون من قبل} إِذْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا، وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقين {وَلَو ردوا} إِلَى الدُّنْيَا {لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنهُ} من التَّكْذِيب (وَإِنَّهُم(2/63)
لَكَاذِبُونَ) {ل 92} أَيْ: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِيُؤْمِنُوا؛ أخبر بِعِلْمِهِ فيهم. سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (30) إِلَى الْآيَة (31) .(2/64)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} الَّذِي كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِهِ إِذْ أَنْتُمْ فِي الدُّنْيَا {قَالُوا بَلَى وربنا} فَآمَنُوا حِينَ لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْإِيمَانُ.(2/64)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَة قَالُوا يَا حسرتنا} وَالتَّحَسُّرُ: التَّنَدُّمُ {عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} {فِي} السَّاعَة، إِذْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ} {بئس} (مَا يزرون} يَحْمِلُونَ ذُنُوبَهُمْ.
يحيى: عَنْ صَاحِبٍ لَهُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ مُثِّلَ لَهُ عَمَلُهُ فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ رَآهَا قَطُّ، أَقْبَحَهُ وَجْهًا، وَأَنْتَنَهُ رِيحًا، وَأَسْوَأَهُ لَفْظًا؛ فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ؛ فَمَا رَأَيْتُ أَقْبَحَ مِنْكَ وَجْهًا،(2/64)
وَلَا أَنْتَنَ مِنْكَ رِيحًا، وَلَا أَسْوَأَ مِنْكَ لَفْظًا. فَيَقُولُ: أَتَعْجَبُ مِنْ قُبْحِي؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: أَنَا وَاللَّهِ عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، وَإِنَّكَ كُنْتَ تَرْكَبُنِي فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرْكَبَنَّكَ الْيَوْمَ؛ فَيَرْكَبُهُ فَلَا يَرَى شَيْئًا يَهُولُهُ وَلَا يَرُوعُهُ إِلَّا قَالَ: أَبْشِرْ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، أَنْتَ الَّذِي تُرَادُ وَأَنْتَ الَّذِي تُعْنَى. وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَهُمْ يحملون أوزارهم على ظُهُورهمْ} الْآيَة ".
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (32) إِلَى الْآيَة (34) .(2/65)
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهو} أَيْ: أَنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا أَهْلُ لعب ولهوٍ.(2/65)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} إِنَّكَ ساحرٌ، وَإِنَّكَ شَاعِرٌ، وَإِنَّكَ كَاهِنٌ، وَإِنَّكَ مَجْنُونٌ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ:
شَقَّ عَلَيْهِ وَحَزِنَ، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ، وَقَدْ عَرَفُوا أَنَّكَ صَادِقٌ {وَلَكِنَّ الظَّالِمين بآيَات الله يجحدون} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ قَرَأَ {لَا يكذبُونَك} بِالتَّخْفِيفِ، فَالْمَعْنَى: لَا يَلْفُونَكَ كَاذِبًا، وَمن قَرَأَ {لَا يكذبُونَك} فَالْمَعْنَى: لَا يَنْسِبُونَكَ إِلَى الْكَذِبِ.(2/65)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله} أَيْ: أَنَّهُ سَيَنْصُرُكَ، وَيُظْهِرُ دِينَكَ، كَمَا نَصَرَ الرُّسُلَ الَّذِينَ كُذِّبُوا مِنْ قَبْلِكَ {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نبإ الْمُرْسلين} مِنْ أَخْبَارِ الْمُرْسَلِينَ أَنَّهُمْ قَدْ نُصِرُوا بَعْدَ الْأَذَى، وَبَعْدَ الشَّدَائِدِ. سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (35) إِلَى الْآيَة (36) .(2/66)
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} عَنْكَ، وَتَكْذِيبُهُمْ إِيَّاكَ.
{فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ} أَيْ: سِرْبًا، فَتَدْخُلَ فِيهِ {أَوْ سلما فِي السَّمَاء} أَيْ: إِلَى السَّمَاءِ، فَتَرْقَى إِلَيْهَا {فتأتيهم بِآيَة} وَهَذَا حِينَ سَأَلُوا الْآيَةَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَفْعَلَ هَذَا فَافْعَلْ؛ اخْتَصَرَ (فَافْعَلْ) إِذْ كَانَ فِي الْكَلَامِ مَا يدل عَلَيْهِ.(2/66)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
{إِنَّمَا يستجيب الَّذين يسمعُونَ} يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي بِالْمَوْتَى: الْمُشْرِكِينَ.
وَقَوله: {يَبْعَثهُم الله} يَعْنِي: مَنْ يَمُنُّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ؟ فَيُحْيِيهِمْ مِنْ شِرْكِهِمْ {ثُمَّ إِلَيْهِ يرجعُونَ} يَوْم الْقِيَامَة.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (37) إِلَى الْآيَة (39) .(2/66)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
{وَقَالُوا لَوْلَا} هلا {نزل عَلَيْهِ} على مُحَمَّد {أيه} {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يعلمُونَ} وهم الْمُشْركُونَ.(2/67)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
قَوْلُهُ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَم أمثالكم}
قَالَ مُجَاهِدٌ: [أَيْ: أَصْنَافٌ] مُصَنَّفَةٌ [تُعْرَفُ] بِأَسْمَائِهَا.
{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكتاب من شَيْء} مِنْ آجَالِهَا وَأَعْمَالِهَا وَأَرْزَاقِهَا وَآثَارِهَا؛ أَيْ: أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مكتوبٌ عِنْد الله.(2/67)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
{وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا صم} عَنِ الْهدى؛ فَلَا يسمعونه {وبكم} عَنْهُ؛ فَلَا يَنْطِقُونَ بِهِ {فِي الظُّلُمَات} يَعْنِي: الْكفْر. سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (40) إِلَى الْآيَة (41) .(2/67)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)
{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله} قَالَ الحَسَن: يَعْنِي: فِي الدُّنيا بالاستئصال {أَو أتتكم السَّاعَة} بِالْعَذَابِ {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُم صَادِقين} أَيْ: أَنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ إِلَّا اللَّهَ؛ فَتُؤْمِنُوا حَيْثُ لَا يُقْبَلُ الْإِيمَان (ل 93) مِنْكُمْ؛ وَقَدْ قَضَى اللَّهُ أَلَّا يُقْبَلَ الْإِيمَانُ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ.(2/67)
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
{بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تدعون إِلَيْهِ إِن شَاءَ} وَهَذِهِ مَشِيئَةُ الْقُدْرَةِ، وَلَا(2/67)
يَشَاءُ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ.
{وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} بِاللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَوْثَانِ؛ فَتُعْرِضُونَ عَنْهَا.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (42) إِلَى الْآيَة (45) .(2/68)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
{وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قبلك فأخذناهم بالبأساء وَالضَّرَّاء} الْبَأْسَاءُ: الْبُؤْسُ؛ وَهِيَ الشَّدَائِدُ مِنَ الْجُدُوبَةِ، وَشِدَّةِ الْمَعَاشِ. وَالضَّرَّاءُ يَعْنِي: الضُّرَّ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْجَاعِ {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}(2/68)
فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
{فلولا} يَعْنِي: فَهَلَّا {إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تضرعوا} أَيْ: أَنَّهُمْ لَمْ يَتَضَرَّعُوا {وَلَكِنْ قست قُلُوبهم} غَلُظَتْ فَلَمْ يُؤْمِنُوا، وَهَذَا الَّذِي كَانَ يُصِيبُ الأُمَمَ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يَبْتَلِيهِمُ اللَّهُ بِهِ قَبْلَ الْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ؛ فَإِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا أَهَلَكَهُمُ الله.(2/68)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} أَيْ: {كَذَّبُوا} مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ.
{فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْء} مِنَ الرِّزْقِ {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} بِمَا أعْطوا {أَخَذْنَاهُم بَغْتَة} يَعْنِي: بِالْعَذَابِ فَجْأَةً {فَإِذَا هُمْ مبلسون} ييأسون(2/68)
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
{فَقطع دابر} أصل {الْقَوْم الَّذين ظلمُوا} أشركوا.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (46) إِلَى الْآيَة (49) .(2/68)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سمعكم} [فأصمها] {وأبصاركم} فَأَعْمَاهَا.
{وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} أَيْ: بِمَا أَذْهَبَ؛ يَقُولُ: لَيْسَ بِفعل ذَلِكَ؛ حَتَّى يَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ إِنْ شَاءَ إِلَّا هُوَ {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَات} نبينها {ثمَّ هم يصدفون} أَي: يعرضون عَنْهَا.(2/69)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله بَغْتَة} أَي: لَيْلًا {أَو جهرة} نَهَارًا {هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} يُخَوِّفُهُمُ الْعَذَابَ؛ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا.(2/69)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ} يَعْنِي: بِالْجنَّةِ {ومنذرين} من النَّار.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (50) إِلَى الْآيَة (51) .(2/69)
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِن الله} أَيْ: عِلْمُ خَزَائِنِ اللَّهِ الَّذِي فِيهِ الْعَذَابُ؛ لِقَوْلِهِمْ: {ائْتِنَا بِعَذَابٍ الله} .
{وَلَا أعلم الْغَيْب} فيأتيكم الْعَذَاب. {وَلَا أَقُول إِنِّي ملك} إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَكِنِّي رَسُولٌ يُوحَى إِلَيَّ. {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحى إِلَيّ} أَيْ: إِنَّمَا أُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ مَا أَمَرَنِي بِهِ.(2/69)
{قل هَل يَسْتَوِي الْأَعْمَى} يَعْنِي: الَّذِي لَا يُبْصِرُ {وَالْبَصِيرُ} الَّذِي يُبْصِرُ؛ هَذَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِر {أَفلا تتفكرون} أَي: أَنَّهُمَا لَا يستويان.(2/70)
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
{وأنذر بِهِ} يَعْنِي: بِالْقُرْآنِ {الَّذين يخَافُونَ} يَعْنِي: يَعْلَمُونَ {أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبهم} يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ؛ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا تنذر بِهِ من اتبع الذّكر} إِنَّمَا يَقْبَلُ مِنْكَ مَنْ آمَنَ.
{لَيْسَ لَهُم من دونه} أَيْ: مِنْ دُونِ اللَّهِ {وَلِيٌّ} يَمْنَعُهُمْ مِنْ عَذَابِهِ {وَلا شَفِيعٌ} يَشْفَعُ لَهُمْ؛ إِنْ لَمْ يَكُونُوا مُؤمنين.
{لَعَلَّهُم} لَعَلَّ الْمُشْركين {يَتَّقُونَ} هَذَا فيؤمنوا.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (52) إِلَى الْآيَة (53) .(2/70)
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ والعشي} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: صَلَاةَ مَكَّةَ؛ حِينَ كَانَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ غَدْوَةً، وَرَكْعَتَيْنِ عَشِيَّةً، قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ.
قَالَ قَتَادَةُ:
قَالَ قَائِلُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ: إِنْ سَرَّكَ أَنْ نَتَّبِعَكَ، فَاطْرُدْ عَنَّا فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا - لِأُنَاسٍ كَانُوا دُونَهُمْ [فِي الدُّنْيَا] ازْدَرَاهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَأَنْزَلَ(2/70)
اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {يُرِيدُونَ وَجهه} يُرِيدُونَ اللَّهَ وَرِضَاهُ.
{مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ الَّذين قَالَت لَهُ قُرَيْشٌ: اطْرُدْهُمْ. قَالَ: {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ من الظَّالِمين} أَيْ: إِنْ طَرَدْتَهُمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: {فَتكون من الظَّالِمين} هُوَ جَوَاب {وَلَا تطرد} وَقَوله: {فَتَطْرُدهُمْ} هُوَ جَوَابُ {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} ".(2/71)
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
{أَلَيْسَ الله بِأَعْلَم بِالشَّاكِرِينَ} يَعْنِي: الْمُوَحِّدين. سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (54) إِلَى الْآيَة (55) .(2/71)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} الْآيَةَ، تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ:
أَنَّ أَبَا طَالِبٍ هُوَ الَّذِي قَالَ لِلنَّبِيِّ: اطرد (ل 94) فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا، وَأَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَدَقَ عَمُّكَ؛ فَاطْرُدْ عَنَّا سَفَلَةَ الْمَوَالِي، فَعَاتَبَهُمُ اللَّهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، فَجَاءُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنْ سَقْطَتِهِمْ، وَيَسْأَلُونَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقل سَلام عَلَيْكُم} أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ.
{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَة} [قَالَ قَتَادَةُ: كُلُّ ذَنْبٍ عَمِلَهُ عَبْدٌ فَهُوَ بِجَهَالَةٍ] .(2/71)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَنْ قَرَأَ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ} بِفَتْحِ الْأَلِفِ، فَالْمَعْنَى: وَكَتَبَ أَنَّهُ، وَمَنْ قَرَأَ: {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} بِكَسْرِ الْأَلِفِ؛ فَإِنَّهُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ.(2/72)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
قَوْله: {وَكَذَلِكَ نفصل الْآيَات} أَي: نبينها {ولتستبين} يَا مُحَمَّد {سَبِيل الْمُجْرمين} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ بِالْآيَاتِ الَّتِي بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا سَبِيلَ الْهُدَى مِنْ سَبِيل الضَّلَالَة.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (56) إِلَى الْآيَة (58) .(2/72)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يَعْنِي: الْأَوْثَانَ.
{قُلْ لَا أَتَّبِعُ أهواءكم} فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ {قَدْ ضَلَلْتُ إِذا} إِنِ اتَّبَعْتُ أَهْوَاءَكُمْ {وَمَا أَنَا من المهتدين}(2/72)
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} يَعْنِي: النُّبُوَّة {وكذبتم بِهِ} بِالْقُرْآنِ.
{مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} مِنَ الْعَذَابِ؛ لِقَوْلِهِمْ: {عَجِّلْ لَنَا قطنا} يَعْنِي: عَذَابَنَا {قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} ، وَلِقَوْلِهِمْ: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ(2/72)
الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة من السَّمَاء} وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
{إِنِ الْحُكْمُ إِلا لله} إِن الْقَضَاء إِلَّا لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {يَقْضِي الْحَقَّ} وَتُقْرَأُ أَيْضًا {يَقُصُّ الْحق} مِنَ الْقَصَصِ {وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} بالحكم.(2/73)
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
{قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُون بِهِ} {مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} (لَقُضِيَ الأَمْرُ بيني وَبَيْنكُم} يَعْنِي: السَّاعَةَ، فَأَتَيْتُكُمْ بِالْعَذَابِ {وَاللَّهُ أعلم بالظالمين} الْمَعْنَى.
وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ ظَالِمُونَ؛ أَي: مشركون.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (59) إِلَى الْآيَة (60) .(2/73)
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
{وَعِنْده مفاتح الْغَيْب} يَعْنِي: خَزَائِنُ الْغَيْبِ {لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِيكُمُ الْعَذَابُ؛ هَذَا تَفْسِيرُ الْحَسَنِ {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظلمات الأَرْض} [فِي جَوْفِ الْأَرْضِ] {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبين} {بَين(2/73)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
2 -! (وَهُوَ الَّذِي يتوفاكم بِاللَّيْلِ} يَعْنِي: النَّوْمَ {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} مَا عَمِلْتُمْ بِالنَّهَارِ {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: فِي النَّهَارِ. {ليقضى أجل مُسَمّى} يَعْنِي: السَّاعَةَ بِاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.(2/73)
{ثمَّ إِلَيْهِ مرجعكم} يَوْمَ الْقِيَامَةِ {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} .
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (61) إِلَى الْآيَة (67) .(2/74)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)
{وَهُوَ القاهر فَوق عباده} قَهَرَهُمْ بِالْمَوْتِ، وَبِمَا شَاءَ مِنْ أمره. {وَيُرْسل عَلَيْكُم حفظَة} مِنَ الْمَلَائِكَةِ؛ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَيَكْتُبُونَهَا، وَيَحْفَظُونَهُ مِمَّا لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ؛ حَتَّى يَأْتِيَ الْقَدَرُ {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} فِي أَمْرِ اللَّهِ.
يحيى: وَبَلَغَنَا أَنَّ لِمَلَكِ الْمَوْتِ أَعْوَانًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ هُمُ الَّذِينَ يَسِلُّونَ الرُّوحَ مِنَ الْجَسَدِ؛ حَتَّى إِذَا [كَانُوا عِنْدَ خُرُوجِهِمْ جَاءَ] مَلَكُ الْمَوْتِ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ آجَالَ الْعِبَادِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ عِلْمُ ذَلِكَ مِنْ قبل الله.(2/74)
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحق} يَعْنِي: مَالِكَهُمْ، وَالْحَقُّ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ {أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أسْرع الحاسبين} .
قَالَ يحيى:
سَمِعْتُ بَعْضَ الْكُوفِيِّينَ يَقُولُ: يَفْرَغُ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْخَلْقِ(2/74)
إِذَا أَخَذَ فِي حِسَابِهِمْ فِي قَدْرِ نِصْفِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا.(2/75)
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)
{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبر وَالْبَحْر} يَعْنِي: كُرُوبَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.
{تَدْعُونَهُ تضرعا وخفية} أَي: سراًّ بالتضرع {لَئِن أنجيتنا من هَذِه} الشدَّة {لنكونن من الشَّاكِرِينَ} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ.(2/75)
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
{قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كل كرب} أَيْ: كُلِّ كَرْبٍ نَجَوْتُمْ مِنْهُ فَهُوَ الَّذِي أَنْجَاكُمْ مِنْهُ {ثُمَّ أَنْتُم تشركون}(2/75)
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بعض} (ل 95) تَفْسِيرُ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {عَذَابًا من فَوْقكُم} فَيَحْصِبَكُمْ بِالْحِجَارَةِ كَمَا حَصَبَ قَوْمَ لُوطٍ، أَوْ بِبَعْضِ مَا يَنْزِلُ مِنَ الْعَذَابِ {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلكُم} أَي: بخسف أَو برجفةٍ {أَو يلْبِسكُمْ شيعًا} يَعْنِي: اخْتِلَافًا.
{وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بعض} أَي: فَيقْتل بَعْضكُم بَعْضًا(2/75)
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بوكيل} بِحَفِيظٍ لِأَعْمَالِكُمْ حَتَّى [أُجَازِيَكُمْ] بِهَا إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ، وَاللَّهُ الْمُجَازِي لكم بأعمالكم.(2/75)
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
{وَلكُل نبإٍ مُسْتَقر} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَقُولُ: لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُ وَشَرُّهُ.
{وسوف تعلمُونَ} يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ وَهَذَا وعيدٌ مِنَ اللَّهِ لِلْكُفَّارِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يقرونَ بِالْبَعْثِ.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (68) إِلَى الْآيَة (69) .(2/75)
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: يَسْتَهْزِئُونَ بِهَا {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيث غَيره} كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِقِتَالِهِمْ.
{وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمين} نُهِيَ أَنْ يَقْعُدَ مَعَهُمْ، إِلَّا أَنْ يَنْسَى فَإِذَا ذَكَرَ فَلْيَقُمْ.(2/76)
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
{وَمَا على الَّذين يَتَّقُونَ} يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ {مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْء} يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِ الْمُشْرِكِينَ؛ أَيْ: إِنْ قَعَدُوا مَعَهُمْ {وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} قَالَ الْكَلْبِيُّ:
قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا كُنَّا كُلَّمَا اسْتَهْزَأَ الْمُشْرِكُونَ بِكَتَابِ اللَّهِ قُمْنَا وَتَرَكْنَاهُمْ لَمْ نَدْخُلِ الْمَسْجِدَ وَلَمْ نَطُفْ بِالْبَيْتِ، فَرَخَّصَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ فَقَالَ: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِن ذكرى لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ} فَكَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَذْكُرُوهُمْ مَا اسْتَطَاعُوا.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (70) فَقَط.(2/76)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا ولهوا وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا} قَالَ قَتَادَةُ: وَهَذَا مِمَّا نَسَخَ (الْقِتَال) .(2/76)
{وَذكر بِهِ} بِالْقُرْآنِ {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كسبت} يَعْنِي: أَنْ تُسْلَمَ {بِمَا كَسَبَتْ} عَمِلَتْ؛ أَيْ: تُسْلَمَ فِي النَّارِ {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ ولي} يمْنَعهَا مِنْهُ {وَلَا شَفِيع} يَشْفَعُ لَهَا عِنْدَهُ؛ وَهَذَا الْكَافِرُ.
{وَإِن تعدل كل عدل} أَيْ: تَفْتَدِي بِكُلِّ فِدْيَةٍ {لَا يُؤْخَذ مِنْهَا} لَا يُقْبَلُ مِنْهَا {أُولَئِكَ الَّذِينَ أبسلوا} أُسْلِمُوا فِي النَّارِ. {بِمَا كَسَبُوا} عَمِلُوا {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} وَالْحَمِيمُ: الْحَارُّ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حره {وَعَذَاب أَلِيم} موجعٌ.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (71) فَقَط.(2/77)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
{قل أندعوا من دون الله} يَعْنِي: نَعْبُدُ {مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا} وَهِيَ الْأَوْثَانُ.
{وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} أَيْ: نَرْجِعُ إِلَى الْكُفْرِ {بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِين فِي الأَرْض} أَيْ: غَلَبَتْ عَلَيْهِ {حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} أَيْ: كَرَجُلٍ ضَلَّ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ، لَهُ أَصْحَابٌ كُلُّهُمْ يَدْعُونَهُ إِلَى الطَّرِيقِ فَهُوَ مُتَحَيِّرٌ؛ هَذَا مِثْلُ مِنْ ضَلَّ بَعْدَ الْهُدَى، قَالَ اللَّهُ لِلنَّبِيِّ: {قُلْ إِنَّ هدى الله هُوَ الْهدى} وَهُوَ الَّذِي أَنْت عَلَيْهِ.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (72) إِلَى الْآيَة (73) .(2/77)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
{وَهُوَ الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ} أَيْ: لِلْحَقِّ؛ يَعْنِي: الْمِيعَادَ {وَيَوْمَ يَقُول كن فَيكون} 6 يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّور} يَنْفُخُ فِيهِ ملكٌ يَقُومُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، قَالَ قَتَادَةُ:
مِنَ الصَّخْرَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالصُّورِ: قَرْنٌ فِيهِ أَرْوَاحُ الْخَلْقِ؟ فَيُنْفَخُ فِيهِ فَيَذْهَبُ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ، ثُمَّ يَنْطَلِقُونَ سِرَاعًا إِلَى الْمُنَادِي صَاحِبِ الصُّورِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة} الْغَيْبُ: السِّرُّ، وَالشَّهَادَةُ: الْعَلَانِيَةُ {وَهُوَ الْحَكِيم} فِي أمره {الْخَبِير} بأعمال الْعباد.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (74) إِلَى الْآيَة (79) .(2/78)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أتتخذ أصناماً آلِهَة} قَالَ قَتَادَةُ:
أَبُو إِبْرَاهِيمَ اسْمُهُ: تَارَحُ.(2/78)
قَالَ يحيى: وَالْمَقْرَأَةُ عَلَى هَذَا التَّفْسِير: {آزر} بِالرَّفْع، وَكَذَلِكَ كَانَ الْحسن (ل 96) يَقْرَؤُهَا بِالرَّفْعِ (آزَرُ) يَقُولُهُ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ:
مَقْرَأُ الْحَسَنِ بِالرَّفْعِ؛ هُوَ بِمَعْنَى (يَا آزَرُ) .
وَقَالَ الْخَلِيلُ: مَعْنَى (يَا آزَرُ) الشَّيْءُ يُعَيِّرُهُ بِهِ؛ كَأَنَّهُ قَالَ: يَا مُعْوَجُّ، يَا ضَالُّ.
قَالَ يحيى: وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقْرَؤُهَا بِالنَّصْبِ، وَيَقُولُ: اسْمُ أَبِيه: (آزر) .(2/79)
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
{وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيم ملكوت} يَعْنِي: ملك {السَّمَاوَات وَالْأَرْض} الْآيَة.
تَفْسِير قَتَادَة قَالَ:
ذكر لَنَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ فُرَّ بِهِ مِنْ جَبَّارٍ مترفٍ؛ فَجُعِلَ فِي سربٍ، وَجُعِلَ رِزْقُهُ فِي أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ، فَجَعَلَ لَا يَمَصُّ إِصْبَعًا إِلَّا وَجَدَ فِيهَا(2/79)
رِزْقًا، وَإِنَّهُ لَمَّا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ السِّرْبِ أَرَاهُ اللَّهُ مَلَكُوتَ السَّمَوَات؛ أرَاهُ شمساً وقمراً ونجوماً وعبوناً وَخَلْقًا عَظِيمًا، وَأَرَاهُ مَلَكُوتَ الْأَرْضِ؛ فَأَرَاهُ جِبَالًا وَبِحَارًا وَأَنْهَارًا وَشَجَرًا، وَمِنْ كُلِّ الدَّوَابِّ وَخَلْقًا عَظِيمًا.(2/80)
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
{فَلَمَّا جن عَلَيْهِ اللَّيْل} أَيْ: [آوَاهُ] .
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ:
جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، وَأَجَنَّهُ اللَّيْلُ؛ إِذَا أَظْلَمَ حَتَّى يَسْتُرَهُ بِظُلْمَتِهِ.
{رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أفل} ذَهَبَ {قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ} وَأَهَمَّهُ النَّظَرُ فَرَاعَى الْكَوْكَبَ حَتَّى ذَهَبَ وَغَابَ، قَالَ: وَاطَّلَعَ الْقَمَرُ، وَكَانَ لَيْلَة آخر الشَّهْر(2/80)
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)
{فَلَمَّا رأى الْقَمَر بازغا} أَيْ طَالِعًا {قَالَ هَذَا رَبِّي} قَالَ: فَرَاعَاهُ حَتَّى غَابَ {فَلَمَّا أفل} ذَهَبَ {قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} قَالَ: فَازْدَادَ قُرْبًا مِنْ مَعْرِفَةِ الله(2/80)
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
{فَلَمَّا رأى الشَّمْس بازغة} [أَيْ: طَالِعَةً] {قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أكبر} أَيْ: مِنَ الْقَمَرِ وَالْكَوْكَبِ. قَالَ: فَرَاعَاهَا حَتَّى غَابَتْ {فَلَمَّا أَفَلَتْ} ذَهَبَتْ {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بريءٌ مِمَّا تشركون} .
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (80) إِلَى الْآيَة (83) .(2/80)
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)
{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تشركون بِهِ} 6 يَعْنِي: أَصْنَامَهُمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ:
ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ؛ أَنَّ نَافِعًا قَرَأَ: {أَتُحَاجُّونِي} بِتَخْفِيفِ النُّونِ، وَمِثْلُهُ: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ} قَالَ: وَقَرَأَهُمَا أَهْلُ الْعرَاق مثقلتين: (أتحاجوني، وتأمروني) .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ:
وَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا بِتَثْقِيلِهِمَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ بِنُونَيْنِ: نُونُ الْفِعْلِ، وَنُونُ اسْمِ الْفَاعِلِ: فَلَمَّا كُتِبَتَا فِي الْمُصْحَفِ عَلَى(2/81)
نُونٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يَكُنْ إِلَى الزِّيَادَةِ سَبِيلٌ؛ فَثَقَّلُوا النُّونَ؛ لِتَكُونَ الْمَتْرُوكَةُ مُدْغَمَةً. قَالَ: وَإِنَّمَا كَرِهَ التَّثْقِيلَ مَنْ كَرِهَهُ - فِيمَا نَرَى - لِلْجَمْعِ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ؛ وَهِيَ الْوَاوُ وَالنُّونُ الْمُدْغَمَةُ فَحَذَفُوهَا.
قَوْلُهُ: {وَسِعَ رَبِّي كل شيءٍ علما} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: مَلَأَ رَبِّي.(2/82)
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)
{وَكَيف أَخَاف مَا أشركتم} يَعْنِي: مِنْ هَذِهِ الْأَوْثَانِ {وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} يَعْنِي: حُجَّةً {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بالأمن} أَي: من عبد الله، و [من] عبد الْأَوْثَان؟(2/82)
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
{الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا} يَعْنِي: يخلطوا {إِيمَانهم بظُلْم} بشرك {أُولَئِكَ لَهُم الْأَمْن} يَوْم الْقِيَامَة {وهم مهتدون} فِي الدُّنْيَا.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (84) إِلَى الْآيَة (90) .(2/82)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}(2/82)
يَعْنِي: عالمي زمانهم(2/83)
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)
{واجتبيناهم} (استخلصناهم) للنبوة.(2/83)
أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
{أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ} يَعْنِي: الْفَهْمَ وَالْعَقْلَ {وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يكفر بهَا هَؤُلَاءِ} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {فَقَدْ وكلنَا بهَا} بِالنُّبُوَّةِ {قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} يَعْنِي: النَّبِيِّينَ الَّذِينَ ذَكَرَ: دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَة.(2/83)
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
{أُولَئِكَ الَّذين هدى الله} يَعْنِي: النَّبِيِّينَ الَّذِينَ قَصَّ.
(فَبِهُدَاهُمُ اقتده} يَقُوله لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (91) إِلَى الْآيَة (92) .(2/83)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أَيْ: مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ على بشرٍ من شَيْء} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: هُمُ الْيَهُودُ [كَانُوا] يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أُمِّيُّونَ؛ يَعْنُونَ: النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه (ل 97) فَأَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ؛ فَقَالُوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بشرٍ مِنْ شيءٍ} فَقَدْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تَجِيءُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلَمْ(2/83)
تَكُنْ تَجِيءُ بِالْكُتُبِ؛ فَمِنْ أَيْنَ جَاءَ مُحَمَّدٌ بِهَذَا الْكِتَابِ؟ ! قَالَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ: قُلْ لَهُمْ: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نورا وَهدى للنَّاس} يَعْنِي: لِمَنِ اهْتَدَى بِهِ {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيس تبدونها وتخفون كثيرا} وَالْقَرَاطِيسُ: الْكُتُبُ الَّتِي كَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ بِمَا حَرَّفُوا مِنَ التَّوْرَاةِ.
{وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤكم} يَقُولُ: عُلِّمْتُمْ عِلْمًا؛ فَلَمْ يَصِرْ لَكُمْ عِلْمًا؛ لِتَضْيِيعِكُمْ إِيَّاهُ، وَلَا لآبائكم {قل الله} الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ، الْآيَةَ. وَهَذَا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكتاب.(2/84)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
{وَهَذَا كتاب أَنزَلْنَاهُ مبارك} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلَ.
{وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقرى} يَعْنِي: وَلِتُنْذِرَ أَهْلَ مَكَّةَ {وَمَنْ حولهَا} يَعْنِي: سَائِرَ الْأَرْضِ.
{وَهُمْ عَلَى صلَاتهم يُحَافِظُونَ} قَالَ قَتَادَةُ:
يُحَافِظُونَ عَلَى وُضُوئِهَا ومواقيتها، وركوعها وسجودها.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (93) إِلَى الْآيَة (94) .(2/84)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كذبا} يَقُولُ: لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْهُ (أَوْ قَالَ(2/84)
أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أنزل الله} قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ.
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَات الْمَوْت} الْآيَةَ.
يحيى: أَخْبَرَنِي بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ:
هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ يَقْبِضُونَ [رُوحَ الْكَافِرِ] (وَيَعِدُونَهُ) بِالنَّارِ، وَيُشَدَّدُ عَلَيْهِ، وَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنَّهُ يُهَوَّنُ عَلَيْهِ، وَيَقْبِضُونَ رُوحَ الْمُؤْمِنِ، وَيَعِدُونَهُ بِالْجَنَّةِ وَيُهَوَّنُ عَلَيْهِ، وَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنه يشدد عَلَيْهِ ".(2/85)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أول مرّة} يَقُولُ:
خَلَقْنَا كُلَّ إِنْسَانٍ فَرْدًا، وَيَأْتِينَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا.
قَالَ مُحَمَّد: {فُرَادَى} جَمْعُ فردٍ؛ وَكَأَنَّهُ جَمْعُ (فَرْدَانِ) ؛ كَمَا قَالُوا: كَسْلَانُ وَكُسَالَى.
{وَتَرَكْتُمْ مَا خولناكم} أَيْ: مَا أَعْطَيْنَاكُمْ {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا.
{وَمَا نَرَى مَعكُمْ شفعاءكم} يَعْنِي: آلِهَتَكُمُ {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُم شُرَكَاء} أَيْ: أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ لِلَّهِ فِيكُمْ؛ فَعَبَدْتُمُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ {لَقَدْ تقطع بَيْنكُم} أَيْ: وَصْلُكُمُ الَّذِي كَانَ يُوَاصِلُ بِهِ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ؛(2/85)
هَذَا تَفْسِيرُ مَنْ قَرَأَهَا بِالرَّفْعِ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالنَّصْبِ فَالْمَعْنَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ مَا بَيْنَكُمْ مِنَ الْمُوَاصَلَةِ.
{وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أَنَّهَا تشفع لكم.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (95) إِلَى الْآيَة (98) .(2/86)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ والنوى} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: يَنْفَلِقُ عَنِ النَّبَاتِ.
{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيخرج من الْمَيِّت من الْحَيّ} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، وَيُخْرِجُ الْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ {ذَلِكُم الله فَأنى تؤفكون} أَي: فيكف تصرف عقولكم؟ !(2/86)
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
{فالق الإصباح} خَالِقُ الْإِصْبَاحِ؛ يَعْنِي: الصُّبْحَ حِينَ يُضِيءُ وَكَانَ الْحَسَنُ يَقْرَؤُهَا: (الْأَصْبَاحِ) جَمْعُ: صُبْحٍ.
{وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا} يَسْكُنُ فِيهِ الْخَلْقُ {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حسبانا}(2/86)
قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي:
حِسَابَ مَنَازِلِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، كُلُّ يَوْمٍ بِمَنْزِلٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَر) ؛ أَيْ: وَجَعَلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَمِنْ كَلَامِهِمْ: حَدُّ كُلِّ شيءٍ بِحُسْبَانِهِ؛ أَي: بِحِسَابِهِ.(2/87)
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لتهتدوا بهَا} يَعْنِي: الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا مِنْهَا.(2/87)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَة} يَعْنِي: آدم {فمستقر ومستودع} تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُسْتَقَرُّ: الرَّحِمُ، وَالْمُسْتَوْدَعُ: الصُّلْبُ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقْرَؤُهَا (فمستقرٌّ) بِكَسْر الْقَاف (ومستودع) وَتَفْسِيرُهَا: مُسْتَقِرٌّ فِي [أَجَلِهِ] ومستودعٌ [فِي قَبره] (ل 98) مِنْ يَوْمِ يُوضَعُ فِيهِ إِلَى يَوْم يبْعَث. سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (99) فَقَط.(2/87)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شيءٍ} يَعْنِي: النَّبَاتَ الَّذِي يَنْبُتُ {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا متراكبا} أَيْ: يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا.(2/87)
قَالَ مُحَمَّد: معنى (خضرًا) كَمَعْنَى أَخْضَرَ.
{وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أعناب} قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: أَخْرَجْنَا مِنَ الْمَاءِ خَضِرًا وجناتٍ.
{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} .
قَالَ يحيى: يَعْنِي: وَأَخْرَجْنَا الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّان {مشتبها وَغير متشابه} أَيْ: مُشْتَبِهًا فِي طَعْمِهِ وَلَوْنِهِ، وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذا أثمر} يَعْنِي: حِينَ يَكُونُ غَضًّا {وَيَنْعِهِ} أَيْ: وَنُضْجِهِ {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَات لقوم يُؤمنُونَ} قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ: الَّذِي أَخْرَجَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ هَذَا النَّبَاتَ وَهَذَا الْخَضِرَ وَهَذِهِ الْجَنَّاتِ - قادرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْقِنْوَانُ: الْعُذُوقُ، وَاحِدُهَا: قِنْوٌ، وَجُمِعَ عَلَى لَفْظِ تَثْنِيَتِهِ؛ غَيْرَ أَنَّ الْحَرَكَاتِ تَلْزَمُ نُونَهُ فِي الْجمع، وَمثله: صنوٌ وصنوانٌ.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (100) إِلَى الْآيَة (103) .(2/88)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
{وَجعلُوا لله شُرَكَاء الْجِنّ} يَعْنِي: الشَّيَاطِينَ؛ يَقُولُ:
جَعَلُوا الشَّيَاطِينَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ؛ لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ هِيَ الَّتِي دَعَتْهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَلَمْ تَدْعُهُمُ الْأَوْثَانُ إِلَى عِبَادَتِهَا.
{وخلقهم} أَيِ: اللَّهُ خَلَقَهُمْ {وَخَرَقُوا لَهُ} أَيِ: اخْتَلَقُوا لَهُ {بَنِينَ وَبَنَاتٍ} قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: جَعَلُوا لِلَّذِي خلقهمْ شُرَكَاء لَا يخلقون.(2/89)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
{بديع السَّمَاوَات وَالْأَرْض} يَعْنِي: ابْتَدَعَهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ {أَنى يكون لَهُ ولد} مِنْ أَيْنَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ؟ ! {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ}(2/89)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيءٍ وَكِيلٌ} أَي: حفيظ لأعمال الْعباد(2/89)
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
{لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا.
{وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَار وَهُوَ اللَّطِيف} بخلقه فِيمَا أَعْطَاهُم {الْخَبِير} بأعمالهم.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (104) إِلَى الْآيَة (108) .(2/89)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} يَعْنِي: الْقُرْآن {فَمن أبْصر} [اهْتَدَى](2/89)
{فلنفسه وَمن عمي} عَن الْهدى {فعلَيْهَا} فَعَلَى نَفْسِهِ {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بحفيظ} أَحْفَظُ أَعْمَالَكُمْ حَتَّى أُجَازِيَكُمْ بِهَا(2/90)
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} أَيْ: قَرَأْتَ وَتَعَلَّمْتَ، وَبَعْضُهُمْ يَقْرَؤُهَا (دَارَسْتَ) ؛ أَيْ: قَارَأْتَ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ.(2/90)
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)
{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبك} (يَقُولُ: ادْعُهُمْ إِلَى) لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} وَهِي مَنْسُوخَة، نسختها الْقِتَال(2/90)
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْر علم} .
قَالَ يحيى: وَهِيَ تُقْرَأُ {عَدْوًا} وَ {عُدُوَّا} وَهُوَ مِنَ الْعُدْوَانِ، وَالْعُدْوَانُ: الظُّلْمُ.
{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أمة} أَيْ: لِأَهْلِ كُلِّ ملةٍ {عَمَلَهُمْ} .
قَالَ الْكَلْبِيُّ:
قَالَ الْمُشْرِكُونَ: وَاللِّهِ لَيَنْتَهِيَنَّ محمدٌ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا، أَوْ لَنَسُبَنَّ رَبَّهُ؛ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (109) إِلَى الْآيَة (111) .(2/90)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
{وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم} [بِمَبْلَغِ أَيْمَانِهِمْ] {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ ليُؤْمِنن بهَا} قَالَ الله لنَبيه: {قَالَ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يشعركم} أَيْ: مَا يَدْرِيكُمْ {أَنَّهَا إِذَا جَاءَت لَا يُؤمنُونَ} .
قَالَ محمدٌ: تُقْرَأُ (إِنَّهَا) بِكَسْرِ الْأَلِفِ؛ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَتُقْرَأُ (أَنَّهَا) بِالْفَتْحِ؛ بِمَعْنَى: لَعَلَّهُمْ، ذَكَرَهُ أَبُو عبيد.(2/91)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
{ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} أَيْ: نَطْبَعُ عَلَيْهَا {كَمَا لَمْ يُؤمنُوا بِهِ أول مرّة} يَقُولُ: لَوْ جَاءَتْهُمُ الْآيَةُ لَمْ يُؤْمِنُوا؛ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا قَبْلَ أَنْ يَجِيئَهُمُ الْعَذَابُ {وَنَذَرُهُمْ فِي طغيانهم يعمهون} أَي: يَتَرَدَّدُونَ.(2/91)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شيءٍ قبلا}
يَعْنِي: عَيَانًا {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} قَالَ الْحَسَنُ: [هَذَا] حِينَ قَالُوا: ابْعَثْ لَنَا مَوْتَانَا نَسْأَلْهُمْ أحقٌّ مَا تَقُولُ أَمْ بَاطِلٌ؟ وَلِقَوْلِهِمْ: {لَوْلَا أنزل علينا الْمَلَائِكَة} وَلِقَوْلِهِمْ: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قبيلا} يَقُولُ: لَوْ فَعَلْنَا هَذَا بِهِمْ [حِين: يرونه] (ل 99) عِيَانًا {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يجهلون}(2/91)
أَي: لَا يعلمُونَ. وَقَوله: {أَكْثَرهم} يَعْنِي: مَنْ ثَبَتَ عَلَى الْكُفْرِ مِنْهُم.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (112) إِلَى الْآيَة (113) .(2/92)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} قَالَ الْحَسَنُ:
جَعَلَ اللَّهُ أَعْدَاءَ الْأَنْبِيَاء {شياطين الْإِنْس} وهم الْمُشْركُونَ {وَالْجِنّ} أَيْ: وَشَيَاطِينَ الْجِنِّ {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} .
وَهُوَ مَا تُوَسْوِسُ الشَّيَاطِينُ إِلَى بَنِي آدَمَ مِمَّا يَصُدُّونَهُمْ بِهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ:
زُخْرُفُ الْقَوْلِ: مَا زُيِّنَ مِنْهُ وَمُوِّهَ وَحُسِّنَ، وَأَصْلُ الزخرف: الذَّهَب، و (غرُورًا) مصدرٌ؛ كَأَنَّهُ قَالَ: يَغُرُّونَ غُرُورًا.
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أَيْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَوْحَى الشَّيَاطِينُ إِلَى الْإِنْسِ {فَذَرْهُمْ وَمَا يفترون} ثمَّ أَمر بقتالهم بعد(2/92)
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة} يَعْنِي أَفْئِدَةَ الْمُشْرِكِينَ تُصْغِي إِلَى مَا توحي إِلَيْهِ الشَّيَاطِينَ {وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مقترفون} يَعْنِي: وَلِيَكْتَسِبُوا مَا هُمْ مُكْتَسِبُونَ.
قَالَ محمدٌ: الِاخْتِيَارُ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ: (وَلِيَرْضَوْهُ) (وَلِيَقْتَرِفُوا) بِتَسْكِينِ اللَّامِ؛ عَلَى أَنَّ اللَّامَ لَامُ الْأَمْرِ؛ وَالْمَعْنَى: التهدد والوعيد.(2/92)
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (114) إِلَى الْآيَة (117) .(2/93)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا} أَيْ: مُبَيَّنًا، بَيَّنَ فِيهِ الْهُدَى وَالضَّلَالَةَ، وَالْحَلَالَ وَالْحَرَامَ.
{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبك بِالْحَقِّ} يَعْنِي: أَهْلَ الدِّرَاسَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} يَعْنِي: الشَّاكِّينَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّ أَهْلَ الدِّرَاسَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ.(2/93)
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
{وتمت (كَلِمَات} رب صدقا وعدلاً} قَالَ قَتَادَةُ يَعْنِي صِدْقًا [فِيمَا وَعَدَ] وَعَدْلًا فِيمَا حَكَمَ {لَا مبدل لكلماته} فِيمَا وعد.(2/93)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)
{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَدْعُونَهُ إِلَى عبَادَة الْأَوْثَان {إِن يتبعُون} بعبادتهم الْأَوْثَان {إِلَّا الظَّن} يَقُولُ: ادَّعَوْا أَنَّهُمْ آلِهَةٌ بِظَنٍّ مِنْهُمْ {وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} يَعْنِي: يَكْذِبُونَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَصْلُ (الْخَرْصِ) : الظَّنُّ وَالْحَزَرُ، وَمِنْهُ قِيلَ للحازر:(2/93)
(خارص) .(2/94)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَى الْهُدَى، وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ ضَلُّوا عَنْ سَبيله.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (118) إِلَى الْآيَة (121) .(2/94)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} يَعْنِي: مَا أُدْرِكَ ذَكَاتُهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَانُوا يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَالْمُنْخَنِقَةَ وَالْمَوْقُوذَةَ وَالْمُتَرَدِّيَةَ وَالنَّطِيحَةَ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ؛ فَحَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، إِلَّا مَا أدْرك ذَكَاته.(2/94)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذكر اسْم الله عَلَيْهِ} أَيْ: فَكُلُوهُ، فَهُوَ لَكُمْ حلالٌ {وَقد فصل} بَيَّنَ لَكُمْ {مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ.
{وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْر علم} أَتَاهُمْ مِنَ اللَّهِ، وَلَا حُجَّةَ؛ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أعلم بالمعتدين} يَعْنِي: الَّذِينَ يَتَعَدُّونَ أَمْرَ اللَّهِ.(2/94)
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
{وذروا ظَاهر الْإِثْم وباطنه} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: عَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يقترفون} يَعْنِي: يكتسبون.(2/94)
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} لَشِرْكٌ؛ يَقُولُ: إِنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ عَلَى الِاسْتِحْلَالِ شركٌ.
{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ ليوحون إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} من الْمُشْركين {ليجادلوكم} تَفْسِير مُجَاهِد: قَالَ: كَانَ الْمُشْركُونَ يُجَادِلُونَ الْمُسْلِمِينَ [فِي] الذَّبِيحَةِ؛ فَيَقُولُونَ: أَمَّا مَا ذَبَحْتُمْ (وَقَتَلْتُمْ) فَتَأْكُلُونَهُ، وَأما مَا قتل (ل 100) اللَّهُ فَلَا تَأْكُلُونَهُ، وَأَنْتُمْ بِزَعْمِكُمْ تَتَّبِعُونَ أَمْرَ اللَّهِ؟ ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَإِن أطعتموهم} فاستحللتم الْميتَة {إِنَّكُم لمشركون} .
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (122) إِلَى الْآيَة (124) .(2/95)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
قَوْله: {أَو من كَانَ مَيتا فأحييناه} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: بِالْإِسْلَامِ {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} يَعْنِي: ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} أَيْ: هُوَ مُتَحَيِّرٌ فِيهَا.
{هَلْ يستويان مثلا} أَيْ: أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ.(2/95)
قَالَ يحيى: بَلَغَنِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، ثُمَّ هِيَ عَامَّة بعد.(2/96)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أكَابِر مجرميها} .
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مُجْرِمِيهَا أَكَابِرَ. قَالَ قَتَادَة: وَمعنى (أكَابِر) : جَبَابِرَةٌ.
{لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفسِهِم وَمَا يَشْعُرُونَ} أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَمْكُرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: أَنَّ جَزَاءَ مَكْرِهِمْ راجعٌ عَلَيْهِم.(2/96)
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
{سيصيب الَّذين أجرموا} يَعْنِي: أَشْرَكُوا {صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ} أَي: ذلةً {وَعَذَاب شَدِيد} فِي الْآخِرَةِ {بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} يَعْنِي: يشركُونَ.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (125) إِلَى الْآيَة (126) .(2/96)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يشْرَح} أَي: يُوسع {صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} الْحَرَجُ وَالضِّيقُ مَعْنَاهُمَا واحدٌ.
{كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء} أَيْ: كَأَنَّمَا يُكَلَّفُ أَنْ يَصَّعَّدَ إِلَى السَّمَاءِ؛ يَقُولُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ مَا يُدْعَى إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ.
{كَذَلِك يَجْعَل الله الرجس} يَعْنِي: رَجَاسَةَ الْكُفْرِ {عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} .(2/96)
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
{وَهَذَا صِرَاط رَبك مُسْتَقِيمًا} (يَعْنِي: دين رَبك مُسْتَقِيمًا) {وَقد فصلنا الْآيَات} أَي: بيناها {لقوم يذكرُونَ} إِنَّمَا يتَذَكَّر الْمُؤمن.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (127) إِلَى الْآيَة (129) .(2/97)
لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
{لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} السَّلَامُ هُوَ اللَّهُ، وَدَارُهُ الْجَنَّةُ.(2/97)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} ثُمَّ نَقُولُ {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ من الْإِنْس} أَيْ: كَثُرَ مَنْ أَغْوَيْتُمْ وَأَضْلَلْتُمْ {وَقَالَ أولياؤهم من الْإِنْس} يَعْنِي: الَّذِينَ أَضَلُّوا مِنَ الْإِنْسِ {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّار مثواكم} مَنْزِلَكُمْ {خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عليم} حكيمٌ فِي أَمْرِهِ، عليمٌ بِخَلْقِهِ.
قَالَ محمدٌ:
جَاءَ عَنِ ابْن عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ لأهل الْإِيمَان.(2/97)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} قَالَ الْحَسَنُ: الْمُشْرِكُونَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ؛ كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بعض.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (130) إِلَى الْآيَة (134) .(2/97)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
{يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس} يَعْنِي: مَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ {أَلَمْ يأتكم رسل مِنْكُم} (يَعْنِي: مِنَ الْإِنْسِ) وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا مِنَ الْجِنِّ، وَلَا مِنَ النِّسَاءِ.
{يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدنَا على أَنْفُسنَا} أَنَّهُ قَدْ جَاءَتْنَا الرُّسُلُ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ اللَّهُ: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} إِذْ كَانُوا فِيهَا {وَشَهِدُوا عَلَى أنفسهم} فِي الْآخِرَةِ {أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} فِي الدُّنْيَا(2/98)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
{ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} يَقُولُ: لَمْ يُهْلِكِ اللَّهُ قَوْمًا مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ؛ حَتَّى بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا.
قَالَ محمدٌ: وَمَعْنَى {ذَلِك أَن لم يكن} ذَلِك لِأَنَّهُ لم يكن.(2/98)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
{وَلكُل دَرَجَات مِمَّا عمِلُوا} أَيْ: عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ.
يحيى: عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ قَالَ: قَالَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدَّرَجَةُ فِي الْجَنَّةِ فَوْقَ الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيَرْفَعُ (بَصَرَهُ فَيَلْمَعُ لَهُ) برقٌ يَكَادُ يَخْطَفُ بَصَرَهُ؛(2/98)
فَيَقُولُ: مَا هَذَا؟ فَيُقَالُ: هَذَا: نُورُ أَخِيكَ فُلَانٌ. فَيَقُولُ: أَخِي فُلَانٌ كُنَّا فِي الدُّنْيَا نَعْمَلُ جَمِيعًا، وَقَدْ فُضِّلَ عَلَيَّ هَكَذَا! فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْكَ عَمَلًا، ثُمَّ يُجْعَلُ فِي قلبه الرِّضَا حَتَّى يرضى ".(2/99)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)
{إِن يَشَأْ يذهبكم} بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ؛ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أنشأكم} خَلَقَكُمْ {مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ}(2/99)
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
{إِنَّمَا توعدون لآتٍ} {ل 101} يَعْنِي: السَّاعَةَ {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} بِالَّذِينَ تُعْجِزُونَ اللَّهَ، فَتَسْبِقُونَهُ حَتَّى لَا يقدر عَلَيْكُم.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (135) إِلَى الْآيَة (137) .(2/99)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مكانتكم} أَيْ: عَلَى كُفْرِكُمْ؛ وَهَذَا وَعِيدٌ.
{إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تكون لَهُ عَاقِبَة الدَّار} دَارِ الْآخِرَةِ، وَعَاقِبَتُهَا الْجَنَّةُ {إِنَّهُ لَا يفلح الظَّالِمُونَ} أَي: الْمُشْركُونَ.(2/99)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
{وَجعلُوا لله مِمَّا ذَرأ} مِمَّا خَلَقَ {مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبا} الْآيَةَ(2/99)
تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: عَمَدَ ناسٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فَجَزَّءُوا مِنْ حُرُوثِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ (جُزْءًا لِلَّهِ) ، وَجُزْءًا لِشُرَكَائِهِمْ - يَعْنِي: أَوْثَانَهُمْ - وَكَانُوا إِذَا خَالَطَ شيءٌ مِمَّا جَزَّءُوا لِلَّهِ شَيْئًا مِمَّا جَزَّءُوا لِشُرَكَائِهِمْ - تَرَكُوهُ، وَإِذَا خَالَطَ شَيْءٌ مِمَّا جَزَّءُوا لِشُرُكَائِهِمْ شَيْئًا مِمَّا جَزَّءُوا لِلَّهِ - رَدُّوهُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ، وَإِذَا أَصَابَتْهُمُ السَّنَةُ لِشُرُكَائِهِمْ شَيْئًا مِمَّا جَزَّءُوا لِلَّهِ - رَدُّوهُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ، وَإِذَا أَصَابَتْهُمُ السَّنَةُ [اسْتَعَانُوا] بِمَا جَزَّءُوا لِلَّهِ، وَوَفَّرُوا مَا جَزَّءُوا لِشُرَكَائِهِمْ. قَالَ الله {سَاءَ مَا} بِئْسَ مَا {يَحْكُمُونَ} .(2/100)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قتل أَوْلَادهم شركاؤهم} يَعْنِي: الشَّيَاطِينَ أَمَرُوهُمْ بِقَتْلِ أَوْلَادِهِمْ خيفة الْعيلَة {ليردوهم} ليهلكوهم {وليلبسوا عَلَيْهِم} وليخلطوا عَلَيْهِم {دينهم} الَّذِي أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ؛ وَهُوَ الْإِسْلَام.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (138) إِلَى الْآيَة (140) .(2/100)
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
{وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} حَرَامٌ {لَا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نشَاء بزعمهم}(2/100)
وَهَذَا مَا كَانَ يَأْكُلُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} وَهُوَ مَا حَرَّمُوا مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ؛ وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ هَذَا {وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْم الله عَلَيْهَا} هُوَ مَا اسْتَحَلُّوا مِنْ أَكْلِ الْميتَة {افتراء عَلَيْهِ} عَلَى اللَّهِ؛ فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الله أَمرهم بِهَذَا.(2/101)
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء} كَانَ مَا وُلِدَ مِنْ تِلْكَ الْأَنْعَامِ مِنْ ذكرٍ يَأْكُلُهُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِذَا كَانَتْ أُنْثَى تُرِكَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرُكَاءُ يَأْكُلُونَهَا جَمِيعًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ:
مَنْ قَرَأَ (خَالِصَة لذكورنا) فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: جَمَاعَةُ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ مِنْ ذُكُورٍ خالصةٌ لذكورنا، وَيرد [محرم] عَلَى لَفْظِ (مَا) لِأَنَّ مَا ذكر مُذَكّر.
{سيجزيهم وَصفهم} أَيْ: بِمَا زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمرهم بِهِ(2/101)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سفها} يَعْنِي: سَفَهَ الرَّأْيِ.
{بِغَيْرِ عِلْمٍ} أَتَاهُم اللَّهِ يَأْمُرُهُمْ فِيهِ بِقَتْلِ أَوْلَادِهِمْ؛ وَهِيَ الْمَوْءُودَةُ؛ كَانُوا يَدْفِنُونَ بَنَاتَهُمْ وَهُنَّ أَحْيَاءٌ خَشْيَةَ الْفَاقَةِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَاللَّهُ صَاحِبُ بناتٍ؛ فَأَلْحَقُوا الْبَنَاتَ بِهِ {وحرموا مَا رزقهم الله} يَعْنِي:(2/101)
مَا حَرَّمُوا مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ {افتراء على الله} .
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (141) إِلَى الْآيَة (142) .(2/102)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
{وَهُوَ الَّذِي أنشأ} أَيْ: خَلَقَ {جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ معروشات} قَالَ (مُجَاهِدٌ) : الْعِنَبُ مِنْهُ مَعْرُوشٌ وَغَيْرُ مَعْرُوشٍ {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أكله} مِنْهُ الْجَيِّدُ، وَمِنْهُ الرَّدِيءُ {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّان متشابها} فِي المنظر {وَغير متشابه} فِي الْمَطْعَمِ {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَاده} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ [قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَنْ يَأْتُوا مِنْهُ عِنْدَ حَصَادِهِ، سِوَى الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَة] .
{وَلَا تسرفوا} لَا تُحَرِّمُوا مَا حَرَّمَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّة من الْحَرْث والأنعام.(2/102)
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
قَوْلُهُ: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} يَقُولُ: وَأَنْشَأَ مِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا، تَبَعًا لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ: {وَهُوَ الَّذِي أنشأ جنَّات} وَالْحَمُولَةَ فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ: الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ، وَالْفَرْشُ: الْغَنَمُ.
{كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خطوَات الشَّيْطَان} أَمْرَ الشَّيْطَانِ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ من الْأَنْعَام والحرث.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (143) إِلَى الْآيَة (146) .(2/102)
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)
{ثَمَانِيَة أَزوَاج} أَيْ: أَصْنَافٍ {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمن الْمعز اثْنَيْنِ} ذَكَرًا وَأُنْثَى، وَالْوَاحِدُ: زوجٌ {قُلْ آلذكرين حرم} على الِاسْتِفْهَام.
(ل 102) {أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَام الْأُنْثَيَيْنِ} مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى؛ أَيْ: أَمْ كُلَّ ذَلِكَ حَرَّمَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ مِنْهُ شَيْئًا.
{نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا؛ وَهُوَ مَا حَرَّمُوا من الْأَنْعَام.(2/103)
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
قَالَ: {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقر اثْنَيْنِ قل الذكرين حرم أَن الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} مِنْ ذكرٍ أَوْ أُنْثَى؛ أَيْ: أَمْ كُلَّ ذَلِكَ حَرَّمَ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ مِنْهُ شَيْئًا.
{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} أَيْ: أَنَّكُمْ لَمْ تَكُونُوا شُهَدَاءَ لِهَذَا،(2/103)
وَلَمْ يُوصِكُمُ اللَّهُ بِهِ؛ فَسَأَلَهُمُ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَكَتُوا وَلَمْ يُجِيبُوهُ. وَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، فِيمَ هَذَا التَّحْرِيمُ الَّذِي حَرَّمَهُ آبَاؤُنَا وَآبَاؤُهُمْ قَبْلَهُمْ؟ فَقَالَ اللَّهُ لِلنَّبِيِّ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَو دَمًا مسفوحا} يَعْنِي: سَائِلًا. فَأَمَّا دمٌ فِي عِرْقٍ أَوْ مُخَالِطٌ لَحْمًا [فَلَا] {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وَهُوَ مَا ذَبَحُوا لِأَصْنَامِهِمْ؛ فِيهَا تَقْدِيمٌ {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} فَإِنَّهُ رجسٌ {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلَا عَاد} فَأَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الِاضْطِرَارِ مِنْهُ {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيم} . قَدْ مَضَى تَفْسِيرُ {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} .(2/104)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظفر} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: الْبَعِيرَ وَالنَّعَامَةَ {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَو الحوايا} وَهُوَ الْمَبْعَرُ.
قَالَ محمدٌ: الْحَوَايَا: المباعر، وَاحِدهَا: حاويا وحويةٌ.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (147) إِلَى الْآيَة (150) .(2/104)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَة وَاسِعَة} لِمَنْ تَابَ مِنْ شِرْكِهِ، وَقَبِلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ {وَلا يُرَدُّ بأسه} أَيْ: لَا يُصْرَفُ عَذَابُهُ {عَنِ الْقَوْم الْمُجْرمين} الْمُشْركين.(2/105)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)
{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من شَيْء} قَالَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ: لَوْ كَرِهَ اللَّهُ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ لَحَوَّلَنَا عَنْهُ.
{هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ} أَنَّ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ أَمَرْتُكُمْ بِهِ {فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تتبعون إِلَّا الظَّن} أَيْ: هَذَا مِنْكُمْ ظَنٌّ {وَإِنْ أَنْتُم إِلَّا تخرصون} تكذبون(2/105)
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
{قل فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة} فقد قَامَت عَلَيْكُم(2/105)
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَن الله حرم هَذَا} يَعْنِي: مَا حَرَّمُوا مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهم} وَإِنَّمَا [هُوَ سَفَهٌ] وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ {وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وهم برَبهمْ يعدلُونَ} عدلوا بِهِ الْأَصْنَام فعبدوها.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (151) إِلَى الْآيَة (153) .(2/105)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ ربكُم عَلَيْكُم} وَهَذَا مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} قَالَ مُحَمَّدٌ: أَيْ: وَأَوْصَاكُمْ بِالْوَالِدَيْنِ حُسْنًا {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إملاق} أَيْ: مَخَافَةَ الْفَاقَةِ {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وإياهم وَلَا تقربُوا الْفَوَاحِش} يَعْنِي: الزِّنَا {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يَعْنِي: الزِّنَا الظَّاهِرَ {وَمَا بَطَنَ} يَعْنِي: الْمَخَالَّةَ فِي السِّرِّ {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} أَمركُم بِهِ.(2/106)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أحسن} قَدْ مَضَى تَفْسِيرُ هَذَا.
{وَأَوْفُوا الْكَيْل وَالْمِيزَان بِالْقِسْطِ} بِالْعَدْلِ {لَا نكلف نفسا إِلَى وسعهَا} طاقتها {وَإِذا قُلْتُمْ فاعدلوا} يَعْنِي: الشَّهَادَةَ {وَلَوْ كَانَ ذَا قربى وبعهد الله أَوْفوا} يَعْنِي: مَا كَانَ مِنَ الْحَقِّ.(2/106)
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
{وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} يُرِيدُ: الْإِسْلَامَ {فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السبل} الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ.
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} لكَي تتقوا(2/106)
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا على الَّذِي أحسن} قَالَ قَتَادَةُ:
مَنْ أَحْسَنَ فِي الدُّنْيَا تَمَّتْ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ فِي الْآخِرَة {وتفصيلا} يَعْنِي: تبييناً {لكل شيءٍ} مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ.(2/106)
قَالَ محمدٌ: قَوْلُهُ: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أحسن} مَعْنَاهُ: تَمَامًا مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمُحْسِنِينَ؛ وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ قَتَادَة (ل 103) (وتماماً) مَنْصُوبٌ عَلَى مَعْنَى التَّمَامِ، وَكَذَلِكَ (تَفْصِيلًا) أَي: للتمام وَالتَّفْصِيل.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (154) إِلَى الْآيَة (158) .(2/107)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)
{وَهَذَا كتاب أَنزَلْنَاهُ مبارك} يَعْنِي: الْقُرْآن(2/107)
أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)
{أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة} لِئَلَّا تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قبلنَا} يَعْنِي: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى {وَإِنْ كُنَّا عَن دراستهم} [قراءتهم] {لغافلين} .(2/107)
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
{سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا} أَي: يصدون {سوء الْعَذَاب} أشده.(2/107)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
{هَل ينظرُونَ} أَي: مَا ينظرُونَ؛ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَة} بِالْمَوْتِ {أَو يَأْتِي رَبك} وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (أَوْ يَأْتِيَ بعض آيَات(2/107)
رَبك} يَعْنِي: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا؛ فِي تَفْسِيرِ الْعَامَّةِ {يَوْمَ يَأْتِي بعض آيَات رَبك} طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمَانهَا خيرا} قَالَ الْكَلْبِيُّ:
لَا تُقْبَلُ التَّوْبَةُ يومئذٍ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَلَا مِمَّنْ كَانَ يَدَّعِي الإِيمَانَ؛ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُخْلِصًا.
يحيى: عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا؛ فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ آمَنُوا، فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ".
{قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَنْتَظِرُونَ بِالنَّبِيِّ الْمَوْتَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يَنْتَظِرُ بِهِمُ الْعَذَابَ.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (159) إِلَى الْآيَة (160) .(2/108)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شيعًا} أَحْزَابًا. قَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئُونَ وَغَيْرُهُمْ.
{لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شيءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله} قَالَ مُحَمَّد: قِيلَ: إِن هَذِهِ(2/108)
الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بقتالهم.(2/109)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالهَا} هَذِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} الْآيَة.
{وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} (وَهَذِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا} السَّيِّئَةُ هَا هُنَا هِيَ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ {فَلا يُجْزَى إِلَّا مثلهَا} .
يَحْيَى: عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَالَ رَبُّكُمْ: إِذَا عَمِلَ عَبْدِي حَسَنَةً فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضِعْفٍ، وَإِنْ هَمَّ بِهَا وَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ وَاحِدَةً، وَإِنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَاكْتُبُوهَا بِوَاحِدَةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَتَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فاكتبوها بحسنة ".
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (161) إِلَى الْآيَة (165) .(2/109)
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صراطٍ مُسْتَقِيم دينا قيمًا} قَالَ مُحَمَّد: (دينا)(2/109)
منصوبٌ عَلَى التَّفْسِيرِ، وَالْقِيَمُ وَالْمُسْتَقِيمُ فِي مَعْنَاهُمَا واحدٌ.(2/110)
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)
{قل إِن صَلَاتي ونسكي} قَالَ قَتَادَة: (نسكي) يَعْنِي: حَجِّي وَذَبْحِي {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} قَالَ محمدٌ: الِاخْتِيَارُ عِنْدَ الْقُرَّاءِ فِي (محياي) بِفَتْحِ الْيَاءِ؛ لِسُكُونِ الْأَلِفِ قَبْلَهَا؛ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ سَاكِنَانِ، وَالْأَمْرُ فِي الْيَاء من (مماتي) [وَاسع] فِي فتحهَا وتسكينها.(2/110)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رب كل شَيْء} وَهَذَا جوابٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُشْرِكِينَ، حَيْثُ دَعَوُا النَّبِيَّ إِلَى أَنْ يَعْبُدَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُ {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الْوِزْرُ: الذَّنْبُ؛ يَقُولُ: لَا يَحْمِلُ أحدٌ ذَنْب أحدٍ.(2/110)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: سُكَّانَ الْأَرْضِ؛ يَخْلُفُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَاحِدُهُمْ: خَلِيفَةٌ.
{وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} فِيمَا أَعْطَاكُمْ مِنَ الْفَضَائِلِ فِي [الدُّنْيَا] {ليَبْلُوكُمْ} ليختبركم {فِيمَا آتَاكُم} أَعْطَاكُمْ.
{إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ} إِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِيهِ حِينَ كَذَّبُوا رسله {وَإنَّهُ لغَفُور رَحِيم} لِمَنْ تَابَ مِنْ شِرْكِهِ وَآمَنَ بِرَبِّهِ.(2/110)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهِيَ مكيةٌ كلهَا إِلَّا ( ... ... ... . .)
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (1) إِلَى الْآيَة (5) .
(ل 104)(2/111)
المص (1)
قَوْله: {المص} كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: لَا أَدْرِي مَا تَفْسِير {المص} وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، غَيْرَ أَنَّ قَوْمًا مِنَ السَّلَفِ كَانُوا يَقُولُونَ: أَسمَاء السُّور وفواتحها.(2/111)
كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
{كتاب أنزل إِلَيْك} يَعْنِي: الْقُرْآنَ.
{فَلا يَكُنْ فِي صدرك حرج مِنْهُ} أَيْ: شَكٌّ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
قَالَ محمدٌ: أَصْلُ الْحَرَجِ: الضِّيقُ، وَالشَّاكُّ فِي الْأَمْرِ يَضِيقُ بِهِ صَدْرًا؛ فَسُمِّيَ الشَّكُّ حَرَجًا {لتنذر بِهِ} من النَّار {وذكرى للْمُؤْمِنين} يذكرُونَ بِهِ الْآخِرَة.(2/111)
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
{وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} يَعْنِي: الْأَوْثَانَ {قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} يَعْنِي:(2/111)
أقلكم المتذكر(2/112)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
{وَكم من قَرْيَة أهلكناها} يَعْنِي: مَا أَهْلَكَ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ حِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ {فَجَاءَهَا بأسنا} عذابنا {بياتا} يَعْنِي: لَيْلًا {أوهم قَائِلُونَ} يَعْنِي: عِنْد القائلة بِالنَّهَارِ(2/112)
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
{فَمَا كَانَ دَعوَاهُم} قَوْلُهُمْ {إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} .
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (6) إِلَى الْآيَة (10) .(2/112)
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)
{فلنقصن عَلَيْهِم} أَي: أَعْمَالهم {بِعلم} بهَا {وَمَا كُنَّا غائبين} عَن أَعْمَالهم.(2/112)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
{وَالْوَزْن يَوْمئِذٍ الْحق} .
يحيى: عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ:
يُوضَعُ الْمِيزَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَوْ وُضِعَ فِي كفته السَّمَوَات وَالْأَرْضُ لَوَسِعَتْهَا؛ فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: رَبَّنَا مَا هَذَا؟ فَيَقُولُ: أَزِنُ بِهِ لِمَنْ شِئْتُ مِنْ خَلْقِي فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: رَبَّنَا مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عبادتك ".(2/112)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
{وَلَقَد مكناكم فِي الأَرْض} يَعْنِي: بَعْدَ الْمَاضِينَ {قَلِيلا مَا تشكرون} أقلكم من يُؤمن.
سُورَة الْأَنْعَام من الْآيَة (11) إِلَى الْآيَة (18) .(2/113)
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
{وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ ثمَّ صورناكم} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: صَوَّرْنَاكُمْ فِي ظَهْرِ آدَمَ.
{ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسجدوا لآدَم} قَالَ الْحَسَنُ:
إِنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّهُ خُلِقَ مِنْ نَارِ السَّمُومِ، وَإِنَّ الَمَلَائِكَةَ خُلِقُوا مِنَ النُّورِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، وَأَمَرَ إِبْلِيسَ أَيْضًا بِالسُّجُودِ لَهُ، فَجَمَعَ المأمورين جَمِيعًا.(2/113)
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمرتك} الْآيَةَ.
قَالَ محمدٌ: (أَلَّا تَسْجُدَ) مَعْنَاهُ: أَن تسْجد، و (لَا) مُؤَكدَة.(2/113)
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)
{قَالَ أَنْظرنِي} أخرني {إِلَى يَوْم يبعثون}(2/114)
قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
{قَالَ إِنَّك من المنظرين} فِيهَا إِضْمَارٌ؛ أَيْ: إِلَى يَوْمِ الْوَقْت الْمَعْلُوم(2/114)
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
{قَالَ فبمَا أغويتني} أَضْلَلْتَنِي {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} أَي: فأصدهم عَنهُ(2/114)
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
{ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} يَعْنِي: مِنْ قِبَلِ الْآخِرَةِ؛ فَأُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لَا بَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ. {وَمِنْ خَلفهم} يَعْنِي: مِنْ قِبَلِ الدُّنْيَا؛ فَأُزَيِّنُهَا فِي أَعْيُنِهِمْ، وَأُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ، فِيمَا صَنَعُوا {وَعَن أَيْمَانهم} أَيْ: مِنْ قِبَلِ الْخَيْرِ؛ فَأُثَبِّطُهُمْ عَنهُ. {وَعَن شمائلهم} مِنْ قِبَلِ الْمَعَاصِي؛ فَآمُرُهُمْ بِهَا، {وَلَا تَجِد أَكْثَرهم شاكرين} وَكَانَ ذَلِكَ ظناُّ مِنْهُ، فَكَانَ الْأَمر على مَا ظن(2/114)
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} يَعْنِي: مَذْمُومًا مُبْعَدًا} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: تَقُولُ: ذَأَمْتَ الرَّجُلَ؛ إِذَا بِالَغْتَ فِي عَيبه وذمه.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (19) إِلَى الْآيَة (25) .(2/114)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
{وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجنَّة} الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ عباسٍ: الشَّجَرَةُ: السُّنْبُلَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ التِّينُ.
وَقَوله: {فتكونا من الظَّالِمين} أَي: لأنفسكما يخطيئتكما(2/115)
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا} وَكَانَا كَسِيَا الظُّفُرِ.
{وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا} لِئَلَّا تَكُونَا {ملكَيْنِ} مِنَ الْمَلَائِكَةِ {أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} الَّذين لَا يموتون(2/115)
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
{وقاسمهما} بِاللَّهِ.
قَالَ قَتَادَةُ:
حَلَفَ لَهُمَا بِاللَّهِ، وَقَالَ لَهُمَا: خُلِقْتُ قَبْلَكُمَا، وَأَنَا أَعْلَمُ مُنْكُمَا؛ فَاتَّبِعَانِي أُرْشِدُكُمَا.
{فلادهما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهما سوءاتهما} قَالَ محمدٌ:(2/115)
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
قَوْله: {فدلاهما بغرور} الْمَعْنَى: دَلَّاهُمَا فِي الْمَعْصِيَةِ؛ بِأَنْ غَرَّهُمَا، وَالسَّوْءَةُ: كنايةٌ عَنِ الْفَرْجِ {وطفقا} أَيْ: جَعَلَا {يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ ورق الْجنَّة} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي: [يرقعانه] (ل 105) كَهَيئَةِ الثَّوْب {وناداهما ربهما} الْآيَةَ.
يحيى: عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بْنِ [كَعْبٍ] قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَانَ آدَمُ رَجُلًا طِوَالًا، كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ كَثِيرُ شَعْرِ الرَّأْسِ؛ فَلَمَّا وَقَعَ بِمَا وَقَعَ بِهِ، بَدَتْ لَهُ عَوْرَتَهُ، وَكَانَ لَا يَرَاهَا قَبْلَ ذَلِكَ؛ فَانْطَلَقَ هَارِبًا فِي الْجَنَّةِ؛ فَأَخَذَتْ شَجَرَةٌ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ بِرَأْسِهِ؛ فَقَالَ لَهَا:(2/115)
أَرْسِلِينِي، فَقَالَتْ: لَسْتُ بِمُرْسِلَتِكَ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا آدَمُ، أَمِنِّي تَفِرَّ؟ قَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي أَسْتَحْيِيكَ ".(2/116)
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)
{وَلكم فِي الأَرْض مُسْتَقر} تَكُونُونَ فِيهَا. {ومتاع} يَعْنِي: مَتَاعَ الدُّنْيَا تَسْتَمْتِعُونَ بِهِ {إِلَى حِين} إِلَى الْمَوْت.(2/117)
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
{قَالَ فِيهَا} يَعْنِي: الأَرْض {تحيون} أَيْ: تُولَدُونَ.
{وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تخرجُونَ} يَوْم الْقِيَامَة.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (26) إِلَى الْآيَة (28) .(2/117)
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُم لباساً يواري سواءتكم} يَعْنِي: الثِّيَاب {وريشا} يَعْنِي: الْمَتَاعَ وَالْمَالَ.
{وَلِبَاسُ التَّقْوَى} وَالرَّفْعُ عَلَى مَعْنَى كلامٍ مُسْتَقْبَلٍ، ولباس التَّقْوَى: العفاف.(2/117)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
{يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَان} أَيْ: لَا يُضِلَّنَّكُمْ.
{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وقبيله} قَالَ مُجَاهِدٌ: قَبِيلُهُ: الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ.(2/117)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
{وَإِذا فعلوا فَاحِشَة} يَعْنِي: مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بهَا} .(2/117)
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (29) إِلَى الْآيَة (30) .(2/118)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
{قل أَمر رَبِّي بِالْقِسْطِ} بِالْعَدْلِ {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ إِلَى الْكَعْبَةِ حَيْثُ صَلَّيْتُمْ {كَمَا بَدَأَكُمْ تعودُونَ} .
يحيى: عَنْ هَمَّامٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ - أَوْ قَالَ: النَّاسَ - يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا. قَالَ: قُلْتُ: مَا بُهْمًا؟ ! قَالَ: لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْء ".(2/118)
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (31) إِلَى الْآيَة (33) .(2/119)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْد كل مَسْجِد} قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً؛ فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ؛ فَقَالَ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كل مَسْجِد} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَمَرَهُمْ أَنْ يَلْبَسُوا الثِّيَاب {وكلوا شربوا} يَعْنِي: الْحَلَال {وَلَا تسرفوا} فَتُحَرِّمُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ؛ كَمَا حَرَّمَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا حرمُوا(2/119)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ} يَعْنِي: الثِّيَابَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً.
{وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} مَا حَرَّمُوا مِنْ أَنْعَامِهِمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
{قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} وَقَدْ خَالَطَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا وَهِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا {خَالِصَةً يَوْم الْقِيَامَة} دُونَ الْمُشْرِكِينَ.
قَالَ محمدٌ: مَنْ قَرَأَ {خَالِصَة} بِالرَّفْعِ، فَهُوَ عَلَى أَنَّهُ خبرٌ بَعْدَ(2/119)
خَبَرٍ؛ الْمَعْنَى: قُلْ هِيَ ثابتةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خالصةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَمَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ، فَعَلَى الْحَالِ.
{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَات} نُبَيِّنُهَا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ قَبِلُوا ذَلِكَ عَن الله.(2/120)
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: الزِّنَا سِرَّهُ وعلانيته.
{وَالْإِثْم} يَعْنِي: الْمَعَاصِيَ {وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} يَعْنِي: الظُّلْمَ {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} حُجَّةً؛ يَعْنِي: أَوْثَانَهُمُ الَّتِي عَبَدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ.
{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِعَبَادَتِهَا بِغَيْرِ علمٍ جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (34) إِلَى الْآيَة (37) .(2/120)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
{وَلكُل أمة أجل} الْآيَةَ، يَعْنِي: أَنَّ الْقَوْمَ إِذَا كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، فَجَاءَ الْوَقْتُ الَّذِي يَأْتِيهِمْ فِيهِ الْعَذَابُ {فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ} عَن الْعَذَاب {سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} عَنهُ.(2/121)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
{أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: يَنَالُهُمْ مَا كُتِبَ عَلَيْهِمْ.
{حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رسلنَا} يَعْنِي: الْمَلَائِكَة {يتوفونهم} قَالَ الْحَسَنُ: هَذِهِ وَفَاةُ [أَهْلِ] النَّارِ {قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تدعون من دون الله} (ل 106) يَعْنِي: شُرَكَاؤُكُمْ {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا} فِي الدُّنْيَا {كَافِرين} .
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (38) إِلَى الْآيَة (39) .(2/121)
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)
{قَالَ ادخُلُوا فِي أُمَم} أَيْ: مَعَ أممٍ {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّار} {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أضلونا} كل أمةٍ تَقوله أُخْرَاهَا لِأُولَاهَا {فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا من النَّار} الْآيَةَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَيْ: عَذَابًا مُضَاعَفًا، وَالضِّعْفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:(2/121)
أَحَدُهُمَا: الْمِثْلُ، وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى تَضْعِيفِ الشَّيْءِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَكِن لَا تعلمُونَ} أَيْ: أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ مَا لِكُلِّ فريق مِنْكُم.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (40) إِلَى الْآيَة (43) .(2/122)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تفتح لَهُم} يَعْنِي: لِأَعْمَالِهِمْ وَلَا لِأَرْوَاحِهِمْ {أَبْوَابُ السَّمَاء} .
يحيى: عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ:
تَخْرُجُ رُوحُ الْمُؤْمِنُ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ؛ فَتَصْعَدُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ تَوَفَّوْهُ؛ فَتَلْقَاهُ مَلَائِكَةٌ آخَرُونَ دُونَ السَّمَاءِ؛ فَيَقُولُونَ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: هَذَا فلانٌ كَانَ يَعْمَلُ كَيْتَ وَكَيْتَ - لِمَحَاسِنِ عَمَلِهِ. فَيَقُولُونَ: مَرْحَبًا بِكُمْ وَبِهِ؛ فَيَقْبِضُونَهُ فَيَصْعَدُونَ بِهِ مِنْ بَابِهِ الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ مِنْهُ عَمَلُهُ (فَيُشْرِقُ) فِي السَّمَوَات؛ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْعَرْشِ، وَلَهُ برهانٌ كَبُرْهَانِ(2/122)
الشَّمْسِ، وَتَخْرُجُ رُوحُ الْكَافِرِ أَنْتَنَ مِنَ الْجِيفَةِ؛ فَتَصْعَدُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ تَوَفَّوْهُ، فَتَلْقَاهُمْ ملائكةٌ آخَرُونَ مِنْ دُونِ السَّمَاءِ، فَيَقُولُونَ مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٌ كَانَ يَعْمَلُ كَيْتَ وَكَيْتَ - لِمَسَاوِئِ عَمَلِهِ. فَيَقُولُونَ: لَا مَرْحَبًا بِهِ، رُدُّوهُ ".
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ::
فَيُرَدُّ إِلَى وادٍ يُقَالُ لَهُ: بَرَهُوتُ أَسْفَلَ الثَّرَى مِنَ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ ". مِنْ حَدِيثِ يحيى بْنِ مُحَمَّدٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخياط} يَعْنِي: ثُقْبَ الْإِبْرَةِ. وَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ الْجَمَلِ. فَقَالَ: هُوَ زَوْجُ النَّاقَةِ.
{وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} يَعْنِي: الْمُشْركين(2/123)
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
{لَهُم من جَهَنَّم مهاد} أَيْ: فِرَاشٌ {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} يَعْنِي: مَا يَغْشَاهُمْ مِنَ النَّارِ.(2/123)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غل} يَعْنِي: الْعَدَاوَةَ وَالْحَسَدَ.
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذِي هدَانَا لهَذَا} يَعْنُونَ: الْإِيمَانَ.
{لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبنَا بِالْحَقِّ} فِي الدُّنْيَا.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (44) إِلَى الْآيَة (47) .(2/123)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)
{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} وَهُمْ مُشْرِفُونَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ، وَالنَّارُ فِي الْأَرْضِ.
{فَأذن مُؤذن بَينهم} الْآيَة. أَي: نَادَى منادٍ.(2/124)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إِذْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا { (وَيَبْغُونَهَا عوجا} يَبْغُونَ سَبِيل الله عوجا.(2/124)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
{وَبَينهمَا} بَين الْجنَّة وَالنَّار {حجابٌ} وَهُوَ الْأَعْرَافُ.
{وَعَلَى الأَعْرَافِ رجالٌ يعْرفُونَ كلا بِسِيمَاهُمْ} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: يَعْرِفُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِبَيَاضِ وُجُوهِهِمْ، وَأَهْلَ النَّارِ بِسَوَادِ وُجُوهِهِمْ.
{وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلام عَلَيْكُم} {قَالَ الله} (لم يدخلوها} يَعْنِي: أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} فِي دُخُولِهَا، وَهَذَا طَمَعُ يَقِينٍ.
قَالَ قَتَادَة:
ذكر لنا أَن ابْنَ عباسٍ قَالَ: أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ قومٌ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ؛ فَلَمْ تَفْضُلْ حَسَنَاتُهُمْ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ، وَلَا سَيِّئَاتُهُمْ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ، فَحُبِسُوا هُنَالِكَ.
يَحْيَى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: " أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ هُمْ قومٌ غَزَوْا بِغَيْرِ إِذْنِ آبَائِهِمْ فَاسْتُشْهِدُوا، فَحُبِسُوا عَنِ الْجَنَّةِ؛ لِمَعْصِيَتِهِمْ آبَاءَهُمْ، وَعَنِ النَّارِ بِشَهَادَتِهِمْ ".(2/124)
يَحْيَى: عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ الْمُتَلَمِّسِ السَّدُوسِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عبد الله ابْن الْحَارِثِ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَن أُحُدًا جبلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، وَإِنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَمْثُلُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ يُحْبَسُ عَلَيْهِ أقوامٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ هُمْ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ".
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَكُلُّ مرتفعٍ عِنْدَ الْعَرَبِ أعرافٌ.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (48) إِلَى الْآيَة (51) .(2/125)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
{ونادى أَصْحَاب الْأَعْرَاف} وَأَصْحَاب الْأَعْرَاف هَا هُنَا مَلَائِكَةٌ {رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أغْنى عَنْكُم جمعكم} فِي الدُّنْيَا {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} (ل 107) عَن عبَادَة الله.(2/126)
أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
{أَهَؤُلَاءِ} يَعْنُونَ: أَهْلَ الْجَنَّةِ {الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا ينالهم الله برحمة} ثُمَّ انْقَطَعَ كَلَامُ الْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ الله لَهُم: {ادخُلُوا الْجنَّة} الْآيَة.(2/126)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَو مِمَّا رزقكم الله} يعنون: الطَّعَام.(2/126)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
{فاليوم ننساهم} أَيْ: نَتْرُكُهُمْ فِي النَّارِ؛ كَمَا تركُوا {لِقَاء يومهم هَذَا} فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؛ أَيْ: فِي الدُّنْيَا {وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} .
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (52) إِلَى الْآيَة (53) .(2/126)
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى علم} يَعْنِي: بَيَّنَّا فِيهِ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَالْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَالْأَحْكَامَ(2/126)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
{هَل ينظرُونَ} ينتظرون {إِلَّا تَأْوِيله} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: الْجَزَاءَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ.
{يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُول الَّذين نسوه} تَرَكُوهُ {من قبل} فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} إِذْ كُنَّا فِي الدُّنْيَا، فَآمَنُوا حَيْثُ لَمْ يَنْفَعُهُمُ الإِيمَانُ {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} أَلا نعذب. {أَو نرد} إِلَى(2/126)
الدُّنْيَا {فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نعمل} .
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (54) إِلَى الْآيَة (58) .(2/127)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
{يغشي اللَّيْل النَّهَار} أَيْ: بِأَنَّ اللَّيْلَ يَأْتِي عَلَى النَّهَارَ، فَيُغَطِّيهِ وَيُذْهِبُهُ {وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ} أَيْ: وَخَلَقَ النُّجُومَ جَارِيَاتٍ مَجَارِيهِنَّ.(2/127)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
{ادعوا رَبك تضرعاً وخفية} أَيْ: سِرًّا {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْض بعد إصلاحها} يَعْنِي: بَعْدَ مَا بُعِثَ النَّبِيُّ، واستجيب لَهُ {إِن رَحْمَة اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} .(2/127)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نَشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أَيْ: يَبْسُطُهَا بَيْنَ يَدَيِ الْمَطَرِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْقِرَاءَةُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ (نَشْرًا) بِفَتْحِ النُّونِ، وَالْمَعْنَى: مُنْتَشِرَةً(2/127)
نَشْرًا، وَمَنْ قَرَأَ (نُشْرًا) بِضَمِّ النُّونِ، فَهُوَ جَمْعُ: (نُشُورٍ) ؛ وَهُيَ الَّتِي تَنْشُرُ السَّحَابَ.
{حَتَّى إِذَا أقلت سحابا ثقالا} الثِّقَالُ: الَّتِي فِيهَا الْمَاءُ {سُقْنَاهُ لبلد ميت} يَعْنِي: لَيْسَ فِيهِ نَبَات.(2/128)
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ ربه} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ:
هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ؛ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ مثل الْمُؤمن يَعْمَلُ مَا عَمِلَ مِنْ شيءٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ {وَالَّذِي خَبُثَ} مَثْلُ الْمُنَافِقِ لَا يُعْطِي شَيْئًا وَلَا يعمله {إِلَّا نكدا} أَيْ: لَيْسَتْ لَهُ فِيهِ حسبةٌ {كَذَلِك نصرف الْآيَات} نبينها {لقوم يشكرون} يُؤمنُونَ.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (59) إِلَى الْآيَة (64) .(2/128)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْمَلُونَ}(2/128)
قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ: أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ مُهْلِكُكُمْ وَمُعَذِّبُكُمْ؛ إِنْ لم تؤمنوا.(2/129)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
{أَو عجبتم أَن جَاءَكُم ذكرٌ} أَي: وحيٌ {من ر بكم على رجلٍ مِنْكُم} عَلَى لِسَانِ رجلٍ مِنْكُمْ {لِيُنْذِرَكُمْ ولتتقوا ولعلكم ترحمون} إِن آمنتم، و (لَعَلَّ) من الله وَاجِبَة.(2/129)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
{إِنَّهُم كَانُوا قوما عمين} عموا عَن الْحق.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (65) إِلَى الْآيَة (72) .(2/129)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)
{وَإِلَى عَاد} أَيْ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى عادٍ {أَخَاهُمْ هُودًا} أَخُوهُمْ فِي النَّسَبِ، وَلَيْسَ بأخيهم فِي الدّين.(2/129)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)
{قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قومه} يَعْنِي: الرُّؤَسَاءَ (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي(2/129)
سفاهةٍ} أَيْ: مِنَ الرَّأْيِ {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ من الْكَاذِبين} كَانَ تكذيبهم إِيَّاه بِالظَّنِّ.(2/130)
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)
{وَأَنَا لَكُمْ ناصحٌ} أَدْعُوكُمْ إِلَى مَا يَنْفَعُكُمْ {أَمِينٌ} عَلَى مَا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ عِنْد الله.(2/130)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بعد قوم نوحٍ} يَعْنِي: اسْتَخَلَفَكُمْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَهُمْ {وزادكم فِي الْخلق بصطة} يَعْنِي: الْأَجْسَامَ وَالْقُوَّةَ الَّتِي أَعْطَاهُمْ.(2/130)
قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
{قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ ربكُم رجسٌ} أَيْ: عَذَابٌ.
{فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ من المنتظرين} أَيْ: أَنَّ عَذَابَ اللَّهِ نازلٌ بكم.(2/130)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
{وقطعنا دابر الَّذين كذبُوا} أَي: أصلهم.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (73) إِلَى الْآيَة (79) .(2/130)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
{وَلَا تمسوها بِسوء} أَي: لَا تعقروها.(2/131)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
{وبوأكم فِي الأَرْض} أسكنكم.
{وَلَا تعثوا} قَدْ مَضَى تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة.(2/131)
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
{فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبهم} يَعْنِي: استكبروا.(2/131)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)
{فَأَخَذتهم الرجفة} قَالَ الْحَسَنُ: تَحَرَّكَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ {فأصحبوا فِي دَارهم جاثمين} أَيْ: قَدْ هَلَكُوا.
قَالَ محمدٌ: الْجُثُومُ أَصْلُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: البروك على الركب.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (80) إِلَى الْآيَة (84) .(2/131)
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
{إِنَّهُم أنَاس يتطهرون} أَيْ: يَتَنَزَّهُونَ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، فَلَا يعْملُونَ مَا تَعْمَلُونَ(2/131)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)
{إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} يَعْنِي: مِنَ الْبَاقِينَ فِي عَذَابِ الله.
(ل 108)(2/131)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
{وأمطرنا عَلَيْهِم مَطَرا} يَعْنِي: الْحِجَارَةَ الَّتِي رُمِيَ بِهَا مَنْ كَانَ خَارِجًا مِنَ الْمَدِينَةِ فِي حوائجهم وأسفارهم.(2/131)
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (85) إِلَى الْآيَة (93) .(2/132)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
{وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصلاحها} يَعْنِي: بَعْدَمَا بعث إِلَيْكُم النَّبِي(2/132)
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
{وَلَا تقعدوا بِكُل صِرَاط} طريقٍ. {توعدون} تُخَوِّفُونَ بِالْقَتْلِ {وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين} يَعْنِي: مِنْ أُهْلِكَ مِنَ الْأُمَمِ السالفة حِين كذبُوا رسلهم.(2/132)
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
{وسع رَبنَا} أَيْ: مَلَأَ رَبُّنَا {كُلَّ شيءٍ علما} .
{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا} أَيْ: احْكُمْ.
قَالَ قَتَادَةُ:
وَإِذَا دَعَا النَّبِيُّ رَبَّهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ، جَاءَهُمُ الْعَذَابُ.(2/133)
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
{كَأَنْ لَمْ يغنوا فِيهَا} يَعْنِي: يقيموا.(2/133)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
{فَكيف آسى} أَحْزَنُ؛ أَيْ: لَا أَحْزَنُ عَلَيْهِمْ.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (94) إِلَى الْآيَة (95) .(2/133)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
{أَخذنَا أَهلهَا بالبأساء} يَعْنِي: الْجُوع والقحط {وَالضَّرَّاء} يَعْنِي: الْأَمْرَاض والشدائد(2/133)
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
{ثمَّ بدلنا مَكَان السَّيئَة} أَيْ: مَكَانَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ {الْحَسَنَةَ} يَعْنِي: الرَّخَاءَ وَالْعَافِيَةَ. {حَتَّى عَفَوْا} أَيْ: كَثُرُوا {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضراء والسراء} فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ؛ يَعْنُونَ: مَا كَانَ يَعِدُ النَّبِيُّ بِهِ قَوْمَهُ مِنَ الْعَذَابِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (96) إِلَى الْآيَة (101) .(2/133)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
{لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْض} قَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُ: لَأَعْطَتْهُمُ السَّمَاءُ قطرها، وَالْأَرْض نباتها.(2/134)
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)
{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بأسنا} عذابنا {بياتا} يَعْنِي: لَيْلًا.(2/134)
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)
وَقَوله: {ضحى} يَعْنِي: نَهَارا {وهم يَلْعَبُونَ} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ كَانَ فِي عملٍ لَا يُجْدِي وَفِي ضَلَالٍ: إِنَّمَا أَنْتَ لاعبٌ؛ أَيْ: فِي غَيْرِ مَا يُجْدِي عَلَيْك.(2/134)
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
{أفأمنوا مكر الله} يَعْنِي: عَذَابه.(2/134)
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
{أَو لم نَهْدِ} أَيْ: نُبَيِّنْ، وَتُقْرَأُ {يَهْدِ} يُبَيِّنُ اللَّهُ.
{لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ من بعد أَهلهَا} يَعْنِي: الَّذِينَ أُهْلِكُوا مِنَ الْأُمَمِ السالفة.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (102) إِلَى الْآيَة (112) .(2/134)
وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
{وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} يَعْنِي: الْمِيثَاقَ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ فِي صلب آدم.(2/135)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
{فظلموا بهَا} أَيْ: جَحَدُوا أَنْ تَكُونَ مِنْ عِنْد الله.(2/135)
حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
{فَأرْسل معي بَنِي إِسْرَائِيلَ} وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي أَيْديهم بِمَنْزِلَة أهل الْجِزْيَة فِينَا.(2/135)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
{وَنزع يَده} أَيْ: أَخْرَجَهَا مِنْ جَيْبِ قَمِيصِهِ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ:
بَلَغَنَا أَنَّ مُوسَى قَالَ: يَا فِرْعَوْنُ، مَا هَذِهِ بيَدي؟ قَالَ: هِيَ عصى؛ فَأَلْقَاهَا مُوسَى، فَإِذَا هِيَ ثعبانٌ مبينٌ قَدْ مَلَأَتِ الدَّارَ مِنْ عِظَمِهَا، ثُمَّ أَهْوَتْ إِلَى فِرْعَوْنَ لِتَبْتَلِعَهُ، فَنَادَى: يَا مُوسَى، يَا مُوسَى، فَأَخَذَ مُوسَى بِذَنَبِهَا؛ فَإِذَا هِيَ عَصًى بِيَدِهِ؛ فَقَالَ فِرْعَوْنُ: يَا مُوسَى، هَلْ مِنْ آيةٍ غَيْرِ هَذِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: فَأَخْرَجَ مُوسَى يَدَهُ فَقَالَ: مَا هَذِهِ يَا فِرْعَوْنُ؟ قَالَ: هَذِهِ يَدُكَ، فَأَدْخَلَهَا مُوسَى فِي جَيْبِهِ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا فَإِذَا هِيَ بيضاءٌ لِلنَّاظِرِينَ، أَيْ: تغشى الْبَصَر من بياضها(2/135)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)
{قَالُوا أرجه وأخاه} أَيْ: أَخِّرْهُ وَأَخَاهُ {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِن حاشرين} يَحْشُرُونَ السَّحَرَةَ؛ فَإِنَّمَا هُوَ سَاحِرٌ، وَلَيْسَ سِحْرُهُ بِالَّذِي يَغْلِبُ سَحَرَتَكَ. .
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (113) إِلَى الْآيَة (126) .(2/135)
وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)
{قَالُوا إِنَّ لنا لأجرا} يعنون: الْعَطِيَّة.(2/136)
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
{قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} يَعْنِي: فِي الْمنزلَة.
{واسترهبوهم} أَي: أخافوهم.(2/136)
قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)
{وَجَاءُوا بسحرٍ عَظِيم} فَخُيِّلَ إِلَى مُوسَى أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهِمْ حياتٌ، فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ؛ فَإِذَا هِيَ أَعْظَمُ مِنْ حَيَّاتِهِمْ، ثُمَّ رَقَوْا فَازْدَادَتْ حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ عِظَمًا فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، وَجُعِلَتْ عَصَا مُوسَى تَعْظُمُ وَهُمْ يَرْقُونَ حَتَّى أَنْفَدُوا سِحْرَهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَعَظُمَتْ عَصَا مُوسَى حَتَّى سَدَّتِ الْأُفُقَ، ثُمَّ فَتَحَتْ فَاهَا، فَابْتَلَعَتْ مَا أَلْقَوْا، ثُمَّ أَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ بِيَدِهِ، فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ قَدْ ذَهَبَتْ؛ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تلقف مَا يأفكون} أَي: مَا يكذبُون.(2/136)
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)
{فَوَقع الْحق} فَظَهَرَ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ:
وَقَالَ السَّحَرَةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَوْ كَانَ هَذَا سحرًا لبقيت حبالنا وعصينا.(2/136)
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)
{فألقي السَّحَرَة ساجدين} أَيْ: خَرُّوا؛ فَبُهِتَ فِرْعَوْنُ، وَخَلَّى سَبِيلَ مُوسَى وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ.(2/137)
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)
{إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَة} (ل 109) قُلْتُمْ: يَا مُوسَى، اذْهَبْ فَاصْنَعْ شَيْئًا؛ فَإِذَا صَنَعْتَ ذَلِكَ دَعَانَا فِرْعَوْنُ فَصَدَّقْنَا مَقَالَتَكَ.
{لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهلهَا} أَيْ: لِتُخْرِجُونِي وَقَوْمِي بِسِحْرِكُمْ وَسِحْرِ مُوسَى.(2/137)
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
{لأقطعن أَيْدِيكُم من خلافٍ} الْيَد الْيُمْنَى، وَالرجل الْيُسْرَى.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (127) إِلَى الْآيَة (129) .(2/137)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
{ويذرك وآلهتك} قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ فِرْعَوْنُ يَعْبُدُ الْأَوْثَان.(2/137)
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
{إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاء من عباده} وَكَانَ اللَّهُ قَدْ أَعْلَمَ مُوسَى أَنَّهُ مهلكٌ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، وَأَنَّهُ سَيُورِثُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْأَرْضَ بَعْدَهُمْ {وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين} يُرِيد: الْجنَّة.(2/137)
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
{قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} يَقُولُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى؛ يَعْنُونُ: مَا كَانَ يَصْنَعُ بِهِمْ فِرْعَوْنُ وَقَومه.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (130) إِلَى الْآيَة (137) .(2/137)
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنقص من الثمرات} فَأَجْدَبَتْ أَرْضُهُمْ، وَهَلَكَتْ مَوَاشِيهِمْ، وَنَقَصَتْ ثِمَارُهُمْ؛ فَقَالُوا: هَذَا مِمَّا سَحَرَنَا بِهِ هَذَا الرجل.(2/138)
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
{فَإِذا جَاءَتْهُم الْحَسَنَة} الْعَافِيَةُ وَالرَّخَاءُ { (قَالُوا لَنَا هَذِهِ} أَيْ: لَنَا جَاءَتْ، وَنَحْنُ أَحَقُّ بهَا {وَإِن تصبهم سَيِّئَة} أَيْ: شِدَّةٌ {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَه} قَالُوا: إِنَّمَا أَصَابَنَا هَذَا مِنْ شُؤْمِ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، قَالَ اللَّهُ: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ الله} يَعْنِي: عَمَلَهُمْ هُوَ محفوظٌ عَلَيْهِمْ؛ حَتَّى يُجَازِيَهُمْ بِهِ.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: أَلَا إِنَّمَا الشُّؤْمُ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ هُوَ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ فِي الْآخِرَةِ، لَا مَا يَنَالُهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا؛ وَهُوَ مَعْنَى قَول يحيى.(2/138)
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)
{وَقَالُوا مهما تأتنا بِهِ} أَيْ: مَا تَأْتِنَا بِهِ: مَهْمَا و (مَا) بِمَعْنى واحدٍ.(2/138)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
{فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم الطوفان} الْآيَةَ.
تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: الطُّوفَانُ: الْمَاءُ أَرْسَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؛ حَتَّى قَامُوا فِيهِ قِيَامًا، فَدَعَوْا مُوسَى، فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ، ثُمَّ عَادُوا لِشَرِّ مَا بِحَضْرَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَرَادَ، فَأَكَلَ عَامَّةَ حُرُوثِهِمْ وَثِمَارِهِمْ، فَدَعَوْا مُوسَى فَدَعَا رَبَّهُ، فَكَشَفَ عَنْهُمْ ثُمَّ عَادُوا لِشَرِّ مَا بِحَضْرَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقُمَّلَ وَهُوَ الدُّبَيُّ؛ فَأَكَلَ مَا أَبْقَى الْجَرَادُ مِنْ حُرُوثِهِمْ وَلَحَسَتْهُ، فَدَعَوْا مُوسَى فَدَعَا رَبَّهُ، فَكَشَفَ عَنْهُمْ، ثُمَّ عَادُوا لِشَرِّ مَا بِحَضْرَتِهِمْ؛ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الضَّفَادِعَ؛ حَتَّى مَلَأَ بِهَا فَرْشَهُمْ وَأَفْنِيَتَهُمْ فَدَعَوْا مُوسَى؛ فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ، ثُمَّ عَادُوا لِشَرِّ مَا بِحَضْرَتِهِمْ؛ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الدَّمَ فَجَعَلُوا لَا يَغْتَرِفُونَ مِنْ مَائِهِمْ إِلَّا دَمًا أَحْمَرَ؛ حَتَّى لَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ فِرْعَوْنَ جَمَعَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا إِسْرَائِيلِيٌّ وَالْآخَرُ قِبْطِيٌّ عَلَى إناءٍ وَاحِدٍ؛ فَكَانَ الَّذِي يَلِي الْإِسْرَائِيلِيَّ مَاءً، وَالَّذِي يَلِي الْقِبْطِيَّ دَمًا، فَدَعَوْا مُوسَى؛ فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ.
{آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} كَانَ الْعَذَاب يَأْتِيهم، فيكونون ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ بَيْنَ كُلِّ عذابين شهرٌ.(2/139)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)
{وَلما وَقع عَلَيْهِم الرجز} يَعْنِي: الْعَذَاب.(2/139)
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)
{إِلَى أجل هم بالغوه} إِلَى يَوْمِ غَرَّقَهُمُ اللَّهُ فِي الْيَمِّ {إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} .(2/139)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ} يَعْنِي: أَبْنَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ {مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} وَهِيَ أَرْضُ الشَّامِ؛ فِي تَفْسِيرِ الْحسن.
{وتمت كلمة رَبك الْحسنى} يَعْنِي: ظُهُورُ قَوْمِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ؛ فِي(2/139)
تَفْسِيرِ مُجَاهِدٍ {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يعرشون} يبنون.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (138) إِلَى الْآيَة (141) .(2/140)
إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)
{إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} أَي: مُفسد.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (142) إِلَى الْآيَة (143) .(2/140)
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعشر} وَهِيَ: ذُو الْقِعْدَةُ وَعَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ:
إِنَّ مُوسَى لَمَّا قَطَعَ الْبَحْرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَغَرَّقَ اللَّهُ آلَ فِرْعَوْنَ - قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: يَا مُوسَى، ائْتِنَا بكتابٍ مِنْ رَبِّنَا كَمَا وَعَدْتَنَا، وَزَعَمْتَ أَنَّكَ تَأْتِينَا بِهِ إِلَى شَهْرٍ، فَاخْتَارَ مُوسَى مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ رَجُلًا لِيَنْطَلِقُوا مَعَهُ، فَلَمَّا تَجَهَّزُوا قَالَ اللَّهُ: يَا مُوسَى، أَخْبِرْ قَوْمَكَ أَنَّكَ لَنْ تَأْتِيَهُمْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. وَذَلِكَ حِينَ تَمَّتْ بعشرٍ، فَلَمَّا خَرَجَ مُوسَى بِالسَّبْعِينَ أَمْرَهُمْ أَنْ يَنْتَظِرُوهُ(2/140)
فِي أَسْفَل الْجَبَل (ل 110) وَصَعِدَ مُوسَى الْجَبَلَ، فَكَلَّمَهُ اللَّهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَكَتَبَ لَهُ فِيهَا الْأَلْوَاحَ، ثُمَّ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَدُّوا عِشْرِينَ يَوْمًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً؛ فَقَالُوا: قَدْ أَخْلَفْنَا مُوسَى الْوَعْدَ! وَجَعَلَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ الْعجل؛ فعبدوه.(2/141)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
{وَلما جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} الْآيَةَ، قَالَ الْحَسَنُ:
لَمَّا كَلَّمَهُ رَبُّهُ، دَخَلَ قَلْبَ مُوسَى مِنَ السُّرُورِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى قَلْبِهِ مِثْلُهُ قَطُّ، فَدَعَتْ مُوسَى نَفْسُهُ إِلَى أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ نَفْسَهُ؛ وَلَوْ كَانَ فِيمَا عَهِدَ إِلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُرَى، لَمْ يَسْأَلْ رَبَّهُ بِمَا يَعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُعْطِيهِ إِيَّاهُ.
{فَقَالَ رب أَرِنِي أنظر إِلَيْك} فَقَالَ اللَّهُ: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى ربه للجبل جعله دكا} قَالَ قَتَادَةُ: تَفَتَّتِ الْجَبَلُ بَعْضُهُ عَلَى بعضٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقِيلَ: جَعَلَهُ دَكًّا؛ أَيْ: أَلْصَقَهُ بِالأَرْضِ؛ يُقَالُ: ناقةٌ دَكَّاءُ؛ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا سنامٌ. وَقِيلَ فِي قَوْله: {تجلى} أَيْ: ظَهَرَ، أَوْ ظَهَرَ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ {وَخَرَّ مُوسَى صعقا} أَيْ: سَقَطَ مَيِّتًا.
قَالَ محمدٌ: وَقيل: (صعقاً) : مغشياًّ عَلَيْهِ {فَلَمَّا أَفَاق} يَعْنِي: رَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ حَيَاتَهُ.
{قَالَ سُبْحَانَكَ تبت إِلَيْك} أَيْ: مِنْ قَوْلِي: أَنْظُرُ إِلَيْكَ {وَأَنا أول الْمُؤمنِينَ} يَعْنِي: الْمُصَدِّقِينَ بِأَنَّكَ لَا تُرَى فِي الدُّنْيَا.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (144) إِلَى الْآيَة (145) .(2/141)
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ} اخْتَرْتُك.(2/142)
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شيءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شيءٍ} أَيْ: تَبِيِّينًا لِكُلِّ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَنُهُوا عَنْهُ.
{فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} أَيْ: بِجَدٍّ {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بأحسنها} أَيْ: بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ {سأريكم دَار الْفَاسِقين} يَعْنِي: فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ؛ وَهِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} .
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (146) إِلَى الْآيَة (147) .(2/142)
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)
{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْض} قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ: سَأَصْرِفُهُمْ عَنْهَا؛ حَتَّى لَا يُؤْمِنُوا بِهَا {وَإِنْ يرَوا سَبِيل الغي} يَعْنِي: الْكفْر {يتخذوه سَبِيلا} أَخْبَرَ بِعِلْمِهِ فِيهِمْ؛ أَنَّهُمْ لَا يُؤمنُونَ أبدا.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (148) إِلَى الْآيَة (149) .(2/142)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ} يَعْنِي: حِينَ ذَهَبَ لِلْمِيعَادِ {مِنْ حليهم} مِنْ حُلِيِّ قَوْمِ فِرْعَوْنَ {عِجْلا جسدا لَهُ خوار} صَوْتٌ.
قَالَ قَتَادَةُ: جَعَلَ يَخُورُ خُوَارَ الْبَقْرَةِ. وَتَفْسِيرُ اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ مذكورٌ فِي سُورَةِ طه.
قَالَ محمدٌ: الْجَسَدُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَلا يَمِيزُ، وَمعنى الْجَسَد هَا هُنَا: الْجُثَّةُ. وَتُقْرَأُ {مِنْ حَلْيِهِمْ} وَ {حَلْيِهِمْ} ، فَالْحَلْيُ بِفَتْحِ الْحَاءِ: اسمٌ لِمَا يُتَحَسَّنُ بِهِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِضَمِّ الْحَاءِ فَهُوَ جَمْعُ (حليٍ) .
{أَلَمْ يَرَوْا أَنه لَا يكلمهم} يَعْنِي: الْعِجْلَ.
{وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا} أَي: طَرِيقا {اتخذوه} أَيْ: اتَّخَذُوهُ إِلَهًا.
{وَكَانُوا ظَالِمِينَ} لأَنْفُسِهِمْ(2/143)
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
{وَلما سقط فِي أَيْديهم} أَيْ: نَدِمُوا {وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضلوا} الآيَةُ. قَالُوا ذَلِكَ لِمَا صَنَعَ مُوسَى بِالْعِجْلِ مَا صَنَعَ، وَطَلَبُوا التَّوْبَةَ، وَأَبَى اللَّهُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ، إِلا أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ؛ وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ الْبَقْرَةِ.
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ لِلْنَادِمِ عَلَى مَا فَعَلَ: قَدْ سُقِطَ فِي يَدِهِ، وَأُسْقِطَ فِي يَده.(2/143)
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (150) إِلَى الْآيَة (151) .(2/144)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَان أسفا} أَيْ: شَدِيدَ الْغَضَبِ.
{قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ ربكُم} قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: عَجِلْتُ الأَمْرَ إِذَا سَبَقْتُهُ، وَأَعْجَلْتُهُ: إِذَا اسْتَحْثَثْتَهُ.
{قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ استضعفوني} .
قَالَ محمدٌ:
مَنْ قَرَأَ (ابْنَ أُمَّ) بِالْفَتْحِ، فَلِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِمْ هَذَا الِاسْم.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (152) إِلَى الْآيَة (155) .(2/144)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاة} يَعْنِي: الْجِزْيَةَ {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} الْكَاذِبِينَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْعِجْلَ إلههم(2/145)
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} أَيْ: سَكَنَ {أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نسختها} يَعْنِي: الْكِتَابَ الَّذِي نُسِخَتْ مِنْهُ التَّوْرَاة.(2/145)
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا} الآيَةَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مِنْ كَلامِ الْعَرَب: اخْتَرْتُك (ل 111) الْقَوْمَ؛ أَيْ: مِنَ الْقَوْمِ.
قَالَ الْكَلْبِيّ:
إِن السّبْعين قَالَ لِمُوسَى حِينَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ: يَا مُوسَى لَنَا عَلَيْكَ حَقٌّ كُنَّا أَصْحَابَكَ وَلَمْ نَخْتَلِفْ، وَلَمْ نَصْنَعِ الَّذِي صَنَعَ قَوْمُنَا؛ فَأَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً كَمَا رَأَيْتَهُ، فَقَالَ مُوسَى: لَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ، وَلَقَدْ أَرَدْتُهُ عَلَى ذَلِكَ فَأَبَى وَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ فَكَانَ دَكًّا وَهُوَ أَشَدُّ مِنِّي، وَخَرَرْتُ صَعِقًا، فَلَمَّا أَفَقْتُ سَأَلْتُ اللَّهَ وَاعْتَرَفْتُ بِالْخَطِيئَةِ. فَقَالُوا: إِنَّا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ؛ فَاحْتَرَقُوا مِنْ آخِرِهِمْ، فَظَنَّ مُوسَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا احْتَرَقُوا بِخَطِيئَةِ أَصْحَابِ الْعِجْلِ، فَقَالَ مُوسَى: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} يَعْنِي: أَصْحَابَ الْعِجْلِ {إِنْ هِيَ إِلَّا فتنتك} إِلَى آخِرِ الآيَةِ، ثُمَّ بَعَثَهُمُ الله من بعد مَوْتهمْ.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (156) إِلَى الْآيَة (159) .(2/145)
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
{إِنَّا هدنا إِلَيْك} أَيْ: تُبْنَا.
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء} يَعْنِي: أَهْلَهَا. لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، تَطَاوَلَ لَهَا إِبْلِيسُ، وَقَالَ: أَنَا مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَطَمِعَ فِيهَا أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ، فَقَالَ اللَّهُ: {فسأكتبها} يَعْنِي: فسأجعلها {للَّذين يَتَّقُونَ} الشّرك {وَيُؤْتونَ الزَّكَاة} التَّوْحِيد.(2/146)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
{وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات} يَعْنِي: الشُّحُومَ وَكُلَّ ذِي ظُفُرٍ {وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث} يَعْنِي: الْحَرَامَ {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} ثِقَلَهُمْ؛ وَهُوَ مَا كَانَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ.
{وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} يَعْنِي: مَا كَانَ شُدِّدَ عَلَيْهِمْ فِيهِ.
{وعزروه} أَيْ: عَظَّمُوهُ {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أنزل مَعَه} أَي: عَلَيْهِ؛ يَعْنِي: الْقُرْآن.(2/146)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
{يُؤمن بِاللَّه وكلماته} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: وَحْيَهُ الَّذِي أنزل على مُحَمَّد.(2/146)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
{وَمن قوم مُوسَى أمة} أَي: جمَاعَة {يهْدُونَ بِالْحَقِّ} أَيْ: يَدْعُونَ إِلَيْهِ(2/146)
{وَبِه يعدلُونَ} يحكمون.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (160) إِلَى الْآيَة (162) .(2/147)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} يَعْنِي: بَنِي إِسْرَائِيلَ.
قَالَ محمدٌ: (الأَسْبَاطُ) : الْقَبَائِلُ، وَاحِدُهَا: سِبْطٌ، وَالسِّبْطُ فِي اللُّغَة: الْجَمَاعَة الَّذين يرجعُونَ إِلَى أبٍ وَاحِدٍ.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بعصاك الْحجر} إِلَى قَوْلِهِ {بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} وَقَدْ فَسَّرْنَا أَمْرَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (163) إِلَى الْآيَة (166) .(2/147)
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السبت} أَيْ: يَعْتَدُونَ.
{يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} أَيْ: شَوَارِعٌ فِي الْمَاءِ.
{كَذَلِكَ نبلوهم} أَي: نبتليهم.(2/148)
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
{وَإِذ قَالَت أمة مِنْهُم} الآيَةَ.
تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: الْقَرْيَةُ: هِيَ (أَيْلَةُ) وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَانِ دَاوُدَ؛ وَهُوَ مَكَانٌ مِنَ الْبَحْرِ تَجْتَمِعُ فِيهِ الْحِيتَانُ فِي شَهْرٍ مِنَ السَّنَةِ؛ كَهَيْئَةِ الْعِيدِ، تَأْتِيهِمْ مِنْهُ حَتَّى لَا يَرَوُا الْمَاءَ، وَتَأْتِيهِمْ فِي غَيْرِ ذَلِك الشَّهْر كُلِّ يَوْمِ سبتٍ؛ كَمَا تَأْتِيهِمْ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ، فَإِذَا جَاءَ السَّبْتُ لَمْ يَمَسُّوا مِنْهَا شَيْئًا، فَعَمَدَ رجالٌ مِنْ سُفَهَاءِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ؛ فَأَخَذُوا الْحِيتَانَ لَيْلَةَ السَّبْتِ وَيَوْمَ السَّبْتِ، فَأَكْثَرُوا مِنْهَا وَمَلَّحُوا وَبَاعُوا، وَلَمْ تَنْزِلْ بِهِمْ عقوبةٌ فَاسْتَبْشَرُوا، وَقَالُوا: إِنَّا نَرَى السَّبْتَ قَدْ حَلَّ، وَذَهَبَتْ حُرْمَتُهُ، إِنَّمَا كَانَ يُعَاقَبُ بِهِ آبَاؤُنَا، فَعَمِلُوا بِذَلِكَ سِنِينَ؛ حَتَّى أَثْرَوْا مِنْهُ، وَتَزَوَّجُوا النِّسَاءَ، وَاتَّخَذُوا الأَمْوَالَ، فَمَشَى إِلَيْهِمْ طَوَائِفٌ مِنْ صَالِحِيهِمْ؛ فَقَالُوا: يَا قَوْمُ، انْتَهَكْتُمْ حُرْمَةَ سَبْتِكُمْ، وَعَصَيْتُمْ رَبَّكُمْ، وَخَالَفْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، فَانْتَهُوا عَنْ هَذَا الْعَمَلِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ الْعَذَابُ {قَالُوا: فَلِمَ تَعِظُونَنَا إِذْ كُنْتُمْ عَلِمْتُمْ أَن الله مهلكنا؟} وَإِن أطعمتمونا لَتَفْعَلُنَّ كَالَّذِي فَعَلْنَا، فَقَدْ فَعَلْنَا مُنْذُ سِنِينَ فَمَا زَادَنَا اللَّهُ بِهِ إِلَّا خَيْرًا. قَالُوا: وَيْلَكُمْ لَا تَغْتَرُّوا وَلا تَأْمَنُوا بَأْسَ اللَّهِ(2/148)
[ ... ] كَأَنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِكُمْ، قَالُوا {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} الآيَةَ.
وَفِي غَيْرِ تَفْسِيرِ الْكَلْبِيِّ: صَارُوا ثَلاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ اجْتَرَأَتْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَفِرْقَةٌ نَهَتْ، وَفِرْقَةٌ كَفَّتْ؛ فَلَمْ تَصْنَعْ مَا صَنَعُوا وَلم تنههم وَقَالُوا (ل 112) : لِلَّذِينَ نَهَوْا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} .
قَالَ محمدٌ: يَجُوزُ الرَّفْعُ فِي {معذرة} عَلَى مَعْنَى: مَوْعِظَتُنَا إِيَّاهُمْ مَعْذِرَةٌ.(2/149)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} أَيْ: تَرَكُوا مَا وُعِظُوا بِهِ.
{أَخَذْنَاهُم بعذابٍ بئيس} أَي: شَدِيد {قردة خَاسِئِينَ} أَيْ مُبْعَدِينَ.
قَالَ قَتَادَةُ: فَصَارُوا قردةً تعاوى لَهَا أَذْنَابٌ.
قَالَ قَتَادَةُ: وَبَلَغَنَا أَنَّهُ دُخِلَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْمُصْحَفُ، وَهُوَ يَبْكِي وَقَدْ أَتَى عَلَى هَذِهِ الآيَةِ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَ الَّذِينَ أَخَذُوا الْحِيتَانَ، وَنَجَّى الَّذين نهوهم، وَلَا أَدْرِي مَا صَنَعَ بِالَّذِينَ لَمْ يَنْهَوْا وَلَمْ يُوَاقِعُوا الْمَعْصِيَةَ.
قَالَ الْحَسَنُ: وَأَيُّ نَهِيٍّ يَكُونُ أَشَدَّ مِنْ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا لَهُمُ الْوَعِيدَ، وَخَوَّفُوهُمُ الْعَذَابَ، فَقَالُوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عذَابا شَدِيدا} .(2/149)
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (167) إِلَى الْآيَة (170) .(2/150)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
{وَإِذ تَأذن رَبك} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: أَعْلَمَ رَبُّكَ {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ من يسومهم} أَي: يوليهم {سوء الْعَذَاب} أَيْ: شِدَّتُهُ.
قَالَ قَتَادَةُ: فَبَعَثَ عَلَيْهِم الْعَرَب، فهم مِنْهُ فِي عذابٍ بِالْجِزْيَةِ وَالذُّلِّ.
{إِنَّ رَبك لسريع الْعقَاب} قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَ قَوْمًا كَانَ عَذَابُهُ إِيَّاهُمْ أَسْرَعَ مِنَ الطَّرْفِ.
{وَإِنَّهُ لغَفُور رَحِيم} لمن تَابَ وآمن.(2/150)
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
{وقطعناهم فِي الأَرْض} أَيْ: فَرَّقْنَاهُمْ، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: الْيَهُود {مِنْهُم الصالحون} يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} يَعْنِي: كفَّارًا {وبلوناهم} اختبرناهم {بِالْحَسَنَاتِ والسيئات} يَعْنِي: بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إِلَى الْإِيمَان(2/150)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
{فخلف من بعدهمْ خلف} قَالَ مُجَاهِدٌ: الْخَلْفُ: النَّصَارَى بَعْدَ الْيَهُودِ.
قَالَ محمدٌ: ذَكَرَ قطربٌ أَنَّهُ يُقَالُ:
خَلْفُ سوءٍ، وَخَلْفُ صِدْقٍ، وَخَلَفُ(2/150)
سوءٍ وَخَلَفُ صدقٍ بِتَسْكِينِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا فِي الْحَالَيْنِ. وَأَنْشَدَ بَيْتَ حسان ابْن ثَابِتٍ:
(لَنَا الْقَدَمُ الأُولَى [عَلَيْهِمْ] وَخَلْفُنَا ... لأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَابِعُ)
وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَنَّ الاخْتِيَارَ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنْ يُوضَعَ الْخَلْفُ - بِتَسْكِينِ اللَّامِ - مَوْضِعَ الذَّمِّ، وَالْخَلَفُ - بِالْفَتْحِ - مَوْضِعَ الْمَدْحِ.
{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مثله يأخذوه}
قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: مَا أَشْرَفَ لَهُمْ فِي الْيَوْمِ مِنْ حلالٍ أَوْ حرامٍ أَخَذُوهُ، وَيَتَمَنَّوْنَ الْمَغْفِرَةَ، وَإِنْ يَجِدُوا الْغَدَ مِثْلَهُ يَأْخُذُوهُ.
{ودرسوا مَا فِيهِ} يَقُولُ: قَرَءُوا مَا فِيهِ، فِي هَذَا الْكِتَابِ؛ بِخِلافِ مَا يَقُولُونَ وَمَا يعْملُونَ {أَفلا يعقولون} مَا يدرسون(2/151)
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
{وَالَّذين يمسكون بِالْكتاب} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: مَنْ آمَنَ من الْيَهُود وَالنَّصَارَى.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (171) إِلَى الْآيَة (174) .(2/151)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظلة} أَيْ: رَفَعْنَاهُ؛ وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ رَفْعِ الْجَبَلِ فَوْقَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة.(2/152)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدم من ظُهُورهمْ ذرياتهم} إِلَى قَوْله: {شَهِدنَا} تَفْسِيرُ ابْنِ عباسٍ قَالَ:
أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ بِالْهِنْدِ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ؛ فَأَخْرَجَ مِنْهُ كُلَّ نسمةٍ هُوَ خَالِقُهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثمَّ قَالَ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} قَالُوا: بَلَى شَهِدْنَا؛ فَقَالَ لِلْمَلائَكَةِ: اشْهَدُوا، فَقَالُوا: شَهِدْنَا. قَالَ الْحَسَنُ: ثُمَّ أَعَادَهُمْ فِي صلب آدم {أَن تَقولُوا} أَيْ: لِئَلا تَقُولُوا {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}(2/152)
أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)
{أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بعدهمْ} وجدناهم على ملةٍ فاتبعناهم ".
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (175) إِلَى الْآيَة (178) .(2/152)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتنَا فانسلخ مِنْهَا} .
قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ بَلْعَانُ بْنُ بَعْرَانَ - وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ: بَلْعَمُ - آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا فَتَرَكَهُ.
{فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ من الغاوين} أَيْ: كَفَرَ.
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: أَتْبَعْتُ الرَّجُلَ إِذَا لَحِقْتَهُ، وَتَبِعْتَهُ إِذا سرت فِي أَثَره.(2/153)
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
{وَلَو شِئْنَا لرفعناه بهَا} أَي: بِآيَاتِنَا {لكنه أخلد إِلَى الأَرْض} 6 أَيْ: رَكَنَ إِلَى الدُّنْيَا {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} أَيْ: أَبَى أَنْ يَصْحَبَ الْهُدَى.
{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ} {ل 113} أَيْ: تَطْرُدُهُ {يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ، قَالَ: هُوَ ضالٌّ عَلَى كُلِّ حالٍ؛ وَعَظْتَهُ أَوْ تَرَكْتَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قِيلَ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِتَارِكِ أَمْرِهِ أَخَسَّ مَثَلٍ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: مَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ لاهِثًا - وَاخْتَصَرَ (لاهِثًا) - {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تتركه يَلْهَث} وَلَهْثَانُهُ: اضْطِرَابُ لِسَانِهِ وَصَوْتِهِ الَّذِي يردد عِنْد ذَلِك؛ كَأَنَّهُ معيى أَوْ عَطْشَانُ؛ وَإِذَا كَانَ الْكَلْبُ بِهَذِهِ الْحَالِ، فَهِيَ أَخَسُّ أَحْوَالِهِ.(2/153)
سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)
{سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: سَاءَ مَثَلا مثل الْقَوْم.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (179) إِلَى الْآيَة (181) .(2/153)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
{وَلَقَد ذرأنا} خلقنَا {لِجَهَنَّم كثيرا من الْإِنْس وَالْجِنّ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} الْهُدَى {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بهَا} الْهُدَى {وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بهَا} الْهُدَى {أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضلّ} مِنَ الأَنْعَامِ فِيمَا تَعَبَّدُوا بِهِ {أُولَئِكَ هم الغافلون} عَن الْآخِرَة.(2/154)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} .
يحيى: عَنْ خداشٍ، عَنْ محمدٍ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لِلَّهِ تسعةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مِائَةٌ غَيْرُ واحدٍ؛ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ".
قَالَ مُحَمَّدٌ: (مَعْنَى أَحْصَاهَا) : حَفِظَهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَقَرَّ لِلَّهِ بِهَا وَتَعَبَّدَ.(2/154)
{وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} أَيْ: يَمِيلُونَ؛ فَسَمَّوْا مَكَانَ اللَّهِ: الَّلاتَ، وَمَكَانَ الْعَزِيزِ: الْعُزَّى.
{وَذَرُوا} فِي هَذَا الْمَوْضِعِ منسوخٌ، نَسَخَهُ الْقِتَال.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (182) إِلَى الْآيَة (186) .(2/155)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ} أَيْ: يَحْكُمُونَ.
قَالَ قَتَادَةُ:
ذُكِرَ لَنَا أَن نَبِي اللَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " هَذِهِ لَكُمْ، وَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ الْقَوْمَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِثْلَهَا "؛ يَعْنِي: قَوْلَهُ: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} .(2/155)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)
{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يعلمُونَ} إِلَى قَوْله: {متين} هُوَ كَقَوْلِهِ:
{حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَة} الْآيَة.
وَمعنى {أملي لَهُم} : أُطِيلُ لَهُمْ، وَمَعْنَى (كَيْدِي مَتِينٌ) : عَذَابي شَدِيد.(2/156)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
{أَو لم يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جنةٍ} وَهَذَا جوابٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُشْرِكِينَ؛ لِقَوْلِهِمْ لِلْنَبِيِّ إِنَّهُ مجنونٌ يَقُولُ: لَوْ تَفَكَّرُوا، لَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ بمجنونٍ.
{إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ} يُنْذِرُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ {مُبِينٌ} يبين عَن الله.(2/156)
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
{أَو لم ينْظرُوا فِي ملكوت السَّمَوَات} يَعْنِي: مُلْكَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَا أَرَاهَمُ اللَّهُ مِنْ آيَاتِهِ فِيهِمَا {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شيءٍ} وَإِلَى مَا خَلَقَ مِنْ شيءٍ مِمَّا يَرَوْنَهُ فَيَتَفَكَّرُوا، فَيَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا قادرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قد اقْترب أَجلهم} فَيُبَادِرُوا التَّوْبَةَ قَبْلَ الْمَوْتِ {فَبِأَيِّ حَدِيث بعده} بعد الْقُرْآن {يُؤمنُونَ} يصدقون.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (187) فَقَط.(2/156)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} مَتَى قِيَامُهَا؟
قَالَ محمدٌ: وَقِيلَ: الْمَعْنَى: مَتَى يَبْعَثُهَا؛ لأَنَّهَا جاريةٌ إِلَى حدٍّ، وَيُقَالُ: رَسَا الشَّيْءُ يَرْسُو؛ إِذَا ثَبَتَ.(2/156)
{لَا يجليها} لَا يظهرها {لوَقْتهَا} فِي وَقْتِهَا {إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْض، حَتَّى تشققت لَهَا السَّمَوَات، وَانْتَثَرَتِ النُّجُومُ، وَذَهَبَتْ جِبَالُ الأَرْضِ وَبِحَارُهَا.
{لَا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً} .
يحيى: عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرَّجُلانِ قَدْ نَشَرَا ثَوْبَهُمَا يَتَبَايَعَانِهِ فَمَا يَطْوِيَانِهِ؛ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وَتَقُومُ السَّاعَةُ وَالرَّجُلُ قَدْ رَفَعَ أَكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَمَا تَصِلُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ".
{يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّك حفي عَنْهَا} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: قَالَتْ قريشٌ: يَا مُحَمَّدُ، أَسِرَّ إِلَيْنَا أَمْرَ السَّاعَةِ؛ لِمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مِنَ الْقَرَابَةِ، فَقَالَ اللَّهُ: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} هِيَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ مُقَدَّمَةٌ يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا كَأَنَّكَ حفيٌّ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقِيلَ: الْمَعْنَى: كَأَنَّكَ معنيٌّ بِطَلَبِ عِلْمِهَا؛ يُقَالُ: حَفَيْتُ بِالأَمْرِ أَحْفِي بِهِ حَفَاوَةً؛ إِذَا عَنَيْتُ بِهِ.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (188) فَقَط.
(ل 114)(2/157)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ الله} أَيْ: إِنَّمَا(2/157)
ذَلِكَ بِمَا شَاءَ اللَّهُ {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْر} أَيْ: لَوْ أَطْلَعَنِي عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا أَطْلَعَنِي عَلَيْهِ مِنَ الْغَيْبِ لَكَانَ أَكْثَرَ لِخَيْرِي عِنْدَهُ، وَلَمْ يُطْلِعَنِي عَلَى عِلْمِ السَّاعَةِ مَتَى قِيَامهَا {وَمَا مسني السوء} هَذَا جَوَابٌ لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ قُلْ: {وَمَا مسني السوء} الْآيَة.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (189) إِلَى الْآيَة (192) .(2/158)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَة} يَعْنِي: آدَمَ {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يَعْنِي: حَوَّاءَ؛ خَلَقَهَا مِنْ ضِلَعِ آدَمَ الْقُصَيْرَى الْيُسْرَى {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا} إِلَى قَوْلِهِ: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ:
حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا - يَعْنِي: حَوَّاءَ - فَمَرَّتْ بِهِ - أَيْ: قَامَتْ بِهِ وَقَعَدَتْ - ثُمَّ أَتَاهَا الشَّيْطَانُ فِي غَيْرِ صُورَتِهِ؛ فَقَالَ: يَا حَوَّاءُ، مَا هَذَا فِي بَطْنِكِ؟ فَقَالَتْ: لَا أَدْرِي. قَالَ: لَعَلَّهُ بهيمةٌ مِنْ هَذِهِ الْبَهَائِمِ، فَقَالَتْ: مَا أَدْرِي. فَأَعْرَضَ عَنْهَا؛ حَتَّى إِذَا أَثْقَلَتْ أَتَاهَا، فَقَالَ لَهَا: كَيْفَ تَجِدِينَكِ يَا حَوَّاءُ؟ قَالَتْ: إِنَّي لأَخَافُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي خَوَّفْتَنِي، مَا أَسْتَطِيعُ الْقِيَامُ إِذَا قَعَدْتُ. قَالَ: أَفَرَأَيْتِ إِنْ دَعَوْتِ اللَّهَ، فَجَعَلُهُ إِنْسَانًا مِثْلَكِ أَوْ مِثْلَ آدَمَ، أَتُسَمِّينَهُ بِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَانْصَرَفَ عَنْهَا وَقَالَتْ لآدَمَ: إِنَّ الَّذِي فِي بَطْنِي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ بَهِيمَةً مِنْ هَذِهِ الْبَهَائِمِ، وَإِنِّي لأَجِدُ لَهُ ثِقَلا، وَلَقَدْ خِفْتُ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ، فَلَمْ يَكُنْ لآدَمَ وَلا لِحَوَّاءَ همٌّ(2/158)
غَيْرُهُ حَتَّى وَضَعَتْ؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالحا} أَيْ: إِنْسَانًا {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} كَانَ هَذَا دُعَاءَهُمَا قَبْلَ أَنْ تَلِدَ، فَلَّمَا وَلَدَتْ أَتَاهُمَا إِبْلِيسُ، فَقَالَ: أَلا تُسَمِّينَهُ بِي؛ كَمَا وَعَدْتِنِي؟ قَالَتْ: وَمَا اسْمُكَ؟ قَالَ: عَبْدُ الْحَارِثِ، فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ؛ فَمَاتَ.(2/159)
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
قَالَ اللَّهُ: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} قَالَ قَتَادَةُ: فَكَانَ شِرْكًا فِي طَاعَتِهِمَا لإِبْلِيسَ فِي تَسْمِيَتِهِمَا إِيَّاهُ: عَبْدَ الْحَارِثِ، وَلَمْ يَكُنْ شِرْكًا فِي عبادةٍ.(2/159)
ثُمَّ انْقَطَعَتْ قِصَّةُ آدَمَ وَحَوَّاءَ.
{فتعالى الله عَمَّا يشركُونَ} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ.(2/160)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وهم يخلقون} يَعْنِي: الأَوْثَانَ؛ كَقَوْلِهِ: {أَتَعْبُدُونَ مَا تنحتون} بِأَيْدِيكُمْ.(2/160)
وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)
{وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُم نصرا} الآيَةَ.
يَقُولُ: وَلا تَنْصُرُ الأَوْثَانُ أَنْفسهَا، وَلَا من عَبدهَا.
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (193) إِلَى الْآيَة (196) .(2/160)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يتبعوكم} أخبر بِعِلْمِهِ فيهم.(2/161)
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله عباد أمثالكم} أَيْ: مَخْلُوقُونَ {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنْتُم صَادِقين} أَنهم آلِهَة(2/161)
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
{ألهم أرجل} إِلَى قَوْله: {يسمعُونَ بهَا} أَيْ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ هَذَا {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} يَعْنِي: أَوْثَانَكُمْ {ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تنْظرُون} أَيْ: اجْهَدُوا عَلَيَّ جُهْدَكُمْ.
{إِنَّ وليي الله} .
سُورَة الْأَعْرَاف من الْآيَة (197) إِلَى الْآيَة (206) .(2/161)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يسمعوا} أَيْ: سَمْعَ قبولٍ {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْك} يَعْنِي: وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ بِقُلُوبِهِمْ.(2/161)
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
{خُذ الْعَفو} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَقُولُ: خُذِ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلاقِ النَّاسِ وَأَعْمَالِهِمْ بِغَيْرِ [تحسسٍ] .
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْعَفْوُ فِي كَلامِ الْعَرَبِ: مَا أُتِيَ بِغَيْرِ كلفةٍ.
{وَأمر بِالْعرْفِ} بِالْمَعْرُوفِ {وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} يَعْنِي: الْمُشْركين.
وَقَوله: {أعرض} منسوخٌ، نسخه الْقِتَال.(2/162)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} قَالَ الْحَسَنُ: النَّزْغُ: الْوَسْوَسَةُ.
قَالَ محمدٌ: وَأَصْلُ النَّزْغِ: الْحَرَكَةُ؛ تَقُولُ: قد نزغته؛ إِذا حركته.(2/162)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طائف من الشَّيْطَان تَذكرُوا} قَالَ الْحَسَنُ: طائفٌ مِنَ الطُّوفَانِ؛ أَيْ: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ بِوَسَاوِسِهِ؛ يَأْمُرُهُمْ بالمعصية {فَإِذا هم مبصرون} أَي: تائبون من الْمعْصِيَة(2/162)
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
{وإخوانهم} يَعْنِي: إِخْوَانَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الشَّيَاطِينَ {يمدونهم} (ل 115) أَيْ: يَزِيدُونَهُمْ {فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يقصرون} فِي هَلَكَتِهِمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ مِنَ الْمَدَدِ الَّذِي يَمُدُّونَهُمْ {فِي الغي} : بِأَسْبَابِ الْغَيِّ، يُقَالُ: [مَدَدْتُهُ] بِالسِّلاحِ، وَأَمْدَدْتُهُ بِكَذَا؛ لِمَا يَمُدُّهُ بِهِ. وَلِبَعْضِهِمْ يَذْكُرُ الأَمْوَاتَ:(2/162)
(نَمُدُّهُمْ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ بَقِيَّتِنَا ... وَلا يَئُوبُ إِلَيْنَا مِنْهُمُ أحدٌ} .
{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجتبيتها} أَيْ: هَلا جِئْتَ بِهَا مِنْ عنْدك. قَالَ الله: {قل} لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: {إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بصائر} يَعْنِي: الْقُرْآنَ.
قَالَ محمدٌ: وَاحِدُ الْبَصَائِرِ: بصيرةٌ؛ وَهِيَ كلمةٌ: تَتَصَرَّفُ عَلَى وُجُوهٍ، وَأَصْلُهَا بَيَانُ الشَّيْءِ وظهوره.(2/163)
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
{وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} قَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلاةِ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ.(2/163)
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وخيفةً} أَيْ: مَخَافَةً مِنْهُ.
{وَدُونَ الْجَهْرِ من القَوْل بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال} يَعْنِي: الْعَشِيَّاتِ. وَهَذَا حِينَ كَانَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ غَدْوَةً، وَرَكْعَتَيْنِ عَشِيَّةً قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ.
{وَلَا تكن من الغافلين} عَن الله، وَعَن دينه.(2/163)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)
{إِن الَّذين عِنْد رَبك} يَعْنِي: الْمَلائِكَةَ {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَته ويسبحونه وَله يَسْجُدُونَ} .(2/163)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الأَنْفَالِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كلهَا
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (1) فَقَط.(2/164)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
قَوْلُهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول} الْآيَةَ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ:
بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَافَّ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ - لِيُحَرِّضَ النَّاسَ عَلَى الْقِتَالِ -: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَنِي أَنْ يَفْتَحَ لِي بَدْرًا، وَأَنْ يُغْنِمَنِي عَسْكَرَهُمْ؛ فَمَنْ قَتَلَ قَتِيلا، فَلَهُ كَذَا وَكَذَا مِنْ غَنِيمَتِهِمْ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمَّا تَوَافَدُوا أَدْخَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ الرُّعْبَ فَانْهَزَمُوا، فَأَتْبَعَهُمْ سَرْعَانُ مِنَ النَّاسِ؛ فَقَتَلُوا سَبْعِينَ، وَغَنِمُوا الْعَسْكَرَ وَمَا فِيهِ، وَأَقَامَ وَجُوهُ النَّاسِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي مَصَافِّهِ، فَلَمْ يَشُذْ عَنْهُ مِنْهُمْ أحدٌ، ثُمَّ قَامَ أَبُو الْيَسَرِ بْنُ عَمْرٍو الأَنْصَارِيُّ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ وَعَدْتَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلا أَوْ أَسَرَ أَسِيرًا مِنْ غَنِيمَةِ الْقَوْمِ الَّذِي وَعَدْتَهُمْ، وَإِنَّا قَتَلْنَا سَبْعِينَ، وَأَسَرْنَا سَبْعِينَ. ثُمَّ قَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ مَا مَنَعْنَا أَنْ نَطْلُبَ كَمَا طَلَبَ هَؤُلاءِ زِهَادَةٌ فِي الأَجْرِ، وَلا جبنٌ عَنِ الْعَدُوِّ، وَلَكِنَّا خِفْنَا أَنْ نُعَرِّي صَفَّكَ فَتَعْطِفَ عَلَيْكَ خيل الْمُشْركين. فأرعض عَنْهُمَا رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو الْيَسَرِ مِثْلَ كَلامِهِ الأَوَّلِ، وَعَادَ سَعْدٌ فَتَكَلَّمَ مِثْلَ كَلامِهِ الأَوَّلِ.
وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، الأُسَارَى وَالْقَتْلَى كثيرٌ، وَالْغَنِيمَةُ قَلِيلَةٌ، وَإِنْ تُعْطِ هَؤُلاءِ(2/164)
الَّذِي ذَكَرْتَ لَهُمْ، لَمْ يَبْقَ لِسَائِرِ أَصْحَابِكَ كَبِيرُ شيءٍ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} فَقَسمهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ".
قَالَ قَتَادَةُ: وَالأَنْفَالُ: الْغَنَائِمُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {لِلَّهِ وَالرَّسُول} يَقُولُ: ذَلِكَ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَجَعَلَ حُكْمَهُ إِلَى رَسُولِهِ.
قَالَ محمدٌ: وَاحِدُ الأَنْفَالِ: نفلٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
(إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نفلٍ ... وَبِإِذْنِ اللَّهِ رَيْثِي وَعَجَلْ}
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (2) إِلَى الْآيَة (4) .(2/165)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)
قَوْلُهُ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذكر الله وجلت قُلُوبهم} أَيْ: رَقَّتْ مَخَافَةَ(2/165)
عَذَابِهِ {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زادتهم إِيمَانًا} يَعْنِي: كُلَّمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْء صدقُوا بِهِ.(2/166)
أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
{لَهُم دَرَجَات عِنْد رَبهم} يَعْنِي: فِي الْجَنَّةِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالهم.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (5) إِلَى الْآيَة (8) .(2/166)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} يَقُولُ: أَخْرَجَكَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى قِتَالِ أَهْلِ بَدْرٍ.
{وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ} يَعْنِي: فِي الْقِتَالِ؛ وَمَعْنَى مُجَادَلَتِهِمْ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ الْعِيرَ، وَرَسُولُ اللَّهِ يُرِيدُ ذَاتَ الشَّوْكَةِ؛ هَذَا تَفْسِير الْحسن(2/166)
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
{بَعْدَ مَا تبين} لَهُمْ، قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ لَهُمْ بَعْدَ مَا أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ.
(116) {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وهم ينظرُونَ} قَالَ مُحَمَّدٌ: كَانُوا فِي خُرُوجِهِمْ إِلَى الْقِتَالِ كَأَنَّمَا يُسَاقَوْنَ إِلَى الْمَوْتِ؛ لِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ وَأَنَّهُمْ رَجَّالَةٌ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ فِيهِمْ فارسان فخافوا.(2/166)
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَات الشَّوْكَة(2/166)
تكون لكم} وَمَعْنَى الشَّوْكَةِ: السَّلاحُ وَالْحَرْبُ. قَالَ قَتَادَةُ: الطَّائِفَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَبُو سُفْيَانَ أَقْبَلَ بِالْعِيرِ مِنَ الشَّامِ، وَالطَّائِفَةُ الأُخْرَى: أَبُو جَهْلٍ مَعَهُ نَفِيرُ قُرَيْشٍ، فَكَرِهَ الْمُسْلِمُونَ الْقِتَالَ، وَأَحَبُّوا أَنْ يَضُمُّوا الْعِيرَ، وَأَرَادَ اللَّهُ مَا أَرَادَ {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يحِق الْحق بكلماته} يَعْنِي: بِوَعْدِهِ الَّذِي وَعَدَ بِالنَّصْرِ {وَيقطع دابر الْكَافرين} يَعْنِي: أصل الْكَافرين.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (9) إِلَى الْآيَة (10) .(2/167)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدكُمْ} مُقَوِّيكُمْ {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} يَعْنِي: مُتَتَابِعِينَ؛ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَةَ، وَقَرَأَ مُجَاهِد (مُردفِينَ) بِفَتْحِ الدَّالِ؛ بِمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَرْدَفَ الْمُسْلِمِينَ؛ أَيْ: أَمَدَّهُمْ.
قَالَ محمدٌ: وَمن قَرَأَ (مُردفِينَ) بِكَسْرِ الدَّالِ، فَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَرْدَفْتُ الرَّجُلَ؛ إِذَا جِئْتَ بَعْدَهُ؛ وَمِنْهُ قْولُ الشَّاعِرِ:
(إِذَا الْجَوْزَاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ... ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظنونا}(2/167)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
قَوْله: {وَمَا جعله الله} يَعْنِي: الْمَدَدَ مِنَ الْمَلائِكَةِ {إِلا بشرى ولتطمئن بِهِ قُلُوبكُمْ} أَي: تسكن.(2/167)
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (11) إِلَى الْآيَة (14) .(2/168)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} إِلَى قَوْلِهِ: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذين كفرُوا الرعب} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: قَالَ:
بَلَغَنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَبَقُوا رَسُولَ اللَّهِ إِلَى مَاءِ بَدْرٍ، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، فَنَزَلَ حِيَالَهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمُ الْوَادِي، وَنَزَلَ عَلَى غَيْرِ ماءٍ، فَقَذَفَ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ أَمْرًا عَظِيمًا، فَقَالَ: زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ عِبَادُ اللَّهِ، وَعَلَى دِينِ اللَّهِ؛ وَقَدْ غَلَبَكُمُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمَاءِ، وَأَنْتُمْ تُصَلُّونَ مُحْدِثِينَ مُجْنِبِينَ، فَأَحَبَّ اللَّهُ أَنْ يُذْهِبَ مِنْ قُلُوبِهِمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ، فَغَشَّى الْمُؤْمِنِينَ نُعَاسًا أَمَنَةً مِنْهُ، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِرَهُمْ بِهِ مِنَ الأَحْدَاثِ وَالْجَنَابَةِ، وَيُذْهِبَ عَنْهُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ؛ مَا كَانَ قَذَفَهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ، وَكَانَ بَطْنُ الْوَادِي فِيهِ رملةٌ تَغِيبُ فِيهَا الأَقْدَامُ، فَلَمَّا مُطِرَ الْوَادِي اشْتَدَّتِ الرَّمْلَةُ فَمَشِيَ عَلَيْهَا الرِّجَالُ، وَاتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ حِيَاضًا عَلَى الْوَادِي، فَشَرِبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا، وَاسْتَقَوْا، ثُمَّ صَفُّوا، وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} .
{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاق} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: فَاضْرِبُوا الأَعْنَاقَ (واضربوا(2/168)
مِنْهُم كل بنانٍ} يَعْنِي: كل عُضْو(2/169)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قَالَ قَتَادَة: الشقاق: الْفِرَاق(2/169)
ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
{ذَلِكُم فذوقوه} يَعْنِي: الْقَتْل {وَأَن للْكَافِرِينَ} بعد الْقَتْل {عَذَاب النَّار} فِي الْآخِرَة.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (15) إِلَى الْآيَة (16) .(2/169)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كفرُوا زحفاً} قَالَ مُحَمَّدٌ: الزَّحْفُ جَمَاعَةٌ يَزْحَفُونَ إِلَى عَدُوِّهِمْ بِمَرَّةٍ - أَيْ: يَنْقَضُّونَ - وَقَدْ يَكُونُ الزَّحْفُ مَصْدَرًا مِنْ قَوْلِكَ: زَحَفْتُ.
{فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} أَي: لَا تنهزموا(2/169)
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
{وَمن يولهم يومئذٍ دبره} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: يَوْمَ بَدْرٍ {إِلَّا متحرفاً لقِتَال} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي يَدَعُ مَوْقِفَ مَكَانٍ لمكانٍ {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَة} أَيْ: يَنْحَازُ إِلَى جَمَاعَةٍ {فَقَدْ بَاء بغضب من الله} أَيْ: اسْتَوْجَبَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّصْبُ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا متحرفاً لقِتَال} عَلَى الْحَالِ؛ أَيْ: إِلا أَنْ يَتَحَرَّفَ فُلانٌ بِقِتَالٍ، وَكَذَلِكَ {أَوْ متحيزاً} .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّصْبُ فِيهِمَا عَلَى الاسْتِثْنَاءِ؛ أَيْ: إِلا رَجُلا مُتَحَرِّفًا،(2/169)
أَوْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا لَيْنَحَازَ فَيَكُونَ مَعَ الْمُقَاتِلَةِ. يُقَالُ: تَحَيَّزْتُ وَتَحَوَّزْتُ، يَعْنِي: انْحَزْتُ.
يحيى: عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ [ ... ] أَنَّ عُمَرَ بن الْخطاب (ل 117) بَلَغَهُ (قَتْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَصْحَابِهُ بِالْقَادِسِيَّةِ) قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عُبَيْدَةَ؛ لَوِ انْحَازَ إِلَيَّ لَكُنْتُ لَهُ فِئَةً ".
يحيى: عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صبيحٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ:
لَيْسَ الْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ مِنَ الْكَبَائِرِ، إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ بدر ".
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (17) إِلَى الْآيَة (19) .(2/170)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رميت إِذْ رميت وَلكنه الله رمى} قَالَ الْكَلْبِيُّ:
لَمَّا صَافَّ رَسُولُ اللَّهِ الْمُشْرِكِينَ، دَعَا بقبضةٍ مِنْ حَصْبَاءِ الْوَادِي وَتُرَابِهِ، فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ، فَمَلأَ اللَّهُ مِنْهَا وُجُوهَهُمْ وَأَعْيُنَهُمْ تُرَابًا، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَانْهَزَمُوا، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَقْتُلُونَهُمْ وَيَأْسِرُونَهُمْ ".
{وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بلَاء حسنا} يُنْعِمُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِقَتْلِهِمِ الْمُشْرِكِينَ.(2/171)
ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
{ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافرين} أَي: مضعف.(2/171)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} قَالَ الْكَلْبِيُّ:
بَلَغَنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لما صافوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ بَدْرٍ قَالُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَيُّنَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْكَ وَأَرْضَى عِنْدَكَ فَانْصُرْهُ، فَنَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ، وَقَالَ: {إِن تستفتحوا} يَعْنِي: تَسْتَنْصِرُوا {فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} النَّصْرُ؛ يَعْنِي: أَنَّ اللَّهَ قَدْ نصر نبيه {وَإِن تنتهوا} يَعْنِي: عَنْ قِتَالِ محمدٍ.
{فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ} عَلَيْكُم بالهزيمة.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (20) إِلَى الْآيَة (25) .(2/171)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)
{وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} 6 يَعْنِي: الْحجَّة(2/172)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وهم لَا يسمعُونَ} {الْهدى}(2/172)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)
{إِن شَرّ الدَّوَابّ} {الْخلق} {عِنْد الله الصم} عَنِ الْهُدَى فَلا يَسْمَعُونَهُ {الْبُكْمُ} عَنْهُ فَلا يَنْطِقُونَ بِهِ {الَّذِينَ لَا يعْقلُونَ} الْهدى.(2/172)
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
{وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} هِيَ كَقَوْلِهِ: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لما نهوا عَنهُ} .(2/172)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ} يُرِيدُ: الْقُرْآنَ {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه} تَفْسِيرُ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ: يَحُولُ بَيْنَ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ مَعْصِيَتِهِ، وَبَيْنَ قَلْبِ الْكَافِرِ وَبَيْنَ طَاعَتِهِ.(2/172)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة} أَيْ: أَنَّهَا إِذَا نَزَلَتْ تَعُمُّ الظَّالِمَ وَغَيْرَهُ. قَالَ الْحَسَنُ: خَاطَبَ بِهَذَا أَصْحَاب النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (26) إِلَى الْآيَة (29) .(2/172)
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْض} أَيْ: مَقْهُورُونَ فِي أَرْضِ " مَكَّةَ " {تخافون أَن يتخطفكم النَّاس} يَعْنِي: كُفَّارَ أَهْلِ " مَكَّةَ ".
{فَآوَاكُمْ} ضمكم إِلَى " المدنية " {وأيدكم} أَعَانَكُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
{وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَات} يَعْنِي: الْحَلَال من الرزق.(2/173)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُول وتخونوا أماناتكم} .
قَالَ السُّدِّيُّ:
نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ أَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ بَيَدِهِ؛ أَلا تَنْزِلُوا عَلَى الْحُكْمِ، فَكَانَتْ خِيَانَةً مِنْهُ وذنباً {وَأَنْتُم تعلمُونَ} أَنَّهَا خِيَانَة(2/173)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} بَلِيَّةٌ، ابْتَلاكُمُ اللَّهُ بِهَا لِتُطِيعُوهُ فِيمَا ابتلاكم فِيهِ.(2/173)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لكم فرقانا} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: مَخْرَجًا فِي الدّين من الشُّبْهَة والضلالة.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (30) إِلَى الْآيَة (33) .(2/173)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الْآيَةَ، قَالَ الْكَلْبِيُّ:
بَلَغَنَا أَنَّ عِصَابَةً مِنْ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ يَمْكُرُونَ بِنَبِيِّ اللَّهِ، فَدَخَلَ مَعَهُمْ إِبْلِيسُ عَلَيْهِ ثيابٌ، لَهُ أَظْفَارٌ فِي صُورَةِ شَيْخٍ كَبِيرٍ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ، فَقَالُوا: مَا أَدْخَلَكَ فِي جَمَاعَتِنَا بِغَيْرِ إِذْنِنَا؟ فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ " نَجْدَ " قَدِمْتُ " مَكَّةَ " فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَسْمَعَ مِنْ حَدِيثِكُمْ، وَأَقْتَبِسَ مِنْكُمْ خَيْرًا، وَرَأَيْتُ وُجُوهَكُمْ حَسَنَةً وَرِيحَكُمْ طَيِّبَةً؛ فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ جَلَسْتُ مَعكُمْ، وَإِذا كرهتم مجلسي (ل 118) خَرَجْتُ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ تُهَامَةَ، فَلا بَأْسَ عَلَيْكُم [مِنْهُ] تتكلموا بالمكر ببني اللَّهِ، فَقَالَ الْبَخْتَرِيُّ بْنُ هِشَامٍ - أحد بني أَسد ابْن عَبْدِ الْعُزَّى -: أَمَّا أَنَا فَأَرَى لَكُمْ مِنَ الرَّأْيِ أَنْ تَأْخُذُوا مُحَمَّدًا، فَتَجْعَلُوهُ فِي بَيْتٍ، ثُمَّ تَسُدُّوا عَلَيْهِ بَابَهُ، وَتَجْعَلُوا فِيهِ كُوَّةً يَدْخُلُ إِلَيْهِ مِنْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، ثُمَّ تَذْرُوهُ فِيهِ حَتَّى يَمُوتَ، فَقَالَ الْقَوْمُ: نِعْمَ الرَّأْيُ رَأَيْتَ.
فَقَالَ إِبْلِيسُ: بِئْسَ الرَّأْيُ رَأَيْتُمْ، تَعْمَدُونَ إِلَى رَجُلٍ لَهُ فِيكُمْ صَغْوٌ وَقَدْ سَمِعَ بِهِ مَنْ حَوْلَكُمْ فَتَحْبِسُونَهُ، وَتُطْعِمُونَهُ وَتُسْقُونَهُ، فَيُوشِكُ الصَّغْوُ الَّذِي لَهُ فِيكُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ عَلَيْهِ فَتَفْسُدُ فِيهِ جَمَاعَتُكُمْ، وَتُسْفَكُ فِيهِ دِمَاؤُكُمْ. فَقَالُوا: صَدَقَ وَاللَّهِ. ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو الأَسْوَدِ - وَهُوَ هَاشِمُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ - فَقَالَ: أَمَّا أَنَا، فَأَرَى أَنْ تَحْمِلُوا مُحَمَّدًا عَلَى بَعِيرٍ، ثُمَّ تُخْرِجُوهُ مِنْ أَرْضِكُمْ فَيَذْهَبَ حَيْثُ شَاءَ، وَيَلِيَهُ غَيْرُكُمْ. فَقَالُوا: نِعْمَ الرَّأْيُ رَأَيْتَ. فَقَالَ إِبْلِيسُ: بِئْسَ الرَّأْيُ رَأَيْتُمْ، تَعْمَدُونَ إِلَى رَجُلٍ أَفْسَدَ جَمَاعَتَكُمْ، وَاتَّبَعَتْهُ مِنْكُمْ(2/174)
طَائِفَةٌ، فَتُخْرِجُونَهُ إِلَى غَيْرِكُمْ، فَيَأْتِيهِمْ فَيُفْسِدَهُمْ كَمَا أَفْسَدَكُمْ، يُوشِكُ وَاللَّهِ أَنْ يَمِيلَ بِهِمْ عَلَيْكُمْ. قَالُوا: صَدَقَ وَاللَّهِ. ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَرَى مِنَ الرَّأْيِ أَنْ تَأْخُذُوا مِنْ كُلِّ بَطْنٍ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلا، ثُمَّ تُعْطُوا كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ سَيْفًا فَيَأْتُونَهُ [فَيَضْرِبُونَهُ] جَمِيعًا فَلا يَدْرِي قَوْمُهُ مَنْ يَأْخُذُونَ بِهِ، وَتُودِي قُرَيْشٌ دِيَتَهُ.
فَقَالَ إِبْلِيسُ: صَدَقَ وَاللَّهِ هَذَا الشَّابُّ؛ إِنَّ الأَمْرَ لَكَمَا. قَالَ: فَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ.
فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، وَأَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ. فَخَرَجَ مِنْ لَيْلَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَدَخَلَ الْغَارَ قَالَ اللَّهُ: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خير الماكرين} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَالْمَكْرُ مِنَ اللَّهِ: الْجَزَاءُ وَالْمَثُوبَةُ؛ أَنْ يُجَازِيَهُمْ جَزَاءَ مَكْرهمْ.
وَمعنى: {ليثبتوك} أَي: ليحسبوك، وَمِنْهُ يُقَالُ: فُلانٌ مُثَّبَتْ وَجَعًا إِذا منع من الْحَرَكَة.(2/175)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
قَوْلُهُ: {إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلين} قَالَ الْكَلْبِيُّ:
لَمَّا قَصَّ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى قَوْمِهِ شَأْنَ الْقُرُونِ الأُولَى، قَالَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ - أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ -: لَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ مِثْلَ هَذَا، إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ: كَذِبِ الأَوَّلِينَ وَبَاطِلِهِمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الأَسَاطِيرُ: وَاحِدهَا: أسطورة.(2/175)
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} أَيْ: إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً من السَّمَاء} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْقِرَاءَةُ عَلَى نَصْبِ: {الْحق} عَلَى خَبْرِ كَانَ، وَدَخَلَتْ(2/175)
(هُوَ) للتوكيد.(2/176)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فيهم} قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ: حَتَّى نُخْرِجَكَ مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ.
{وَمَا كَانَ الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ} يَقُولُ: إِنَّ الْقَوْمَ لمْ يَكُونُوا يَسْتَغْفِرُونَ، وَلَوِ اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ لَمَا عذبُوا.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (34) إِلَى الْآيَة (35) .(2/176)
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
{وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أولياءه} زَعَمَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ اللَّهُ: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ}(2/176)
وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
{وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مكاءً وتصدية} قَالَ الْحَسَنُ: الْمُكَاءُ: الصَّفِيرُ، وَالتَّصْدِيَةُ: التَّصْفِيقُ؛ يَقُولُ: يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مَكَانَ الصَّلاةِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: وَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ ليخلطوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم الصَّلَاة.
{فَذُوقُوا الْعَذَاب} يَعْنِي: الْقَتْلَ بِالسَّيْفِ قَبْلَ عَذَابِ الْآخِرَة {بِمَا كُنْتُم تكفرون} .
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (36) إِلَى الْآيَة (40) .(2/176)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا} الآيَةَ.
لَمَّا هَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ أَهْلَ بَدْرٍ، رَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ، فَأَخَذُوا مَا جَاءَتْ بِهِ الْعِيرُ مِنَ الشَّامِ، فَتَجَهَّزُوا بِهِ لِقِتَالِ النَّبِيِّ، وَاسْتَنْصَرُوا بِقَبَائِلَ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيِّهِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} إِلَى قَوْله: (ل 119) {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} يَعْنِي: نَفَقَةَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَفَقَةِ الْكَافِرِينَ {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّم} مَعَهم {أُولَئِكَ هم الخاسرون} قَالَ مُحَمَّدٌ: تَقُولُ: أَرْكُمُ الشَّيْءَ رَكْمًا؛ إِذَا جَعَلْتُ بَعْضَهُ عَلَى بعض، والركام الِاسْم.(2/177)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِن يعودوا} لِقِتَالِ مُحَمَّدٍ {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلين} بِالْقَتْلِ وَالاسْتِئْصَالِ فِي قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي غَيْرِهِمْ مِنَ الأَوَّلِينَ(2/177)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} شِرْكٌ؛ وَهَذِهِ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ خَاصَّةً {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} يَعْنِي: الْإِسْلَام.
{فَإِن انْتَهوا} عَنْ كُفْرِهِمْ {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .(2/177)
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
{وَإِن توَلّوا} يَعْنِي: أَبَوْا إِلا الْقِتَالَ {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنعم النصير} .
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (41) إِلَى الْآيَة (42) .(2/178)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شيءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} قَالَ الْحَسَنُ: هَذَا عِنْدَ الْقِتَالِ مَا غَنِمُوا مِنَ شيءٍ، فَلِلَّهِ خُمُسُهُ يُرْفَعُ الْخُمْسُ فَيَرُدُّهُ اللَّهُ عَلَى الرَّسُولِ، وَعَلَى قَرَابَةِ الرَّسُولِ وَعَلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ؛ ذَلِكَ لَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا يُصْلِحُهُمْ، لَيْسَ لِذَلِكَ وَقْتٌ. وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: ذَكَرَ يحيى فِي قِسْمَةِ الْخُمُسِ اخْتِلافًا؛ وَلِهَذَا مَوْضِعُهُ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
{إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْم الْفرْقَان} قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: هُوَ يَوْمُ بَدْرٍ فَرَّقَ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ؛ فَنَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ، وَهَزَمَ عَدُوَّهُ {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} جمع الْمُؤمنِينَ، وَجمع الْمُشْركين.(2/178)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
{إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بالعدوة القصوى} .
قَالَ قَتَادَةُ: الْعُدْوَتَانِ: شَفِيرُ الْوَادِي؛ كَانَ الْمُسْلِمُونَ بِأَعْلاهُ، وَالْمُشْرِكُونَ(2/178)
بأسفله {والركب أَسْفَل مِنْكُم} قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي: أَبَا سُفْيَانَ وَالْعِيرَ؛ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ وَالْعِيرُ أَسْفَلَ مِنَ الْوَادِي - زَعَمُوا بِثَلاثَةِ أَمْيَالٍ - فِي طَرِيقِ السَّاحِلِ لَا يَعْلَمُ الْمُشْرِكُونَ مَكَانَ عِيرِهِمْ، وَلا يَعْلَمُ أَصْحَابُ الْعِيرِ مَكَانَ الْمُشْرِكِينَ.
قَالَ مُحَمَّد: الْقِرَاءَة (أَسْفَل) بِالنّصب؛ على معنى: والراكب مَكَانًا أَسْفَلَ مِنْكُمْ.
{وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ} أَنْتُمْ وَالْمُشْرِكُونَ {لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} أَيْ: فِيهِ نَصْرُكُمْ، وَالنِّعْمَةُ عَلَيْكُمْ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} يَعْنِي: بعد الْحجَّة.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (43) إِلَى الْآيَة (45) .(2/179)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ ولتنازعتم فِي الْأَمر} قَالَ الْكَلْبِيُّ:
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سَارَ إِلَى بَدْرٍ، وَأَخْبَرَهُ اللَّهُ بِسَيْرِ الْمُشْرِكِينَ، أَرَاهُ الْمُشْرِكِينَ فِي مَنَامِهِ قَلِيلا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: أَبْشِرُوا؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَرَانِي الْمُشْرِكِينَ فِي مَنَامِي قَلِيلا ".(2/179)
{وَلَو أراكهم كثيرا لفشلتم} أَيْ: لَجَبُنْتُمْ {وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} أَيْ: اخْتَلَفْتُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُوله {وَلَكِن الله سلم} من ذَلِك.
{إِنَّه} إِنَّ اللَّهَ {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أَيْ: بِمَا فِيهَا، يَقُولُ: مِنْ عِلْمِهِ بِمَا فِي صُدُورِكُمْ قَلَّلَهُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ، وَأَذْهَبَ الْخَوْفَ الَّذِي كَانَ فِي صدوركم.(2/180)
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا عَايَنُوا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ رَأَوْهُمْ قَلِيلا؛ فَصَدَّقُوا رُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ، وَقَلَّلَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ، فَاجْتَرَأَ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَاجْتَرَأَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ {لِيَقْضِيَ الله أمرا كَانَ مَفْعُولا} أَي: فِيهِ نصركم.(2/180)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} يَعْنِي: من الْمُشْركين {فاثبتوا} فِي صُفُوفِكُمْ. {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} قَالَ قَتَادَةُ: افْتَرَضَ اللَّهُ ذِكْرَهُ عِنْد الضراب بِالسُّيُوفِ.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (46) إِلَى الْآيَة (48) .(2/180)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
{وَلا تَنَازَعُوا} أَي: لَا تختلفوا {فتفشلوا} أَي: تجبنوا. {وَتذهب ريحكم} أَي: نصركم.
(ل 120)(2/181)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارهمْ بطرا ورئاء النَّاس} إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا خَرَجُوا مِنْ " مَكَّةَ " إِلَى بَدْرٍ أَتَاهُمُ الْخَبَرُ وَهُمْ بِالْجُحْفَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إِلَى بَدْرٍ أَنَّ عِيرَهُمْ قَدْ نَجَتْ، فَأَرَادَ الْقَوْمُ الرُّجُوعَ، فَأَتَاهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَقَالَ: يَا قَوْمُ، لَا تَرْجِعُوا حَتَّى تَسْتَأْصِلُوهُمْ؛ فَإِنَّكُمْ كَثِيرٌ، وَعَدُوَّكُمْ قَلِيلٌ فَتَأْمَنَ عِيرُكُمْ، وَأَنَا جارٌ لَكُمْ عَلَى بَنِي كَنَانَةَ، أَلا تَمُرُّوا بِحَيٍّ مِنْ بَنِي كَنَانَةَ إِلا أَمَدَّكُمْ بِالْخَيْلِ وَالرِّجَالِ وَالسِّلاحِ. فَمَضَوْا كَمَا أَمَرَهُمْ لِلَّذِي أَرَادَ اللَّهُ مِنْ هَلاكِهِمْ، فَالْتَقَوْا هُمْ وَالْمُسْلِمُونَ بِبَدْرٍ، فَنَزَلَتِ الْمَلائِكَةُ مَعَ الْمُسلمين فِي صف، وَإِبْلِيسُ فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ فَلَمَّا نَظَرَ إِبْلِيسُ إِلَى الْمَلائِكَةِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَأَخَذَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ بِيَدِهِ، فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ، عَلَى هَذِهِ الْحَالِ تَخْذُلُنَا؟ {قَالَ: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ؛ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ. فَقَالَ لَهُ الْحَارِثُ: أَلا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ أَمْسِ؟ فَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ أَقْبَلُوا إِلَيْهِمْ دَفَعَ فِي صَدْرِ الْحَارِثِ فَخَرَّ، وَانْطَلَقَ إِبْلِيسُ وَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ، فَلَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ قَالُوا: إِنَّمَا انْهَزَمَ بِالنَّاسِ سُرَاقَةُ وَنَقَضَ الصَّفَّ، فَبَلَغَ ذَلِكَ سُرَاقَةَ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ مَكَّةَ، فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّي انْهَزَمْتُ بِالنَّاسِ} فَوَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ سُرَاقَةُ، مَا شَعَرْتُ بِمَسِيرِكُمْ حَتَّى بَلَغَنِي هَزِيمَتُكُمْ. فَجَعَلُوا يُذَكِّرُونَهُ؛ أَمَا أَتَيْتَنَا يَوْمَ كَذَا، وَقُلْتَ لَنَا كَذَا.
فَجَعَلَ يحلف، فَلَمَّا أَسْلمُوا عَلِمُوا أَنَّهُ الشَّيْطَانُ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَكَانَ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ: {إِنِّي أرى مَا لَا ترَوْنَ} وَأَمَّا قَوْلُهُ:(2/181)
{إِنِّي أَخَاف الله} فكذب.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (49) إِلَى الْآيَة (52) .(2/182)
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبهم مرض} أَيْ: شَكٌّ {غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} قَالَ الْكَلْبِيُّ: بَلَغَنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا نَفَرُوا مِنْ " مَكَّةَ " إِلَى بَدْرٍ، نَفَرَ مَعَهُمْ أُنَاسٌ قَدْ كَانُوا تَكَلَّمُوا بِالإِسْلامِ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ الْمُؤْمِنِينَ، ارْتَابُوا وَنَافَقُوا وَقَاتَلُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالُوا: {غَرَّ هَؤُلاءِ دينهم} يَعْنُونَ: الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ اللَّهُ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيز} فِي نقمته {حَكِيم} فِي أمره.(2/182)
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)
{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} قَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ: هَذَا يَوْم بدر.(2/182)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)
{كدأب آل فِرْعَوْن} يَعْنِي: كَفِعْلِ. قَالَ الْحَسَنُ: فِيهَا إِضْمَارٌ: فَعَلُوا كَفِعْلِ آلِ فِرْعَوْنَ {وَالَّذين من قبلهم} من الْكفَّار {فَأَخذهُم الله بِذُنُوبِهِمْ} .
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (53) إِلَى الْآيَة (59) .(2/182)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} يَعْنِي: إِذَا جَحَدُوا الرُّسُلَ، أَهْلَكَهُمُ الله.(2/183)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ} يَعْنِي: الْخَلْقَ عِنْدَ اللَّهِ {الَّذِينَ كفرُوا فهم لَا يُؤمنُونَ} هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ(2/183)
الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
{الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهدهم فِي كل مرّة} .
قَالَ الْكَلْبِيُّ:
هَؤُلاءِ قَوْمٌ مِمَّنْ كَانَ وادع رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم وَكَانُوا يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ، فَأَمَرَ اللَّهُ فِيهِمْ بِأَمْرِهِ، فَقَالَ: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْب} أَيْ: تَظْفَرُ بِهِمْ.
{فَشَرِّدْ بِهِمْ من خَلفهم} أَيْ: فَعِظْ بِهِمْ مَنْ سِوَاهُمْ {لَعَلَّهُم يذكرُونَ} يَقُولُ: لَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ بِالَّذِينَ نقضوا الْعَهْد(2/183)
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
{وَإِمَّا تخافن} أَيْ: تَعْلَمَنَّ {مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} يَعْنِي: نَقْضًا لِلْعَهْدِ {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ على سَوَاء} أَيْ: أَعْلِمْهُمْ أَنَّكَ حَرْبٌ، وَيَكُونُ الْكُفَّارُ كُلُّهُمْ عِنْدَكَ سَوَاءً {إِنَّ الله لَا يحب الخائنين} لَا يُعِينُهُمْ إِذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ.(2/183)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
{وَلَا تحسبن الَّذين كفرُوا سبقوا} أَيْ: فَاتُوا. ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: (إِنَّهُم لَا(2/183)
يعجزون} لَا يَفُوتُونَ اللَّهَ حَتَّى لَا يقدر عَلَيْهِم.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (60) إِلَى الْآيَة (61) .(2/184)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قوةٍ} قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْقُوَّةُ هَا هُنَا: الْقَتْلُ {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ} أَيْ: تُخِيفُونَ {عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} .
يحيى: عَنْ [ ... ] عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عبد الرَّحْمَن (ل 121) الدِّمَشْقِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَن، عَن عَمْرو بن عبسة قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنِ رَمَى الْعَدُوَّ بسهمٍ فَبَلَغَ سَهْمُهُ؛ أَصَابَ الْعَدُوَّ أَوْ أَخْطَأَ - فَهُوَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ ".
يحيى: عَنِ الْمُعَلَّى، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنِ ارْتَبَطَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهُوَ كَالْبَاسِطِ يَدَهُ بِالصَّدَقَةِ ".(2/184)
{وَآخَرين من دونهم} مِنْ دُونِ الْمُشْرِكِينَ؛ يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ {لَا تَعْلَمُونَهُم الله يعلمهُمْ} .
قَالَ مُحَمَّد: (وَآخَرين) عَطْفٌ عَلَى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوكُمْ} وَتُرْهِبُونَ بِهِ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ.(2/185)
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
{وَإِن جنحوا} مالوا {للسلم فاجنح لَهَا} .
قَالَ مُحَمَّد: السّلم هَا هُنَا: الصُّلْحُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(السَّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ ... وَالْحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ)
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (62) إِلَى الْآيَة (64) .(2/185)
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)
قَوْلُهُ: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ، يَقُولُ: إِنْ هُمْ أَظْهَرُوا لَكَ الإِيمَانَ وَأَسَرُّوا الْكُفْرَ؛ لِيَخْدَعُوكَ بِذَلِكَ؛ لِتُعْطِيَهُمْ حُقُوقَ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَكُفَّ عَنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أيدك} أعانك {بنصره وَبِالْمُؤْمِنِينَ}(2/185)
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
{وَألف بَين قُلُوبهم} يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا(2/185)
فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَينهم} يَعْنِي: أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مُتَعَادِينَ؛ فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ حَتَّى تَحَابُّوا، وَذَهَبَتِ الضَّغَائِنُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ بِالْإِسْلَامِ.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (65) إِلَى الْآيَة (69) .(2/186)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
{يَا أَيهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ من الْمُؤمنِينَ} أَي: وَحسب من اتبعك.(2/186)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
{يَا أَيهَا النَّبِي حرض الْمُؤمنِينَ} حثهم {على الْقِتَال} بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الشُّهَدَاءَ وَالْمُجَاهِدِينَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: التَّحْرِيضُ فِي اللُّغَةِ: أَنْ يَحُثَّ الإِنْسَانُ عَلَى الشَّيْءِ حَتَّى يُعْلَمَ مِنْهُ أَنَّهُ حارضٌ إِنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، وَالْحَارِضُ: الَّذِي قَدْ قَارَبَ الْهَلاكَ.
{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالله مَعَ الصابرين}
قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ اللَّهُ قَدْ فَرَضَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الآيَةِ أَنْ يَصْبِرُوا لِعَشَرَةِ(2/186)
أَمْثَالِهِمْ، ثُمَّ نَسَخَهَا {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضعفا فَإِن تكن مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألفٌ يَغْلِبُوا أَلفَيْنِ بِإِذن الله} فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَصْبِرُوا لمثليهم؛ إِذْ لَقَوْهُمْ فَلَمْ يُقْبَضْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَظْهَرَ اللَّهُ الدِّينَ وَأَعَزَّهُ، وَصَارَ الْجِهَادُ تَطَوُّعًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
فَمَنْ فَرَّ مِنْ ثَلاثَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَلَمْ يَفِرَّ، وَمَنْ فَرَّ مِنِ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ، وَلا يَنْبَغِي لِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفِرَّ مِنْ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ".(2/187)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} إِلَى قَوْلِهِ: {عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَقُولُ:
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ قَبْلَكَ يَا مُحَمَّدُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَالله يُرِيد الْآخِرَة} كَانَ هَذَا فِي أَسْرَى بَدْرٍ، يَقُولُ: فَأَخَذْتُمُ الْفِدَاءَ مِنَ الأَسْرَى فِي أَوْلِ وَقْعَةٍ كَانَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُثْخِنُوا فِي الأَرْضِ.
قَالَ الْحَسَنُ: وَلَمْ يَكُنْ أُوحِيَ إِلَى النَّبِيِّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؛ فَاسْتَشَارَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَجْمَعُوا رَأْيَهُمْ عَلَى قَبُولِ الْفِدَاءِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: الإِثْخَانُ فِي الشَّيْءِ (قُوَّةُ) الشَّيْءِ، وَمَعْنَى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ أَي يتَمَكَّن.(2/187)
لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
{لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَأْكُلُونَ الْغَنَائِمَ.
{لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قَالَ قَتَادَةُ: لَمْ تَحِلَّ الْغَنِيمَةُ إِلا لِهَذِهِ(2/187)
الأُمَّةِ؛ كَانَتْ تُجْمَعُ فَتَنْزِلُ عَلَيْهَا النَّار من السَّمَاء فتأكلها.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (70) إِلَى الْآيَة (71) .(2/188)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
{يَا أَيهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبكُمْ خيرا} يَعْنِي: إسلاماً {يُؤْتكُم خيرا} (ل 122) أَسرُّوا يَوْم بدر(2/188)
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
{فَقَدْ خَانُوا الله من قبل} يَعْنِي: فَقَدْ كَفَرُوا بِاللَّهِ مِنْ قبل {فَأمكن مِنْهُم} حَتَّى صَارُوا أَسْرَى فِي بَدْرٍ.
سُورَة الْأَنْفَال من الْآيَة (72) إِلَى الْآيَة (75) .(2/188)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
{إِن الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا} إِلَى " الْمَدِينَةِ " يَعْنِي: الْمُهَاجِرِينَ {وَالَّذِينَ آووا ونصروا} يَعْنِي: الأَنْصَارَ؛ أَوَوُا الْمُهَاجِرِينَ، وَنَصَرُوا اللَّهَ وَرَسَوُلَهُ (أُولَئِكَ(2/188)
بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} يَعْنِي: الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا [وَلَمْ يُهَاجِرُوا] مَا لَكُمْ مِنْ ولايتهم من شيءٍ} يَعْنِي: فِي الدِّينِ {حَتَّى يُهَاجِرُوا} قَالَ قَتَادَة: نزلت هَذِه الْآيَة، فَتَوَارَثَ الْمُسْلِمُونَ بِالْهِجْرَةِ زَمَانًا، وَكَانَ لَا يَرِثُ الأَعْرَابِيُّ الْمُسْلِمَ مِنْ قَرِيبِهِ الْمُهَاجِرِ الْمُسْلِمِ شَيْئًا، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الأَحْزَابِ؛ فَقَالَ: {وَأولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} فَخَلَطَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَصَارَتِ الْمُوَارِيثُ بِالْمِلَلِ.
{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدّين} يَعْنِي: الْأَعْرَاب {فَعَلَيْكُم النَّصْر} لَهُمْ؛ لِحُرْمَةِ الإِسْلامِ.
{إِلا عَلَى قوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق} يَعْنِي: أَهْلَ الْمُوَادَعَةِ وَالْعَهْدِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ. قَالَ قَتَادَةُ: نَهَى الْمُسلمُونَ عَن نقض ميثاقهم.(2/189)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بعضٍ} نَزَلَتْ حِينَ أُمِرَ النَّبِيُّ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً، وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ؛ فَإِذَا أَرَادَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ قَالُوا: مَا تُرِيدُ مِنَّا وَنَحْنُ [ ... ] عَنْكُمْ وَقَدْ نَرَى نَارَكُمْ؟ وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعَظِّمُونَ النَّارَ؛ لِحُرْمَةِ قُرْبِ الْجِوَارِ؛ لأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا نَارَهُمْ فَهُمْ جِيرَانُهُمْ، وَإِذَا أَرَادَهُمُ الْمُشْرِكُونَ قَالُوا: مَا تُرِيدُونَ مِنَّا وَنَحْنُ عَلَى دِينِكُمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أَيْ: فَأَلْحِقُوا الْمُشْرِكِينَ(2/189)
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ حَتَّى يَكُونَ حُكْمُكُمْ فِيهِمْ وَاحِدًا.
{إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فتْنَة} أَيْ: شِرْكٌ {فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِير} لأَنَّ الشِّرْكَ إِذَا كَانَ فِي الأَرْض فَهُوَ فسادٌ كَبِير.(2/190)
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
{وَالَّذين آمنُوا من بعد} يَعْنِي: مِنْ بَعْدِ فَتْحِ " مَكَّةَ " وَبَعْدَ مَا انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ {وَهَاجَرُوا وَجَاهدُوا مَعكُمْ فَأُولَئِك مِنْكُم} .
يَحْيَى: عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو وَعِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ؛ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ فَقَالُوا: سَمِعْنَا أَنَّهُ لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ، فَقَالَ: إِنَّ الْهِجْرَةَ قَدِ انْقَطَعَتْ، وَلَكِنْ جهادٌ ونيةٌ حسنةٌ. ثُمَّ قَالَ لِصَفْوَانِ بْنِ أُمَيَّةَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ أَبَا وَهْبٍ لترجعن إِلَى أباطيح مَكَّة "
{وَأولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله} قَالَ مُحَمَّدٌ: أَيْ: فِي فَرْضِ اللَّهِ؛ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ.
{إِنَّ الله بِكُل شَيْء عليم} .
سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا بكرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ:
إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ الَّتِي خَتَمَ اللَّهُ بِهَا سُورَةَ الأَنْفَالِ هِيَ فِيمَا جَرَّتِ الرَّحِمُ مِنَ الْعُصْبَةِ ".
قَالَ محمدٌ: {أولو الْأَرْحَام} وَاحِدُهُمْ: (ذُو) مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ.(2/190)
تَفْسِيرُ سُورَةِ بَرَاءَةٍ وَهِيَ مدنيةٌ كُلُّهَا
قَالَ يحيى: وَحَدَّثَنِي أَبُو الْجَرَّاحِ الْمَهْرِيُّ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: كَيْفَ جَعَلْتُمُ الأَنْفَالَ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينِ مَعَ بَرَاءَةٍ وَهِيَ مِنَ الطُّوَالِ، وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فَقَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ الثَّلاثُ الآيَاتُ وَالأَرْبَعُ الآيَاتُ، وَأَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ، فَيَقُولُ: اجْعَلُوا آيَةَ كَذَا وَكَذَا فِي سُورَةِ كَذَا وَكَذَا مِنْ مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا. وَإِنَّهُ قُبِضَ وَلَمْ يَقُلْ لَنَا فِي الأَنْفَالِ شَيْئًا، وَنَظَرْنَا فَرَأَيْنَا قَصَصِهِمَا مُتَشَابِهًا، فَجَعَلْنَاهَا مَعَهَا وَلَمْ نَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ: بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم.(2/191)
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (1) إِلَى الْآيَة (4) .
(ل 123)(2/192)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
قَوْلُهُ: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} يَقُولُ لِنَبِيِّ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ: بَرَاءَةُ الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ رَسُولِ الله وَبَين مُشْركي الْعَرَب(2/192)
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
{فسيحوا فِي الأَرْض} أَي: اذْهَبُوا {أَرْبَعَة أشهر} يَقُولُهُ لأَهْلِ الْعَهْدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} سَابِقِي اللَّهَ حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَيْكُمْ {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} .(2/192)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
{وأذان من الله وَرَسُوله} أَيْ: وإعلامٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
{إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ {أَنَّ اللَّهَ بريءٌ من الْمُشْركين وَرَسُوله} إِنْ لَمْ يَؤْمِنُوا.
تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ تَبُوكَ حِينَ فَرَغَ مِنْهَا؛ فَأَرَادَ أَنْ يَحُجَّ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ يَحْضَرُ الْبَيْتَ مُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ عُرَاةً، وَلا أُحِبُّ أَنْ أَحُجَّ حَتَّى لَا يَكُونَ ذَلِكَ. فَأَرْسَلَ أَبَا بَكْرٍ وَعَلِيًّا فَطَافَا فِي النَّاسِ بِذِي الْمَجَازِ، وَبِأَمْكِنَتِهِمِ الَّتِي كَانُوا يَتَبَايَعُونَ فِيهَا، وَبِالْمَوْسِمِ كُلِّهِ، فَآذَنُوا أَصْحَابَ الْعَهْدِ بَأَنَّ يَأْمَنُوا أَرْبَعَةَ [أَشْهُرٍ] مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى عَشْرِ لَيَالٍ يَمْضِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخِرِ، ثُمَّ لَا عَهْدَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ أُمِّرَ عَلَى الْحَاجِّ يومئذٍ، وَنَادَى عليٌّ فِيهِ بِالأَذَانِ، وَكَانَ عَامًا حَجَّ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ.(2/192)
وَقَالَ الْحَسَنُ:
كَانَ النَّبِيُّ قَدْ أَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُؤَذِّنَ النَّاسَ بِالْبَرَاءَةِ، فَلَمَّا مَضَى دَعَاهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُبَلِّغُ عَنِّي فِي هَذَا الأَمْرَ إِلا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ".
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ:
إِنَّمَا أَمر النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم عَلِيًّا بِذَلِكَ دُونَ أَبِي بَكْرٍ؛ لأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ جَرَتْ عَادَتُهُمْ فِي عَقْدِ عُهُودِهَا لَوْ نَقَضَتْهَا أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ عَلَى الْقَبِيلَةِ رجلٌ مِنْهَا، فَكَانَ جَائِزًا أَنْ تَقُولَ الْعَرَبُ: [إِذَنْ عَلَيْكَ] نَقْضَ الْعُهُودِ مِنَ الرَّسُولِ، هَذَا خِلافُ مَا نَعْرِفُ فِينَا فِي نَقْضِ الْعُهُودِ؛ فَأَزَاحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِلَّةَ، وَكَانَ هَذَا فِي سَنَةِ تسعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، بَعْدَ افْتِتَاحِ مَكَّةَ بِسَنَةٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْله {بَرَاءَة} يَجُوزُ الرَّفْعُ فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى خَبْرِ الابْتِدَاءِ؛ عَلَى مَعْنَى هَذِهِ الآيَاتُ: {بَرَاءَةٌ مِنَ الله وَرَسُوله} .
وعَلى الِابْتِدَاء، وَيكون الْخَبَر {إِلَّا الَّذين عاهدتم} .
قَوْله: {فَإِن تبتم} يَقُولُ لِلْمُشْرِكِينَ: فَإِنْ تُبْتُمْ مِنَ الشِّرْكِ {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ توليتم} عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
{فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كفرُوا بِعَذَاب أَلِيم} يَعْنِي: الْقَتْلَ قَبْلَ عَذَابَ الآخِرَةِ،(2/193)
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قِصَّةِ أَصْحَابِ الْعَهْدِ؛ فَقَالَ: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئا} أَيْ: لَمْ يَضُرُّوكُمْ {وَلَمْ يُظَاهِرُوا} يعاونوا {عَلَيْكُم أحدا} مِنَ الْمُشْرِكِينَ {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مدتهم} .(2/193)
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (5) إِلَى الْآيَة (6) .(2/194)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
{فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم} قَالَ الْحَسَنُ: رَجَعَ إِلَى قِصَّةِ أَصْحَابِ الْعَهْدِ، وَالأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: هِيَ الأَشْهَرُ الَّتِي أُجِلُّوا آخِرَ عَشْرَ ليالٍ يَمْضِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ، وَسَمَّاهَا حُرُمًا؛ لأَنَّهُ نَهَى عَنْ قِتَالِهِمْ فِيهَا وَحَرَّمَهُ.
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كل مرصد} يَعْنِي: عَلَى كُلِّ طَرِيقٍ تَأْمُرُونَ بِقَتَالِهِمْ فِي الْحِلِّ وَالْحَرِمِ وَعِنْدَ الْبَيْتِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: {وَخُذُوهُمْ} مَعْنَاهُ: وَأْسِرُوهُمْ؛ يُقَالُ لِلأَسِيرِ: أخيذٌ، وَمعنى {واحصروهم} : احْبِسُوهُمْ؛ الْحَصْرُ: الْحَبْسُ.
{فَإِنْ تَابُوا} يَعْنِي: مِنَ الشِّرْكِ {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتوا الزَّكَاة} يَعْنِي: أَقَرُّوا بِهَا {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} .(2/194)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} لِيَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ {فَأَجِرْهُ حَتَّى يسمع كَلَام الله} فَإِنْ أَسْلَمَ أَسْلَمَ، وَإِنْ أَبَى أَن يسلم فأبلغه {مأمنه} أَيْ: لَا تُحَرِّكْهُ حَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ.
قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ محكمةٌ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.(2/194)
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (7) إِلَى الْآيَة (11) .(2/195)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عاهدتم عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام} أَيْ: لَيْسَ الْعَهْدُ إِلا لِهَؤُلاءِ الَّذِينَ لَمْ يَنْكُثُوا.
{فَمَا اسْتَقَامُوا لكم} على الْعَهْد {فاستقيموا لَهُم} عَلَيْهِ.
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .(2/195)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
{كَيفَ وَإِن يظهروا عَلَيْكُم} (ل 124) أَيْ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشُرِكِينَ عهدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ، وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ {لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلَّا وَلَا ذمَّة} الإل: الْجوَار، والذمة: الْعَهْد(2/195)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)
{اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا} يُرِيدُ: مَتَاعَ الدُّنْيَا {فَصَدُّوا عَنْ سَبيله} .
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (12) إِلَى الْآيَة (13) .(2/195)
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ} إِلَى قَوْله: {وَالله عليم حَكِيم} تَفْسِير الْكَلْبِيّ:
أَن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ وَادِعَ أَهْلَ مَكَّةَ سَنَةً؛ وَهُوَ يومئذٍ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَحَبَسُوهُ عَنِ الْبَيْتِ، ثُمَّ صَالَحُوهُ؛ عَلَى أَنَّكَ تَرْجِعُ عَامَكَ هَذَا وَلا تَطَأُ بَلَدَنَا، وَلا تَنْحَرُ الْبُدْنَ مِنْ أَرْضِنَا، وَأَنْ نُخَلِّيَهَا لَكَ عَامًا قَابِلا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَلا تَأْتِينَا بِالسِّلاحِ إِلا سِلاحًا تَجْعَلُهَا فِي قِرَابٍ وَأَنَّهُ مَنْ صَبَأَ مِنَّا إِلَيْكَ فَهُوَ إِلَيْنَا ردٌّ. فَصَالَحَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، فَمَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثُوا، ثُمَّ إِنَّ حُلَفَاءَ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ خُزَاعَةَ قَاتَلُوا حُلَفَاءَ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ بَنِي كَنَانَةَ؛ فَأَمَدَّتْ بَنُو أُمَيَّةَ حُلَفَاءَهُمْ بِالسِّلاحِ وَالطَّعَامِ، فَرَكِبَ ثَلاثُونَ رَجُلا مِنْ حُلَفَاءِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ خُزَاعَةَ فِيهِمْ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ، فَنَاشَدُوا رَسُولَ اللَّهِ الْحلف، فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنْ يُعِينَ حُلَفَاءَهُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَان لَهُم} : لَا عَهْدَ لَهُمْ {لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} .(2/196)
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
{أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} نَكَثُوا عَهْدَهُمْ {وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} قَالَ الْحَسَنُ: مِنَ الْمَدِينَةِ {وَهُمْ بدءوكم أول مرّة} فاستحلوا قتال حلفائكم {أتخشونهم} عَلَى الاسْتِفْهَامِ؛ فَلا تُقَاتِلُونَهُمْ {فَاللَّهُ أَحَق} أَوْلَى {أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤمنين} يَعْنِي: إِذا كُنْتُم مُؤمنين.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (14) إِلَى الْآيَة (16) .(2/196)
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
{قاتلوهم يعذبهم الله بِأَيْدِيكُمْ} يَعْنِي: الْقَتْلَ {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غيظ قُلُوبهم} وَالْقَوْمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ شَفَى اللَّهُ صُدُورَهُمْ: حُلَفَاءُ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ مُؤْمِنِي خُزَاعَةَ، فَأَصَابُوا يومئذٍ وَهُوَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ مِقْيَسَ بْنَ صَبَابَةَ فِي خَمْسِينَ رَجُلا مِنْ قَوْمِهِ {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاء} لَيْسَ بجوابٍ لقَوْله: {قاتلوهم} وَلكنه مُسْتَأْنف.(2/197)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
قَوْلُهُ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُم} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ قَبْلَ أَمْرِهِمْ بِالْقِتَالِ مَنْ يُقَاتِلُ مِمَّنْ لَا يُقَاتِلُ، لَكِنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ غَيْبًا؛ فَأَرَادَ اللَّهُ الْعِلْمَ الَّذِي يُجَازِي عَلَيْهِ، وَتَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ؛ وَهُوَ عِلْمُ الْفِعَالِ.
{وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} بطانةً.
قَالَ مُحَمَّد: {وليجة} مَأْخُوذَةٌ مِنَ: الْوُلُوجِ؛ وَهُوَ أَنْ يَتَّخِذَ رجلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ دَخِيلا من الْمُشْركين وخليطاً.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (17) إِلَى الْآيَة (18) .(2/197)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بالْكفْر}(2/197)
هَذَا حِينَ نُفِيَ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: {شَاهِدِينَ} حَالُ؛ الْمَعْنَى: مَا كَانَتْ لَهُمْ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ فِي حَالِ إِقْرَارِهِمْ بالْكفْر.(2/198)
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} الْآيَة و {عَسى} من الله وَاجِبَة.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (19) إِلَى الْآيَة (22) .(2/198)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام} قَالَ مُجَاهِدٌ: أُمِرُوا بِالْهِجْرَةِ، فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: أَنَا أَسْقِي الْحَاجَّ، وَقَالَ طَلْحَةُ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ: أَنَا حَاجِبُ الْكَعْبَةِ؛ فَلا نُهَاجِرُ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْده أجر عَظِيم} وَكَانَ هَذَا قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (23) إِلَى الْآيَة (24) .(2/198)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ على الْإِيمَان} .(2/199)
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
{فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: فَتْحَ مَكَّةَ.
{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى شَرْكِهِمْ.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (25) إِلَى الْآيَة (27) .(2/199)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَة} يَعْنِي: يَوْمَ بَدْرٍ، وَالأَيَّامَ الَّتِي نَصَرَ اللَّهُ فِيهَا النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ.
{وَيَوْم حنين} أَي: وَفِي يَوْم (ل 125) حُنَيْنٍ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِيهِ {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئا} الآيَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا ذَهَبَ إِلَى حُنَيْنٍ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَلَقِيَ بِهَا جَمْعَ هَوَازِنَ وَثَقِيفٍ، وَهُمْ قريبٌ مِنْ أَرْبَعَةِ آلافٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ - فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ - فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَلَمَّا الْتَقَوْا قَالَ رجلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ. فَوَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَلِمَتِهِ وِجْدًا شَدِيدًا، وَخَرَجَتْ هَوَازِنُ وَمَعَهَا دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ وَهُوَ(2/199)
شيخٌ كَبِيرٌ. فَقَالَ دُرَيْدٌ: يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ، أَمَعَكُمْ مِنْ بَنِي كِلابٍ أحدٌ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَفَمِنْ بَنِي كَعْبٍ أحدٌ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَفَمِنْ بَنِي عَامِرٍ أحدٌ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَفَمَعَكُمْ مَنْ بَنِي هِلالِ بْنِ عَامِرٍ أحدٌ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ أَنْ لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقْتُمُوهُمْ إِلَيْهِ؛ فَأَطِيعُونِي فَارْجِعُوا. فَعَصَوْهُ، فَاقْتَتَلُوا فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ. وَأَخَذَ الْعَبَّاسُ بِثَغْرِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ، ثُمَّ نَادَى: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَيَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ الَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا؛ إِنَّ هَذَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلُمَّ لَكُمْ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ رَجُلا صَيِّتًا؛ فَأَسْمَعَ الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا فَأَقْبَلُوا، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَأَقْبَلُوا لِنَصْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَأَقْبَلُوا لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ، فَالْتَقَوْا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْتَتلُوا قتالاً شَدِيدا(2/200)
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)
{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لم تَرَوْهَا} يَعْنِي: الْمَلائِكَةَ {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَهُوَ الْقَتْلُ قَبْلَ عَذَابِ الآخِرَةِ.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (28) إِلَى الْآيَة (29) .(2/200)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} أَيْ: قذرٌ.(2/200)
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ لِكُلِّ مستقذرٍ: نَجَسٌ، فَإِذَا ذَكَرْتَ الرِّجْسَ، قُلْتَ: هُوَ رِجْسٌ نجسٌ.
{فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} هُوَ الْعَامُ الَّذِي حَجَّ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ، وَنَادَى فِيهِ عليٌّ بِالأَذَانِ.
{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} كَانَ لأَهْلِ مَكَّةَ مكسبةٌ ورفقٌ مِمَّنْ كَانَ يَحُجُّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا عُزِلُوا عَنْ ذَلِكَ اشْتَدَّ عَلَيْهِمْ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ يُعَوِّضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ محمدٌ: الْعَيْلَةُ: الْفَقْرُ؛ يُقَالُ: عَالَ الرَّجُلُ يَعِيلُ؛ إِذَا افْتَقَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ)(2/201)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخر} الآيَةُ، فَأَمَرَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ حَتَّى يُسْلِمُوا، أَوْ يُقِرُّوا بِالْجِزْيَةِ.
قَالَ محمدٌ: قَوْلُهُ: {عَنْ يَدٍ} يُقَالُ: أَعْطَاهُ عَنْ يدٍ، وَعَنْ ظَهْرِ يدٍ؛ أَيْ: أَعْطَاهُ ذَلِكَ مبتدئاً غير مكافئ.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (30) إِلَى الْآيَة (33) .(2/201)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ قَوْلهم بأفواههم} .
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: أَنَّهُ قولٌ بفمٍ؛ أَيْ: لَا بُرْهَانَ عَلَيْهِ، وَلَا صِحَة تَحْتَهُ.
{يضاهئون} يُشَابِهُونَ؛ يَعْنِي: النَّصَارَى {قَوْلَ الَّذِينَ كفرُوا من قبل} يَعْنِي: الْيَهُودَ؛ أَيْ: ضَاهَتِ النَّصَارَى قَوْلَ الْيَهُودِ قَبْلَهُمْ؛ قَالَتْ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} أَيْ: لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقيل: {قَاتلهم} بِمَعْنى: قَتلهمْ.
{أَنى يؤفكون} كَيْفَ يُقْلَبُونَ عَنِ الْحَقِّ وَيُصْرَفُونَ؟ !(2/202)
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} أَي: وَاتَّخذُوا الْمَسِيح ابْن مَرْيَمَ رَبًّا {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ} يُنَزِّهُ نَفْسَهُ {عَمَّا يُشْرِكُونَ} .(2/202)
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بأفواههم} يَعْنِي: مَا يَدَّعُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَمَا حَرَّفُوا مِنْ كتاب الله - عز وَجل(2/202)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
- {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُله} قَالَ ابْنُ عباسٍ: يَعْنِي: شَرَائِعَ الدِّينِ كُلِّهِ، فَلَمْ يُقْبَضْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ل 126) حَتَّى أَظْهَرَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -(2/202)
ذَلِكَ كُلَّهُ.
وَفِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ: {لِيظْهرهُ على الدّين كُله} : حَتَّى يَكُونَ الْحَاكِمُ عَلَى أَهْلِ الأَدْيَانِ كُلِّهَا؛ فَكَانَ ذَلِكَ حَتَّى ظَهَرَ عَلَى عَبَدَةِ الأَوْثَانِ، وَحَكَمَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَأَخَذَ مِنْهُمُ الْجِزْيَة، وَمن الْمَجُوس.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (34) إِلَى الْآيَة (35) .(2/203)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} يَعْنِي: مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنَ الرُّشَا فِي الْحُكْمِ، وَعَلَى مَا حَرَّفُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ.
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تكنزون} يَعْنِي: مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
قَالَ يحيى: وسمعتهم يَقُولُونَ:
نَسَخَتِ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ كَانَتْ قَبْلَهَا.
يحيى: عَنْ خالدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَدَّى الزَّكَاةَ، فَقَدْ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي مَالِهِ، وَمَنِ ازْدَادَ فَهُوَ خيرٌ لَهُ ".(2/203)
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (36) إِلَى الْآيَة (37) .(2/204)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ الله} .
قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: فِي كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي تُنْسَخُ مِنْهُ كُتُبُ الأَنْبِيَاءِ وَفِي جَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ {مِنْهَا أَرْبَعَة حرم} الْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحجَّة.
{ذَلِك الدّين الْقيم} يَعْنِي: أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ هَذِهِ الأَرْبَعَةَ الأَشْهُرَ {فَلا تظلموا فِيهِنَّ أَنفسكُم} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: يَقُولُ: اعْلَمُوا أَنَّ الظُّلْمَ فِيهِنَّ أَعْظَمُ خَطِيئَةٍ [وَوِزْرًا] فِيمَا سِوَاهُنَّ.
{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} أَيْ: جَمِيعًا، وَهَذَا حِينَ أَمَرَ بقتالهم جَمِيعًا.(2/204)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} الآيَةُ، تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: النَّسِيءُ: هُوَ الْمُحَرَّمُ كَانُوا يُسَمُّونَهُ صَفَرَ الأَوَّلَ، وَكَانَ الَّذِي يُحِلُّهُ لِلنَّاسِ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ(2/204)
الْكِنَانِيُّ كَانَ يُنَادِي بِالْمَوْسِمِ: إِنَّ الصفر الأول حلالٌ، فيحله للنَّاس، وَيُحَرِّمُ صَفَرَ مَكَانَ الْمُحَرَّمِ؛ فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَرَّمَ الْمُحَرَّمَ، وَأحل صفر.
وَمعنى {ليواطئوا} : لِيُوَافِقُوا {عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} كَانُوا يَقُولُونَ: هَذِهِ أربعةٌ بِمَنْزِلَةِ أَرْبَعَةٍ.
قَالَ محمدٌ: النَّسِيءُ فِي اللُّغَةِ: التَّأْخِيرُ؛ يَقُولُ: تَأْخِيرُهُمُ الْمُحَرَّمِ سَنَةً وَتَحْرِيمُ غَيْرِهِ سَنَةً؛ فَإِذَا كَانَ فِي السَّنَةِ الأُخْرَى رَدُّوهُ إِلَى التَّحْرِيمِ فَنَسْؤُهُمْ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي كُفْرِهِمْ؛ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْكَلْبِيّ.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (38) إِلَى الْآيَة (40) .(2/205)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأَرْض} هِيَ مِثْلَ قَوْلِهِ: {أَخْلَدَ إِلَى الأَرْض} يَعْنِي: الرِّضَا بالدنيا(2/205)
إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
(إِلا(2/205)
تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قوما غَيْركُمْ} يَقُولُ: يَهْلِكَكُمْ بِالْعَذَابِ، وَيَسْتَبْدِلُ قَوْمًا غَيْركُمْ {وَلَا تضروه شَيْئا} قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ هَذَا حِينَ أُمِرُوا بِغَزْوَةِ تَبُوكَ فِي الصَّيْفِ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ، وَاشْتَهَوْا الظِّلَّ، وشق عَلَيْهِم الْخُرُوج.(2/206)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
{إِلَّا تنصروه} يَعْنِي: النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذين كفرُوا} مِنْ مَكَّةَ {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هما فِي الْغَار} وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا اجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ، فَتَآمَرُوا بِالنَّبِيِّ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى مَا قَالَ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ؛ وَقَدْ فَسَّرْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الأَنْفَالِ فَأَوْحَى اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَيْهِ؛ فَخَرَجَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ لَيْلا؛ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْغَارِ، فَطَلَبَهُ الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَطَلَبُوا، [ ... ] وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ دَخَلَ الْغَارَ قَبْلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَسَ الْغَارَ فَنَظَرَ مَا بِهِ؛ لِئَلا يَكُونُ فِيهِ سبعٌ أَوْ حيةٌ يَقِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَارَ، وَأَخَذَتْ يمامةٌ فَوَضَعَتْ عَلَى بَابِ الْغَارِ فَجَعَلا يَسْتَمِعَانِ وَقْعَ حَوَافِرِ دَوَابِّ الْمُشْرِكِينَ فِي طَلَبِهِمَا، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَبْكِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: أَخَافُ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْكَ الْمُشْرِكُونَ فَيَقْتُلُوكَ؛ فَلا يُعْبَدُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بَعْدَكَ أَبَدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} وَجعل أَبُو بكر يمسح (ل 127) الدُّمُوعَ عَنْ خَدِّهِ {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سكينته عَلَيْهِ} .
قَالَ الْحَسَنُ: السَّكِينَةُ: الْوَقَارُ.
قَالَ محمدٌ: وَهِيَ مِنَ السُّكُونِ؛ الْمَعْنَى: أَنَّهُ أَلْقَى فِي قَلْبِهِ مَا سَكَنَ بِهِ،(2/206)
وَعَلِمَ أَنَّهُمْ غَيْرُ وَاصِلِينَ إِلَيْهِ {وأيده بِجُنُود لم تَرَوْهَا} يَعْنِي: الْمَلائِكَةَ عِنْدَ قِتَالِهِ الْمُشْرِكِينَ.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (41) إِلَى الْآيَة (42) .(2/207)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
{انفروا خفافا وثقالا} قَالَ الْمَعْنى: شبَابًا وشيوخاً.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَذَلِكَ حِينَ اسْتَنْفَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى تَبُوكَ فِي حرٍّ شَدِيدٍ، وَعُسْرَةٍ مِنَ النَّاسِ، فَكَرِهَ بَعْضُ النَّاسِ الْخُرُوجَ، وَجَعَلُوا يَسْتَأْذِنُونَ فِي الْمَقَامِ مِنْ بَيْنَ [ ... ] وَمَنْ لَيْسَتْ بِهِ عِلَّةٌ؛ فَيَأْذَنُ لِمَنْ شَاءَ أَنْ يَأْذَنَ، وَتَخَلَّفَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَغَيْرِ إِذْنٍ؛ فَأَنْزَلَ الله - عز وَجل(2/207)
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
- فَقَالَ: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} يَعْنِي: غَنِيمَةً قَرِيبَةً {وَسَفَرًا قَاصِدًا} أَيْ: قَرِيبًا {لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِم الشقة} يَعْنِي: السَّفَرَ {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ استطعنا} يَعْنِي: لَوْ وَجَدْنَا سَعَةً فِي الْمَالِ {لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} بِالْكَذِبِ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أَي: إِنَّمَا اعتلوا بِالْكَذِبِ.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (43) إِلَى الْآيَة (47) .(2/207)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
{عَفا الله عَنْك لما أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذين صدقُوا} يَعْنِي: مَنْ لَهُ عذرٌ {وَتَعْلَمَ الْكَاذِبين} أَيْ: مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ. قَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنت لَهُم} اشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بَعْدَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النُّور: {فَإِذا استئذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُم} فَنَسَخَتِ الآيَةَ الَّتِي فِي بَرَاءَةَ.(2/208)
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم} فَيَتَخَلَّفُوا عَنْكَ، وَلا عُذْرَ لَهُمْ(2/208)
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
{إِنَّمَا يستئذنك الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر} كَرَاهِيَة للْجِهَاد {وارتابت قُلُوبهم} أَيْ: شَكَّتْ فِي اللَّهِ - عَزَّ وَجل - وَفِي دينه(2/208)
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عدَّة} يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ.
{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انبعاثهم} خُرُوجَهُمْ؛ لِمَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ عُيُونٌ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ وَلِمَا يَمْشُونَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّمِيمَةِ وَالْفَسَادِ {فَثَبَّطَهُمْ} أَي: صرفهم(2/208)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
{لَو خَرجُوا فِيكُم} يَقُولُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ {مَا زَادُوكُمْ إِلا خبالا ولأوضعوا خلالكم} أَيْ: مَشُوا بَيْنَكُمْ بِالنَّمِيمَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْوَضْعُ فِي اللُّغَةِ: سُرْعَةُ السَّيْرِ؛ يُقَالُ: وَضَعَ الْبَعِيرُ(2/208)
وأوضعته.
{يبغونكم الْفِتْنَة} أَيْ: يَبْغُونَ أَنْ تَكُونُوا مُشْرِكِينَ، وَأَنْ يَظْهَرَ عَلَيْكُمُ الْمُشْرِكُونَ {وَفِيكُمْ سماعون لَهُم} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ عيونٌ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَيْكُمْ يَسْمَعُونَ أَخْبَارِكُمْ، فيرسلون بهَا إِلَى الْمُشْركين.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (48) إِلَى الْآيَة (49) .(2/209)
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
{لقد ابْتَغوا الْفِتْنَة} يَعْنِي: الشّرك {مِنْ قَبْلُ} أَيْ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُهَاجِرُوا {وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ} هُوَ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَو يَقْتُلُوك أَو يخرجوك} وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُهُ {حَتَّى جَاءَ الْحق} الْقُرْآن {وَظهر أَمر الله} الْإِسْلَام {وهم كَارِهُون} لظُهُوره.(2/209)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} يَا مُحَمَّدُ أَقِمْ فِي أَهْلِي {وَلَا تفتني} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اغْزُوا تَبُوكَ تَغْنَمُوا بَنَاتَ الأَصْفَرِ نِسَاءَ الرُّومِ. فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: ائْذَنْ لَنَا وَلا تَفْتِنَّا بِالنِّسَاءِ " قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: (أَلا(2/209)
فِي الْفِتْنَة} يَعْنِي: الهلة؛ وَهُوَ الشّرك {سقطوا} أَي: وَقَعُوا.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (50) إِلَى الْآيَة (54) .(2/210)
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
{إِن تصبك حسنةٌ} يَعْنِي: النَّصْر {تسؤهم} تِلْكَ الْحَسَنَةُ.
{وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} أَيْ: نَكْبَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} أَيْ: أَخَذْنَا الْوَثِيقَةَ فِي مُخَالَفَةِ مُحَمَّد، وَالْجُلُوس عَنهُ {ويتولوا} إِلَى مَنَازِلهمْ {وهم فَرِحُونَ} بِالَّذِي دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنَ النكبة.(2/210)
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا} ولينا.(2/210)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
{قل هَل تربصون بِنَا} تَنْتَظِرُونَ بِنَا؛ يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ {إِلا إِحْدَى الحسنيين} أَنْ نَظْهَرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَنَقْتُلَهُمْ ونغنمهم، أَو نقْتل (ل 128) فَنَدْخُلَ الْجَنَّةَ {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بعذابٍ مِنْ عِنْده} يُهْلِكهُمْ بِهِ {أَو بِأَيْدِينَا} أَيْ: نَسْتَخْرِجُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ مِنَ النِّفَاقِ؛ حَتَّى تُظْهِرُوا الشِّرْكَ فنقتلكم.(2/210)
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)
{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} يَعْنِي: مِمَّا يُفْرَضُ عَلَيْكُمْ مِنَ النَّفَقَةِ فِي الْجِهَادِ(2/210)
{لن يتَقَبَّل مِنْكُم} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: {قُلْ أَنْفِقُوا} قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِيهِ: هَذَا لَفْظُ أَمْرٍ، وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْخَبَرِ؛ أَيْ: يَقُولُ: إِنْ أَنْفَقْتُمْ طَائِعِينَ أَوْ مُكْرَهِينَ، لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ. قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الشِّعْرِ قَوْلُ كُثَيْرٍ:
(أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا ملومةٌ ... لَدَيْنَا وَلا مقليةٌ إِنْ تَقَلَّتِ)
فَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالإِسَاءَةِ، لَكِنْ أَعْلَمَهَا أَنَّهَا إِنْ أَسَاءَتْ أَوْ أَحْسَنَتْ فَهُوَ على عهدها.(2/211)
وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
قَوْلُهُ: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّه وبرسوله} وَأَظْهَرُوا الإِيمَانَ {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وهم كَارِهُون} للإنفاق فِي سَبِيل الله.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (55) إِلَى الْآيَة (59) .(2/211)
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
{فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَعْنِي: أَنَّهُمْ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ، وَيُشْخِصُونَ أَبْدَانَهُمْ يُقَاتِلُونَ أَوْلِيَاءَهُمُ الْمُشْرِكِينَ مَعَ أَعْدَائِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ؛ لأَنَّهُمْ يُخْفُونَ لَهُمُ الْعَدَاوَةَ؛ فَهُوَ تَعْذِيبٌ لَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا {وَتَزْهَقَ أنفسهم} أَي: تذْهب.(2/212)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)
{ويحلفون بِاللَّه إِنَّهُم لمنكم} فِيمَا أَظْهَرُوا مِنَ الإِيمَانِ {وَمَا هم مِنْكُم} فِيمَا يُسِرُّونَ مِنَ الْكُفْرِ {وَلَكِنَّهُمْ قوم يفرقون} عَلَى دِمَائِهِمْ إِنْ أَظْهَرُوا الشِّرْكَ.(2/212)
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
{لَو يَجدونَ ملْجأ} يَعْنِي: حِصْنًا يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ {أَوْ مغارات} يَعْنِي: غيرانا {أَو مدخلًا} أَي: سرباً {لولوا إِلَيْهِ} مُفَارَقَةً لِلنَّبِيِّ وَلِدِينِهِ {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أَي: يسرعون.(2/212)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} أَيْ: يَعِيبُكَ، وَيَطْعَنُ عَلَيْكَ {فَإِنْ أعْطوا مِنْهَا رَضوا} الآيَةَ، قَالَ قَتَادَةُ:
إِنَّ رَجُلا حَدِيثُ عهدٍ بِأَعْرَابِيَّةٍ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يَقْسِمُ ذَهَبًا وَفِضَّةً، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنْ كَانَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - قَدْ أَمَرَكَ أَنْ تَعْدِلَ، فَمَا عَدَلْتَ مُنْذُ الْيَوْمِ. فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْلَكَ فَمَنْ يَعْدِلُ عَلَيْكَ بَعْدِي؟ ! ثُمَّ قَالَ: احْذَرُوا هَذَا وَأَشْبَاهَهُ؛ فَإِنَّ فِي أُمَّتِي أَشْبَاهُ هَذَا؛ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوز تراقيهم ".
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (60) فَقَط.(2/212)
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ الله وَرَسُوله} أَيْ: أَعْطَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.
يَعْنِي: مِنْ فَضْلِ اللَّهِ {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُوله} الآيَةُ. وَهِيَ تُقْرَأُ أَيْضًا: (وَرَسُولَهُ) بِالنَّصْبِ؛ أَيْ: يُؤْتِي رَسُولَهُ.
وَفِيهَا إِضْمَارٌ؛ أَيْ: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِمَّا أظهرُوا من النِّفَاق.(2/213)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
{إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين} قَالَ الْحَسَنُ: الْفَقِيرُ: الْقَاعِدُ فِي بَيْتِهِ لَا يَسْأَلُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي يَسْأَلُ {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} يَعْنِي: عَلَى الصَّدَقَاتِ الَّذِينَ يَسْعَونَ فِي جَمْعِهَا؛ جَعَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُمْ فِيهَا سَهْمًا {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبهم} ناسٌ كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يُعْطِيهِمْ يَتَأَلَّفُهُمْ بِذَلِكَ لِكَيْ يُسْلِمُوا، جَعَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُمْ سَهْمًا؛ مِنْهُمْ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حصنٍ {وَفِي الرّقاب} يَعْنِي: كل عبدٍ {والغارمين} مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دينٌ أَوْ غرمٌ مِنْ غَيْرِ فسادٍ {وَفِي سَبِيل الله} يُحْمَلُ مَنْ لَيْسَ لَهُ [ ... ] يُعْطَى مِنْهَا {وَابْنُ السَّبِيلِ} الْمُسَافِرُ إِذَا قُطِعَ بِهِ؛ جَعَلَ اللَّهُ لِهَؤُلاءِ فِيهَا سَهْمًا.
قَالَ عليٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا هُوَ علمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فَفِي أَيْ صِنْفٍ مِنْهُمْ جَعَلْتُهَا أَجْزَأَكَ.(2/213)
{فَرِيضَة من الله} وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الزَّكَاةِ {وَاللَّهُ عليم حَكِيم} عليمٌ بِخَلْقِهِ، حكيمٌ فِي أَمْرِهِ.
قَالَ محمدٌ: {فَرِيضَة} بِالنَّصْبِ عَلَى التَّوْكِيدِ، الْمَعْنَى: فَرَضَ الله الصَّدقَات لهَؤُلَاء فَرِيضَة.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (61) فَقَط.
(ل 129)(2/214)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
{وَمِنْهُم الَّذين يُؤْذونَ النَّبِي} يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ، قَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا يَقُولُونَ: هَذَا الرَّجُلُ أُذُنٌ، مَنْ شَاءَ صَرَفَهُ حَيْثُ شَاءَ لَيْسَتْ لَهُ عَزِيمَةٌ، فَقَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجل - لنَبيه: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّه} وَهِيَ تُقْرَأُ (أُذُنُ خيرٍ لَكُمْ) أَيْ: هَذَا الَّذِي تَزْعُمُونَ أَنَّهُ أذنٌ خَيْرٍ لَكُمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: قُلْ مَنْ يَسْتَمِعُ مِنْكُمْ وَيَكُونُ قَابِلا لِلْعُذْرِ خَيْرٌ لَكُمْ {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ويؤمن للْمُؤْمِنين} يُصَدِّقُ اللَّهَ، وَيُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ.
{وَرَحْمَةٌ للَّذين آمنُوا مِنْكُم} رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِهِ، فَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الْجَاهِلِيَّة وظلمتها.(2/214)
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (62) إِلَى الْآيَة (63) .(2/215)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
{يحلفُونَ بِاللَّه لكم ليرضوكم} بِالْكَذِبِ {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يرضوه} بِالصّدقِ من قُلُوبهم(2/215)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ الله وَرَسُوله} أَيْ: مَنْ يُعَادِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
{فَأن لَهُ نَار جَهَنَّم} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: {مَنْ يُحَادِدِ الله وَرَسُوله} مَعْنَاهُ: مَنْ يَكُونُ فِي حدٍّ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي حدٍّ؛ أَيْ: جَانب. وتقرأ (فَأن لَهُ) بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ فَمَنْ كَسَرَ فَعَلَى الاسْتِئْنَافِ؛ كَمَا تَقُولُ: فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ، وَدَخَلَتْ (إِنَّ) مُؤَكِّدَةً. وَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ (فَأَنَّ لَهُ) ، فَإِنَّمَا أَعَادَ (أَنَّ) الأُولَى تَوْكِيدًا؛ لأَنَّهُ لَمَّا طَالَ الْكَلامُ كَانَ إِعَادَتهَا أوكد.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (64) إِلَى الْآيَة (67) .(2/215)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} مِنَ النِّفَاقِ؛ أَيْ: تُبَيِّنُ؛ فَفَعَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - ذَلِكَ بِهِمْ، فَأَخْرَجَ أَضْغَانَهُمْ؛ وَهُوَ مَا كَانُوا يُكِنُّونَ فِي صُدُورِهِمْ.
قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ " بَرَاءَةٌ " تُسَمَّى: فَاضِحَةُ الْمُنَافِقِينَ؛ لأَنَّهَا أَنْبَأَتْ بِمَقَالَتِهِمْ وأعمالهم.
{قل استهزئوا} بمحمدٍ وَأَصْحَابِهِ؛ وَهَذَا وعيدٌ مِثْلَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ شَاءَ فليؤمن وَمن شَاءَ فليكفر} .
{إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ، فَأَخْرَجَ أَضْغَانَهُمْ؛ وَهُوَ مَا كَانُوا يُكِنُّونَ فِي صُدُورهمْ.(2/216)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوض وَنَلْعَب} إِلَى قَوْلِهِ: {بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} قَالَ الْكَلْبِيُّ:
بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَجَعَ مِنْ تَبُوكَ بَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ إِذَا هُوَ برهطٍ أربعةٍ يَسِيرُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ وَهُمْ يَضْحَكُونَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِاللَّهِ - تَعَالَى ذِكْرِهِ - وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ. فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، فَقَالَ: أَدْرِكْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَحْتَرِقُوا، وَاسْأَلْهُمْ: مِمَّ يَضْحَكُونَ؟ فَإِنَّهُمْ سَيَقُولُونَ مِمَّا يَخُوضُ فِيهِ الرَّكْبُ إِذَا سَارُوا. فَلَحِقَهُمْ عمار،(2/216)
فَقَالَ: مِم تَضْحَكُونَ؟ وَمَا تَقُولُونَ؟ فَقَالُوا: مِمَّا يَخُوضُ فِيهِ الرَّكْبُ إِذَا سَارُوا.
فَقَالَ عمار (عَرفْنَاهُ) اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَبَلَّغَ الرَّسُولَ احْتَرَقْتُمْ لَعَنَكُمُ اللَّهُ وَكَانَ يُسَايِرُهُمْ رَجُلٌ لَمْ يَنْهَهُمْ، وَجَاءُوا إِلَى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَذِرُونَ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانكُمْ} أَيْ: بَعْدَ إِقْرَارِكُمْ {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} فَيُرْجَى أَنْ يَكُونَ الْعَفْوُ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِمَنْ لَمْ يمالئهم، وَلم ينههم.(2/217)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} أَيْ: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ {يَأْمُرُونَ بالمنكر} بِالْكُفْرِ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوف} عَنِ الإِيمَانِ بِاللَّهِ {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} يَعْنِي: لَا يَبْسُطُونَهَا بِالنَّفَقَةِ فِي الْحق.
{نسوا الله} أَيْ: تَرَكُوا ذِكْرَهُ بِالإِخْلاصِ مِنْ قُلُوبهم {فنسيهم} فَتَرَكَهُمْ أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِمَا يُذَكِّرُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْخَيْرِ {إِنَّ الْمُنَافِقين هم الْفَاسِقُونَ} يَعْنِي: بِهِ فسق الشّرك.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (68) إِلَى الْآيَة (70) .(2/217)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} إِلَى قَوْله: {هِيَ حسبهم} قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: حَسْبُ فُلانٍ مَا نَزَلَ بِهِ؛ أَيْ: ذَلِكَ على قدر فعله.(2/218)
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
{كَالَّذِين من قبلكُمْ} يَعْنِي: مِنَ الْكُفَّارِ {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُم قُوَّة} قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: وَعَدَكُمُ اللَّهُ على الْكفْر (ل 130) كَمَا وَعَدَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ} .
تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: يَقُولُ: فَاسْتَمْتَعْتُمْ فِي الدُّنْيَا بِنَصِيبِكُمْ مِنَ الآخِرَةِ، كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِنَصِيبِهِمْ من الْآخِرَة {وخضتم} فِي الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ {كَالَّذِي خَاضُوا} .(2/218)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قبلهم} إِلَى قَوْله: {والمؤتفكات} يَقُولُ: بَلَى قَدْ أَتَاهُمْ خَبَرُهُمْ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي كِتَابه {والمؤتفكات} يَعْنِي: الْمُنْقَلِبَاتِ؛ وَهِيَ (قُرَيَّاتُ) قَوْمِ لُوطٍ الثَّلاثُ؛ رَفَعَهَا جِبْرِيلُ بِجَنَاحِهِ ثُمَّ قَلَبَهَا {فَمَا كَانَ اللَّهُ ليظلمهم} بِإِهْلاكِهِ إِيَّاهُمْ {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يظْلمُونَ} بِجُحُودِهِمْ وَشِرْكِهِمْ؛ يَحْذَرُ هَؤُلاءِ مَا فعل بِمن قبلهم.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (71) إِلَى الْآيَة (72) .(2/218)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طيبَة فِي جنَّات عدن} قَالَ الْحَسَنُ: (عدنٌ) اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْجَنَّةِ.
قَالَ محمدٌ: الْعَدْنُ فِي اللُّغَةِ: الإِقَامَةُ؛ يُقَالُ: عَدَنْتُ بِمَوْضِعِ كَذَا؛ أَيْ: أَقَمْتُ بِهِ.
{ورضوان من الله أكبر} مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ مُلْكِ الْجَنَّةِ.
يحيى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَرَأَوْا مَا فِيهَا قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُمْ: لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا. قَالُوا: رَبَّنَا لَا شَيْءَ أَفْضَلَ مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ: بَلَى أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي ".
قَالَ الْحَسَنُ: يَصِلُ إِلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مِنَ اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ مَا هُوَ أَلَذُّ عِنْدَهُمْ وَأَقَرُّ لأَعْيُنِهِمْ مِنْ كُلِّ شيءٍ أَصَابُوهُ مِنْ لَذَّة الْجنَّة.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (73) إِلَى الْآيَة (74) .(2/219)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
{يَا أَيهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: جَاهِدِ الْمُنَافِقِينَ بِالسَّيْفِ، وَاغْلُظْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِالْحُدُودِ.
قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ أَكْثَرُ مَنْ يُصِيبُ الْحُدُود يومئذٍ المُنَافِقُونَ.(2/220)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
{يحلفُونَ بِاللَّه مَا قَالُوا} قَالَ الْحَسَنُ:
لَقِيَ رجلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ رَجُلا مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَقَالَ: إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ محمدٌ حقًّا، فَنَحْنُ شرٍّ مِنَ الْحُمُرِ! فَقَالَ الْمُسْلِمُ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ لَحَقٌّ، وَأَنَّكَ شرٌّ مِنْ حمارٍ. ثمَّ أخبر بذلك النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ إِلَى الْمُنَافِقِ؛ أَقُلْتَ كَذَا؟ فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا قَالَهُ، وَحَلَفَ الْمُسْلِمُ لَقَدْ قَالَهُ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكفْر وَكَفرُوا بعد إسْلَامهمْ} بَعْدَ إِقْرَارِهِمْ {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ ينالوا} قَالَ مُجَاهِدٌ: هَمَّ الْمُنَافِقُ بِقَتْلِ الْمُؤْمِنِ؛ حَيْثُ قَالَ لِلْمُنَافِقِ: فَوَاللَّهِ إِنَّ مَا يَقُولُ محمدٌ كُلُّهُ حقٌّ، وَلأَنْتَ شرٌّ مِنْ حِمَارٍ.
{وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُوله من فَضله} يَقُولُ: لمْ يَنْقِمُوا مِنَ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، إِلا أَنَّهُمْ أَصَابُوا الْغِنَى فِي الدُّنْيَا، وَلَوْ تَمَسَّكُوا بِهِ لأَصَابُوا الْجَنَّةَ فِي الآخِرَةِ.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: أَيْ: لَيْسَ يَنْقِمُونَ شَيْئًا، وَلا يَتَعَرَّفُونَ (حَقَّ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلا الصُّنْعَ) ، وَهَذَا مِمَّا لَيْسَ ينقم.
{فَإِن يتوبوا} أَيْ: يَرْجِعُوا عَنْ نِفَاقِهِمْ {يَكُ خيرا لَهُم وَإِن يتولوا} عَنِ التَّوْبَةِ، وَيُظْهِرُوا الشِّرْكَ {يُعَذِّبْهُمُ الله عذَابا أَلِيمًا} الْآيَة.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (75) إِلَى الْآيَة (7 8) .(2/220)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا من فَضله} فَأَوْسَعَ عَلَيْنَا مِنَ الرِّزْقِ {لَنَصَّدَّقَنَّ} يَعْنِي: الصَّدَقَةَ {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} مَنْ يُطِيعُ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - وَرَسُوله(2/221)
فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)
{فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ} مَنَعُوا حَقَّ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {وتولوا} عَن الصّلاح {وهم معرضون} عَن أَمر الله(2/221)
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
{فأعقبهم نفَاقًا فِي قُلُوبهم} لَا يَتُوبُونَ مِنْهُ {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} .(2/221)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سرهم ونجواهم} مَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ مِنَ النِّفَاقِ [ ... ] إِذْ ذَاكَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي كِتَابِهِ، وَقَامَتْ بِهِ الْحجَّة عَلَيْهِم.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (79) إِلَى الْآيَة (80) .
(ل 131)(2/221)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدقَات} قَالَ قَتَادَة:
ذكر لنا أَن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ جَاءَ بِنِصْفِ مَالِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَبُهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا نِصْفُ مَالِي أَتَيْتُكَ بِهِ، وَتَرَكْتُ نِصْفَهُ لِعَيَالِي،(2/221)
فَدَعَا اللَّهَ أَنْ يُبَارِكَ لَهُ فِيمَا أَعْطَى وَفِيمَا أَمْسَكَ، فَلَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ، قَالُوا: مَا أَعْطَى هَذَا إِلا سُمْعَةً وَرِيَاءً، وَأَقْبَلَ رجلٌ مِنْ فُقُرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عَقِيلٍ؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِتُّ اللَّيْلَةَ أَجُرُّ الْجَرِيرَ عَلَى صَاعَيْنِ مِنْ تمرٍ؛ فَأَمَّا صاعٌ فَأَمْسِكُهُ لأَهْلِي، وَأَمَّا صاعٌ فَهَذَا هُوَ، فَقَالَ لَهُ نَبِي اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم خَيْرًا، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: وَاللَّهِ إِنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَغَنِيَّيْنِ عَنْ صَاعِ أَبِي عَقِيلٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - هَذِهِ الآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ".(2/222)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
قَالَ قَتَادَةُ: " لَمَّا نَزَلَ فِي هَذِهِ الآيَةِ {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تستغفر لَهُم} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ:
قَدْ خَيَّرَنِي رَبِّي، فَوَاللَّهِ لأَزِيدَنَّهُمْ عَلَى السَّبْعِينَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآيَةَ ".
قَالَ محمدٌ: وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلا جهدهمْ} يَعْنِي: طَاقَتَهُمْ؛ الْجُهْدُ: الطَّاقَةُ، وَالْجَهْدُ - بِفَتْحِ الْجِيمِ -: الْمَشَّقَةُ؛ يُقَالُ: فَعَلْتُ ذَلِكَ بجهدٍ؛ أَيْ: بِمَشَقَّةٍ. وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} أَي: جازاهم جَزَاء السخرية.(2/222)
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (81) إِلَى الْآيَة (85) .(2/223)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ الله} قَالَ محمدٌ: قِيلَ: الْمَعْنَى: بِأَنْ قعدوا لمُخَالفَة رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم.
{وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} قَالَ قَتَادَةُ:
خَرَجَ الْمُؤْمِنُونَ يومئذٍ إِلَى تَبُوكَ فِي لَهَبَانِ الْحَرِّ؛ قَالَ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ نَارَ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} مِنْ نَارِ الدُّنْيَا {لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ: لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ لَعَلِمُوا أَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا مِنْ نَارِ الدُّنْيَا.
يحيى: عَنِ النَّضْرِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ قَالَ:
بَيْنَمَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مسيرٍ لَهُ فِي يومٍ شَدِيدِ الْحَرِّ إِذْ نَزَلَ مَنْزِلا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَنْتَعِلُ ثَوْبَهُ مِنْ شِدَّةِ حَرِّ الأَرْضِ؛ فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلا أَرَاكُمْ تَجْزَعُونَ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ وَبَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا مسيرَة خَمْسمِائَة عَامٍ! فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ فُتِحَ بِالْمَشْرِقِ، ورجلٌ بِالْمَغْرِبِ لَغَلَّى دِمَاغُهُ حَتَّى يَسِيلَ مِنْ مُنْخَرَيْهِ ".(2/223)
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
{فليضحكوا قَلِيلا} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا {وليبكوا كثيرا} يَعْنِي فِي النَّارِ.
يحيى: عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ قَتَادَةَ؛
أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ قَالَ: " إِنَّهُ يُسَلَّطُ عَلَى أَهْلِ النَّارِ الْبُكَاءَ؛ فَلَوْ تُرْسَلُ السُّفُنُ فِي [ ... ] أَعْيُنُهِمْ لجرت ".(2/224)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُم} يُقُولُهُ لِلنَّبِيِّ، إِلَى قَوْلِهِ: {فَاقْعُدُوا مَعَ الخالفين} قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي: الأَشْرَارَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَاحِدُ الْخَالِفِينَ: خالفٌ؛ يُقَالُ لِلَّذِي هُوَ غَيْرُ نَجِيبٍ: فلانٌ خَالف أَهله، وخالفة أَهله.(2/224)
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبدا} قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لِنَا أَنَّهُ مَاتَ منافقٌ فَكَفَّنَهُ نَبِيُّ اللَّهِ فِي قَمِيصِهِ وَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَلاهُ فِي قَبْرِهِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجل -(2/224)
هَذِه الْآيَة فِيهِ.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (86) إِلَى الْآيَة (89) .(2/225)
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
{استئذنك أولو الطول مِنْهُم} أَيْ: ذَوُو الْغِنَى فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ {وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ القاعدين}(2/225)
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
{رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} يَعْنِي: النِّسَاءَ؛ فِي تَفْسِيرِ الْعَامَّةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ: رَضُوا بَأَنْ يَكُونُوا فِي تَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْجِهَادِ كَالنِّسَاءِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْخَوَالِفَ جَمْعُ خَالِفَةٍ.(2/225)
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)
{وَأُولَئِكَ لَهُم الْخيرَات} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: النِّسَاءُ الْحِسَانُ؛ مِثْلَ قَوْلِهِ: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَدْ قِيلَ: الْخَيْرَاتُ: الْفَوَاضِلُ مِنَ كُلِّ شيءٍ؛ وَوَاحَدُهَا: خيرة.(2/225)
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (90) إِلَى الْآيَة (92) .
(ل 132)(2/226)
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
{وَجَاء المعذرون} يَعْنِي: الْمُعْتَذِرِينَ {مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُم} يَعْنِي: فِي الْقُعُودِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: فُلانٌ مُعَذِّرٌ؛ أَيْ: معتذرٌ، وَأُدْغِمَتُ التَّاءُ فِي الذَّالِ؛ لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا. وَمِنْ كَلامِهِمْ أَيْضًا: عَذَّرْتُ الأَمْرَ إِذْ قَصَّرْتُ، وَأَعْذَرْتُ إِذَا جَدَّدْتُ.
{وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُوله} فِيمَا أَكْثَرُوا مِنَ النِّفَاقِ؛ كَانَ هَذَا فِي غَزْوَة تَبُوك.(2/226)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)
{لَيْسَ على الضُّعَفَاء} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: الْعَجَزَةُ الَّذِينَ لَا قُوَّةَ لَهُمْ {وَلا عَلَى المرضى} يَعْنِي: مَنْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ {وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفقُونَ حرج} إثمٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ {إِذا نصحوا لله وَرَسُوله} إِذا كَانَ لَهُم عذرٌ.(2/226)
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (93) إِلَى الْآيَة (96) .(2/227)
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
{ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ} السِّرّ {وَالشَّهَادَة} الْعَلَانِيَة.(2/227)
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)
{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِم} من غزاتكم {لتعرضوا عَنْهُم فأعرضوا عَنْهُم} أَلا تَقْتُلُوهُمْ مَا أَظْهَرُوا الإِيمَانَ، وَاعْتَذَرُوا.(2/227)
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
{يحلفُونَ لكم} بِالْكَذِبِ {لترضوا عَنْهُم} فِيمَا أَظْهَرُوا مِنَ الإِيمَانِ وَالاعْتِذَارِ {فَإِن ترضوا عَنْهُم} لِمَا يُظْهِرُونَ مِنَ الإِيمَانِ {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقين} يُعْنِيهِمْ لِمَا بَطَنَ مِنْهُمْ مِنَ النِّفَاق.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (97) إِلَى الْآيَة (99) .(2/227)
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
{الْأَعْرَاب أَشد كفرا ونفاقا} يَعْنِي: أَنَّ مُنَافِقِي الأَعْرَابِ أَشَدُّ مِنْ مُنَافِقِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي نِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ {وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُوله} قَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُ: هُمْ أَقَلُّ علما بالسنن.(2/228)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا ينْفق} فِي الْجِهَاد {مغرما} يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ؛ لأَنَّهُمْ لَيْسَتْ لَهُمْ نيةٌ.
قَالَ محمدٌ: قَوْلُهُ {مَغْرَمًا} يَعْنِي: غُرْمًا وَخُسْرَانًا.
{وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِر} يَعْنِي: أَنْ يَهْلِكَ محمدٌ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَيَرْجِعَ إِلَى دِينِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ.
{عَلَيْهِم دَائِرَة السوء} يَعْنِي: عَاقِبَة السوء.(2/228)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قربات عِنْد الله} أَيْ: يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ - عز وَجل - {وصلوات الرَّسُول} أَيْ: وَيَتَّخِذُ صَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَيْضًا قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ. وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ: استغفاره ودعاؤه.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (100) إِلَى الْآيَة (101) .(2/228)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} قَالَ قَتَادَةُ:
مَنْ كَانَ صَلَّى مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَتَيْنِ فَهُوَ مِنَ السَّابِقين الْأَوَّلين(2/228)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
(وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من(2/228)
الْأَعْرَاب} يَعْنِي: حول المدنية {مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا على النِّفَاق} أَيْ: اجْتَرَءُوا عَلَيْهِ {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحن نعلمهُمْ} قد أعلمهم الله وَرَسُوله بعد ذَلِك، وأَسَرَّهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ.
{سَنُعَذِّبُهُمْ مرَّتَيْنِ} أَمَّا إِحْدَاهُمَا: فَبِالزَّكَاةِ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمْ كُرْهًا، وَأَمَّا الأُخْرَى: فَبِعَذَابِ الْقَبْرِ {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيم} أَي: جَهَنَّم.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (102) إِلَى الْآيَة (106) .(2/229)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} الآيَةُ، تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: هُمْ نفرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ عَرَضَ فِي هِمَمِهِمْ شَيْءٌ، وَلَمْ يَعْزِمُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، وَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ.
{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} وَعَسَى مِنَ اللَّهِ - جَلَّ وَعَزَّ - وَاجِبَة.(2/229)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
{خُذ من أَمْوَالهم} أَي: اقبل {صَدَقَة تطهرهُمْ} من الذُّنُوب {وتزكيهم بهَا} وَلَيْسَ بِصَدَقَةِ الْفَرِيضَةِ، وَلَكِنَّهَا كَفَّارَةٌ لَهُمْ {وصل عَلَيْهِم} أَيْ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ {إِنَّ صَلاتَكَ سكنٌ لَهُم} يَعْنِي: طمأنينة لقُلُوبِهِمْ؛ يَقُوله الله - عز وَجل - للنَّبِي صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم.(2/229)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدقَات} أَي: يقبلهَا.(2/230)
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُوله والمؤمنون} يَعْنِي: بِمَا يُطْلِعُهُمْ عَلَيْهِ.
يحيى: عَنِ الصَّلْتِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ:
لَوْ أَنَّ رَجُلا عَمِلَ فِي جَوْفِ سَبْعِينَ بَيْتًا لَكَسَاهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - رِدَاءَ عَمَلِهِ خَيْرًا أَوْ شَرًّا ".(2/230)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
{وَآخَرُونَ مرجون لأمر الله} هُمُ الثَّلاثَةُ الَّذِينَ فِي آخِرِ السُّورَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الآيَةِ الَّتِي فِي آخر السُّورَة.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (107) إِلَى الْآيَة (108) .(2/230)
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (109) إِلَى الْآيَة (110) .
(ل 133)(2/231)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} إِلَى قَوْله: {وَالله عليم حَكِيم} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حِينَ غَزْوَةِ تَبُوكَ نَزَلَ بَيْنَ ظَهْرَانِيِّ الأَنْصَارِ وَبَنَى مَسْجِدَ قِبَاءَ 0 وَهُوَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى - وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الأَنْصَارِ بَنَوْا مَسْجِدًا؛ فَقَالُوا: نَمِيلُ بِهِ فَإِنْ أَتَانَا محمدٌ فِيهِ وَإِلا لمْ [ ... ] وَنَخْلُوا فِيهِ لِحَوَائِجِنَا وَنَبْعُثُ إِلَى أَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبِ - لِمُحَارِبٍ مِنْ مُحَارِبِيِّ الأَنْصَارِ كَانَ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسَرَهُ - فَيَأْتِينَا؛ فَنَسْتَشِيرُهُ فِي أُمُورِنَا، فَلَمَّا بَنَوُا الْمَسْجِدَ؛ وَهُوَ الَّذِي قَالَ الله - عز وَجل -: {الَّذين اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَين الْمُؤمنِينَ} أَيْ: بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قبل} يَعْنِي: أَبَا عَامِرٍ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ لَا يَأْتِيهِمْ وَلا يَأْتُونَهُ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ دَعَا بِقَمِيصِهِ لِيَأْتِيَهُمْ (فَإِنَّهُ لِيَزُرَّهُ عَلَيْهِ إِذْ أَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: {لَا تقم فِيهِ أبدا} يَعْنِي: ذَلِكَ الْمَسْجِدَ. {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} يَعْنِي: مَسْجِدَ قِبَاءَ {أَحَقُّ أَنْ تقوم فِيهِ} .
قَالَ محمدٌ: قَوْلُهُ {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارب الله وَرَسُوله} أَيِ: انْتِظَارًا؛ يُقَالُ: أَرْصَدْتُ لَهُ بِالشَّرِّ، وَرَصَدْتُهُ بِالْمُعَافَاةِ. وَقَدْ قِيلَ: أَرْصَدْتُ لَهُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ جَمِيعًا.(2/231)
{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَالله يحب المطهرين} .
يحيى: عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ:
لَمَّا نَزَلَتْ: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ عَلَيْكُمُ الثَّنَاءَ فِي الطُّهُورِ؛ فَكَيْفَ طُهُورِكُمْ بِالْمَاءِ؟ قَالُوا: نَغْسِلُ أَثَرَ الْخَلاءِ بِالْمَاءِ " مِنْ حَدِيثِ يحيى بْنِ مُحَمَّدٍ.
قَالَ يحيى:
وَبَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ بَنَوْا ذَلِكَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى بِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ؟ فَحَلَفُوا بِاللَّهِ إِنَّ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى، {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .(2/232)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى من الله ورضوان خير أَمن أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جرفٍ هار} يَعْنِي: حَرْفَ جُرْفٍ.
{فَانْهَارَ بِهِ فِي نَار جَهَنَّم} أَيْ: أَنَّ الَّذِي أُسِّسَ بُنْيَانُهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ(2/232)
وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ مِنَ الآخَرِ، قَالَ قَتَادَةُ: مَا تَنَاهَى أَنْ وَقَعَ فِي النَّارِ، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ حَفَرُوا فِيهِ بُقْعَةً فَرُئِيَ مِنْهَا الدُّخَانُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: {عَلَى شفا جرف} يَعْنِي: حَرْفَ جرفٍ، وَالْجُرُفُ: مَا تُجْرَفُ بِالسُّيُولِ مِنَ الأَوْدِيَةِ؛ يُقَالُ: جرفٌ هارٍ وهائرٌ؛ إِذَا كَانَ مُتَصَدِّعًا؛ فَإِذَا سَقَطَ قِيلَ: انْهَارَ وَتَهَوَّرَ.
{وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن} يَقُولُ: هَذَا حُكْمُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي هَذَا، فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ.
قَالَ محمدٌ: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًا} بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى: فَإِنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، وَعَدَهُمْ إِيَّاهَا وَعْدًا عَلَيْهِ حقاًّ.(2/233)
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَة فِي قُلُوبهم} أَيْ: شَكًّا. {إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبهم} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: يَقُولُ: إِلا أَنْ يَمُوتُوا.
قَالَ يحيى: أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يموتون على النِّفَاق.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (111) إِلَى الْآيَة (112) .(2/233)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
{التائبون} تَابُوا من الشّرك {العابدون} عَبَدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ {الْحَامِدُونَ} يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
{السائحون} هُمُ الصَّائِمُونَ.
قَالَ محمدٌ: السَّائِحُ أَصْلُهُ: الذَّاهِبُ فِي الأَرْضِ، وَمَنْ سَاحَ امْتَنَعَ مِنَ الشَّهَوَاتِ، فَشَبَّهَ الصَّائِمَ بِهِ؛ لإِمْسَاكِهِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشرَاب وَالنِّكَاح.
{الراكعون الساجدون} يَقُول: هم أهل الصَّلَاة.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (113) إِلَى الْآيَة (116) .(2/234)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكين} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: قَالَ: كَانَ أُنْزِلَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} ثُمَّ أَنْزَلَ فِي هَذِهِ الآيَةِ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآيَةَ، فَلا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِوَالِدَيْهِ إِذَا كَانَا مُشْرِكَيْنِ، وَلا أَنْ يَقُولَ: رَبِّ ارْحَمْهُمَا (ل 134) وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيم} أَي:(2/234)
مَاتُوا على الْكفْر(2/235)
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ} الْآيَة.
قَالَ قَتَادَة:
ذُكِرَ لَنَا: أَنَّ رَجُلا قَالَ لِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَن مِنْ آبَائِنَا مَنْ كَانَ يُحْسِنُ الْجِوَارَ، وَيَصِلُ الأَرْحَامَ، وَيَفُكُّ الْعَانِي، وَيَفِي بِالذِّمَمِ؛ أَفَلا تَسْتَغْفِرُ لَهُمْ؟ قَالَ: بَلَى، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ لِوَالِدِي؟ كَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ -: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} ".
{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنه عَدو لله} أَيْ: مَاتَ عَلَى شِرْكِهِ {تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الأَوَّاهُ: الْمُوقِنُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هُوَ الدَّعَّاءُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ أَقْرَبُ فِي الْمَعْنَى؛ لأَنَّهُ مِنَ التَّأَوُّهِ، وَهُوَ مِنَ الصَّوْتِ، مِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(فَأَوْهِ بِذِكْرَاهَا إِذَا مَا ذَكَرْتُهَا ... وَمِنْ بُعْدِ أرضٍ دُونَهَا وَسَمَاءِ}
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: (أَوْهِ) بِتَسْكِينِ الْوَاو وَكسر الْهَاء، و (أوه) مُشَدَّدَةٌ، يُقَالُ: آهَ الرَّجُلُ يُئَوِّهُ إِذَا قَالَ: أَوْهِ مِنْ أَمْرٍ يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: تَأَوَّهَ الرَّجُلُ، والمتأوه: المتلهف.(2/235)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بعد إِذْ هدَاهُم} الآيَةَ.
بَلَغَنَا أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَاب النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم مَاتُوا قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الْفَرَائِضُ أَوْ بَعْضُهَا؛ فَقَالَ قومٌ مِنْ أَصْحَاب النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: مَاتَ إِخْوَانُنَا قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ(2/235)
هَذِهِ الْفَرَائِضُ، فَمَا مَنْزِلَتُهُمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هَذِه الْآيَة؛ فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَاتُوا عَلَى الإِيمَانِ.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (117) فَقَط.(2/236)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَة الْعسرَة} أَيْ: فِي وَقْتِ الْعُسْرَةِ {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فريق مِنْهُم} أَيْ: تَمِيلُ عَنِ الْجِهَادِ؛ فَعَصَمَهُمُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ ذَلِكَ؛ فَمَضَوْا مَعَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قَتَادَةُ: أَصَابَهُمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ جهدٌ شَدِيدٌ، حَتَّى لَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ الرَّجُلَيْنِ كَانَا يَشُقَّانِ التَّمْرَةَ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ النَّفَرُ يَتَدَاوَلُونَ التَّمْرَةَ بَيْنَهُمْ يَمُصُّهَا هَذَا، ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ يمصها الآخر.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (118) إِلَى الْآيَة (119) .(2/236)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
{وعَلى الثَّلَاثَة} أَيْ: وَتَابَ عَلَى الَّذِينَ خُلِّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ؛ وَهُمُ الَّذِينَ أرجوا فِي الْآيَة الأولى فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَآخَرُونَ مرجون لأمر الله} وَهُمْ: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ رَبِيعَةَ.
{حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحبَتْ} أَي: بسعتها {وظنوا} عَلِمُوا(2/236)
{أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَمَرَ النَّاسَ أَلا يُكَلِّمُوهُمْ وَلا يُجَالِسُوهُمْ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَلا يؤوهم وَلا يُكَلِّمُوهُمْ؛ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ نَدِمُوا وَجَاءُوا إِلَى سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَأَوْثَقُوا أَنْفُسَهُمْ؛ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - تَوْبَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَة.(2/237)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقين} تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ: خَاطَبَ بِهَذَا مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ، لِيُهَاجِرُوا إِلَى النَّبِيِّ بِالْمَدِينَةِ.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (120) فَقَط.(2/237)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
{مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَن رَسُول الله} وَهَذَا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ {وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُم} يَعْنِي: مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ.
{لَا يصيبهم ظمأ} عطشٌ {وَلَا نصب} فِي أبدانهم {وَلَا مَخْمَصَة} جُوعٌ.
{وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عدوٍّ نيلاً إِلَى كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عملٌ صالحٌ} .
يَحْيَى: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الْمُصَبَّحِ قَالَ:
غزونا مَعَ مَالك ابْن عَبْدِ اللَّهِ الْخَثْعَمِي أَرْضَ الرُّومِ، فَسَبَقَ النَّاسُ رجلٌ، ثُمَّ نَزَلَ يَمْشِي وَيَقُودُ فَرَسَهُ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَلا تَرْكَبُ؟ ! فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2/237)
يَقُولُ: مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُمَا حرامٌ عَلَى النَّارِ.
قَالَ: فَلَمْ أَرَ نَازِلا أَكْثَرَ مِنْ يومئذٍ ".
يحيى: عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ل 135) " لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ(2/238)
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي مُنْخَرَيِّ عبدٍ مسلمٍ أَبْدًا ".
يحيى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ صَفْوَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانٍ قَالَ:
ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْعَمَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُضَاعَفُ؟ كَمَا تضَاعف النَّفَقَة سَبْعمِائة ضعف ".
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (121) إِلَى الْآيَة (122) .(2/239)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} الآيَةَ، تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَجَعَ مِنْ تَبُوكَ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْهُ مَا أَنْزَلَ - قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: لَا وَاللَّهِ لَا يَرَانَا اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْغَزْوَةِ يَغْزُوهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْدًا وَلا عَنْ سَرِيَّةٍ. فَأَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم السَّرَايَا أَنْ تَخْرُجَ فَنَفَرَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ آخِرِهِمْ، وَتُرِكَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحْدَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} أَيْ: جَمِيعًا، وَيَذَرُوكَ وَحْدَكَ بِالْمَدِينَةِ {فلولا} فَهَلا {نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} ليتفقه المقيمون {وينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم} مِنْ غَزَاتِهِمْ. أَيْ: يُعَلِّمُ الْمُقِيمُ الْغَازِي مَا نَزَلَ بَعْدَهُ مِنَ الْقُرْآن.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (123) إِلَى الْآيَة (125) .(2/240)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
{يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ من الْكفَّار} الآيَةَ، قَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً.(2/240)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ من يَقُول} يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فزادتهم إِيمَانًا} تَصْدِيقًا {وهم يستبشرون} بِمَا يَجِيءُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ(2/240)
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
(وَأَمَّا(2/240)
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) {شَكٌّ} (فزادتهم رجساً إِلَى رجسهم} أَيْ: زَادَهُمْ تَكْذِيبُهُمْ بِهَا كُفْرًا إِلَى كُفْرِهِمْ (وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ يَقُولُ: إِنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (126) إِلَى الْآيَة (127) .(2/241)
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
{أَو لَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَام مرّة أَو مرَّتَيْنِ} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: يُبْتَلَوْنَ بِالْجِهَادِ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم فَيَرَوْنَ نَصْرَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - رَسُوله {ثمَّ لَا يتوبون} مِنْ نِفَاقِهِمْ {وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} .(2/241)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعضهم إِلَى بعض} يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ {هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أحد} مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لبعضٍ {ثمَّ انصرفوا} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: عَزَمُوا عَلَى الْكفْر {صرف الله قُلُوبهم} هَذَا دعاءٌ {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يفقهُونَ} لَا يرجعُونَ إِلَى الْإِيمَان.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (128) إِلَى الْآيَة (129)(2/241)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي مِنْ جِنْسِكُمْ {عَزِيز عَلَيْهِ} أَيْ: شَدِيدٌ عَلَيْهِ {مَا عَنِتُّمْ} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: مَا ضَاقَ بِكُمْ فِي دِينِكُمْ {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أَن تؤمنوا(2/241)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
{فَإِن توَلّوا} عَنِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَزَّ - وَعَمَّا بعث بِهِ رَسُوله {فَقل} يَا مُحَمَّدُ: (حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ(2/241)
رب الْعَرْش الْعَظِيم} قَالَ قَتَادَةُ: يُقَالُ: إِنَّ أَحْدَثَ الْقُرْآنِ بِاللَّهِ عَهْدًا هَاتَانِ الآيَتَانِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.(2/242)
تَفْسِيرُ سُورَةِ يُونُسَ وَهِيَ مَكِّيَةٌ كلهَا
سُورَة يُونُس من الْآيَة (1) إِلَى الْآيَة (2) .(2/243)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
قَوْله عز وَجل: {الر} قَالَ الْحَسَنُ: لَا أَدْرِي مَا تَفْسِير {الر} وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ؛ غَيْرَ أَنَّ قَوْمًا مِنَ السَّلَفِ كَانُوا يَقُولُونَ: أَسْمَاءُ السُّور وفواتحها.
{تِلْكَ آيَات} هَذِهِ آيَاتُ {الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} الْمُحْكَمِ.(2/243)
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
{أَكَانَ للنَّاس عجبا} عَلَى الاسْتِفْهَامِ {أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} عَذَابَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ فِي - الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا؛ وَهَذَا جوابٌ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ حِينَ قَالُوا: {إِن هَذَا لشيءٌ عُجاب} إِنَّهُ لَشَيْءٌ عَجَبٌ.
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْد رَبهم} يَعْنِي: عَمَلا صَالِحًا يُثَابُونَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: لَهُ عِنْدِي قدم صدق. (ل 136) وَقَدَمُ سوءٍ، وَلَهُ فِي(2/243)
هَذَا الأَمْرِ قدمٌ صَالِحَةٌ وقدمٌ حَسَنَةٌ وَكَأَنَّهُ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
(لَكُمْ قدمٌ لَا يُنْكِرُ النَّاسُ فَضْلَهَا ... مَعَ الْحَسَبِ الْعَادِيِّ طَمَّتْ على الْبَحْر}
أَي: ارْتَفَعت.
سُورَة يُونُس من الْآيَة (3) إِلَى الْآيَة (6) .(2/244)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} يَعْنِي: الْبَعْثَ {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} فِي الْمرجع إِلَيْهِ {إِنَّه يبدؤ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ} أَيْ: يُحْيِيهِ ثُمَّ يُمِيتُهُ، ثُمَّ يبدؤه فيحييه {ليجزي} لَكِي يَجْزِيَ {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات بِالْقِسْطِ} بِالْعَدْلِ يَجْزِيهِمُ الْجَنَّةَ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُم شرابٌ من حميم} وَهُوَ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ.(2/244)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَر نورا وَقدره منَازِل} أَيْ: جَعَلَ الْقَمَرَ مَنَازِلَ مِنَ النُّجُومِ، وَهِيَ: ثَمَانِيةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلَةً فِي كُلِّ شَهْرٍ يَعْنِي: الْقَمَرَ {لِتَعْلَمُوا عدد السنين والحساب} بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِك إِلَّا بِالْحَقِّ} أَيْ: إِنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ إِلَى الْمعَاد {يفصل الْآيَات} يبينها {لقوم يعلمُونَ} وهم الْمُؤْمِنُونَ(2/245)
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
{إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خلق الله فِي السَّمَاوَات} مِنْ شَمْسِهَا وَقَمَرِهَا وَنُجُومِهَا، وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي الأَرْضِ مِنْ جِبَالِهَا وَأَشْجَارِهَا وَثِمَارِهَا وَأَنْهَارِهَا {لآيَاتٍ لقوم يَتَّقُونَ} وهم الْمُؤْمِنُونَ.
سُورَة يُونُس من الْآيَة (7) إِلَى الْآيَة (10) .(2/245)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} أَيْ: لَا يَخَافُونَ الْبَعْثَ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ؛ لأَنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِالْبَعْثِ {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} لَا يقرونَ بِثَوَاب الْآخِرَة.(2/245)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
{إِن الَّذين آمنُوا وَاعْمَلُوا الصَّالِحَات يهْدِيهم رَبهم بإيمَانهمْ} قَالَ مُحَمَّدٌ: يَعْنِي: يُكُونُ لَهُمْ نورا يَمْشُونَ بِهِ.(2/245)
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
{دَعوَاهُم فِيهَا} أَيْ: قَوْلُهُمْ فِي الْجَنَّةِ: {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وتحيتهم فِيهَا سَلام} يَعْنِي: يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلامِ، وَتُحَيِّيهِمُ الْمَلائِكَةُ عَنِ اللَّهِ - عَزَّ(2/245)
وَجل - بِالسَّلَامِ {وَآخر دَعوَاهُم} قَوْلُهُمْ: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمين} أَوَّلُ كَلامِهِمِ التَّسْبِيحُ، وَآخِرُهُ الْحَمْدُ.
يَحْيَى: عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ:
قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُلْهَمُونَ الْحَمْدَ وَالتَّسْبِيحَ، كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ ".
سُورَة يُونُس من الْآيَة (11) إِلَى الْآيَة (14) .(2/246)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} وَهُوَ مَا يَدْعُو بِهِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ، وَلَوِ اسْتَجَابَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُ لأَهْلَكَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قِيلَ: الْمَعْنَى: لَوْ عَجَّلَ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ إِذَا دَعَوْا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَعَلَى أَهْلِيهِمْ وَأَوْلادِهِمْ وَاسْتَعْجَلُوا بِهِ كَمَا يَسْتَعْجِلُونَهُ بِالْخَيْرِ؛ إِذَا سَأَلُوهُ إِيَّاهُ؛ وَهُوَ مَعْنَى قَول يحيى.(2/246)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
{وَإِذا مس الْإِنْسَان} يَعْنِي: الْمُشْرِكَ {الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ} أَيْ: وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى جَنْبِهِ {أَو قَاعِدا أَو قَائِما} يَقُولُ: أَوْ دَعَانَا قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضرّ مَسّه} أَيْ: مَرَّ مُعْرِضًا عَنِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - الَّذِي كَشَفَ عَنْهُ الضُّرَّ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قِيلَ: الْمَعْنَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: مَرَّ فِي الْعَافِيَةِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُبْتَلَى، وَمَعْنَى (كَأَنْ) : كَأَنَّهُ.(2/247)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يُرِيدُ: مَنْ أُهْلِكَ مِنَ الْقُرُونِ السالفة {لما ظلمُوا} لَمَّا أَشْرَكُوا {وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} أَخْبَرَ بِعِلْمِهِ فِيهِمْ {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْم الْمُجْرمين} الْمُشْركين.(2/247)
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
{ثمَّ جَعَلْنَاكُمْ خلائف} يَعْنِي: خُلَفَاءَ {فِي الأَرْضِ مِنْ بعدهمْ} .
سُورَة يُونُس من الْآيَة (15) إِلَى الْآيَة (17) .(2/247)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
{قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} أَيْ: لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ {ائْتِ بقرآن غير هَذَا أَو بدله} أَي: أَو بدل آيَة الرَّحْمَن آيَةَ الْعَذَابِ، أَوْ بَدِّلْ آيَةَ الْعَذَابِ آيَةَ الرَّحْمَةِ.
قَالَ اللَّهُ - عز وَجل - لنَبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أبدله من تِلْقَاء نَفسِي} أَي: من عِنْدِي.(2/247)
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} أَيْ: وَلا أَعْلِمُكُمْ بِهِ (فَقَدْ(2/247)
لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ لَا أَدَّعِي هَذِه النُّبُوَّة.
سُورَة يُونُس من الْآيَة (18) إِلَى الْآيَة (20) .(2/248)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يضرهم} إِنْ لَمْ يَعْبُدُوهُ {وَلا يَنْفَعُهُمْ} إِنْ عَبَدُوهُ {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْد الله} أَيْ: أَنَّ الأَوْثَانَ تَشْفَعُ لَهُمْ - زَعَمُوا - عِنْدَ اللَّهِ؛ لِيُصْلِحَ لَهُمْ مَعَايشهمْ فِي الدُّنْيَا.
(ل 137) [ ... ] بِالْبَعْثِ {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْض} أَيْ: لَا يَعْلَمُ أَنَّ [ ... ] فِي الأَرْض إِلَهًا غَيره {سُبْحَانَهُ} ينزه نَفسه {وَتَعَالَى} مِنَ الْعُلُوِّ {عَمَّا يُشْرِكُونَ} .(2/248)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَة} يَعْنِي: عَلَى الإِسْلامَ مَا بَيْنَ آدَمَ إِلَى نُوحٍ؛ فِي تَفْسِيرِ قَتَادَة {فَاخْتَلَفُوا} لَمَّا أَتَتْهُمُ الأَنْبِيَاءُ، وَكَفَرَ بَعْضُهُمْ {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ لَوْلا أَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - قَضَى أَلا يُحَاسِبَ بِحِسَابِ الآخِرَةِ فِي الدُّنْيَا لحاسبهم فِي الدُّنْيَا؛ فَأَدْخَلَ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجنَّة، وَأهل النَّار النَّار.(2/248)
وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
{وَيَقُولُونَ لَوْلَا} هَلا {أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ ربه} يَعْنُونَ: الآيَاتِ الَّتِي كَانَتِ(2/248)
الأُمَمُ تَسْأَلُهَا أَنْبِيَاءَهَا {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْب لله} كَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} فَإِذَا شَاءَ أَنْزَلَهَا {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين} أَيْ: فَسَتَعْلَمُونَ بِمَنْ يَنْزِلُ الْعَذَابُ.
سُورَة يُونُس من الْآيَة (21) إِلَى الْآيَة (23) .(2/249)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
{وَإِذا أذقنا النَّاس} يَعْنِي: الْمُشْركين {رَحْمَة} عَافِيَةً {مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ} يَعْنِي: مِنْ بَعْدِ مرضٍ أَوْ شِدَّةٍ أَصَابَتْهُمْ {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتنَا} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: جُحُودًا وَتَكْذِيبًا لِدِينِنَا {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: عَذَابًا {إِنَّ رسلنَا} يَعْنِي: الْحَفَظَةَ {يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} يَعْنِي: الْمُشْركين.(2/249)
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفلك} فِي السُّفُنِ يَقُولُ هَذَا لِلْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بهَا جاءتها ريح عاصف} أَيْ: شَدِيدَةٌ - الآيَةَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أَيْ: أَنَّهُمْ مُغْرَقُونَ {دَعَوُا اللَّهَ} الْآيَة(2/249)
فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
{فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق} أَيْ:(2/249)
يَكْفُرُونَ وَيَعْمَلُونَ بِالْمَعَاصِي.
قَالَ مُحَمَّدٌ:
أَصْلُ الْبَغْيِ: التَّرَامِي فِي الْفَسَادِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: بَغَى الْجَرْحُ إِذَا تَرَامَى إِلَى فسادٍ، وَبَغَتِ الْمَرْأَةُ إِذا فجرت.
{يَا أَيهَا النَّاس} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفسكُم} يَعْنِي: ضُرًّا عَلَيْكُمْ؛ لأَنَّهُمْ يُثَابُونَ عَلَيْهِ النَّارَ {مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يَقُولُ: إِنَّمَا بَغْيُكُمْ وَكُفْرُكُمْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يَنْقَطِعُ فَتُرْجَعُونَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الرَّفْعُ فِي قَوْلِهِ: {مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} جَائِزٌ عَلَى مَعْنَى أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لَقَوْلِهِ: {بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} الْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِي تَنَالُونَهُ بِهَذَا الْفَسَادِ وَالْبَغْيِ إِنَّمَا تَتَمَتَّعُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا.
سُورَة يُونُس من الْآيَة (24) إِلَى الْآيَة (25) .(2/250)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَات الأَرْض} قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي: فَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَلْوَانًا مِنَ النَّبَاتِ {حَتَّى إِذَا أخذت الأَرْض زخرفها} يَعْنِي: حسنها {وازينت} يَعْنِي: تَزَيَّنَتْ بِنَبَاتِهَا مِنْ صُفْرَةٍ وخضرةٍ وحمرةٍ.(2/250)
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَصْلُ (الزُّخْرُفِ) : الذَّهَبُ، ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّقْشِ وَلِلنُّورِ وَالزِّينَةِ، وَكُلِّ شيءٍ زُيِّنَ: زخرفٌ.
{وَظَنَّ أَهلهَا أَنهم قادرون عَلَيْهَا} أَيْ: قَادِرُونَ عَلَى الانْتِفَاعِ بِمَا فِيهَا مِنْ زَرْعٍ.
{أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} أَيْ: ذَهَبَ مَا فِيهَا.
{كَأَنْ لم تغن بالْأَمْس} كَأَنْ لَمْ يَكُنْ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ زَرْعٍ بِالأَمْسِ قَائِمًا.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: كَأْنَ لَمْ تَكُنْ عَامِرَةٌ بِالأَمْسِ، الْمَغَانِي: الْمَنَازِلُ، وَاحِدُهَا مَغْنَى تَقُولُ: غَنَيْتُ بِالْمَكَانِ؛ إِذَا أَقَمْتُ بِهِ.
{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَات لقوم يتفكرون} يَقُولُ: فَالَّذِي أَنْبَتَ هَذَا الزَّرْعَ فِي الأَرْضِ الْمَوَاتِ، حَتَّى صَارَ زَرْعًا حَسَنًا، ثُمَّ أَهْلَكَهُ بَعْدَ حُسْنِهِ وَبَهْجَتِهِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يحي الْمَوْتَى، وَإِنَّمَا يَقْبَلُ ذَلِكَ وَيَعْقِلُهُ المتفكرون(2/251)
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} وَالسَّلامُ هُوَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - وَدَارُهُ الْجنَّة.
سُورَة يُونُس من الْآيَة (26) إِلَى الْآيَة (27) .(2/251)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
{للَّذين أَحْسنُوا} آمنُوا {الْحسنى} الْجنَّة {وَزِيَادَة} النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ.(2/251)
يَحْيَى: عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ [سَعْدٍ] قَالَ:
قَرَأَ أَبُو بكر الصّديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ الآيَةَ - أَوْ قُرِئَتْ عِنْدَهُ - فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الزِّيَادَة؟ (ل 138) الزِّيَادَةُ هِيَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ ".(2/252)
{وَلَا يرهق وُجُوههم} أَي: يغشى {قتر} .
قَالَ محمدٌ: الْقَتَرُ أَصْلُهُ: الْغَبْرَةُ الَّتِي فِيهَا سَواد.(2/253)
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
{وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} أَيْ: جَزَاءُ الشِّرْكِ: النَّارَ {كَأَنَّمَا أغشيت وُجُوههم قطعا} جَمْعُ: قِطْعَةٍ {مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} أَي: فِي حَال ظلمته.(2/253)
سُورَة يُونُس من الْآيَة (28) إِلَى الْآيَة (33) .(2/254)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)
{وَيَوْم نحشرهم} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ وَأَوْثَانَهُمْ جَمِيعًا {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وشركاؤكم} يَعْنِي: الْأَوْثَان {فزيلنا بَينهم} بِالسَّيِّئَاتِ، يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ عَلَى حِدَةٍ، وَالأَوْثَانَ عَلَى حدةٍ {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُم إيانا تَعْبدُونَ} الأَوْثَانُ تَقُولُ هَذَا لِلْمُشْرِكِينَ: مَا كَانَتْ عِبَادَتُكُمْ إِيَّانَا عَنْ دُعَاءٍ كَانَ مِنَّا لَكُمْ، وَإِنَّمَا دَعَاكُمْ إِلَى عِبَادَتِنَا الشَّيْطَانُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ النَّصْبُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجل: {مَكَانكُمْ} عَلَى الأَمْرِ، كَأَنَّهُمْ يُقَالُ لَهُمْ: انتظروا مَكَانكُمْ حَتَّى يفصل بَيْنَكُمْ؛ وَهِيَ كَلِمَةٌ جَرَتْ عَلَى الْوَعِيدِ؛ تَقُولُ الْعَرَبُ: (مَكَانَكَ) تَتَوَعَّدُ بِذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَزَيَّلْنَا بَينهم} أَيْ: مَيَّزْنَا؛ يُقَالُ: أَزَلْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ أُزِيلُهُ؛ أَيْ: مِزْتَهُ مِنْهُ أميزه.(2/254)
فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)
{فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا} لَقَدْ كُنَّا {عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ}(2/254)
قَالَ الْحَسَنُ: يَحْشُرُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الأَوْثَانَ الْمَعْبُودَةَ فِي الدُّنْيَا بِأَعْيَانِهَا، فَتُخَاصِمُ مَنْ كَانَ عَبَدَهَا(2/255)
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
{هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أسلفت} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: تُخْتَبَرُ ثَوَابَ مَا أَسْلَفَتْ فِي الدُّنْيَا. وَهِيَ تُقْرَأُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ (تَتَلُو) أَيْ: تَتَّبِعُ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هَذَا فِي الْبَعْثِ لَيْسَ أحدٌ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا مِنْ دُونِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلا وَهُوَ مرفوعٌ لَهُ {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُم الْحق} رَبُّهُمُ الْحَقُّ، وَالْحَقُّ اسمٌ مِنْ أَسمَاء الله عز وَجل.(2/255)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)
ثُمَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: (قل) لَهُمْ {مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْض} وَهُوَ عَلَى الاسْتِفْهَامِ {أَمَّنْ يَمْلِكُ السّمع والأبصار} أَيْ: يُذْهِبُهَا أَوْ يُبْقِيهَا. {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّت من الْحَيّ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: يُخْرِجُ النَّاسَ الأَحْيَاءَ مِنَ النُّطَفِ، وَالنُّطَفَ مِنَ النَّاسِ الأَحْيَاءِ، وَالأَنْعَامُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَالنَّبَاتُ مِثْلُ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمر} فِيمَا يُحْيِي وَيُمِيتُ وَيَقْبِضُ وَيَبْسُطُ {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} وَأَنْتُمْ تُقِرُّونَ بِاللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ هَذِهِ الأَشْيَاءَ، ثُمَّ لَا تَتَّقُونَهُ وَتَعْبُدُونَ هَذِه الْأَوْثَان من دونه!(2/255)
فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)
{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال} يَعْنِي: أَنَّ أَوْثَانَكُمْ ضلالٌ وباطلٌ {فَأنى تصرفون} فَكَيْفَ تُصْرَفُ عُقُولُكُمْ فَتَعْبُدُونَ غَيْرَهُ؟ !(2/255)
كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
{كَذَلِك حقت كَلِمَات رَبك} أَيْ: سَبَقَ قَضَاؤُهُ (عَلَى الَّذِينَ فسقوا(2/255)
أَنهم) {بِأَنَّهُم} (لَا يُؤمنُونَ} يَعْنِي: الَّذِينَ يَلْقَوْنَ اللَّهَ بِشِرْكِهِمْ.
سُورَة يُونُس من الْآيَة (34) إِلَى الْآيَة (36) .(2/256)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)
{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يبدؤ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ} أَيْ: مَنْ يَخْلُقُ، ثُمَّ يُمِيتُ، ثُمَّ يُحْيِي؛ أَيْ: أَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ.
{قُلِ اللَّهُ يبدؤ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} فَكيف تصرفون عَنهُ؟ !(2/256)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يهدي إِلَى الْحق} أَيْ: إِلَى الدِّينِ وَالْهُدَى؛ أَيْ: أَنَّهَا لَا تَفْعَلُ وَلا تَعْقِلُ {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلا أَن يهدى} أَيْ: أَنَّ الَّذِي يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ؛ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ.
قَالَ محمدٌ: قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يهدي} أَيْ: لَا يَهْتَدِي؛ فَأُدْغِمَ التَّاءُ فِي الدَّالِ. وَهِيَ تُقْرَأُ أَيْضًا (يَهْدِي) خَفِيفَةٌ؛ وَمَعْنَاهَا: يَهْتَدِي؛ يُقَالُ: هُدِيتُ الطَّرِيقَ؛ بِمَعْنَى: اهْتَدَيْتُ.(2/256)
{فَمَا لكم كَيفَ تحكمون} أَيْ: أَنَّكُمْ تُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - هُوَ الْخَالِقُ وَالرَّازِقُ (ل 139) ثُمَّ تَعْبُدُونَ الأَوْثَانَ مِنْ دُونِهِ!(2/257)
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا} أَيْ: يَعْبُدُونَ الأَوْثَانَ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى - زَعَمُوا - لِيُصْلِحَ لَهُمْ مَعَايِشَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَا يَفْعَلُونَ ذَلِك إِلَّا بِالظَّنِّ.
سُورَة يُونُس من الْآيَة (37) إِلَى الْآيَة (42) .(2/257)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)
{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآن أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} يَقُولُ: لمْ يَكُنْ أحدٌ يَسْتَطِيعُ أَن يفتريه؛ فَيَأْتِي يه مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَين يَدَيْهِ} مِنَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ} مِنَ الْحَلالِ وَالْحَرَامِ، وَالأَحْكَامِ، وَالْوَعْدِ والوعيد {لَا ريب فِيهِ} لَا شكّ فِيهِ.
قَالَ محمدٌ: قَوْله: {أَن يفترى} أَيْ: لأَنْ يُفْتَرَى، يَعْنِي: يُخْتَلَقُ. وَمَنْ قَرَأَ (تَصْدِيقُ) : هُوَ تصديقٌ، وَمَنْ نَصَبَ فَالْمَعْنَى: وَلَكِنْ كَانَ تَصْدِيقَ(2/257)
الَّذِي بَين يَدَيْهِ.(2/258)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
{أم يَقُولُونَ} أَيْ: أَنَّ مُحَمَّدًا افْتَرَى الْقُرْآنَ عَلَى الاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ: قَدْ قَالُوهُ قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: يَا مُحَمَّدُ {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} مثل هَذَا الْقُرْآن {وَادعوا} يَعْنِي: اسْتَعِينُوا {من اسْتَطَعْتُم} أَيْ: مَنْ أَطَاعَكُمْ {مِنْ دُونِ الله إِن كُنْتُم صَادِقين} أَيْ: لَسْتُمْ بِصَادِقِينَ، وَلا تَأْتُونَ بِسُورَة مثله.(2/258)
بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} أَيْ: لمْ يَكُنْ لَهُمْ علمٌ بِمَا كذبُوا {وَلما} أَي: وَلم يَأْتهمْ {تَأْوِيله} يَعْنِي: الْجَزَاءَ بِهِ؛ وَلَوْ قَدْ أَتَاهُمْ تَأْوِيلُهُ لآمَنُوا بِهِ؛ حَيْثُ لَا يَنْفُعُهُمُ الإِيمَانُ {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الظَّالِمين} كَانَ عَاقِبَتُهُمْ أَنْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ، ثُمَّ صيرهم إِلَى النَّار.(2/258)
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
{وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ من لَا يُؤمن بِهِ} أَيْ: وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ سَيُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} .(2/258)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
{فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} أَيْ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنْ عَمَلِي شَيْءٌ، وَلَيْسَ لِي مِنْ عَمَلِكُمْ شيءٌ.(2/258)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)
{وَمِنْهُم من يَسْتَمِعُون إِلَيْك} يَعْنِي: جَمَاعَةً يَسْتَمِعُونَ.
{أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ} وَهَذَا سمع الْقبُول.
سُورَة يُونُس من الْآيَة (43) إِلَى الْآيَة (52) .(2/258)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)
{وَمِنْهُم من ينظر إِلَيْك} أَيْ: يُقْبِلُ عَلَيْكَ بِالنَّظَرِ.
{أَفَأَنْتَ تهدي الْعمي} يَعْنِي: عَمَى الْقَلْبِ: {وَلَوْ كَانُوا لَا يبصرون} كَقَوْلِهِ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت} .(2/259)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
{وَيَوْم نحشرهم كَأَن لم يَلْبَثُوا} أَيْ: فِي الدُّنْيَا {إِلا سَاعَةً من النَّهَار} فِي طُوْلِ مَا هُمْ لابِثُونَ فِي النَّار {يَتَعَارَفُونَ بَينهم} أَيْ: يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
قَالَ الْحَسَنُ:
ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " ثَلاثَةُ مَوَاطِنَ لَا يَسْأَلُ فِيهَا أحدٌ أَحَدًا: إِذَا وُضِعَتِ الْمَوَازِينُ؛ حَتَّى يَعْلَمَ أَيُثْقُلُ مِيزَانُهُ أَمْ يَخِفُّ، وَإِذَا تَطَايَرَتِ(2/259)
الْكُتُبِ؛ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَأْخُذُ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ أَمْ بِشِمَالِهِ، وَعِنْدَ الصِّرَاطِ؛ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَجُوزُ الصِّرَاطَ أَمْ لَا يجوز ".(2/260)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا {أَوْ نتوفينك} فَيَكُونُ بَعْدَ وَفَاتِكَ {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} .(2/261)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رسولهم قضي بَينهم بِالْقِسْطِ} بِالْعَدْلِ؛ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ؛ يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، هُوَ كَقَوْلِهِ: {وَجِيءَ بالنبيين} .(2/261)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُم صَادِقين} يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ لِمَا كَانَ يَعِدُهُمْ بِهِ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم مِنْ عَذَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، فَكَانُوا يَسْتَعْجِلُونَهُ بِالْعَذَابِ استهزاءً وتكذيباً.(2/261)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نفعا} يُخْبِرُهُمْ أَنَّ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ لَيْسَ فِي يَدَيْهِ.
{لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجلهم فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة} عَنْ عَذَابِ اللَّهِ إِذَا نَزَلَ بهم {وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} الْعَذَاب قبل أَجله.(2/261)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بياتا} يَعْنِي: لَيْلا {أَوْ نَهَارًا مَاذَا يستعجل مِنْهُ المجرمون} .
قَالَ محمدٌ: {بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا} منصوبٌ عَلَى الْوَقْتِ، وَقَوْلُهُ: {مَاذَا يستعجل} الْمَعْنى: أَي شَيْء، وَقد يَجِيء بِمَعْنى: مَا الَّذِي يستعجل؟(2/261)
أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)
{أَثم إِذا مَا وَقع} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: حَتَّى إِذَا مَا نزل الْعَذَاب (ل 140) {آمنتم بِهِ الآين وَقد كُنْتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُون} أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ إِذَا آمَنُوا عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ الآنَ تَؤْمِنُونَ حِين لَا ينفعكم الْإِيمَان.(2/261)
سُورَة يُونُس من الْآيَة (53) إِلَى الْآيَة (56) .(2/262)
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
{ويستنبئونك} أَي: يستخبرونك {أَحَق هُوَ} يَعْنُونَ: الْقُرْآنَ {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} بِسَابِقِينَ فَلا يَقْدِرُ عَلَيْكُمْ فَيُعَذِّبَكُمْ.(2/262)
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)
{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} أشركت {مَا فِي الأَرْض} مِنْ ذَهَبٍ وفضةٍ {لافْتَدَتْ بِهِ} يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ.
{وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَاب} أَي دخلُوا فِيهِ {وَقضي بَينهم} أَي: فصل بَينهم {بِالْقِسْطِ} بِالْعَدْلِ.(2/262)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)
{أَلا إِن وعد الله} الَّذِي وَعَدَ فِي الدُّنْيَا {حَقٌّ} مِنَ الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ، وَالْوَعِيدِ بِالنَّارِ {وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ؛ وَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ.
سُورَة يُونُس من الْآيَة (57) إِلَى الْآيَة (61) .(2/262)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)
{يَا أَيهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ ربكُم} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُور} يُذْهِبُ مَا فِيهَا مِنَ الْكُفْرِ والنفاق، {وَهدى} يَهْتَدُونَ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ {وَهُدًى وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين} فَأَمَّا الْكَافِرُونَ فَإِنَّهُ عَلَيهِمْ عذابٌ.(2/263)
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
{قل بِفضل الله وبرحمته} قتال قَتَادَةُ: فَضْلُ اللَّهِ: الإِسْلامُ، وَرَحْمَتُهُ: الْقُرْآن {فبذلك فليفرحوا} تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ: فَلْيَفْرَحُوا؛ يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ.
{هُوَ خير مِمَّا يجمعُونَ} مِمَّا يجمع الْكفَّار(2/263)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وحلالا} مَا حَرَّمُوا مِنَ الأَنْعَامِ وَمِنْ زُرُوعهمْ.
{قل آللَّهُ أذن لكم} أَيْ: أَمَرَكُمْ بِمَا صَنَعْتُمْ مِنْ ذَلِكَ؟ أَيْ: أَنَّهُ لمْ يَفْعَلْ {أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}(2/263)
وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
ثُمَّ أَوْعَدَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَهُوَ عَلَى الاسْتِفَهَامِ؛ يَقُولُ: ظُنُّهُمْ أَنَّ اللَّهَ سَيُعَذِّبُهُمْ، وَظَنُّهُمْ ذَلِكَ فِي الآخِرَةِ يَقِينٌ مِنْهُمْ؛ وَقَدْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا لَا يُقِرُّونَ بِالْبَعْثِ؛ فَلَمَّا صَارُوا إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - سَيُعَذِّبُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاس} بِمَا يُنْعِمُ عَلَيْهِمْ، وَبِمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يشكرون} يَعْنِي: لَا يُؤمنُونَ.(2/263)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
{وَمَا تكون فِي شَأْن} مِنْ حَوَائِجِكَ لِلدُّنْيَا {وَمَا تَتْلُو مِنْهُ من قُرْآن} خَاطب بِهَذَا النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَلَا تَعْمَلُونَ} يَعْنِي: الْعَامَّةَ {مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ شاهدٌ لأَعْمَالِهِمْ {وَمَا يعزب عَن رَبك} أَيْ: يَغِيبُ عَنْ رَبِّكَ {مِنْ مِثْقَال ذرة} وَزْنُ ذَرَّةٍ {فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاء} حَتَّى لَا يَعْلَمُهُ وَيَعْلَمُ مَوْضِعَهُ {وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} بَيَّنٌ عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ.(2/263)
قَالَ محمدٌ:
مَنْ قَرَأَ: {وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ} بِالْفَتْحِ - فَالْمَعْنَى: مَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، وَلا مِثْقَالٍ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ؛ وَفَتَحَ لأَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ. وَمَنْ رَفَعَ، فَالْمَعْنَى: مَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ.
سُورَة يُونُس من الْآيَة (62) إِلَى الْآيَة (65) .(2/264)
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} .
يحيى: عَن أُمَيَّةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كُثَيْرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ:
أَنَّ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ سَأَلَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ، فَقَالَ: هِيَ الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ، أَوْ تُرَى لَهُ ".(2/264)
وَقَوله: {وَفِي الْآخِرَة} يَعْنِي: الْجَنَّةَ {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} النجَاة الْعَظِيمَة من النَّار.(2/265)
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
{وَلَا يحزنك قَوْلهم}
يَقُولُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ لَهُ: إِنَّكَ مجنونٌ، وَإِنَّكَ ساحرٌ، وَإِنَّكَ كاذبٌ، وَإِنَّكَ شاعرٌ.
{إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} فينصرك عَلَيْهِم.(2/265)
سُورَة يُونُس من الْآيَة (66) إِلَى الْآيَة (70) .(2/266)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)
{أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض}
قَالَ محمدٌ: (أَلا) افْتِتَاحُ كَلامٍ وَتَنْبِيهٌ؛ أَيْ: لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَات وَمَنْ فِي الأَرْضِ، يَفْعَلُ فِيهِمْ وَبِهِمْ مَا يَشَاءُ.
{وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاء} يَقُولُ: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَيْسُوا بِشُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى.
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِن هم إِلَّا يخرصون} يَقُولُ: يَعْبُدُونَ أَوْثَانَهُمْ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - زُلْفَى، وَمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ بعلمٍ، إِن هُوَ مِنْهُم (ل 141) إِلا ظَنٌّ، وَإِنْ هُمْ إِلا يكذبُون(2/266)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لتسكنوا فِيهِ} يَعْنِي: لِتَسْتَقِرُّوا فِيهِ مِنَ النَّصَبِ {وَالنَّهَار مبصرا} أَيْ: مُنِيرًا لِتَبْتَغُوا فِيهِ مَعَايِشَكُمْ.
قَالَ محمدٌ: قيل: {مبصرا} يَعْنِي: مُبْصَرًا فِيهِ؛ كَمَا تَقُولُ: ليلٌ نَائِمٌ،(2/266)
وَإِنَّمَا ينَام فِيهِ.(2/267)
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)
{إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} أَيْ: مَا عِنْدَكُمْ مِنْ حُجَّةٍ بِهَذَا الَّذِي قُلْتُمْ {أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لَا تعلمُونَ} أَيْ: نَعَمْ، قَدْ قُلْتُمْ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(2/267)
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)
{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِب لَا يفلحون} ثمَّ انْقَطع الْكَلَام(2/267)
مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
{مَتَاع فِي الدُّنْيَا} يَقُولُ: الدُّنْيَا وَمَا هُمْ فِيهِ متاعٌ يَسْتَمْتِعُونَ بِهِ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ إِذَا فَارَقُوا الدُّنْيَا.
قَالَ محمدٌ: {مَتَاع} مرفوعٌ عَلَى مَعْنَى: ذَلِكَ متاعٌ فِي الدُّنْيَا.
سُورَة يُونُس من الْآيَة (71) إِلَى الْآيَة (74) .(2/267)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)
{يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مقَامي} بِالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ توكلت فَأَجْمعُوا أَمركُم وشركاءكم} أَيْ: وَأَجْمِعُوا شُرَكَاءَكُمْ {ثُمَّ لَا يكن أَمركُم عَلَيْكُم غمَّة} أَيْ: فِي سِتْرٍ، لِيَكُنْ ذَلِكَ عَلانِيَةً.(2/267)
قَالَ محمدٌ: (غُمَّةٌ) مُشْتَقَّةٌ مِنَ: الْغَمَامَةِ الَّتِي تَسْتُرُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: " غُمَّ الْهِلالُ " وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (غُمَّةً) أَيْ: غَمًّا؛ يُقَالُ غمٌّ وغمةٌ.
قَالَتِ الْخَنْسَاءُ:
(وَذِي كربةٍ رَاخَى ابْنُ عمروٍ خِنَاقَهُ ... وَغُمَّتُهُ عَنْ وَجْهِهِ فَتَجَلَّتِ)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيّ} أَيْ: اجْهَدُوا جُهْدَكُمْ {وَلا تُنْظِرُونِ} طَرْفَةَ عَيْنٍ؛ أَيْ: أَنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ حِينَ قَالُوا: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نوح لتكونن من المرجومين} .(2/268)
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)
{فَإِن توليتم} أَعْرَضْتُمْ عَنِ الإِيمَانِ {فَمَا سَأَلْتُكُمْ} عَلَى مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الدِّينِ أَجْرًا، فَيَحْمِلُكُمْ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ.(2/268)
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
{فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفلك} فِي السَّفِينَة {وجعلناهم خلائف فِي الأَرْض} بعد الهالكين.(2/268)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
{فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} أَيْ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ {كَذَلِكَ نَطْبَعُ على قُلُوب الْمُعْتَدِينَ} الْمُشْركين.
سُورَة يُونُس من الْآيَة (75) إِلَى الْآيَة (82) .(2/268)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)
{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} يَعْنِي: الْيَد والعصا.(2/269)
قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)
{قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُم أَسحر هَذَا} قَالَ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} .(2/269)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
{قَالُوا أجئتنا لتلفتنا} لِتَصْرِفَنَا وَتُحَوِّلَنَا {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} يَعْنُونَ: أَنَّا وَجَدْنَاهُمْ عَبَدَةَ أَوْثَانٍ، فَنَحْنُ عَلَى دِينِهِمْ {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء} أَي: وتريد أَن تكون لَكَ وَلِهَارُونَ الْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ فِي الأَرْضِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْمُلْكُ كِبْرَيَاءُ؛ لأَنَّهُ أَكْبَرُ مَا يُطْلَبُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَأَصْلُ الْكِبْرِيَاء: العظمة.(2/269)
فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)
{قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر} قَالَ محمدٌ: (مَا) بِمَعْنَى الَّذِي؛ أَيْ: الَّذِي جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ.(2/269)
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
{ويحق الله الْحق} الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى {بِكَلِمَاتِهِ} بِوَعْدِهِ الَّذِي وَعَدَ مُوسَى يَعْنِي: قَوْلَهُ لَهُ: {لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْت الْأَعْلَى} .(2/269)
سُورَة يُونُس من الْآيَة (83) إِلَى الْآيَة (86) .(2/270)
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ من قومه} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: أَوْلادَ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى {عَلَى خَوْفٍ من فِرْعَوْن وملئهم} يَعْنِي: أَشْرَافهم {أَن يفتنهم} أَنْ يَقْتُلَهُمْ فِرْعَوْنُ {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لعال فِي الأَرْض} أَيْ: لباغٍ يَبْغِي عَلَيْهِمْ وَيَتَعَدَّى {وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} .(2/270)
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)
{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُم آمنتم بِاللَّه} وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ قَدْ آمَنُوا وَصَدَّقُوا، وَلَكِنَّهُ كلامٌ مِنْ كَلامِ الْعَرَبِ؛ تَقُولُ: إِنْ كُنْتَ كَذَا فَاصْنَعْ كَذَا؛ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا قَالَ لَهُ.(2/270)
فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)
{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمين} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَقُولُونَ: لَا تُعَذِّبْنَا بِأَيْدِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَلا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ، فَيَقُولُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ: لَوْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ مَا عُذِّبُوا، وَلا سُلِّطْنَا عَلَيْهِمْ؛ فَيُفْتَنُوا بِنَا.
سُورَة يُونُس من الْآيَة (87) إِلَى الْآيَة (89) .(2/270)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتكُمْ قبْلَة} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: أُمِرُوا أَنْ يَجْعَلُوا فِي بُيُوتِهِمْ مَسَاجِدَ مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ يُصَلَّونَ فِيهَا [سِرًّا، لَمَّا] خَافَ (ل 142) مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مِنْ فِرْعَوْنَ أَنْ يُصَلُّوا فِي الْكَنَائِسِ الْجَامِعَةِ.
{رَبنَا ليضلوا عَن سَبِيلك} هَذَا دعاءٌ عَلَيْهِمْ؛ يَقُولُ؛ رَبَّنَا فَأَضِّلَّهُمْ عَنْ سَبِيلِكَ؛ وَذَلِكَ حِينَ جَاءَ وَقت عَذَابهمْ [ ... ] عَلَيْهِم.(2/271)
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
{رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم} فَمُسِخَتْ دَنَانِيرُهُمْ وَدَرَاهِمُهُمْ وَزُرُوعُهُمْ حِجَارَةً {وَاشْدُدْ على قُلُوبهم} بالضلالة {فَلَا يُؤمنُوا} دُعَاءٌ أَيْضًا {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيم} فَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يُؤْمِنُوا.
سُورَة يُونُس من الْآيَة (90) إِلَى الْآيَة (93) .(2/271)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْن وَجُنُوده بغيا وعدوا} العَدْوُ: العُدْوَانُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: {فأتبعهم فِرْعَوْن} أَيْ: لَحِقَهُمْ؛ يُقَالُ: أَتْبَعْتُ الْقَوْمَ:(2/271)
لَحِقْتُهُمْ، وَتَبِعْتُهُمْ: جِئْتُ فِي إِثْرِهِمْ.
{حَتَّى إِذا أدْركهُ الْغَرق} الْآيَة(2/272)
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)
يَقُول الله - عز وَجل -: {آلآن وَقد عصيت} لأَنَّهُ آمَنَ فِي حِينٍ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ فِيهِ الإِيمَانَ؛ وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلَ الْإِيمَانُ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ.(2/272)
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
{فاليوم ننجيك ببدنك} تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: بِجَسَدِكَ، فَقَذَفَهُ الْبَحْرُ عُرْيَانًا عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ {لِتَكُونَ لمن خَلفك} لمن بعْدك {أيه} فَيُعْلَمُ أَنَّكَ عبدٌ ذليلٌ قَدْ أَهْلَكَكَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَغَرَّقَكَ {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتنَا لغافلون} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ لَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهَا وَلَا ينظرُونَ.(2/272)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صدق} أَيْ: أَنْزَلْنَاهُمْ مَنْزِلَ صِدْقٍ {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُم الْعلم} هِيَ كَقَوْلِهِ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُم الْبَينَات} .
سُورَة يُونُس من الْآيَة (94) إِلَى الْآيَة (97) .(2/272)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)
{فَإِنْ كُنْتَ فِي شكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكتاب من قبلك} يَعْنِي: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ.(2/272)
قَالَ قَتَادَة:
ذكر لنا أَن نَبِي اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " لَا أَشُكُّ وَلا أَسْأَلُ ".
{لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تكونن من الممترين} يَعْنِي: الشاكين.(2/273)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96)
{إِن الَّذين حقت عَلَيْهِم (كَلِمَات} رَبك لَا يُؤمنُونَ} الآيَةَ، هُمُ الَّذِينَ يَلْقَوْنَ اللَّهَ - عز وَجل - بكفرهم.
سُورَة يُونُس من الْآيَة (98) إِلَى الْآيَة (99) .(2/273)
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
{فلولا} فَهَلا {كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمَانهَا} تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: يَقُولُونَ: لمْ يَكُنْ هَذَا فِي الأُمَمِ؛ لمْ يَنْفَعْ قَرْيَةٌ كَفَرَتْ ثُمَّ آمَنَتْ حِينَ عَايَنَتْ عَذَابَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كشفنا عَنْهُم عَذَاب الخزي} قَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ قَوْمَ يُونُسَ كَانُوا بِمَوْضِعٍ مِنْ أَرْضِ " الْمَوْصِلِ " فَلَمَّا فَقَدُوا نَبِيَّهُمْ، قَذَفَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي قُلُوبِهِمِ التَّوْبَةَ، فَلَبِسُوا الْمُسُوحَ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ بَهِيمَةٍ وَوَلَدِهَا، فَعَجُّوا إِلَى اللَّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَلَمَّا عَرَفَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الصَّدْقَ من قُلُوبِهِمْ، وَالتَّوْبَةَ وَالنَّدَامَةَ مِنْهُمْ عَلَى مَا مَضَى كَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ(2/273)
بَعْدَ مَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ.
قَالَ يحيى: بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَذَابِ أَرْبَعَةُ أميالٍ.
وَقَوْلُهُ: {ومتعناهم إِلَى حِين} يَعْنِي: إِلَى الْمَوْتِ بِغَيْرِ عَذَابٍ.(2/274)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤمنين} أَيْ: لَا تَسْتَطِيعُ فِعْلَ ذَلِكَ إِنَّمَا يُؤْمِنُ مَنْ يُرِيدُ اللَّهُ - عز وَجل - أَن يُؤمن.
سُورَة يُونُس من الْآيَة (100) إِلَى الْآيَة (104) .(2/274)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ على الَّذين لَا يعْقلُونَ} يَعْنِي: رجاسة الْكفْر.(2/274)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)
{قل انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَات} مِنْ شَمْسِهَا وَقَمَرِهَا وَنُجُومِهَا، وَمَا فِيهَا من الْعَجَائِب {وَالْأَرْض} مِنْ بِحَارِهَا وَشَجَرِهَا وَجِبَالِهَا؛ فَفِي هَذِهِ آياتٌ وَحُجَجٌ عِظَامٌ {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤمنُونَ} إِذَا لمْ يَقْبَلُوهَا، وَيَتَفَكَّرُوا فِيهَا.(2/274)
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)
{فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذين خلوا من قبلهم} يَعْنِي: وَقَائِعَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي الأُمَمِ السَّالِفَةِ الَّتِي أَهْلَكَهُمْ بِهَا حِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ.
{قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} أَيْ: سَيَنْزِلُ بِكُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ؛ أَخَرَّ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَذَابَ آخِرِ كُفَّارِ هَذِهِ الأُمَّةِ إِلَى (ل 143) النَّفْخَةِ الأُولَى(2/274)
بِهَا يَكُونُ هَلاكُهُمْ، وَلَمْ يُهْلِكْهُمْ حِينَ كَذَّبُوا النَّبِيَّ بِعَذَابِ الاسْتِئْصَالِ، كَمَا أَهْلَكَ مَنْ قَبْلَهُمْ بِعَذَابِ الاسْتِئْصَالِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أحدٌ.(2/275)
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
{ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} يَقُولُ: كُنَّا إِذَا أَهْلَكْنَا قَوْمًا أنجينا النَّبِي وَالْمُؤمنِينَ، الْآيَة.(2/275)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)
{قل يَا أَيهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ من ديني} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ {فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبدُونَ من دون الله} الْآيَة.
سُورَة يُونُس من الْآيَة (105) إِلَى الْآيَة (109) .(2/275)
وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
{وَأَن أقِم وَجهك} أَيْ: وِجْهَتِكَ إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا من الظَّالِمين} أَي: وَلست فَاعِلا.(2/275)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
{يَا أَيهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ ربكُم} يَعْنِي: الْقُرْآنَ {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يضل عَلَيْهَا} وَهِيَ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فعلَيْهَا} .
{وَمَا أَنا عَلَيْكُم بوكيل} بِحَفِيظٍ لِأَعْمَالِكُمْ؛ حَتَّى أُجَازِيَكُمْ بِهَا، إِنَّمَا أَنَا(2/275)
منذرٌ أبلغكم رِسَالَة رَبِّي.(2/276)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
{واصبر} عَلَى مَا يَقُولُ لَكَ الْمُشْرِكُونَ {حَتَّى يحكم الله} فَيَأْمُرَكَ بِالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ {وَهُوَ خَيْرُ} أفضل {الْحَاكِمين} .(2/276)
تَفْسِيرُ سُورَةِ هُودٍ وَهِيَ مَكِّيَةٌ كلهَا
سُورَة هود من الْآيَة (1) إِلَى الْآيَة (4) .(2/277)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
قَوْله عز اسْمه: {آلر كتبٌ} أَيْ: هَذَا كتابٌ {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} يَعْنِي: الْقُرْآن {ثمَّ فصلت} بُيِّنَتْ؛ بُيِّنَ فِيهَا حَلالُهُ وَحَرَامُهُ وطاعته ومعصيته {من لدن} من عِنْد {حَكِيم} أحكمه بِعِلْمِهِ {خَبِير} بأعمال الْعباد.(2/277)
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)
{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لكم مِنْهُ نَذِير} يَقُولُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قُلْ:
لَا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ؛ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ؛ أُنْذِرَكُمْ عِقَابَهُ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا {وَبَشِيرٌ} بِالْجنَّةِ لمن آمن.(2/277)
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
{وَأَن اسْتَغْفرُوا ربكُم} مِنَ الشِّرْكِ.
{يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أجل مُسَمّى} يَعْنِي: الْمَوْتَ، وَلا يَهْلِكَهُمْ بِالْعَذَابِ.
{وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} كَقَوْلِهِ: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} {وَإِن توَلّوا} عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ، فَيُكَذِّبُوا بِهِ {فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِير} .(2/277)
سُورَة هود من الْآيَة (5) فَقَط.(2/278)
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
{أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} .
قَالَ الْحَسَنُ: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ؛ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ بِذَلِكَ؛ يَظُنُّونَ أَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - لَا يَعْلَمُ الَّذِي يَسْتَخْفُونَ بِهِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَعْنَى {يثنون صُدُورهمْ} : يَطْوُونَ مَا فِيهَا وَيَسْتُرُونَهُ.
{أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يسرون وَمَا يعلنون} قَالَ مُحَمَّدٌ: مَعْنَى {يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} : يَسْتَتِرُونَ بِهَا؛ يُقَالُ: اسْتَغْشَيْتُ ثَوْبِي وتغشيته.
سُورَة هود من الْآيَة (6) فَقَط.(2/278)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
{وَيعلم مستقرها ومستودعها} تَفْسِيرُ ابْنِ مَسْعُودٍ: مُسْتَقَرُّهَا: الأَرْحَامُ، وَمُسْتَوْدَعُهَا: الأَرْضُ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا.
يحيى: عَنْ صَاحِبٍ لَهُ، عَنْ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
إِذَا أَرَادَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يَقْبِضَ عَبْدًا بأرضٍ جَعَلَ لَهُ بِهَا حَاجَةً؛ فَإِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَتِ الأَرْضُ: رَبِّ هَذَا مَا اسْتَوْدَعْتَنِي ".(2/278)
سُورَة هود من الْآيَة (7) فَقَط.(2/279)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
{ليبولكم} لِيَخْتَبِرَكُمْ بِالأَمْرِ وَالنَّهْيِ {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عملا} فِيمَا ابْتَلاكُمْ بِهِ مِنَ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: يَخْتَبِرُكُمُ الاخْتِبَارَ الَّذِي يُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ؛ وَهُوَ قَدْ عَلِمَ قَبْلَ ذَلِكَ أَيُّهُمْ أحسن عملا.
سُورَة هود من الْآيَة (8) إِلَى الْآيَة (12) .(2/280)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أمة مَعْدُودَة} أَيْ: إِلَى حينٍ مَعْدُودٍ.(2/280)
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْحِينُ أُمَّةً؛ لأَنَّ الأُمَّةَ مِنَ النَّاس تنقرض فِي حِين.
{ليقولون مَا يحْبسهُ} قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} أَيْ: لَيْسَ يَسْتَطِيعُ أحدٌ أَنْ يصرفهُ عَنْهُم {وحاق بهم} أَحَاطَ بِهِمْ {مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون} يَعْنِي: عَذَابَ الآخِرَةِ؛ فِي تَفْسِيرِ الْكَلْبِيّ.(2/281)
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)
{وَلَئِن أذقنا الْإِنْسَان} يَعْنِي: الْمُشرك {منا رَحْمَة} يَعْنِي: صِحَّةً وَسِعَةً فِي الرِّزْقِ {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ} من رَحْمَة الله (ل 144) أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ فَيُصِيبُهُ رَخَاءٌ بعد شدَّة {كفور} لنعمة الله تَعَالَى.(2/281)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مسته} أَيْ: عَافَيْنَاهُ مِنْ تِلْكَ الضَّرَّاءِ الَّتِي نزلت بِهِ {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} ذَهَبَ الضُّرُّ عَنِّي {إِنَّهُ لَفَرِحٌ} بالدنيا {فخور} يَقُولُ: لَيْسَتْ لَهُ حسبةٌ عِنْدَ ضَرَّاءَ، وَلا شُكْرٌ عِنْدَ سَرَّاءَ(2/281)
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
{إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} اسْتَثْنَى اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَهْلَ الإِيمَانِ؛ أَيْ: أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ الَّذِي بَيَّنَ مِنْ فِعْلِ الْمُشْرِكِينَ.(2/281)
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْك} خَاطَبَ بِهَذَا النَّبِيَّ؛ فَلا تُبَلِّغْ عَنِّي مَخَافَةَ قَوْمِكَ {وَضَائِقٌ بِهِ صدرك أَن يَقُولُوا} بِأَنْ يَقُولُوا {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كنز} هَلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مالٌ؛ فَإِنَّهُ فَقِيرٌ {أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} فَيُخْبِرُنَا أَنَّهُ رسولٌ {إِنَّمَا أَنْتَ نذيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شيءٍ وَكيل} حفيظٌ لأَعْمَالِهِمْ؛ حَتَّى يُجَازِيهِمْ بِهَا.(2/281)
سُورَة هود من الْآيَة (13) إِلَى الْآيَة (14) .(2/282)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
{أم يَقُولُونَ افتراه} افْتَرَى مُحَمَّدٌ الْقُرْآنَ: اخْتَلَقَهُ؛ أَيْ: قَدْ قَالُوا ذَلِكَ.
{قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أَيِ: اسْتَعِينُوا مَنْ أَطَاعَكُمْ مِنْ دون الله.(2/282)
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
{فَإِن لم يَسْتَجِيبُوا لكم} فَيَأْتُوا بِعَشْرِ سورٍ مِثْلِهِ، وَلَنْ يَفْعَلُوا {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلِ بِعِلْمِ الله} أَي: من عِنْد الله.
سُورَة هود من الْآيَة (15) إِلَى الْآيَة (16) .(2/282)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزينتهَا} يَعْنِي: الْمُشْرِكَ لَا يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ
{نوف إِلَيْهِم أَعْمَالهم فِيهَا} يَعْنِي: جَزَاءَ حَسَنَاتِهِمْ {وَهُمْ فِيهَا لَا يبخسون} لَا يُنْقَصُونَ حَسَنَاتِهِمِ الَّتِي عَمِلُوا.(2/282)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
{وحبط مَا صَنَعُوا فِيهَا} بَطَلَ مَا عَمِلُوا فِي الدُّنْيَا مِنْ حسناتٍ فِي الآخِرَةِ؛ لأَنَّهُمْ جوزوا بهَا فِي الدُّنْيَا.
سُورَة هود من الْآيَة (17) فَقَط.(2/282)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ ربه} أَيْ: بَيَانٍ وَيَقِينٍ؛ يَعْنِي: مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلامُ {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: جِبْرِيلُ شاهدٌ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَمِنْ قَبْلِهِ} مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ {كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَة} يَعْنِي: لِمَنْ آمَنَ بِهِ.
يَقُولُ: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهدٌ مِنْهُ؛ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَكْفُرُ بِالْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ؟ ! أَيْ: أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ محمدٌ: يَجُوزُ النَّصْبُ فِي قَوْله: {إِمَامًا وَرَحْمَة} عَلَى الْحَالِ.
{أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ يَؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ {وَمَنْ يكفر بِهِ من الْأَحْزَاب} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى {فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} {فَلا تَكُ فِي مرية مِنْهُ} فِي شِكٍّ أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِهِ؛ فَالنَّار موعده.
سُورَة هود من الْآيَة (18) إِلَى الْآيَة (19) .(2/283)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كذبا} أَي: لَا أحد أظلم مِنْهُ؛ وَافْتِرَاؤُهُمْ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - أَنْ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَمرهم بِمَا هُم عَلَيْهِ من عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَتَكْذِيبِهِمْ بمحمدٍ. {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ} الأَنْبِيَاءُ {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبهم} الْآيَة.
سُورَة هود من الْآيَة (20) إِلَى الْآيَة (22) .(2/283)
أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْض} يَسْبِقُونَا حَتَّى لَا نَبْعَثَهُمْ، ثُمَّ نُعَذِّبَهُمْ. {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دون الله من أَوْلِيَاء} يَمْنَعُونَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
{يُضَاعَفُ لَهُم الْعَذَاب} فِي النَّارِ {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمع} سَمْعَ الْهُدَى؛ يَعْنِي: سَمْعَ قَبُولٍ إِذْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا {وَمَا كَانُوا يبصرون} الْهدى.(2/284)
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21)
{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 6 يَعْنِي: أَوْثَانَهَمْ ضَلَّتْ عَنْهُمْ؛ فَلَمْ تغن عَنْهُم شَيْئا(2/284)
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
{لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هم الأخسرون} {لَا جَرَمَ} كَلِمَةُ وَعِيدٍ.
قَالَ محمدٌ: جَاءَ عَنِ ابْن عَبَّاس؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَعْنَاهَا: حَقًّا. وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: (جَرَمَ) مَعْنَاهَا: حَقٌّ، وَدَخَلَتْ لَا لِلنَّفْيِ، كَأَنَّ الْمَعْنَى: لَا يَنْفُعُهُمْ ذَلِكَ حَقٌّ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ.
وَأَنْشَدَ [ ... ]
(وَلَقَدْ طَعَنْتَ أَبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً ... جَرَمَتْ فَزَارَةَ بَعْدَهَا أَنْ يَغْضَبُوا}
يَقُولُ: [أَحَقَّتِ الطَّعْنَةُ فَزَارَةَ] الْغَضَبَ.
قَالَ محمدٌ: وَأَنْشَدَ قُطْرُبٌ: جَرَمَتْ (فَزَارَةُ بَعْدَهَا أَنْ يغضبوا) .(2/284)
(ل 145) حق لَهُم الْغَضَب.
سُورَة هود من الْآيَة (23) إِلَى الْآيَة (24) .(2/285)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
{وأخبتوا إِلَى رَبهم} أَي: أنابوا مُخلصين:(2/285)
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ والسميع هَل يستويان مثلا} أَي لَا يستويان مثل الْكَافِرُ مِثْلُ الأَعْمَى وَالأَصَمِّ؛ لأَنَّهُ أَعْمَى أَصَمُّ عَنِ الْهُدَى، وَالْبَصِيرُ وَالسَّمِيعُ مِثْلُ الْمُؤْمِنِ؛ لأَنَّهُ أَبْصَرَ الْهُدَى وَسَمِعَهُ؛ يَقُولُ: فَكَمَا لَا يَسْتَوِي عِنْدَكُمُ الأَعْمَى وَالأَصَمُ وَالْبَصِيرُ وَالسَّمِيعُ فِي الدُّنْيَا؛ فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَوِيَانِ عِنْدَ اللَّهِ فِي الدِّينِ.
سُورَة هود من الْآيَة (25) إِلَى الْآيَة (28) .(2/285)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
{وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هم أراذلنا} سفلتنا {بَادِي الرَّأْي} أَيْ: فِيمَا يَظْهَرُ لَنَا {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} فِي الدِّينِ {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} يَعْنُونَ: نَوْحًا وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ.(2/285)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} عَلَى بَيَانٍ {وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْده} يَعْنِي بِالرَّحْمَةِ: النُّبُوَّةَ {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أَنْ تُبْصِرُوهَا بِقُلُوبِكُمْ(2/285)
وَتَقْبَلُوهَا {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} .
سُورَة هود من الْآيَة (29) إِلَى الْآيَة (31) .(2/286)
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)
{وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} يَعْنِي: عَلَى مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ من الْهدى {مَالا} فَإِنَّمَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى تَرْكِ الْهُدَى الْمَالُ الَّذِي أَسْأَلُكُمُوهُ.
{إِنْ أَجْرِيَ} ثَوَابِي {إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ ملاقو رَبهم} فيحاسبهم بأعمالهم.(2/286)
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
{وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ الله} أَي: خَزَائِن علم الله {وَلَا أَقُول للَّذين تزدري أعينكُم} .
قَالَ محمدٌ: (تزدري) أَيْ: تَسْتَقِلُّ وَتَسْتَخِسُّ.
{لَنْ يُؤْتِيَهُمُ الله خيرا} فِي الْعَاقِبَةِ؛ أَيْ: أَنَّهُ سَيُؤْتِيهِمْ بِذَلِكَ خَيْرًا؛ إِنْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ صَادِقَة.
سُورَة هود من الْآيَة (32) إِلَى الْآيَة (37) .(2/286)
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا} ماريتنا {فَأَكْثَرت جدالنا} .
{إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يغويكم} يُضِلَّكُمْ.
قَالَ محمدٌ: (يُغْوِيَكُمْ) : أَصْلُهُ يُهْلِكَكُمْ؛ تَقُولُ الْعَرَبُ: أَغْوَيْتُ فُلانًا؛ أَيْ: أَهْلَكْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: غَوَى الْفَصِيلُ؛ إِذَا فَقَدَ اللَّبَنَ، فَمَاتَ.(2/287)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
{أم يَقُولُونَ افتراه} إِنَّ مُحَمَّدًا افْتَرَى الْقُرْآنَ {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بريءٌ مِمَّا تجرمون} يَقُولُ: فَعَلَيَّ عَمَلِي، وَأَنَا بريءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ.
قَالَ محمدٌ: الإِجْرَامُ: الإِقْدَامُ عَلَى الذَّنْبِ؛ وَهُوَ مَصْدَرُ أجرمت.(2/287)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قد آمن} قَالَ قَتَادَةُ: ذَلِكَ حِينَ دَعَا عَلَيْهِمْ؛ فَقَالَ: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} .
{فَلَا تبتئس} أَيْ: لَا تَحْزَنْ لَهُمْ {بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .(2/287)
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
{واصنع الْفلك بأعيننا ووحينا} كَمَا نَأْمُرُكَ بِعَمَلِهَا {وَلا تُخَاطِبْنِي} تراجعني {فِي الَّذين ظلمُوا} أنفسهم بشركهم.
سُورَة هود من الْآيَة (38) إِلَى الْآيَة (40) .(2/287)
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
{ويصنع الْفلك} السَّفِينَةَ {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ من قومه سخروا مِنْهُ} عَمِلَ نوحٌ الْفُلْكَ بِيَدِهِ، فَكَانَ يَمُرُّ عَلَيْهِ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ فَيَقُولُونَ لَهُ اسْتِهْزَاءً بِهِ: يَا نُوحُ، بَيْنَمَا أَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِذْ صِرْتَ نَجَّارًا.
{قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: نَسْتَجْهِلُكُمْ كَمَا تَسْتَجْهِلُونَ.
قَالَ يحيى:
وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ قَوْمِهِ يَأْخُذُ بِيَدِ ابْنِهِ، فَيَذْهَبُ بِهِ إِلَى نوحٍ فَيَقُولُ: أَيْ بُنَيَّ، لَا تُطِعْ هَذَا؛ فَإِنَّ أَبِي قَدْ ذَهَبَ بِي إِلَيْهِ وَأَنَا مِثْلُكَ فَقَالَ: أَيْ بني لَا تُطِع هَذَا.(2/288)
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يخزيه} يَعْنِي: عَذَابَ الدُّنْيَا {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَاب مُقيم} دائمٌ.(2/288)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
{حَتَّى إِذا جَاءَ أمرنَا} يَعْنِي: عذابنا {وفار التَّنور} (التَّنُّورُ) فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ: الْبَابُ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ مَاءُ السَّفِينَةِ، فَفَارَ مِنْهُ الْمَاءُ وَالسَّفِينَةُ عَلَى الأَرْضِ، فَكَانَ ذَلِكَ عَلامَةً لإِهْلاكِ الْقَوْمِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمُ: التَّنُّورُ عَيْنُ مَاءٍ كَانَتْ بِالْجَزِيرَةِ، يُقَالُ لَهَا: التَّنُّورُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: كَانَ التَّنُّورُ فِي أَقْصَى دَارِهِ.
سعيدٌ: عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ التَّنُّورُ أَعْلَى الأَرْضِ.(2/288)
{قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أَيْ: احْمِلْ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ مِنْ (ل 146) كُلِّ صِنْفٍ، الْوَاحِدُ: زوجٌ، وَالاثْنَانِ: زَوْجَانِ، فَحَمَلَ فِيهَا مِنْ جَمِيعِ مَا خَلَقَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنَ الْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ وَالسِّبَاعِ وَدَوَابِّ الْبَرِّ وَالطَّيْرِ وَالشَّجَرِ، وَشَكَوْا إِلَى نوحٍ فِي السَّفِينَةِ الزُّبْلَ؛ فَأَوْحَى اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَى نوحٍ أَنْ يَمْسَحَ بِيَدِهِ عَلَى ذَنَبِ الْفِيلِ، فَفَعَلَ فَخَرَجَ مِنْهُ خِنْزِيرَانِ، فَكَانَا يَأْكُلانِ الزُّبْلَ، وَشَكَوْا إِلَى اللَّهِ الْفَأْرَةَ فَأَوْحَى اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَى الأَسَدِ - أَلْقَى فِي قَلْبِهِ - فَعَطَسَ الأَسَدُ فَخَرَجَ مِنْ مُنْخَرَيْهِ سِنَّوْرَانِ، فَكَانَا يَأْكُلانِ الْفَأْرَةَ، وَشَكَوْا إِلَى نُوحٍ عَرَامَةَ الأَسَدِ، فَدَعَا عَلَيْهِ نوحٌ فَسَلَّطَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَيْهِ الحُمَّى.
قَالَ الْحَسَنُ: وَكَانَ طُولُ السَّفِينَةِ فِيمَا بَلَغَنَا أَلْفَ ذِرَاعٍ وَمِائَتَيِ ذِرَاعٍ، وعرضها سِتّمائَة ذِرَاعٍ.
يحيى: قَالَ بَعْضُهُمْ: وَكَانَ رَأْسُهَا مِثْلَ رَأْسِ الْحَمَامَةِ، وَذَنَبُهَا كَذَنَبِ الدِّيكِ مُطَّبَقَةٌ تَسِيرُ مَا بَيْنَ الْمَاءَيْنِ: مَاءُ السَّمَاءِ، وَمَاءُ الأَرْضِ.
قَالَ يحيى: وَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ فِي السَّفِينَةِ ثَلاثَةُ أَبْوَابٍ: بابٌ لِلسِّبَاعِ وَالطَّيْرِ، وبابٌ لِلْبَهَائِمِ، وبابٌ لِلنَّاسِ، وَفُصِلَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ: بِجَسَدِ آدَمَ حَمَلَهُ نوحٌ مَعَهُ.(2/289)