أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ نَكِيرٌ فَظُهُورُ رِوَايَتِهَا وَإِطْبَاقُهُمْ عَلَى صِحَّتِهَا وَقَبُولُهُمْ لَهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى صِحَّةِ عَقِيدَةِ أَهْلِ الْحَقِّ وَفَسَادِ دِينِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنْ قَالُوا قَدْ وَرَدَتْ نُصُوصٌ مِنَ الْكِتَابِ بِمَا يُوجِبُ رَدَّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ مِثْلُ قَوْلِهِ" مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ" [غافر: 18] . قَالُوا: وَأَصْحَابُ الْكَبَائِرِ ظَالِمُونَ. وَقَالَ:" مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ" «1» [النساء: 123] " وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ" [البقرة: 48] قُلْنَا لَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَامَّةً فِي كُلِّ ظَالِمٍ وَالْعُمُومُ لَا صِيغَةَ لَهُ فَلَا تَعُمُّ هَذِهِ الْآيَاتُ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ سُوءًا وَكُلَّ نَفْسٍ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا الْكَافِرُونَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِدَلِيلِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ شَفَاعَةً لِأَقْوَامٍ وَنَفَاهَا عَنْ أَقْوَامٍ فَقَالَ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ" فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ" «2» [المدثر: 48] وقال" وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى " «3» [الأنبياء: 28] وَقَالَ" وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ" «4» [سبأ: 23] . فَعَلِمْنَا بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الشَّفَاعَةَ إِنَّمَا تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى" وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ
" النَّفْسُ الْكَافِرَةُ لَا كُلُّ نَفْسٍ. وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا بِعُمُومِ الْعَذَابِ لِكُلِّ ظَالِمٍ عَاصٍ فَلَا نَقُولُ إِنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا بِدَلِيلِ الْأَخْبَارِ الَّتِي رُوِّينَاهَا وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ" وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ" «5» [النساء: 48] وَقَوْلِهِ" إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ" [يوسف: 87] . فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى" وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى " وَالْفَاسِقُ غَيْرُ مُرْتَضًى قُلْنَا لَمْ يَقُلْ لِمَنْ لَا يَرْضَى وَإِنَّمَا قَالَ" لِمَنِ ارْتَضى " وَمَنَ ارْتَضَاهُ اللَّهُ لِلشَّفَاعَةِ هُمُ الْمُوَحِّدُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ" لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً «6» " [مريم 87] . وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا عَهْدُ اللَّهِ مَعَ خَلْقِهِ قَالَ (أَنْ يُؤْمِنُوا وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) . وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِلَّا مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَإِنْ قَالُوا الْمُرْتَضَى هُوَ التَّائِبُ الَّذِي اتَّخَذَ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا بِالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ اسْتَغْفَرُوا لَهُمْ وَقَالَ" فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ" [غافر: 7] وَكَذَلِكَ شَفَاعَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِنَّمَا هِيَ لِأَهْلِ التَّوْبَةِ دُونَ أَهْلِ الْكَبَائِرِ قُلْنَا: عِنْدَكُمْ يجب على الله تعالى قبول التوبة
__________
(1) . راجع ج 5 ص 396.
(2) . راجع ج 19 ص 86. [.....]
(3) . راجع ج 11 ص 281.
(4) . راجع ج 14 ص 295.
(5) . راجع ج 5 ص 245.
(6) . راجع ج 11 ص 153(1/379)
فَإِذَا قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَةَ الْمُذْنِبِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الشَّفَاعَةِ وَلَا إِلَى الِاسْتِغْفَارِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ" فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا" أَيْ مِنَ الشِّرْكِ" وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ" أَيْ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ. سَأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ مَا دُونَ الشِّرْكِ مِنْ ذُنُوبِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى" وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ" [النساء: 48] فَإِنْ قَالُوا جَمِيعُ الْأُمَّةِ يَرْغَبُونَ فِي شَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ كَانَتْ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ خَاصَّةً بَطَلَ سُؤَالُهُمْ. قُلْنَا: إِنَّمَا يَطْلُبُ كُلُّ مُسْلِمٍ شَفَاعَةَ الرَّسُولِ وَيَرْغَبُ إِلَى اللَّهِ فِي أَنْ تَنَالَهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ غَيْرُ سالم من الذنوب ولا قاسم لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِكُلِّ مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مُعْتَرِفٌ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّقْصِ فَهُوَ لِذَلِكَ يَخَافُ الْعِقَابَ وَيَرْجُو النَّجَاةَ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَنْجُو أَحَدٌ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقِيلَ وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ) الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا يُقْبَلُ" قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو" تُقْبَلُ" بِالتَّاءِ لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ مُؤَنَّثَةٌ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى التَّذْكِيرِ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الشَّفِيعِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: حَسُنَ التَّذْكِيرُ لِأَنَّكَ قَدْ فَرَّقْتَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ" فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ" «1» [البقرة: 37] السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) أَيْ فِدَاءٌ وَالْعَدْلُ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ) الْفِدَاءُ وَ (بِكَسْرِهَا) الْمِثْلُ يُقَالُ عِدْلٌ وَعَدِيلٌ لِلَّذِي يُمَاثِلُكَ فِي الْوَزْنِ وَالْقَدْرِ وَيُقَالُ عَدْلُ الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يُسَاوِيهِ قِيمَةً وَقَدْرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ وَالْعِدْلُ (بِالْكَسْرِ) هُوَ الَّذِي يُسَاوِي الشَّيْءَ مِنْ جِنْسِهِ وَفِي جِرْمِهِ وَحَكَى الطَّبَرِيُّ: أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَكْسِرُ الْعَيْنَ مِنْ مَعْنَى الْفِدْيَةِ فَأَمَّا وَاحِدُ الْأَعْدَالِ فَبِالْكَسْرِ لَا غَيْرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أَيْ يُعَانُونَ. وَالنَّصْرُ الْعَوْنُ وَالْأَنْصَارُ الْأَعْوَانُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ" مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ" «2» [آل عمران: 52] أَيْ مَنْ يَضُمُّ نُصْرَتَهُ إِلَى نُصْرَتِي وَانْتَصَرَ الرَّجُلُ: انْتَقَمَ وَالنَّصْرُ: الْإِتْيَانُ يُقَالُ: نَصَرْتُ أَرْضَ بني فلان أتيتها قال الشاعر «3» :
__________
(1) . راجع ص 326.
(2) . راجع ج 18 ص 89
(3) . هو الراعي يخاطب خيلا (عن اللسان) .(1/380)
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
إِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ فَوَدِّعِي ... بِلَادَ تَمِيمٍ وَانْصُرِي أَرْضَ عَامِرِ
وَالنَّصْرُ الْمَطَرُ يُقَالُ نُصِرَتِ الْأَرْضُ مُطِرَتْ وَالنَّصْرُ الْعَطَاءُ قَالَ:
إِنِّي وَأَسْطَارٍ سُطِرْنَ سَطْرَا ... لَقَائِلٌ يَا نَصْرُ نَصْرًا نَصْرَا
وَكَانَ سَبَبُ هَذِهِ الْآيَةِ فِيمَا ذَكَرُوا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَأَبْنَاءُ أَنْبِيَائِهِ وَسَيَشْفَعُ لَنَا آبَاؤُنَا فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ قيه الشَّفَاعَاتُ وَلَا يُؤْخَذُ فِيهِ فِدْيَةٌ. وَإِنَّمَا خَصَّ الشَّفَاعَةَ وَالْفِدْيَةَ وَالنَّصْرَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَعَانِي الَّتِي اعْتَادَهَا بَنُو آدَمَ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الْوَاقِعَ فِي الشِّدَّةِ لَا يَتَخَلَّصُ إِلَّا بِأَنْ يشفع له أو ينصر أو يفتدي.
[سورة البقرة (2) : آية 49]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
فِيهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) " إِذْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفٌ عَلَى" اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ". وَهَذَا وَمَا بَعْدَهُ تَذْكِيرٌ بِبَعْضِ النِّعَمِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِمْ أَيِ اذْكُرُوا نِعْمَتِي بِإِنْجَائِكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَجَعْلِ الْأَنْبِيَاءِ فِيكُمْ وَالْخِطَابُ لِلْمَوْجُودِينَ وَالْمُرَادُ مَنْ سَلَفَ مِنَ الْآبَاءِ كَمَا قَالَ" إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ
" «1» [الحاقة: 11] أَيْ حَمَلْنَا آبَاءَكُمْ وَقِيلَ إِنَّمَا قَالَ" نَجَّيْناكُمْ" لِأَنَّ نَجَاةَ الْآبَاءِ كَانَتْ سَبَبًا لِنَجَاةِ هَؤُلَاءِ الْمَوْجُودِينَ وَمَعْنَى" نَجَّيْناكُمْ" أَلْقَيْنَاكُمْ عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ وَهِيَ مَا ارْتَفَعَ مِنْهَا هَذَا هُوَ الْأَصْلُ ثُمَّ سُمِّيَ كُلُّ فَائِزٍ نَاجِيًا. فَالنَّاجِي من خرج من ضيق إلى سعة وقرى" وَإِذْ نَجَّيْتُكُمْ" عَلَى التَّوْحِيدِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) " آلُ فِرْعَوْنَ" قَوْمُهُ وَأَتْبَاعُهُ وَأَهْلُ دِينِهِ. وَكَذَلِكَ آلُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هُوَ عَلَى دِينِهِ وَمِلَّتِهِ فِي عَصْرِهِ وَسَائِرِ الْأَعْصَارِ سَوَاءٌ كَانَ نَسِيبًا لَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى دِينِهِ وَمِلَّتِهِ فَلَيْسَ مِنْ آلِهِ وَلَا أَهْلِهِ وَإِنْ كَانَ نَسِيبَهُ وَقَرِيبَهُ خِلَافًا لِلرَّافِضَةِ حَيْثُ قَالَتْ إِنَّ آلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاطمة
__________
(1) . راجع ج 18 ص 263(1/381)
وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ فَقَطْ. دَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى" وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ" [البقرة: 50] " أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ" «1» [غافر: 46] أَيْ آلَ دِينِهِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ابْنٌ وَلَا بِنْتٌ وَلَا أَبٌ وَلَا عَمٌّ ولا أخ ولا عصبة. ولأنه لا خوف أَنَّ مَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا مُوَحِّدٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا لَهُ وَلِأَجْلِ هَذَا يُقَالُ إِنَّ أَبَا لَهَبٍ وَأَبَا جَهْلٍ لَيْسَا مِنْ آلِهِ وَلَا مِنْ أَهْلِهِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَابَةٌ وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ابْنِ نُوحٍ" إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ" «2» [هود: 46] . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِهَارًا غَيْرَ سِرٍّ يَقُولُ [أَلَا] «3» إِنَّ آلَ أَبِي- يَعْنِي فُلَانًا «4» لَيْسُوا [لِي] «5» بِأَوْلِيَاءَ إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ آلُ مُحَمَّدٍ أَزْوَاجُهُ وَذُرِّيَّتُهُ خَاصَّةً لِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ (قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْأَهْلُ مَعْلُومٌ وَالْآلُ الْأَتْبَاعُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَلِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ) فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى) الثَّالِثَةُ- اخْتَلَفَ النُّحَاةُ هَلْ يُضَافُ الْآلُ إِلَى الْبُلْدَانِ أَوْ لَا؟ فَقَالَ الْكِسَائِيُّ إِنَّمَا يُقَالُ آلُ فُلَانٍ وَآلُ فُلَانَةٍ وَلَا يُقَالُ فِي الْبُلْدَانِ هُوَ مِنْ آلِ حِمْصَ وَلَا مِنْ آلِ الْمَدِينَةِ. قَالَ الْأَخْفَشُ إِنَّمَا يُقَالُ فِي الرَّئِيسِ الْأَعْظَمِ نَحْوَ آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُ رَئِيسُهُمْ فِي الضَّلَالَةِ. قَالَ وَقَدْ سَمِعْنَاهُ فِي الْبُلْدَانِ قالوا: أهل المدينة وآل المدينة.
__________
(1) . راجع ج 15 ص 319.
(2) . راجع ج 9 ص 46.
(3) . الزيادة عن صحيح مسلم.
(4) . قوله: يعني فلانا. وروى" ألا إن آل أبي فلان". قال النووي: (هذه الكناية هي من بعض الرواة خشي أن يسميه فيترتب عليه مفسدة وفتنة ... قال القاضي عياض: قيل إن المكنى عنه هاهنا هو الحكم بن أبي العاص". والحكم هذا من النفر الذين كَانُوا يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته. راجع سيرة ابن هشام (ج 1 ص 276) طبع أوربا.
(5) . الزيادة عن صحيح مسلم.(1/382)
الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ أَيْضًا هَلْ يُضَافُ الْآلُ إِلَى الْمُضْمَرِ أَوْ لَا؟ فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ النَّحَّاسُ وَالزُّبَيْدِيُّ وَالْكِسَائِيُّ فَلَا يُقَالُ إِلَّا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَلَا يُقَالُ وَآلِهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: أَهْلِهِ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى إِلَى أَنَّ ذَلِكَ يُقَالُ مِنْهُمُ ابْنُ السَّيِّدِ وَهُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّ السَّمَاعَ الصَّحِيحَ يُعَضِّدُهُ فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي قَوْلِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ:
لاهمّ إن العبد يمن ... ع رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَكْ «1»
وَانْصُرْ عَلَى آلِ الصَّلِي ... بِ وَعَابِدِيهِ الْيَوْمَ آلَكْ
وَقَالَ نُدْبَةُ:
أَنَا الْفَارِسُ الْحَامِي حَقِيقَةَ وَالِدِي ... وَآلِي كَمَا تَحْمِي حَقِيقَةَ آلِكَا
الْحَقِيقَةُ (بِقَافَيْنِ) : مَا يَحِقُّ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَحْمِيَهُ أَيْ تَجِبُ عَلَيْهِ حِمَايَتُهُ. الْخَامِسَةُ- وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي أَصْلِ آلِ فَقَالَ النَّحَّاسُ أَصْلُهُ أَهْلٌ ثُمَّ أُبْدِلَ مِنَ الْهَاءِ أَلِفًا فَإِنْ صَغَّرْتَهُ رَدَدْتَهُ إِلَى أَصْلِهِ فَقُلْتَ: أُهَيْلٌ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: أَصْلُهُ أَوْلٌ. وَقِيلَ: أَهْلٌ قُلِبَتِ الْهَاءُ هَمْزَةً ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ أَلِفًا. وَجَمْعُهُ آلُوَنَ وَتَصْغِيرُهُ أُوَيْلٌ فِيمَا حَكَى الْكِسَائِيُّ. وحكى غيره أهيل وقد ذكرناه عَنِ النَّحَّاسِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ كَيْسَانَ: إِذَا جَمَعْتَ آلًا قُلْتَ آلُونَ فَإِنْ جَمَعْتَ آلًا الَّذِي هُوَ السَّرَابُ قُلْتَ آوَالٌ مِثْلَ مَالٍ وَأَمْوَالٍ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِرْعَوْنَ) " فِرْعَوْنَ" قِيلَ إِنَّهُ اسْمُ ذَلِكَ الْمَلِكِ بِعَيْنِهِ. وَقِيلَ اسْمُ كُلِّ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْعَمَالِقَةِ مِثْلَ كِسْرَى لِلْفُرْسِ وَقَيْصَرَ لِلرُّومِ وَالنَّجَاشِيِّ لِلْحَبَشَةِ وَإِنَّ اسْمَ فِرْعَوْنَ مُوسَى قَابُوسٌ فِي قَوْلِ أَهْلِ الكتاب. وقال وهب أسمه الوليد ابن مُصْعَبِ بْنِ الرَّيَّانِ وَيُكَنَّى أَبَا مُرَّةَ وَهُوَ مِنْ بَنِي عِمْلِيقِ بْنِ لَاوَذَ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَكُلُّ مَنْ وَلِيَ الْقِبْطَ وَمِصْرَ فَهُوَ فِرْعَوْنُ. وَكَانَ فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ إِصْطَخْرَ. قَالَ الْمَسْعُودِيُّ لَا يُعْرَفُ لِفِرْعَوْنَ تَفْسِيرٌ بِالْعَرَبِيَّةِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: فِرْعَوْنُ لَقَبُ الْوَلِيدِ بْنِ مُصْعَبٍ مَلِكُ مِصْرَ وَكُلُّ عَاتٍ فِرْعَوْنُ وَالْعُتَاةُ الْفَرَاعِنَةُ وَقَدْ تفر عن
__________
(1) . الحلال (بالكسر) : القوم المقيمون المتجاورون. يريد بهم سكان الحرم. [.....](1/383)
وَهُوَ ذُو فَرْعَنَةٍ أَيْ دَهَاءٍ وَنُكْرٍ. وَفِي الحديث (أخذنا فرعون هذه الامة) ." وفرعون" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ لِعُجْمَتِهِ السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَسُومُونَكُمْ) قِيلَ: مَعْنَاهُ يُذِيقُونَكُمْ وَيُلْزِمُونَكُمْ إِيَّاهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يُوَلُّونَكُمْ يُقَالُ: سَامَهُ خُطَّةُ خَسْفٍ إِذَا أَوْلَاهُ إِيَّاهَا ومنه قول عمرو ابن كُلْثُومٍ:
إِذَا مَا الْمَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفًا ... أبينا أن نقر الخسف فِينَا
وَقِيلَ: يُدِيمُونَ تَعْذِيبَكُمْ. وَالسَّوْمُ: الدَّوَامُ وَمِنْهُ سَائِمَةُ الْغَنَمِ لِمُدَاوَمَتِهَا الرَّعْيَ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ «1» وَإِنْ شِئْتَ كان في موضع نصب غلى الْحَالِ أَيْ سَائِمِينَ لَكُمْ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (سُوءَ الْعَذابِ) مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ" يَسُومُونَكُمْ" وَمَعْنَاهُ أَشَدُّ الْعَذَابِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى سَوْمِ الْعَذَابِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا بِمَعْنَى سَوْمًا سَيِّئًا. فَرُوِيَ أَنَّ فِرْعَوْنَ جَعَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَدَمًا وَخَوَلًا وَصَنَّفَهُمْ فِي أَعْمَالِهِ فَصِنْفٌ يَبْنُونَ وَصِنْفٌ يَحْرُثُونَ وَيَزْرَعُونَ وَصِنْفٌ يَتَخَدَّمُونَ وَكَانَ قَوْمُهُ جُنْدًا مُلُوكًا وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ فِي عَمَلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ ضُرِبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ فَذَلِكَ سُوءُ الْعَذَابِ التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) ... " يُذَبِّحُونَ" بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ" يَسُومُونَكُمْ" كَمَا قَالَ أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ:
مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا
قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ" يُذَبِّحُونَ" بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ" يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ" [البقرة: 49] كَمَا تَقُولُ أَتَانِي الْقَوْمُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى الْوَاوِ فِي زَيْدٍ وَنَظِيرُهُ:" وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ" «2» [الفرقان: 69- 68] وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ" وَيُذَبِّحُونَ" بِالْوَاوِ لِأَنَّ الْمَعْنَى
__________
(1) . يريد أنها مستأنفة. وعبارة البحر لابي حيان: (يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة وهي حكاية حال ماضية ويحتمل أن تكون في موضع الحال أي سائميكم) .
(2) . راجع ج 13 ص 76.) ((1/384)
يُعَذِّبُونَكُمْ بِالذَّبْحِ وَبِغَيْرِ الذَّبْحِ فَقَوْلُهُ" وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ" جِنْسٌ آخَرُ مِنَ الْعَذَابِ لَا تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ بِدَلِيلِ سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" وَالْوَاوُ قَدْ تُزَادُ كَمَا قَالَ:
فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى
أَيْ قَدِ انْتَحَى وَقَالَ آخَرُ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحِمِ
أَرَادَ إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ ابْنِ الْهُمَامِ لَيْثِ الْكَتِيبَةِ وَهُوَ كَثِيرٌ الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُذَبِّحُونَ) قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِيرِ وقرا ابن محيضن" يَذْبَحُونَ" بِفَتْحِ الْبَاءِ. وَالذَّبْحِ: الشَّقُّ. وَالذِّبْحُ: الْمَذْبُوحُ. وَالذُّبَاحُ: تَشَقُّقٌ فِي أُصُولِ الْأَصَابِعِ وَذَبَحْتُ الدَّنَّ بَزَلْتُهُ أَيْ كَشَفْتُهُ وَسَعْدٌ الذَّابِحٌ: أَحَدُ السُّعُودِ. وَالْمَذَابِحُ: الْمَحَارِيبُ. وَالْمَذَابِحُ: جَمْعُ مَذْبَحٍ وَهُوَ إِذَا جَاءَ السَّيْلُ فَخَدَّ فِي الْأَرْضِ فَمَا كَانَ كَالشِّبْرِ وَنَحْوِهُ سُمِّيَ مَذْبَحًا فَكَانَ فِرْعَوْنُ يَذْبَحُ الْأَطْفَالَ وَيُبْقِي الْبَنَاتَ وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِاسْمِ النِّسَاءِ بِالْمَآلِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ" يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ" يَعْنِي الرِّجَالَ وَسُمُّوا أَبْنَاءً لَمَّا كَانُوا كَذَلِكَ وَاسْتَدَلَّ هَذَا الْقَائِلُ بِقَوْلِهِ" نِساءَكُمْ" وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ الْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- نَسَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْفِعْلَ إِلَى آلِ فِرْعَوْنَ وَهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِأَمْرِهِ وَسُلْطَانِهِ لِتَوَلِّيهِمْ ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ وَلِيُعْلِمَ أَنَّ الْمُبَاشِرَ مَأْخُوذٌ بِفِعْلِهِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ وَيَقْتَضِي أَنَّ مَنْ أَمَرَهُ ظَالِمٌ بِقَتْلِ أَحَدٍ فَقَتَلَهُ الْمَأْمُورُ فَهُوَ الْمَأْخُوذُ بِهِ. قُلْتُ: وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ يُقْتَلَانِ جَمِيعًا هَذَا بِأَمْرِهِ وَالْمَأْمُورُ بِمُبَاشَرَتِهِ هَكَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي تَفْصِيلٍ لَهُمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ رَجُلًا بِقَتْلِ رَجُلٍ وَالْمَأْمُورُ يَعْلَمُ أَنَّهُ أُمِرَ بِقَتْلِهِ ظُلْمًا كَانَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْإِمَامِ الْقَوَدُ كَقَاتِلَيْنِ مَعًا وَإِنْ أَكْرَهَهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ ظُلْمًا كَانَ عَلَى الْإِمَامِ الْقَوَدُ وَفِي المأمور(1/385)
قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ عَلَيْهِ الْقَوَدَ وَالْآخَرُ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا لَا يَخْلُو الْمَأْمُورُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ طَاعَةُ الْآمِرِ وَيَخَافُ شَرَّهُ كَالسُّلْطَانِ وَالسَّيِّدِ لِعَبْدِهِ فَالْقَوَدُ فِي ذَلِكَ لَازِمٌ لَهُمَا أَوْ يَكُونُ مِمَّنْ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فَيُقْتَلُ الْمُبَاشِرُ وَحْدَهُ دُونَ الْآمِرِ وَذَلِكَ كَالْأَبِ يَأْمُرُ وَلَدَهُ أَوِ الْمُعَلِّمِ بَعْضَ صِبْيَانِهِ أَوِ الصَّانِعِ بَعْضَ مُتَعَلِّمِيهِ إِذَا كَانَ مُحْتَلِمًا فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْتَلِمٍ فَالْقَتْلُ عَلَى الْآمِرِ وَعَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ: لَا يُقْتَلُ السَّيِّدُ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهُ وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا بِقَتْلِ إِنْسَانٍ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَبِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَقُولُ إِنَّ الْقَتْلَ عَلَيْهِمَا فَأَمَّا أَمْرُ مَنْ لَا خَوْفَ عَلَى الْمَأْمُورِ فِي مُخَالَفَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُلْحَقُ بِالْإِكْرَاهِ بَلْ يُقْتَلُ الْمَأْمُورُ دُونَ الْآمِرِ وَيُضْرَبُ الْآمِرُ وَيُحْبَسُ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي السَّيِّدِ يَأْمُرُ عَبْدَهُ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا: يُقْتَلُ السَّيِّدُ. وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ عَلِيٌّ وَيُسْتَوْدَعُ الْعَبْدُ السِّجْنَ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَيُحْبَسُ الْعَبْدُ وَيُضْرَبُ وَيُؤَدَّبُ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ يُعَزَّرُ السَّيِّدُ وَقَالَ الْحَكَمُ وَحَمَّادٌ يُقْتَلُ الْعَبْدُ وَقَالَ قَتَادَةُ: يُقْتَلَانِ جَمِيعًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إِنْ كَانَ الْعَبْدُ فَصِيحًا يَعْقِلُ قُتِلَ الْعَبْدُ وَعُوقِبَ السَّيِّدُ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ أَعْجَمِيًّا فَعَلَى السَّيِّدِ الْقَوَدُ وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى لَا يُقْتَلُ الْآمِرُ وَلَكِنْ تَقْطَعُ يَدَيْهِ ثُمَّ يُعَاقَبُ وَيُحْبَسُ وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي وَيُقْتَلُ الْمَأْمُورُ للمباشرة. كذلك قَالَ عَطَاءٌ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ فِي الرَّجُلِ يَأْمُرُ الرَّجُلَ بِقَتْلِ الرَّجُلِ وَذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ زُفَرُ لَا يُقْتَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ حَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي فِي الْبُرْهَانِ وَرَأَى أَنَّ الْآمِرَ وَالْمُبَاشِرَ لَيْسَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلًّا فِي الْقَوَدِ فَلِذَلِكَ لَا يُقْتَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عِنْدَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- قَرَأَ الْجُمْهُورُ" يُذَبِّحُونَ" بِالتَّشْدِيدِ عَلَى المبالغة وقرا ابن محيصن" يذبحون" بالتخفيف والاولى أَرْجَحُ إِذِ الذَّبْحُ مُتَكَرِّرٌ وَكَانَ فِرْعَوْنُ عَلَى مَا رُوِيَ قَدْ رَأَى فِي مَنَامِهِ نَارًا خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَحْرَقَتْ بُيُوتَ مِصْرَ فَأُوِّلَتْ لَهُ رُؤْيَاهُ أَنَّ مَوْلُودًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَنْشَأُ فَيَكُونُ خَرَابُ مُلْكِهِ عَلَى يَدَيْهِ وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ.(1/386)
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
الثالثة عشرة- قوله تعالى: (وَفِي ذلِكُمْ) إِشَارَةٌ إِلَى جُمْلَةِ الْأَمْرِ إِذْ هو خبر فهو كمنفرد حَاضِرٍ أَيْ وَفِي فِعْلِهِمْ ذَلِكَ بِكُمْ بَلَاءٌ أَيِ امْتِحَانٌ وَاخْتِبَارٌ وَ" بَلَاءٌ" نِعْمَةٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً" [الأنفال: 17] قَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ الْبَلَاءُ يَكُونُ حَسَنًا وَيَكُونُ سَيِّئًا وَأَصْلُهُ الْمِحْنَةُ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَبْلُو عَبْدَهُ بِالصُّنْعِ الْجَمِيلِ لِيَمْتَحِنَ شُكْرَهُ وَيَبْلُوَهُ بِالْبَلْوَى الَّتِي يَكْرَهُهَا لِيَمْتَحِنَ صَبْرَهُ فَقِيلَ لِلْحَسَنِ بَلَاءٌ وَلِلسَّيِّئِ بَلَاءٌ حَكَاهُ الْهَرَوِيُّ وَقَالَ قَوْمٌ الْإِشَارَةُ بِ" ذلِكُمْ" إِلَى التَّنْجِيَةِ فَيَكُونُ الْبَلَاءُ عَلَى هَذَا فِي الْخَيْرِ أَيْ تَنْجِيَتُكُمْ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْإِشَارَةُ إِلَى الذَّبْحِ وَنَحْوِهِ وَالْبَلَاءُ هُنَا فِي الشَّرِّ وَالْمَعْنَى: وَفِي الذبح مكروه
وامتحان. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ وَيُقَالُ فِي الْخَيْرِ أَبْلَاهُ اللَّهُ وَبَلَاهُ وَأَنْشَدَ
جَزَى اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ مَا فَعَلَا بِكُمْ ... وَأَبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو «1»
فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ وَالْأَكْثَرُ فِي الْخَيْرِ أَبْلَيْتُهُ وَفِي الشَّرِّ بَلَوْتُهُ وَفِي الِاخْتِبَارِ ابْتَلَيْتُهُ وَبَلَوْتُهُ قاله النحاس.
[سورة البقرة (2) : آية 50]
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ) " إِذْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَ" فَرَقْنَا" فَلَقْنَا فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ أَيِ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ. وَأَصْلُ الْفَرْقِ الْفَصْلُ وَمِنْهُ فَرْقُ الشَّعْرِ وَمِنْهُ الْفُرْقَانُ لِأَنَّهُ يَفْرُقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَيْ يَفْصِلُ وَمِنْهُ" فَالْفارِقاتِ فَرْقاً" «2» [المرسلات: 4] يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ومنه" يَوْمَ الْفُرْقانِ" «3» [الأنفال: 41] يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ فِيهِ فَرْقٌ بَيْنَ الحق والباطل ومنه" وَقُرْآناً فَرَقْناهُ" «4» [الاسراء: 106] أَيْ فَصَّلْنَاهُ وَأَحْكَمْنَاهُ وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ:" فَرَّقْنَا" بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ جَعَلْنَاهُ فِرَقًا وَمَعْنَى" بِكُمُ" أَيْ لَكُمْ فَالْبَاءُ بِمَعْنَى اللَّامِ وَقِيلَ الْبَاءُ فِي مَكَانِهَا أَيْ فَرَقْنَا الْبَحْرَ بِدُخُولِكُمْ إِيَّاهُ أَيْ صَارُوا بَيْنَ الْمَاءَيْنِ فَصَارَ الْفَرْقُ بِهِمْ وَهَذَا أولى يبينه" فَانْفَلَقَ"
__________
(1) . قائله زهير
(2) . راج ج 19 ص 153.
(3) . راجع ج 8 ص 20.
(4) . راجع ج 10 ص 339(1/387)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْبَحْرَ) الْبَحْرُ مَعْرُوفٌ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاتِّسَاعِهِ. وَيُقَالُ: فَرَسٌ بَحْرٌ إِذَا كَانَ وَاسِعَ الْجَرْيِ أَيْ كَثِيرُهُ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْدُوبٍ فَرَسِ أَبِي طَلْحَةَ (وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا) وَالْبَحْرُ: الْمَاءُ الْمَلِحُ. وَيُقَالُ: أَبْحَرَ الْمَاءُ: مَلُحَ قَالَ نُصَيْبٌ:
وَقَدْ عَادَ مَاءُ الْأَرْضِ بَحْرًا فَزَادَنِي ... إِلَى مَرَضِي أَنْ أَبْحَرَ الْمَشْرَبُ الْعَذْبُ
وَالْبَحْرُ: الْبَلْدَةُ يُقَالُ: هَذِهِ بَحْرَتُنَا أَيْ بَلْدَتُنَا. قَالَهُ الْأُمَوِيُّ. وَالْبَحْرُ: السُّلَالُ «1» يُصِيبُ الْإِنْسَانَ. وَيَقُولُونَ: لَقِيتُهُ صَحْرَةً بَحْرَةً أَيْ بَارِزًا مَكْشُوفًا. وَفِي الْخَبَرِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَكًا يُقَالُ لَهُ: صَنْدَفَايِيلُ الْبِحَارُ كُلُّهَا فِي نَقْرَةِ إبهامه. ذكره أبو نعيم عن ثور ابن يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ كَعْبٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَنْجَيْناكُمْ) أَيْ أَخْرَجْنَاكُمْ مِنْهُ يُقَالُ نَجَوْتُ مِنْ كَذَا نِجَاءً مَمْدُودٌ وَنَجَاةً مَقْصُورٌ والصدق منجاة وأنجيت غيري ونجيته وقرى بِهِمَا" وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ" ... " فَأَنْجَيْناكُمْ". قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) يُقَالُ: غَرِقَ فِي الْمَاءِ غَرَقًا فَهُوَ غَرِقٌ وَغَارِقٌ أَيْضًا وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي النَّجْمِ:
مِنْ بَيْنِ مَقْتُولٍ وَطَافٍ غَارِقِ «2»
وَأَغْرَقَهُ غَيْرُهُ وَغَرَّقَهُ فَهُوَ مُغْرَّقٌ وَغَرِيقٌ. وَلِجَامٌ مُغَرَّقٌ بِالْفِضَّةِ أَيْ مُحَلًّى. وَالتَّغْرِيقُ: الْقَتْلُ قَالَ الْأَعْشَى:
ألا ليت قيسا عرقته الْقَوَابِلُ «3»
وَذَلِكَ أَنَّ الْقَابِلَةَ كَانَتْ تُغَرِّقُ الْمَوْلُودَ فِي مَاءِ السَّلَى عَامَ الْقَحْطِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى حَتَّى يَمُوتَ ثُمَّ جُعِلَ كُلُّ قتل تغريقا ومنه قول ذي الرمة
__________
(1) . السلال (كغراب) : قرحة تحدث في الرئة أو زكام ونوازل أو سعال طويل وتلزمها حمى هادئة. (عن القاموس) .
(2) . صدر البيت:
فأصبحوا في الماء والخنادق
(3) . المراد به قيس بن مسعود الشيباني. وصدر البيت:
أطورين في عام غزاة ورحلة(1/388)
إِذَا غَرَّقَتْ أَرْبَاضُهَا ثِنْيَ بَكْرَةٍ ... بِتَيْهَاءَ لَمْ تُصْبِحْ رَءُومًا سَلُوبُهَا
وَالْأَرْبَاضُ: الْحِبَالُ. وَالْبَكْرَةُ: النَّاقَةُ الْفَتِيَّةُ وَثِنْيُهَا: بَطْنُهَا الثَّانِي وَإِنَّمَا لَمْ تَعْطِفْ عَلَى وَلَدِهَا لِمَا لَحِقَهَا مِنَ التَّعَبِ.
الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي كَيْفِيَّةِ إِنْجَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
فَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنْ يُسْرِيَ مِنْ مِصْرَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَمَرَهُمْ مُوسَى أَنْ يَسْتَعِيرُوا الْحُلِيَّ وَالْمَتَاعَ مِنَ الْقِبْطِ وَأَحَلَّ اللَّهُ ذَلِكَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَسَرَى بِهِمْ مُوسَى مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ فَأُعْلِمَ فِرْعَوْنُ فَقَالَ: لَا يَتْبَعُهُمْ أَحَدٌ حَتَّى تَصِيحَ الدِّيَكَةُ فَلَمْ يَصِحْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بِمِصْرَ دِيكٌ وَأَمَاتَ اللَّهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ كَثِيرًا مِنْ أَبْنَاءِ الْقِبْطِ فَاشْتَغَلُوا فِي الدَّفْنِ وَخَرَجُوا فِي الْأَتْبَاعِ مشرقين كما قال تعالى" فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ" «1» [الشعراء: 60] . وَذَهَبَ مُوسَى إِلَى نَاحِيَةِ الْبَحْرِ حَتَّى بَلَغَهُ. وَكَانَتْ عِدَّةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَيِّفًا عَلَى سِتِّمِائَةِ أَلْفٍ وَكَانَتْ عِدَّةُ فِرْعَوْنَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ. وَقِيلَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ اتَّبَعَهُ فِي أَلْفِ أَلْفِ حِصَانٍ سِوَى الْإِنَاثِ وَقِيلَ دَخَلَ إِسْرَائِيلُ- وَهُوَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِصْرَ فِي سِتَّةٍ وَسَبْعِينَ نَفْسًا مِنْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ فَأَنْمَى اللَّهُ عَدَدَهُمْ وَبَارَكَ فِي ذُرِّيَّتِهِ حَتَّى خَرَجُوا إِلَى الْبَحْرِ يَوْمَ فِرْعَوْنَ وَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ سِوَى الشُّيُوخِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالنِّسَاءِ وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حين أسرى إِسْرَائِيلَ بَلَغَ فِرْعَوْنَ فَأَمَرَ بِشَاةٍ فَذُبِحَتْ ثُمَّ قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا يُفْرَغُ مِنْ سَلْخِهَا حَتَّى تَجْتَمِعَ لِي سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْقِبْطِ قَالَ: فَانْطَلَقَ مُوسَى حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ فَقَالَ لَهُ افْرُقْ فَقَالَ لَهُ الْبَحْرُ: لَقَدِ اسْتَكْبَرْتَ يَا مُوسَى! وَهَلْ فَرَقْتُ لِأَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ فَأَفْرُقَ لَكَ! قَالَ: وَمَعَ مُوسَى رَجُلٌ عَلَى حِصَانٍ لَهُ قَالَ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَيْنَ أُمِرْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قال ما أمر ت إِلَّا بِهَذَا الْوَجْهِ قَالَ: فَأَقْحَمَ فَرَسَهُ فَسَبَحَ فَخَرَجَ. فَقَالَ أَيْنَ أُمِرْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ مَا أُمِرْتُ إِلَّا بِهَذَا الْوَجْهِ قَالَ: وَاللَّهِ مَا كَذَبْتَ وَلَا كُذِبْتَ ثُمَّ اقْتَحَمَ الثَّانِيَةَ فَسَبَحَ بِهِ حَتَّى خَرَجَ فَقَالَ أَيْنَ أُمِرْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ فَقَالَ مَا أُمِرْتُ
__________
(1) . راجع ج 13 ص 105.(1/389)
إِلَّا بِهَذَا الْوَجْهِ قَالَ: وَاللَّهِ مَا كَذَبْتَ وَلَا كُذِبْتَ قَالَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ" أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ" [الأعراف 160] فَضَرَبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ" فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ" [الشعراء 63] فَكَانَ فِيهِ اثْنَا عَشَرَ فَرْقًا لِاثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا لِكُلِّ سِبْطٍ طَرِيقٌ يَتَرَاءَوْنَ وَذَلِكَ أَنَّ أَطْوَادَ الْمَاءِ صَارَ فِيهَا طِيقَانًا وَشَبَابِيكَ يَرَى مِنْهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَلَمَّا خَرَجَ أَصْحَابُ مُوسَى وَقَامَ أَصْحَابُ فِرْعَوْنَ الْتَطَمَ الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ فَأَغْرَقَهُمْ وَيُذْكَرُ أَنَّ الْبَحْرَ هُوَ بَحْرُ الْقُلْزُمِ وَأَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ مَعَ مُوسَى عَلَى الْفَرَسِ هُوَ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ. وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى الْبَحْرِ أَنَ انْفَرِقْ لِمُوسَى إِذَا ضَرَبَكَ فَبَاتَ الْبَحْرُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ يَضْطَرِبُ فَحِينَ أَصْبَحَ ضَرَبَ الْبَحْرَ وَكَنَّاهُ «1» أَبَا خَالِدٍ. ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا. وَقَدْ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَصَصِ هَذَا الْمَعْنَى وَمَا ذَكَرْنَاهُ كَافٍ وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ" يُونُسَ وَالشُّعَرَاءِ" «2» زِيَادَةُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى الْإِنْجَاءَ وَالْإِغْرَاقَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْيَوْمَ الَّذِي كَانَ ذَلِكَ فِيهِ
فَرَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ) فَقَالُوا هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ) فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ (أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى منهم فصوموا) .
مسألة [في صوم يوم عاشوراء]
ظَاهِرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا صَامَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ اقْتِدَاءً بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى ما أخبر بِهِ الْيَهُودُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ صِيَامَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ومسلم
__________
(1) . أي كنى موسى البحر.
(2) . راجع ج 8 ص 377 وج 12 ص 105.(1/390)
فَإِنْ قِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ قُرَيْشٌ إِنَّمَا صَامَتْهُ بِإِخْبَارِ الْيَهُودِ لَهَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَهُمْ أَهْلَ عِلْمٍ فَصَامَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَيْ بِمَكَّةَ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَوَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَهُ قَالَ (نَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ) فَصَامَهُ اتِّبَاعًا لِمُوسَى (وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) أَيْ أَوْجَبَهُ وَأَكَّدَ أَمْرَهُ حَتَّى كَانُوا يَصُومُونَهُ الصِّغَارُ. قُلْنَا: هَذِهِ شُبْهَةُ مَنْ قَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرِيعَةِ مُوسَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" الانعام «1» " عند قول تعالى" فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ" [الانعام: 90] .
مَسْأَلَةٌ: اخْتُلِفَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ هَلْ هُوَ التَّاسِعُ مِنَ الْمُحَرَّمِ أَوِ الْعَاشِرُ؟
فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ التَّاسِعُ لِحَدِيثِ الْحَكَمِ بْنِ الْأَعْرَجِ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ رِدَاءَهُ فِي زَمْزَمَ فَقُلْتُ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ إِذَا رَأَيْتَ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ فَاعْدُدْ وَأَصْبَحْ يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِمًا. قُلْتُ: هَكَذَا كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ؟ قَالَ نَعَمْ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُ الْعَاشِرُ. وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ الْحَكَمِ وَلَمْ يَصِفْهُ بِصِحَّةٍ وَلَا حُسْنٍ ثُمَّ أَرْدَفَهُ: أَنْبَأَنَا قُتَيْبَةُ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ يَوْمَ الْعَاشِرِ. قَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: صُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ وَخَالِفُوا الْيَهُودَ. وَبِهَذَا الْحَدِيثِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ. قَالَ غَيْرُهُ وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلسَّائِلِ: (فَاعْدُدْ وَأَصْبِحْ يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِمًا) لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَرْكِ صَوْمِ الْعَاشِرِ بَلْ وَعَدَ أَنْ يَصُومَ التَّاسِعَ مُضَافًا إِلَى الْعَاشِرِ. قَالُوا: فَصِيَامُ الْيَوْمَيْنِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلْحَكَمِ لَمَّا قَالَ لَهُ: هَكَذَا كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ؟ قَالَ نَعَمْ مَعْنَاهُ أَنْ لَوْ عَاشَ وَإِلَّا فَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ التَّاسِعَ قَطُّ. يُبَيِّنُهُ مَا خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ اليوم التاسع) .
__________
(1) . راجع ج 7 ص 35.(1/391)
فَضِيلَةٌ
- رَوَى أَبُو قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ لَا نَعْلَمُ في شي مِنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَالَ (صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ) إِلَّا فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَمَعْنَاهُ بِأَبْصَارِكُمْ فَيُقَالُ إِنَّ آلَ فِرْعَوْنَ طَفَوْا عَلَى الْمَاءِ فَنَظَرُوا إِلَيْهِمْ يَغْرَقُونَ وَإِلَى أَنْفُسِهِمْ يَنْجُونَ فَفِي هَذَا أَعْظَمُ الْمِنَّةِ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُمْ أُخْرِجُوا لَهُمْ حَتَّى رَأَوْهُمْ فَهَذِهِ مِنَّةٌ بَعْدَ مِنَّةٍ وَقِيلَ الْمَعْنَى" وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ" أَيْ بِبَصَائِرِكُمُ الِاعْتِبَارُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي شُغْلٍ عَنِ الْوُقُوفِ وَالنَّظَرِ بِالْأَبْصَارِ وَقِيلَ الْمَعْنَى وَأَنْتُمْ بِحَالِ مَنْ يَنْظُرُ لَوْ نَظَرَ كَمَا تُقُولُ هَذَا الْأَمْرُ مِنْكَ بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ أَيْ بِحَالٍ تَرَاهُ وَتَسْمَعُهُ إِنْ شِئْتَ. وَهَذَا الْقَوْلُ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِأَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِتَوَالِي عَدَمِ الِاعْتِبَارِ فِيمَا صَدَرَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْبَحْرِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْجَاهُمْ وَغَرَّقَ عَدُوَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ قُلُوبَنَا لَا تَطْمَئِنُّ إِنَّ فِرْعَوْنَ قَدْ غَرِقَ! حَتَّى أَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ فَلَفَظَهُ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ. ذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَتْ: مَا مَاتَ فِرْعَوْنُ وَمَا كَانَ لِيَمُوتَ أَبَدًا! قَالَ فَلَمَّا أَنْ سَمِعَ «1» اللَّهُ تَكْذِيبَهُمْ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَمَى بِهِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَأَنَّهُ ثَوْرٌ أَحْمَرُ يَتَرَاءَاهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا اطْمَأَنُّوا وَبُعِثُوا مِنْ طَرِيقِ الْبَرِّ إِلَى مَدَائِنِ فِرْعَوْنَ حَتَّى نَقَلُوا كُنُوزَهُ وَغَرِقُوا فِي النِّعْمَةِ رَأَوْا قَوْمًا يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ حَتَّى زَجَرَهُمْ مُوسَى وَقَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ أَيْ عَالَمِي زَمَانِهِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَسِيرُوا إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي كَانَتْ مَسَاكِنَ آبَائِهِمْ وَيَتَطَهَّرُوا مِنْ أَرْضِ فِرْعَوْنَ. وَكَانَتِ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ فِي أَيْدِي الْجَبَّارِينَ قَدْ غُلِبُوا عَلَيْهَا فَاحْتَاجُوا إِلَى دَفْعِهِمْ عَنْهَا بِالْقِتَالِ فَقَالُوا أَتُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَنَا لُحْمَةً لِلْجَبَّارِينَ! فَلَوْ أَنَّكَ تَرَكْتَنَا فِي يَدِ فرعون كان خيرا لنا قال" يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ" [المائدة: 21] إِلَى قَوْلِهِ" قاعِدُونَ" حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ وَسَمَّاهُمْ فَاسْقِينَ فَبَقُوا فِي التِّيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً عُقُوبَةً ثُمَّ رَحِمَهُمْ فَمَنَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّلْوَى وَبِالْغَمَامِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ ثُمَّ سَارَ مُوسَى إِلَى طور سيناء
__________
(1) . في نسخة: (فلم يعد أن سمع الله ... ) إلخ. [.....](1/392)
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)
لِيَجِيئَهُمْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتَّخَذُوا الْعِجْلَ- عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ «1» - ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ: قَدْ وَصَلْتُمْ إِلَى بيت المقدس ف ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ عَلَى مَا يَأْتِي وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ شَدِيدَ الْحَيَاءِ سَتِيرًا فَقَالُوا: إِنَّهُ آدَرُ «2» . فَلَمَّا اغْتَسَلَ وَضَعَ عَلَى الْحَجَرِ ثَوْبَهُ فَعَدَا الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ إِلَى مَجَالِسِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُوسَى عَلَى أَثَرِهِ عُرْيَانُ وَهُوَ يقول يا حجر ثوبي! فذلك قول تَعَالَى" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا" [الأحزاب: 69] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ «3» ثُمَّ لَمَّا مَاتَ هَارُونُ قَالُوا لَهُ: أَنْتَ قَتَلْتَ هَارُونَ وَحَسَدْتَهُ حَتَّى نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ بِسَرِيرِهِ وَهَارُونُ مَيِّتٌ عَلَيْهِ- وَسَيَأْتِي فِي الْمَائِدَةِ «4» - ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ يَعْلَمُوا أية في قبول قربانهم فجعلت نار تجئ مِنَ السَّمَاءِ فَتَقْبَلُ قُرْبَانَهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ بَيِّنْ لَنَا كَفَّارَاتِ ذُنُوبِنَا فِي الدُّنْيَا فَكَانَ مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا أَصْبَحَ عَلَى بَابِهِ مَكْتُوبٌ (عَمِلْتَ كَذَا وَكَفَّارَتُهُ قَطْعُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِكَ) يُسَمِّيهِ لَهُ وَمَنْ أَصَابَهُ بَوْلٌ لَمْ يَطْهُرْ حَتَّى يَقْرِضَهُ وَيُزِيلَ جِلْدَتَهُ مِنْ بَدَنِهِ ثُمَّ بَدَّلُوا التَّوْرَاةَ وَافْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ عَرَضًا ثُمَّ صَارَ أَمْرُهُمْ إِلَى أَنْ قَتَلُوا أَنْبِيَاءَهُمْ وَرُسُلَهُمْ. فَهَذِهِ مُعَامَلَتُهُمْ مَعَ رَبِّهِمْ وَسِيرَتُهُمْ فِي دِينِهِمْ وَسُوءُ أَخْلَاقِهِمْ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ كُلِّ فَصْلٍ مِنْ هَذِهِ الْفُصُولِ مُسْتَوْفًى فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: وَفِي أَخْبَارِ الْقُرْآنِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْمُغَيَّبَاتِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مِنْ عِلْمِ الْعَرَبِ وَلَا وَقَعَتْ إِلَّا فِي حَقِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَائِمٌ عَلَيْهِمْ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[سورة البقرة (2) : آية 51]
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51)
فِيهِ سِتُّ مسائل:
__________
(1) . راجع ج 7 ص 273.
(2) . الأدرة (بالضم) : نفخة في الخصية.
(3) . راجع ج 14 ص 250.
(4) . راجع ج 6 ص 130(1/393)
الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو" وَعَدْنَا" بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَرَجَّحَهُ وَأَنْكَرَ" واعَدْنا" قَالَ: لِأَنَّ الْمُوَاعَدَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِنَ الْبَشَرِ فَأَمَّا الله عز وجل فَإِنَّمَا هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. عَلَى هَذَا وَجَدْنَا الْقُرْآنَ، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ" «1» (إِبْرَاهِيمَ: 22) وَقَوْلُهُ:" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ" «2» (الْفَتْحِ: 29) وَقَوْلُهُ:" وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ" [الأنفال: 7] . قَالَ مَكِّيٌّ: وَأَيْضًا فَإِنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ فِيهِ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى، وَلَيْسَ فِيهِ وَعْدٌ مِنْ مُوسَى، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْوَاحِدِ، لِظَاهِرِ النَّصِّ أَنَّ الْفِعْلَ مُضَافٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَأَبِي رَجَاءٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ وَعِيسَى بْنِ عُمَرَ، وَبِهِ قَرَأَ قَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ عِنْدَنَا" وَعَدْنَا" بِغَيْرِ أَلِفٍ، لِأَنَّ الْمُوَاعَدَةَ أَكْثَرُ مَا تَكُونُ بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ وَالْمُتَكَافِئِينَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعِدُ صَاحِبَهُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمِيعَادُ: الْمُوَاعَدَةُ وَالْوَقْتُ وَالْمَوْضِعُ. قَالَ مَكِّيٌّ: الْمُوَاعَدَةُ أَصْلُهَا مِنَ اثْنَيْنِ، وَقَدْ تَأْتِي الْمُفَاعَلَةُ مِنْ وَاحِدٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، قَالُوا: طَارَقْتُ النَّعْلَ، وَدَاوَيْتُ الْعَلِيلَ، وَعَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَالْفِعْلُ مِنْ وَاحِدٍ. فَيَكُونُ لَفْظُ الْمُوَاعَدَةِ مِنَ اللَّهِ خَاصَّةً لِمُوسَى كَمَعْنَى وَعَدْنَا، فَتَكُونُ الْقِرَاءَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. والاختبار" واعَدْنا" بِالْأَلِفِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى" وَعَدْنَا" فِي أَحَدِ معنييه، ولأنه لأبد لِمُوسَى مِنْ وَعْدٍ أَوْ قَبُولٍ يَقُومُ مَقَامَ الْوَعْدِ فَتَصِحُّ الْمُفَاعَلَةُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَقِرَاءَةُ" واعَدْنا" بِالْأَلِفِ أَجْوَدُ وَأَحْسَنُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ وَالْأَعْرَجِ وَابْنِ كَثِيرٍ وَنَافِعٍ وَالْأَعْمَشِ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ" من هذا في شي، لِأَنَّ" واعَدْنا مُوسى " إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْمُوَافَاةِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فِي شي، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِكَ: مَوْعِدُكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمَوْعِدُكَ مَوْضِعَ كَذَا. وَالْفَصِيحُ فِي هَذَا أَنْ يُقَالَ: وَاعَدْتُهُ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ:" واعَدْنا" هَا هُنَا بِالْأَلِفِ جَيِّدٌ، لِأَنَّ الطَّاعَةَ فِي القبول بمنزلة المواعدة، فمن الله عز وجل وَعْدٌ، وَمِنْ مُوسَى قَبُولٌ وَاتِّبَاعٌ يَجْرِي مَجْرَى الْمُوَاعَدَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَرَجَّحَ أَبُو عُبَيْدَةَ" وَعَدْنَا" وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ قَبُولَ مُوسَى لِوَعْدِ الله والتزامه وارتقابه يشبه المواعدة.
__________
(1) . راجع ج 9 ص 356.
(2) . راجع ج 12 ص 297(1/394)
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُوسى) مُوسَى اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ لَا يَنْصَرِفُ لِلْعُجْمَةِ وَالتَّعْرِيفِ. وَالْقِبْطُ عَلَى- مَا يُرْوَى- يَقُولُونَ لِلْمَاءِ: مُو، وَلِلشَّجَرِ: شَا «1» . فَلَمَّا وُجِدَ مُوسَى فِي التَّابُوتِ عِنْدَ مَاءٍ وَشَجَرٍ سُمِّيَ مُوسَى. قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا خَافَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ جَعَلَتْهُ فِي التَّابُوتِ وَأَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ- كَمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا- فَأَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ بَيْنَ أَشْجَارٍ عِنْدَ بَيْتِ فِرْعَوْنَ، فَخَرَجَ جَوَارِي آسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ يَغْتَسِلْنَ فَوَجَدْنَهُ، فَسُمِّيَ بِاسْمِ الْمَكَانِ. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ وَغَيْرُهُ: أَنَّ اسْمَ الَّذِي الْتَقَطَتْهُ صَابُوثُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمُوسَى هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ يَصْهَرَ بْنِ قَاهِثِ ابن لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ إِسْرَائِيلَ اللَّهِ «2» بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَرْبَعِينَ لَيْلَةً" أَرْبَعِينَ نَصْبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ قَالَ الْأَخْفَشُ: التَّقْدِيرُ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى تَمَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً كَمَا قَالَ" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" وَالْأَرْبَعُونَ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْمِيعَادِ. وَالْأَرْبَعُونَ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ ذُو الْقَعْدَةِ وَعَشَرَةٌ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ جاوز البحر وسأل قَوْمُهُ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَخَرَجَ إِلَى الطُّورِ فِي سَبْعِينَ مِنْ خِيَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَصَعِدُوا الْجَبَلَ وَوَاعَدَهُمْ إِلَى تَمَامِ أربعين ليلة فعدوا فيما ذكر المفسرين عِشْرِينَ يَوْمًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَقَالُوا قَدْ أَخْلَفَنَا مَوْعِدَهُ. فَاتَّخَذُوا الْعِجْلَ وَقَالَ لَهُمُ السَّامِرِيُّ: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَاطْمَأَنُّوا إِلَى قَوْلِهِ وَنَهَاهُمْ هَارُونُ وَقَالَ" يَا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي. قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى " «3» (طه: 90) . فَلَمْ يَتَّبِعْ هَارُونَ وَلَمْ يُطِعْهُ فِي تَرْكِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا فِيمَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ. وَتَهَافَتَ فِي عِبَادَتِهِ سَائِرُهُمْ وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفَيْ أَلْفٍ فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى وَوَجَدَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ فَرُفِعَ مِنْ جُمْلَتِهَا سِتَّةُ أَجْزَاءٍ وَبَقِيَ جُزْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَمَا يَحْتَاجُونَ وَأَحْرَقَ الْعِجْلَ وَذَرَاهُ فِي الْبَحْرِ فَشَرِبُوا مِنْ مَائِهِ حبا للعجل فظهرت على شفاههم صفرة
__________
(1) . كذا في بعض نسخ الأصل وفي بعضها: (سا) بالسين المهملة. وفي القاموس وشرحه: ( ... وسا الشجر كذا في سائر النسخ وقال ابن الجواليقي: هو بالشين المعجمة) .
(2) . كذا في الأصول واسم الجلالة زائد ولا يبعد أن يكون الأصل: عبد الله وهو معنى إسرائيل. راجع ص 331 من هذا الجزء.
(3) . راجع ج 11 ص 236.(1/395)
وَوَرِمَتْ بُطُونُهُمْ فَتَابُوا وَلَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ دُونَ أَنْ يَقْتُلُوا أَنْفُسَهُمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ" [البقرة: 54] فَقَامُوا بِالْخَنَاجِرِ وَالسُّيُوفِ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنْ لَدُنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى ارْتِفَاعِ الضُّحَى فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَا يَسْأَلُ وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا وَلَدٌ عَنْ وَالِدِهِ وَلَا أَخٌ عَنْ أَخِيهِ وَلَا أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ كُلُّ مَنَ اسْتَقْبَلَهُ ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ وَضَرَبَهُ الْآخَرُ بِمِثْلِهِ حَتَّى عَجَّ مُوسَى إِلَى اللَّهِ صَارِخًا: يَا رَبَّاهُ قَدْ فَنِيَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ! فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ وَجَادَ عَلَيْهِمْ بِفَضْلِهِ فَقَبِلَ تَوْبَةَ مَنْ بَقِيَ وَجَعَلَ مَنْ قُتِلَ فِي الشُّهَدَاءِ عَلَى مَا يَأْتِي. الرَّابِعَةُ- إِنْ قِيلَ لِمَ خَصَّ اللَّيَالِي بِالذِّكْرِ دُونَ الْأَيَّامِ؟ قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ اللَّيْلَةَ أَسْبَقُ مِنَ الْيَوْمِ فَهِيَ قَبْلَهُ فِي الرُّتْبَةِ وَلِذَلِكَ وَقَعَ بِهَا التَّارِيخُ فَاللَّيَالِي أَوَّلُ الشُّهُورِ وَالْأَيَّامُ تَبَعٌ لَهَا. الْخَامِسَةُ- قَالَ النَّقَّاشُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى صِلَةِ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ ذَكَرَ الْأَيَّامَ لَأَمْكَنَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُ كَانَ يُفْطِرُ بِاللَّيْلِ فَلَمَّا نَصَّ عَلَى اللَّيَالِي اقْتَضَتْ قُوَّةُ الْكَلَامِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاصَلَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا بِلَيَالِيِهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ الزَّاهِدَ الْإِمَامَ الْوَاعِظَ أَبَا الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعِظُ النَّاسَ فِي الْخَلْوَةِ بِاللَّهِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُ عَنْ كُلِّ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَيَقُولُ أَيْنَ حَالُ مُوسَى فِي الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ! وَوِصَالِ ثَمَانِينَ مِنَ الدَّهْرِ مِنْ قول حِينَ سَارَ إِلَى الْخَضِرِ لِفَتَاهُ فِي بَعْضِ يوم" آتِنا غَداءَنا" [الكهف: 62] . قُلْتُ: وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ عُلَمَاءُ الصُّوفِيَّةِ عَلَى الْوِصَالِ وَأَنَّ أَفْضَلَهُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الْوِصَالِ فِي آيِ الصِّيَامِ «1» مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيَأْتِي فِي" الْأَعْرَافِ" «2» زِيَادَةُ أَحْكَامٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى" وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً" [الأعراف: 142] ويأتي لقصة العجل ببان في كيفيته وخوارة وَفِي" طه" «3» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) أَيِ اتَّخَذْتُمُوهُ إِلَهًا مِنْ بَعْدِ مُوسَى. وَأَصْلُ اتَّخَذْتُمُ ائْتَخَذْتُمْ مِنَ الْأَخْذِ وَوَزْنُهُ افْتَعَلْتُمْ سُهِّلَتِ الْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ لِامْتِنَاعِ هَمْزَتَيْنِ فَجَاءَ ايتَخَذْتُمْ فَاضْطَرَبَتِ الْيَاءُ فِي التَّصْرِيفِ جَاءَتْ أَلِفًا فِي يَاتَخِذُ وواوا في موتخذ
__________
(1) . راجع ج 2 ص 329.
(2) . راجع ج 7 ص 274 وص 284.
(3) . راجع ج 11 ص 235(1/396)
ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
فَبُدِّلَتْ بِحَرْفٍ جَلْدٍ ثَابِتٍ مِنْ جِنْسِ مَا بعدها وهي التاء وأدغمت ثم أجلبت أَلِفُ الْوَصْلِ لِلنُّطْقِ وَقَدْ يُسْتَغْنَى عَنْهَا إِذَا كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ التَّقْرِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى" قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً" [البقرة: 80] فَاسْتَغْنَى عَنْ أَلِفِ الْوَصْلِ بِأَلِفِ التَّقْرِيرِ قَالَ الشَّاعِرُ: «1»
أَسْتَحْدَثَ الرَّكْبُ عَنْ أَشْيَاعِهِمْ خَبَرًا ... أَمْ رَاجَعَ الْقَلْبَ مِنْ أَطْرَابِهِ طَرَبُ
وَنَحْوُهُ فِي القرآن" أَطَّلَعَ الْغَيْبَ" [مريم: 78] " أَصْطَفَى الْبَناتِ" [الصافات: 153] " أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ" [ص: 75] . وَمَذْهَبُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ أَنَّ" اتَّخَذْتُمُ" مِنْ تخذلا مِنْ أَخَذَ. (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الظُّلْمِ «2» . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
[سورة البقرة (2) : آية 52]
ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) العفو: عفو الله عز وجل عَنْ خَلْقِهِ وَقَدْ يَكُونُ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ وَقَبْلَهَا بِخِلَافِ الْغُفْرَانِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَعَهُ عُقُوبَةٌ الْبَتَّةَ. وَكُلُّ مَنِ اسْتَحَقَّ عُقُوبَةً فَتُرِكَتْ لَهُ فَقَدْ عُفِيَ عَنْهُ فَالْعَفْوُ: مَحْوُ الذَّنْبِ أَيْ مَحَوْنَا ذُنُوبَكُمْ وَتَجَاوَزْنَا عَنْكُمْ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِكَ: عَفَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ أَيْ أَذْهَبَتْهُ وَعَفَا الشَّيْءُ كَثُرَ فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى" حَتَّى عَفَوْا". [الأعراف 95] . الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أَيْ مِنْ بَعْدِ عِبَادَتِكُمُ الْعِجْلَ. وَسُمِّيَ الْعِجْلُ عِجْلًا لِاسْتِعْجَالِهِمْ عِبَادَتَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْعِجْلُ وَلَدُ الْبَقَرَةِ. وَالْعِجَّوْلُ مِثْلُهُ وَالْجَمْعُ الْعَجَاجِيلُ وَالْأُنْثَى عِجْلَةٌ. عَنْ أَبِي الْجَرَّاحِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) كَيْ تَشْكُرُوا عَفْوَ اللَّهِ عَنْكُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى لَعَلَّ «3» . وَأَمَّا الشُّكْرُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ الظهور من قول دَابَّةٌ شَكُورٌ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنَ السِّمَنِ فَوْقَ مَا تُعْطَى مِنَ الْعَلَفِ وَحَقِيقَتُهُ الثَّنَاءُ على الإنسان بمعروف يوليكه. كما تقدم
__________
(1) . هو ذو الرمة.
(2) . راجع ص 309. [.....]
(3) . راجع ص 227 من هذا الجزء.(1/397)
فِي الْفَاتِحَةِ «1» قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الشُّكْرُ: الثَّنَاءُ عَلَى الْمُحْسِنِ بِمَا أَوْلَاكَهُ مِنَ الْمَعْرُوفِ يُقَالُ: شَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ وَبِاللَّامِ أَفْصَحُ. وَالشُّكْرَانُ: خِلَافُ الْكُفْرَانِ. وَتَشَكَّرْتُ لَهُ مِثْلُ شَكَرْتُ لَهُ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا الْكَلَامُ يَتَأَوَّلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ طَبْعِهِ كُفْرَانُ نِعْمَةِ النَّاسِ وَتَرْكُ الشُّكْرِ لِمَعْرُوفِهِمْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ كُفْرَانُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَرْكُ الشُّكْرِ لَهُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَقْبَلُ شكر العبد على إحسانه إليه إذ كَانَ الْعَبْدُ لَا يَشْكُرُ إِحْسَانَ النَّاسِ إِلَيْهِ وَيَكْفُرُ مَعْرُوفَهُمْ لِاتِّصَالِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ. الرَّابِعَةُ- فِي عِبَارَاتِ الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى الشُّكْرِ فَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الشُّكْرُ: الِاجْتِهَادُ فِي بَذْلِ الطَّاعَةِ مَعَ الِاجْتِنَابِ لِلْمَعْصِيَةِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: الشُّكْرُ هُوَ الِاعْتِرَافُ فِي تَقْصِيرِ الشُّكْرِ لِلْمُنْعِمِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى" اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً" «2» [سبأ: 13] فَقَالَ دَاوُدُ: كَيْفَ أَشْكُرُكَ يَا رَبِّ وَالشُّكْرُ نِعْمَةٌ مِنْكَ! قَالَ: الْآنَ قَدْ عَرَفْتَنِي وَشَكَرْتَنِي إِذْ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الشُّكْرَ مِنِّي نِعْمَةٌ قَالَ يَا رَبِّ فَأَرِنِي أَخْفَى نِعَمِكَ عَلَيَّ قَالَ يَا دَاوُدُ تَنَفَّسْ فَتَنَفَّسَ دَاوُدُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يُحْصِي هَذِهِ النِّعْمَةَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَيْفَ أَشْكُرُكَ وَأَصْغَرُ نِعْمَةٍ وَضَعْتَهَا بِيَدِي مِنْ نِعَمِكَ لَا يُجَازِي بِهَا عَمَلِي كُلُّهِ! فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ يَا مُوسَى الْآنَ شَكَرْتَنِي وَقَالَ الْجُنَيْدُ حَقِيقَةُ الشُّكْرِ الْعَجْزُ عَنِ الشُّكْرِ وَعَنْهُ قَالَ كُنْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّرِيِّ السَّقَطِيِّ أَلْعَبُ وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ جَمَاعَةٌ يَتَكَلَّمُونَ فِي الشُّكْرِ فَقَالَ لِي يَا غُلَامُ مَا الشُّكْرُ؟ فَقُلْتُ أَلَّا يُعْصَى اللَّهُ بِنِعَمِهِ فَقَالَ لِي: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ حَظُّكَ مِنَ اللَّهِ لِسَانَكَ. قَالَ الْجُنَيْدُ فَلَا أَزَالُ أَبْكِي عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ الَّتِي قَالَهَا السَّرِيُّ لِي. وَقَالَ الشِّبْلِيُّ الشُّكْرُ التَّوَاضُعُ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْحَسَنَاتِ وَمُخَالَفَةُ الشَّهَوَاتِ وبذل الطاعات ومراقبة جبار الأرض والسموات وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ أَبُو الْفَيْضِ الشُّكْرُ لِمَنْ فَوْقَكَ بِالطَّاعَةِ وَلِنَظِيرِكَ بِالْمُكَافَأَةِ وَلِمَنْ دُونَكَ بالإحسان والإفضال
__________
(1) . راجع ص 133 من هذا الجزء.
(2) . راجع ج 14 ص 276(1/398)
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
[سورة البقرة (2) : آية 53]
وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
" إذا" اسْمٌ لِلْوَقْتِ الْمَاضِي وَ" إِذَا" اسْمٌ لِلْوَقْتِ المستقبل و" آتينا" أَعْطَيْنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيعُ هَذَا «1» . وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْمُتَأَوِّلِينَ. وَاخْتُلِفَ فِي الْفُرْقَانِ فَقَالَ الْفَرَّاءُ وَقُطْرُبٌ: الْمَعْنَى آتَيْنَا مُوسَى التَّوْرَاةَ وَمُحَمَّدًا عليه السلام الفرقان قال النحاس: هذا خطاء الْإِعْرَابِ وَالْمَعْنَى أَمَّا الْإِعْرَابُ فَإِنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الشَّيْءِ مِثْلُهُ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْمَعْطُوفُ عَلَى الشَّيْءِ خِلَافَهُ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَقَدْ قَالَ تَعَالَى" وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ". قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: يَكُونُ الْفُرْقَانُ هُوَ الْكِتَابَ أعيد ذكره ياسمين تَأْكِيدًا. وَحُكِيَ عَنِ الْفَرَّاءِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَقَدَّمْتِ «2» الْأَدِيمَ لِرَاهِشَيْهِ ... وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنَا
وقال آخر «3» :
أَلَا حَبَّذَا هِنْدٌ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدُ ... وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ
فَنُسِقَ الْبُعْدُ عَلَى النَّأْيِ وَالْمَيْنُ عَلَى الْكَذِبِ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ تَأْكِيدًا وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ:
حُيِّيَتِ مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ ... أَقْوَى وَأَقْفَرَ بَعْدَ أُمِّ الْهَيْثَمِ
قال النحاس وهذا إنما يجئ فِي الشِّعْرِ وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَرْقًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَيِ الَّذِي عَلَّمَهُ إِيَّاهُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْفُرْقَانُ انْفِرَاقُ الْبَحْرِ لَهُ حَتَّى صَارَ فِرَقًا فَعَبَرُوا. وَقِيلَ: الْفُرْقَانُ الْفَرَجُ مِنَ الْكَرْبِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَعْبَدِينَ مَعَ الْقِبْطِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً" [الأنفال: 29] أَيْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْحُجَّةُ وَالْبَيَانُ. قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. وَقِيلَ الْوَاوُ صِلَةٌ وَالْمَعْنَى آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ الْفُرْقَانَ وَالْوَاوُ قَدْ تُزَادُ فِي النُّعُوتِ كَقَوْلِهِمْ فُلَانٌ حَسَنٌ وَطَوِيلٌ وَأَنْشَدَ:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ ... وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ في المزدحم
__________
(1) . راجع ص 261 ص 343.
(2) . الرواية المشهورة في البيت: (فقددت الأديم) وهو لعدي بن زيد. والقد: القطع. والأديم: الجلد. والراهشان: عرفان في باطن الذراع.
(3) . هو الحطيئة.(1/399)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
أَرَادَ إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ ابْنِ الْهُمَامِ لَيْثِ الْكَتِيبَةِ وَدَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:" ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ" «1» [الانعام: 154] أَيْ بَيَّنَ الْحَرَامَ وَالْحَلَالَ وَالْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْفُرْقَانُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَنْجَى هَؤُلَاءِ وَأَغْرَقَ أُولَئِكَ. وَنَظِيرُهُ:" يَوْمَ الْفُرْقانِ". فَقِيلَ: يَعْنِي بِهِ يَوْمَ بَدْرٍ نَصَرَ اللَّهُ فِيهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ وَأَهْلَكَ أَبَا جَهْلٍ وَأَصْحَابَهُ. (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لِكَيْ تَهْتَدُوا مِنَ الضَّلَالَةِ وَقَدْ تقدم «2» .
[سورة البقرة (2) : آية 54]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) الْقَوْمُ: الْجَمَاعَةُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ" [الحجرات: 11] ثم قال" وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ" [الحجرات: 11] وَقَالَ زُهَيْرٌ:
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
وَقَالَ تَعَالَى:" وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ" [الأعراف: 80] أَرَادَ الرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ. وَقَدْ يَقَعُ الْقَوْمُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ" [نوح: 1] وَكَذَا كُلُّ نَبِيٍّ مُرْسَلٌ إِلَى النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ جَمِيعًا قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا قَوْمِ) مُنَادَى مُضَافٌ وَحُذِفَتِ الْيَاءُ فِي" يَا قَوْمِ" لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَذْفٍ وَالْكَسْرَةُ تَدُلُّ عَلَيْهَا وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ التَّنْوِينِ فَحَذَفْتَهَا كَمَا تَحْذِفُ التَّنْوِينَ مِنَ الْمُفْرَدِ وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ إِثْبَاتُهَا سَاكِنَةً فَتَقُولُ يَا قَوْمِي لِأَنَّهَا اسْمٌ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتَهَا وَإِنْ شِئْتَ أَلْحَقْتَ مَعَهَا هَاءً فَقُلْتَ يَا قَوْمِيَهْ. وَإِنْ شِئْتَ أَبْدَلْتَ مِنْهَا أَلِفًا لِأَنَّهَا أَخَفُّ فَقُلْتَ يَا قَوْمًا وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ يَا قَوْمُ بِمَعْنَى يَا أَيُّهَا الْقَوْمُ وَإِنْ جَعَلْتَهُمْ نَكِرَةً نَصَبْتَ وَنَوَّنْتَ وَوَاحِدُ الْقَوْمِ امْرُؤٌ عَلَى غَيْرِ اللَّفْظِ وَتَقُولُ قَوْمٌ وَأَقْوَامٌ وَأَقَاوِمُ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَالْمُرَادُ هُنَا بِالْقَوْمِ عَبَدَةُ الْعِجْلِ وَكَانَتْ مُخَاطَبَتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لهم بأمر من الله تعالى.
__________
(1) . راجع ج 7 ص 142.
(2) . راجع ص 160 من هذا الجزء.(1/400)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) اسْتَغْنَى بِالْجَمْعِ الْقَلِيلِ عَنِ الْكَثِيرِ وَالْكَثِيرُ نُفُوسٌ وَقَدْ يُوضَعُ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ مَوْضِعَ جَمْعِ الْقِلَّةِ وَالْقَلِيلُ مَوْضِعَ الكثرة قال الله تعالى" ثَلاثَةَ قُرُوءٍ"" [البقرة: 228] وقال" وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ" [الزخرف: 71] . وَيُقَالُ لِكُلِّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا يَعُودُ عَلَيْهِ ضَرَرُهُ: إِنَّمَا أَسَأْتَ إِلَى نَفْسِكَ. وَأَصْلُ الظُّلْمِ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) قَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْمَعَانِي عِجْلُ كُلِّ إِنْسَانٍ نَفْسُهُ فَمَنْ أَسْقَطَهُ وَخَالَفَ مُرَادَهُ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ ظُلْمِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ هُنَا عِجْلٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ عَبَدُوهُ كَمَا نَطَقَ بِهِ التَّنْزِيلُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) لَمَّا قَالَ لَهُمْ: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ قَالُوا: كَيْفَ؟ قَالَ" فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ" قَالَ أَرْبَابُ الْخَوَاطِرِ: ذَلِّلُوهَا بِالطَّاعَاتِ وَكُفُّوهَا عَنِ الشَّهَوَاتِ. والصحيح أنه قل عَلَى الْحَقِيقَةِ هُنَا. وَالْقَتْلُ: إِمَاتَةُ الْحَرَكَةِ. وَقَتَلْتُ الْخَمْرَ: كَسَرْتُ شِدَّتَهَا بِالْمَاءِ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: التَّوْبَةُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ وَكَانَتْ تَوْبَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقَتْلَ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عَبَدَةِ الْعِجْلِ بِأَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ بِيَدِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ" فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ" قَامُوا صَفَّيْنِ وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا فَكَانَ ذَلِكَ شَهَادَةً لِلْمَقْتُولِ وَتَوْبَةً لِلْحَيِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ظَلَامًا فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَقِيلَ وَقَفَ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ صَفًّا وَدَخَلَ الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوهُ عَلَيْهِمْ بِالسِّلَاحِ فَقَتَلُوهُمْ وَقِيلَ: قَامَ السَّبْعُونَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ مُوسَى فَقَتَلُوا إِذْ لَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ. وَيُرْوَى أَنَّ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُحْتَبُونَ فَقَالَ مَلْعُونٌ مَنْ حَلَّ حَبْوَتَهُ أَوْ مَدَّ طَرَفَهُ إِلَى قَاتِلِهِ أَوِ اتَّقَاهُ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَمَا حَلَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَبْوَتَهُ حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ يَعْنِي مَنْ قُتِلَ وَأَقْبَلَ الرَّجُلُ يَقْتُلُ مَنْ يَلِيهِ. ذَكَرُهُ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ. وَإِنَّمَا عُوقِبَ الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُغَيِّرُوا الْمُنْكَرَ حِينَ عَبَدُوهُ وَإِنَّمَا اعْتَزَلُوا وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَاتِلُوا مَنْ عَبَدَهُ. وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ إِذَا فَشَا الْمُنْكَرُ وَلَمْ يُغَيَّرْ عُوقِبَ الْجَمِيعُ. رَوَى جَرِيرٌ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ(1/401)
بِالْمَعَاصِي هُمْ أَعَزُّ مِنْهُمْ وَأَمْنَعُ لَا يُغَيِّرُونَ إِلَّا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ (. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَعْنَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَلَمَّا اسْتَحَرَّ «1» فِيهِمُ الْقَتْلُ وَبَلَغَ سَبْعِينَ أَلْفًا عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَإِنَّمَا رَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْقَتْلَ لِأَنَّهُمْ أَعْطَوُا الْمَجْهُودَ فِي قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ فَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ نِعْمَةً بَعْدَ الْإِسْلَامِ هِيَ أَفْضَلُ مِنَ التَّوْبَةِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: فَأَقِيلُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْإِقَالَةِ أَيِ اسْتَقْبِلُوهَا مِنَ الْعَثْرَةِ بِالْقَتْلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" بارِئِكُمْ" الْبَارِئُ: الْخَالِقُ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْبَارِئَ هُوَ الْمُبْدِعُ الْمُحْدِثُ. وَالْخَالِقُ هُوَ الْمُقَدِّرُ النَّاقِلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَالْبَرِيَّةُ الْخَلْقُ وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تُهْمَزُ وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو" بَارِئْكُمْ" بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَيُشْعِرْكُمْ وَيَنْصُرْكُمْ وَيَأْمُرْكُمْ. وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي هَذَا فَمِنْهُمْ مَنْ يُسَكِّنُ الضَّمَّةَ وَالْكَسْرَةَ فِي الْوَصْلِ وَذَلِكَ فِي الشِّعْرِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ: لَا يَجُوزُ التَّسْكِينُ مَعَ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ فِي حَرْفِ الْإِعْرَابِ فِي كَلَامٍ وَلَا شِعْرٍ وَقِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو لَحْنٌ قَالَ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ النَّحْوِيُّونَ الْقُدَمَاءُ الْأَئِمَّةُ وَأَنْشَدُوا:
إِذَا اعْوَجَجْنَ قُلْتُ صَاحِبْ قَوِّمِ ... بِالدَّوِّ أَمْثَالَ السَّفِينِ الْعُوَّمِ «2»
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إِثْمًا مِنَ اللَّهِ وَلَا وَاغِلِ «3»
وَقَالَ آخَرُ:
قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقًا
وَقَالَ الْآخَرُ:
رُحْتِ وَفِي رِجْلَيْكِ مَا فيهما ... وقد بدا هنك من المئزر
__________
(1) . استحر: اشتد وكثر.
(2) . الدو (بفتح الدال وتشديد الواو) : الصحراء. وأراد بأمثال السفين رواحل محملة تقطع الصحراء قطع السفن البحر.
(3) . المستحقب: المتكسب. والواغل: الذي يدخل على القوم في طعامهم وشرابهم من غير أن يدعوه. يقول هذا حين قتل أبوه ونذر ألا يشرب الخمر حتى يثأر به فلما أدرك ثأره حلت له بزعمه فلا يأثم بشربها إذ وفى بنذره فيها.(1/402)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
فَمَنْ أَنْكَرَ التَّسْكِينَ فِي حَرْفِ الْإِعْرَابِ فَحُجَّتُهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ مِنْ حَيْثُ كَانَ عَلَمًا لِلْإِعْرَابِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَأَمَّا حَرَكَةُ الْبِنَاءِ فَلَمْ يَخْتَلِفِ النُّحَاةُ فِي جَوَازِ تَسْكِينِهَا مَعَ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ. وَأَصْلُ بَرَأَ مِنْ تَبَرَّى الشَّيْءُ مِنَ الشَّيْءِ وَهُوَ انْفِصَالُهُ مِنْهُ. فَالْخَلْقُ قَدْ فُصِلُوا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَمِنْهُ بَرَأْتُ مِنَ الْمَرَضِ بَرْءًا (بِالْفَتْحِ) كَذَا يَقُولُ أَهْلُ الْحِجَازِ. وَغَيْرُهُمْ يَقُولُ بَرِئْتُ مِنَ الْمَرَضِ بُرْءًا (بِالضَّمِّ) وَبَرِئْتُ مِنْكَ وَمِنَ الدُّيُونِ وَالْعُيُوبِ بَرَاءَةً وَمِنْهُ الْمُبَارَأَةُ لِلْمَرْأَةِ. وَقَدْ بَارَأَ شَرِيكَهُ وَامْرَأَتَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتابَ عَلَيْكُمْ) فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَفَعَلْتُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ أَيْ فَتَجَاوَزَ عَنْكُمْ أَيْ عَلَى الْبَاقِينَ مِنْكُمْ. (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تقدم «1» معناه والحمد لله.
[سورة البقرة (2) : الآيات 55 الى 56]
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ) مَعْطُوفٌ" يَا مُوسى " نِدَاءٌ مُفْرَدٌ" لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ" أَيْ نُصَدِّقَكَ" حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً" قِيلَ: هُمُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَسْمَعَهُمْ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى قَالُوا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ" لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ" [البقرة: 55] وَالْإِيمَانُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَاجِبٌ بَعْدَ ظُهُورِ مُعْجِزَاتِهِمْ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا مِنَ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَهُمْ ثُمَّ دَعَا مُوسَى رَبَّهُ فَأَحْيَاهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى" ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ" [البقرة: 56] وَسَتَأْتِي قِصَّةُ السَّبْعِينَ فِي الْأَعْرَافِ «2» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ ابْنُ فُورَكَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُعَاقَبَتُهُمْ لِإِخْرَاجِهِمْ طَلَبَ الرُّؤْيَةِ عَنْ طَرِيقِهِ بقولهم لموسى" أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً" [النساء: 153] وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَقْدُورِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَكْثَرُ الْمُبْتَدِعَةِ عَلَى إِنْكَارِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ عَلَى جَوَازِهَا فِيهِمَا وَوُقُوعِهَا فِي الْآخِرَةِ فَعَلَى هَذَا لَمْ يَطْلُبُوا مِنَ الرؤية
__________
(1) . راجع ص 103 فما بعدها وص 325.
(2) . راجع ج 7 ص 294(1/403)
مُحَالًا وَقَدْ سَأَلَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الرُّؤْيَةِ فِي" الْأَنْعَامِ" وَ" الْأَعْرَافِ" «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (جَهْرَةً) مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَمَعْنَاهُ عَلَانِيَةٌ وَقِيلَ عِيَانًا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَأَصْلُ الْجَهْرِ الظُّهُورُ وَمِنْهُ الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ إِنَّمَا هُوَ إِظْهَارُهَا. وَالْمُجَاهَرَةُ بِالْمَعَاصِي: الْمُظَاهَرَةُ بِهَا. وَرَأَيْتُ الْأَمِيرَ جِهَارًا وَجَهْرَةً أَيْ غَيْرَ مُسْتَتِرٍ بِشَيْءٍ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ" جَهَرَةً" بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلَ زَهْرَةٍ وَزَهَرَةٍ. وَفِي الْجَهْرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ صِفَةٌ لِخِطَابِهِمْ لِمُوسَى أَنَّهُمْ جَهَرُوا بِهِ وَأَعْلَنُوا فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَالتَّقْدِيرُ: وَإِذْ قُلْتُمْ جَهْرَةً يَا مُوسَى. الثَّانِي- أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَا سَأَلُوهُ مِنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يروه جهرة وعيانا فيكون الكلام عله نَسَقِهِ لَا تَقْدِيمَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ. وَأُكِّدَ بِالْجَهْرِ فَرْقًا بَيْنَ رُؤْيَةِ الْعِيَانِ وَرُؤْيَةِ الْمَنَامِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مَعْنَى الصَّاعِقَةِ «2» وَقَرَأَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ" الصَّعْقَةُ" وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مُحَيْصِنٍ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ. (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَيُقَالُ: كَيْفَ يَمُوتُونَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: دُورُ آلِ فُلَانٍ تَرَاءَى أَيْ يُقَابِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَقِيلَ الْمَعْنَى" تَنْظُرُونَ" أَيْ إِلَى حَالِكُمْ وَمَا نَزَلَ بِكُمْ مِنَ الْمَوْتِ وَآثَارِ الصَّعْقَةِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) أَيْ أَحْيَيْنَاكُمْ قال قتادة ماتوا وذهبت أرواحهم ثم ودوا لِاسْتِيفَاءِ آجَالِهِمْ قَالَ النَّحَّاسُ وَهَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْبَعْثِ مِنْ قُرَيْشٍ وَاحْتِجَاجٌ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ خُبِّرُوا بِهَذَا وَالْمَعْنَى" لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" مَا فُعِلَ بِكُمْ مِنَ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقِيلَ مَاتُوا مَوْتَ هُمُودٍ يَعْتَبِرُ بِهِ الْغَيْرُ ثُمَّ أُرْسِلُوا وَأَصْلُ الْبَعْثِ الْإِرْسَالُ. وَقِيلَ: بَلْ أَصْلُهُ إِثَارَةُ الشَّيْءِ مِنْ مَحَلِّهِ يُقَالُ: بَعَثْتُ النَّاقَةَ: أَثَرْتُهَا أَيْ حَرَّكَتُهَا قَالَ امرؤ القيس:
__________
(1) . راجع ج 7 ص 54 وص 278. [.....]
(2) . راجع ص 219 من هذا الجزء.(1/404)
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
وَفَتَيَانِ صِدْقٍ قَدْ بَعَثْتُ بِسُحْرَةٍ «1» ... فَقَامُوا جَمِيعًا بَيْنَ عَاثٍ وَنَشْوَانَ
وَقَالَ عَنْتَرَةُ:
وَصَحَابَةٍ شُمِّ الْأُنُوفِ بَعَثْتُهُمْ ... لَيْلًا وَقَدْ مَالَ الْكَرَى بِطِلَاهَا «2»
وقال بعضهم" بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ" [البقرة: 56] عَلَّمْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ جَهْلِكُمْ. قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْحَقِيقَةُ، وَكَانَ مَوْتَ عُقُوبَةٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ" عَلَى مَا يأتي «3» [البقرة: 243] . الْخَامِسَةُ- قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَاخْتُلِفَ فِي بَقَاءِ تَكْلِيفِ مَنْ أُعِيدَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَمُعَايَنَةِ الْأَحْوَالِ الْمُضْطَرَّةِ إِلَى الْمَعْرِفَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا- بَقَاءُ تَكْلِيفِهِمْ لِئَلَّا يَخْلُوَ عَاقِلٌ مِنْ تَعَبُّدٍ. الثَّانِي: سُقُوطُ تَكْلِيفِهِمْ مُعْتَبَرًا بِالِاسْتِدْلَالِ دُونَ الِاضْطِرَارِ. قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ رَأَوُا الْجَبَلَ فِي الْهَوَاءِ سَاقِطًا عَلَيْهِمْ وَالنَّارَ مُحِيطَةً بِهِمْ وَذَلِكَ مِمَّا اضْطَرَّهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَبَقَاءُ التَّكْلِيفِ ثَابِتٌ عَلَيْهِمْ وَمِثْلُهُمْ قَوْمُ يُونُسَ. وَمُحَالٌ أَنْ يكونوا غير مكلفين. والله أعلم.
[سورة البقرة (2) : آية 57]
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
فِيهِ ثَمَانِي مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) أَيْ جَعَلْنَاهُ عَلَيْكُمْ كَالظُّلَّةِ. وَالْغَمَامُ جَمْعُ غَمَامَةٍ كَسَحَابَةٍ وَسَحَابٍ قَالَهُ الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ غَمَائِمُ وَهِيَ السَّحَابُ لِأَنَّهَا تَغُمُّ السَّمَاءَ أَيْ تَسْتُرُهَا وَكُلُّ مُغَطًّى فَهُوَ مَغْمُومٌ وَمِنْهُ الْمَغْمُومُ على عقله. وغم الهلال
__________
(1) . السحرة (بضم أوله) : السحر. وقيل: أعلى السحر. وقيل: هو من ثلث الليل الآخر إلى طلوع الفجر.
(2) . الطلى (بضم ففتح) : الأعناق.
(3) . راجع ج 3 ص 230(1/405)
إِذَا غَطَّاهُ الْغَيْمُ وَالْغَيْنُ مِثْلُ الْغَيْمِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي) . قَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ: غِينَ عَلَيْهِ: غُطِّيَ عَلَيْهِ. وَالْغَيْنُ: شَجَرٌ مُلْتَفٌّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْغَمَامُ السَّحَابُ الْأَبْيَضُ. وَفَعَلَ هَذَا بِهِمْ لِيَقِيَهُمْ حَرَّ الشَّمْسِ نَهَارًا وَيَنْجَلِي فِي آخِرِهِ لِيَسْتَضِيئُوا بِالْقَمَرِ لَيْلًا. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ هَذَا جَرَى فِي التِّيهِ بَيْنَ مِصْرَ وَالشَّامِ لَمَّا امْتَنَعُوا مِنْ دُخُولِ مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ وَقِتَالِهِمْ وَقَالُوا لِمُوسَى" فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا" «1» [المائدة: 42] . فَعُوقِبُوا فِي ذَلِكَ الْفَحْصِ «2» أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي خَمْسَةِ فَرَاسِخَ أَوْ سِتَّةٍ. رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَمْشُونَ النَّهَارَ كُلَّهُ وَيَنْزِلُونَ لِلْمَبِيتِ فَيُصْبِحُونَ حيت كانوا بكرة أمس. وإذا كَانُوا بِأَجْمَعِهِمْ فِي التِّيهِ قَالُوا لِمُوسَى: مَنْ لَنَا بِالطَّعَامِ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى. قَالُوا: مَنْ لَنَا مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ! فَظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ. قَالُوا: فَبِمَ نَسْتَصْبِحُ! فَضَرَبَ لَهُمْ عَمُودَ نُورٍ فِي وَسَطِ مَحِلَّتِهِمْ وَذَكَرَ مَكِّيٌّ عَمُودٌ مِنْ نَارٍ. قَالُوا مَنْ لَنَا بِالْمَاءِ! فَأَمَرَ مُوسَى بِضَرْبِ الْحَجَرِ قَالُوا مَنْ لَنَا بِاللِّبَاسِ! فَأُعْطُوا أَلَّا يَبْلَى لَهُمْ ثَوْبٌ وَلَا يَخْلَقَ وَلَا يَدْرَنَ وَأَنْ تَنْمُوَ صِغَارُهَا حَسَبَ نُمُوِّ الصِّبْيَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) اخْتُلِفَ فِي الْمَنِّ مَا هُوَ وَتَعْيِينُهُ عَلَى أَقْوَالٍ فَقِيلَ التَّرَّنْجَبِينُ «3» - بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَتَسْكِينِ النُّونِ ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ وَيُقَالُ الطَّرَّنْجَبِينُ بِالطَّاءِ وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَقِيلَ صَمْغَةٌ حُلْوَةٌ وَقِيلَ عَسَلٌ: وَقِيلَ شَرَابٌ حُلْوٌ. وَقِيلَ: خُبْزُ الرِّقَاقِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ. وَقِيلَ:" الْمَنُّ" مَصْدَرٌ يَعُمُّ جَمِيعَ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا زَرْعٍ وَمِنْهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ (الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ) فِي رِوَايَةٍ (مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى) رَوَاهُ مُسْلِمٌ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَمْأَةَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ مِمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي التِّيهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّمَا شَبَّهَهَا بِالْمَنِّ لِأَنَّهُ لَا مَئُونَةَ فِيهَا بِبَذْرٍ وَلَا سَقْيٍ وَلَا عِلَاجٍ فَهِيَ مِنْهُ أَيْ مِنْ جِنْسٍ مَنِّ
__________
(1) . راجع ج 6 ص 128.
(2) . الفحص: كل موضع يسكن. وفي حديث كعب: (إن الله بارك في الشام وخص بالتقديس من فحص الأردن إلى رفح ... ) وفحصه ما بسط منه وكشف من نواحيه. (عن القاموس والنهاية) .
(3) . الترنجبين: طل يقع من السماء وهو ندى شبيه بالعسل جامد متحبب (عن مفردات ابن البيطار) .(1/406)
بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَنَّهُ كَانَ دُونَ تَكَلُّفٍ. رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ كَالثَّلْجِ فَيَأْخُذُ الرَّجُلُ مَا يَكْفِيهِ لِيَوْمِهِ فَإِنِ ادَّخَرَ مِنْهُ شَيْئًا فَسَدَ عَلَيْهِ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدَّخِرُونَ لِيَوْمِ السَّبْتِ فَلَا يَفْسُدُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ يَوْمَ السَّبْتِ يَوْمُ عِبَادَةٍ وَمَا كَانَ ينزل عليهم يوم السبت شي. الثَّالِثَةُ- لَمَّا نَصَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنَّ مَاءَ الْكَمْأَةِ شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالطِّبِّ: إِمَّا لِتَبْرِيدِ الْعَيْنِ مِنْ بَعْضِ مَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْحَرَارَةِ فَتُسْتَعْمَلُ بِنَفْسِهَا مُفْرَدَةً وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَمُرَكَّبَةٌ مَعَ غَيْرِهَا. وَذَهَبَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا بَحْتًا فِي جَمِيعِ مَرَضِ الْعَيْنِ. وَهَذَا كَمَا اسْتَعْمَلَ أَبُو وَجْزَةَ الْعَسَلَ فِي جَمِيعِ الْأَمْرَاضِ كُلِّهَا حَتَّى فِي الْكُحْلِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" النَّحْلِ" «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْكَمْءُ وَاحِدٌ وَكَمْآنُ اثْنَانِ وَأَكْمُؤٌ ثَلَاثَةٌ فَإِذَا زَادُوا قَالُوا- كَمْأَةٌ- بِالتَّاءِ- عَلَى عَكْسِ شَجَرَةٍ وَشَجَرٍ. وَالْمَنُّ اسْمُ جِنْسٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ قَالَهُ الْأَخْفَشُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالسَّلْوى) اخْتُلِفَ فِي السَّلْوَى فَقِيلَ هُوَ السُّمَانَى بِعَيْنِهِ قَالَهُ الضَّحَّاكُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: السَّلْوَى طير بإجماع المفسرين وقد غلط الهذلي «2» فَقَالَ:
وَقَاسَمَهَا بِاللَّهِ جَهْدًا لَأَنْتُمْ ... أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا
ظَنَّ السَّلْوَى الْعَسَلَ. قُلْتُ: مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ لَا يَصِحُّ وَقَدْ قَالَ الْمُؤَرِّجُ «3» أَحَدُ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ: إِنَّهُ الْعَسَلُ وَاسْتَدَلَّ بِبَيْتِ الْهُذَلِيِّ وَذَكَرَ أَنَّهُ كَذَلِكَ بِلُغَةِ كِنَانَةَ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يُسْلَى بِهِ وَمِنْهُ عَيْنُ السُّلْوَانِ «4» ، وَأَنْشَدَ:
لَوْ أَشْرَبُ السُّلْوَانَ مَا سَلَيْتُ ... مَا بِي غِنًى عَنْكِ وإن غنيت «5»
__________
(1) . راجع ج 10 ص 136.
(2) . هو خالد بن زهير.
(3) . هو مؤرج بن عمر السدوسي ويكنى أبا فيد. كان من أصحاب الخليل بن أحمد مات سنة خمس وتسعين ومائة.
(4) . عين السلوان: عين نضاخة يتبرك بها ويستشفى منها بالبيت المقدس. (عن معجم ياقوت) .
(5) . البيت لرؤبة.(1/407)
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالسَّلْوَى الْعَسَلُ وَذَكَرَ بَيْتَ الْهُذَلِيِّ:
أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا
وَلَمْ يَذْكُرْ غَلَطًا. وَالسُّلْوَانَةُ (بِالضَّمِّ) : خَرَزَةٌ كَانُوا يَقُولُونَ إِذَا صُبَّ عَلَيْهَا مَاءُ الْمَطَرِ فَشَرِبَهُ الْعَاشِقُ سَلَا قَالَ:
شَرِبْتُ عَلَى سُلْوَانَةٍ مَاءَ مُزْنَةٍ ... فَلَا وَجَدِيدُ الْعَيْشِ يَا مَيَّ مَا أَسْلُو
وَاسْمُ ذَلِكَ الْمَاءِ السُّلْوَانُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: السُّلْوَانُ دَوَاءٌ يُسْقَاهُ الْحَزِينُ فَيَسْلُو وَالْأَطِبَّاءُ يُسَمُّونَهُ الْمُفَرِّحَ. يُقَالُ: سَلَيْتُ وَسَلَوْتُ لُغَتَانِ. وَهُوَ فِي سَلْوَةٍ مِنَ الْعَيْشِ أَيْ فِي رَغَدٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ. الْخَامِسَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي السَّلْوَى هَلْ هُوَ جَمْعٌ أَوْ مُفْرَدٌ فَقَالَ الْأَخْفَشُ: جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ مِثْلُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَهُوَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدُهُ سَلْوَى مِثْلُ جَمَاعَتِهِ كَمَا قَالُوا: دِفْلَى «1» لِلْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ وَسُمَانَى وَشُكَاعَى «2» فِي الْوَاحِدِ وَالْجَمِيعِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: وَاحِدُهُ سلواة وأنشد:
وإني لتعروني لذكرك هِزَّةٌ «3» ... كَمَا انْتَفَضَ السَّلْوَاةُ مِنْ بَلَلِ الْقَطْرِ
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: السَّلْوَى وَاحِدَةٌ وَجَمْعُهُ سَلَاوِي. السَّادِسَةُ-" السَّلْوَى" عَطْفٌ عَلَى" الْمَنِّ" وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ الْإِعْرَابُ لِأَنَّهُ مَقْصُورٌ. وَوَجَبَ هَذَا فِي الْمَقْصُورِ كُلِّهِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي آخِرِهِ أَلِفٌ. قَالَ الْخَلِيلُ: وَالْأَلِفُ حَرْفٌ هَوَائِيٌّ لَا مُسْتَقَرَّ لَهُ فَأَشْبَهَ الْحَرَكَةَ فَاسْتَحَالَتْ حَرَكَتُهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْ حُرِّكَتِ الْأَلِفُ صَارَتْ هَمْزَةً. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ) ... " كُلُوا" فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ وَقُلْنَا كلوا فحذف اختصار الدلالة الظَّاهِرِ عَلَيْهِ. وَالطَّيِّبَاتُ هُنَا قَدْ جَمَعَتِ الْحَلَالَ واللذيذ.
__________
(1) . الدفلى (كذكرى) : شجر مر أخضر حسن المنظر يكون في الأودية.
(2) . الشكاعى (كحبارى وقد تفتح) من دق النبات وهي دقيقة العيدان صغيرة خضراء والناس يتداوون بها. [.....]
(3) . في الأصول: (سلوة) وهو تحريف.(1/408)
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما ظَلَمُونا) يُقَدَّرُ قَبْلَهُ فَعَصَوْا وَلَمْ يُقَابِلُوا النِّعَمَ بِالشُّكْرِ. (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لمقابلتهم النعم بالمعاصي.
[سورة البقرة (2) : آية 58]
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
فِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) حُذِفَتِ الْأَلِفُ مِنْ" قُلْنَا" لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ الدَّالِ بَعْدَهَا وَالْأَلِفُ الَّتِي يُبْتَدَأُ بِهَا قَبْلَ الدَّالِ أَلِفُ وَصْلٍ لِأَنَّهُ مِنْ يَدْخُلُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (هذِهِ الْقَرْيَةَ) أَيْ الْمَدِينَةَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقَرَّتْ أَيْ اجْتَمَعَتْ وَمِنْهُ قَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ أَيْ جَمَعْتُهُ وَاسْمُ ذَلِكَ الْمَاءِ قِرًى (بِكَسْرِ الْقَافِ) مَقْصُورٌ. وَكَذَلِكَ مَا قُرِيَ بِهِ الضَّيْفُ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَالْمِقْرَاةُ لِلْحَوْضِ. وَالْقَرِيُّ لِمَسِيلِ الْمَاءِ. وَالْقَرَا لِلظَّهْرِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ «1» :
لَاحِقُ بَطْنٍ بِقَرًا سَمِينِ
وَالْمَقَارِي: الْجِفَانُ الْكِبَارُ قَالَ:
عِظَامُ الْمَقَارِي ضَيْفُهُمْ لَا يُفَزَّعُ
وَوَاحِدُ الْمَقَارِي مِقْرَاةٌ وَكُلُّهُ بِمَعْنَى الْجَمْعِ غَيْرُ مَهْمُوزٍ. وَالْقِرْيَةُ (بِكَسْرِ الْقَافِ) لُغَةُ الْيَمَنِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِهَا فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ. وَقِيلَ: أَرِيحَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ: كَانَتْ قَاعِدَةَ وَمَسْكَنَ مُلُوكٍ. ابْنُ كَيْسَانَ الشَّامُ. الضَّحَّاكُ: الرَّمْلَةُ وَالْأُرْدُنُّ وَفِلَسْطِينُ وَتَدْمُرُ. وَهَذِهِ نِعْمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ أَبَاحَ لهم دخول البلدة وأزال عنهم التيه.
__________
(1) . هو حميد الأرقط. وصف فرسا بضمور البطن ثم نفى أن تكون ضمره من هزال فقال: (بقرا سمين) . واللاحق الضامر. (عن شرح الشواهد) .(1/409)
الثالثة- قوله تعالى (فَكُلُوا) إباحة. و (رَغَداً) كَثِيرًا وَاسِعًا وَهُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ أكلا رغد. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَكَانَتْ أَرْضًا مُبَارَكَةً عَظِيمَةَ الْغَلَّةِ فَلِذَلِكَ قَالَ" رَغَداً" الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) الْبَابُ يُجْمَعُ أَبْوَابًا وَقَدْ قَالُوا: أبوبه للازدواج قال الشاعر «1» :
هَتَّاكُ أَخْبِيَةٍ وَلَّاجُ أَبْوِبَةٍ ... يَخْلِطُ بِالْبِرِّ مِنْهُ الْجِدَّ وَاللِّينَا
وَلَوْ أَفْرَدَهُ لَمْ يَجُزْ. وَمِثْلُهُ قول عَلَيْهِ السَّلَامُ: (مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ- أَوْ بِالْوَفْدِ- غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى) . وَتَبَوَّبْتُ بَوَّابًا اتَّخَذْتُهُ وَأَبْوَابٌ مبوبة كما قالوا أصناف مصنفة. وهذا شي مِنْ بَابَتِكَ أَيْ يَصْلُحُ لَكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى السُّجُودِ «2» فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. والباب الذي أمروا بدخول هُوَ بَابٌ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ يُعْرَفُ الْيَوْمَ بِ"- بَابِ حِطَّةٍ" عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: بَابُ الْقُبَّةِ الَّتِي كَانَ يُصَلِّي إِلَيْهَا مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيلَ وَ" سُجَّداً" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: منحنين ركوعا. وقيل متواضعين خشوعا لا على هية مُتَعَيِّنَةٍ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقُولُوا) عَطْفٌ عَلَى ادْخُلُوا. (حِطَّةٌ) بِالرَّفْعِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ أَيْ مَسْأَلَتُنَا حِطَّةٌ أَوْ يَكُونُ حِكَايَةً. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَقُرِئَتْ" حِطَّةً" بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى أَحْطِطْ عَنَّا ذُنُوبَنَا حِطَّةً. قَالَ النَّحَّاسُ: الْحَدِيثُ «3» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْهُ قِيلَ لَهُمْ قُولُوا مَغْفِرَةً تَفْسِيرٌ لِلنَّصْبِ أَيْ قُولُوا شَيْئًا يَحُطُّ ذُنُوبَكُمْ كَمَا يُقَالُ قُلْ خَيْرًا وَالْأَئِمَّةُ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى الرَّفْعِ وَهُوَ أَوْلَى فِي اللُّغَةِ لِمَا حُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ فِي مَعْنَى بَدَّلَ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: يُقَالُ بَدَّلْتُهُ أَيْ غَيَّرْتُهُ وَلَمْ أُزِلْ عَيْنَهُ. وَأَبْدَلْتُهُ أَزَلْتُ عَيْنَهُ وَشَخْصَهُ كَمَا قَالَ «4» :
عزل الأمير للأمير المبدل
__________
(1) . هو القلاخ بن جناب. وقيل: هو ابن مقبل. (عن اللسان)
(2) . راجع ص 345.
(3) . في الأصول: (قال النحاس جاء الحديث ... ) والتصويب عن إعراب القرآن للنحاس. و (الحديث) مبتدأ وخبره (تفسير) .
(4) . هو أبو النجم. (عن إعراب القرآن للنحاس) .(1/410)
وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ" [يونس: 15] . وَحَدِيثُ «1» ابْنِ مَسْعُودٍ قَالُوا" حِطَّةٌ" تَفْسِيرٌ عَلَى الرَّفْعِ. هَذَا كُلُّهُ قَوْلُ النَّحَّاسِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ:" حِطَّةٌ" بِمَعْنَى حُطَّ ذُنُوبَنَا أُمِرُوا أَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لِيَحُطَّ بِهَا ذُنُوبَهُمْ وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: مَعْنَاهُ الِاسْتِغْفَارُ. أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ: التَّوْبَةُ قَالَ الشَّاعِرُ:
فَازَ بِالْحِطَّةِ الَّتِي جَعَلَ اللَّ ... هُـ بِهَا ذَنْبَ عَبْدِهِ مَغْفُورًا
وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ" حِطَّةٌ" كَلِمَةٌ أُمِرَ بِهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَوْ قَالُوهَا لَحُطَّتْ أَوْزَارُهُمْ. وَقَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ أَيْضًا فِي الصِّحَاحِ. قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا تَعَبَّدُوا بِهَذَا اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ [فَبَدَّلُوا] «2» فَدَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَقَالُوا حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ) . وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ (فَبَدَّلُوا وَقَالُوا حِطَّةٌ حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ) . فِي غَيْرِ الصحيحين" حنطة في شعر". وقيل: قالوا هطاسمهاثا. وَهِيَ لَفْظَةٌ عِبْرَانِيَّةٌ تَفْسِيرُهَا: حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ حَكَاهَا ابْنُ قُتَيْبَةَ وَحَكَاهُ الْهَرَوِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ وَمُجَاهِدٍ. وَكَانَ قَصْدُهُمْ خِلَافَ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ فَعَصَوْا وَتَمَرَّدُوا وَاسْتَهْزَءُوا فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ بِالرِّجْزِ وَهُوَ الْعَذَابُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ طَاعُونًا أَهْلَكَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ أَلْفًا. وَرُوِيَ أَنَّ الْبَابَ جُعِلَ قَصِيرًا لِيَدْخُلُوهُ رُكَّعًا فَدَخَلُوهُ مُتَوَرِّكِينَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ- اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ تَبْدِيلَ الْأَقْوَالِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي الشَّرِيعَةِ لَا يَخْلُو أَنْ يَقَعَ التَّعَبُّدُ بِلَفْظِهَا أَوْ بِمَعْنَاهَا فَإِنْ كَانَ التَّعَبُّدُ وَقَعَ بِلَفْظِهَا فَلَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهَا لِذَمِّ اللَّهِ تَعَالَى مَنْ بَدَّلَ مَا أَمَرَهُ بِقَوْلِهِ. وَإِنْ وَقَعَ بِمَعْنَاهَا جَازَ تَبْدِيلُهَا بِمَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى وَلَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهَا بِمَا يَخْرُجُ عَنْهُ.
__________
(1) . في الأصل: (ولحديث ابن مسعود) . والتصويب عن النحاس.
(2) . الزيادة عن صحيح مسلم.(1/411)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِمْ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَالِمِ بِمَوَاقِعِ الْخِطَابِ الْبَصِيرِ بِآحَادِ كَلِمَاتِهِ نَقْلُ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى لَكِنْ بِشَرْطِ الْمُطَابَقَةِ لِلْمَعْنَى بكمال وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَمَنَعَ ذَلِكَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ ابْنُ سِيرِينَ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَرَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: انْقُصْ مِنَ الْحَدِيثِ إِنْ شِئْتَ وَلَا تَزِدْ فِيهِ. وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يُشَدِّدُ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التَّاءِ وَالْيَاءِ وَنَحْوِ هَذَا. وَعَلَى هَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ لَا يَرَوْنَ إِبْدَالَ اللَّفْظِ وَلَا تَغْيِيرَهُ حَتَّى إِنَّهُمْ يَسْمَعُونَ مَلْحُونًا وَيَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلَا يُغَيِّرُونَهُ. وَرَوَى أَبُو مِجْلَزٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَنْ سَمِعَ حَدِيثًا فَحَدَّثَ بِهِ كَمَا سَمِعَ فَقَدْ سَلِمَ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ. وَكَذَا الْخِلَافُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْتَدُّ بِالْمَعْنَى وَلَا يَعْتَدُّ بِاللَّفْظِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُشَدِّدُ فِي ذَلِكَ وَلَا يُفَارِقُ اللَّفْظَ. وَذَلِكَ هُوَ الْأَحْوَطُ فِي الدِّينِ وَالْأَتْقَى وَالْأَوْلَى وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِهِ وَالْقَوْلُ بِالْجَوَازِ هُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ سِيرَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْوُونَ الْوَقَائِعَ الْمُتَّحِدَةَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَصْرِفُونَ عِنَايَتَهُمْ لِلْمَعَانِي وَلَمْ يَلْتَزِمُوا التَّكْرَارَ عَلَى الْأَحَادِيثِ وَلَا كَتْبِهَا وَرُوِيَ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ كُلُّ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقَلْنَاهُ إِلَيْكُمْ حَسْبُكُمُ الْمَعْنَى. وَقَالَ قَتَادَةُ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى: لَقِيتُ عِدَّةً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَلَفُوا عَلَيَّ فِي اللَّفْظِ وَاجْتَمَعُوا فِي الْمَعْنَى. وَكَانَ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَأْتُونَ بِالْحَدِيثِ عَلَى الْمَعَانِي وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا أَصَبْتَ الْمَعْنَى أَجْزَأَكَ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي أُحَدِّثُكُمْ كَمَا سَمِعْتُ فَلَا تُصَدِّقُونِي إِنَّمَا هُوَ الْمَعْنَى. وَقَالَ وَكِيعٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَعْنَى وَاسِعًا فَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ نَقْلِ الشَّرْعِ لِلْعَجَمِ بِلِسَانِهِمْ وَتَرْجَمَتِهِ لَهُمْ وَذَلِكَ هُوَ النَّقْلُ بِالْمَعْنَى. وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فِيمَا قَصَّ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَلَفَ فَقَصَّ قَصَصًا ذَكَرَ بَعْضَهَا فِي مَوَاضِعَ بألفاظ مختلقة وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَنَقَلَهَا مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ إِلَى اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ مُخَالِفٌ لَهَا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ والحذف والإلغاء(1/412)
وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَإِذَا جَازَ إِبْدَالُ الْعَرَبِيَّةِ بِالْعَجَمِيَّةِ فَلَأَنْ يَجُوزُ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْلَى. احْتَجَّ بِهَذَا الْمَعْنَى الْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْبَابِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَبَلَّغَهَا كَمَا سَمِعَهَا) وَذِكْرُ الْحَدِيثِ. وَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ عِنْدَ مَضْجَعِهِ فِي دُعَاءٍ عَلَّمَهُ (آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ) فَقَالَ الرَّجُلُ: وَرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ) . قَالُوا: أَفَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُسَوِّغْ لِمَنْ عَلَّمَهُ الدُّعَاءَ مُخَالَفَةَ اللَّفْظِ وَقَالَ: (فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا) . قِيلَ لَهُمْ: أَمَّا قَوْلُهُ (فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا) فَالْمُرَادُ حُكْمُهَا لَا لَفْظُهَا لِأَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ. وَيَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْخِطَابِ حُكْمُهُ قَوْلُهُ (فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ) . ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ قَدْ نُقِلَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْأَلْفَاظِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ لَكِنِ الْأَغْلَبُ أَنَّهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ نُقِلَ بألفاظ مختلفة وذلك أدل دليل عَلَى الْجَوَازِ. وَأَمَّا رَدُّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الرَّجُلَ مِنْ قَوْلِهِ (وَرَسُولِكَ إِلَى قَوْلِهِ وَنَبِيِّكَ) لِأَنَّ لَفْظَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْدَحُ وَلِكُلِّ نَعْتٍ مِنْ هَذَيْنِ النَّعْتَيْنِ مَوْضِعٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ اسْمَ الرَّسُولِ يَقَعُ عَلَى الْكَافَّةِ وَاسْمُ النَّبِيِّ لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ! وَإِنَّمَا فُضِّلَ الْمُرْسَلُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ. فَلَمَّا قَالَ: (وَنَبِيِّكَ) جَاءَ بِالنَّعْتِ الْأَمْدَحِ ثُمَّ قَيَّدَهُ بِالرِّسَالَةِ بِقَوْلِهِ (الَّذِي أَرْسَلْتَ) . وَأَيْضًا فَإِنَّ نَقْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: (وَرَسُولِكَ إِلَى قَوْلِهِ وَنَبِيِّكَ) لِيَجْمَعَ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ. وَمُسْتَقْبَحٌ فِي الْكَلَامِ أَنْ تَقُولَ: هَذَا رَسُولُ فُلَانٍ الَّذِي أَرْسَلَهُ وَهَذَا قَتِيلُ زَيْدٍ الَّذِي قَتَلَهُ لِأَنَّكَ تَجْتَزِئُ بِقَوْلِكَ: رَسُولُ فُلَانٍ وَقَتِيلُ فلان عن إعادة المرسل
والقاتل إِذْ كُنْتَ لَا تُفِيدُ بِهِ إِلَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلَ. وَإِنَّمَا يَحْسُنُ أَنْ تَقُولَ: هَذَا رَسُولُ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَى عَمْرٍو وَهَذَا قَتِيلُ زَيْدٍ الَّذِي قَتَلَهُ بِالْأَمْسِ أَوْ فِي وَقْعَةِ كَذَا. وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.(1/413)
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا جَازَ لِلرَّاوِي الْأَوَّلِ تَغْيِيرُ ألفاظ الرسول عليه السلام جاز للثاني تغير أَلْفَاظِ الْأَوَّلِ وَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى طَمْسِ الْحَدِيثِ بِالْكُلِّيَّةِ لِدِقَّةِ الْفُرُوقِ وَخَفَائِهَا. قِيلَ لَهُ: الْجَوَازُ مَشْرُوطٌ بِالْمُطَابَقَةِ وَالْمُسَاوَاةِ كَمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ عُدِمَتْ لَمْ يَجُزْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِالنَّظَرِ إِلَى عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لِتَسَاوِيهِمْ فِي مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الْجِبِلِّيَّةِ الذَّوْقِيَّةِ وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُمْ فَلَا نَشُكُّ فِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِذِ الطِّبَاعُ قَدْ تَغَيَّرَتْ وَالْفُهُومُ قَدْ تَبَايَنَتْ وَالْعَوَائِدُ قَدِ اخْتَلَفَتْ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: لَقَدْ تَعَاجَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ الْجَوَازَ إِذَا كَانَ مَشْرُوطًا بِالْمُطَابَقَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَزَمَنِ غَيْرِهِمْ وَلِهَذَا لَمْ يُفَصِّلْ أَحَدٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَلَا أَهْلِ الْحَدِيثِ هَذَا التَّفْصِيلَ. نَعَمْ لَوْ قَالَ: الْمُطَابَقَةُ فِي زَمَنِهِ أَبْعَدُ كَانَ أَقْرَبَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) قِرَاءَةُ نَافِعٍ بِالْيَاءِ مَعَ ضَمِّهَا. وَابْنِ عَامِرٍ بِالتَّاءِ مَعَ ضَمِّهَا وَهِيَ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ. وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالنُّونِ مَعَ نَصْبِهَا وَهِيَ أَبْيَنُهَا لِأَنَّ قَبْلَهَا" وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا" فَجَرَى" نَغْفِرْ" عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّقْدِيرُ وَقُلْنَا ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ وَلِأَنَّ بَعْدَهُ" وَسَنَزِيدُ" بِالنُّونِ. و" خَطاياكُمْ" اتِّبَاعًا لِلسَّوَادِ وَأَنَّهُ عَلَى بَابِهِ. وَوَجْهُ مَنْ قرأ بالتاء أنه أنث لِتَأْنِيثِ لَفْظِ الْخَطَايَا لِأَنَّهَا جَمْعُ خَطِيئَةٍ عَلَى التَّكْسِيرِ. وَوَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِالْيَاءِ أَنَّهُ ذَكَّرَ لَمَّا حَالَ بَيْنَ الْمُؤَنَّثِ وَبَيْنَ فِعْلِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ" فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ" [البقرة: 37] . وَحَسُنَ الْيَاءُ وَالتَّاءُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ إِخْبَارٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ" وَإِذْ قُلْنَا" لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ ذُنُوبَ الْخَاطِئِينَ لَا يَغْفِرُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَاسْتُغْنِيَ عَنِ النُّونِ وَرُدَّ الْفِعْلُ إِلَى الْخَطَايَا الْمَغْفُورَةِ. الثَّامِنَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي أَصْلِ خَطَايَا جَمْعُ خَطِيئَةٍ بِالْهَمْزَةِ فَقَالَ الْخَلِيلُ: الْأَصْلُ فِي خَطَايَا أَنْ يَقُولَ: خَطَايِئٌ ثُمَّ قُلِبَ فَقِيلَ: خَطَائِيٌ بِهَمْزَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ ثُمَّ تُبْدِلُ مِنَ الْيَاءِ أَلِفًا بَدَلًا لَازِمًا فتقول: خطاء فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ أَلِفَانِ بَيْنَهُمَا هَمْزَةٌ وَالْهَمْزَةُ مِنْ جِنْسِ الْأَلِفِ صِرْتَ كَأَنَّكَ جَمَعْتَ بَيْنَ ثَلَاثِ أَلِفَاتٍ فَأَبْدَلْتَ مِنَ الْهَمْزَةِ يَاءً فَقُلْتَ: خَطَايَا. وَأَمَّا سِيبَوَيْهِ فَمَذْهَبُهُ أَنَّ الْأَصْلَ مِثْلُ الْأَوَّلِ خَطَايِئٌ ثُمَّ وَجَبَ بِهَذِهِ أَنْ تَهْمِزَ الْيَاءَ كَمَا هَمَزْتَهَا فِي مَدَائِنَ فَتَقُولُ:(1/414)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
خَطَائِئٌ وَلَا تَجْتَمِعُ هَمْزَتَانِ فِي كَلِمَةٍ فَأَبْدَلْتَ مِنَ الثَّانِيَةِ يَاءً فَقُلْتَ: خَطَائِي ثُمَّ عَمِلْتَ كَمَا عَمِلْتَ فِي الْأَوَّلِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: خَطَايَا جمع خطية بلا همز، كَمَا تَقُولُ: هَدِيَّةً وَهَدَايَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوْ جمعت خطيئة مهموزة لقلت: خطاء. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: لَوْ جَمَعْتَهَا مَهْمُوزَةً أَدْغَمْتَ الْهَمْزَةَ فِي الْهَمْزَةِ كَمَا قُلْتَ: دَوَابٌّ. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) أَيْ فِي إِحْسَانِ مَنْ لَمْ يَعْبُدِ الْعِجْلَ. وَيُقَالُ: يَغْفِرُ خَطَايَا مَنْ رَفَعَ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى لِلْغَدِ وَسَنَزِيدُ فِي إِحْسَانِ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ لِلْغَدِ. وَيُقَالُ: يَغْفِرُ خَطَايَا مَنْ هُوَ عَاصٍ وَسَيَزِيدُ فِي إِحْسَانِ مَنْ هُوَ مُحْسِنٌ أَيْ نَزِيدُهُمْ إِحْسَانًا عَلَى الْإِحْسَانِ الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَحْسَنَ. وَالْمُحْسِنُ مَنْ صَحَّحَ عَقْدَ تَوْحِيدِهِ وَأَحْسَنَ سِيَاسَةَ نَفْسِهِ وَأَقْبَلَ عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَكَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ. وَفِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (مَا الْإِحْسَانُ قَالَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ صدقت) وذكر الحديث. خرجه مسلم.
[سورة البقرة (2) : آية 59]
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الاولى- قوله تعالى: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا) ... " الَّذِينَ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَيْ فَبَدَّلَ الظَّالِمُونَ مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: قُولُوا حِطَّةٌ فَقَالُوا حِنْطَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَزَادُوا حَرْفًا فِي الْكَلَامِ فَلَقُوا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَقُوا تَعْرِيفًا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الدِّينِ وَالِابْتِدَاعِ فِي الشَّرِيعَةِ عَظِيمَةُ الْخَطَرِ شَدِيدَةُ الضَّرَرِ. هَذَا فِي تَغْيِيرِ كَلِمَةٍ هِيَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّوْبَةِ أَوْجَبَتْ كُلَّ ذَلِكَ مِنَ الْعَذَابِ فَمَا ظَنُّكَ بِتَغْيِيرِ مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمَعْبُودِ! هَذَا وَالْقَوْلُ أَنْقَصُ مِنَ الْعَمَلِ فَكَيْفَ بِالتَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ فِي الْفِعْلِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَبَدَّلَ) تَقَدَّمَ مَعْنَى بَدَّلَ وَأَبْدَلَ وقرى" عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا" عَلَى الْوَجْهَيْنِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَأَبْدَلْتُ الشَّيْءَ بِغَيْرِهِ. وَبَدَّلَهُ اللَّهُ مِنَ الخوف(1/415)
أَمْنًا. وَتَبْدِيلَ الشَّيْءِ أَيْضًا تَغْيِيرُهُ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِبَدَلٍ. وَاسْتَبْدَلَ الشَّيْءَ بِغَيْرِهِ وَتَبَدَّلَهُ بِهِ إِذَا أَخَذَهُ مَكَانَهُ. وَالْمُبَادَلَةُ التَّبَادُلُ. وَالْأَبْدَالُ: قَوْمٌ مِنَ الصَّالِحِينَ لَا تَخْلُو الدُّنْيَا مِنْهُمْ إِذَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ بِآخَرَ. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الْوَاحِدُ بَدِيلٌ. وَالْبَدِيلُ: الْبَدَلُ. وَبَدَلُ الشَّيْءِ: غَيْرُهُ يُقَالُ: بَدَلٌ وَبِدْلٌ لُغَتَانِ مِثْلُ شَبَهٍ وَشِبْهٍ وَمَثَلٍ وَمِثْلٍ وَنَكَلٍ وَنِكْلٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ «1» : لَمْ يُسْمَعْ فِي فَعَلٌ وَفِعْلٌ غَيْرَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَحْرُفِ. وَالْبَدَلُ: وَجَعٌ يَكُونُ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. وَقَدْ بَدِلَ (بِالْكَسْرِ) يَبْدَلُ بَدَلًا الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) كَرَّرَ لَفْظَ" ظَلَمُوا" وَلَمْ يُضْمِرْهُ تَعْظِيمًا لِلْأَمْرِ. وَالتَّكْرِيرُ يَكُونُ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا اسْتِعْمَالُهُ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلِهِ" فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ" [البقرة: 79] ثُمَّ قَالَ بَعْدُ" فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ" وَلَمْ يَقُلْ مِمَّا كَتَبُوا وَكَرَّرَ الْوَيْلَ تَغْلِيظًا لِفِعْلِهِمْ وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ:
تَعَرَّقَنِي الدَّهْرُ نَهْسًا وَحَزَّا «2» ... وَأَوْجَعَنِي الدَّهْرُ قَرْعًا وَغَمْزَا
أَرَادَتْ أَنَّ الدَّهْرَ أَوْجَعَهَا بِكُبْرَيَاتِ نَوَائِبِهِ وَصُغْرَيَاتِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَجِيءُ تَكْرِيرِ الظَّاهِرِ فِي مَوْضِعِ الْمُضْمَرِ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ الْكَلَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى" الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ" [الحاقة: 2- 1] و" الْقارِعَةُ. مَا الْقارِعَةُ" [القارعة: 2- 1] كَانَ الْقِيَاسُ لَوْلَا مَا أُرِيدَ بِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ: الْحَاقَّةُ مَا هِيَ وَالْقَارِعَةُ مَا هِيَ وَمِثْلُهُ" فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ". كرر" فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ" تَفْخِيمًا لِمَا يُنِيلُهُمْ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ وكرر لفظ" أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ" لِمَا يَنَالُهُمْ مِنْ أَلِيمِ الْعَذَابِ. وَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَيْتَ الْغُرَابَ غَدَاةَ يَنْعَبُ دَائِبًا ... كَانَ الْغُرَابُ مُقَطَّعُ الْأَوْدَاجِ
وَقَدْ جَمَعَ عدي بن زيد المعنيين فقال:
__________
(1) . في الأصل: (أبو عبيدة) والتصويب عن اللسان وصحاح الجوهري.
(2) . في بعض الأصول: (نهشا) بالشين المعجمة. والنهش: أن يتناول المرء الشيء بفمه لبعضه فيؤثر فيه ولا يجرحه. والنهس: القبض على اللحم ونتره أي جذبه.(1/416)
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
لا أرى الموت يسبق الموت شي ... نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا
فَكَرَّرَ لَفْظَ الْمَوْتِ ثَلَاثًا وَهُوَ مِنَ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
أَلَا حَبَّذَا هِنْدٌ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدُ ... وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ
فَكَرَّرَ ذِكْرَ مَحْبُوبَتِهِ ثَلَاثًا تَفْخِيمًا لَهَا الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (رِجْزاً) قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ" رِجْزاً" بِكَسْرِ الرَّاءِ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ بِضَمِّ الرَّاءِ. وَالرِّجْزُ: الْعَذَابُ (بالزاي) و (بالسين) : النتن والقذر ومنه قول تعالى" فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ، [التوبة: 125] أي نتنا إلى نتنهم قال الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الرِّجْزُ هُوَ الرِّجْسُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ كَمَا يُقَالُ السُّدْغُ وَالزُّدْغُ وَكَذَا رِجْسٌ وَرِجْزٌ بِمَعْنًى. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الرُّجْزَ (بِالضَّمِّ) اسْمُ صَنَمٍ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ وقرى بذلك في قول تَعَالَى" وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ" «1» وَالرَّجَزُ (بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْجِيمِ) : نَوْعٌ مِنَ الشِّعْرِ وَأَنْكَرَ الْخَلِيلُ أَنْ يَكُونَ شِعْرًا. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّجَزِ وَهُوَ دَاءٌ يُصِيبُ الْإِبِلَ فِي أَعْجَازِهَا فَإِذَا ثَارَتِ ارْتَعَشَتْ أَفْخَاذُهَا. (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أَيْ بِفِسْقِهِمْ. وَالْفِسْقِ الْخُرُوجُ وَقَدْ تَقَدَّمَ «2» . وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالنَّخَعِيُّ:" يفسقون" بكسر السين.
[سورة البقرة (2) : آية 60]
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
فِيهِ ثمان مَسَائِلَ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) كُسِرَتِ الذَّالُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَالسِّينُ سِينُ السُّؤَالِ مِثْلُ: اسْتَعْلَمَ وَاسْتَخْبَرَ وَاسْتَنْصَرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَيْ طَلَبَ وَسَأَلَ السَّقْيَ لِقَوْمِهِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: سقيته وأسقيته لغتان بمعنى، قال: «3»
__________
(1) . راجع ج 19 ص 65.
(2) . يراجع ص 245 من هذا الجزء.
(3) . هو لبيد (كما في اللسان) .(1/417)
سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وَأَسْقَى ... نُمَيْرًا وَالْقَبَائِلَ مِنْ هِلَالِ
وَقِيلَ: سَقَيْتُهُ مِنْ سَقْيِ الشَّفَةِ وَأَسْقَيْتُهُ دَلَلْتُهُ عَلَى الْمَاءِ. الثَّانِيَةُ- الِاسْتِسْقَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عُدْمِ الْمَاءِ وَحَبْسِ الْقَطْرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْحُكْمُ حِينَئِذٍ إِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالذِّلَّةِ مَعَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ. وَقَدِ اسْتَسْقَى نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى مُتَوَاضِعًا مُتَذَلِّلًا مُتَخَشِّعًا مُتَرَسِّلًا مُتَضَرِّعًا وَحَسْبُكَ بِهِ! فَكَيْفَ بِنَا وَلَا تَوْبَةَ مَعَنَا إِلَّا الْعِنَادَ وَمُخَالَفَةَ رَبِّ الْعِبَادِ فَأَنَّى نُسْقَى! لَكِنْ قَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا) الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي بِكَمَالِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الثَّالِثَةُ- سُنَّةُ الِاسْتِسْقَاءِ الْخُرُوجُ إِلَى الْمُصَلَّى- عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا- وَالْخُطْبَةُ وَالصَّلَاةُ وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ سُنَّتِهِ صَلَاةٌ وَلَا خُرُوجٌ وَإِنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ لَا غَيْرُ. وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أَنَسٍ الصَّحِيحِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ دُعَاءٌ عُجِّلَتْ إِجَابَتُهُ فَاكْتُفِيَ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ بَيَانَ سُنَّةٍ وَلَمَّا قَصَدَ الْبَيَانَ بَيَّنَ بِفِعْلِهِ حَسَبَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بن زيد الْمَازِنِيُّ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَسَيَأْتِي مِنْ أَحْكَامِ الِاسْتِسْقَاءِ زِيَادَةٌ فِي سُورَةِ" هُودٍ" «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) الْعَصَا: مَعْرُوفٌ وَهُوَ اسْمٌ مَقْصُورٌ مُؤَنَّثٌ وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، قَالَ: «2»
عَلَى عصويها «3» سابري مشبرق
__________
(1) . لم يذكر المصنف شيئا عن الاستسقاء في سورة (هود) وإنما هو مذكور في سورة (نوح) ج 18 ص 302. [.....]
(2) . هو ذو الرمة. وصدر البيت:
فجاءت بنسج العنكبوت كأنه
(3) . عصويها: عرقوتي الدلو وهما الخشبتان اللتان يعترضان على الدلو كالصليب. والسابري: الدقيق من الثياب. والمشبرق: المخرق.(1/418)
وَالْجَمْعُ عُصِيٌّ وَعِصِيٌّ، وَهُوَ فُعُولٌ وَإِنَّمَا كُسِرَتِ الْعَيْنُ لِمَا بَعْدَهَا مِنَ الْكَسْرَةِ وَأَعْصٍ أَيْضًا مِثْلُهُ مِثْلُ زَمَنٍ وَأَزْمُنٍ وَفِي الْمَثَلِ" الْعَصَا مِنَ الْعُصَيَّةِ" أَيْ بَعْضُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْضٍ. وَقَوْلُهُمْ" أَلْقَى عَصَاهُ" أَيْ أَقَامَ وَتَرَكَ الْأَسْفَارَ وَهُوَ مَثَلٌ. قَالَ:
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى ... كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ
وَفِي التَّنْزِيلِ" وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى. قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها" [طه: 18- 17] . وَهُنَاكَ «1» يَأْتِي الْكَلَامُ فِي مَنَافِعِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ الْفَرَّاءُ أَوَّلُ لَحْنٍ سُمِعَ بِالْعِرَاقِ هَذِهِ عَصَاتِي. وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالْعَصَا عَنِ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَمِنْهُ يُقَالُ فِي الْخَوَارِجِ: قَدْ شَقُّوا عَصَا الْمُسْلِمِينَ أَيْ اجْتِمَاعَهُمْ وَائْتِلَافَهُمْ. وَانْشَقَّتِ الْعَصَا أَيْ وَقَعَ الْخِلَافُ قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا كَانَتِ الْهَيْجَاءُ وَانْشَقَّتِ الْعَصَا ... فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ
أَيْ يَكْفِيكَ وَيَكْفِي الضَّحَّاكَ. وَقَوْلُهُمْ: لَا ترفع عصاك عن أهلك براد بِهِ الْأَدَبُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَجَرُ مَعْرُوفٌ وَقِيَاسُ جَمْعِهِ فِي أَدْنَى الْعَدَدِ أَحْجَارٌ وَفِي الْكَثِيرِ حِجَارٌ وَحِجَارَةٌ وَالْحِجَارَةُ نَادِرٌ. وَهُوَ كَقَوْلِنَا: جَمَلٌ وَجِمَالَةٌ وَذَكَرٌ وَذِكَارَةٌ كَذَا قَالَ ابْنُ فَارِسٍ والجوهري. قلت: وفي القرآن" فَهِيَ كَالْحِجارَةِ" [البقرة: 74] ." وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ" [البقرة: 74] ." قُلْ كُونُوا حِجارَةً" [الاسراء: 50] ." تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ" [الفيل: 4] ." وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً" [الحجر: 74] فَكَيْفَ يَكُونُ نَادِرًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَا أَنَّهُ نادر في القياس كثير في الاستعمال فصيح. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَانْفَجَرَتْ) فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ. وَقَدْ كَانَ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى تَفْجِيرِ الْمَاءِ وَفَلْقِ الْحَجَرِ مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ لَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْبِطَ الْمُسَبِّبَاتِ بِالْأَسْبَابِ حِكْمَةً مِنْهُ لِلْعِبَادِ فِي وُصُولِهِمْ إِلَى الْمُرَادِ وَلِيُرَتِّبَ عَلَى ذَلِكَ ثَوَابَهُمْ وَعِقَابَهُمْ فِي الْمَعَادِ. وَالِانْفِجَارُ: الِانْشِقَاقُ وَمِنْهُ انْشَقَّ الْفَجْرُ. وَانْفَجَرَ الْمَاءُ انْفِجَارًا انْفَتَحَ. وَالْفُجْرَةُ: مَوْضِعُ تَفَجُّرِ الْمَاءِ وَالِانْبِجَاسِ أَضْيَقُ مِنَ الِانْفِجَارِ لِأَنَّهُ يَكُونُ انْبِجَاسًا ثُمَّ يَصِيرُ انْفِجَارًا. وَقِيلَ: انْبَجَسَ وَتَبَجَّسَ وَتَفَجَّرَ وتفتق بمعنى واحد حكاه الهروي وغيره
__________
(1) . راجع ج 11 ص 186.(1/419)
الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) ... " اثْنَتا" في موضع رفع ب"- فَانْفَجَرَتْ" وَعَلَامَةُ الرَّفْعِ فِيهَا الْأَلِفُ وَأُعْرِبَتْ دُونَ نَظَائِرِهَا لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ مُعْرَبَةٌ أَبَدًا لِصِحَّةِ مَعْنَاهَا." عَيْناً" نَصْبٌ عَلَى الْبَيَانِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَطَلْحَةُ وَعِيسَى" عَشِرَةٌ" بِكَسْرِ الشِّينِ وَهِيَ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ وَهَذَا مِنْ لُغَتِهِمْ نَادِرٌ لِأَنَّ سَبِيلَهُمُ التَّخْفِيفُ. وَلُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ" عَشْرَةَ" وَسَبِيلُهُمُ التَّثْقِيلُ. قَالَ جَمِيعُهُ النَّحَّاسُ. وَالْعَيْنُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ يُقَالُ: عَيْنُ الْمَاءِ وَعَيْنُ الْإِنْسَانِ وَعَيْنُ الرُّكْبَةِ «1» وَعَيْنُ الشَّمْسِ. وَالْعَيْنُ: سَحَابَةٌ تُقْبِلُ مِنْ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ. وَالْعَيْنُ: مَطَرٌ يَدُومُ خَمْسًا أَوْ سِتًّا لَا يُقْلِعُ. وَبَلَدٌ قَلِيلُ الْعَيْنِ أَيْ قَلِيلُ النَّاسِ وَمَا بِهَا عَيَنٌ مُحَرَّكَةُ الْيَاءِ «2» وَالْعَيْنُ: الثَّقْبُ فِي الْمَزَادَةِ. وَالْعَيْنُ مِنَ الْمَاءِ مُشَبَّهَةٌ بِالْعَيْنِ مِنَ الْحَيَوَانِ لِخُرُوجِ الْمَاءِ مِنْهَا كَخُرُوجِ الدَّمْعِ مِنْ عَيْنِ الْحَيَوَانِ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ عَيْنُ الْحَيَوَانِ أَشْرَفَ مَا فِيهِ شُبِّهَتْ بِهِ عَيْنُ الْمَاءِ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ مَا فِي الْأَرْضِ. السَّادِسَةُ- لَمَّا اسْتَسْقَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ أُمِرَ أن يضرب عند استسقائه بعصاه حجرا قبل: مُرَبَّعًا طُورِيًّا (مِنَ الطُّورِ) عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الشَّاةِ يُلْقَى فِي كَسْرِ جُوَالِقٍ وَيُرْحَلُ بِهِ فَإِذَا نَزَلُوا وُضِعَ فِي وَسَطِ مَحَلَّتِهِمْ وَذُكِرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَحْمِلُونَ الْحَجَرَ لَكِنَّهُمْ كَانُوا يَجِدُونَهُ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ فِي مَنْزِلَتِهِ مِنَ الْمَرْحَلَةِ الْأُولَى وَهَذَا أَعْظَمُ فِي الْآيَةِ وَالْإِعْجَازِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَطْلَقَ لَهُ اسْمَ الْحَجَرِ لِيَضْرِبَ مُوسَى أَيَّ حَجَرٍ شَاءَ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْإِعْجَازِ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ أَنْ يَضْرِبَ حَجَرًا بِعَيْنِهِ بَيَّنَهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِذَلِكَ ذُكِرَ بِلَفْظِ التَّعْرِيفِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي وَضَعَ عَلَيْهِ مُوسَى ثَوْبَهُ لَمَّا اغْتَسَلَ وَفَرَّ بِثَوْبِهِ حَتَّى بَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا رَمَاهُ بِهِ قَوْمَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ كَانَ حَجَرًا مُنْفَصِلًا مُرَبَّعًا تَطَّرِدُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ ثَلَاثُ عُيُونٍ إِذَا ضَرَبَهُ مُوسَى وَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنِ الْمَاءِ ورحلوا جفت العيون.
__________
(1) . كذا في بعض نسخ الأصل. وعين الركبة (براء مضمومة وباء موحدة) : نقرة في مقدمها عند الساق ولكل ركبة عينان على التشبيه بنقرة العين الحاسة. وفي البعض الآخر: (عين الركية) (براء مفتوحة وياء مثناة من تحت) وهي مفجر ماء البئر ومنبعها.
(2) . الذي في القاموس أن الياء تحرك وتسكن في العين بهذا المعنى.(1/420)
قُلْتُ: مَا أُوتِيَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَبْعِ الْمَاءِ وَانْفِجَارِهِ مِنْ يَدِهِ وَبَيْنَ أَصَابِعِهِ أَعْظَمُ فِي الْمُعْجِزَةِ فَإِنَّا نُشَاهِدُ الْمَاءَ يَتَفَجَّرُ مِنَ الْأَحْجَارِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَمُعْجِزَةُ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ تَكُنْ لِنَبِيٍّ قَبْلَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ لَحْمٍ وَدَمٍ! رَوَى الْأَئِمَّةُ الثِّقَاتُ وَالْفُقَهَاءُ الْأَثْبَاتُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ نَجِدْ مَاءً فَأُتِيَ بِتَوْرٍ «1» فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَتَفَجَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَيَقُولُ (حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ) . قَالَ الْأَعْمَشُ: فَحَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ قُلْتُ لِجَابِرٍ كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ. لَفْظُ النَّسَائِيِّ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) يَعْنِي أَنَّ لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ عَيْنًا قَدْ عَرَفَهَا لَا يَشْرَبُ مِنْ غَيْرِهَا. وَالْمَشْرَبُ مَوْضِعُ الشُّرْبِ. وَقِيلَ: الْمَشْرُوبُ. وَالْأَسْبَاطُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَالْقَبَائِلِ فِي الْعَرَبِ وَهُمْ ذُرِّيَّةُ الِاثْنَيْ عَشَرَ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ مِنْ تِلْكَ الْعُيُونِ لَا يَتَعَدَّاهَا. قَالَ عَطَاءٌ: كَانَ لِلْحَجَرِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ يَخْرُجُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ثَلَاثُ أَعْيُنٍ لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ لَا يُخَالِطُهُمْ سِوَاهُمْ. وَبَلَغَنَا أَنَّهُ كَانَ فِي كُلِّ سِبْطٍ خَمْسُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ سِوَى خَيْلِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ. قَالَ عَطَاءٌ: كَانَ يَظْهَرُ عَلَى كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ ضَرْبَةِ مُوسَى مِثْلَ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ عَلَى الْحَجَرِ فَيَعْرَقُ أَوَّلًا ثُمَّ يَسِيلُ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا) فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ وَقُلْنَا لَهُمْ كُلُوا الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَاشْرَبُوا الْمَاءَ الْمُتَفَجِّرَ مِنَ الْحَجَرِ الْمُنْفَصِلِ. (وَلا تَعْثَوْا) أَيْ لَا تُفْسِدُوا. وَالْعَيْثُ: شِدَّةُ الْفَسَادِ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ. يُقَالُ: عَثِيَ يَعْثَى عُثِيًّا وَعَثَا يَعْثُو عُثُوًّا وَعَاثَ يَعِيثُ عَيْثًا وَعُيُوثًا وَمَعَاثًا وَالْأَوَّلُ لُغَةُ الْقُرْآنِ. وَيُقَالُ: عَثَّ يَعُثُّ فِي الْمُضَاعَفِ: أَفْسَدَ وَمِنْهُ الْعُثَّةُ وَهِيَ السُّوسَةُ الَّتِي تَلْحَسُ الصُّوفَ. و (مُفْسِدِينَ) حَالٌ وَتَكَرَّرَ الْمَعْنَى تَأْكِيدًا لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ. وَفِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ إِبَاحَةُ النِّعَمِ وَتَعْدَادُهَا وَالتَّقَدُّمُ في المعاصي والنهي عنها.
__________
(1) . التور (بالتاء المثناة) : إناء من صفرا وحجارة يشرب منه أو يتوضأ.(1/421)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
[سورة البقرة (2) : آية 61]
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ فِي التِّيهِ حِينَ مَلُّوا الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَتَذَكَّرُوا عَيْشَهُمُ الْأَوَّلَ بِمِصْرَ. قَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا نَتَانَى أَهْلَ كُرَّاثٍ وَأَبْصَالٍ وَأَعْدَاسٍ فَنَزَعُوا إِلَى عِكْرِهِمْ «1» عِكْرِ السُّوءِ وَاشْتَاقَتْ طِبَاعُهُمْ إِلَى مَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَتُهُمْ فَقَالُوا: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ. وَكَنَّوْا عَنِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى بِطَعَامٍ وَاحِدٍ وَهُمَا اثْنَانِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ فَلِذَلِكَ قَالُوا: طَعَامٌ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: لِتَكْرَارِهِمَا فِي كُلِّ يَوْمٍ غِذَاءً كَمَا تَقُولُ لِمَنْ يُدَاوِمُ عَلَى الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ هُوَ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ لِمُلَازَمَتِهِ لِذَلِكَ. وَقِيلَ الْمَعْنَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى الْغِنَى فَيَكُونُ جَمِيعُنَا أَغْنِيَاءُ فَلَا يَقْدِرُ بَعْضُنَا عَلَى الِاسْتِعَانَةِ بِبَعْضٍ لِاسْتِغْنَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا بِنَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ كَانُوا فَهُمْ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْعَبِيدَ وَالْخَدَمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (عَلى طَعامٍ) الطَّعَامُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُطْعَمُ وَيُشْرَبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي" وَقَالَ" لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا" [المائدة: 93] أَيْ مَا شَرِبُوهُ مِنَ الْخَمْرِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ «2» . وَإِنْ كَانَ السَّلْوَى الْعَسَلُ- كَمَا حَكَى الْمُؤَرِّجُ- فَهُوَ مَشْرُوبٌ أَيْضًا. وَرُبَّمَا خُصَّ بِالطَّعَامِ الْبُرُّ وَالتَّمْرُ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ
__________
(1) . العكر (بكسر أوله وسكون ثانيه) : الأصل. وقيل: العادة والديدن. والعكر (بالتحريك) : دردي كل شي.
(2) . راجع ج 6 ص 293.(1/422)
شَعِيرٍ، الْحَدِيثَ. وَالْعُرْفُ جَارٍ بِأَنَّ الْقَائِلَ: ذَهَبْتُ إِلَى سُوقِ الطَّعَامِ فَلَيْسَ يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعُ بَيْعِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ. وَالطَّعْمُ (بِالْفَتْحِ) هُوَ مَا يُؤَدِّيهِ الذَّوْقُ يُقَالُ طَعْمُهُ مُرٌّ. وَالطَّعْمُ أَيْضًا: مَا يُشْتَهَى مِنْهُ يُقَالُ لَيْسَ لَهُ طَعْمٌ وَمَا فُلَانٌ بِذِي طَعْمٍ إِذَا كَانَ غَثًّا. وَالطُّعْمُ (بِالضَّمِّ) : الطَّعَامُ قَالَ أَبُو خِرَاشٍ:
أَرُدُّ شُجَاعَ الْبَطْنِ لَوْ «1» تَعْلَمِينَهُ ... وَأُوثِرُ غَيْرِي مِنْ عِيَالِكِ بِالطُّعْمِ
وَأَغْتَبِقُ الْمَاءَ الْقَرَاحَ فَأَنْتِهِي ... إِذَا الزَّادُ أَمْسَى لِلْمُزَلَّجِ «2» ذَا طَعْمِ
أَرَادَ بِالْأَوَّلِ الطَّعَامَ وَبِالثَّانِي مَا يُشْتَهَى مِنْهُ وَقَدْ طَعِمَ يَطْعَمُ فَهُوَ طَاعِمٌ إِذَا أَكَلَ وَذَاقَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى" وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي" [البقرة: 249] أَيْ مَنْ لَمْ يَذُقْهُ. وَقَالَ" فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا" [الأحزاب: 53 [أَيْ أَكَلْتُمْ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمْزَمَ (إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سُقْمٍ) «3» . وَاسْتَطْعَمَنِي فُلَانٌ الْحَدِيثَ إِذَا أَرَادَ أَنْ تُحَدِّثَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ (إِذَا اسْتَطْعَمَكُمُ الْإِمَامُ فَأَطْعِمُوهُ) . يَقُولُ: إِذَا اسْتَفْتَحَ فَافْتَحُوا عَلَيْهِ. وَفُلَانٌ مَا يَطْعَمُ النَّوْمَ إِلَّا قَائِمًا. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
نَعَامًا بِوَجْرَةَ صُفْرَ الْخُدُو ... دِ مَا تَطْعَمُ النوم إلا صياما «4»
قوله تعالى: (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) لُغَةُ بَنِي عَامِرٍ" فَادْعُ" بِكَسْرِ الْعَيْنِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ يُجْرُونَ الْمُعْتَلَّ مَجْرَى الصَّحِيحِ وَلَا يراعون المحذوف. و" يُخْرِجْ
" مجزوم في مَعْنَى سَلْهُ وَقُلْ لَهُ: أَخْرِجْ يُخْرِجُ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ
__________
(1) . في ديوان الهذليين واللسان مادة (طعم) : (قد تعلمينه) .
(2) . المزلج: من معانيه البخيل. والملزق بالقوم وليس منهم. وكلاهما محتمل.
(3) . أي يشبع الإنسان إذا شرب ماءها كما يشبع من الطعام.
(4) . كذا في نسخ الأصل. ووجرة (بفتح فسكون) : موضع بين مكة والبصرة. والذي في كتب اللغة ومعاجم البلدان:
نعاما بخطمه صفر الخدو ... د لا تطعم الماء إلا صياما
وقبله:
فأما بنو عامر بالنسار ... غداة لقونا فكانوا نعاما
وهو لبشر بن أبي خازم. وخطمة (بفتح فسكون) : موضع أعلى المدينة. وفي اللسان بعد البيت: (يقول: هي صائمة منه لا تطعمه قال: وذلك لان النعام لا ترد الماء ولا تطعمه) .(1/423)
اللَّامِ وَضَعَّفَهُ الزَّجَّاجُ وَ" مِنْ" فِي قَوْلِهِ" مِمَّا" زَائِدَةٌ فِي قَوْلِ الْأَخْفَشِ وَغَيْرُ زَائِدَةٍ فِي قَوْلِ سِيبَوَيْهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ مُوجَبٌ قَالَ النَّحَّاسُ وَإِنَّمَا دَعَا الْأَخْفَشُ إِلَى هَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مَفْعُولًا لِ" يُخْرِجْ" فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ" مَا" مَفْعُولًا وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ سَائِرُ الْكَلَامِ التَّقْدِيرُ: يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مَأْكُولًا. فَ" مِنْ" الاولى على هذا للتبعيض والثانية للتخصيص. و (مِنْ بَقْلِها) بَدَلٌ مِنْ" مَا" بِإِعَادَةِ الْحَرْفِ. والبقل (وَقِثَّائِها) عطف عليه وكذا ما بعده فاعلمه. والبقل معروف وهو كل نبات ليس له ساق والشجر: ما له ساق. وَالْقِثَّاءُ أَيْضًا مَعْرُوفٌ وَقَدْ تُضَمُّ قَافُهُ وَهِيَ قراءة يحيى بن وثاب وطلحة ابن مُصَرِّفٍ لُغَتَانِ وَالْكَسْرُ أَكْثَرُ وَقِيلَ فِي جَمْعِ قِثَّاءٍ قَثَائِيٌّ مِثْلُ عِلْبَاءَ وَعَلَابِيٍّ إِلَّا أَنَّ قِثَّاءً مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ تَقُولُ: أَقْثَأْتُ الْقَوْمَ أي أطعمتهم ذلك.] وقثأت «1» الْقِدْرَ سَكَنْتُ غَلَيَانَهَا بِالْمَاءِ قَالَ الْجَعْدِيُّ:
تَفُورُ عَلَيْنَا قِدْرُهُمْ فَنُدِيمُهَا ... وَنَفْثَؤُهَا عَنَّا إِذَا حَمْيُهَا غَلَا
وَفَثَأْتُ الرَّجُلَ إِذَا كَسَرْتَهُ عَنْكَ بِقَوْلٍ أَوْ غَيْرِهِ وَسَكَّنْتَ غَضَبَهُ وَعَدَا حَتَّى أَفْثَأَ أَيْ أَعْيَا وَانْبَهَرَ. وَأَفْثَأَ الْحَرُّ أَيْ سَكَنَ وَفَتَرَ. وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ فِي الْيَسِيرِ مِنَ الْبِرِّ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الرَّثِيئَةَ تَفْثَأُ فِي الْغَضَبِ" وَأَصْلُهُ أَنَّ رَجُلًا كَانَ غَضِبَ عَلَى قَوْمٍ وَكَانَ مَعَ غَضَبِهِ جَائِعًا فَسَقَوْهُ رَثِيئَةً فَسَكَنَ غَضَبُهُ وَكَفَّ عَنْهُمْ. الرَّثِيئَةُ: اللَّبَنُ الْمَحْلُوبُ عَلَى الْحَامِضِ لِيَخْثُرَ رَثَأْتُ اللَّبَنَ رَثْأً إِذَا حَلَبْتَهُ عَلَى حامض فخثر والاسم الرثيئة. ورتثأ اللَّبَنُ خَثُرَ [. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ أُمِّي تُعَالِجُنِي لِلسُّمْنَةِ تُرِيدُ أَنْ تُدْخِلَنِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا اسْتَقَامَ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى أَكَلْتُ الْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ فَسَمِنْتُ كَأَحْسَنِ سمنة. وهذا إسناد صحيح.
__________
(1) . الكلام الموضوع بين المربعين نقله المؤلف من معاجم اللغة سهوا على أنه من مادة (قثا) بالقاف والواقع أنه من مادة (فثأ) بالفاء.(1/424)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَفُومِها) اخْتُلِفَ فِي الْفُومِ فَقِيلَ هُوَ الثُّومُ لِأَنَّهُ الْمُشَاكِلُ لِلْبَصَلِ. رَوَاهُ جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ. وَالثَّاءُ تُبْدَلُ مِنَ الْفَاءِ كَمَا قَالُوا مَغَافِيرُ وَمَغَاثِيرُ «1» . وَجَدَثَ وَجَدَفَ لِلْقَبْرِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ" ثُومِهَا" بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عن ابن عباس. وقال أمية ابن أبي الصلت:
كانت منازلهم إذ ذال ظَاهِرَةً ... فِيهَا الْفَرَادِيسُ وَالْفُومَانُ وَالْبَصَلُ
الْفَرَادِيسُ وَاحِدُهَا فَرْدِيسٌ. وَكَرْمٌ مُفَرْدَسٌ أَيْ مُعَرَّشٌ. وَقَالَ حَسَّانُ:
وَأَنْتُمْ أُنَاسٌ لِئَامُ الْأُصُولِ ... طَعَامُكُمُ الْفُومُ وَالْحَوْقَلُ
يَعْنِي الثُّومَ وَالْبَصَلَ وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيُّ وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ. وَقِيلَ: الْفُومُ الْحِنْطَةُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ قَالَ: وَهُوَ أَوْلَى وَمَنْ قَالَ بِهِ أَعْلَى وَأَسَانِيدُهُ صِحَاحٌ وَلَيْسَ جُوَيْبِرٌ بِنَظِيرٍ لِرِوَايَتِهِ وَإِنْ كَانَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ قَدِ اخْتَارَا الْقَوْلَ الْأَوَّلَ لِإِبْدَالِ الْعَرَبِ الْفَاءَ مِنَ الثَّاءِ وَالْإِبْدَالُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَنْشَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الْفُومِ وَأَنَّهُ الْحِنْطَةُ قَوْلَ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ:
قَدْ كُنْتُ أَغْنَى النَّاسِ شَخْصًا وَاجِدًا ... وَرَدَ الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ وَكَيْفَ يَطْلُبُ الْقَوْمُ طَعَامًا لَا بُرَّ فِيهِ وَالْبُرُّ أَصْلُ الْغِذَاءِ! وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ أَبُو نَصْرٍ الْفُومُ الْحِنْطَةُ وَأَنْشَدَ الْأَخْفَشُ:
قَدْ كُنْتُ أَحْسَبُنِي كَأَغْنَى وَاجِدٍ ... نَزَلَ الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ «2»
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الْفُومَةُ السُّنْبُلَةُ وَأَنْشَدَ:
وَقَالَ رَبِيئُهُمْ «3» لَمَّا أَتَانَا ... بِكَفِّهْ فُومَةٌ أَوْ فومتان
__________
(1) . المغافير: قيل: هو صمغ يسيل من شجر العرفط رائحته ليست بطيبة. [.....]
(2) . في الأغاني (ج 21 ص 211) طبع أوربا: (عن زراعة فول) . وقيل البيت:
ولقد نظرت إلى الشموس ودونها ... حرج من الرحمن غير قليل
وعلى هذا فالقافية لامية.
(3) . في بعض الأصول: (وقال رئيسهم) . الربى. (ومثله الربيئة) : العين والطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدو ولا يكون إلا على جبل أو شرف ينظر منه.(1/425)
وَالْهَاءُ فِي" كَفِّهِ" غَيْرُ مُشْبَعَةٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْفُومُ الْحِمَّصُ لُغَةٌ شَامِيَّةٌ وَبَائِعُهُ فَامِيٌّ، مُغَيَّرٌ عَنْ فُومِيٍّ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُغَيِّرُونَ فِي النَّسَبِ، كَمَا قَالُوا سُهْلِيٌّ وَدُهْرِيٌّ. وَيُقَالُ: فَوِّمُوا لَنَا أي اختبزوا. قال القراء: هِيَ لُغَةٌ قَدِيمَةٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: الْفُومُ كُلُّ حَبٍّ يُخْتَبَزُ. مَسْأَلَةٌ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَكْلِ الْبَصَلِ وَالثُّومِ وَمَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ مِنْ سَائِرِ الْبُقُولِ. فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى إِبَاحَةِ ذَلِكَ، لِلْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ فِي ذَلِكَ. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ فَرْضًا- إِلَى الْمَنْعِ، وَقَالُوا: كُلُّ مَا مَنَعَ مِنْ إِتْيَانِ الْفَرْضِ وَالْقِيَامِ بِهِ فَحَرَامٌ عَمَلُهُ وَالتَّشَاغُلُ بِهِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهَا خَبِيثَةً، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَصَفَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ يُحَرِّمُ الْخَبَائِثَ. وَمِنَ الْحُجَّةِ لِلْجُمْهُورِ مَا ثَبَتَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِبَدْرٍ فِيهِ «1» خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، قَالَ: فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ (قَرِّبُوهَا) إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قَالَ: (كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي) . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ. فَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْخُصُوصِ لَهُ وَالْإِبَاحَةِ لِغَيْرِهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ، فَصَنَعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا فِيهِ ثُومٌ، فَلَمَّا رُدَّ إِلَيْهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ: لَمْ يَأْكُلْ. فَفَزِعَ وَصَعِدَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ) . قَالَ فَإِنِّي أَكْرَهُ مَا تَكْرَهُ أَوْ مَا كَرِهْتَ، قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى (يَعْنِي يَأْتِيهِ الْوَحْيُ) فَهَذَا نَصٌّ عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ. وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَكَلُوا الثُّومَ زَمَنَ خَيْبَرَ وَفَتْحِهَا: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ لِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَهَا) . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُشْعِرُ بِأَنَّ الْحُكْمَ خَاصٌّ بِهِ، إِذْ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِمُنَاجَاةِ الْمَلَكِ. لَكِنْ قَدْ عَلِمْنَا هَذَا الْحُكْمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ بِمَا يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ حَيْثُ قَالَ: (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ الثُّومِ وقال مرة: من أكل البصل والثوم
__________
(1) . في الأصول: (بقدر) . والتصويب عن سنن أبي داود. يعنى بالبدر الطبق شبه بالبدر لاستدارته.(1/426)
وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ (. وَقَالَ عُمَرُ ابن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لَا أَرَاهُمَا إِلَّا خَبِيثَتَيْنِ، هَذَا الْبَصَلُ وَالثُّومُ. وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنَ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ، فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَعَدَسِها وَبَصَلِها) الْعَدَسُ مَعْرُوفٌ. وَالْعَدَسَةُ: بَثْرَةٌ تَخْرُجُ بِالْإِنْسَانِ، وربما قتلت. وعدس: زجر للبغال، قال:
عَدَسْ مَا لِعَبَّادٍ عَلَيْكِ إِمَارَةٌ ... نَجَوْتِ وَهَذَا تحملين طليق «1»
والعدس: شدة الوطي، وَالْكَدْحِ أَيْضًا، يُقَالُ: عَدَسَهُ. وَعَدَسَ فِي الْأَرْضِ: ذَهَبَ فِيهَا. وَعَدَسَتْ إِلَيْهِ الْمَنِيَّةُ أَيْ سَارَتْ، قَالَ الْكُمَيْتُ:
أُكَلِّفُهَا هَوْلَ الظَّلَامِ وَلَمْ أَزَلْ ... أَخَا اللَّيْلِ مَعْدُوسًا إِلَيَّ وَعَادِسًا
أَيْ يُسَارُ إِلَيَّ بِاللَّيْلِ. وَعَدَسٌ: لُغَةٌ فِي حَدَسٍ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَيُؤْثَرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: (عَلَيْكُمْ بِالْعَدَسِ فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ مُقَدَّسٌ وَإِنَّهُ يُرِقُّ الْقَلْبَ وَيُكْثِرُ الدَّمْعَةَ فَإِنَّهُ بَارَكَ فِيهِ سَبْعُونَ نَبِيًّا آخِرُهُمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَأْكُلُ يَوْمًا خُبْزًا بِزَيْتٍ، وَيَوْمًا بِلَحْمٍ «2» ، وَيَوْمًا بِعَدَسٍ. قَالَ الْحَلِيمِيُّ: وَالْعَدَسُ وَالزَّيْتُ طَعَامُ الصَّالِحِينَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضِيلَةٌ إِلَّا أَنَّهُ ضِيَافَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَدِينَتِهِ لَا تَخْلُو مِنْهُ لَكَانَ فِيهِ كِفَايَةٌ. وَهُوَ مِمَّا يُخَفِّفُ الْبَدَنَ فيخف للعبادة، ولا تَثُورُ مِنْهُ الشَّهَوَاتُ كَمَا تَثُورُ مِنَ اللَّحْمِ. وَالْحِنْطَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْحُبُوبِ وَهِيَ الْفُومُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالشَّعِيرُ قَرِيبٌ مِنْهَا وَكَانَ طَعَامَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، كَمَا كَانَ الْعَدَسُ مِنْ طَعَامِ قَرْيَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَصَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَبَّتَيْنِ بِأَحَدِ النَّبِيَّيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَضِيلَةٌ. وَقَدْ روي أن النبي صلى الله
__________
(1) . البيت ليزيد بن مفرغ.
(2) . في بعض نسخ الأصل: (بملح) .(1/427)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْبَعْ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) الِاسْتِبْدَالُ: وَضْعُ الشَّيْءِ مَوْضِعَ الآخر، ومنه البدل، وقد تقدم. و" أَدْنى " مَأْخُوذٌ عِنْدَ الزَّجَّاجِ مِنَ الدُّنُوِّ أَيْ الْقُرْبِ فِي الْقِيمَةِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَوْبٌ مُقَارِبٌ، أَيْ قَلِيلُ الثَّمَنِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: هُوَ مَهْمُوزٌ مِنَ الدَّنِيءِ الْبَيِّنِ الدَّنَاءَةِ بِمَعْنَى الْأَخَسِّ، إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ هَمْزَتُهُ. وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الدُّونِ أَيْ الْأَحَطِّ، فَأَصْلُهُ أَدْوَنُ، أَفْعَلُ، قُلِبَ فَجَاءَ أَفْلَعُ، وَحُوِّلَتِ الْوَاوُ أَلِفًا لِتَطَرُّفِهَا. وقرى فِي الشَّوَاذِّ" أَدْنَى" «1» . وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الْبَقْلَ وَالْقِثَّاءَ وَالْفُومَ وَالْعَدَسَ وَالْبَصَلَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالْمَنِّ وَالسَّلْوَى الَّذِي هُوَ خَيْرٌ. وَاخْتُلِفَ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي تُوجِبُ فَضْلَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي طَلَبُوهُ وَهِيَ خَمْسَةٌ: الْأَوَّلُ- أَنَّ الْبُقُولَ لَمَّا كَانَتْ لَا خَطَرَ لَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَنِّ وَالسَّلْوَى كَانَا أَفْضَلَ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. الثَّانِي- لَمَّا كَانَ الْمَنُّ وَالسَّلْوَى طَعَامًا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهِ وَكَانَ فِي اسْتِدَامَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَشُكْرِ نِعْمَتِهِ أَجْرٌ وَذُخْرٌ فِي الْآخِرَةِ، وَالَّذِي طَلَبُوهُ عَارٍ مِنْ هَذِهِ الْخَصَائِلِ كَانَ أَدْنَى فِي هَذَا الْوَجْهِ. الثَّالِثُ- لَمَّا كَانَ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ أَطْيَبَ وَأَلَذَّ مِنَ الَّذِي سَأَلُوهُ، كَانَ مَا سَأَلُوهُ أَدْنَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا مَحَالَةَ. الرَّابِعُ- لَمَّا كَانَ مَا أُعْطُوا لَا كُلْفَةَ فيه ولا تعب، والذي طلبوه لا يجئ إِلَّا بِالْحَرْثِ وَالزِّرَاعَةِ وَالتَّعَبِ كَانَ أَدْنَى. الْخَامِسُ- لَمَّا كَانَ مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ لَا مِرْيَةَ فِي حِلِّهِ وَخُلُوصِهِ لِنُزُولِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، الحبوب وَالْأَرْضُ يَتَخَلَّلُهَا الْبُيُوعُ وَالْغُصُوبُ وَتَدْخُلُهَا الشُّبَهُ، كَانَتْ أدنى من هذا الوجه.
__________
(1) . كذا في نسخ الأصل. والذي في كتب الشواذ: (أدنا بالهمز وهي قراءة زهير الفرقبي) .(1/428)
مَسْأَلَةٌ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَالْمَطَاعِمِ الْمُسْتَلَذَّاتِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَى وَالْعَسَلَ، وَيَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ الْعَذْبَ، وَسَيَأْتِي هَذَا الْمَعْنَى فِي" الْمَائِدَةِ" «1» وَ" النَّحْلِ" «2» إِنْ شَاءَ اللَّهُ مُسْتَوْفًى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (اهْبِطُوا مِصْراً) تَقَدَّمَ مَعْنَى الْهُبُوطِ «3» ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْنَاهُ التَّعْجِيزُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً" [الاسراء: 50] لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي التِّيهِ وَهَذَا عُقُوبَةٌ لَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ أُعْطُوا مَا طَلَبُوهُ. وَ" مِصْراً" بِالتَّنْوِينِ مُنَكَّرًا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ خَطُّ الْمُصْحَفِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: فَمَنْ صَرَفَهَا أَرَادَ مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:" اهْبِطُوا مِصْراً" قَالَ: مِصْرًا مِنْ هَذِهِ الْأَمْصَارِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ صَرَفَهَا أَيْضًا: أَرَادَ مِصْرَ فِرْعَوْنَ بِعَيْنِهَا. اسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ مِنْ أَمْرِهِمْ دُخُولَ الْقَرْيَةِ، وَبِمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ أَنَّهُمْ سَكَنُوا الشَّامَ بَعْدَ التِّيهِ. وَاسْتَدَلَّ الْآخَرُونَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَوْرَثَ بَنِي إِسْرَائِيلَ دِيَارَ آلِ فِرْعَوْنَ وَآثَارَهُمْ، وَأَجَازُوا صَرْفَهَا. قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ: لِخِفَّتِهَا وَشَبَهِهَا بِهِنْدٍ وَدَعْدٍ، وَأَنْشَدَ:
لَمْ تَتَلَفَّعْ بِفَضْلِ مِئْزَرِهَا ... دَعْدٌ وَلَمْ تُسْقَ دَعْدُ فِي الْعُلَبِ «4»
فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ. وَسِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلُ وَالْفَرَّاءُ لَا يُجِيزُونَ هَذَا، لِأَنَّكَ لَوْ سَمَّيْتَ امْرَأَةً بِزَيْدٍ لَمْ تَصْرِفْ. وَقَالَ غَيْرُ الْأَخْفَشِ: أَرَادَ الْمَكَانَ فَصَرَفَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ وَطَلْحَةُ:" مِصْرَ" بِتَرْكِ الصَّرْفِ. وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالُوا: هِيَ مِصْرُ فِرْعَوْنَ. قَالَ أَشْهَبُ قَالَ لِي مَالِكٌ: هِيَ عِنْدِي مِصْرُ قَرْيَتُكَ مَسْكَنُ فِرْعَوْنَ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْمِصْرُ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْحَدُّ. وَمِصْرُ الدَّارِ: حُدُودُهَا. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ وَيُقَالُ: إِنَّ أَهْلَ هَجَرَ يَكْتُبُونَ فِي شُرُوطِهِمْ" اشْتَرَى فُلَانٌ الدَّارَ بِمُصُورِهَا" أَيْ حُدُودِهَا، قَالَ عَدِيٌّ:
وَجَاعِلُ الشَّمْسِ مِصْرًا لَا خَفَاءَ بِهِ ... بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ الليل قد فصلا
__________
(1) . راجع ج 6 ص 263.
(2) . راجع ج 10 ص 136.
(3) . راجع ص 319.
(4) . البيت لجرير. والعلب: أقداح من جلود يحلب فيها اللبن ويشرب. يقول هي حضريه رقيقة العيش لا تلبس لبس الاعراب ولا تتغذى غذاءهم. (شرح الشواهد) .(1/429)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ) " مَا" نَصْبٌ بِإِنَّ، وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالنَّخَعِيُّ" سِأَلْتُمْ" بِكَسْرِ السِّينِ، يُقَالُ: سَأَلْتُ وَسَلْتُ بِغَيْرِ هَمْزٍ. وهو من ذوات الواو، بدليل قولهم: يتساولون. ومعنى (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أَيْ أُلْزِمُوهُمَا وَقُضِيَ عَلَيْهِمْ بِهِمَا، مَأْخُوذٌ مِنْ ضَرْبِ الْقِبَابِ، قَالَ الْفَرَزْدَقُ فِي جَرِيرٍ:
ضَرَبَتْ عَلَيْكَ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا ... وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ الْمُنْزَلُ
وَضَرَبَ الْحَاكِمُ عَلَى الْيَدِ، أَيْ حَمَلَ وَأَلْزَمَ. وَالذِّلَّةُ: الذُّلُّ وَالصَّغَارُ. وَالْمَسْكَنَةُ: الْفَقْرُ. فَلَا يُوجَدُ يَهُودِيٌّ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا خَالِيًا مِنْ زِيِّ الْفَقْرِ وَخُضُوعِهِ وَمَهَانَتِهِ. وَقِيلَ: الذِّلَّةُ فَرْضُ الْجِزْيَةِ، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَالْمَسْكَنَةُ الْخُضُوعُ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ السُّكُونِ، أَيْ قَلَّلَ الْفَقْرُ حَرَكَتَهُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الذِّلَّةُ الصَّغَارُ. وَالْمَسْكَنَةُ مَصْدَرُ الْمِسْكِينِ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ" قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ الْقَبَالَاتِ «1» . قوله تعالى: (وَباؤُ) أَيِ انْقَلَبُوا وَرَجَعُوا، أَيْ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ. وَمِنْهُ قول عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دُعَائِهِ وَمُنَاجَاتِهِ: (أَبُوءُ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ) أَيْ أُقِرُّ بِهَا وَأُلْزِمُهَا نَفْسِي. وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الرُّجُوعُ، يُقَالُ بَاءَ بِكَذَا، أَيْ رَجَعَ بِهِ، وَبَاءَ إِلَى الْمَبَاءَةِ وَهِيَ الْمَنْزِلُ أَيْ رَجَعَ. وَالْبَوَاءُ: الرُّجُوعُ بِالْقَوَدِ. وَهُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ بَوَاءٌ، أَيْ سَوَاءٌ، يَرْجِعُونَ فِيهِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: «2»
أَلَا تَنْتَهِي عَنَّا مُلُوكٌ وَتَتَّقِي ... مَحَارِمَنَا لَا يَبْوءُ الدَّمُ بِالدَّمِ
أَيْ لَا يَرْجِعُ الدَّمُ بِالدَّمِ فِي الْقَوَدِ. وَقَالَ:
فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا ... وَأُبْنَا بِالْمُلُوكِ «3» مُصَفَّدِينَا
أَيْ رَجَعُوا وَرَجَعْنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ معنى الغضب في الفاتحة «4» .
__________
(1) . في تفسير ابن كثير: (.... القبالات يعني الجزية) .
(2) . هو جابر بن جبير التغلبي (عن شرح الشواهد) .
(3) . البيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي ولا شاهد فيه إذ الرواية فيه: (فآبوا ... وأبنا) ومادة (آب) غير مادة (باء) وإن كان معنى المادتين واحدا.
(4) . راجع ص 149. [.....](1/430)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ) " ذَلِكَ" تَعْلِيلٌ. (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ) أَيْ يَكْذِبُونَ- بِآياتِ اللَّهِ) أَيْ بِكِتَابِهِ وَمُعْجِزَاتِ أَنْبِيَائِهِ، كَعِيسَى وَيَحْيَى وَزَكَرِيَّا وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) مَعْطُوفٌ عَلَى" يَكْفُرُونَ". وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ" يَقْتُلُونَ" وَعَنْهُ أَيْضًا كَالْجَمَاعَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ" النَّبِيئِينَ" بِالْهَمْزِ حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ:" إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ" «1» [الأحزاب. 50] . و" لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا" [الأحزاب: 53] فَإِنَّهُ قَرَأَ بِلَا مَدٍّ وَلَا هَمْزٍ. وَإِنَّمَا تَرَكَ هَمْزَ هَذَيْنِ لِاجْتِمَاعِ هَمْزَتَيْنِ مَكْسُورَتَيْنِ. وَتَرَكَ الْهَمْزَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْبَاقُونَ. فَأَمَّا مَنْ هَمَزَ فَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ أَنْبَأَ إِذَا أَخْبَرَ، واسم فاعله منبئ. ويجمع نبئ أَنْبِيَاءَ، وَقَدْ جَاءَ فِي جَمْعِ نَبِيٍّ نُبَآءُ، قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ يَمْدَحُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَا خَاتَمَ النُّبَآءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ ... بِالْحَقِّ كُلُّ هُدَى السَّبِيلِ هُدَاكَا
هَذَا مَعْنَى قِرَاءَةِ الْهَمْزِ. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِتَرْكِ الْهَمْزِ، فَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَقَّ اشْتِقَاقَ مَنْ هَمَزَ، ثُمَّ سَهَّلَ الْهَمْزَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ نَبَا يَنْبُو إِذَا ظَهَرَ. فَالنَّبِيُّ مِنَ النُّبُوَّةِ وَهُوَ الِارْتِفَاعُ، فَمَنْزِلَةُ النَّبِيِّ رَفِيعَةٌ. وَالنَّبِيُّ بِتَرْكِ الْهَمْزِ أَيْضًا الطَّرِيقُ، فَسُمِّيَ الرَّسُولُ نَبِيًّا لِاهْتِدَاءِ الْخَلْقِ بِهِ كَالطَّرِيقِ، قَالَ الشَّاعِرُ: «2»
لَأَصْبَحَ رَتْمًا دِقَاقُ الْحَصَى ... مَكَانَ النَّبِيِّ مِنَ الْكَاثِبِ
رَتَمْتُ الشَّيْءِ: كَسَرْتُهُ، يُقَالُ: رَتَمَ أَنْفَهُ وَرَثَمَهُ، بِالتَّاءِ وَالثَّاءِ جَمِيعًا. وَالرَّتْمُ أَيْضًا الْمَرْتُومُ أَيْ الْمَكْسُورُ. وَالْكَاثِبُ اسْمُ جَبَلٍ. فَالْأَنْبِيَاءُ لَنَا كَالسُّبُلِ فِي الْأَرْضِ. وَيُرْوَى أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يا نبئ اللَّهِ، وَهَمَزَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَسْتَ بنبي اللَّهِ- وَهَمَزَ- وَلَكِنِّي نَبِيُّ اللَّهِ) وَلَمْ يَهْمِزْ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: ضُعِّفَ سَنَدُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَمِمَّا يُقَوِّي ضَعْفَهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَنْشَدَهُ الْمَادِحُ:
يَا خَاتَمَ النُّبَآءِ ...
وَلَمْ يُؤْثَرْ في ذلك إنكار.
__________
(1) . ج 14 ص 210 وص 223.
(2) . هو أوس بن حجر (كما في اللسان) .(1/431)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِغَيْرِ الْحَقِّ) تَعْظِيمٌ لِلشُّنْعَةِ وَالذَّنْبِ الَّذِي أَتَوْهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَصِحُّ أَنْ يُقْتَلُوا بِالْحَقِّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ مِنْ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُمْ مَا يُقْتَلُونَ بِهِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا خَرَجَ هَذَا مَخْرَجَ الصِّفَةِ لِقَتْلِهِمْ أَنَّهُ ظُلْمٌ وَلَيْسَ بِحَقٍّ، فَكَانَ هَذَا تَعْظِيمًا لِلشُّنْعَةِ عَلَيْهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ نَبِيٌّ بِحَقٍّ، وَلَكِنْ يُقْتَلُ عَلَى الْحَقِّ، فَصَرَّحَ قَوْلُهُ:" بِغَيْرِ الْحَقِّ" عَنْ شُنْعَةِ الذَّنْبِ وَوُضُوحِهِ، وَلَمْ يَأْتِ نَبِيٌّ قَطُّ بِشَيْءٍ يُوجِبُ قَتْلَهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَ الْكَافِرِينَ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ؟ قِيلَ: ذَلِكَ كَرَامَةٌ لَهُمْ وَزِيَادَةٌ فِي مَنَازِلِهِمْ، كَمَثَلِ مَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِخِذْلَانٍ لَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: لَمْ يُقْتَلْ نَبِيٌّ قَطُّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِقِتَالٍ، وَكُلُّ مَنْ أُمِرَ بِقِتَالٍ نُصِرَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) " ذَلِكَ" رَدٌّ عَلَى الْأَوَّلِ وَتَأْكِيدٌ لِلْإِشَارَةِ إِلَيْهِ. وَالْبَاءُ فِي" بِمَا" بَاءُ السَّبَبِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ بِعِصْيَانِهِمْ. وَالْعِصْيَانُ: خِلَافُ الطَّاعَةِ. وَاعْتَصَتِ النَّوَاةُ إِذَا اشْتَدَّتْ. والاعتداء: تجاوز الحد في كل شي، وعرف في الظلم والمعاصي.
[سورة البقرة (2) : الآيات 62 الى 65]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65)
فِيهِ ثَمَانِي مَسَائِلَ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أَيْ صَدَّقُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ سُفْيَانُ: الْمُرَادُ الْمُنَافِقُونَ. كَأَنَّهُ قَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا فِي ظَاهِرِ أَمْرِهِمْ، فَلِذَلِكَ قَرَنَهُمْ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ، ثُمَّ بَيَّنَ حُكْمَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ جَمِيعِهِمْ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ هادُوا) مَعْنَاهُ صَارُوا يَهُودًا، نُسِبُوا إِلَى يَهُوذَا وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَلَبَتِ الْعَرَبُ الذَّالَ دَالًا، لِأَنَّ الْأَعْجَمِيَّةَ إِذَا عُرِّبَتْ غُيِّرَتْ(1/432)
عَنْ لَفْظِهَا. وَقِيلَ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِتَوْبَتِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ. هَادَ: تَابَ. وَالْهَائِدُ: التَّائِبُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنِّي امْرُؤٌ مِنْ حُبِّهِ هَائِدُ
أَيْ تائب. وفى التنزيل:" إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ" [الأعراف: 156] أَيْ تُبْنَا. وَهَادَ الْقَوْمُ يَهُودُونَ هَوْدًا وَهِيَادَةً إِذَا تَابُوا. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ:" هُدْنا إِلَيْكَ" أَيْ سَكَنَّا إِلَى أَمْرِكَ. وَالْهَوَادَةُ السُّكُونُ وَالْمُوَادَعَةُ. قال: ومنه قول تَعَالَى:" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا". وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ:" هَادَوْا" بِفَتْحِ الدَّالِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالنَّصارى) جَمْعٌ وَاحِدُهُ نَصْرَانِيٌّ. وَقِيلَ: نَصْرَانُ بِإِسْقَاطِ الْيَاءِ، وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. وَالْأُنْثَى نَصْرَانَةٌ، كَنَدْمَانَ وَنَدْمَانَةٍ. وَهُوَ نَكِرَةٌ يُعَرَّفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، قَالَ الشَّاعِرُ «1» :
صَدَّتْ كَمَا صَدَّ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُ ... سَاقِي نَصَارَى قُبَيْلَ الْفِصْحِ «2» صُوَّامُ
فَوَصَفَهُ بِالنَّكِرَةِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: وَاحِدُ النَّصَارَى نَصْرِيٌّ، كَمَهْرِيٌّ وَمَهَارَى. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ شَاهِدًا عَلَى قَوْلِهِ:
تَرَاهُ إِذَا دَارَ الْعِشَا مُتَحَنِّفًا ... وَيُضْحِي لَدَيْهِ وَهُوَ نَصْرَانُ شَامِسُ
وَأَنْشَدَ:
فَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأَسْجَدَ رَأْسُهَا ... كَمَا أَسْجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ «3»
يُقَالُ: أَسْجَدَ إِذَا مَالَ. وَلَكِنْ لَا يُسْتَعْمَلُ نَصْرَانُ ونصرانة إلا بياء النَّسَبِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ وَامْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ. وَنَصَّرَهُ: جَعَلَهُ نَصْرَانِيًّا. وَفِي الْحَدِيثِ: (فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ) . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نصراني
__________
(1) . هو النمر بن تولب. يصف ناقة عرض عليها الماء فعافته.
(2) . في نسخ الأصل: (الصبح) بالباء. والتصويب عن كتاب سيبويه. والفصح. فطر النصارى وهو عيد لهم.
(3) . البيت لابي الاخرز الحمائي يصف ناقتين طأطأتا رءوسهما من الإعياء. فشبه رأس الناقة برأس النصرانية إذا طأطأته في صلاتها. (عن شرح القاموس واللسان) .(1/433)
ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (. وَقَدْ جَاءَتْ جُمُوعٌ عَلَى غَيْرِ مَا يُسْتَعْمَلُ وَاحِدُهَا، وَقِيَاسُهُ النَّصْرَانِيُّونَ. ثُمَّ قِيلَ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِقَرْيَةٍ تُسَمَّى" نَاصِرَةَ" كَانَ يَنْزِلُهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنُسِبَ إِلَيْهَا فَقِيلَ: عِيسَى النَّاصِرِيُّ، فَلَمَّا نُسِبَ أَصْحَابُهُ إِلَيْهِ قِيلَ النَّصَارَى، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَنَصْرَانُ قَرْيَةٌ بِالشَّامِ يُنْسَبُ إِلَيْهَا النَّصَارَى، وَيُقَالُ نَاصِرَةٌ. وَقِيلَ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِنُصْرَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَمَّا رَأَيْتُ نَبَطًا أَنْصَارًا ... شمرت عن ركبتي الإزار
كُنْتُ لَهُمْ مِنَ النَّصَارَى جَارَا
وَقِيلَ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ:" مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ" [آل عمران: 52] . الرباعة- قوله تعالى: (وَالصَّابِئِينَ) جمع صَابِئٍ، وَقِيلَ: صَابٍ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي هَمْزِهِ، وَهَمَزَهُ الْجُمْهُورُ إِلَّا نَافِعًا. فَمَنْ هَمَزَهُ جَعَلَهُ من صبأت النجوم إذا طلعت، وصابت ثَنِيَّةُ الْغُلَامِ إِذَا خَرَجَتْ. وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْ جَعَلَهُ مِنْ صَبَا يَصْبُو إِذَا مَالَ. فَالصَّابِئُ فِي اللُّغَةِ: مَنْ خَرَجَ وَمَالَ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ أَسْلَمَ قَدْ صَبَأَ. فَالصَّابِئُونَ قَدْ خَرَجُوا مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ. الْخَامِسَةُ- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَهْلُ كِتَابٍ وَلِأَجْلِ كِتَابِهِمْ جَازَ نِكَاحُ نِسَائِهِمْ وَأَكْلُ طَعَامِهِمْ- عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْمَائِدَةِ «1» - وَضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ، عَلَى مَا يَأْتِي فِي، سُورَةِ" بَرَاءَةَ" «2» إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَاخْتُلِفَ فِي الصَّابِئِينَ، فَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَهُ إِسْحَاقُ بن رَاهْوَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ إِسْحَاقُ: لَا بَأْسَ بِذَبَائِحِ الصَّابِئِينَ لِأَنَّهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا بَأْسَ بِذَبَائِحِهِمْ وَمُنَاكَحَةِ نِسَائِهِمْ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: هُمْ قَوْمٌ يُشْبِهُ دِينُهُمْ دِينَ النَّصَارَى، إِلَّا أَنَّ قِبْلَتَهُمْ نَحْوُ مَهَبِّ الْجَنُوبِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: هُمْ قَوْمٌ تَرَكَّبَ دِينُهُمْ بَيْنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ، لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ. ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا وَقَتَادَةُ هُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَيُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَةِ وَيَقْرَءُونَ الزبور ويصلون الخمس، رآهم زياد
__________
(1) . راجع ج 6 ص 76.
(2) . راجع ج 8 ص 110.(1/434)
ابن أَبِي سُفْيَانَ فَأَرَادَ وَضْعَ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ حِينَ عَرَفَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ. وَالَّذِي تَحَصَّلَ مِنْ مَذْهَبِهِمْ- فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا- أَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ مُعْتَقِدُونَ تَأْثِيرَ النُّجُومِ وَأَنَّهَا فَعَّالَةٌ، وَلِهَذَا أَفْتَى أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ الْقَادِرُ بِاللَّهِ بِكُفْرِهِمْ حِينَ سَأَلَهُ عَنْهُمْ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَنْ آمَنَ) أَيْ صَدَّقَ. وَ" مَنْ" فِي قَوْلِهِ:" مَنْ آمَنَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَدَلٌ مِنَ" الَّذِينَ". وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ" فَلَهُمْ" دَاخِلَةٌ بِسَبَبِ الْإِبْهَامِ الذي في" مَنْ". و" فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ إِنَّ. وَيَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ" مَنْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَمَعْنَاهَا الشَّرْطُ. وَ" آمَنَ" فِي مَوْضِعِ جزم بالشرط، والفاء الجواب. و" فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ" خَبَرُ" مَنْ"، وَالْجُمْلَةُ كُلُّهَا خَبَرُ" إِنَّ"، وَالْعَائِدُ عَلَى" الَّذِينَ" مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ. وَفِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ اندارج الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ وَالْبَعْثِ. السَّابِعَةُ- إِنْ قَالَ قائل: لم جمع الضمير في قول تعالى:" فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ" وَ" آمَنَ" لَفْظٌ مُفْرَدٌ لَيْسَ بِجَمْعٍ، وَإِنَّمَا كَانَ يَسْتَقِيمُ لَوْ قَالَ: لَهُ أَجْرُهُ. فَالْجَوَابُ أَنَّ" مَنْ" يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ، فَجَائِزٌ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا وَمُثَنًّى وَمَجْمُوعًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ" [يونس: 42] عَلَى الْمَعْنَى. وَقَالَ:" وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ" عَلَى اللَّفْظِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَلِمَّا بِسَلْمَى عَنْكُمَا إِنْ عَرَضْتُمَا ... وَقُولَا لَهَا عُوجِيَ عَلَى مَنْ تخلفوا
وقال الفرزدق:
تعال فإن عاهدتني لَا تَخُونُنِي ... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ
فَحُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى وَلَوْ حُمِلَ عَلَى اللفظ لقال: يصطحب وتخلف. وقال تَعَالَى:" وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ" فَحُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ. ثُمَّ قَالَ:" خالِدِينَ" فَحُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى، وَلَوْ رَاعَى اللَّفْظَ لَقَالَ: خَالِدًا فِيهَا. وَإِذَا جَرَى مَا بَعْدَ" مَنْ" عَلَى اللَّفْظِ فَجَائِزٌ أَنْ يُخَالَفَ بِهِ بَعْدُ عَلَى الْمَعْنَى كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِذَا جَرَى مَا بَعْدَهَا عَلَى الْمَعْنَى لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَالَفَ بِهِ بَعْدُ عَلَى اللَّفْظِ لِأَنَّ الْإِلْبَاسَ يَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي قوله تعالى: (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) «1» . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
__________
(1) . راجع ص 329 من هذا الجزء.(1/435)
الثَّامِنَةُ- رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْلَهُ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا" [الحج: 17] الآية. منسوخ بقوله تعالى:" يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ" [آل عمران: 85] الْآيَةَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ. وَهِيَ فِيمَنْ ثَبَتَ عَلَى إِيمَانِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السلام.
[تفسير]
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) هَذِهِ الْآيَةُ تُفَسِّرُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى" وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ" «1» [الأعراف: 171] . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَعْنَى زَعْزَعْنَاهُ فَاسْتَخْرَجْنَاهُ مِنْ مكانه. قال: وكل شي قَلَعْتَهُ فَرَمَيْتَ بِهِ فَقَدْ نَتَقْتَهُ. وَقِيلَ: نَتَقْنَاهُ رَفَعْنَاهُ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: النَّاتِقُ الرَّافِعُ، وَالنَّاتِقُ الْبَاسِطُ، وَالنَّاتِقُ الْفَاتِقُ. وَامْرَأَةٌ نَاتِقٌ وَمُنْتَاقٌ: كَثِيرَةُ الْوَلَدِ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: أُخِذَ ذَلِكَ مِنْ نَتْقِ السِّقَاءِ، وَهُوَ نَفْضُهُ حَتَّى تُقْتَلَعَ الزُّبْدَةَ مِنْهُ. قَالَ وَقَوْلُهُ:" وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ" قَالَ: قُلِعَ مِنْ أَصْلِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي الطُّورِ، فَقِيلَ: الطُّورُ اسْمٌ لِلْجَبَلِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِيهِ التَّوْرَاةَ دُونَ غَيْرِهِ، رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنْهُ أَنَّ الطُّورَ مَا أَنْبَتَ مِنَ الْجِبَالِ خَاصَّةً دُونَ مَا لَمْ يُنْبِتْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَيُّ جَبَلٍ كَانَ. إِلَّا أَنَّ مُجَاهِدًا قَالَ: هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ جَبَلٍ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، وَقَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ هَلْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ أَلْفَاظٌ مُفْرَدَةٌ غَيْرُ مُعَرَّبَةٍ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ «2» . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَزَعَمَ الْبَكْرِيُّ أَنَّهُ سُمِّيَ بِطُورِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْقَوْلُ فِي سَبَبِ رَفْعِ الطُّورِ وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا جَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِالْأَلْوَاحِ فِيهَا التَّوْرَاةُ قَالَ لَهُمْ: خُذُوهَا وَالْتَزِمُوهَا. فَقَالُوا: لَا! إِلَّا أَنْ يُكَلِّمَنَا اللَّهُ بِهَا كَمَا كَلَّمَكَ. فَصُعِقُوا ثُمَّ أُحْيُوا. فَقَالَ لَهُمْ: خُذُوهَا. فَقَالُوا لَا. فَأَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ فَاقْتَلَعَتْ جَبَلًا من جبال فلسطين طوله
__________
(1) . راجع ج 7 ص 313.
(2) . راجع ص 68 من هذا الجزء.(1/436)
فَرْسَخٌ فِي مِثْلِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَسْكَرُهُمْ، فَجُعِلَ عَلَيْهِمْ مِثْلُ الظُّلَّةِ، وَأُتُوا بِبَحْرٍ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَنَارٍ مِنْ قِبَلِ وُجُوهِهِمْ، وَقِيلَ لَهُمْ: خُذُوهَا وَعَلَيْكُمُ الْمِيثَاقُ أَلَّا تُضَيِّعُوهَا، وَإِلَّا سَقَطَ عَلَيْكُمُ الْجَبَلُ. فَسَجَدُوا تَوْبَةً لِلَّهِ وَأَخَذُوا التَّوْرَاةَ بِالْمِيثَاقِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: لَوْ أَخَذُوهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقٌ. وَكَانَ سُجُودُهُمْ عَلَى شِقٍّ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْقُبُونَ الْجَبَلَ خَوْفًا، فَلَمَّا رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالُوا: لَا سَجْدَةَ أَفْضَلَ مِنْ سَجْدَةٍ تَقَبَّلَهَا اللَّهُ وَرَحِمَ بِهَا عِبَادَهُ، فَأَمَرُّوا سُجُودَهُمْ عَلَى شِقٍّ وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي لَا يَصِحُّ سِوَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَرَعَ وَقْتَ سُجُودِهِمُ الْإِيمَانَ [فِي قُلُوبِهِمْ «1» ] لَا أَنَّهُمْ آمَنُوا كُرْهًا وَقُلُوبُهُمْ غَيْرُ مُطْمَئِنَّةٍ بِذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (خُذُوا) أَيْ فَقُلْنَا خُذُوا، فَحُذِفَ. (مَا آتَيْناكُمْ) أَعْطَيْنَاكُمْ. (بِقُوَّةٍ) أَيْ بجد واجتهاد، قاله ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ. وَقِيلَ: بِنِيَّةٍ وَإِخْلَاصٍ. مُجَاهِدٌ: الْقُوَّةُ الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ. وَقِيلَ: بِقُوَّةٍ، بِكَثْرَةِ دَرْسٍ. (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) أَيْ تَدَبَّرُوهُ وَاحْفَظُوا أَوَامِرَهُ وَوَعِيدَهُ، وَلَا تَنْسَوْهُ وَلَا تُضَيِّعُوهُ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكُتُبِ، الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا لَا تِلَاوَتُهَا بِاللِّسَانِ وَتَرْتِيلُهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ نَبْذٌ لَهَا، عَلَى مَا قَالَهُ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَسَيَأْتِي قَوْلُهُمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ" «2» [البقرة: 101] . وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ رَجُلًا فَاسِقًا يقرأ القرآن لا يرعوي إلى شي مِنْهُ) . فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْعَمَلُ كَمَا بَيَّنَّا. وَقَالَ مَالِكٌ: قَدْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ. فَمَا لَزِمَ إِذًا مَنْ قَبْلَنَا وَأُخِذَ عَلَيْهِمْ لَازِمٌ لَنَا وَوَاجِبٌ عَلَيْنَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ" «3» [الزمر: 55] فَأُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ كِتَابِهِ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، لَكِنْ تَرَكْنَا ذَلِكَ، كَمَا تَرَكَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَبَقِيَتْ أَشْخَاصُ الْكُتُبِ وَالْمَصَاحِفِ لَا تُفِيدُ شَيْئًا، لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ وَطَلَبِ الرِّيَاسَةِ وَاتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: (هَذَا أوان
__________
(1) . زيادة عن تفسير ابن عطية.
(2) . راجع ج 2 ص 41.
(3) . راجع ج 15 ص 270)
((1/437)
يُخْتَلَسُ فِيهِ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لَا يقدروا منه على شي (. فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيَدٍ الْأَنْصَارِيُّ: كَيْفَ يُخْتَلَسُ منا وقد قرآنا القرآن! فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. فَقَالَ: (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ إِنْ كُنْتُ لَأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي. وَخَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ أَيْضًا عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِزِيَادٍ: (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) . وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لِإِنْسَانٍ:" إِنَّكَ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ وَتُضَيَّعُ حُرُوفُهُ، قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ، كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ الصَّلَاةَ وَيُقْصِرُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ، يَبْدَءُونَ فِيهِ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ. وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ، وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ، كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ، قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ، وَيُقْصِرُونَ الصَّلَاةَ، يَبْدَءُونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ". وَهَذِهِ نُصُوصٌ تَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ قَالَ يَحْيَى: سَأَلْتُ ابْنَ نَافِعٍ عَنْ قَوْلِهِ: يَبْدَءُونَ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ؟ قَالَ يَقُولُ: يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَيَتْرُكُونَ الْعَمَلَ بِالَّذِي افْتُرِضَ عَلَيْهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ:" لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" «1» . فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) تَوَلَّى تَفَعَّلَ، وَأَصْلُهُ الْإِعْرَاضُ وَالْإِدْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بالجسم، ثم استعمل في الاعراض عن الأوامر والأديان والمعتقدات اتساعا وَمَجَازًا. وَقَوْلُهُ: (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أَيْ مِنْ بَعْدِ الْبُرْهَانِ، وَهُوَ أَخْذُ الْمِيثَاقِ وَرَفْعُ الْجَبَلِ. وقوله: (فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) " فَضْلُ" مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ لَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ اسْتَغْنَتْ عَنْ إِظْهَارِهِ، إِلَّا أَنَّهُمْ إِذَا أرادوا إظهاره جاءوا بأن، فَإِذَا جَاءُوا بِهَا لَمْ يَحْذِفُوا الْخَبَرَ. وَالتَّقْدِيرُ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ تَدَارَكَكُمْ. (وَرَحْمَتُهُ) عَطْفٌ عَلَى" فَضْلُ" أي
__________
(1) . راجع ص 227 من هذا الجزء. [.....](1/438)
لطفه وإمهاله. (لَكُنْتُمْ) جواب" فَلَوْلا". (مِنَ الْخاسِرِينَ) خَبَرُ كُنْتُمْ. وَالْخُسْرَانُ: النُّقْصَانُ، وَقَدْ تقدم «1» . وقيل: فضله قبول التوبة، و" رَحْمَتُهُ" الْعَفْوُ. وَالْفَضْلُ: الزِّيَادَةُ عَلَى مَا وَجَبَ. وَالْإِفْضَالُ: فِعْلُ مَا لَمْ يَجِبْ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ: الْفَضْلُ الزِّيَادَةُ وَالْخَيْرُ، وَالْإِفْضَالُ: الْإِحْسَانُ.
[تفسير]
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) " عَلِمْتُمُ" مَعْنَاهُ عَرَفْتُمْ أَعْيَانَهُمْ. وَقِيلَ: عَلِمْتُمْ أَحْكَامَهُمْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَعْرِفَةَ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى ذَاتِ الْمُسَمَّى. وَالْعِلْمُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى أَحْوَالِ الْمُسَمَّى. فَإِذَا قُلْتَ: عَرَفْتُ زَيْدًا، فَالْمُرَادُ شَخْصُهُ. وَإِذَا قُلْتَ: عَلِمْتُ زَيْدًا، فَالْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ بِأَحْوَالِهِ مِنْ فَضْلٍ وَنَقْصٍ. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ:" عَلِمْتُمُ" بِمَعْنَى عَرَفْتُمْ. وَعَلَى الثَّانِي إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَحَكَى الْأَخْفَشُ: وَلَقَدْ عَلِمْتُ زَيْدًا وَلَمْ أَكُنْ أَعْلَمُهُ. وَفِي التَّنْزِيلِ:" لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ" [الأنفال: 60] . كُلُّ هَذَا بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ، فَاعْلَمْ." الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ" [البقرة: 65] صِلَةُ" الَّذِينَ". وَالِاعْتِدَاءُ. التَّجَاوُزُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «2» . الثَّانِيَةُ- رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: قَالَ يَهُودِيٌّ لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ. فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: لَا تَقُلْ نَبِيٌّ لَوْ سَمِعَكَ! فَإِنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَعْيُنٍ «3» . فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَاهُ عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، فَقَالَ لَهُمْ: (لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا تمشوا ببري إِلَى سُلْطَانٍ وَلَا تَسْحَرُوا وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا وَلَا تَقْذِفُوا الْمُحْصَنَةَ وَلَا تُوَلُّوا يَوْمَ الزَّحْفِ وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةُ يَهُودَ أَلَّا تَعْدُوَا فِي السَّبْتِ (. فَقَبَّلُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ. قال:) فما
__________
(1) . راجع ص 248.
(2) . راجع ص 432.
(3) . الذي في نسخة النسائي: (لو سمعك كان له أربعة أعين) مع تأنيث العدد أيضا.(1/439)
يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتَّبِعُونِي (!. قَالُوا: إِنَّ دَاوُدَ دَعَا بِأَلَّا يَزَالَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ وَإِنَّا نَخَافُ إِنِ اتَّبَعْنَاكَ أَنْ تَقْتُلَنَا يَهُودُ. وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَسَيَأْتِي لَفْظُهُ فِي سُورَةِ" سُبْحَانَ" «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّالِثَةُ- (فِي السَّبْتِ) مَعْنَاهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ فِي حُكْمِ السَّبْتِ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْحَسَنِ وَأَنَّهُمْ أَخَذُوا فِيهِ الْحِيتَانَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْلَالِ. وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: زَعَمَ ابْنُ رُومَانَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ خَيْطًا وَيَضَعُ فِيهِ وَهْقَةً «2» وَأَلْقَاهَا فِي ذَنَبِ الْحُوتِ، وَفِي الطَّرَفِ الْآخَرِ مِنَ الْخَيْطِ وَتَدٌ وَتَرَكَهُ كَذَلِكَ إِلَى الْأَحَدِ، ثُمَّ تَطَرَّقَ النَّاسُ حِينَ رَأَوْا مَنْ صَنَعَ لَا يُبْتَلَى، حَتَّى كَثُرَ صَيْدُ الْحُوتِ وَمُشِيَ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَأَعْلَنَ الْفَسَقَةُ بِصَيْدِهِ. فَقَامَتْ فِرْقَةٌ فَنَهَتْ وَجَاهَرَتْ بِالنَّهْيِ وَاعْتَزَلَتْ. وَيُقَالُ: إِنَّ النَّاهِينَ قَالُوا: لَا نُسَاكِنُكُمْ، فَقَسَمُوا الْقَرْيَةَ بِجِدَارٍ. فَأَصْبَحَ النَّاهُونَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي مَجَالِسِهِمْ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْمُعْتَدِينَ أَحَدٌ، فَقَالُوا: إِنَّ لِلنَّاسِ لَشَأْنًا، فَعَلَوْا عَلَى الْجِدَارِ فَنَظَرُوا فَإِذَا هُمْ قِرَدَةٌ، فَفَتَحُوا الْبَابَ وَدَخَلُوا عَلَيْهِمْ، فَعَرَفَتِ الْقِرَدَةُ أَنْسَابَهَا مِنَ الْإِنْسِ، وَلَا يَعْرِفُ الْإِنْسُ أَنْسَابَهُمْ مِنَ الْقِرَدَةِ، فَجَعَلَتِ الْقِرَدَةُ تَأْتِي نَسِيبَهَا مِنَ الْإِنْسِ فَتَشُمُّ ثِيَابَهُ وَتَبْكِي، فَيَقُولُ: أَلَمْ نَنْهَكُمْ! فَتَقُولُ بِرَأْسِهَا نَعَمْ. قَالَ قَتَادَةُ: صَارَ الشُّبَّانُ قِرَدَةً، وَالشُّيُوخُ خَنَازِيرَ، فَمَا نَجَا إِلَّا الَّذِينَ نَهَوْا وَهَلَكَ سَائِرُهُمْ. وَسَيَأْتِي فِي" الْأَعْرَافِ" «3» قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ. وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَفْتَرِقُوا إِلَّا فِرْقَتَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالسَّبْتُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّبْتِ وَهُوَ القطع، فقيل: إن الأشياء فيه سَبَتَتْ وَتَمَّتْ خِلْقَتُهَا. وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّبُوتِ الَّذِي هُوَ الرَّاحَةُ وَالدَّعَةُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَمْسُوخِ هَلْ يَنْسِلُ عَلَى قَوْلَيْنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: قَالَ قَوْمٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقِرَدَةُ مِنْهُمْ. وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْمَمْسُوخُ لَا يَنْسِلُ وَإِنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَغَيْرُهُمَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالَّذِينَ مسخهم الله قد هلكوا
__________
(1) . راجع ج 10 ص 335.
(2) . الوهق (بالتحريك وتسكن الهاء) : الحبل في طرفيه أنشوطة تطرح في عنق الدابة أو الإنسان حتى تؤخذ. والأنشوطة عقدة يسهل انحلالها كعقدة التكة عند جذبها. راجع ج 7 ص 306.
(3) . راجع ج 7 ص 307(1/440)
وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ نَسْلٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أَصَابَهُمُ السُّخْطُ وَالْعَذَابُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَرَارٌ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَعِشْ مَسْخٌ قَطُّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ وَلَمْ يَنْسِلْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبَتَ أَنَّ الْمَمْسُوخَ لَا يَنْسِلُ وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَلَا يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ. وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يُدْرَى مَا فَعَلَتْ وَلَا أَرَاهَا إِلَّا الْفَأْرَ أَلَا تَرَوْنَهَا إِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الْإِبِلِ لَمْ تَشْرَبْهُ وَإِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ شَرِبَتْهُ (. رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَبِحَدِيثِ الضَّبِّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ، قَالَ جَابِرٌ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَبٍّ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَقَالَ: (لَا أَدْرِي لَعَلَّهُ مِنَ الْقُرُونِ الَّتِي مُسِخَتْ) فَمُتَأَوَّلٌ عَلَى مَا يَأْتِي. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً قَدْ زَنَتْ فَرَجَمُوهَا فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ. ثَبَتَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ وَسَقَطَ فِي بَعْضِهَا، وَثَبَتَ فِي نَصِّ الْحَدِيثِ" قَدْ زَنَتْ" وَسَقَطَ هَذَا اللَّفْظُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَإِنْ قِيلَ: وَكَأَنَّ الْبَهَائِمَ بَقِيَتْ فِيهِمْ مَعَارِفُ الشَّرَائِعِ حَتَّى وَرِثُوهَا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ إِلَى زَمَانِ عَمْرٍو؟ قُلْنَا: نَعَمْ كَذَلِكَ كَانَ، لِأَنَّ الْيَهُودَ غَيَّرُوا الرَّجْمَ فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَهُ فِي مُسُوخِهِمْ «1» حَتَّى يَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْحُجَّةِ عَلَى مَا أَنْكَرُوهُ مِنْ ذَلِكَ وغيروه، حتى تشهد عليهم كتبهم وأحجارهم وَمُسُوخُهُمْ «2» ، حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَيُحْصِي مَا يُبَدِّلُونَ وَمَا يُغَيِّرُونَ، وَيُقِيمُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وَيَنْصُرُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ. قُلْتُ: هَذَا كَلَامُهُ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَا حجة في شي مِنْهُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ قِصَّةِ عَمْرٍو فَذَكَرَ الْحُمَيْدِيُّ فِي جَمْعِ الصَّحِيحَيْنِ: حَكَى أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ أَنَّ لِعَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ حِكَايَةً مِنْ رِوَايَةِ حُصَيْنٍ عَنْهُ قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قردة
__________
(1) . في الأصول: (ممسوخهم) . والتصويب عن أحكام القرآن لابن العربي.
(2) . في الأصول: (ممسوخهم) . والتصويب عن أحكام القرآن لابن العربي.(1/441)
فَرَجَمُوهَا فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ. كَذَا حَكَى أَبُو مَسْعُودٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ كِتَابِهِ، فَبَحَثْنَا عَنْ ذَلِكَ فَوَجَدْنَاهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لَا فِي كُلِّهَا، فَذُكِرَ فِي كِتَابِ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ النُّعَيْمِيِّ عن الفربري أصلا شي مِنْ هَذَا الْخَبَرِ فِي الْقِرَدَةِ، وَلَعَلَّهَا مِنَ الْمُقْحَمَاتِ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ. وَالَّذِي قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ الْكَبِيرِ: قَالَ: لِي نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بَلْجٍ وَحُصَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قُرُودٌ فَرَجَمُوهَا فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ. وَلَيْسَ فِيهِ" قَدْ زَنَتْ". فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَإِنَّمَا أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ قَدْ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَلَمْ يُبَالِ بِظَنِّهِ الَّذِي ظَنَّهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ فِي الِاسْتِيعَابِ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ وَأَنَّ كُنْيَتَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ" مَعْدُودٌ فِي كِبَارِ التَّابِعِينَ مِنَ الْكُوفِيِّينَ، وَهُوَ الَّذِي رَأَى الرَّجْمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْقِرَدَةِ إِنْ صَحَّ ذَلِكَ، لِأَنَّ رُوَاتَهُ مَجْهُولُونَ. وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ نُعَيْمٍ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ مُخْتَصَرًا قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً زَنَتْ فَرَجَمُوهَا- يَعْنِي الْقِرَدَةَ- فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ. وَرَوَاهُ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ حُصَيْنٍ كَمَا رَوَاهُ هُشَيْمٌ مُخْتَصَرًا. وَأَمَّا الْقِصَّةُ بِطُولِهَا فَإِنَّهَا تَدُورُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيسَى بْنِ حِطَّانَ، وَلَيْسَا مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِهِمَا. وَهَذَا عِنْدَ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ مُنْكَرٌ إِضَافَةُ الزِّنَى إِلَى غَيْرِ مُكَلَّفٍ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ فِي الْبَهَائِمِ. وَلَوْ صَحَّ لَكَانُوا مِنَ الْجِنِّ، لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ فِي الْإِنْسِ وَالْجِنِّ دُونَ غَيْرِهِمَا". وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: (وَلَا أَرَاهَا إِلَّا الْفَأْرَ) وَفِي الضَّبِّ: (لَا أَدْرِي لَعَلَّهُ مِنَ الْقُرُونِ الَّتِي مُسِخَتْ) وَمَا كَانَ مِثْلَهُ، فَإِنَّمَا كَانَ ظَنًّا وَخَوْفًا لِأَنْ يَكُونَ الضَّبُّ وَالْفَأْرُ وَغَيْرُهُمَا مِمَّا مُسِخَ، وَكَانَ هَذَا حَدْسًا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلْمَسْخِ نَسْلًا، فَلَمَّا أُوْحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ التَّخَوُّفُ، وَعَلِمَ أَنَّ الضَّبَّ وَالْفَأْرَ لَيْسَا مِمَّا مُسِخَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ أَخْبَرَنَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ: هِيَ مِمَّا مُسِخَ؟ فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا أَوْ يُعَذِّبْ قَوْمًا فَيَجْعَلُ لَهُمْ نَسْلًا وَإِنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ (. وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ. وَثَبَتَتِ النُّصُوصُ بِأَكْلِ الضَّبِّ بِحَضْرَتِهِ وَعَلَى مَائِدَتِهِ وَلَمْ ينكر،(1/442)
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا. وَبِاللَّهِ تَوْفِيقُنَا. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ فَقَطْ، وَرُدَّتْ أَفْهَامُهُمْ كَأَفْهَامِ الْقِرَدَةِ. وَلَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا أَعْلَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً) " قِرَدَةً" خَبَرُ كَانَ." خاسِئِينَ" نعت، وإن شئت جعلته خبرا ثانيا لكان، أَوْ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي" كُونُوا". وَمَعْنَاهُ مُبْعَدِينَ. يُقَالُ: خَسَأْتُهُ فَخَسَأَ وَخُسِئَ، وَانْخَسَأَ أَيْ أَبْعَدْتُهُ فَبَعُدَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً" «1» [الملك: 4] أي مبعدا. وقوله:" اخْسَؤُا فِيها" «2» [المؤمنون: 108] أَيْ تَبَاعَدُوا. تَبَاعُدَ سُخْطٍ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: خَسَأَ الرَّجُلُ خُسُوءًا، وَخَسَأْتُهُ خَسْأً. وَيَكُونُ الْخَاسِئُ بِمَعْنَى الصاغر القمي. يُقَالُ: قَمُؤَ الرَّجُلُ قَمَاءً وَقَمَاءَةً صَارَ قَمِيئًا، وَهُوَ الصَّاغِرُ الذَّلِيلُ. وَأَقْمَأْتُهُ: صَغَّرْتُهُ وَذَلَّلْتُهُ، فَهُوَ قمي على فعيل.
[سورة البقرة (2) : آية 66]
فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَجَعَلْناها نَكالًا) نَصْبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَفِي الْمَجْعُولِ نَكَالًا أَقَاوِيلُ، قِيلَ: الْعُقُوبَةُ. وَقِيلَ: الْقَرْيَةُ، إِذْ مَعْنَى الْكَلَامِ يَقْتَضِيهَا. وَقِيلَ: الْأُمَّةُ الَّتِي مُسِخَتْ. وَقِيلَ: الْحِيتَانُ، وَفِيهِ بُعْدٌ. وَالنَّكَالُ: الزَّجْرُ وَالْعِقَابُ. وَالنِّكْلُ وَالْأَنْكَالُ: الْقُيُودُ. وَسُمِّيَتِ الْقُيُودُ أَنْكَالًا لِأَنَّهَا يُنْكَّلُ بِهَا، أَيْ يُمْنَعُ. وَيُقَالُ لِلِّجَامِ الثَّقِيلِ: نَكْلٌ «3» وَنِكْلٌ، لِأَنَّ الدَّابَّةَ تُمْنَعُ بِهِ. وَنَكَلَ عَنِ الْأَمْرِ يَنْكُلُ، وَنَكِلَ يَنْكَلُ إِذَا امْتَنَعَ. وَالتَّنْكِيلُ: إِصَابَةُ الْأَعْدَاءِ بِعُقُوبَةٍ تُنَكِّلُ مَنْ وَرَاءَهُمْ، أَيْ تُجَبِّنُهُمْ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: النَّكَالُ الْعُقُوبَةُ. ابْنُ دُرَيْدٍ: وَالْمَنْكَلُ: الشيء الذي ينكل بالإنسان، قال: «4»
فارم على أقفائهم بمنكل
__________
(1) . راجع ج 18 ص
(2) . راجع ج 12 ص 153.
(3) . هذه الكلمة موجودة في بعض نسخ الأصل، ومعاجم اللغة لا تؤيده. والذي بها إنما هو بالكسر لا غير.
(4) . القائل رياح المؤملي. وقبله:
يا رب أشقاني بنو مؤمل
وبعده:
بصخرة أو عرض جيش جحفل
(عن شرح القاموس) .(1/443)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
قَوْلُهُ: (لِما بَيْنَ يَدَيْها) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: لِمَا بَيْنَ يَدَيِ الْمَسْخَةِ مَا قَبْلَهَا مِنْ ذُنُوبِ الْقَوْمِ. (وَما خَلْفَها) لِمَنْ يَعْمَلُ مِثْلَ تِلْكَ الذُّنُوبِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: جُعِلَتِ الْمَسْخَةُ نَكَالًا لِمَا مَضَى مِنَ الذُّنُوبِ، وَلِمَا يُعْمَلُ بَعْدَهَا لِيَخَافُوا الْمَسْخَ بِذُنُوبِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ جَيِّدٌ، وَالضَّمِيرَانِ لِلْعُقُوبَةِ. وَرَوَى الْحَكَمُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لِمَنْ حَضَرَ مَعَهُمْ وَلِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ. وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ، قَالَ: وَهُوَ أَشْبَهُ بِالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا:" لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها" مِنَ الْقُرَى. وَقَالَ قَتَادَةُ:" لِما بَيْنَ يَدَيْها" مِنْ ذُنُوبِهِمْ" وَما خَلْفَها" مِنْ صَيْدِ الْحِيتَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) عَطْفٌ عَلَى نَكَالٍ، وَوَزْنُهَا مَفْعِلَةٌ مِنَ الِاتِّعَاظِ وَالِانْزِجَارِ. وَالْوَعْظُ: التَّخْوِيفُ. وَالْعِظَةُ الِاسْمُ. قَالَ الْخَلِيلُ: الْوَعْظُ التَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ فِيمَا يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَخَصَّ الْمُتَّقِينَ وَإِنْ كَانَتْ مَوْعِظَةً لِلْعَالَمِينَ لِتَفَرُّدِهِمْ بِهَا عَنِ الْكَافِرِينَ الْمُعَانِدِينَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاللَّفْظُ يَعُمُّ كُلَّ مُتَّقٍ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ" وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ" لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْتَهِكُوا مِنْ حُرَمِ اللَّهِ عز وجل مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، فَيُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَ أَصْحَابَ السَّبْتِ إِذِ انْتَهَكُوا حُرَمَ اللَّهِ فِي سَبْتِهِمْ.
[سورة البقرة (2) : آية 67]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ) حُكِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ قَرَأَ" يَأْمُرْكُمْ" بِالسُّكُونِ، وَحَذْفِ الضَّمَّةِ مِنَ الرَّاءِ لِثِقَلِهَا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ: لَا يَجُوزُ هَذَا لِأَنَّ الرَّاءَ حَرْفُ الْإِعْرَابِ، وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ كَانَ يَخْتَلِسُ الْحَرَكَةَ." أَنْ تَذْبَحُوا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ" يَأْمُرُكُمْ" أَيْ بِأَنْ تَذْبَحُوا." بَقَرَةً" نَصْبٌ بِ" تَذْبَحُوا". وَقَدْ تَقَدَّمَ «1» مَعْنَى الذبح فلا معنى لإعادته.
__________
(1) . راجع المسألة العاشرة ص 385 من هذا الجزء.(1/444)
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) مُقَدَّمٌ فِي التِّلَاوَةِ وَقَوْلُهُ:" قَتَلْتُمْ نَفْساً" مُقَدَّمٌ فِي الْمَعْنَى عَلَى جَمِيعِ مَا ابْتَدَأَ بِهِ مِنْ شَأْنِ الْبَقَرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون قوله:" قَتَلْتُمْ" في النزول مقدما، والام بِالذَّبْحِ مُؤَخَّرًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ نُزُولِهَا عَلَى حَسَبِ تِلَاوَتِهَا، فَكَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ حَتَّى ذَبَحُوهَا ثُمَّ وَقَعَ مَا وَقَعَ من أَمْرِ الْقَتْلِ، فَأُمِرُوا أَنْ يَضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا، وَيَكُونُ" وَإِذْ قَتَلْتُمْ" مُقَدَّمًا فِي الْمَعْنَى عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ حَسَبَ مَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ. وَنَظِيرُهُ فِي التَّنْزِيلِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ بَعْدَ ذِكْرِ الطُّوفَانِ وَانْقِضَائِهِ فِي قَوْلِهِ:" حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ" إِلَى قوله" إِلَّا قَلِيلٌ" «1» [هود: 40] . فَذَكَرَ إِهْلَاكَ مَنْ هَلَكَ مِنْهُمْ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ:" وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها" [هود: 41] . فَذَكَرَ الرُّكُوبَ مُتَأَخِّرًا فِي الْخِطَابِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ركوبهم كال قَبْلَ الْهَلَاكِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً" «2» [هود: 19] . وَتَقْدِيرُهُ: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. الثَّالِثَةُ- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الذَّبْحَ أَوْلَى فِي الْغَنَمِ، وَالنَّحْرَ أَوْلَى فِي الْإِبِلِ، وَالتَّخَيُّرُ فِي الْبَقَرِ. وَقِيلَ: الذَّبْحُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ، وَلِقُرْبِ الْمَنْحَرِ مِنَ الْمَذْبَحِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا حَرَّمَ أَكْلَ مَا نُحِرَ مِمَّا يُذْبَحُ، أَوْ ذُبِحَ مِمَّا يُنْحَرُ. وَكَرِهَ مَالِكٌ ذَلِكَ. وَقَدْ يَكْرَهُ الْمَرْءُ الشَّيْءَ وَلَا يُحَرِّمُهُ. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ" الْمَائِدَةِ" أَحْكَامُ الذَّبْحِ وَالذَّابِحِ وَشَرَائِطُهُمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تعالى:" إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ" [المائدة: 3] مُسْتَوْفًى «3» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا أُمِرُوا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- بِذَبْحِ بَقَرَةٍ دُونَ غَيْرِهَا، لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ مَا عَبَدُوهُ مِنَ الْعِجْلِ لِيُهَوِّنَ عِنْدَهُمْ مَا كَانَ يَرَوْنَهُ مِنْ تَعْظِيمِهِ، وَلِيَعْلَمَ بِإِجَابَتِهِمْ مَا كَانَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ عِبَادَتِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى عِلَّةٌ فِي ذَبْحِ الْبَقَرَةِ، وَلَيْسَ بَعِلَّةٍ فِي جَوَابِ السَّائِلِ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنْ يَحْيَا الْقَتِيلُ بِقَتْلِ حَيٍّ، فَيَكُونُ أَظْهَرُ لِقُدْرَتِهِ فِي اخْتِرَاعِ الْأَشْيَاءِ مِنْ أضدادها. الرابعة- قوله تعالى: (بَقَرَةً) " بَقَرَةً" الْبَقَرَةُ اسْمٌ لِلْأُنْثَى، وَالثَّوْرُ اسْمٌ لِلذَّكَرِ مِثْلُ نَاقَةٍ وَجَمَلٍ وَامْرَأَةٍ وَرَجُلٍ. وَقِيلَ: الْبَقَرَةُ وَاحِدُ الْبَقَرِ، الْأُنْثَى وَالذَّكَرُ سَوَاءٌ. وَأَصْلُهُ مِنْ قولك:
__________
(1) . راجع ج 9 ص 33. [.....]
(2) . راجع ج 10 ص 346.
(3) . راجع ج 6 ص 54(1/445)
بَقَرَ بَطْنَهُ، أَيْ شَقَّهُ، فَالْبَقَرَةُ تَشُقُّ الْأَرْضَ بِالْحَرْثِ وَتُثِيرُهُ. وَمِنْهُ الْبَاقِرُ لِأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ، لِأَنَّهُ بَقَرَ الْعِلْمَ وَعَرَفَ أَصْلَهُ، أَيْ شَقَّهُ. وَالْبَقِيرَةُ: ثَوْبٌ يُشَقُّ فَتُلْقِيهِ الْمَرْأَةُ فِي عُنُقِهَا مِنْ غَيْرِ كُمَّيْنِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي شَأْنِ الْهُدْهُدِ (فَبَقَرَ الْأَرْضَ) . قَالَ شَمِرٌ: بَقَرَ نَظَرَ مَوْضِعَ الْمَاءِ، فَرَأَى الْمَاءَ تَحْتَ الْأَرْضِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْبَقَرُ اسْمٌ لِلْجِنْسِ وَجَمْعُهُ «1» بَاقِرٌ. ابْنُ عَرَفَةَ: يُقَالُ بَقِيرٌ وَبَاقِرٌ وَبَيْقُورٌ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَابْنُ يَعْمُرَ" إِنَّ الْبَاقِرَ". وَالثَّوْرُ: وَاحِدُ الثِّيرَانِ. وَالثَّوْرُ: السيد من الرجال. والثور القطعة من القط. وَالثَّوْرُ: الطُّحْلُبُ. وَثَوْرٌ: جَبَلٌ. وَثَوْرٌ: قَبِيلَةٌ مِنَ الْعَرَبِ. وَفِي الْحَدِيثِ: (وَوَقْتُ الْعِشَاءِ مَا لَمْ يَغِبْ ثَوْرُ الشَّفَقِ) يَعْنِي انْتِشَارَهُ، يُقَالُ: ثَارَ يَثُورُ ثَوْرًا وَثَوَرَانًا إِذَا انْتَشَرَ فِي الْأُفُقِ. وَفِي الْحَدِيثِ: (مَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَلْيُثَوِّرِ الْقُرْآنَ) . قَالَ شَمِرٌ: تَثْوِيرُ الْقُرْآنِ قِرَاءَتُهُ وَمُفَاتَشَةُ الْعُلَمَاءِ بِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) هَذَا جَوَابٌ مِنْهُمْ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ لَهُمْ:" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً" [البقرة: 67] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ وَجَدُوا قَتِيلًا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ قِيلَ: اسْمُهُ عَامِيلُ- وَاشْتَبَهَ أَمْرُ قَاتِلِهِ عَلَيْهِمْ، وَوَقَعَ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ، فَقَالُوا: نَقْتَتِلُ وَرَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، فَأَتَوْهُ وَسَأَلُوهُ الْبَيَانَ- وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْقَسَامَةِ «2» فِي التَّوْرَاةِ، فَسَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ- فَسَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ فَأَمَرَهُمْ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ، فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ مُوسَى وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ جَوَابٌ عَمَّا سَأَلُوهُ عَنْهُ وَاحْتَكَمُوا فِيهِ عِنْدَهُ، قَالُوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُؤًا؟ وَالْهُزْءُ: اللَّعِبُ وَالسُّخْرِيَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «3» . وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ" أَيَتَّخِذُنَا" بِالْيَاءِ، أَيْ قَالَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَأَجَابَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ:" أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ" [البقرة: 67] لِأَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ جَوَابِ السَّائِلِ الْمُسْتَرْشِدِ إِلَى الْهُزْءِ جَهْلٌ، فَاسْتَعَاذَ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهَا صِفَةٌ تَنْتَفِي عَنِ الْأَنْبِيَاءِ. وَالْجَهْلُ نَقِيضُ الْعِلْمِ. فَاسْتَعَاذَ مِنَ الْجَهْلِ، كَمَا جَهِلُوا فِي قَوْلِهِمْ: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً،
__________
(1) . في لسان العرب: فأما بقر وباقر وبقير وبيقور وباقور وباقورة فأسماء للجميع.
(2) . سيتكلم المؤلف رحمه الله على القسامة وحكمها عند قوله تعالى: (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) راجع ص 457 من هذا الجزء.
(3) . راجع ص 207.(1/446)
لِمَنْ يُخْبِرُهُمْ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَظَاهِرُ هَذَا الْقَوْلِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ اعْتِقَادِ مَنْ قَالَهُ. وَلَا يَصِحُّ إِيمَانُ مَنْ قَالَ لِنَبِيٍّ قَدْ ظَهَرَتْ مُعْجِزَتُهُ،- وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ بِكَذَا-: أَتَتَّخِذُنَا هُزُؤًا؟ وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَحَدٌ عَنْ بَعْضِ أَقْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوَجَبَ تَكْفِيرُهُ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ غِلَظِ الطَّبْعِ وَالْجَفَاءِ وَالْمَعْصِيَةِ، عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ الْقَائِلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِسْمَةِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ: إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ. وَكَمَا قَالَ لَهُ الْآخَرُ: اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ. وَفِي هَذَا كُلِّهِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى قُبْحِ الْجَهْلِ، وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلدِّينِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" هُزُواً" مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَيَجُوزُ تَخْفِيفُ الْهَمْزَةِ تَجْعَلُهَا بَيْنَ الْوَاوِ وَالْهَمْزَةِ. وَجَعَلَهَا حَفْصٌ وَاوًا مَفْتُوحَةً، لِأَنَّهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ قَبْلَهَا ضَمَّةٌ فَهِيَ تَجْرِي عَلَى الْبَدَلِ، كَقَوْلِهِ:" السُّفَهاءُ وَلكِنْ". وَيَجُوزُ حَذْفُ الضَّمَّةِ مِنَ الزَّايِ كَمَا تَحْذِفُهَا مِنْ عَضُدٍ، فَتَقُولُ: هُزْؤًا، كَمَا قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَكَذَلِكَ" وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُؤًا أَحَدٌ". وَحَكَى الْأَخْفَشُ عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ أَنَّ كُلَّ اسْمٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ أَوَّلُهُ مَضْمُومٌ فَفِيهِ لُغَتَانِ: التَّخْفِيفُ وَالتَّثْقِيلُ، نَحْوُ الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْهُزْءِ. وَمِثْلُهُ مَا كَانَ مِنَ الْجَمْعِ عَلَى فُعُلٍ كَكُتُبٍ وَكُتْبٍ، وَرُسُلٍ وَرُسْلٍ، وَعُوُنٍ وَعُوْنٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً" [الزخرف: 15] فَلَيْسَ مِثْلَ هُزْءٍ وَكُفْءٍ، لِأَنَّهُ عَلَى فُعْلٍ مِنَ الْأَصْلِ. عَلَى مَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. مَسْأَلَةٌ: فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ الِاسْتِهْزَاءِ بِدِينِ اللَّهِ وَدِينِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ يَجِبُ تَعْظِيمُهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ جَهْلٌ وَصَاحِبُهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْوَعِيدِ. وَلَيْسَ الْمُزَاحُ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ بِسَبِيلٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْزَحُ وَالْأَئِمَّةَ بَعْدَهُ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ رَجُلًا تَقَدَّمَ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَهُوَ قَاضِي الْكُوفَةِ فَمَازَحَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ فَقَالَ: جُبَّتُكَ هَذِهِ مِنْ صُوفِ نَعْجَةٍ أَوْ صُوفِ كَبْشٍ؟ فَقَالَ لَهُ: لَا تَجْهَلْ أَيُّهَا الْقَاضِي! فَقَالَ له عبيد الله: وأين وجدت المزاج جَهْلًا! فَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ عُبَيْدُ اللَّهِ، لِأَنَّهُ رَآهُ جَاهِلًا لَا يَعْرِفُ الْمَزْحَ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ بسبيل.
__________
(1) . راجع ج 16 ص 69(1/447)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)
[سورة البقرة (2) : آية 68]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ) هَذَا تَعْنِيتٌ مِنْهُمْ وَقِلَّةُ طَوَاعِيَةٍ، وَلَوِ امْتَثَلُوا الْأَمْرَ وَذَبَحُوا أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ لَحَصَلَ الْمَقْصُودُ، لَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُمَا. وَنَحْوَ ذَلِكَ رَوَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلُغَةُ بَنِي عَامِرٍ" ادْعُ". وقد تقدم «1» . و (يبينن) مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ (مَا هِيَ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَمَاهِيَّةُ الشَّيْءِ: حَقِيقَتُهُ وَذَاتُهُ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِبَقَرَةٍ اقْتَضَى أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، فَلَمَّا زَادَ فِي الصِّفَةِ نَسَخَ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ بِغَيْرِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: فِي ثَلَاثِينَ مِنَ الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ، ثُمَّ نَسَخَهُ بِابْنَةِ لَبُونٍ أَوْ حِقَّةٍ. وَكَذَلِكَ ها هنا لَمَّا عَيَّنَ الصِّفَةَ صَارَ ذَلِكَ نَسْخًا لِلْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ. وَالْفَارِضُ: الْمُسِنَّةُ. وَقَدْ فَرَضَتْ تَفْرِضُ فُرُوضًا، أَيْ أَسَنَّتْ. وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ الْقَدِيمِ فَارِضٌ، قَالَ الرَّاجِزُ:
شَيَّبَ أَصْدَاغِي فَرَأْسِي أَبْيَضُ ... مَحَامِلُ «2» فِيهَا رِجَالٌ فُرَّضُ
يَعْنِي هَرْمَى، قَالَ آخَرُ:
لَعَمْرُكَ «3» قَدْ أَعْطَيْتَ جَارَكَ فَارِضًا ... تُسَاقُ إِلَيْهِ مَا تَقُومُ عَلَى رِجْلِ
أَيْ قَدِيمًا، وَقَالَ آخَرُ:
يا رب ذي ضغن علي فارض ... له قروء كقروء الحائض
__________
(1) . راجع ص 423.
(2) . في الصحاح للجوهري: (محافل) بالفاء وفيه رواية أخرى رواها ابن الاعرابي هي:
محامل بيض وقوم فرض
يريد أنهم ثقال كالمحامل. راجع اللسان مادة (فرض) .
(3) . رواية اللسان: (لعمري لقد) وذكر أنه لعلقمة بن عوف، وقد عنى بقرة هرمة.(1/448)
أَيْ قَدِيمٌ. وَ" لَا فارِضٌ" رُفِعَ عَلَى الصفة لبقرة." وَلا بِكْرٌ" عَطْفٌ. وَقِيلَ:" لَا فارِضٌ" خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَيْ لَا هِيَ فَارِضٌ وَكَذَا" لَا ذَلُولٌ"، وَكَذَلِكَ" لَا تَسْقِي الْحَرْثَ" وَكَذَلِكَ" مُسَلَّمَةٌ" فَاعْلَمْهُ. وَقِيلَ: الْفَارِضُ الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ بُطُونًا كَثِيرَةً فَيَتَّسِعُ جَوْفُهَا لِذَلِكَ، لِأَنَّ مَعْنَى الْفَارِضِ في اللغة الواسع، قاله بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَالْبِكْرُ: الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَمْ تَحْمِلْ. وَحَكَى الْقُتَبِيُّ أَنَّهَا الَّتِي وَلَدَتْ. وَالْبِكْرُ: الْأَوَّلُ مِنَ الْأَوْلَادِ، قَالَ:
يَا بِكْرُ بِكْرَيْنِ وَيَا خِلْبَ الْكَبِدْ ... أَصْبَحْتَ مِنِّي كَذِرَاعٍ مِنْ عَضُدْ
وَالْبِكْرُ أَيْضًا فِي إِنَاثِ الْبَهَائِمِ وَبَنِي آدَمَ: مَا لَمْ يَفْتَحِلْهُ الْفَحْلُ، وَهِيَ مَكْسُورَةُ الْبَاءِ. وَبِفَتْحِهَا الْفَتِيِّ مِنَ الْإِبِلِ. وَالْعَوَانُ: النِّصْفُ الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ بَطْنًا أَوْ بَطْنَيْنِ، وَهِيَ أَقْوَى مَا تَكُونُ مِنَ الْبَقَرِ وَأَحْسَنُهُ، بِخِلَافِ الْخَيْلِ، قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ فَرَسًا:
كُمَيْتٌ بَهِيمُ اللَّوْنِ لَيْسَ بِفَارِضٍ ... وَلَا بِعَوَانٍ ذَاتُ لَوْنٍ مُخَصَّفٍ فَرَسٌ
أَخْصَفُ: إِذَا ارْتَفَعَ الْبَلَقُ مِنْ بَطْنِهِ إِلَى جَنْبِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْعَوَانُ مِنَ الْبَقَرَةِ هِيَ الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَحَكَاهُ أَهْلُ اللُّغَةِ. وَيُقَالُ: إِنَّ الْعَوَانَ النَّخْلَةُ الطَّوِيلَةُ، وَهِيَ فِيمَا زَعَمُوا لُغَةٌ يَمَانِيَّةٌ. وَحَرْبٌ عَوَانٌ: إِذَا كَانَ قَبْلَهَا حَرْبٌ بِكْرٌ، قَالَ زُهَيْرٌ:
إِذَا لَقِحَتْ حَرْبٌ عَوَانٌ مُضِرَّةٌ ... ضَرُوسٌ تُهِرُّ «1» النَّاسَ أَنْيَابُهَا عُصْلُ
أَيْ لَا هِيَ صَغِيرَةٌ وَلَا هِيَ مُسِنَّةٌ، أَيْ هِيَ عَوَانٌ، وَجَمْعُهَا" عُوْنٌ" بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَسُمِعَ" عُوُنٌ" بِضَمِّ الْوَاوِ كَرُسُلٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ مِنَ الْعَوَانِ عَوَّنَتْ تَعْوِينًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ) تَجْدِيدٌ لِلْأَمْرِ وَتَأْكِيدٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى تَرْكِ التَّعَنُّتِ فَمَا تَرَكُوهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْوُجُوبُ كَمَا تَقُولُهُ الْفُقَهَاءُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَعَلَى أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْفَوْرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَقْصَرَهُمْ حِينَ لَمْ يُبَادِرُوا إِلَى فِعْلِ مَا أُمِرُوا بِهِ فقال:
__________
(1) . في الأصول: (تهز) بالزاي. والتصويب عن شرح الديوان. ومعنى (تهز الناس) أي تصيرهم يهزونها، أي يكرهونها. ولقحت: اشتدت. ومضرة: ملحة. وضروس: عضوض سيئة الخلق. وعصل: كالحة معوجة.(1/449)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
" فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ" [البقرة: 71] . وَقِيلَ: لَا، بَلْ عَلَى التَّرَاخِي، لِأَنَّهُ لَمْ يعنفهم على التأخير والمراجعة في الخطاب. قال ابن خويز منداد.
[سورة البقرة (2) : آية 69]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها) " مَا" اسْتِفْهَامٌ مُبْتَدَأَةٌ وَ" لَوْنُها" الْخَبَرُ. وَيَجُوزُ نَصْبُ" لَوْنُهَا" بِ"- يُبَيِّنُ"، وَتَكُونُ" مَا" زَائِدَةٌ. وَاللَّوْنُ وَاحِدُ الْأَلْوَانِ وَهُوَ هَيْئَةٌ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالْحُمْرَةِ. وَاللَّوْنُ: النَّوْعُ. وَفُلَانٌ مُتَلَوِّنٌ: إِذَا كَانَ لا يثبت على خلق وَاحِدٍ وَحَالٍ وَاحِدٍ، قَالَ:
كُلُّ يَوْمٍ تَتَلَوَّنُ ... غَيْرَ هَذَا بِكَ أَجْمَلُ
وَلَوَّنَ الْبُسْرُ تَلْوِينًا: إِذَا بَدَا فِيهِ أَثَرُ النُّضْجِ. وَاللَّوْنُ: الدَّقَلُ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ النَّخْلِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ جَمَاعَةٌ، وَاحِدُهَا لِينَةٌ. قَوْلُهُ: (صَفْراءُ) جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا صَفْرَاءُ اللَّوْنِ، مِنَ الصُّفْرَةِ الْمَعْرُوفَةِ. قَالَ مَكِّيٌّ عَنْ بَعْضِهِمْ: حَتَّى الْقَرْنُ وَالظَّلْفُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتْ صَفْرَاءَ الْقَرْنِ وَالظَّلْفِ فَقَطْ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا:" صَفْراءُ" مَعْنَاهُ سَوْدَاءُ، قَالَ الشَّاعِرُ: «1»
تِلْكَ خَيْلِي مِنْهُ وَتِلْكَ رِكَابِي ... هُنَّ صُفْرٌ أَوْلَادُهَا كَالزَّبِيبِ
قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ، وَهَذَا شَاذٌّ لَا يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا إِلَّا فِي الْإِبِلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ" [المرسلات: 33] وَذَلِكَ أَنَّ السُّودَ مِنَ الْإِبِلِ سَوَادُهَا صُفْرَةٌ. وَلَوْ أَرَادَ السَّوَادَ لَمَا أَكَّدَهُ بِالْفُقُوعِ، وَذَلِكَ نَعْتٌ مُخْتَصٌّ بِالصُّفْرَةِ، وَلَيْسَ يُوصَفُ السَّوَادُ بِذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ: أَسْوَدُ حَالِكٌ وَحَلَكُوكٌ وَحُلْكُوكٌ، وَدَجُوجِيٌّ وَغِرْبِيبٌ، وَأَحْمَرُ قَانِئٌ، وَأَبْيَضُ نَاصِعٌ وَلَهِقٌ وَلِهَاقٌ وَيَقَقٌ، وَأَخْضَرُ نَاضِرٌ، وَأَصْفَرُ فَاقِعٌ، هَكَذَا نَصَّ نقلة اللغة عن العرب. قال
__________
(1) . القائل هو الأعشى كما في اللسان.(1/450)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)
الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ فَقَعَ لَوْنُهَا يَفْقَعُ فُقُوعًا إِذَا خَلَصَتْ صُفْرَتُهُ. وَالْإِفْقَاعُ: سُوءُ الْحَالِ. وَفَوَاقِعُ الدَّهْرِ بَوَائِقُهُ. وَفَقَّعَ بِأَصَابِعِهِ إِذَا صَوَّتَ، وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَهَى عَنِ التَّفْقِيعِ فِي الصَّلَاةِ، وَهِيَ الْفَرْقَعَةُ، وَهِيَ غَمْزُ الْأَصَابِعِ حَتَّى تُنْقِضَ «1» . وَلَمْ يَنْصَرِفْ" صَفْراءُ" فِي مَعْرِفَةٍ وَلَا نَكِرَةٍ، لِأَنَّ فِيهَا أَلِفَ التَّأْنِيثِ وَهِيَ مُلَازَمَةٌ فَخَالَفَتِ الْهَاءَ، لِأَنَّ مَا فِيهِ الْهَاءُ يَنْصَرِفُ فِي النَّكِرَةِ، كَفَاطِمَةَ وَعَائِشَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فاقِعٌ لَوْنُها) يُرِيدُ خَالِصًا لَوْنُهَا لَا لَوْنَ فِيهَا سِوَى لَوْنِ جِلْدِهَا. (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) قَالَ وَهْبٌ: كَأَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ يَخْرُجُ مِنْ جِلْدِهَا، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصُّفْرَةُ تَسُرُّ النَّفْسَ. وَحَضَّ عَلَى لِبَاسِ النِّعَالِ الصُّفْرِ، حَكَاهُ عَنْهُ النَّقَّاشُ. وَقَالَ علي ابن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ لَبِسَ نَعْلَيْ جِلْدٍ أَصْفَرَ قَلَّ هَمُّهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:" صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ" حَكَاهُ عَنْهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَنَهَى ابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ لِبَاسِ النِّعَالِ السُّودِ، لِأَنَّهَا تُهِمُّ. وَمَعْنَى" تَسُرُّ" تُعْجِبُ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَعْنَاهُ فِي سَمْتِهَا وَمَنْظَرِهَا فَهِيَ ذَاتُ وصفين، والله أعلم.
[سورة البقرة (2) : آية 70]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) سَأَلُوا سُؤَالًا رَابِعًا، وَلَمْ يَمْتَثِلُوا الْأَمْرَ بَعْدَ الْبَيَانِ. وَذَكَرَ الْبَقَرَ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ:" إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا" فَذَكَّرَهُ لِلَّفْظِ تَذْكِيرِ الْبَقَرِ. قَالَ قُطْرُبٌ: جَمْعُ الْبَقَرَةِ بَاقِرٌ وَبَاقُورٌ وَبَقَرٌ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْبَاقِرُ جَمْعُ بَاقِرَةٍ، قَالَ: وَيُجْمَعُ بَقَرٌ عَلَى بَاقُورَةٍ، حَكَاهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى إِنَّ جِنْسَ الْبَقَرِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ فِيمَا ذَكَرَ النَّحَّاسُ، وَالْأَعْرَجُ فِيمَا ذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ" إِنَّ الْبَقَرَ تَشَّابَهَ" بِالتَّاءِ وَشَدِّ الشِّينِ، جَعَلَهُ فِعْلًا مُسْتَقْبِلًا وَأَنَّثَهُ. وَالْأَصْلُ تَتَشَابَهُ، ثُمَّ أُدْغِمَ التَّاءُ فِي الشِّينِ. وَقَرَأَ مجاهد" تشبه" كقراءتهما،
__________
(1) . كل صوت لمفصل وإصبع فهو نقيض.(1/451)
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
إِلَّا أَنَّهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ" تَشَّابَهَتْ" بِتَشْدِيدِ الشِّينِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَهُوَ غَلَطٌ، لِأَنَّ التَّاءَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا تُدْغَمُ إِلَّا فِي الْمُضَارَعَةِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ" إِنَّ الْبَاقِرَ يَشَّابَهُ" جَعَلَهُ فِعْلًا مُسْتَقْبِلًا، وَذَكَرَ الْبَقَرَ وَأَدْغَمَ. وَيَجُوزُ" إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهُ" بِتَخْفِيفِ الشِّينِ وَضَمِّ الْهَاءِ، وَحَكَاهَا الثَّعْلَبِيُّ عَنِ الْحَسَنِ. النَّحَّاسُ: وَلَا يَجُوزُ" يَشَابَهُ" بِتَخْفِيفِ الشِّينِ وَالْيَاءِ، وَإِنَّمَا جَازَ فِي التَّاءِ لِأَنَّ الْأَصْلَ تتشابه فحذفت لاجتماع. التائين. وَالْبَقَرُ وَالْبَاقِرُ وَالْبَيْقُورُ وَالْبَقِيرُ لُغَاتٌ بِمَعْنًى، وَالْعَرَبُ تُذَكِّرُهُ وَتُؤَنِّثُهُ، وَإِلَى ذَلِكَ تَرْجِعُ مَعَانِي الْقِرَاءَاتِ فِي" تَشابَهَ". وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالُوا:" إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا" لِأَنَّ وُجُوهَ الْبَقَرِ تَتَشَابَهُ، وَمِنْهُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ (فِتَنًا كَقِطْعِ اللَّيْلِ تَأْتِي كَوُجُوهِ الْبَقَرِ) . يُرِيدُ أَنَّهَا يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَوُجُوهُ الْبَقَرِ تَتَشَابَهُ، وَلِذَلِكَ قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْهُمْ، وَفِي اسْتِثْنَائِهِمْ فِي هَذَا السُّؤَالِ الْأَخِيرِ إِنَابَةٌ مَا وَانْقِيَادٌ، وَدَلِيلُ نَدَمٍ عَلَى عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَوْ مَا اسْتَثْنَوْا مَا اهْتَدَوْا إِلَيْهَا أَبَدًا) «1» . وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَإِنَّا لَمُهْتَدُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقُدِّمَ عَلَى ذِكْرِ الاهتداء اهتماما به. و" شاءَ" فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ بِالشَّرْطِ، وَجَوَابُهُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ الْجُمْلَةُ" إِنَّ" وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ. وَعِنْدَ أَبِي العباس المبرد محذوف.
[سورة البقرة (2) : آية 71]
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ" لَا ذَلُولٌ" بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ لِبَقَرَةٍ. قَالَ الْأَخْفَشُ:" لَا ذَلُولٌ" نَعْتُهُ وَلَا يَجُوزُ نَصْبُهُ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ" لَا ذَلُولَ" بِالنَّصْبِ عَلَى النَّفْيِ وَالْخَبَرُ مُضْمَرٌ. وَيَجُوزُ لَا هِيَ ذَلُولٌ، لَا هِيَ تَسْقِي الْحَرْثَ، هِيَ مُسَلَّمَةٌ. وَمَعْنَى" لَا ذَلُولٌ" لَمْ يُذَلِّلْهَا الْعَمَلُ، يُقَالُ: بَقَرَةٌ مُذَلَّلَةٌ بَيِّنَةُ الذِّلِّ (بِكَسْرِ الذَّالِ) . وَرَجُلٌ ذَلِيلٌ بَيِّنُ الذُّلِّ (بِضَمِّ الذَّالِ) . أَيْ هِيَ بَقَرَةٌ صَعْبَةٌ غَيْرُ رَيِّضَةٍ لَمْ تُذَلَّلْ بالعمل.
__________
(1) . في نسخة من الأصل: (لولا) وروى الحديث من طرق بلفظ: (لو لم يستثنوا) .(1/452)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تُثِيرُ الْأَرْضَ) " تُثِيرُ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الصِّفَةِ لِلْبَقَرَةِ أَيْ هِيَ بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ مُثِيرَةٌ. قَالَ الْحَسَنُ: وَكَانَتْ تِلْكَ الْبَقَرَةُ وَحْشِيَّةً وَلِهَذَا وَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهَا لَا تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ أَيْ لَا يُسْنَى بِهَا لِسَقْيِ الزَّرْعِ وَلَا يُسْقَى عليها. والوقف ها هنا حَسَنٌ. وَقَالَ قَوْمٌ:" تُثِيرُ" فِعْلٌ مُسْتَأْنَفٌ وَالْمَعْنَى إِيجَابُ الْحَرْثِ لَهَا وَأَنَّهَا كَانَتْ تَحْرُثُ وَلَا تَسْقِي. وَالْوَقْفُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ" لَا ذَلُولٌ" وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" تُثِيرُ" مُسْتَأْنَفًا، لِأَنَّ بَعْدَهُ" وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ"، فَلَوْ كَانَ مُسْتَأْنَفًا لَمَا جَمَعَ بَيْنَ الْوَاوِ وَ" لَا". الثَّانِي أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تُثِيرُ الْأَرْضَ لَكَانَتِ الْإِثَارَةُ قَدْ ذَلَّلَتْهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَفَى عَنْهَا الذُّلَّ بِقَوْلِهِ:" لَا ذَلُولٌ". قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ" تُثِيرُ الْأَرْضَ" فِي غَيْرِ الْعَمَلِ مَرَحًا وَنَشَاطًا، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
يُهِيلُ وَيُذْرِي تُرْبَهُ وَيُثِيرُهُ ... إِثَارَةَ نَبَّاثِ «1» الْهَوَاجِرِ مُخْمِسِ
فَعَلَى هذا يكون" تُثِيرُ" مستأنفا،" وَلا تَسْقِي" مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، فَتَأَمَّلْهُ. وَإِثَارَةُ الْأَرْضِ: تَحْرِيكُهَا وَبَحْثُهَا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: (أَثِيرُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ «2» عِلْمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: (مَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَلْيُثَوِّرِ الْقُرْآنَ) وَقَدْ تَقَدَّمَ «3» . وَفِي التَّنْزِيلِ:" وَأَثارُوا الْأَرْضَ" [الروم: 9] أَيْ قَلَّبُوهَا لِلزِّرَاعَةِ. وَالْحَرْثُ: مَا حُرِثَ وَزُرِعَ. وَسَيَأْتِي. مَسْأَلَةٌ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى حَصْرِ الْحَيَوَانِ بِصِفَاتِهِ، وَإِذَا ضُبِطَ بِالصِّفَةِ وَحُصِرَ بِهَا جَازَ السَّلَمُ فِيهِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ. وَكَذَلِكَ كُلُّ ما يضبط بالصفة، لوصف الله تعالى البقرة فِي كِتَابِهِ وَصْفًا يَقُومُ مَقَامَ التَّعْيِينِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَصِفُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا) . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصِّفَةَ تَقُومُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ، وَجَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَةَ الْخَطَأِ فِي ذِمَّةِ مَنْ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ دَيْنًا إِلَى أَجَلٍ وَلَمْ يَجْعَلْهَا عَلَى الْحُلُولِ. وَهُوَ يَرُدُّ قَوْلَ
__________
(1) . قوله (نبات الهواجر) يعني الرجل الذي إذا اشتد عليه الحر هال التراب ليصل إلى ثراه. والعسر: صاحب الإبل التي ترد خمسا. [.....]
(2) . في نهاية ابن الأثير: (فإن فيه) .
(3) . راجع ص 449.(1/453)
الْكُوفِيِّينَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ حَيْثُ قَالُوا: لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَةِ صِفَتِهِ مِنْ مَشْيٍ وَحَرَكَةٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَزِيدُ فِي ثَمَنِهِ وَيَرْفَعُ مِنْ قِيمَتِهِ. وَسَيَأْتِي حُكْمُ السَّلَمِ وَشُرُوطُهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ فِي آيَةِ الدَّيْنِ «1» ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُسَلَّمَةٌ) أَيْ هِيَ مُسَلَّمَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا، أَيْ أَنَّهَا بَقَرَةٌ مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعَرَجِ وَسَائِرِ الْعُيُوبِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ. وَلَا يُقَالُ: مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعَمَلِ لِنَفْيِ اللَّهِ الْعَمَلَ عَنْهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي سَلِيمَةَ الْقَوَائِمِ لَا أَثَرَ فِيهَا لِلْعَمَلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا شِيَةَ فِيها) أَيْ لَيْسَ فِيهَا لَوْنٌ يُخَالِفُ مُعْظَمَ لَوْنِهَا، هِيَ صَفْرَاءُ كُلُّهَا لَا بَيَاضَ فِيهَا وَلَا حُمْرَةَ وَلَا سَوَادَ، كَمَا قَالَ:" فاقِعٌ لَوْنُها". وَأَصْلُ" شِيَةَ" وَشِي حُذِفَتِ الْوَاوُ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ يَشِي، وَالْأَصْلُ يُوشِي، وَنَظِيرُهُ الزِّنَةُ وَالْعِدَةُ وَالصِّلَةُ. وَالشِّيَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ وَشْيِ الثَّوْبِ إِذَا نُسِجَ عَلَى لَوْنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. وَثَوْرٌ مُوَشًّى: فِي وَجْهِهِ وَقَوَائِمِهِ سَوَادٌ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الشِّيَةُ اللَّوْنُ. وَلَا يُقَالُ لِمَنْ نم: واش، حتى يغير الكلام ويلونه فجعله ضُرُوبًا وَيُزَيِّنُ مِنْهُ مَا شَاءَ. وَالْوَشْيُ: الْكَثْرَةُ. وَوَشَى بَنُو فُلَانٍ: كَثُرُوا. وَيُقَالُ: فَرَسٌ أَبْلَقُ، وَكَبْشٌ أَخْرَجُ، وَتَيْسٌ أَبْرَقُ، وَغُرَابٌ أَبْقَعُ، وَثَوْرٌ أَشْيَهُ. كُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْبُلْقَةِ، هَكَذَا نَصَّ أَهْلُ اللُّغَةِ. وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ فِي الْبَقَرَةِ سَبَبُهَا أَنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ، وَالتَّعَمُّقُ فِي سُؤَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَذْمُومٌ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ. وَرُوِيَ فِي قَصَصِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ رِوَايَاتٌ تَلْخِيصُهَا: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وُلِدَ لَهُ ابْنٌ، وَكَانَتْ لَهُ عِجْلَةٌ فَأَرْسَلَهَا فِي غَيْضَةٍ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَوْدِعُكَ هَذِهِ الْعِجْلَةَ لِهَذَا الصَّبِيِّ. وَمَاتَ الرَّجُلُ، فَلَمَّا كَبِرَ الصَّبِيُّ قَالَتْ لَهُ أُمُّهُ وَكَانَ بَرًّا بِهَا: إِنَّ أَبَاكَ اسْتَوْدَعَ اللَّهَ عِجْلَةً لَكَ فَاذْهَبْ فَخُذْهَا، فَذَهَبَ فَلَمَّا رَأَتْهُ الْبَقَرَةُ جَاءَتْ إِلَيْهِ حَتَّى أَخَذَ بِقَرْنَيْهَا وَكَانَتْ مُسْتَوْحِشَةً فَجَعَلَ يَقُودُهَا نَحْوَ أُمِّهِ، فَلَقِيَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَوَجَدُوا بَقَرَةً عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا، فَسَامُوهُ فَاشْتَطَّ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ قِيمَتُهَا عَلَى
__________
(1) . راجع ج 3 ص 377 فما بعدها.(1/454)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ، فَأَتَوْا بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا اشْتَطَّ عَلَيْنَا، فَقَالَ لَهُمْ: أَرْضُوهُ فِي مُلْكِهِ، فَاشْتَرَوْهَا مِنْهُ بِوَزْنِهَا مَرَّةً، قَالَهُ عُبَيْدَةُ. السُّدِّيُّ: بِوَزْنِهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ. وَقِيلَ: بِمِلْءِ مَسْكِهَا دَنَانِيرَ. وَذَكَرَ مَكِّيٌّ: أَنَّ هَذِهِ الْبَقَرَةَ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ بَقَرِ الْأَرْضِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) أَيْ بَيَّنْتَ الْحَقَّ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَحَكَى الْأَخْفَشُ:" قالُوا الْآنَ" قَطَعَ أَلِفَ الْوَصْلِ، كَمَا يُقَالُ: يَا أَللَّهُ. وَحَكَى وَجْهًا آخَرَ" قَالُوا لَانَ" بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ. نَظِيرُهُ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَبِي عَمْرٍو" عَادًا لُولَى" وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ" قَالُوا الْآنَ" بِالْهَمْزِ. وَقِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ" قَالُ لَانَ" بِتَخْفِيفِ الْهَمْزِ مَعَ حَذْفِ الْوَاوِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ:" الْآنَ" مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ لِمُخَالَفَتِهِ سَائِرَ مَا فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ دَخَلَتَا لِغَيْرِ عَهْدٍ، تَقُولُ: أَنْتَ إِلَى الْآنِ هُنَا، فَالْمَعْنَى إِلَى هَذَا الْوَقْتِ. فَبُنِيَتْ كَمَا بُنِيَ هَذَا، وَفُتِحَتِ النُّونُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) أَجَازَ سِيبَوَيْهِ: كَادَ أَنْ يَفْعَلَ، تَشْبِيهًا بِعَسَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ السُّورَةِ «1» . وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ تَثْبِيطِهِمْ فِي ذَبْحِهَا وَقِلَّةِ مُبَادَرَتِهِمْ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لِغَلَاءِ ثَمَنِهَا. وَقِيلَ: خَوْفًا مِنَ الْفَضِيحَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ الْقَاتِلِ مِنْهُمْ، قاله وهب بن منبه.
[سورة البقرة (2) : آية 72]
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) هَذَا الْكَلَامُ مُقَدَّمٌ عَلَى أَوَّلِ الْقِصَّةِ، التَّقْدِيرُ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا. فَقَالَ مُوسَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ بِكَذَا. وَهَذَا كَقَوْلِهِ:" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً" [الكهف: 2 1] أي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ أَوَّلَ القصة.
__________
(1) . راجع ص 222 من هذا الجزء.(1/455)
وَفِي سَبَبِ قَتْلِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِابْنَةٍ لَهُ حَسْنَاءَ أَحَبَّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ابْنُ عَمِّهَا فَمَنَعَهُ عَمُّهُ، فَقَتَلَهُ وَحَمَلَهُ مِنْ قَرْيَتِهِ إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى فَأَلْقَاهُ هُنَاكَ. وَقِيلَ: أَلْقَاهُ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ. الثَّانِي: قَتَلَهُ طَلَبًا لِمِيرَاثِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ فَقِيرًا وَادَّعَى قَتْلَهُ عَلَى بَعْضِ الْأَسْبَاطِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مَسْجِدٌ لَهُ اثْنَا عَشَرَ بَابًا لِكُلِّ بَابٍ قَوْمٌ يَدْخُلُونَ مِنْهُ، فَوَجَدُوا قَتِيلًا فِي سِبْطٍ مِنَ الْأَسْبَاطِ، فَادَّعَى هَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَادَّعَى هَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ، ثُمَّ أَتَوْا مُوسَى يَخْتَصِمُونَ إِلَيْهِ فَقَالَ:" إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً" [البقرة: 67] الآية. ومعنى" فَادَّارَأْتُمْ" [البقرة: 72] الآية. اخْتَلَفْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَأَصْلُهُ تَدَارَأْتُمْ ثُمَّ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ، وَلَا يَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِالْمُدْغَمِ، لِأَنَّهُ سَاكِنٌ فَزِيدَ أَلِفُ الْوَصْلِ." وَاللَّهُ مُخْرِجٌ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ." مَا كُنْتُمْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ" مُخْرِجٌ"، وَيَجُوزُ حَذْفُ التَّنْوِينِ عَلَى الْإِضَافَةِ." تَكْتُمُونَ" جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ كَانَ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ التَّقْدِيرُ تَكْتُمُونَهُ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ قَتَلَهُ طَلَبًا لِمِيرَاثِهِ لَمْ يَرِثْ قَاتِلُ عَمْدٍ مِنْ حِينَئِذٍ، قَالَهُ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَتَلَ هَذَا الرَّجُلُ عَمَّهُ لِيَرِثَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبِمِثْلِهِ جَاءَ شَرْعُنَا. وَحَكَى مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي" مُوَطَّئِهِ" أَنَّ قِصَّةَ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ فِي عَمِّهِ هِيَ كَانَتْ سَبَبُ أَلَّا يَرِثَ قَاتِلٌ، ثُمَّ ثَبَّتَ ذَلِكَ الْإِسْلَامُ كَمَا ثَبَّتَ كَثِيرًا مِنْ نَوَازِلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَرِثُ قَاتِلُ الْعَمْدِ مِنَ الدِّيَةِ وَلَا مِنَ الْمَالِ، إِلَّا فِرْقَةٌ شَذَّتْ عَنِ الْجُمْهُورِ كُلُّهُمْ أَهْلُ بِدَعٍ. وَيَرِثُ قَاتِلُ الْخَطَأِ مِنَ الْمَالِ وَلَا يَرِثُ مِنَ الدِّيَةِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثور والشافعي، لأنه لا يهتم عَلَى أَنَّهُ قَتَلَهُ لِيَرِثَهُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ لَهُ آخَرَ: لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ عَمْدًا وَلَا خَطَأً شَيْئًا مِنَ الْمَالِ وَلَا مِنَ الدِّيَةِ. وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ. وَرَوَاهُ الشَّعْبِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدٍ قَالُوا: لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ عَمْدًا وَلَا خَطَأً شَيْئًا. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ: يَرِثُ قَاتِلُ الْخَطَأِ مِنَ الدِّيَةِ وَمِنَ الْمَالِ جَمِيعًا، حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ. وَقَوْلُ مَالِكٍ أَصَحُّ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي آية المواريث «1» إن شاء الله تعالى.
__________
(1) . راجع ج 5 ص 55 فما بعدها.(1/456)
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
[سورة البقرة (2) : آية 73]
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها)
قِيلَ: بِاللِّسَانِ لِأَنَّهُ آلَةُ الْكَلَامِ. وَقِيلَ: بِعَجْبِ الذَّنَبِ، إِذْ فِيهِ يُرَكَّبُ خَلْقُ الْإِنْسَانِ. وَقِيلَ: بِالْفَخِذِ. وَقِيلَ: بِعَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا، وَالْمَقْطُوعُ بِهِ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهَا، فَلَمَّا ضُرِبَ بِهِ حَيِيَ وَأَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ ثُمَّ عَادَ مَيِّتًا كَمَا كَانَ. مَسْأَلَةٌ: اسْتَدَلَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقَسَامَةِ بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ: دَمِيَ عِنْدَ فُلَانٍ، أَوْ فُلَانٌ قَتَلَنِي. وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، قَالُوا: وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ قَوْلَ الْمَقْتُولِ: دَمِيَ عِنْدَ فُلَانٍ، أَوْ فُلَانٌ قَتَلَنِي، خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ دَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعْصُومٌ مَمْنُوعٌ إِبَاحَتُهُ إِلَّا بِيَقِينٍ، وَلَا يَقِينَ مَعَ الِاحْتِمَالِ، فَبَطَلَ اعْتِبَارُ قَوْلِ الْمَقْتُولِ دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ. وَأَمَّا قَتِيلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَكَانَتْ مُعْجِزَةً وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُحْيِيهِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْإِخْبَارَ بِقَاتِلِهِ خَبَرًا جَزْمًا لَا يَدْخُلُهُ احْتِمَالٌ، فَافْتَرَقَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْمُعْجِزَةُ كَانَتْ فِي إِحْيَائِهِ، فَلَمَّا صَارَ حَيًّا كَانَ كَلَامُهُ كَسَائِرِ كَلَامِ النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ. وَهَذَا فَنٌّ دَقِيقٌ مِنَ الْعِلْمِ لَمْ يَتَفَطَّنْ لَهُ إِلَّا مَالِكٌ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ وَجَبَ صِدْقُهُ، فَلَعَلَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْقَسَامَةِ مَعَهُ وَاسْتَبْعَدَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَقَالُوا: كَيْفَ يُقْبَلُ قوله في الدم وهؤلاء لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دِرْهَمٍ. مَسْأَلَةٌ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْحُكْمِ بِالْقَسَامَةِ، فَرُوِيَ عَنْ سَالِمٍ وَأَبِي قِلَابَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ «1» التَّوَقُّفُ فِي الْحُكْمِ بِهَا. وَإِلَيْهِ مَالَ الْبُخَارِيُّ، لِأَنَّهُ أَتَى بِحَدِيثِ الْقَسَامَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْحُكْمُ بِالْقَسَامَةِ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْحُكْمِ بِهَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَبْدَأُ فِيهَا الْمُدَّعُونَ بِالْأَيْمَانِ فَإِنْ حَلَفُوا اسْتَحَقُّوا، وَإِنْ نَكَلُوا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ يَمِينًا وَبَرِءُوا. هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَهُوَ مُقْتَضَى حَدِيثِ حُوَيِّصَةَ ومحيصة، خرجه الأئمة مالك وغيره. وذهبت
__________
(1) . في نسخة: (الحكم بن عتيبة) .(1/457)
طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْأَيْمَانِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ فَيَحْلِفُونَ وَيَبْرَءُونَ. رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ شُعْبَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ بَشِيرِ ابن يَسَارٍ، وَفِيهِ: فَبَدَأَ بِالْأَيْمَانِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَهُمُ الْيَهُودُ. وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ رِجَالٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْيَهُودِ وَبَدَأَ بِهِمْ: (أَيَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا) . فَأَبَوْا، فَقَالَ لِلْأَنْصَارِ: (اسْتَحِقُّوا) فَقَالُوا: نَحْلِفُ عَلَى الْغَيْبِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَجَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَةً عَلَى يَهُودَ، لِأَنَّهُ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ. وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) فَعُيِّنُوا «1» . قَالُوا: وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْمَقْطُوعُ بِهِ فِي الدَّعَاوَى الَّذِي نَبَّهَ الشَّرْعُ عَلَى حِكْمَتِهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالِهِمْ وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ «2» رَدَّ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الْأُولَى فَقَالُوا: حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ فِي تَبْدِيَةِ الْيَهُودِ وَهْمٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَقَالَ: وَلَمْ يُتَابَعْ سَعِيدٌ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِيمَا أَعْلَمُ، وَقَدْ أَسْنَدَ حَدِيثَ بَشِيرٍ عَنْ سَهْلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ بِالْمُدَّعِينَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَعَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ وَعِيسَى بْنِ حَمَّادٍ وَبِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، فَهَؤُلَاءِ سَبْعَةٌ. وَإِنْ كَانَ أَرْسَلَهُ مَالِكٌ فَقَدْ وَصَلَهُ جَمَاعَةُ الْحُفَّاظِ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَصِيلِيُّ: فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَرَضَ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ عَلَى خَبَرِ جَمَاعَةٍ، مَعَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ عُبَيْدٍ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَالصَّدَقَةُ لَا تُعْطَى فِي الدِّيَاتِ وَلَا يُصَالَحُ بِهَا عَنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، وَحَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ مُرْسَلٌ فَلَا تُعَارَضُ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ الْمُتَّصِلَةُ، وَأَجَابُوا عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْأَصْلِ بِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ لِحُرْمَةِ الدِّمَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ بِظَاهِرِ ذَلِكَ يَجِبُ، إِلَّا أَنْ يَخُصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكما في شي مِنَ الْأَشْيَاءِ فَيُسْتَثْنَى مِنْ جُمْلَةِ هَذَا الْخَبَرِ. فَمِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ إِلْزَامُ الْقَاذِفِ حَدَّ الْمَقْذُوفِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ يَشْهَدُونَ لَهُ عَلَى صِدْقِ مَا رُمِيَ بِهِ المقذوف وخص
__________
(1) . هذه الكلمة ساقطة في بعض النسخ.
(2) . كذا ورد هذا الحديث في بعض نسخ الأصل وصحيح مسلم. قال ابن الملك: إنما ذكر اليمين فقط لأنها هي الحجة في الدعوى آخرا وإلا فعلى المدعى إقامة البينة أولا.(1/458)
مَنْ رَمَى زَوْجَتَهُ بِأَنْ أَسْقَطَ عَنْهُ الْحَدَّ إِذَا شَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ. وَمِمَّا خَصَّتْهُ السُّنَّةُ حُكْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَسَامَةِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِلَّا فِي الْقَسَامَةِ) . خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَدِ احْتَجَّ مَالِكٌ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُوَطَّئِهِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ. مَسْأَلَةٌ: وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ، فَأَوْجَبَتْ طَائِفَةٌ الْقَوَدَ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: (أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ) . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ رَجُلًا بِالْقَسَامَةِ مِنْ بَنِي نَضْرِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: نُسْخَةُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ صَحِيحَةٌ، وَكَذَلِكَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ يُصَحِّحُ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَيَحْتَجُّ بِهِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: رَأَيْتُ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ وَأَحْمَدَ بن حنبل والحميدي وإسحاق بن رَاهْوَيْهِ يَحْتَجُّونَ بِهِ قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي السُّنَنِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا قَوَدَ بِالْقَسَامَةِ، وَإِنَّمَا تُوجِبُ الدِّيَةَ. رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ والكوفيون الشافعي وَإِسْحَاقُ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ لِلْأَنْصَارِ: (إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ) . قَالُوا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الدِّيَةِ لَا عَلَى الْقَوَدِ، قَالُوا: وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ) دِيَةُ دَمِ قَتِيلِكُمْ لِأَنَّ الْيَهُودَ لَيْسُوا بِأَصْحَابٍ لَهُمْ، وَمَنِ اسْتَحَقَّ دِيَةَ صَاحِبِهِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ دَمَهُ، لِأَنَّ الدِّيَةَ قَدْ تُؤْخَذُ فِي الْعَمْدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ اسْتِحْقَاقًا لِلدَّمِ. مَسْأَلَةٌ: الْمُوجِبُ لِلْقَسَامَةِ اللَّوْثُ وَلَا بُدَّ مِنْهُ. وَاللَّوْثُ: أَمَارَةٌ تُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقَ مُدَّعِي الْقَتْلِ، كَشَهَادَةِ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ عَلَى رُؤْيَةِ الْقَتْلِ، أَوْ يُرَى الْمَقْتُولُ يَتَشَحَّطُ «1» فِي دَمِهِ، وَالْمُتَّهَمُ نَحْوَهُ أَوْ قُرْبَهُ عَلَيْهِ آثَارُ الْقَتْلِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اللَّوْثِ وَالْقَوْلِ بِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ قَوْلُ الْمَقْتُولِ دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ. وَالشَّاهِدُ الْعَدْلُ لَوْثٌ. كَذَا في رواية ابن القاسم عنه.
__________
(1) . يتشحط في دمه: إي يتخبط فيه ويضطرب ويتمرغ.(1/459)
وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَقْسِمُ مَعَ الشَّاهِدِ غَيْرِ الْعَدْلِ وَمَعَ الْمَرْأَةِ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ لَوْثٌ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ لَوْثٌ دُونَ شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتُلِفَ فِي اللَّوْثِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ الشَّاهِدُ الْعَدْلِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ. قَالَ: وَأَخَذَ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: أَنَّ الْمَجْرُوحَ أَوِ الْمَضْرُوبَ إِذَا قَالَ دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ وَمَاتَ كَانَتِ الْقَسَامَةُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِقَتِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ قَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: اللَّوْثُ الشَّاهِدُ الْعَدْلُ، أَوْ يَأْتِي بِبَيِّنَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عُدُولًا. وَأَوْجَبَ الثَّوْرِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ الْقَسَامَةَ بِوُجُودِ الْقَتِيلِ فَقَطْ، وَاسْتَغْنَوْا عَنْ مُرَاعَاةِ قَوْلِ الْمَقْتُولِ وَعَنِ الشَّاهِدِ، قَالُوا: إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ وَبِهِ أَثَرٌ حَلَفَ أَهْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوهُ وَيَكُونُ عَقْلُهُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرٌ لَمْ يَكُنْ عَلَى العاقلة شي إِلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى وَاحِدٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ: وَهَذَا مِمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَهُوَ قول ضعيف خالقوا فِيهِ أَهْلَ الْعِلْمِ، وَلَا سَلَفَ لَهُمْ فِيهِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَلِأَنَّ فِيهِ إِلْزَامَ الْعَاقِلَةِ مَالًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ثَبَتَتْ عَلَيْهِمْ وَلَا إِقْرَارَ مِنْهُمْ. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْقَتِيلَ إِذَا وُجِدَ فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ أَنَّهُ هَدَرٌ، لَا يُؤْخَذُ بِهِ أَقْرَبُ النَّاسِ دَارًا، لِأَنَّ الْقَتِيلَ قَدْ يُقْتَلُ ثُمَّ يُلْقَى عَلَى بَابِ قَوْمٍ لِيُلَطَّخُوا بِهِ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِمِثْلِ ذَلِكَ حَتَّى تَكُونَ الْأَسْبَابُ الَّتِي شَرَطُوهَا فِي وُجُوبِ الْقَسَامَةِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: هَذَا مِمَّا يُؤَخَّرُ فِيهِ الْقَضَاءُ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. مَسْأَلَةٌ: قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مَسْعَدَةَ قُلْتُ لِلنَّسَائِيِّ: لَا يَقُولُ مَالِكٌ بِالْقَسَامَةِ إِلَّا بِاللَّوْثِ، فَلِمَ أَوْرَدَ حَدِيثَ الْقَسَامَةِ وَلَا لَوْثَ فِيهِ؟ قَالَ النَّسَائِيُّ: أَنْزَلَ مَالِكٌ الْعَدَاوَةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ بِمَنْزِلَةِ اللَّوْثِ، وَأَنْزَلَ اللَّوْثَ أَوْ قَوْلَ الْمَيِّتِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَاوَةِ. قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ: وَأَصْلُ هَذَا فِي قِصَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ أَحْيَا اللَّهُ الَّذِي ضُرِبَ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ فَقَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ، وَبِأَنَّ الْعَدَاوَةَ لَوْثٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا نَرَى قَوْلَ الْمَقْتُولِ لَوْثًا، كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ الشافعي:(1/460)
إِذَا كَانَ بَيْنَ قَوْمٍ وَقَوْمٍ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ كَالْعَدَاوَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْأَنْصَارِ وَالْيَهُودِ، وَوُجِدَ قَتِيلٌ فِي أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَلَا يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ وَجَبَتِ الْقَسَامَةُ فِيهِ. مَسْأَلَةٌ: وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَتِيلِ بوجد فِي الْمَحَلَّةِ الَّتِي أَكْرَاهَا أَرْبَابُهَا، فَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: هُوَ عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ وَلَيْسَ عَلَى السكان شي، فَإِنْ بَاعُوا دُورَهُمْ ثُمَّ وُجِدَ قَتِيلٌ فَالدِّيَةُ على المشتري وليس على السكان شي، وَإِنْ كَانَ أَرْبَابُ الدُّورِ غُيَّبًا وَقَدْ أَكْرَوْا دورهم فالقسامة والديه على أرباب الدور الغيب وَلَيْسَ عَلَى السُّكَّانِ الَّذِينَ وُجِدَ الْقَتِيلُ بَيْنَ أظهرهم شي. ثُمَّ رَجَعَ يَعْقُوبُ مِنْ بَيْنِهِمْ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ فَقَالَ: الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى السُّكَّانِ فِي الدُّورِ. وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ أَهْلَ خَيْبَرَ كَانُوا عُمَّالًا سُكَّانًا يَعْمَلُونَ فَوُجِدَ الْقَتِيلُ فِيهِمْ. قَالَ الثَّوْرِيُّ وَنَحْنُ نَقُولُ: هُوَ عَلَى أَصْحَابِ الْأَصْلِ، يَعْنِي أَهْلَ الدُّورِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: الْقَوْلُ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي الْقَسَامَةِ لَا فِي الدِّيَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَذَلِكَ كُلُّهُ سَوَاءٌ، وَلَا عَقْلَ وَلَا قَوَدَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ، أَوْ مَا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ فَيُقْسِمُ الْأَوْلِيَاءُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا أَصَحُّ. مَسْأَلَةٌ: وَلَا يُحْلَفُ فِي الْقَسَامَةِ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِينَ يَمِينًا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ: (يُقْسِمُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ) . فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحِقُّونَ خَمْسِينَ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمِينًا وَاحِدَةً، فَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ نَكَلَ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَجُوزُ عَفْوُهُ رُدَّتِ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ عَدَدِهِمْ. وَلَا يَحْلِفُ فِي الْعَمْدِ أَقَلُّ مِنَ اثْنَيْنِ مِنَ الرِّجَالِ، لَا يَحْلِفُ فِيهِ الْوَاحِدُ مِنَ الرِّجَالِ وَلَا النِّسَاءِ، يَحْلِفُ الْأَوْلِيَاءُ وَمَنْ يَسْتَعِينُ بِهِمُ الْأَوْلِيَاءُ مِنَ الْعَصَبَةِ خَمْسِينَ يَمِينًا. هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَدَاوُدَ. وَرَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَحَدٌ وَيَحْلِفُ هُمْ أَنْفُسُهُمْ كَمَا لَوْ كَانُوا وَاحِدًا فَأَكْثَرَ خمسين يمينا يبرءون بِهَا أَنْفُسَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْسِمُ إِلَّا وَارِثٌ، كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً. وَلَا يَحْلِفُ عَلَى مَالٍ وَيَسْتَحِقُّهُ إِلَّا مَنْ لَهُ الْمِلْكُ لِنَفْسِهِ أَوْ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْمِلْكَ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَالْوَرَثَةُ يُقْسِمُونَ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثور
واختاره ابْنُ الْمُنْذِرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُدَّعَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبَبٌ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ فِيهِ يَمِينٌ. ثُمَّ مَقْصُودُ هَذِهِ(1/461)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
الْأَيْمَانِ الْبَرَاءَةُ مِنَ الدَّعْوَى وَمَنْ لَمْ يُدَّعَ عليه برئ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْخَطَأِ: يَحْلِفُ فِيهَا الْوَاحِدُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَمَهْمَا كَمُلَتْ خَمْسِينَ يَمِينًا مِنْ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ اسْتَحَقَّ الْحَالِفُ مِيرَاثَهُ، وَمَنْ نَكَلَ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، فَإِنْ جَاءَ مَنْ غَابَ حَلَفَ مِنَ الْأَيْمَانِ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ لَوْ حَضَرَ بِحَسَبِ مِيرَاثِهِ. هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ الْمَشْهُورُ عَنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرَى فِي الْخَطَأِ قَسَامَةً. وَتَتْمِيمُ مَسَائِلِ الْقَسَامَةِ وَفُرُوعِهَا وَأَحْكَامِهَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْخِلَافِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. مَسْأَلَةٌ: فِي قِصَّةِ الْبَقَرَةِ هَذِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، وَقَالَ بِهِ طَوَائِفُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَقَوْمٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَاخْتَارَهُ الْكَرْخِيُّ وَنَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ بُكَيْرٍ الْقَاضِي مِنْ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ: هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ مَالِكٍ وَمَنَازِعُهُ فِي كُتُبِهِ، وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَدْ قَالَ الله:" فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ" [الانعام: 90] عَلَى مَا يَأْتِي «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قوله تعالى: (كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى)
أَيْ كَمَا أَحْيَا هَذَا بَعْدَ مَوْتِهِ كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ كُلَّ مَنْ مَاتَ فَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ)
أَيْ عَلَامَاتِهِ وَقُدْرَتَهُ. (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)
كَيْ تَعْقِلُوا. وَقَدْ تَقَدَّمَ «2» . أَيْ تَمْتَنِعُونَ مِنْ عِصْيَانِهِ. وَعَقَلْتُ نَفْسِي عَنْ كَذَا أَيْ منعتها منه والمعاقل: الحصون.
[سورة البقرة (2) : آية 74]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الْقَسْوَةُ: الصَّلَابَةُ وَالشِّدَّةُ وَالْيُبْسُ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ خُلُوِّهَا مِنَ الْإِنَابَةِ وَالْإِذْعَانِ لِآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةُ وغيرهما:
__________
(1) . راجع ج 7 ص 35.
(2) . راجع ص 226 من هذا الجزء(1/462)
الْمُرَادُ قُلُوبُ جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ قُلُوبُ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ، لِأَنَّهُمْ حِينَ حَيِيَ وَأَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ وَعَادَ إِلَى مَوْتِهِ أَنْكَرُوا قَتْلَهُ، وَقَالُوا: كَذَبَ، بَعْدَ مَا رَأَوْا هَذِهِ الْآيَةَ الْعُظْمَى، فَلَمْ يَكُونُوا قَطُّ أَعْمَى قُلُوبًا، وَلَا أَشَدَّ تَكْذِيبًا لِنَبِيِّهِمْ مِنْهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ، لَكِنْ نَفَذَ حُكْمُ اللَّهِ بِقَتْلِهِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي (. وَفِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) أَرْبَعَةٌ مِنَ الشقاء جمود العين وقساء «1» الْقَلْبِ وَطُولُ الْأَمَلِ وَالْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا (. قَوْلُهُ تَعَالَى:) فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً (" أَوْ" قِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَا قَالَ:" آثِماً أَوْ كَفُوراً" [الإنسان: 24] ." عُذْراً أَوْ نُذْراً" وَقَالَ الشَّاعِرُ:
نَالَ الْخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا
أَيْ وَكَانَتْ. وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى بَلْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ" «2» [الصافات: 147] الْمَعْنَى بَلْ يَزِيدُونَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى ... وَصُورَتُهَا أَوْ أَنْتِ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ «3»
أَيْ بَلْ أَنْتِ وَقِيلَ: مَعْنَاهَا الْإِبْهَامُ عَلَى الْمُخَاطَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ:
أُحِبُّ مُحَمَّدًا حُبًّا شَدِيدًا ... وَعَبَّاسًا وَحَمْزَةَ أَوْ عَلِيًّا
فَإِنْ يَكُ حُبُّهُمْ رُشْدًا أُصِبْهُ ... وَلَسْتُ بِمُخْطِئٍ إِنْ كَانَ غَيًّا
وَلَمْ يَشُكَّ أَبُو الْأَسْوَدِ أَنَّ حُبَّهُمْ رُشْدٌ ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْإِبْهَامَ. وَقَدْ قِيلَ لِأَبِي الْأَسْوَدِ حِينَ قَالَ ذَلِكَ: شَكَكْتَ! قَالَ: كَلَّا، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" «4» [سبأ: 24] وَقَالَ: أَوَ كَانَ شَاكًّا مَنْ أَخْبَرَ بِهَذَا! وقيل: معناها التخيير، أي شبهوها بالحجارة
__________
(1) . القساء (بالفتح والمد) : مصدر مثل القسوة والقساوة.
(2) . راجع 15 ص 130.
(3) . راجع البيت في خزانة الأدب في الشاهد 895. [.....]
(4) . راجع ج 14 ص 298(1/463)
تُصِيبُوا، أَوْ بِأَشَدِّ مِنَ الْحِجَارَةِ تُصِيبُوا، وَهَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ: جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنِ سِيرِينَ، وتعلم الفقه أو الحديث أو النحو. وقيل: بَلْ هِيَ عَلَى بَابِهَا مِنَ الشَّكِّ، وَمَعْنَاهَا عِنْدَكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ وَفِي نَظَرِكُمْ أَنْ لَوْ شَاهَدْتُمْ قَسْوَتَهَا لَشَكَكْتُمْ: أَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ مِنَ الْحِجَارَةِ؟ وَقَدْ قِيلَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ" [الصافات: 147] . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِيهِمْ مَنْ قَلْبُهُ كَالْحَجَرِ،. وَفِيهِمْ مَنْ قَلْبُهُ أشد من الحجر. فالمعنى هم فرقتان. قوله تعالى: (أَوْ أَشَدُّ) " أَشَدُّ" مَرْفُوعٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَوْضِعِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ" كَالْحِجارَةِ"، لِأَنَّ الْمَعْنَى فَهِيَ مِثْلُ الْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ. وَيَجُوزُ أَوْ" أَشَدُّ" بِالْفَتْحِ عَطْفٌ عَلَى الْحِجَارَةِ. وَ" قَسْوَةً" نَصْبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ" قَسَاوَةً" وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الِانْفِجَارِ «1» . وَيَشَّقَّقُ أَصْلُهُ يَتَشَقَّقُ، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الشِّينِ، وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنِ الْعُيُونِ الَّتِي لَمْ تَعْظُمْ حَتَّى تَكُونَ أَنْهَارًا، أَوْ عَنِ الْحِجَارَةِ الَّتِي تَتَشَقَّقُ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ مَاءٌ مُنْفَسِحٌ. وَقَرَأَ ابْنُ مُصَرِّفٍ" يَنْشَقِقْ" بِالنُّونِ، وَقَرَأَ" لَمَّا يَتَفَجَّرُ"" لَمَّا يَتَشَقَّقُ" بِتَشْدِيدِ" لَمَّا" فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَهِيَ قِرَاءَةٌ غَيْرُ مُتَّجَهَةٍ. وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ" يَنْفَجِرُ" بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْجِيمِ. قَالَ قَتَادَةُ: عَذَرَ الْحِجَارَةَ وَلَمْ يَعْذِرْ شَقِيَّ بَنِي آدَمَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: يَجُوزُ لَمَا تَتَفَجَّرُ بِالتَّاءِ، وَلَا يَجُوزُ لَمَا تَتَشَقَّقُ بِالتَّاءِ، لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ تَتَفَجَّرُ أَنَّثَهُ بِتَأْنِيثِ الْأَنْهَارِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي تَشَقَّقَ. قَالَ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ مَا أَنْكَرَهُ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى وَإِنَّ مِنْهَا لَحِجَارَةً تَتَشَقَّقُ، وَأَمَّا يَشَّقَّقُ فَمَحْمُولٌ عَلَى لَفْظِ مَا. وَالشَّقُّ وَاحِدُ الشُّقُوقِ، فَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ، تَقُولُ: بِيَدِ فُلَانٍ وَرِجْلَيْهِ شُقُوقٌ، وَلَا تَقُلْ: شِقَاقٌ، إِنَّمَا الشِّقَاقُ دَاءٌ يَكُونُ بِالدَّوَابِّ، وَهُوَ تَشَقُّقٌ يُصِيبُ أَرْسَاغَهَا وَرُبَّمَا ارْتَفَعَ إِلَى وَظِيفِهَا «2» ، عَنْ يَعْقُوبَ. وَالشَّقُّ: الصُّبْحُ. وَ" مَا" فِي قوله:
__________
(1) . راجع ص 419 من هذا الجزء.
(2) . الوظيف: مستدق الذراع والساق. وقيل: ما فوق الرسغ إلى الساق.(1/464)
" لَما يَتَفَجَّرُ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، لِأَنَّهَا اسْمُ إِنَّ وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ." مِنْهُ" عَلَى لَفْظِ مَا، وَيَجُوزُ مِنْهَا عَلَى الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ" وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ". وَقَرَأَ قَتَادَةُ" وَإِنْ" فِي الْمَوْضِعَيْنِ، مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) يَقُولُ إِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ مَا هُوَ أَنْفَعُ مِنْ قُلُوبِكُمْ، لِخُرُوجِ الْمَاءِ مِنْهَا وَتَرَدِّيهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَا تَرَدَّى حَجَرٌ مِنْ رَأْسِ جَبَلٍ، وَلَا تَفَجَّرَ نَهْرٌ مِنْ حَجَرٍ، وَلَا خَرَجَ مِنْهُ مَاءٌ إِلَّا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، نَزَلَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ. وَمِثْلُهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي قَوْلِهِ:" وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ": الْبَرَدُ الْهَابِطُ مِنَ السَّحَابِ. وَقِيلَ: لَفْظَةُ الْهُبُوطِ مَجَازٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحِجَارَةَ لَمَّا كَانَتِ الْقُلُوبُ تَعْتَبِرُ بِخَلْقِهَا، وَتَخْشَعُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا، أُضِيفَ تَوَاضُعُ النَّاظِرِ إِلَيْهَا، كَمَا قَالَتِ الْعَرَبُ: نَاقَةٌ تَاجِرَةٌ، أَيْ تَبْعَثُ مَنْ يَرَاهَا عَلَى شِرَائِهَا. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّ الْخَشْيَةَ لِلْحِجَارَةِ مُسْتَعَارَةٌ، كَمَا اسْتُعِيرَتِ الْإِرَادَةُ لِلْجِدَارِ فِي قَوْلِهِ:" يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ" وَكَمَا قَالَ زَيْدُ الْخَيْلِ: «1»
لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ ... سُوَرُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ
وَذَكَرَ ابْنُ بَحْرٍ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنَّ مِنْها" رَاجِعٌ إِلَى الْقُلُوبِ لَا إِلَى الْحِجَارَةِ أَيْ مِنَ الْقُلُوبِ لَمَا يَخْضَعُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. قُلْتُ: كُلُّ مَا قِيلَ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، وَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْطَى بَعْضَ الْجَمَادَاتِ الْمَعْرِفَةَ فَيَعْقِلُ، كَالَّذِي رُوِيَ عَنِ الْجِذْعِ الَّذِي كَانَ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خَطَبَ، فَلَمَّا تَحَوَّلَ عَنْهُ حَنَّ، وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ في الجاهلية
__________
(1) . نسب هذا البيت في كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد في ترجمة الزبير بن العوام وفي كتاب سيبويه إلى جرير. ويلاحظ أن زيد الخيل توفى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو في آخر خلافة عمر رضى الله عنه. فوفاته إذا قبل وفاة الزبير. وقد وصف مقتل الزبير بن العوام حين أنصرف يوم الجمل وقتل في الطريق غيلة. يقول: لما وافى خبره المدينة (مدينة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) تواضعت هي وجبالها وخشعت حزنا له.(1/465)
إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ (. وَكَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:) قَالَ لِي ثَبِيرٌ «1» اهْبِطْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُوكَ عَلَى ظَهْرِي فَيُعَذِّبُنِي اللَّهُ (. فَنَادَاهُ حِرَاءٌ: إِلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَفِي التَّنْزِيلِ:" إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ" «2» [الأحزاب: 72] الْآيَةَ. وَقَالَ:" لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ" «3» [الحشر: 21] يَعْنِي تَذَلُّلًا وَخُضُوعًا، وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ فِي سُورَةِ" سُبْحَانَ"»
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) " بِغافِلٍ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَعَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. والياء تَوْكِيدٌ." عَمَّا تَعْمَلُونَ" أَيْ عَنْ عَمَلِكُمْ حَتَّى لَا يُغَادِرَ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا يُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ،" فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ" «5» [الزلزلة: 7، 8] . وَلَا تَحْتَاجُ" مَا" إِلَى عَائِدٍ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهَا بِمَعْنَى الَّذِي فَيُحْذَفُ الْعَائِدُ لِطُولِ الِاسْمِ، أَيْ عَنِ الَّذِي تَعْمَلُونَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ" يَعْمَلُونَ" بِالْيَاءِ، وَالْمُخَاطَبَةُ عَلَى هَذَا لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السلام.
__________
(1) . ثبير: جبل معروف عند مكة.
(2) . راجع ج 14 ص 253.
(3) . راجع ج 18 ص 44.
(4) . راجع ج 10 ص 267.
(5) . راجع ج 20 ص 150.(1/466)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
الجزء الثاني
(بسم الله الرحمن الرحيم)
[تتمة تفسير سورة البقرة]
[سورة البقرة (2) : آية 75]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ" هَذَا اسْتِفْهَامٌ فِيهِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ، كَأَنَّهُ أَيْأَسَهُمْ مِنْ إِيمَانِ هَذِهِ الْفِرْقَةِ مِنَ الْيَهُودِ، أَيْ إِنْ كَفَرُوا فَلَهُمْ سَابِقَةٌ فِي ذَلِكَ. وَالْخِطَابُ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانَ لَهُمْ حِرْصٌ عَلَى إِسْلَامِ الْيَهُودِ لِلْحِلْفِ وَالْجِوَارِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَيْ لَا تَحْزَنْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّوءِ الَّذِينَ مَضَوْا. وَ" أَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ فِي أَنْ يُؤْمِنُوا، نُصِبَ بِأَنْ، وَلِذَلِكَ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّونُ. يُقَالُ: طَمِعَ فِيهِ طَمَعًا وَطَمَاعِيَةً- مُخَفَّفٌ- فَهُوَ طَمِعٌ، عَلَى وَزْنِ فَعِلٌ. وَأَطْمَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ. وَيُقَالُ فِي التَّعَجُّبِ: طَمُعَ الرَّجُلُ- بِضَمِّ الْمِيمِ- أَيْ صَارَ كَثِيرَ الطَّمَعِ. وَالطَّمَعُ: رِزْقُ الْجُنْدِ، يُقَالُ: أَمَرَ لَهُمُ الْأَمِيرُ بِأَطْمَاعِهِمْ، أَيْ بِأَرْزَاقِهِمْ. وَامْرَأَةٌ مِطْمَاعٌ: تُطْمِعُ وَلَا تُمَكِّنُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ" الْفَرِيقُ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَجَمْعُهُ فِي أَدْنَى الْعَدَدِ أَفْرِقَةٌ، وَفِي الْكَثِيرِ أَفْرِقَاءُ." يَسْمَعُونَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ خَبَرُ" كانَ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ" مِنْهُمْ"، وَيَكُونَ" يَسْمَعُونَ" نَعْتًا لِفَرِيقٍ، وَفِيهِ بُعْدٌ." كَلامَ اللَّهِ" قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ" كَلِمَ اللَّهِ" عَلَى جَمْعِ كَلِمَةٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ نَاسًا مِنْ رَبِيعَةَ يَقُولُونَ" مِنْهِمْ" بِكَسْرِ الْهَاءِ إِتْبَاعًا لِكَسْرَةِ الْمِيمِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُسَكَّنُ حَاجِزًا حَصِينًا عِنْدَهُ." كَلامَ اللَّهِ" مَفْعُولٌ بِ" يَسْمَعُونَ". وَالْمُرَادُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ(2/1)
السَّلَامُ، فَسَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ فَلَمْ يَمْتَثِلُوا أَمْرَهُ، وَحَرَّفُوا الْقَوْلَ فِي إِخْبَارِهِمْ لِقَوْمِهِمْ. هَذَا قَوْلُ الرَّبِيعِ وَابْنِ إِسْحَاقَ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ ضَعْفٌ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ السَّبْعِينَ سَمِعُوا مَا سَمِعَ مُوسَى فَقَدْ أَخْطَأَ، وَأَذْهَبَ بِفَضِيلَةِ مُوسَى وَاخْتِصَاصِهِ بِالتَّكْلِيمِ. وَقَدْ قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: لَمْ يُطِيقُوا سَمَاعَهُ، وَاخْتَلَطَتْ أَذْهَانُهُمْ وَرَغِبُوا أَنْ يَكُونَ مُوسَى يَسْمَعُ وَيُعِيدُهُ لَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغُوا وَخَرَجُوا بَدَّلَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَا سَمِعَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ" «1» . فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَوْمَ مُوسَى سَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُسْمِعَهُمْ كَلَامَهُ، فَسَمِعُوا صَوْتًا كَصَوْتِ الشَّبُّورِ: «2» " إِنِّي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا الْحَيُّ الْقَيُّومُ أَخْرَجْتُكُمْ مِنْ مِصْرَ بِيَدٍ رَفِيعَةٍ وَذِرَاعٍ شَدِيدَةٍ". قُلْتُ: هَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ، رَوَاهُ ابْنُ مَرْوَانَ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وإنما الكلام شي خُصَّ بِهِ مُوسَى مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ وَلَدِ آدَمَ، فَإِنْ كَانَ كَلَّمَ قَوْمَهُ أَيْضًا حَتَّى أَسْمَعَهُمْ كَلَامَهُ فَمَا فَضْلُ مُوسَى عَلَيْهِمْ، وَقَدْ قَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ:" إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي" «3» . وَهَذَا وَاضِحٌ. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ النَّاسُ بماذا عَرَفَ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ سَمِعَ قَبْلَ ذَلِكَ خِطَابَهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ سَمِعَ كَلَامًا لَيْسَ بِحُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ، وَلَيْسَ فِيهِ تَقْطِيعٌ وَلَا نَفَسٌ، فَحِينَئِذٍ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ الْبَشَرِ وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ لَمَّا سَمِعَ كَلَامًا لَا مِنْ جِهَةٍ، وَكَلَامُ الْبَشَرِ يُسْمَعُ مِنْ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ السِّتِّ، عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ صَارَ جَسَدُهُ كُلُّهُ مَسَامِعَ حَتَّى سَمِعَ بِهَا ذَلِكَ الْكَلَامَ، فَعَلِمَ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. وَقِيلَ فِيهِ: إِنَّ الْمُعْجِزَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَا سَمِعَهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَلْقِ عَصَاكَ، فَأَلْقَاهَا فَصَارَتْ ثُعْبَانًا، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى صِدْقِ الْحَالِ، وَأَنَّ الَّذِي يَقُولُ له:" إِنِّي أَنَا رَبُّكَ" «4» هو الله عز وجل. وَقِيلَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ أَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ شيئا لا يقف عليه
__________
(1) . راجع ج 8 ص 75.
(2) . الشبور (على وزن التنور) : البوق.
(3) . راجع ج 7 ص 280.
(4) . راجع ج 11 ص 172.(2/2)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)
إِلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي خِطَابِهِ بِذَلِكَ الضَّمِيرِ، فَعَلِمَ أَنَّ الَّذِي يُخَاطِبُهُ هُوَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ" الْقَصَصِ" بَيَانُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ" «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ" قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: هُمْ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ التَّوْرَاةَ فَيَجْعَلُونَ الْحَرَامَ حَلَالًا وَالْحَلَالَ حَرَامًا اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ." مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ" أَيْ عَرَفُوهُ وَعَلِمُوهُ. وَهَذَا تَوْبِيخٌ لَهُمْ، أَيْ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ قَدْ سَلَفَتْ لِآبَائِهِمْ أَفَاعِيلُ سُوءٍ وَعِنَادٍ، فَهَؤُلَاءِ عَلَى ذَلِكَ السُّنَنِ، فَكَيْفَ تَطْمَعُونَ فِي إِيمَانِهِمْ!. وَدَلَّ هَذَا الْكَلَامُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ بِالْحَقِّ الْمُعَانِدِ فِيهِ بَعِيدٌ مِنَ الرُّشْدِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَلَمْ ينهه ذلك عن عناده.
[سورة البقرة (2) : الآيات 76 الى 77]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا" هذا الْمُنَافِقِينَ. وَأَصْلُ" لَقُوا" لَقِيُوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ «2» ." وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ" الْآيَةُ فِي الْيَهُودِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَاسًا مِنْهُمْ أَسْلَمُوا ثُمَّ نَافَقُوا، فَكَانُوا يُحَدِّثُونَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِمَا عُذِّبَ بِهِ آبَاؤُهُمْ، فَقَالَتْ لَهُمُ الْيَهُودُ:" أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ" أَيْ حَكَمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَذَابِ، لِيَقُولُوا نَحْنُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْكُمْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ. وَقِيلَ: إِنَّ عَلِيًّا لَمَّا نَازَلَ قُرَيْظَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ سَمِعَ سَبَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فَانْصَرَفَ إِلَيْهِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا تَبْلُغْ إِلَيْهِمْ، وَعَرَضَ لَهُ، فَقَالَ:" أَظُنُّكَ سَمِعْتَ شَتْمِي مِنْهُمْ لَوْ رَأَوْنِي لَكَفُّوا عَنْ ذَلِكَ" وَنَهَضَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ أَمْسَكُوا، فَقَالَ لَهُمْ: (أَنَقَضْتُمُ الْعَهْدَ يَا إِخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ أَخْزَاكُمُ الله وأنزل بكم نقمته) فقالوا:
__________
(1) . راجع ج 13 ص 281. [.....]
(2) . راجع ج 1 ص 206 طبعه ثانية(2/3)
مَا كُنْتَ جَاهِلًا يَا مُحَمَّدُ فَلَا تَجْهَلْ عَلَيْنَا، مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا؟ مَا خَرَجَ هَذَا الْخَبَرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِنَا! رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ مُجَاهِدٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا خَلا" الْأَصْلُ فِي" خَلا" خَلَوَ، قُلِبَتِ الْوَاوُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى" خَلا" فِي أَوَّلِ السُّورَةِ «1» . وَمَعْنَى" فَتَحَ" حَكَمَ. وَالْفَتْحُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الْقَضَاءُ وَالْحُكْمُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ" «2» أَيِ الْحَاكِمِينَ، وَالْفَتَّاحُ: الْقَاضِي بِلُغَةِ الْيَمَنِ، يُقَالُ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْفَتَّاحُ، قِيلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَنْصُرُ الْمَظْلُومَ عَلَى الظَّالِمِ. وَالْفَتْحُ: النَّصْرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:" يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا"، «3» ، وَقَوْلُهُ:" إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ" «4» . وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" لِيُحَاجُّوكُمْ" نُصِبَ بِلَامِ كَيْ، وَإِنْ شِئْتَ بِإِضْمَارِ أَنْ، وَعَلَامَةُ النَّصْبِ، حَذْفُ النُّونِ. قَالَ يُونُسُ: وَنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ يَفْتَحُونَ لَامَ كَيْ. قَالَ الْأَخْفَشُ: لِأَنَّ الْفَتْحَ الْأَصْلُ. قَالَ خَلَفٌ الْأَحْمَرُ: هِيَ لُغَةُ بَنِي الْعَنْبَرِ. وَمَعْنَى" لِيُحَاجُّوكُمْ" لِيُعَيِّرُوكُمْ، وَيَقُولُوا نَحْنُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْكُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِيَحْتَجُّوا عَلَيْكُمْ بِقَوْلِكُمْ، يَقُولُونَ كَفَرْتُمْ بِهِ بَعْدَ أَنْ وَقَفْتُمْ عَلَى صِدْقِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الرَّجُلَ مِنَ الْيَهُودِ كَانَ يَلْقَى صَدِيقَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَقُولُ لَهُ: تَمَسَّكْ بِدِينِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ نَبِيٌّ حَقًّا." عِنْدَ رَبِّكُمْ" قِيلَ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ:" ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ" «5» . وَقِيلَ: عِنْدَ ذِكْرِ رَبِّكُمْ. وَقِيلَ:" عِنْدَ" بِمَعْنَى" فِي" أَيْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ فِي رَبِّكُمْ، فَيَكُونُوا أَحَقَّ به منكم لظهور الحجة عليكم، وروي عَنِ الْحَسَنِ. وَالْحُجَّةُ: الْكَلَامُ الْمُسْتَقِيمُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَحَجَّةُ الطَّرِيقِ. وَحَاجَجْتُ فُلَانًا فَحَجَجْتُهُ، أَيْ غَلَبْتُهُ بِالْحُجَّةِ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: (فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى) ." أَفَلا تَعْقِلُونَ" قِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْأَحْبَارِ لِلْأَتْبَاعِ. وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ. ثُمَّ وَبَّخَهُمْ تَوْبِيخًا يُتْلَى فَقَالَ:" أَوَلا يَعْلَمُونَ" الْآيَةَ. فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ" يَعْلَمُونَ" بِالْيَاءِ، وَابْنِ مُحَيْصِنٍ بِالتَّاءِ، خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالَّذِي أَسَرُّوهُ كُفْرُهُمْ، وَالَّذِي أَعْلَنُوهُ الْجَحْدُ بِهِ.
__________
(1) . يراجع ج 1 ص 206 طبعه ثانية
(2) . راجع ج 7 ص 251.
(3) . راجع ص 26 من هذا الجزء
(4) . راجع ج 7 ص 386.
(5) . راجع ج 15 ص 254(2/4)
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
[سورة البقرة (2) : آية 78]
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ" أَيْ مِنَ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ أُمِّيُّونَ، أَيْ مَنْ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ، وَاحِدُهُمْ أُمِّيٌّ، مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ الَّتِي هِيَ عَلَى أَصْلِ وِلَادَةِ أُمَّهَاتِهَا لَمْ تَتَعَلَّمِ الْكِتَابَةَ وَلَا قِرَاءَتَهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ) الْحَدِيثَ. وَقَدْ قِيلَ لَهُمْ إِنَّهُمْ أُمِّيُّونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِأُمِّ الْكِتَابِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّمَا قِيلَ لَهُمْ أُمِّيُّونَ لِنُزُولِ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ، كَأَنَّهُمْ نُسِبُوا إِلَى أُمِّ الْكِتَابِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ. عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: هُمْ نَصَارَى الْعَرَبِ. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، رُفِعَ كِتَابُهُمْ لِذُنُوبٍ ارْتَكَبُوهَا فَصَارُوا أُمِّيِّينَ. عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُمُ الْمَجُوسُ. قُلْتُ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى" لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ"" إِلَّا" هَا هُنَا بِمَعْنَى لَكِنْ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ" «1» . وَقَالَ النَّابِغَةُ:
حَلَفْتُ يَمِينًا غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ «2» ... وَلَا عِلْمَ إِلَّا حُسْنَ ظَنٍّ بِصَاحِبِ
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَالْأَعْرَجُ" إِلَّا أَمَانِيَ" خَفِيفَةَ الْيَاءِ، حَذَفُوا إِحْدَى الْيَاءَيْنِ اسْتِخْفَافًا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كُلُّ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ وَاحِدُهُ مُشَدَّدٌ، فَلَكَ فِيهِ التَّشْدِيدُ وَالتَّخْفِيفُ، مِثْلُ أَثَافِيَّ وَأَغَانِيَّ وَأَمَانِيَّ، وَنَحْوِهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هَذَا كَمَا يقال في جميع مِفْتَاحٍ: مَفَاتِيحُ وَمَفَاتِحُ، وَهِيَ يَاءُ الْجَمْعِ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْحَذْفُ فِي الْمُعْتَلِّ أَكْثَرُ، كَمَا قَالَ الشاعر «3» :
وَهَلْ يُرْجِعُ التَّسْلِيمَ أَوْ يَكْشِفُ الْعَمَى ... ثَلَاثُ الأثافي والرسوم البلاقع «4»
__________
(1) . راجع ج 6 ص 2
(2) . المثنوية: الاستثناء في اليمين
(3) . هو ذو الرمة، كما في ديوانه.
(4) . الأثافي (جمع أثفية، بضم الهمزة وكسرها وسكون الثاء وتشديد الياء) : الحج الذي توضع عليه القدر. والرسوم: بقايا الأبنية. والبانقع (جمع بلقع) ؟؟: الخراب.(2/5)
وَالْأَمَانِيُّ جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ وَهِيَ التِّلَاوَةُ، وَأَصْلُهَا أُمْنُويَةٌ عَلَى وَزْنِ أُفْعُولَةٍ، فَأُدْغِمَتِ الْوَاوُ فِي الْيَاءِ فَانْكَسَرَتِ النُّونُ مِنْ أَجْلِ الْيَاءِ فَصَارَتْ أُمْنِيَّةً، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ «1» " أَيْ إِذَا تَلَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي تِلَاوَتِهِ. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ ... وَآخِرَهُ لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ
وَقَالَ آخَرُ:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ آخِرَ لَيْلِهِ ... تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ
وَالْأَمَانِيُّ أَيْضًا الْأَكَاذِيبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا تَمَنَّيْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، أَيْ مَا كَذَبْتُ. وَقَوْلُ بَعْضِ الْعَرَبِ لِابْنِ دَأْبٍ وهو يحدث: أهذا شي رويته أم شي تَمَنَّيْتَهُ؟ أَيِ افْتَعَلْتَهُ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ" أَمانِيَّ" فِي الْآيَةِ. وَالْأَمَانِيُّ أَيْضًا مَا يَتَمَنَّاهُ الْإِنْسَانُ وَيَشْتَهِيهِ. قَالَ قَتَادَةُ:" إِلَّا أَمانِيَّ" يَعْنِي أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ عَلَى اللَّهِ مَا لَيْسَ لَهُمْ. وَقِيلَ: الْأَمَانِيُّ التَّقْدِيرُ، يُقَالُ: مُنِّيَ له أي قدر، قال الْجَوْهَرِيُّ، وَحَكَاهُ ابْنُ بَحْرٍ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
لَا تَأْمَنَنَّ وَإِنْ أَمْسَيْتَ فِي حَرَمٍ ... حَتَّى تُلَاقِيَ مَا يَمْنِي لَكَ الْمَانِي «2»
أَيْ يُقَدِّرُ لَكَ الْمُقَدِّرُ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى" وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ"" إِنْ" بِمَعْنَى مَا النَّافِيَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ". و" يَظُنُّونَ" يَكْذِبُونَ وَيُحْدِثُونَ، لِأَنَّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِصِحَّةِ ما يتلون، وإنما هم مقلدون لاحبارهم فيها يقرءون به. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: وَقَدْ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى النَّحْوِيُّ أَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ الظَّنَّ عِلْمًا وَشَكًّا وَكَذِبًا، وَقَالَ: إِذَا قَامَتْ بَرَاهِينُ الْعِلْمِ فَكَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ بَرَاهِينِ الشَّكِّ فَالظَّنُّ يَقِينٌ، وَإِذَا اعْتَدَلَتْ بَرَاهِينُ الْيَقِينِ وَبَرَاهِينُ الشَّكِّ فَالظَّنُّ شَكٌّ، وَإِذَا زَادَتْ بَرَاهِينُ الشَّكِّ عَلَى بَرَاهِينِ الْيَقِينِ فَالظَّنُّ كَذِبٌ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ" أَرَادَ إِلَّا يَكْذِبُونَ. الرَّابِعَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: نعت الله تعالى أحبارهم بأنه يبدلون ويحرقون فَقَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ:" فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ" الآية. وذلك أنه لما درس
__________
(1) . راجع ج 12 ص 79.
(2) . نسب شارح القاموس هذا البيت لسويد بن عامر المصطلقي.(2/6)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
الْأَمْرُ فِيهِمْ، وَسَاءَتْ رَعِيَّةُ عُلَمَائِهِمْ، وَأَقْبَلُوا عَلَى الدُّنْيَا حِرْصًا وَطَمَعًا، طَلَبُوا أَشْيَاءَ تَصْرِفُ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِمْ، فَأَحْدَثُوا فِي شَرِيعَتِهِمْ وَبَدَّلُوهَا، وَأَلْحَقُوا ذَلِكَ بِالتَّوْرَاةِ، وَقَالُوا لِسُفَهَائِهِمْ: هَذَا مِنْ عِنْدِ الله، ليقبلوها عنهم فتتأكد رئاستهم وَيَنَالُوا بِهِ حُطَامَ الدُّنْيَا وَأَوْسَاخَهَا. وَكَانَ مِمَّا أَحْدَثُوا فِيهِ أَنْ قَالُوا: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، وَهُمُ الْعَرَبُ، أَيْ مَا أَخَذْنَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَهُوَ حِلٌّ لَنَا. وَكَانَ مِمَّا أَحْدَثُوا فِيهِ أَنْ قَالُوا: لَا يَضُرُّنَا ذَنْبٌ، فَنَحْنُ أَحِبَّاؤُهُ وَأَبْنَاؤُهُ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ! وَإِنَّمَا كَانَ فِي التَّوْرَاةِ" يَا أَحْبَارِي وَيَا أَبْنَاءَ رُسُلِي" فَغَيَّرُوهُ وَكَتَبُوا" يَا أَحِبَّائِي وَيَا أَبْنَائِي" فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَكْذِيبَهُمْ:" وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ «1» ". فَقَالَتْ: لَنْ يُعَذِّبَنَا اللَّهُ، وَإِنْ عَذَّبَنَا فَأَرْبَعِينَ يَوْمًا مِقْدَارَ أَيَّامِ الْعِجْلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً «2» ". قَالَ ابْنُ مِقْسَمٍ: يَعْنِي تَوْحِيدًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:" إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً «3» " يَعْنِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ". ثُمَّ أَكْذَبَهُمْ فَقَالَ:" بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ «4» ". فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ وَالْجَنَّةِ إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، لَا بِمَا قَالُوهُ.
[سورة البقرة (2) : آية 79]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ:" فَوَيْلٌ" اخْتُلِفَ فِي الْوَيْلِ «5» مَا هُوَ، فَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَبَلٌ مِنْ نَارٍ. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ الْوَيْلَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ بين
__________
(1) . راجع ج 6 ص 120.
(2) . راجع ص 10 من هذا الجزء. [.....]
(3) . راجع ج 11 ص 153.
(4) . راجع ص 11 من هذا الجزء.
(5) . قال أبو حيان في البحر المحيط بعد أن ذكر الأقوال التي وردت في معنى الويل:" لو صح في التفسير الويل شي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوجب المصير إليه، وقد تكلمت العرب في نظمها ونثرها بلفظ الويل قبل أن يجئ القرآن ولم تطلقه على شي من هذا التفاسير، وإنما مدلوله ما فسره به أهل اللغة".(2/7)
جَبَلَيْنِ يَهْوِي فِيهِ الْهَاوِي أَرْبَعِينَ خَرِيفًا. وَرَوَى سُفْيَانُ وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: إِنَّ الْوَيْلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَادٍ يَجْرِي بِفِنَاءِ جَهَنَّمَ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ. وَقِيلَ: صِهْرِيجٌ فِي جَهَنَّمَ. وَحَكَى الزَّهْرَاوِيُّ عَنْ آخَرِينَ: أَنَّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْوَيْلُ الْمَشَقَّةُ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الْوَيْلُ شِدَّةُ الشَّرِّ «1» . الأصمعي: الويل تفجع، والويح ترحم. سِيبَوَيْهِ: وَيْلٌ لِمَنْ وَقَعَ فِي الْهَلَكَةِ، وَوَيْحٌ زَجْرٌ لِمَنْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَكَةِ. ابْنُ عَرَفَةَ: الْوَيْلُ الْحُزْنُ، يُقَالُ: تَوَيَّلَ الرَّجُلُ إِذَا دَعَا بِالْوَيْلِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحُزْنِ وَالْمَكْرُوهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ،" فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ". وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْهَلَكَةُ، وَكُلُّ مَنْ وَقَعَ فِي هلكة دعا بالويل، ومنه قوله تعالى:" يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ «2» ". وَهِيَ الْوَيْلُ وَالْوَيْلَةُ، وَهُمَا الْهَلَكَةُ، وَالْجَمْعُ الْوَيْلَاتُ، قَالَ:
لَهُ الْوَيْلُ إِنْ أَمْسَى وَلَا أُمَّ هَاشِمٍ
وَقَالَ أَيْضًا:
فَقَالَتْ لك الويلات إنك مرجلى
وارتفع" فَوَيْلٌ" بِالِابْتِدَاءِ، وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِهِ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الدُّعَاءِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ أَلْزَمَهُمُ اللَّهُ وَيْلًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَصْلُ فِي الْوَيْلِ" وَيْ" أَيْ حُزْنٌ، كَمَا تَقُولُ: وَيْ لِفُلَانٍ، أَيْ حُزْنٌ لَهُ، فَوَصَلَتْهُ الْعَرَبُ بِاللَّامِ وَقَدَّرُوهَا مِنْهُ فَأَعْرَبُوهَا. وَالْأَحْسَنُ فِيهِ إِذَا فُصِلَ عَنِ الْإِضَافَةِ الرَّفْعُ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْوُقُوعَ. وَيَصِحُّ النَّصْبُ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ، كَمَا ذَكَرْنَا. قَالَ الْخَلِيلُ: وَلَمْ يُسْمَعْ عَلَى بِنَائِهِ إِلَّا وَيْحُ وَوَيْسُ وَوَيْهُ وَوَيْكُ وَوَيْلُ وَوَيْبُ، وَكُلُّهُ يَتَقَارَبُ فِي الْمَعْنَى. وقد فرق بينها انتصاب المصادر ويله وعوله وويحه وويسه، إذا أَدْخَلْتَ اللَّامَ رَفَعْتَ فَقُلْتَ: وَيْلٌ لَهُ، وَوَيْحٌ له. الثانية- قوله تعالى:" لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ" الكأبة مَعْرُوفَةٌ. وَأَوَّلُ مَنْ كَتَبَ بِالْقَلَمِ وَخَطَّ بِهِ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، خَرَّجَهُ الْآجُرِّيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُعْطِيَ الْخَطَّ فَصَارَ وراثة في ولده.
__________
(1) . كذا في نسخ الأصل، وكتاب البحر لابي حيان.
(2) . راجع ج 10 ص 418(2/8)
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" بِأَيْدِيهِمْ" تَأْكِيدٌ، فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكَتْبَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْيَدِ، فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ:" وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ"، وَقَوْلِهِ" يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ" وَقِيلَ: فَائِدَةُ" بِأَيْدِيهِمْ" بَيَانٌ لِجُرْمِهِمْ وَإِثْبَاتٌ لِمُجَاهَرَتِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ تَوَلَّى الْفِعْلَ أَشَدُّ مُوَاقَعَةً مِمَّنْ لَمْ يَتَوَلَّهُ وَإِنْ كَانَ رَأْيًا لَهُ. وَقَالَ ابْنُ السَّرَّاجِ:" بِأَيْدِيهِمْ" كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّهُمْ مِنْ تِلْقَائِهِمْ دُونَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَقِيقَةً فِي كَتْبِ أَيْدِيهِمْ. الرَّابِعَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا التَّحْذِيرُ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ وَالزِّيَادَةِ فِي الشَّرْعِ، فَكُلُّ مَنْ بَدَّلَ وَغَيَّرَ أَوِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَلَا يَجُوزُ فِيهِ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَقَدْ حَذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ لَمَّا قَدْ عَلِمَ مَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَقَالَ: (أَلَا مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً) الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي. فَحَذَّرَهُمْ أَنْ يُحْدِثُوا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ فِي الدِّينِ خِلَافَ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّتِهِ أَوْ سُنَّةِ أَصْحَابِهِ فَيُضِلُّوا به الناس، وقد وقع ما حدره وشاع،. كثر وَذَاعَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. الْخَامِسَةُ- قوله تعالى:" لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا" وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَأْخُذُونَهُ بِالْقِلَّةِ، إِمَّا لِفَنَائِهِ وَعَدَمِ ثَبَاتِهِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ حَرَامًا، لِأَنَّ الْحَرَامَ لَا بَرَكَةَ فِيهِ وَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْكَلْبِيُّ: كَانَتْ صِفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِهِمْ رَبْعَةً أَسْمَرَ، فَجَعَلُوهُ آدَمَ سَبْطًا طَوِيلًا، وَقَالُوا لِأَصْحَابِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمُ: انْظُرُوا إِلَى صِفَةِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي يُبْعَثُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لَيْسَ يشبهه نعت هذا، وكانت للأحبار والعلماء رئاسة وَمَكَاسِبُ، فَخَافُوا إِنْ بَيَّنُوا أَنْ تَذْهَبَ مَآكِلُهُمْ ورئاستهم، فَمِنْ ثَمَّ غَيَّرُوا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:" فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ" قِيلَ مِنَ الْمَآكِلِ. وَقِيلَ مِنَ الْمَعَاصِي. وكرر الويل تغليظا لفعلهم.(2/9)
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
[سورة البقرة (2) : آية 80]
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا" يَعْنِي الْيَهُودَ." لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً" اخْتُلِفَ، فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، فَقِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْيَهُودِ: (مَنْ أَهْلُ النَّارِ) . قَالُوا: نَحْنُ، ثُمَّ تَخْلُفُونَا أَنْتُمْ. فَقَالَ: (كَذَبْتُمْ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أنا لا نخلفكم) فنزلت هذه الآية، قال ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَالْيَهُودُ تَقُولُ: إِنَّمَا هَذِهِ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافٍ، وَإِنَّمَا يُعَذَّبُ النَّاسُ فِي النَّارِ لِكُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا يَوْمٌ وَاحِدٌ فِي النَّارِ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: قَالَتِ الْيَهُودُ إِنَّ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ جَهَنَّمَ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَنَّهُمْ يَقْطَعُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَنَةً حَتَّى يُكْمِلُوهَا وَتَذْهَبَ جَهَنَّمُ. وَرَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: زَعَمَ الْيَهُودُ أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا أَنَّ مَا بَيْنَ طَرَفَيْ جَهَنَّمَ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِلَى أَنْ يَنْتَهُوا إِلَى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ. وَقَالُوا: إِنَّمَا نُعَذَّبُ حَتَّى نَنْتَهِيَ إِلَى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ فَتَذْهَبَ جَهَنَّمُ وَتَهْلِكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَقَتَادَةَ: أَنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ إِنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ أَنْ يُدْخِلَهُمُ النَّارَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَدَدَ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ، كَمَا تَقَدَّمَ. الثَّانِيَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ حَيْثُ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ) فِي أَنَّ مُدَّةَ الْحَيْضِ مَا يُسَمَّى أَيَّامَ الْحَيْضِ، وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُهَا عَشَرَةٌ، قَالُوا: لِأَنَّ مَا دُونَ الثَّلَاثَةِ يُسَمَّى يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ، وَمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ يُقَالُ فِيهِ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَا يُقَالُ فِيهِ أَيَّامٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ أَيَّامٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ «1» "" تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ «2» "،" سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً «3» "
__________
(1) . راجع ص 399 من هذا الجزء
(2) . راجع ج 9 ص 3
(3) . راجع ج 18 ص 259.(2/10)
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
فَيُقَالُ لَهُمْ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الصَّوْمِ:" أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ" يَعْنِي جَمِيعَ الشَّهْرِ، وَقَالَ:" لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ «1» " يَعْنِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَأَيْضًا فَإِذَا أُضِيفَتِ الْأَيَّامُ إِلَى عَارِضٍ لَمْ يُرَدْ بِهِ تَحْدِيدُ الْعَدَدِ، بَلْ يُقَالُ: أَيَّامُ مَشْيِكَ وَسَفَرِكَ وَإِقَامَتِكَ، وَإِنْ كَانَ ثَلَاثِينَ وَعِشْرِينَ وَمَا شِئْتَ مِنَ الْعَدَدِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مَا كَانَ مُعْتَادًا لَهَا، وَالْعَادَةُ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ، فَخَرَجَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى" قُلْ أَتَّخَذْتُمْ" تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي" اتَّخَذَ «2» " فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ" عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً" أَيْ أَسْلَفْتُمْ عَمَلًا صَالِحًا فَآمَنْتُمْ وَأَطَعْتُمْ تستوجبون بِذَلِكَ الْخُرُوجَ مِنَ النَّارِ أَوْ هَلْ عَرَفْتُمْ ذلك بويح الَّذِي عَهِدَهُ إِلَيْكُمْ" فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" توبيخ وتقريع.
[سورة البقرة (2) : الآيات 81 الى 82]
بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تعالى:" بَلى " أي الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَيْسَ" بَلَى" وَ" نَعَمْ" اسْمَيْنِ. وَإِنَّمَا هُمَا حَرْفَانِ مِثْلُ" بل" وغيره، وهي رد لقولهم: إن تَمَسَّنَا النَّارُ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: أَصْلُهَا بَلِ الَّتِي لِلْإِضْرَابِ عَنِ الْأَوَّلِ، زِيدَتْ عَلَيْهَا الْيَاءُ لِيَحْسُنَ الْوَقْفُ، وَضُمِّنَتِ الْيَاءُ مَعْنَى الْإِيجَابِ وَالْإِنْعَامِ. فَ" بَلْ" تَدُلُّ عَلَى رَدِّ الْجَحْدِ، وَالْيَاءُ تَدُلُّ عَلَى الْإِيجَابِ لِمَا بَعْدُ. قَالُوا: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: أَلَمْ تَأْخُذْ دِينَارًا؟ فَقُلْتَ: نَعَمْ، لَكَانَ الْمَعْنَى لَا، لَمْ آخُذْ، لِأَنَّكَ حَقَّقْتَ النَّفْيَ وَمَا بَعْدَهُ. فَإِذَا قُلْتَ: بَلَى، صَارَ الْمَعْنَى قَدْ أَخَذْتُ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لصاحبه: ما لك علي شي، فَقَالَ الْآخَرُ: نَعَمْ، كَانَ ذَلِكَ تَصْدِيقًا، لِأَنَّ لا شي
__________
(1) . راجع ج 4 ص 51.
(2) . راجع ج 1 ص 396 طبعه ثانية.(2/11)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
لَهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: بَلَى، كَانَ رَدًّا لِقَوْلِهِ، وَتَقْدِيرُهُ: بَلَى لِي عَلَيْكَ. وَفِي التَّنْزِيلِ" أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «1» " وَلَوْ قَالُوا نَعَمْ لكفروا. الثانية- قوله تعالى:" سَيِّئَةً" السَّيِّئَةُ الشِّرْكُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ:" مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً"؟ قَالَ: الشِّرْكُ، وَتَلَا" وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ»
". وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، قَالَا: وَالْخَطِيئَةُ الْكَبِيرَةُ. الثَّالِثَةُ- لَمَّا قَالَ تَعَالَى:" بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ" دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى شَرْطَيْنِ لَا يَتِمُّ بِأَقَلِّهِمَا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا «3» " وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِسُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ وَقَدْ قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ. قَالَ: (قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى لِآدَمَ وَحَوَّاءَ:" وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ «4» ". وَقَرَأَ نَافِعٌ" خَطِيئَاتُهُ" بِالْجَمْعِ، الْبَاقُونَ بِالْإِفْرَادِ، وَالْمَعْنَى الْكَثْرَةُ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها «5» ".
[سورة البقرة (2) : آية 83]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ" تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ «6» . وَاخْتُلِفَ فِي الْمِيثَاقِ هُنَا، فَقَالَ مَكِّيٌّ: هُوَ الْمِيثَاقُ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ حِينَ أُخْرِجُوا مِنْ صُلْبِ آدَمَ كَالذَّرِّ. وَقِيلَ: هُوَ مِيثَاقٌ أُخِذَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ عُقَلَاءُ في حياتهم على ألسنة أنبيائهم.
__________
(1) . راجع ج 7 ص 613.
(2) . راجع ج 13 ص 245.
(3) . راجع ج 15 ص 357.
(4) . راجع ج 1 ص 304. [.....]
(5) . راجع ج 9 ص 367.
(6) . راجع ج 1 ص 246، 330.(2/12)
وَهُوَ قَوْلُهُ:" لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ" وَعِبَادَةُ اللَّهِ إِثْبَاتُ تَوْحِيدِهِ، وَتَصْدِيقُ رُسُلِهِ، وَالْعَمَلُ بِمَا أَنْزَلَ فِي كُتُبِهِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَا تَعْبُدُونَ" قَالَ سِيبَوَيْهِ:" لَا تَعْبُدُونَ" مُتَعَلِّقٌ بِقَسَمٍ، وَالْمَعْنَى وَإِذِ اسْتَخْلَفْنَاهُمْ وَاللَّهِ لَا تَعْبُدُونَ، وَأَجَازَهُ الْمُبَرِّدُ وَالْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ" لَا تَعْبُدُوا" عَلَى النَّهْيِ، وَلِهَذَا وَصَلَ الْكَلَامَ بِالْأَمْرِ فَقَالَ:" وقُومُوا، وقُولُوا، وأَقِيمُوا، وآتُوا". وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ مُوَحِّدِينَ، أَوْ غَيْرَ مُعَانِدِينَ، قَالَهُ قُطْرُبٌ وَالْمُبَرِّدُ أَيْضًا. وَهَذَا إِنَّمَا يَتَّجِهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ" يَعْبُدُونَ" بِالْيَاءِ مِنْ أَسْفَلَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَجَمَاعَةٌ: الْمَعْنَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ بِأَلَّا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، وَبِأَنْ يُحْسِنُوا لِلْوَالِدَيْنِ، وَبِأَلَّا يَسْفِكُوا الدِّمَاءَ، ثُمَّ حُذِفَتْ أَنْ وَالْبَاءُ فَارْتَفَعَ الْفِعْلُ لِزَوَالِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي «1» ". قَالَ الْمُبَرِّدُ: هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَا أُضْمِرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلَهُ مُظْهَرًا، تَقُولُ: وَبَلَدٍ قَطَعْتُ، أَيْ رُبَّ بَلَدٍ. قُلْتُ: لَيْسَ هَذَا بِخَطَأٍ، بَلْ هُمَا وَجْهَانِ صحيحان وعليهما أنشد سيبويه:
ألا أيها ذا الزاجري أخضر الْوَغَى ... وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي «2»
بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ، فَالنَّصْبُ عَلَى إِضْمَارِ أَنْ، وَالرَّفْعُ عَلَى حَذْفِهَا. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً" أَيْ وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. وَقَرَنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ بِالتَّوْحِيدِ، لِأَنَّ النَّشْأَةَ الْأُولَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالنَّشْءَ الثَّانِيَ- وَهُوَ التَّرْبِيَةُ- مِنْ جِهَةِ الْوَالِدَيْنِ، وَلِهَذَا قَرَنَ تَعَالَى الشُّكْرَ لَهُمَا بِشُكْرِهِ فَقَالَ:" أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ «3» ". وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ: مُعَاشَرَتُهُمَا بِالْمَعْرُوفِ، وَالتَّوَاضُعُ لَهُمَا، وَامْتِثَالُ أَمْرِهِمَا، وَالدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ بَعْدَ مَمَاتِهِمَا، وَصِلَةُ أَهْلِ وُدِّهِمَا، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ مُفَصَّلًا فِي" الْإِسْرَاءِ «4» " إِنْ شَاءَ الله تعالى.
__________
(1) . راجع ج 15 ص 276.
(2) . البيت لطرفة بن العبد في معلقته.
(3) . راجع ج 14 ص 65.
(4) . راجع ج 10 ص 238(2/13)
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَذِي الْقُرْبى " عَطَفَ ذِي الْقُرْبَى عَلَى الْوَالِدَيْنِ. وَالْقُرْبَى: بِمَعْنَى الْقَرَابَةِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالرُّجْعَى وَالْعُقْبَى، أَيْ وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْقَرَابَاتِ بِصِلَةِ أَرْحَامِهِمْ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا مُفَصَّلًا فِي سُورَةِ" الْقِتَالِ «1» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالْيَتامى " الْيَتَامَى عُطِفَ أَيْضًا، وَهُوَ جَمْعُ يَتِيمٍ، مِثْلُ نَدامَى جَمْعُ نَدِيمٍ. وَالَيْتُمْ فِي بَنِي آدَمَ بِفَقْدِ الْأَبِ، وَفِي الْبَهَائِمِ بِفَقْدِ الْأُمِّ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْيَتِيمَ يُقَالُ فِي بَنِي آدَمَ فِي فَقْدِ الْأُمِّ، وَالْأَوَّلُ الْمَعْرُوفُ. وَأَصْلُهُ الِانْفِرَادُ، يُقَالُ: صَبِيٌّ يَتِيمٌ، أي منفرد من أبيه. وبئت يتيم: أي ليس قبله ولا بعده شي مِنَ الشِّعْرِ. وَدُرَّةٌ يَتِيمَةٌ: لَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْإِبْطَاءُ، فَسُمِّيَ بِهِ الْيَتِيمُ، لِأَنَّ الْبِرَّ يُبْطِئُ عَنْهُ. وَيُقَالُ: يَتُمَ يَيْتُمُ يُتْمًا، مِثْلَ عَظُمَ يَعْظُمُ. وَيَتِمَ يَيْتَمُ يُتْمًا وَيَتَمًا، مِثْلَ سَمِعَ يَسْمَعُ، ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ الْفَرَّاءُ. وَقَدْ أَيْتَمَهُ اللَّهُ. وَيَدُلُّ هَذَا عَلَى الرَّأْفَةِ بِالْيَتِيمِ وَالْحَضِّ عَلَى كَفَالَتِهِ وَحِفْظِ مَالِهِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" النِّسَاءِ «2» ". وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ) . وَأَشَارَ مَالِكٌ «3» بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَخَرَّجَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ أَبِي سَعِيدٍ الْبَصْرِيِّ وَهُوَ الْحَسَنُ بْنُ وَاصِلٍ «4» قَالَ حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ هِصَّانَ «5» عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا قَعَدَ يَتِيمٌ مَعَ قَوْمٍ عَلَى قَصْعَتِهِمْ فَيَقْرَبَ قَصْعَتَهُمُ الشَّيْطَانُ) . وَخُرِّجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ قَيْسٍ وَهُوَ أَبُو عَلِيٍّ الرَّحَبِيُّ «6» عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ ضَمَّ يَتِيمًا من بين ملمين إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ حَتَّى يُغْنِيَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ أَلْبَتَّةَ إِلَّا أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا لَا يُغْفَرُ وَمَنْ أَذْهَبَ اللَّهُ كَرِيمَتَيْهِ فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ- قَالُوا: وَمَا كَرِيمَتَاهُ؟ قَالَ:- عَيْنَاهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ أَوْ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ فَأَنْفَقَ عَلَيْهِنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ حَتَّى يَبِنَّ «7» أَوْ يَمُتْنَ غُفِرَتْ له ذنوبه البتة
__________
(1) . راجع ج 16 ص 245.
(2) . راجع ج 5 ص 8.
(3) . مالك: أحد رواة سند هذا الحديث.
(4) . لأنه ربيب دينار.
(5) . في تهذيب التهذيب:" بكسر أوله وتشديد المهملة آخره نون" وهو ابن كاهم ويقال ابن كاهن، كان أبوه كاهنا في الجاهلية".
(6) . الرحبي (بفتح الراء والحاء المهملين وباء موحدة) : منسوب إلى رحبة بن زرعة.
(7) . يبن: يتزوجن.(2/14)
إِلَّا أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا لَا يُغْفَرُ) فَنَادَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ مِمَّنْ هَاجَرَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوِ اثْنَتَيْنِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَوِ اثْنَتَيْنِ) . فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: هَذَا وَاللَّهِ مِنْ غَرَائِبِ الْحَدِيثِ وَغُرَرِهِ. السَّادِسَةُ- السَّبَّابَةُ مِنَ الْأَصَابِعِ هِيَ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ، وَكَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُدْعَى بِالسَّبَّابَةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسُبُّونَ بِهَا، فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ كَرِهُوا هَذَا الِاسْمَ فَسَمَّوْهَا الْمُشِيرَةَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشِيرُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ فِي التَّوْحِيدِ. وَتُسَمَّى أَيْضًا بِالسَّبَّاحَةِ، جَاءَ تَسْمِيَتُهَا بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ وَغَيْرِهِ، وَلَكِنَّ اللُّغَةَ سَارَتْ بِمَا كَانَتْ تَعْرِفُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَغَلَبَتْ. وَرُوِيَ عَنْ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُشِيرَةَ مِنْهَا كَانَتْ أَطْوَلَ مِنَ الْوُسْطَى، ثُمَّ الْوُسْطَى أَقْصَرُ مِنْهَا، ثُمَّ الْبِنْصَرُ أَقْصَرُ مِنَ الْوُسْطَى. رَوَى يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مِقْسَمٍ الطَّائِفِيُّ قَالَ حَدَّثَتْنِي عَمَّتِي سَارَةُ بِنْتُ مِقْسَمٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ مَيْمُونَةَ بِنْتَ كَرْدَمٍ قَالَتْ: خَرَجْتُ فِي حَجَّةٍ حَجَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَسَأَلَهُ أَبِي عَنْ أَشْيَاءَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَتَعَجَّبُ وَأَنَا جَارِيَةٌ مِنْ طُولِ أُصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ عَلَى سَائِرِ أَصَابِعِهِ. فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ) ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: (أُحْشَرُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَكَذَا) وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ ذِكْرَ الْمَنَازِلِ وَالْإِشْرَافِ عَلَى الْخَلْقِ فَقَالَ: نُحْشَرُ هَكَذَا وَنَحْنُ مُشْرِفُونَ، وَكَذَا كَافِلُ الْيَتِيمِ تَكُونُ مَنْزِلَتُهُ رَفِيعَةً. فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ شَأْنَ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى حَمَلَ تَأْوِيلَ الْحَدِيثِ عَلَى الِانْضِمَامِ وَالِاقْتِرَابِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي مَحَلِّ الْقُرْبَةِ. وَهَذَا مَعْنًى بَعِيدٌ، لِأَنَّ مَنَازِلَ الرُّسُلِ وَالنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَرَاتِبُ مُتَبَايِنَةٌ، وَمَنَازِلُ مُخْتَلِفَةٌ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى" وَالْمَساكِينِ"" الْمَسَاكِينِ" عَطْفٌ أَيْضًا أَيْ وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَسَاكِينِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَسْكَنَتْهُمُ الْحَاجَةُ وَأَذَلَّتْهُمْ. وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْحَضَّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالْمُؤَاسَاةِ وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِ الْمَسَاكِينِ وَالضُّعَفَاءِ. رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- وَأَحْسَبُهُ قَالَ-(2/15)
وَكَالْقَائِمِ لَا «1» يَفْتُرُ وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ (. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَكَانَ طَاوُسٌ يَرَى السَّعْيَ عَلَى الْأَخَوَاتِ أَفْضَلَ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. الثامنة- قوله تعالى:" وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً"" حُسْناً" نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى لِيَحْسُنْ قَوْلُكُمْ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَقُولُوا لِلنَّاسِ قَوْلًا ذَا حُسْنٍ، فَهُوَ مَصْدَرٌ لَا عَلَى الْمَعْنَى. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" حَسَنًا" بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالسِّينِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، مِثْلُ الْبُخْلِ وَالْبَخَلِ، وَالرُّشْدِ وَالرَّشَدِ. وَحَكَى الْأَخْفَشُ:" حُسْنَى" بِغَيْرِ تَنْوِينٍ عَلَى فُعْلَى. قَالَ النَّحَّاسُ:" وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، لَا يُقَالُ مِنْ هذا شي إِلَّا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، نَحْوُ الْفُضْلَى وَالْكُبْرَى وَالْحُسْنَى، هَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ" حُسُنًا" بِضَمَّتَيْنِ، مِثْلَ" الْحُلُمِ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى قُولُوا لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَمُرُوهُمْ بِهَا. ابْنُ جُرَيْجٍ: قُولُوا لِلنَّاسِ صِدْقًا فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتغيروا نَعْتَهُ. سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ. أَبُو الْعَالِيَةِ: قُولُوا لَهُمُ الطَّيِّبَ مِنَ الْقَوْلِ، وَجَازُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَا تُحِبُّونَ أَنْ تُجَازَوْا بِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ حَضٌّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فينبغي للإنسان أن يكون قول لِلنَّاسِ لَيِّنًا وَوَجْهُهُ مُنْبَسِطًا طَلْقًا مَعَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالسُّنِّيِّ وَالْمُبْتَدِعِ، مِنْ غَيْرِ مُدَاهَنَةٍ، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَكَلَّمَ مَعَهُ بِكَلَامٍ يَظُنُّ أَنَّهُ يُرْضِي مَذْهَبَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى وَهَارُونَ:" فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً «2» ". فَالْقَائِلُ لَيْسَ بِأَفْضَلَ مِنْ مُوسَى وَهَارُونَ، وَالْفَاجِرُ لَيْسَ بِأَخْبَثَ مِنْ فِرْعَوْنَ، وَقَدْ أَمَرَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِاللِّينِ مَعَهُ. وَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُمَرَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ إِنَّكَ رَجُلٌ يَجْتَمِعُ عِنْدَكَ نَاسٌ ذَوُو أَهْوَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَنَا رَجُلٌ فِيَّ حِدَّةٌ فَأَقُولُ لَهُمْ بَعْضَ الْقَوْلِ الْغَلِيظِ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ! يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:" وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً". فَدَخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَكَيْفَ بِالْحَنِيفِيِّ «3» . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: (لَا تَكُونِي فَحَّاشَةً فَإِنَّ الْفُحْشَ لَوْ كَانَ رَجُلًا لَكَانَ رَجُلَ سُوءٍ) . وَقِيلَ: أَرَادَ بِالنَّاسِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَقَوْلِهِ:" أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «4» " فَكَأَنَّهُ قَالَ: قُولُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسنا. وحكى
__________
(1) . كذا في صحيح مسلم. والذي في نسخ الأصل:" لا يفتر من صلاة ... إلخ". [.....]
(2) . راجع ج 11 ص 199.
(3) . في بعض نسخ الأصل:" فكيف في غيرهما".
(4) . راجع ج 5 ص 251.(2/16)
الْمَهْدَوِيُّ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ قَوْلَهُ:" وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً" مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَحَكَاهُ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ «1» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نَسَخَتْهَا آيَةُ السَّيْفِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ خُوطِبَتْ بِمِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا أُمِرُوا بِهِ فَلَا نَسْخَ فِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ" تَقَدَّمَ «2» الْقَوْلُ فِيهِ. وَالْخِطَابُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَزَكَاتُهُمْ هِيَ الَّتِي كَانُوا يَضَعُونَهَا فَتَنْزِلُ النَّارُ عَلَى مَا يُتَقَبَّلُ، وَلَا تَنْزِلُ عَلَى مَا لَمْ يُتَقَبَّلْ، وَلَمْ تَكُنْ كَزَكَاةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْغَنَائِمِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الزَّكَاةُ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا طَاعَةُ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصُ. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ" الْخِطَابُ لِمُعَاصِرِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَسْنَدَ إِلَيْهِمْ تَوَلِّي أَسْلَافِهِمْ إِذْ هُمْ كُلُّهُمْ بِتِلْكَ السَّبِيلِ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَقِّ مِثْلُهُمْ، كَمَا قَالَ:" شِنْشِنَةٌ «3» أعرفها من أخزم"." إِلَّا قَلِيلًا" كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ. و" قَلِيلًا" نُصِبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمُسْتَثْنَى عِنْدَ سِيبَوَيْهِ مَنْصُوبٌ، لأنه مشبه بالمفعول. وقال محمد ابن يَزِيدَ: هُوَ مَفْعُولٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، الْمَعْنَى اسْتَثْنَيْتُ قَلِيلًا." وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَالْإِعْرَاضُ وَالتَّوَلِّي بِمَعْنًى وَاحِدٍ، مُخَالَفٌ بَيْنَهُمَا فِي اللَّفْظِ. وَقِيلَ: التولي بِالْجِسْمِ، وَالْإِعْرَاضُ بِالْقَلْبِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ:" وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ" حَالٌ، لِأَنَّ التَّوَلِّيَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْإِعْرَاضِ.
__________
(1) . في بعض نسخ الأصل:" عبد الرحمن".
(2) . يراجع ج 1 ص 164، 343 طبعه ثانية.
(3) . الشنشنة (بالكسر) : الطبيعة والخليقة والسجية. قال الأصمعي: وهذا بيت رجز تمثل به لابن أخزم الطائي، وهو:
إن بنى زملوني بالدم ... شنشنة أعرفها من أخزم
من يلق آساد الرجال يكلم
قال ابن برى: كان أخزم عاقا لأبيه فمات وترك بنين وعقوا جدهم وضربوه وأموه، فقال ذلك. (عن اللسان) .(2/17)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
[سورة البقرة (2) : آية 84]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ" تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ «1» ." لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ" الْمُرَادُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَدَخَلَ فِيهِ بِالْمَعْنَى مَنْ بَعْدَهُمْ." لَا تَسْفِكُونَ" مِثْلُ" لَا تَعْبُدُونَ" «2» فِي الْإِعْرَابِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ بِضَمِّ الْفَاءِ وَهِيَ لُغَةٌ، وَأَبُو نَهِيكٍ" تُسَفِّكُونَ" بِضَمِّ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ وفتح السين. والسفك: الصب. وقد تقدم «3» ." وَلا تُخْرِجُونَ" مَعْطُوفٌ." أَنْفُسَكُمْ" النَّفْسُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّفَاسَةِ، فَنَفْسُ الْإِنْسَانِ أَشْرَفُ مَا فِيهِ. وَالدَّارُ: الْمَنْزِلُ الَّذِي فِيهِ أَبْنِيَةُ الْمَقَامِ بِخِلَافِ مَنْزِلِ الِارْتِحَالِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: كُلُّ مَوْضِعٍ حَلَّهُ قَوْمٌ فَهُوَ دَارٌ لَهُمْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ أَبْنِيَةٌ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ دَارًا لِدَوْرِهَا عَلَى سُكَّانِهَا، كَمَا سُمِّيَ الْحَائِطُ حَائِطًا لِإِحَاطَتِهِ عَلَى مَا يحويه. و" أَقْرَرْتُمْ" مِنَ الْإِقْرَارِ، أَيْ بِهَذَا الْمِيثَاقِ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْكُمْ وَعَلَى أَوَائِلِكُمْ." وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ" مِنَ الشَّهَادَةِ، أَيْ شُهَدَاءُ بِقُلُوبِكُمْ عَلَى هَذَا وَقِيلَ: الشَّهَادَةُ بِمَعْنَى الْحُضُورِ، أَيْ تَحْضُرُونَ سَفْكَ دِمَائِكُمْ، وَإِخْرَاجَ أَنْفُسِكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ. الثَّانِيَةُ- فَإِنْ قِيلَ: وَهَلْ يَسْفِكُ أَحَدٌ دَمَهُ وَيُخْرِجُ نَفْسَهُ مِنْ دَارِهِ؟ قِيلَ لَهُ لَمَّا كَانَتْ مِلَّتُهُمْ وَاحِدَةً وَأَمْرُهُمْ واحد وَكَانُوا فِي الْأُمَمِ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ جُعِلَ قَتْلُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَإِخْرَاجُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا قَتْلًا لِأَنْفُسِهِمْ وَنَفْيًا لَهَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْقِصَاصُ، أَيْ لَا يَقْتُلْ أَحَدٌ فَيُقْتَلَ قِصَاصًا، فَكَأَنَّهُ سَفَكَ دَمَهُ. وَكَذَلِكَ لَا يَزْنِي وَلَا يَرْتَدَّ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُبِيحُ الدَّمَ. وَلَا يُفْسِدْ فَيُنْفَى، فَيَكُونُ قَدْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ دِيَارِهِ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِيهِ بُعْدٌ وَإِنْ كَانَ صَحِيحَ الْمَعْنَى. وَإِنَّمَا كَانَ الْأَمْرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخَذَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ مِيثَاقًا أَلَّا يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَنْفِيَهُ وَلَا يَسْتَرِقَّهُ، وَلَا يَدَعَهُ يَسْرِقُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطَّاعَاتِ.
__________
(1) . راجع ج 1 ص 436.
(2) . راجع ص 13 من هذا الجزء
(3) . راجع ج 1 ص 275 طبعه ثانية.(2/18)
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
قلت: وهذا كله محترم عَلَيْنَا، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْفِتَنِ فِينَا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! وَفِي التَّنْزِيلِ:" أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ «1» " وَسَيَأْتِي. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَقَدْ يَجُوزُ أن يراد به الظاهر، لا يقتل الإنسانية نفسه، ولا يخرج من داره سفها، كم تَقْتُلُ الْهِنْدُ أَنْفُسَهَا. أَوْ يَقْتُلُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ مِنْ جَهْدٍ وَبَلَاءٍ يُصِيبُهُ، أَوْ يَهِيمُ فِي الصَّحْرَاءِ وَلَا يَأْوِي الْبُيُوتَ جَهْلًا فِي دِيَانَتِهِ وَسَفَهًا فِي حِلْمِهِ: فَهُوَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ بَايَعَ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَزَمُوا أَنْ يَلْبَسُوا الْمُسُوحَ، وَأَنْ يَهِيمُوا فِي الصَّحْرَاءِ وَلَا يَأْوُوا الْبُيُوتَ: وَلَا يَأْكُلُوا اللَّحْمَ وَلَا يَغْشَوُا النِّسَاءَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ إِلَى دَارِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: (مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْ عُثْمَانَ) ؟ وَكَرِهَتْ أَنْ تُفْشِيَ سِرَّ زَوْجِهَا، وَأَنْ تَكْذِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَكَ شي فَهُوَ كَمَا بَلَغَكَ، فَقَالَ: (قُولِي لِعُثْمَانَ أَخِلَافٌ لِسُنَّتِي أَمْ عَلَى غَيْرِ مِلَّتِي إِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَغْشَى النِّسَاءَ وَآوِي الْبُيُوتَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) فَرَجَعَ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 85 الى 86]
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ"" أَنْتُمْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَلَا يُعْرَبُ، لِأَنَّهُ مُضْمَرٌ. وَضُمَّتِ التَّاءُ مِنْ" أَنْتُمْ" لِأَنَّهَا كَانَتْ مَفْتُوحَةً إِذَا خاطبت واحدا مذكرا، ومكسورة
__________
(1) . راجع ج 7 ص 9.(2/19)
إِذَا خَاطَبْتَ وَاحِدَةً مُؤَنَّثَةً، فَلَمَّا ثُنِّيَتْ أَوْ جُمِعَتْ لَمْ يَبْقَ إِلَّا الضَّمَّةُ." هؤُلاءِ" قَالَ الْقُتَبِيُّ: التَّقْدِيرُ يَا هَؤُلَاءِ. قَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا خَطَأٌ عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ هَذَا أقبل. وقال الزجاج: هؤلاء بمعنى الذين. و" تَقْتُلُونَ" دَاخِلٌ فِي الصِّلَةِ، أَيْ ثُمَّ أَنْتُمُ الَّذِينَ تقتلون. وقيل:" هؤُلاءِ" رفع بالابتداء، و" أَنْتُمْ" خبر مقدم، و" تَقْتُلُونَ" حَالٌ مِنْ أُولَاءِ. وَقِيلَ:" هؤُلاءِ" نُصِبَ بِإِضْمَارِ أَعْنِي. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ" تُقَتِّلُونَ" بِضَمِّ التَّاءِ مُشَدَّدًا، وَكَذَلِكَ" فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ". وَهَذِهِ الْآيَةُ خِطَابٌ لِلْمُوَاجَهِينَ لَا يَحْتَمِلُ رَدَّهُ إِلَى الْأَسْلَافِ. نَزَلَتْ فِي بَنِي قَيْنُقَاعَ وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ مِنَ الْيَهُودِ، وَكَانَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ أَعْدَاءَ قُرَيْظَةَ، وَكَانَتِ الْأَوْسُ حُلَفَاءَ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَالْخَزْرَجُ حُلَفَاءَ بَنِي قُرَيْظَةَ. وَالنَّضِيرُ وَالْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ إِخْوَانٌ، وَقُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ أَيْضًا إِخْوَانٌ، ثُمَّ افْتَرَقُوا فَكَانُوا يَقْتَتِلُونَ، ثُمَّ يرتفع الحرب فيفدون أساراهم، فَعَيَّرَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ فَقَالَ:" وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ". قوله تعالى:" تَظاهَرُونَ" مَعْنَى" تَظاهَرُونَ" تَتَعَاوَنُونَ، مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّهْرِ، لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَوِّي بَعْضًا فَيَكُونُ لَهُ كَالظَّهْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَظَاهَرْتُمْ أَسْتَاهَ بَيْتٍ تَجَمَّعَتْ «1» ... عَلَى وَاحِدٍ لَا زِلْتُمْ قِرْنَ وَاحِدِ
وَالْإِثْمُ: الْفِعْلُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ الذَّمَّ. وَالْعُدْوَانُ: الْإِفْرَاطُ فِي الظُّلْمِ وَالتَّجَاوُزُ فِيهِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ مَكَّةَ" تَظَّاهَرُونَ" بِالتَّشْدِيدِ، يُدْغِمُونَ التَّاءَ فِي الظَّاءِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا، وَالْأَصْلُ تَتَظَاهَرُونَ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ" تَظاهَرُونَ" مُخَفَّفًا، حَذَفُوا التَّاءَ الثَّانِيَةَ لِدَلَالَةِ الْأُولَى عَلَيْهَا، وَكَذَا" وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ «2» ". وَقَرَأَ قَتَادَةُ" تَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ" وَكُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى التَّعَاوُنِ، وَمِنْهُ:" وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً «3» " وَقَوْلُهُ:" وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ" فَاعْلَمْهُ «4» . قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ" فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى " شرط، وجوابه:" تُفادُوهُمْ" و" أُسارى " نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَكَانَ أَبُو عَمْرٍو يَقُولُ: مَا صَارَ فِي أَيْدِيهِمْ فهم
__________
(1) . كذا في بعض نسخ الأصل. وفى البعض الأخر:" ... أستاه قوم ... إلخ". وقد وردت رواية البيت في تفسير الشوكاني هكذا:
تظاهرتم من كل أوب ووجهة
... إلخ
(2) . راجع ج 18 ص 189.
(3) . راجع ج 13 ص 61.
(4) . راجع ج 18 ص 191 [.....](2/20)
الْأُسَارَى، وَمَا جَاءَ مُسْتَأْسَرًا فَهُمُ الْأَسْرَى. وَلَا يَعْرِفُ أَهْلُ اللُّغَةِ مَا قَالَ أَبُو عَمْرٍو، إِنَّمَا هُوَ كَمَا تَقُولُ: سُكَارَى وَسَكْرَى. وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ" أُسارى " مَا عَدَا حَمْزَةَ فَإِنَّهُ قَرَأَ" أَسْرَى" عَلَى فَعْلَى، جَمْعُ أَسِيرٍ بِمَعْنَى مَأْسُورٍ، وَالْبَابُ- فِي تَكْسِيرِهِ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ- فَعْلَى، كَمَا تَقُولُ: قَتِيلٌ وَقَتْلَى، وَجَرِيحٌ وَجَرْحَى. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَا يَجُوزُ أَسَارَى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ أَسَارَى كَمَا يُقَالُ سَكَارَى، وَفُعَالَى هُوَ الْأَصْلُ، وَفَعَالَى دَاخِلَةٌ عَلَيْهَا. وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: يُقَالُ أَسِيرٌ وَأُسَرَاءُ، كَظَرِيفٍ وَظُرَفَاءَ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: يُقَالُ فِي جَمْعِ أسير أسرى وأسارى، وقرى بِهِمَا. وَقِيلَ: أَسَارَى (بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ) وَلَيْسَتْ بِالْعَالِيَةِ. الثَّانِيَةُ- الْأَسِيرُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِسَارِ، وَهُوَ الْقِدُّ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الْمَحْمَلُ فَسُمِّيَ أَسِيرًا، لِأَنَّهُ يُشَدُّ وَثَاقُهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَدْ أَسَرَ قَتَبَهُ «1» ، أَيْ شَدَّهُ، ثُمَّ سُمِّيَ كُلُّ أَخِيذٍ أَسِيرًا وَإِنْ لَمْ يُؤْسَرْ، وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَقَيَّدَنِي الشِّعْرُ فِي بَيْتِهِ ... كَمَا قَيَّدَ الْآسِرَاتُ الْحِمَارَا «2»
أَيْ أنا في بيته، يريد ذلك بُلُوغَهُ النِّهَايَةَ فِيهِ. فَأَمَّا الْأَسْرُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ «3» " فَهُوَ الْخَلْقُ. وَأُسْرَةُ الرجل رهطه، لأنه يتقوى بهم. الثالثة- قوله تعالى:" تُفادُوهُمْ" كَذَا قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ. وَالْبَاقُونَ" تَفْدُوهُمْ" مِنَ الْفِدَاءِ. وَالْفِدَاءُ: طَلَبُ الْفِدْيَةِ فِي الْأَسِيرِ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ:" الْفِدَاءُ إِذَا كُسِرَ أَوَّلُهُ يُمَدُّ وَيُقْصَرُ، وَإِذَا فُتِحَ فَهُوَ مَقْصُورٌ، يُقَالُ: قُمْ فَدًى لَكَ أَبِي. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَكْسِرُ" فِدَاءً" بِالتَّنْوِينِ إِذَا جَاوَرَ لَامَ الْجَرِّ خَاصَّةً، فَيَقُولُ: فِدَاءً لَكَ، لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ يُرِيدُونَ بِهِ مَعْنَى الدُّعَاءِ. وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ لِلنَّابِغَةِ:
مَهْلًا فِدَاءً لَكَ الْأَقْوَامُ كُلُّهُمْ ... وَمَا أُثَمِّرُ مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ
وَيُقَالُ: فَدَاهُ وَفَادَاهُ إِذَا أَعْطَى فِدَاءَهُ فَأَنْقَذَهُ. وَفَدَاهُ بِنَفْسِهِ، وَفَدَاهُ يَفْدِيهِ إِذَا قَالَ جُعِلْتُ فِدَاكَ. وَتَفَادَوْا، أَيْ فَدَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا". وَالْفِدْيَةُ وَالْفِدَى والفداء كله بمعنى واحد.
__________
(1) . القتب (بكسر فسكون وبالتحريك أيضا) : رحل صغير على قدر سنام البعير.
(2) . الحمار: من معانيه أنه خشبة في مقدم الرحل تقبض؟ المرأة. وقيل: العود الذي يحمل عليه الأقتاب. والاسرات: النساء اللواتي يؤكدون الرحال بالقد ويوثقنها.
(3) . راجع ج 19 ص 149(2/21)
وَفَادَيْتُ نَفْسِي إِذَا أَطْلَقْتَهَا بَعْدَ أَنْ دَفَعْتَ شَيْئًا، بِمَعْنَى فَدَيْتُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَبَّاسِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلًا. وَهُمَا فِعْلَانِ يَتَعَدَّيَانِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ الثَّانِي مِنْهُمَا بِحَرْفِ الْجَرِّ، تَقُولُ: فَدَيْتُ نَفْسِي بِمَالِي وَفَادَيْتُهُ بِمَالِي، قَالَ الشَّاعِرُ:
قِفِي فَادِي أَسِيرَكِ إِنَّ قَوْمِي ... وَقَوْمَكِ مَا أَرَى لَهُمُ اجْتِمَاعَا
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ"" هُوَ" مبتدأ وهو كناية عن الإخراج، و" مُحَرَّمٌ" خبره، و" إِخْراجُهُمْ" بَدَلٌ مِنْ" هُوَ" وَإِنْ شِئْتَ كَانَ كِنَايَةً عَنِ الْحَدِيثِ وَالْقِصَّةِ، وَالْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهُ خَبَرُهُ، أي والامر محرم عليكم إخراجهم. ف" إِخْراجُهُمْ" مبتدأ ثان. و" مُحَرَّمٌ" خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ" هُوَ"، وَفِي" مُحَرَّمٌ" ضَمِيرُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ يَعُودُ عَلَى الإخراج. ويجوز أن يكون" مُحَرَّمٌ" مبتدأ، و" إِخْراجُهُمْ" مَفْعُولَ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ يَسُدُّ مَسَدَّ خَبَرِ" مُحَرَّمٌ"، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ" هُوَ". وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ" هُوَ" عِمَادٌ، وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ خَطَأٌ لَا مَعْنًى لَهُ، لِأَنَّ الْعِمَادَ لَا يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ. وَيُقْرَأُ" وَهْوَ" بِسُكُونِ الْهَاءِ لِثِقَلِ الضَّمَّةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ «1» :
فَهْوَ لا تنمى «2» رميته ... ما له لَا عُدَّ مِنْ نَفَرِهِ وَكَذَلِكَ
إِنْ جِئْتَ بِاللَّامِ وَثُمَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «3» . قَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخَذَ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةَ عُهُودٍ: تَرْكُ الْقَتْلِ، وَتَرْكُ الْإِخْرَاجِ، وَتَرْكُ الْمُظَاهَرَةِ، وَفِدَاءُ أُسَارَاهُمْ، فَأَعْرَضُوا عَنْ كُلِّ مَا أُمِرُوا بِهِ إِلَّا الْفِدَاءَ، فَوَبَّخَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ تَوْبِيخًا يُتْلَى فَقَالَ:" أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ" وَهُوَ التَّوْرَاةُ" وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ"!! قُلْتُ: وَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ أَعْرَضْنَا نَحْنُ عَنِ الْجَمِيعِ بِالْفِتَنِ فَتَظَاهَرَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ! لَيْتَ بِالْمُسْلِمِينَ، بَلْ بِالْكَافِرِينَ! حَتَّى تَرَكْنَا إِخْوَانَنَا أَذِلَّاءَ صَاغِرِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْمُشْرِكِينَ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ!. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِدَاءُ الْأُسَارَى وَاجِبٌ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ وُجُوبَ فَكِّ الْأَسْرَى، وَبِذَلِكَ وَرَدَتِ الْآثَارُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
__________
(1) . هو امرؤ القيس، كما في اللسان وشرح الديوان.
(2) . أنميت الصيد فنمى يمنى، وذلك أن ترميه فتصيبه ويذهب عنك فيموت بعد ما يغيب.
(3) . يراجع ج 1 ص 261 طبعه ثانية.(2/22)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
فَكَّ الْأُسَارَى وَأَمَرَ بِفَكِّهِمْ، وَجَرَى بِذَلِكَ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ وَانْعَقَدَ بِهِ الْإِجْمَاعُ. وَيَجِبُ فَكُّ الْأُسَارَى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ قَامَ بِهِ مِنْهُمْ أَسْقَطَ الْفَرْضَ عَنِ الْبَاقِينَ. وَسَيَأْتِي «1» . الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ. وَالْخِزْيُ الْهَوَانُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَخَزِيَ- بِالْكَسْرِ- يَخْزَى خِزْيًا إِذَا ذَلَّ وَهَانَ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: وَقَعَ فِي بَلِيَّةٍ. وَأَخْزَاهُ اللَّهُ، وَخَزِيَ أَيْضًا يَخْزَى خِزَايَةً إِذَا اسْتَحْيَا، فَهُوَ خَزْيَانُ. وَقَوْمٌ خَزَايَا وَامْرَأَةٌ خَزْيَا. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ"" يُرَدُّونَ" بِالْيَاءِ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ" تُرَدُّونَ" بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ." إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ «2» وَكَذَلِكَ:" أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا" الآية «3» ، فلا معنى للإعادة." يَوْمَ" منصوب ب" يُرَدُّونَ".
[سورة البقرة (2) : آية 87]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ" يَعْنِي التَّوْرَاةَ." وَقَفَّيْنا" أَيْ أَتْبَعْنَا. وَالتَّقْفِيَةُ: الْإِتْبَاعُ وَالْإِرْدَافُ، مَأْخُوذٌ مِنْ إِتْبَاعِ الْقَفَا وَهُوَ مُؤَخَّرُ الْعُنُقِ. تَقُولُ اسْتَقْفَيْتُهُ إِذَا جِئْتَ مِنْ خَلْفِهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ قَافِيَةُ الشِّعْرِ، لِأَنَّهَا تَتْلُو سَائِرَ الْكَلَامِ. وَالْقَافِيَةُ: الْقَفَا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: (يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ) . وَالْقَفِيُّ وَالْقَفَاوَةُ: مَا يُدَّخَرُ مِنَ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ لِمَنْ تُرِيدُ إِكْرَامَهُ. وَقَفَوْتُ الرَّجُلَ: قَذَفْتَهُ بِفُجُورٍ. وَفُلَانٌ قِفْوَتِي أَيْ تُهَمَتِي. وَقِفْوَتِي أَيْ خِيرَتِي. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ كَأَنَّهُ مِنَ الْأَضْدَادِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مِثْلَ قوله تعالى:" ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا «4» ". وَكُلُّ رَسُولٍ جَاءَ بَعْدَ مُوسَى فَإِنَّمَا جَاءَ بإثبات التوراة والامر
__________
(1) . راجع ج 8 ص 52.
(2) . راجع ج 1 ص 466.
(3) . راجع ج 1 ص 210 طبعه ثانية.
(4) . راجع ج 12 ص 125.(2/23)
بِلُزُومِهَا إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَيُقَالُ: رُسُلٌ وَرُسْلٌ لُغَتَانِ، الْأُولَى لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالثَّانِيَةُ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُضَافًا أَوْ غَيْرَ مُضَافٍ. وَكَانَ أَبُو عَمْرٍو يُخَفِّفُ إِذَا أَضَافَ إِلَى حَرْفَيْنِ، وَيُثَقِّلُ إِذَا أَضَافَ إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ" أَيِ الْحُجَجَ وَالدَّلَالَاتِ، وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي" آلِ عِمْرَانَ" وَ" الْمَائِدَةَ" «1» ، قَالَهُ ابْنُ عباس." أَيَّدْناهُ" أَيْ قَوَّيْنَاهُ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ" آيَدْنَاهُ" بِالْمَدِّ، وَهُمَا لُغَتَانِ." بِرُوحِ الْقُدُسِ" رَوَى أَبُو مَالِكٍ وَأَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَا: جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ حَسَّانُ:
وَجِبْرِيلُ رَسُولُ اللَّهِ فِينَا ... وَرُوحُ الْقُدُسِ لَيْسَ بِهِ خَفَاءُ
قَالَ النَّحَّاسُ: وَسُمِّيَ جِبْرِيلُ رُوحًا وَأُضِيفَ إِلَى الْقُدُسِ، لِأَنَّهُ كَانَ بِتَكْوِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ رُوحًا مِنْ غَيْرِ وِلَادَةِ وَالِدٍ وَلَدَهُ، وَكَذَلِكَ سُمِّيَ عِيسَى رُوحًا لِهَذَا. وَرَوَى غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْقُدُسُ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ: الْقُدُسُ هُوَ اللَّهُ، وَرُوحُهُ جِبْرِيلُ. وَرَوَى أَبُو رَوْقٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" بِرُوحِ الْقُدُسِ" قَالَ: هُوَ الِاسْمُ الَّذِي كَانَ يُحْيِي بِهِ عِيسَى الْمَوْتَى، وَقَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَهُوَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْإِنْجِيلُ، سَمَّاهُ رُوحًا كَمَا سَمَّى اللَّهُ الْقُرْآنَ رُوحًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «2» ". وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَالْقُدُسُ: الطَّهَارَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «3» . قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ" أَيْ بِمَا لَا يُوَافِقُهَا وَيُلَائِمُهَا، وَحُذِفَتِ الْهَاءُ لِطُولِ الِاسْمِ، أَيْ بِمَا لَا تَهْوَاهُ." اسْتَكْبَرْتُمْ" عَنْ إِجَابَتِهِ احْتِقَارًا لِلرُّسُلِ، وَاسْتِبْعَادًا لِلرِّسَالَةِ. وَأَصْلُ الْهَوَى الْمَيْلُ إلى الشيء، وبجمع أَهْوَاءً، كَمَا جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ، وَلَا يُجْمَعُ أَهْوِيَةً، عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا فِي نَدًى أَنْدِيَةٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فِي لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى ذَاتِ أَنْدِيَةٍ ... لَا يُبْصِرُ الْكَلْبُ فِي ظَلْمَائِهَا الطنبا «4»
__________
(1) . راجع ج 4 ص 93، ج 6 ص 362.
(2) . راجع ج 16 ص 54.
(3) . راجع ج 1 ص 277 طبعه ثانية.
(4) . الطنب (بضم الطاء وسكون النون وضمها) : حبل الخباء والسرادق وغيرهما. [.....](2/24)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَهُوَ شَاذٌّ وَسُمِّيَ الْهَوَى هَوًى لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ إِلَى النَّارِ، وَلِذَلِكَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا فِيمَا لَيْسَ بِحَقٍّ وَفِيمَا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْحَقِّ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ: وَاللَّهِ مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ. أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ"" فَفَرِيقاً" مَنْصُوبٌ بِ" كَذَّبْتُمْ"، وَكَذَا" وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ" فَكَانَ مِمَّنْ كَذَّبُوهُ عِيسَى وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَمِمَّنْ قَتَلُوهُ يَحْيَى وَزَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ في" سبحان «1» " إن شاء الله تعالى.
[سورة البقرة (2) : آية 88]
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ (88)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا" يَعْنِي الْيَهُودَ" قُلُوبُنا غُلْفٌ" بِسُكُونِ اللَّامِ جَمْعُ أَغْلَفَ، أي عليها أغطية. وهو مثل قول:" قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ «2» " أَيْ فِي أَوْعِيَةٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ:" غُلْفٌ" عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: عَلَيْهَا طَابَعٌ. وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ غَلَّفْتُ السَّيْفَ جَعَلْتَ لَهُ غِلَافًا، فَقُلِبَ أَغْلَفَ، أَيْ مَسْتُورٌ عَنِ الْفَهْمِ وَالتَّمْيِيزِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَعْرَجُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ" غُلُفٌ" بِضَمِّ اللَّامِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ قُلُوبُنَا مُمْتَلِئَةٌ عِلْمًا لَا تَحْتَاجُ إِلَى عِلْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا غَيْرِهِ. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ غِلَافٍ. مِثْلَ خِمَارٍ وَخُمُرٍ، أَيْ قُلُوبُنَا أَوْعِيَةٌ لِلْعِلْمِ فَمَا بَالُهَا لَا تَفْهَمُ عَنْكَ وَقَدْ وَعَيْنَا عِلْمًا كَثِيرًا! وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَكَيْفَ يَعْزُبُ عَنْهَا عِلْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:" بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ" ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ السَّبَبَ فِي نُفُورِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ إِنَّمَا هُوَ أَنَّهُمْ لُعِنُوا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَاجْتِرَائِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْجَزَاءُ عَلَى الذَّنْبِ بِأَعْظَمَ مِنْهُ. وَأَصْلُ اللَّعْنِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ. وَيُقَالُ لِلذِّئْبِ: لَعِينٌ. وَلِلرَّجُلِ الطَّرِيدِ: لَعِينٌ، وَقَالَ الشَّمَّاخُ:
ذَعَرْتُ بِهِ الْقَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ ... مقام الذئب كالرجل اللعين
__________
(1) . راجع ج 10 ص 218.
(2) . راجع ج 15 ص 339.(2/25)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
وَوَجْهُ الْكَلَامِ: مَقَامُ الذِّئْبِ اللَّعِينِ كَالرَّجُلِ، فَالْمَعْنَى أَبْعَدَهُمُ اللَّهُ مِنْ رَحْمَتِهِ. وَقِيلَ: مِنْ تَوْفِيقِهِ وَهِدَايَتِهِ. وَقِيلَ: مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَهَذَا عَامٌّ." فَقَلِيلًا" نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ فَإِيمَانًا قَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: الْمَعْنَى لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِقَلِيلٍ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ وَيَكْفُرُونَ بِأَكْثَرِهِ، ويكون" فَقَلِيلًا" منصوب بنزع حرف الصفة. و" ما" صِلَةٌ، أَيْ فَقَلِيلًا يُؤْمِنُونَ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: مَعْنَاهُ لَا يُؤْمِنُونَ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، كَمَا تَقُولُ: مَا أَقَلَّ مَا يَفْعَلُ كَذَا، أَيْ لَا يَفْعَلُهُ أَلْبَتَّةَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ مَرَرْنَا بِأَرْضٍ قَلَّ مَا تُنْبِتُ الْكُرَّاثَ وَالْبَصَلَ، أَيْ لا تنبت شيئا.
[سورة البقرة (2) : آية 89]
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَمَّا جاءَهُمْ" يَعْنِي الْيَهُودَ." كِتابٌ" يَعْنِي الْقُرْآنَ." مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ" نَعْتٌ لِكِتَابٍ، وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ نَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ بِالنَّصْبِ فِيمَا رُوِيَ." لِما مَعَهُمْ" يَعْنِي التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ يُخْبِرُهُمْ بِمَا فيهما." وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ" أَيْ يَسْتَنْصِرُونَ. وَالِاسْتِفْتَاحُ الِاسْتِنْصَارُ. اسْتَفْتَحْتُ: اسْتَنْصَرْتُ. وَفِي الْحَدِيثِ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ بِصَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ، أَيْ يَسْتَنْصِرُ بِدُعَائِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ «1» . وَمِنْهُ" فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ «2» ". والنصر: فتح شي مُغْلَقٍ، فَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِمْ فَتَحْتُ الْبَابَ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «3» أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إنما نَصَرَ «4» اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِضُعَفَائِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ) . وَرَوَى النَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
__________
(1) . الذي في نهاية ابن الأثير واللسان مادة فتح:" أي يستنصر بهم".
(2) . راجع ج 6 ص 217.
(3) . يلاحظ أن راوي هذا الحديث هو سعد بن أبى وقاص، ففي سنن النسائي (ج 1 ص 65 طبع المطبعة الميمنية) باب الاستبصار بالضعيف: أخبرنا محمد بن إدريس ... عن مصعب بن سعد عن أبيه أنه ظن ... " إلخ.
(4) . الذي في سنن النسائي:" إنما ينصر الله هذه الامة بضعيفها".(2/26)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
(أَبْغُونِي الضَّعِيفَ فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ يَهُودُ خَيْبَرَ تُقَاتِلُ غَطَفَانَ فَلَمَّا الْتَقَوْا هُزِمَتْ يَهُودُ، فَعَادَتْ «1» يَهُودُ بِهَذَا الدُّعَاءِ وَقَالُوا: إِنَّا نَسْأَلُكَ بِحَقِّ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي وَعَدْتَنَا أَنْ تُخْرِجَهُ لَنَا فِي آخِرِ الزَّمَانِ إِلَّا تَنْصُرُنَا عَلَيْهِمْ. قَالَ: فَكَانُوا إِذَا الْتَقَوْا دَعَوْا بِهَذَا الدُّعَاءِ فَهَزَمُوا غَطَفَانَ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا" أَيْ بِكَ يَا مُحَمَّدُ، إِلَى قَوْلِهِ:" فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ". قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَمَّا جاءَهُمْ" جَوَابُ" لَمَّا" الْفَاءُ وَمَا بَعْدَهَا فِي قَوْلِهِ:" فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا" في قول الفراء، وجواب" فَلَمَّا" الثَّانِيَةِ" كَفَرُوا". وَقَالَ الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ: جَوَابُ" لَمَّا" مَحْذُوفٌ لِعِلْمِ السَّامِعِ، وَقَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: جواب" فَلَمَّا" في قوله:" كَفَرُوا"، وأعيدت" فَلَمَّا" الثَّانِيَةُ لِطُولِ الْكَلَامِ. وَيُفِيدُ ذَلِكَ تَقْرِيرَ الذَّنْبِ وتأكيدا له.
[سورة البقرة (2) : آية 90]
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" بِئْسَمَا اشْتَرَوْا" بِئْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُسْتَوْفِيَةٌ لِلذَّمِّ، كَمَا أَنَّ" نِعْمَ" مُسْتَوْفِيَةٌ لِلْمَدْحِ. وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَرْبَعُ لُغَاتٍ: بِئْسَ بَئْسَ بَئِسَ بِئِسَ. نِعْمَ نَعْمَ نَعِمَ نِعِمَ. وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ" مَا" فَاعِلَةُ بِئْسَ، وَلَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ وَالنَّكِرَاتِ. وَكَذَا نِعْمَ، فَتَقُولُ نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ، وَنِعْمَ رَجُلًا زَيْدٌ، فَإِذَا كَانَ مَعَهَا اسْمٌ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ فَهُوَ نَصْبٌ أَبَدًا، فَإِذَا كَانَ فِيهِ أَلِفٌ وَلَامٌ فَهُوَ رَفْعٌ أَبَدًا، وَنَصْبُ رَجُلٍ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَفِي نِعْمَ مُضْمَرٌ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ، وَزَيْدٌ مَرْفُوعٌ عَلَى وَجْهَيْنِ: عَلَى خَبَرِ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ مَنِ الْمَمْدُوحِ؟ قُلْتَ هُوَ زَيْدٌ، وَالْآخَرُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَمَا قَبْلَهُ خَبَرُهُ. وَأَجَازَ أَبُو عَلِيٍّ أَنْ تَلِيَهَا" مَا" مَوْصُولَةً وَغَيْرَ مَوْصُولَةٍ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مُبْهَمَةً تقع على الكثرة ولا تخص واحدا
__________
(1) . في ب:" فعاذت" بالذال المعجمة.(2/27)
بِعَيْنِهِ، وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: بِئْسَ الشَّيْءُ اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا. فَ" أَنْ يَكْفُرُوا" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ فِيمَا قَبْلَهُ، كَقَوْلِكَ: بِئْسَ الرَّجُلُ زَيْدٌ، وَ" مَا" عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَوْصُولَةٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ:" مَا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى التَّمْيِيزِ، كَقَوْلِكَ: بِئْسَ رَجُلًا زَيْدٌ، فَالتَّقْدِيرُ بِئْسَ شَيْئًا أَنْ يَكْفُرُوا. فَ" اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ" عَلَى هَذَا الْقَوْلِ صِفَةُ" ما". وقال الفراء:" بِئْسَمَا" بجملته شي وَاحِدٌ رُكِّبَ كَحَبَّذَا. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ اعْتِرَاضٌ، لِأَنَّهُ يَبْقَى فِعْلٌ بِلَا فَاعِلٍ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ:" ما" و" اشْتَرَوْا" بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ، وَالتَّقْدِيرُ بِئْسَ اشْتِرَاؤُهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا. وَهَذَا مَرْدُودٌ، فَإِنَّ نِعْمَ وَبِئْسَ لَا يَدْخُلَانِ عَلَى اسْمٍ مُعَيَّنٍ مُعَرَّفٍ، وَالشِّرَاءُ قَدْ تَعَرَّفَ بِإِضَافَتِهِ إِلَى الضَّمِيرِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَبْيَنُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ الْأَخْفَشِ وَسِيبَوَيْهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ:" أَنْ يَكْفُرُوا" إِنْ شِئْتَ كَانَتْ" أَنْ" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ رَدًّا عَلَى الْهَاءِ فِي بِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيِ اشْتَرَوْا أَنْفُسَهُمْ بِأَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ. فَاشْتَرَى بِمَعْنَى بَاعَ وَبِمَعْنَى ابْتَاعَ، وَالْمَعْنَى: بِئْسَ الشَّيْءُ الَّذِي اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ حَيْثُ اسْتَبْدَلُوا الْبَاطِلَ بِالْحَقِّ، وَالْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" بَغْياً" مَعْنَاهُ حَسَدًا، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، وَهُوَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَصْدَرٌ. الْأَصْمَعِيُّ: وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَدْ بَغَى الْجُرْحُ إِذَا فَسَدَ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ الطَّلَبُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الزَّانِيَةُ بَغِيًّا." أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ لِأَنْ يُنَزِّلَ، أَيْ لِأَجْلِ إِنْزَالِ اللَّهِ الْفَضْلَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ" أَنْ يُنْزِلَ" مُخَفَّفًا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا" وَما نُنَزِّلُهُ" فِي" الْحِجْرِ «1» "، وَفِي" الْأَنْعَامِ"" عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً «2» ". قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَباؤُ" أَيْ رَجَعُوا، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي الشَّرِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «3» ." بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ" تَقَدَّمَ مَعْنَى غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ «4» ، وَهُوَ عِقَابُهُ، فَقِيلَ: الْغَضَبُ الْأَوَّلُ لِعِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، وَالثَّانِي لِكُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِعِيسَى ثُمَّ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ، يَعْنِي الْيَهُودَ. وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: الْأَوَّلُ لكفرهم
__________
(1) . راجع ج 10 ص 14.
(2) . راجع ج 6 ص 418.
(3) . راجع ج 1 ص 430.
(4) . راجع ج 1 ص 149 طبعه ثانية.(2/28)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
بِالْإِنْجِيلِ، وَالثَّانِي لِكُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ التأييد وَشِدَّةُ الْحَالِ عَلَيْهِمْ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ غَضَبَيْنِ معللين بمعصيتين. و" مُهِينٌ" مَأْخُوذٌ مِنَ الْهَوَانِ، وَهُوَ مَا اقْتَضَى الْخُلُودَ فِي النَّارِ دَائِمًا بِخِلَافِ خُلُودِ الْعُصَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ تَمْحِيصٌ لَهُمْ وَتَطْهِيرٌ، كَرَجْمِ الزَّانِي وَقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" النِّسَاءِ «1» " مِنْ حَدِيثِ أَبِي سعيد الخدري، إن شاء الله تعالى.
[سورة البقرة (2) : آية 91]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا" أَيْ صَدِّقُوا" بِما أَنْزَلَ اللَّهُ" يَعْنِي الْقُرْآنَ" قالُوا نُؤْمِنُ" أَيْ نُصَدِّقُ" بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا" يَعْنِي التَّوْرَاةَ." وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ" أَيْ بِمَا سِوَاهُ، عَنِ الْفَرَّاءِ. وَقَتَادَةَ: بِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَرَاءَ بِمَعْنَى خَلْفَ، وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى قُدَّامَ. وَهِيَ مِنَ الْأَضْدَادِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ «2» " أي أمامهم، وتصغيرها ورئية (بِالْهَاءِ) وَهِيَ شَاذَّةٌ. وَانْتَصَبَ" وَراءَهُ" عَلَى الظَّرْفِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ لَقِيتُهُ مِنْ وَرَاءُ، فَتَرْفَعُهُ عَلَى الْغَايَةِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُضَافٍ تَجْعَلُهُ اسْمًا وَهُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ، كَقَوْلِكَ: مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَأَنْشَدَ:
إِذَا أَنَا لَمْ أُومَنْ عَلَيْكَ وَلَمْ يَكُنْ ... لِقَاؤُكَ إِلَّا مِنْ وَرَاءُ وراء «3»
فلت: وَمِنْهُ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: (إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ «4» ) . وَالْوَرَاءُ: وَلَدُ الْوَلَدِ أَيْضًا. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَهُوَ الْحَقُّ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ." مُصَدِّقاً
" حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ." لِما مَعَهُمْ" مَا فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِاللَّامِ، وَ" مَعَهُمْ" صِلَتُهَا، وَ" مَعَهُمْ" نُصِبَ بالاستقرار، ومن أسكن جعله حرفا.
__________
(1) . راجع ج 5 ص 87- ويأتي أيضا في المائدة والنور، راجع ج 6 ص 159، ج 21 ص 159.
(2) . راجع ج 11 ص 34.
(3) . البيت لعي بن مالك العقيلي. (عن اللسان) . [.....]
(4) . الذي في النهاية واللسان مادة (روى) :" إنى كنت، إلخ، وفيهما: هكذا يروى مبيتا على الفتح، أي من خلف حجاب".(2/29)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
قَوْلُهُ تَعَالَى" قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ" رَدٌّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ، وَتَكْذِيبٌ مِنْهُ لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ، الْمَعْنَى: فَكَيْفَ قَتَلْتُمْ وَقَدْ نُهِيتُمْ عَنْ ذَلِكَ! فَالْخِطَابُ لِمَنْ حَضَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أَسْلَافُهُمْ. وَإِنَّمَا تَوَجَّهَ الْخِطَابُ لِأَبْنَائِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَتَلُوا، كَمَا قَالَ:" وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ «1» " فَإِذَا تَوَلَّوْهُمْ فَهُمْ بِمَنْزِلَتِهِمْ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ رَضُوا فِعْلَهُمْ فَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ. وَجَاءَ" تَقْتُلُونَ" بِلَفْظِ الِاسْتِقْبَالِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ لَمَّا ارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ بِقَوْلِهِ:" مِنْ قَبْلُ". وَإِذَا لَمْ يُشْكِلْ فَجَائِزٌ أَنْ يَأْتِيَ الْمَاضِي بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْمُسْتَقْبَلُ بِمَعْنَى الْمَاضِي، قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
شَهِدَ الْحُطَيْئَةُ يَوْمَ يَلْقَى رَبَّهُ ... أَنَّ الْوَلِيدَ أَحَقُّ بِالْعُذْرِ
شَهِدَ بِمَعْنَى يَشْهَدُ." إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُعْتَقِدِينَ الْإِيمَانَ فَلِمَ رَضِيتُمْ بِقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ! وَقِيلَ:" إِنَّ" بِمَعْنَى مَا، وَأَصْلُ" لِمَ" لِمَا، حُذِفَتِ الْأَلِفُ فَرْقًا بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ وَالْخَبَرِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِنْ وُقِفَ عَلَيْهِ بِلَا هَاءٍ كَانَ لَحْنًا، وَإِنْ وقف عليه بالهاء زيد في السواد.
[سورة البقرة (2) : آية 92]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ" اللَّامُ لَامُ الْقَسَمِ. وَالْبَيِّنَاتُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ «2» " وَهِيَ الْعَصَا، وَالسُّنُونَ، وَالْيَدُ، وَالدَّمُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَفَلْقُ الْبَحْرِ. وَقِيلَ: الْبَيِّنَاتُ التَّوْرَاةُ، وَمَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ" توبيخ، وثم أَبْلَغُ مِنَ الْوَاوِ فِي التَّقْرِيعِ، أَيْ بَعْدَ النظر في الآيات، أو الإتيان بِهَا اتَّخَذْتُمْ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا فعلوا ذلك بعد مهلة من
__________
(1) . راجع ج 6 ص 254.
(2) . راجع ج 10 ص 335.(2/30)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
[سورة البقرة (2) : آية 93]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا" تَقَدَّمَ «1» الْكَلَامُ فِي هَذَا وَمَعْنَى" اسْمَعُوا" أَطِيعُوا، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِإِدْرَاكِ الْقَوْلِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ اعْمَلُوا بِمَا سَمِعْتُمْ وَالْتَزِمُوهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، أَيْ قَبِلَ وَأَجَابَ. قَالَ:
دَعَوْتُ اللَّهَ حَتَّى خِفْتُ أَلَّا ... يَكُونَ اللَّهُ يَسْمَعُ مَا أَقُولُ
أَيْ يَقْبَلُ، وَقَالَ الرَّاجِزُ:
وَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَالتَّسْلِيمُ ... خَيْرٌ وَأَعْفَى لِبَنِي تَمِيمِ
" قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا" اخْتُلِفَ هَلْ صَدَرَ مِنْهُمْ هَذَا اللفظ حقيقة باللسان نطقا، أو يكونوا فَعَلُوا فِعْلًا قَامَ مَقَامَ الْقَوْلِ فَيَكُونُ مَجَازًا، كما قال: ز
امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي ... مَهْلًا رُوَيْدًا قَدْ مَلَأْتَ بَطْنِي
وَهَذَا احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ:" نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا". قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ" أَيْ حُبُّ الْعِجْلِ. وَالْمَعْنَى: جُعِلَتْ قُلُوبُهُمْ تَشْرَبُهُ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ وَمَجَازٌ عِبَارَةٌ عَنْ تَمَكُّنِ أَمْرِ الْعِجْلِ فِي قُلُوبِهِمْ. وَفِي الْحَدِيثِ: (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ) الْحَدِيثَ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. يُقَالُ أُشْرِبَ قَلْبُهُ حُبَّ كَذَا، قَالَ زُهَيْرٌ:
فَصَحَوْتُ عَنْهَا بَعْدَ حب داخل ... والحب تشربه فؤادك داء
__________
(1) . راجع ج 1 ص 436 وما بعدها، طبعه ثانية.(2/31)
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ حُبِّ الْعِجْلِ بِالشُّرْبِ دُونَ الْأَكْلِ لِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ يَتَغَلْغَلُ فِي الْأَعْضَاءِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى بَاطِنِهَا، وَالطَّعَامُ مُجَاوِرٌ لَهَا غَيْرُ مُتَغَلْغِلٍ فِيهَا. وَقَدْ زَادَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَحَدُ التَّابِعِينَ فَقَالَ فِي زَوْجَتِهِ عَثْمَةَ، وَكَانَ عَتَبَ عَلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَمْرِ فَطَلَّقَهَا وَكَانَ مُحِبًّا لَهَا:
تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ فِي فُؤَادِي ... فَبَادِيهِ مَعَ الْخَافِي يَسِيرُ
تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ شَرَابٌ ... وَلَا حُزْنٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرُورُ
أَكَادُ إِذَا ذَكَرْتُ الْعَهْدَ مِنْهَا ... أَطِيرُ لَوَ انَّ إِنْسَانًا يَطِيرُ
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَرَدَ الْعِجْلَ وَذَرَاهُ فِي الْمَاءِ، وَقَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: اشْرَبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، فَشَرِبَ جَمِيعُهُمْ، فَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْعِجْلَ خَرَجَتْ بُرَادَةُ الذَّهَبِ عَلَى شَفَتَيْهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ مَا شَرِبَهُ أَحَدٌ إِلَّا جُنَّ، حَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ. قُلْتُ: أَمَّا تَذْرِيَتُهُ فِي الْبَحْرِ فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً «1» " وَأَمَّا شُرْبُ الْمَاءِ وَظُهُورُ الْبُرَادَةِ عَلَى الشِّفَاهِ فَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ". وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ" أَيْ إِيمَانُكُمُ الَّذِي زَعَمْتُمْ فِي قَوْلِكُمْ: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُمِرَ أَنْ يُوَبِّخَهُمْ، أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: بِئْسَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي فَعَلْتُمْ وَأَمَرَكُمْ بِهَا إِيمَانُكُمْ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي" بِئْسَما" وَالْحَمْدُ «2» لِلَّهِ وحده.
[سورة البقرة (2) : الآيات 94 الى 95]
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
لَمَّا ادَّعَتِ الْيَهُودُ دَعَاوَى بَاطِلَةً حَكَاهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ فِي كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً"، وَقَوْلُهُ:" وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى "
__________
(1) . راجع ج 11 ص 243.
(2) . راجع ص 27 من هذا الجزء.(2/32)
، وَقَالُوا:" نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «1» " أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَلْزَمَهُمُ الْحُجَّةَ فَقَالَ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ:" إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ" يَعْنِي الْجَنَّةَ." فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ" فِي أَقْوَالِكُمْ، لِأَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَانَ الْمَوْتُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا، لِمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، وَيَزُولُ عَنْهُ مِنْ أَذَى الدُّنْيَا، فَأَحْجَمُوا عَنْ تَمَنِّي ذَلِكَ فَرَقًا مِنَ اللَّهِ لِقُبْحِ أَعْمَالِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِكُفْرِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ:" نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ"، وَحِرْصِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ الْحَقِّ:" وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ" تَحْقِيقًا لِكَذِبِهِمْ. وَأَيْضًا لَوْ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا، كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَامَهُمْ «2» مِنَ النَّارِ) . وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ صَرَفَهُمْ عَنْ إِظْهَارِ التَّمَنِّي، وَقَصَرَهُمْ عَلَى الْإِمْسَاكِ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ آيَةً لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ فِي تَرْكِهِمُ التَّمَنِّي. وَحَكَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:" فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ" أَنَّ الْمُرَادَ ادْعُوا بِالْمَوْتِ عَلَى أَكْذَبِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَّا وَمِنْكُمْ: فَمَا دَعَوْا لِعِلْمِهِمْ بِكَذِبِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَالتَّمَنِّي يَكُونُ بِاللِّسَانِ تَارَةً وَبِالْقَلْبِ أُخْرَى، فَمِنْ أَيْنَ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَنَّوْهُ بِقُلُوبِهِمْ؟ قِيلَ لَهُ: نَطَقَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ" وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً" وَلَوْ تَمَنَّوْهُ بِقُلُوبِهِمْ لَأَظْهَرُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ رَدًّا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِبْطَالًا لِحُجَّتِهِ، وَهَذَا بَيِّنٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" خالِصَةً" نَصْبٌ عَلَى خَبَرِ كَانَ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَ حالًا، وَيَكُونُ" عِنْدَ اللَّهِ" فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ." أَبَداً" ظَرْفُ زَمَانٍ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، كَالْحِينِ وَالْوَقْتِ، وَهُوَ هُنَا مِنْ أَوَّلِ الْعُمُرِ إِلَى الْمَوْتِ. و" ما" فِي قَوْلِهِ" بِما" بِمَعْنَى الَّذِي وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ قَدَّمَتْهُ، وَتَكُونُ مَصْدَرِيَّةً وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى عائد. و" أَيْدِيهِمْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، حُذِفَتِ الضَّمَّةُ مِنَ الْيَاءِ لِثِقَلِهَا مَعَ الْكَسْرَةِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ حَرَّكْتَهَا، لِأَنَّ النَّصْبَ خَفِيفٌ، وَيَجُوزُ إِسْكَانُهَا فِي الشِّعْرِ." وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ.
__________
(1) . راجع ج 6 ص 120.
(2) . في بعض نسخ الأصل:" مقاعدهم".(2/33)
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
[سورة البقرة (2) : آية 96]
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ" يَعْنِي الْيَهُودَ." وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا" قِيلَ: الْمَعْنَى وَأَحْرَصُ، فَحُذِفَ" مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا" لِمَعْرِفَتِهِمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَلَّا خَيْرَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا هَذِهِ الْحَيَاةَ وَلَا عِلْمَ لَهُمْ مِنَ الْآخِرَةِ، ألا ترى قول شاعرهم:
تَمَتَّعْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ فَانِ ... مِنَ النَّشَوَاتِ وَالنِّسَاءِ الْحِسَانِ «1»
وَالضَّمِيرُ فِي" أَحَدُهُمْ" يَعُودُ فِي هَذَا الْقَوْلِ عَلَى الْيَهُودِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْكَلَامَ تَمَّ فِي" حَياةٍ" ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ الْإِخْبَارُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قِيلَ: هُمُ الْمَجُوسُ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي أَدْعِيَاتِهِمْ لِلْعَاطِسِ بِلُغَاتِهِمْ بِمَا مَعْنَاهُ" عِشْ أَلْفَ سَنَةٍ". وَخَصَّ الْأَلْفَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا نِهَايَةُ الْعَقْدِ فِي الْحِسَابِ. وَذَهَبَ الْحَسَنُ إِلَى أَنَّ" الَّذِينَ أَشْرَكُوا" مُشْرِكُو الْعَرَبِ، خُصُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ، فَهُمْ يَتَمَنَّوْنَ طُولَ الْعُمُرِ. وَأَصْلُ سَنَةٍ سَنْهَةٌ. وَقِيلَ: سَنْوَةٌ. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى وَلَتَجِدَنَّهُمْ وَطَائِفَةً مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ" أَصْلُ" يَوَدُّ" يَوْدَدْ، أُدْغِمَتْ لِئَلَّا يُجْمَعَ بَيْنَ حَرْفَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مُتَحَرِّكَيْنِ، وَقُلِبَتْ حَرَكَةُ الدَّالِ عَلَى الْوَاوِ، لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: وَدِدْتُ، فَيَجُوزُ عَلَى هَذَا يَوِدُّ بِكَسْرِ الْوَاوِ. وَمَعْنَى يَوَدُّ: يَتَمَنَّى. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ" اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي هُوَ، فَقِيلَ: هُوَ ضَمِيرُ الْأَحَدِ الْمُتَقَدِّمِ، التَّقْدِيرُ مَا أَحَدُهُمْ بِمُزَحْزِحِهِ، وَخَبَرُ الِابْتِدَاءِ فِي الْمَجْرُورِ." أَنْ يُعَمَّرَ" فَاعِلٌ بِمُزَحْزِحٍ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ ضَمِيرُ التَّعْمِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ وَمَا التَّعْمِيرُ بِمُزَحْزِحِهِ، وَالْخَبَرُ فِي الْمَجْرُورِ،" أَنْ يُعَمَّرَ" بَدَلٌ مِنَ التَّعْمِيرِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ:" هو" عماد.
__________
(1) . البيت لامرى القيس. والنشوات (جمع نشوة) : السكر.(2/34)
قُلْتُ: وَفِيهِ بُعْدٌ، فَإِنَّ حَقَّ الْعِمَادِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ، مِثْلَ قَوْلِهِ:" إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ «1» "، وَقَوْلُهُ:" وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ «2» " وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقِيلَ:" مَا" عَامِلَةٌ حجازية، و" هُوَ" اسْمُهَا، وَالْخَبَرُ فِي" بِمُزَحْزِحِهِ". وَقَالَتْ طَائِفَةٌ:" هُوَ" ضَمِيرُ الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ. ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِيهِ بُعْدٌ، فَإِنَّ الْمَحْفُوظَ عَنِ النُّحَاةِ أَنْ يُفَسَّرَ بِجُمْلَةٍ سَالِمَةٍ مِنْ حَرْفِ جَرٍّ. وَقَوْلُهُ:" بِمُزَحْزِحِهِ" الزَّحْزَحَةُ: الْإِبْعَادُ وَالتَّنْحِيَةُ، يُقَالُ: زَحْزَحْتُهُ أَيْ بَاعَدْتُهُ فَتَزَحْزَحَ أَيْ تَنَحَّى وَتَبَاعَدَ، يَكُونُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، قَالَ الشَّاعِرُ فِي الْمُتَعَدِّي:
يَا قَابِضُ الرُّوحِ مِنْ نَفْسٍ إِذَا احْتُضِرَتْ ... وَغَافِرُ الذَّنْبِ زَحْزِحْنِي عَنِ النَّارِ
وَأَنْشَدَهُ ذُو الرُّمَّةِ:
يَا قَابِضَ الرُّوحِ عَنْ جِسْمٍ عَصَى زَمَنًا ... وَغَافِرَ الذَّنْبِ زَحْزِحْنِي عَنِ النَّارِ
وَقَالَ آخَرُ فِي اللَّازِمِ:
خَلِيلَيَّ مَا بَالُ الدُّجَى لَا يَتَزَحْزَحُ ... وَمَا بَالُ ضَوْءِ الصُّبْحِ لَا يَتَوَضَّحُ
وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ زَحْزَحَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا) . قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ" أَيْ بِمَا يَعْمَلُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ أَنْ يُعَمَّرَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ. قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ اللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: وَصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ بَصِيرٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ. وَالْبَصِيرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ الْخَبِيرُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ بَصِيرٌ بِالطِّبِّ، وَبَصِيرٌ بِالْفِقْهِ، وَبَصِيرٌ بِمُلَاقَاةِ الرِّجَالِ، قَالَ:
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي ... بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْبَصِيرُ الْعَالِمُ، وَالْبَصِيرُ الْمُبْصِرُ. وَقِيلَ: وَصَفَ تَعَالَى نَفْسَهُ بِأَنَّهُ بَصِيرٌ عَلَى مَعْنَى جَاعِلِ الْأَشْيَاءِ الْمُبْصِرَةِ ذَوَاتِ إِبْصَارٍ، أَيْ مُدْرِكَةً لِلْمُبْصَرَاتِ بِمَا خَلَقَ لَهَا مِنَ الْآلَةِ الْمُدْرِكَةِ وَالْقُوَّةِ، فَاللَّهُ بَصِيرٌ بِعِبَادِهِ، أَيْ جَاعِلٌ عِبَادَهُ مُبْصِرِينَ.
__________
(1) . راجع ج 7 ص 398.
(2) . راجع ج 16 ص 115.(2/35)
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
[سورة البقرة (2) : آية 97]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا يَأْتِيهِ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ بِالرِّسَالَةِ وَبِالْوَحْيِ، فَمَنْ صَاحِبُكَ حَتَّى نُتَابِعَكَ؟ قَالَ: (جِبْرِيلُ) قَالُوا: ذَاكَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْحَرْبِ وَبِالْقِتَالِ، ذَاكَ عَدُوُّنَا! لَوْ قُلْتَ: مِيكَائِيلُ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْقَطْرِ وَبِالرَّحْمَةِ تَابَعْنَاكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ:" لِلْكافِرِينَ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ" الضَّمِيرُ فِي" إِنَّهُ" يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، الْأَوَّلُ: فَإِنَّ اللَّهَ نَزَّلَ جِبْرِيلَ عَلَى قَلْبِكَ. الثَّانِي: فَإِنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ بِالْقُرْآنِ عَلَى قَلْبِكَ. وَخُصَّ الْقَلْبُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَتَلَقِّي الْمَعَارِفِ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى شَرَفِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَمِّ مُعَادِيهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" بِإِذْنِ اللَّهِ" أَيْ بِإِرَادَتِهِ وَعِلْمِهِ." مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ" يَعْنِي التَّوْرَاةَ." وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ" تَقَدَّمَ معناه «1» ، والحمد لله.
[سورة البقرة (2) : آية 98]
مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ" شَرْطٌ، وَجَوَابُهُ" فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ". وَهَذَا وَعِيدٌ وَذَمٌّ لِمُعَادِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِعْلَانُ أَنَّ عَدَاوَةَ الْبَعْضِ تَقْتَضِي عَدَاوَةَ اللَّهِ لَهُمْ. وَعَدَاوَةَ الْعَبْدِ لِلَّهِ هي معصيته واجتناب طاعته، ومعادات أَوْلِيَائِهِ. وَعَدَاوَةَ اللَّهِ لِلْعَبْدِ تَعْذِيبُهُ وَإِظْهَارُ أَثَرِ الْعَدَاوَةِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ خَصَّ اللَّهُ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ الْمَلَائِكَةِ قَدْ عَمَّهُمَا؟ قِيلَ لَهُ: خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمَا، كَمَا قَالَ:" فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ «2» ". وَقِيلَ: خُصًّا لِأَنَّ الْيَهُودَ ذَكَرُوهُمَا، وَنَزَلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِهِمَا، فَذِكْرُهُمَا وَاجِبٌ لِئَلَّا تَقُولَ الْيَهُودُ: إِنَّا لم نعاد
__________
(1) . يراجع ج 1 ص 160، 162، 38 2 طبعه ثانية.
(2) . راجع ج 17 ص 185.(2/36)
اللَّهَ وَجَمِيعَ مَلَائِكَتِهِ، فَنَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمَا لِإِبْطَالِ مَا يَتَأَوَّلُونَهُ مِنَ التَّخْصِيصِ. وَلِعُلَمَاءِ اللِّسَانِ فِي جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لُغَاتٌ، فَأَمَّا التي في جبريل فعشر: الاولى- لِجِبْرِيلَ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
وَجِبْرِيلُ رَسُولُ اللَّهِ فِينَا
الثَّانِيَةُ- جَبْرِيلُ (بِفَتْحِ الْجِيمِ) وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَابْنِ كَثِيرٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ وَهُوَ يَقْرَأُ جَبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ فَلَا أَزَالَ أَقْرَؤُهُمَا أَبَدًا كَذَلِكَ. الثَّالِثَةُ- جَبْرَئِيلُ (بِيَاءٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، مِثَالُ جَبْرَعِيلُ) ، كَمَا قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَأَنْشَدُوا:
شَهِدْنَا فَمَا تَلْقَى لَنَا مِنْ كَتِيبَةٍ ... مَدَى الدَّهْرِ إِلَّا جَبْرَئِيلُ أَمَامُهَا «1»
وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ. الرَّابِعَةُ- جَبْرَئِلُ (عَلَى وَزْنِ جَبْرَعِلَ) مَقْصُورٌ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ. الْخَامِسَةُ- مِثْلُهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، إِلَّا أَنَّهُ شَدَّدَ اللَّامَ. السَّادِسَةُ- جَبْرَائِلُ (بِأَلِفٍ بَعْدَ الرَّاءِ ثُمَّ هَمْزَةٍ) وَبِهَا قَرَأَ عِكْرِمَةُ. السَّابِعَةُ- مِثْلُهَا، إِلَّا أَنَّ بَعْدَ الْهَمْزَةِ يَاءٌ. الثَّامِنَةُ- جبرئيل (بِيَاءَيْنِ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ) وَبِهَا قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ أَيْضًا. التَّاسِعَةُ- جَبْرَئِينُ (بِفَتْحِ الْجِيمِ مَعَ هَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ وَنُونٌ) . الْعَاشِرَةُ- جبرين (بكسر الجيم وتسكين الياء بِنُونٍ مِنْ غَيْرِ هَمْزَةٍ) وَهِيَ لُغَةُ بَنِي أَسَدٍ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَلَمْ يُقْرَأْ بِهَا. قَالَ النَّحَّاسُ- وَذَكَرَ قِرَاءَةَ ابْنِ كَثِيرٍ-:" لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَعْلِيلٌ، وَفِيهِ فِعْلِيلٌ، نَحْوُ دِهْلِيزٌ وَقِطْمِيرٌ وَبِرْطِيلٌ، وَلَيْسَ يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِ الْعَجَمِ مَا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَيْسَ يُنْكَرُ أَنْ يَكْثُرَ تغيره، كما قالوا: إبراهيم وإبرهم وإبراهم
__________
(1) . البيت لكعب بن مالك، كما في شرح القاموس. [.....](2/37)
وَإِبْرَاهَامُ". قَالَ غَيْرُهُ: جِبْرِيلُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ عَرَّبَتْهُ الْعَرَبُ، فَلَهَا فِيهِ هَذِهِ اللُّغَاتُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْصَرِفْ. قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ «1» أَنَّ الصَّحِيحَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَرَبِيَّةٌ نَزَلَ بِهَا جِبْرِيلُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَيُجْمَعُ جِبْرِيلُ عَلَى التَّكْسِيرِ جَبَارِيلَ. وَأَمَّا اللُّغَاتُ التي في ميكائيل فست: الاولى- ميكائيل، قراءة نافع. وميكائيل (بياء بعد الهمزة) قراءة حمزة. مِيكالَ، لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ الثَّلَاثَةُ أَوْجُهٌ، قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ:
وَيَوْمَ بَدْرٍ لَقِينَاكُمْ لَنَا مَدَدٌ ... فِيهِ مَعَ النصر ميكال وجبريل
وقال آخر «2» :
عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَّبُوا بِمُحَمَّدٍ ... وَبِجَبْرَئِيلَ وَكَذَّبُوا مِيكَالَا
الرَّابِعَةُ مِيكَئِيلُ، مِثْلُ مِيكَعِيلَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مُحَيْصِنٍ. الْخَامِسَةُ- مِيكَايِيلُ (بِيَاءَيْنِ) وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ. السَّادِسَةُ- مِيكَاءَلُ، كَمَا يُقَالُ (إِسْرَاءَلُ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ) ، وَهُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْصَرِفْ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ جَبْرَ وَمِيكَا وَإِسْرَافَ هِيَ كُلُّهَا بِالْأَعْجَمِيَّةِ بِمَعْنَى: عَبْدٍ وَمَمْلُوكٍ. وائل: اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ سَمِعَ سَجْعَ مُسَيْلِمَةَ: هَذَا كَلَامٌ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إِلٍّ، وَفِي التَّنْزِيلِ:" لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً" فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ، وَسَيَأْتِي «3» . قَالَ المارودي: إِنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ اسْمَانِ، أَحَدُهُمَا عَبْدُ اللَّهِ، وَالْآخَرُ عُبَيْدُ اللَّهِ، لِأَنَّ إِيلَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَجِبْرَ هُوَ عَبْدُ، وَمِيكَا هُوَ عُبَيْدُ، فَكَأَنَّ جِبْرِيلَ عَبْدُ اللَّهِ، وَمِيكَائِيلَ عُبَيْدُ اللَّهِ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي المفسرين مخالف.
__________
(1) . راجع ج 1 ص 68 طبعه ثانية.
(2) . هو جرير، كما في ديوانه.
(3) . راجع ج 8 ص 79(2/38)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)
قُلْتُ: وَزَادَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: وَإِسْرَافِيلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَمَنْ تَأَوَّلَ الْحَدِيثَ" جِبْرَ" عَبْدَ، وَ" إِلَّ" اللَّهَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: هذا جبرئل ورأيت جبرئل ومررت بجبريل، وَهَذَا لَا يُقَالُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ مُسَمًّى بِهَذَا. قَالَ غَيْرُهُ: وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَكَانَ مَصْرُوفًا، فَتَرْكُ الصَّرْفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ وَاحِدٌ مُفْرَدٌ لَيْسَ بِمُضَافٍ. وَرَوَى عَبْدُ الْغَنِيِّ الْحَافِظُ مِنْ حَدِيثِ أَفْلَتَ بْنِ خَلِيفَةَ- وَهُوَ فُلَيْتٌ الْعَامِرِيُّ وَهُوَ أَبُو حَسَّانَ- عَنْ جَسْرَةَ بِنْتِ دَجَاجَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللَّهُمَّ رَبَّ جبريل وميكائل وَإِسْرَافِيلَ أَعُوَذُ بِكَ مِنْ حَرِّ النَّارِ وَعَذَابِ القبر) .
[سورة البقرة (2) : آية 99]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هَذَا جَوَابٌ لِابْنِ صُورِيَّا «1» حَيْثُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ مَا جِئْتَنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفُهُ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ فَنَتَّبِعَكَ بِهَا؟ فأنزل الله هذه الآية، ذكره الطبري.
[سورة البقرة (2) : آية 100]
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً" الْوَاوُ وَاوُ الْعَطْفِ، دَخَلَتْ عَلَيْهَا أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا تَدْخُلُ عَلَى الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ:" أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ «2» "،" أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ «3» "،" أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ «4» ". وَعَلَى ثُمَّ كَقَوْلِهِ:" أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ «5» " هَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ. وَمَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ أَنَّهَا أَوْ، حُرِّكَتِ الْوَاوُ مِنْهَا تَسْهِيلًا. وَقَرَأَهَا قَوْمٌ أَوْ، سَاكِنَةَ الْوَاوِ فَتَجِيءُ بِمَعْنَى بَلْ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: لَأَضْرِبَنَّكَ، فَيَقُولُ الْمُجِيبُ: أَوْ يَكْفِي اللَّهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كُلُّهُ مُتَكَلَّفٌ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ." كُلَّما" نصب على الظرف، والمعني
__________
(1) . كذا في نسخ الأصل وتفسير الطبري وأسباب النزول للواحدي. وفى سيرة ابن هشام (ص 379 طبع أوربا) :" أبو صلوبا الفطيونى".
(2) . راجع ج 6 ص 214.
(3) . راجع ج 8 ص 346.
(4) . راجع ج 10 ص 420.
(5) . راجع ج 8 ص 351.(2/39)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
فِي الْآيَةِ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، وَيُقَالُ فِيهِ ابْنُ الضَّيْفِ «1» ، كَانَ قَدْ قَالَ: وَاللَّهُ مَا أُخِذَ عَلَيْنَا عَهْدٌ فِي كِتَابِنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ وَلَا مِيثَاقَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْيَهُودَ عَاهَدُوا لَئِنْ خَرَجَ مُحَمَّدٌ لَنُؤْمِنُ بِهِ وَلَنَكُونَنَّ مَعَهُ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَلَمَّا بُعِثَ كَفَرُوا بِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ الْعُهُودُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْيَهُودِ فَنَقَضُوهَا كَفِعْلِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، دَلِيلُهُ قول تَعَالَى:" الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ «2» ". قَوْلُهُ تَعَالَى:" نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ" النَّبْذُ: الطَّرْحُ وَالْإِلْقَاءُ، وَمِنْهُ النَّبِيذُ وَالْمَنْبُوذُ، قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ:
وَخَبَّرَنِي مَنْ كُنْتُ أَرْسَلْتُ إِنَّمَا ... أَخَذْتَ كِتَابِي مُعْرِضًا بِشِمَالِكَا
نَظَرْتَ إِلَى عُنْوَانِهِ فَنَبَذْتَهُ ... كَنَبْذِكَ نَعْلًا أَخَلَقَتْ مِنْ نِعَالِكَا
آخَرُ:
إِنَّ الَّذِينَ أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا ... نَبَذُوا كِتَابَكَ وَاسْتَحَلُّوا الْمَحْرَمَا
وَهَذَا مَثَلٌ يُضْرَبُ لِمَنِ اسْتَخَفَّ بِالشَّيْءِ فَلَا يَعْمَلُ بِهِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: اجْعَلْ هَذَا خَلْفَ ظَهْرِكَ، وَدُبُرًا مِنْكَ، وَتَحْتَ قَدَمِكَ، أَيِ اتْرُكْهُ وَأَعْرِضْ عَنْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا «3» ". وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ:
تَمِيمُ بْنُ زَيْدٍ لَا تَكُونَنَّ حَاجَتِي ... بِظَهْرٍ فَلَا يَعْيَا عَلَيَّ جَوَابُهَا «4»
" بَلْ أَكْثَرُهُمْ" ابْتِدَاءٌ." لَا يُؤْمِنُونَ" فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ فِي موضع الخبر.
[سورة البقرة (2) : آية 101]
وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
__________
(1) . في 1 ب، ح:" الصيت" بالتاء المثناة، وفى ج:" الصيب" بالباء. والتصويب عن سيرة ابن هشام ص 352 طبع أوربا.
(2) . ج 8 ص 30.
(3) . ج 9 ص 91.
(4) . البيت للفرزدق، يخاطب تميم بن زيد القينى وكان على السند. (عن النقائض ص 381) طبع أوربا.(2/40)
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ" نَعْتٌ لِرَسُولٍ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ." نَبَذَ فَرِيقٌ" جَوَابٌ" لَمَّا"." مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ" نُصِبَ بِ" نَبَذَ"، وَالْمُرَادُ التَّوْرَاةُ، لِأَنَّ كُفْرَهُمْ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَكْذِيبَهُمْ لَهُ نَبْذٌ لَهَا. قَالَ السُّدِّيُّ: نَبَذُوا التَّوْرَاةَ وَأَخَذُوا بِكِتَابِ آصِفَ، وَسِحْرِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَعْنِيَ بِهِ الْقُرْآنَ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَقْرَءُونَهُ، وَلَكِنْ نَبَذُوا الْعَمَلَ بِهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَدْرَجُوهُ فِي الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَحَلَّوْهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَمْ يُحِلُّوا حَلَالَهُ وَلَمْ يُحَرِّمُوا حَرَامَهُ، فَذَلِكَ النَّبْذُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُسْتَوْفًى «1» ." كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" تَشْبِيهٌ بِمَنْ لَا يَعْلَمُ إِذْ فَعَلُوا فِعْلَ الْجَاهِلِ فَيَجِيءُ مِنَ اللَّفْظِ أَنَّهُمْ كفروا على علم.
[سورة البقرة (2) : آية 102]
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102)
فِيهِ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ" هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الطَّائِفَةِ الَّذِينَ نَبَذُوا الْكِتَابَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا السِّحْرَ أَيْضًا، وَهُمُ الْيَهُودُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَارَضَتِ الْيَهُودُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوْرَاةِ فَاتَّفَقَتِ التَّوْرَاةُ وَالْقُرْآنُ فَنَبَذُوا التَّوْرَاةَ وَأَخَذُوا بِكِتَابِ آصِفِ وَبِسِحْرِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُلَيْمَانَ فِي الْمُرْسَلِينَ قَالَ بَعْضُ أَحْبَارِهِمْ: يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّ ابْنَ داود
__________
(1) . في الصفحة السابقة.(2/41)
كَانَ نَبِيًّا! وَاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا سَاحِرًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا" أَيْ أَلْقَتْ إِلَى بَنِي آدَمَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ سُلَيْمَانُ مِنْ رُكُوبِ الْبَحْرِ وَاسْتِسْخَارِ الطَّيْرِ وَالشَّيَاطِينِ كَانَ سِحْرًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَتَبَتِ الشَّيَاطِينُ السِّحْرَ وَالنِّيرَنْجِيَّاتِ «1» عَلَى لِسَانِ آصِفَ كَاتِبَ سُلَيْمَانَ، وَدَفَنُوهُ تَحْتَ مُصَلَّاهُ حِينَ انْتَزَعَ اللَّهُ مُلْكَهُ وَلَمْ يَشْعُرْ بِذَلِكَ سُلَيْمَانُ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ اسْتَخْرَجُوهُ وَقَالُوا لِلنَّاسِ: إِنَّمَا مَلَكَكُمْ بِهَذَا فَتَعَلَّمُوهُ، فَأَمَّا عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ هَذَا عِلْمُ سُلَيْمَانَ! وَأَمَّا السَّفَلَةُ فَقَالُوا: هَذَا عِلْمُ سُلَيْمَانَ، وَأَقْبَلُوا عَلَى تَعْلِيمِهِ وَرَفَضُوا كُتُبَ أَنْبِيَائِهِمْ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ عُذْرَ سُلَيْمَانَ وَأَظْهَرَ بَرَاءَتَهُ مِمَّا رُمِيَ بِهِ فَقَالَ:" وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ". قال عطاء:" تَتْلُوا" تقرأ من التلاوة. وقال ابن عباس:" تَتْلُوا" تَتْبَعُ، كَمَا تَقُولُ: جَاءَ الْقَوْمُ يَتْلُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ:" اتَّبَعُوا" بِمَعْنَى فَضَّلُوا. قُلْتُ: لِأَنَّ كُلَّ مَنِ اتَّبَعَ شَيْئًا وَجَعَلَهُ أَمَامَهُ فقد فضله على غيره، ومعنى" تَتْلُوا" يَعْنِي تَلَتْ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِذَا مَرَرْتَ بِقَبْرِهِ فَاعْقِرْ بِهِ ... كُومَ الْهِجَانِ «2» وَكُلَّ طَرَفٍ سَابِحِ
وَانَضَحْ جَوَانِبَ قَبْرِهِ بِدِمَائِهَا ... فلقد يكون أخادم وذبائح
أي فلقد كان. و" ما" مَفْعُولُ بِ" اتَّبَعُوا" أَيِ اتَّبَعُوا مَا تَقَوَّلَتْهُ الشَّيَاطِينُ عَلَى سُلَيْمَانَ وَتَلَتْهُ. وَقِيلَ:" مَا" نَفْيٌ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لَا فِي نِظَامِ الْكَلَامِ وَلَا في صحته، قال ابْنُ الْعَرَبِيِّ." عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ" أَيْ عَلَى شرعه ونبوته. قال الزجاج: المعنى عَلَى عَهْدِ مُلْكِ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ، يَعْنِي فِي قَصَصِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَخْبَارِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: تَصْلُحُ عَلَى وَفِي، فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَالَ" عَلى " وَلَمْ يَقُلْ بَعْدَ لقوله تعالى:
__________
(1) . اختلفت الأصول في رسم هذه الكلمة، والذي في القاموس:" النيرنج" قال شارح القاموس:" هكذا في سائر النسخ، والمنقول عن نص كلام الليث:" النيرج" بإسقاط النون الثانية. وكذا ورد في اللسان. وهو أحد كالسحر وليس به، إنما هو تشبيه وتلبيس". [.....]
(2) . الكوم (بالضم) : جمع كوماء، وهى الناقة العظيمة السنام. والهجان من الإبل: البيض الكرام.(2/42)
" وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ «1» " أَيْ فِي تِلَاوَتِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الشَّيْطَانِ وَاشْتِقَاقِهِ، فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ «2» . وَالشَّيَاطِينُ هُنَا قِيلَ: هُمْ شَيَاطِينُ الْجِنِّ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا الِاسْمِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ الْمُتَمَرِّدُونَ فِي الضَّلَالِ، كَقَوْلِ جَرِيرٍ:
أَيَّامَ يَدْعُونَنِي الشَّيْطَانَ مِنْ غَزَلِي ... وَكُنَّ يَهْوَيْنَنِي إِذْ كُنْتُ شَيْطَانًا
الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ" تَبْرِئَةٌ مِنَ اللَّهِ لِسُلَيْمَانَ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِي الْآيَةِ أَنَّ أَحَدًا نَسَبَهُ إِلَى الْكُفْرِ، وَلَكِنَّ الْيَهُودَ نَسَبَتْهُ إِلَى السِّحْرِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ السِّحْرُ كُفْرًا صَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ نَسَبَهُ إِلَى الْكُفْرِ. ثُمَّ قَالَ:" وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا" فَأَثْبَتَ كُفْرَهُمْ بتعليم السحر. و" يُعَلِّمُونَ: فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثَانٍ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ سِوَى عَاصِمٍ" وَلَكِنِ الشَّيَاطِينُ" بِتَخْفِيفِ" لَكِنْ"، وَرَفْعِ النُّونِ مِنْ" الشَّيَاطِينِ"، وَكَذَلِكَ فِي الْأَنْفَالِ" وَلَكِنِ اللَّهُ رَمَى «3» " وَوَافَقَهُمِ ابْنُ عَامِرٍ. الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَالنَّصْبِ. وَ" لَكِنَّ" كَلِمَةً لَهَا مَعْنَيَانِ: نَفْيُ الْخَبَرِ الْمَاضِي، وَإِثْبَاتُ الْخَبَرِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ مِنْ ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ: لَا، كِ، إِنَّ." لَا" نَفْيٌ، وَ" الْكَافُ" خِطَابٌ، وَ" إِنَّ" إِثْبَاتٌ وَتَحْقِيقٌ، فَذَهَبَتِ الْهَمْزَةُ اسْتِثْقَالًا، وَهِيَ تُثَقَّلُ وَتُخَفَّفُ، فَإِذَا ثُقِّلَتْ نَصَبَتْ كَإِنَّ الثَّقِيلَةِ، وَإِذَا خُفِّفَتْ رَفَعْتَ بِهَا كَمَا تَرْفَعُ بِإِنِ الْخَفِيفَةِ. الثَّالِثَةُ- السِّحْرُ، قِيلَ: السِّحْرُ أَصْلُهُ التمويه بالحيل والتخائيل، وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ السَّاحِرُ أَشْيَاءَ وَمَعَانِيَ، فَيُخَيَّلُ لِلْمَسْحُورِ أَنَّهَا بِخِلَافٍ مَا هِيَ بِهِ، كَالَّذِي يَرَى السَّرَابَ مِنْ بَعِيدٍ فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ مَاءٌ، وَكَرَاكِبِ السَّفِينَةِ السَّائِرَةِ سَيْرًا حَثِيثًا يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّ مَا يَرَى مِنَ الْأَشْجَارِ وَالْجِبَالِ سَائِرَةٌ مَعَهُ. وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ سَحَرْتُ الصَّبِيَّ إِذَا خَدَعْتَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَلَّلْتَهُ، وَالتَّسْحِيرُ مِثْلُهُ، قَالَ لَبِيَدٌ:
فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا ... عصافير من هذا الأنام المسحر
__________
(1) . راجع ج 12 ص 79.
(2) . راجع ج 1 ص 90 طبعه ثانية.
(3) . راجع ج 7 ص 384.(2/43)
آخر «1» :
أَرَانَا مُوضِعِينَ لِأَمْرِ غَيْبٍ «2» ... وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ
عَصَافِيرٌ وَذِبَّانٌ وَدُودٌ ... وَأَجْرَأُ مِنْ مُجَلِّحَةِ «3» الذِّئَابِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ" يُقَالُ: الْمُسَحَّرُ الَّذِي خُلِقَ ذَا سَحَرٍ، وَيُقَالُ مِنَ الْمُعَلَّلِينَ، أَيْ مِمَّنْ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَشْرَبُ الشَّرَابَ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْخَفَاءُ، فَإِنَّ السَّاحِرَ يَفْعَلُهُ فِي خُفْيَةٍ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ الصَّرْفُ، يُقَالُ: مَا سَحَرَكَ عَنْ كَذَا، أَيْ مَا صَرَفَكَ عَنْهُ، فَالسِّحْرُ مَصْرُوفٌ عَنْ جِهَتِهِ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ الِاسْتِمَالَةُ، وَكُلُّ مَنِ اسْتَمَالَكَ فَقَدْ سَحَرَكَ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ" أَيْ سُحِرْنَا فَأُزِلْنَا بِالتَّخْيِيلِ عَنْ مَعْرِفَتِنَا. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: السِّحْرُ الْأَخْذَةُ، وَكُلُّ مَا لَطُفَ مَأْخَذُهُ وَدَقَّ فَهُوَ سِحْرٌ، وَقَدْ سَحَرَهُ يَسْحَرُهُ سِحْرًا. وَالسَّاحِرُ: الْعَالِمُ، وَسَحَرَهُ أَيْضًا بِمَعْنَى خَدَعَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنَّا نُسَمِّي السِّحْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْعِضَهَ. وَالْعِضَهُ عِنْدَ الْعَرَبِ: شِدَّةُ الْبَهْتِ وَتَمْوِيهُ الْكَذِبِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَعُوَذُ بِرَبِّي مِنَ النَّافِثَا ... تَ فِي عِضَهِ الْعَاضِهِ الْمُعْضِهِ
الرَّابِعَةُ وَاخْتُلِفَ هَلْ لَهُ حَقِيقَةٌ أَمْ لَا، فَذَكَرَ الْغَزْنَوِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي عُيُونِ الْمَعَانِي لَهُ: أَنَّ السِّحْرَ الْمُعْتَزِلَةِ خُدَعٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَسْوَسَةٌ وَأَمْرَاضٌ. قَالَ: وَعِنْدَنَا أَصْلُهُ طِلَّسْمٌ يُبْنَى عَلَى تَأْثِيرِ خَصَائِصِ الْكَوَاكِبِ، كَتَأْثِيرِ الشَّمْسِ فِي زِئْبَقِ عِصِيِّ فِرْعَوْنَ، أَوْ تَعْظِيمِ الشَّيَاطِينِ لِيُسَهِّلُوا لَهُ مَا عَسُرَ. قُلْتُ: وَعِنْدَنَا أَنَّهُ حَقٌّ وَلَهُ حَقِيقَةٌ يَخْلُقُ اللَّهُ عِنْدَهُ مَا شَاءَ، عَلَى مَا يَأْتِي. ثُمَّ مِنَ السِّحْرِ مَا يَكُونُ بِخِفَّةِ الْيَدِ كَالشَّعْوَذَةِ. وَالشَّعْوَذِيُّ: الْبَرِيدُ لِخِفَّةِ سَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ: الشَّعْوَذَةُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، وَهِيَ خِفَّةٌ فِي الْيَدَيْنِ وَأَخْذَةٌ كَالسِّحْرِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ كَلَامًا يُحْفَظُ، وَرُقًى مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ يَكُونُ مِنْ عُهُودِ الشَّيَاطِينِ، وَيَكُونُ أَدْوِيَةً وأدخنة وغير ذلك.
__________
(1) . هو امرؤ القيس، كما في ديوانه واللسان.
(2) . موضعين: مسرعين. لأمر غيب: يريد الموت. وأنه قد غيب عنا وقته، ونحن؟ عنه بالطعام والشراب.
(3) . ذئب مجلح: جريء.(2/44)
الْخَامِسَةُ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَصَاحَةَ فِي الْكَلَامِ وَاللِّسَانَةَ فِيهِ سِحْرًا، فَقَالَ: (إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا) أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ تَصْوِيبُ الْبَاطِلِ حَتَّى يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّهُ حَقٌّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا) خَرَجَ مَخْرَجَ الذَّمِّ لِلْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ، إِذْ شَبَّهَهَا بِالسِّحْرِ. وَقِيلَ: خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ لِلْبَلَاغَةِ وَالتَّفْضِيلِ للبيان، قاله جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ) ، وَقَوْلُهُ: (إِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ) . الثَّرْثَرَةُ: كَثْرَةُ الْكَلَامِ وَتَرْدِيدُهُ، يُقَالُ: ثَرْثَرَ الرَّجُلُ فَهُوَ ثَرْثَارٌ مِهْذَارٌ. وَالْمُتَفَيْهِقُ نَحْوُهُ. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ. فُلَانٌ يَتَفَيْهَقُ فِي كَلَامِهِ إِذَا تَوَسَّعَ فِيهِ وَتَنَطَّعَ، قَالَ: وَأَصْلُهُ الْفَهْقُ وَهُوَ الِامْتِلَاءُ، كَأَنَّهُ مَلَأَ بِهِ فَمَهُ. قُلْتُ: وَبِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَسَّرَهُ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ وَصَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ فَقَالَا: أَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا) فَالرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَهُوَ أَلْحَنُ بِالْحُجَجِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ فَيَسْحَرُ الْقَوْمَ بِبَيَانِهِ فَيَذْهَبُ بِالْحَقِّ وَهُوَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَحْمَدُ الْعُلَمَاءُ الْبَلَاغَةَ وَاللِّسَانَةَ مَا لَمْ تَخْرُجْ إِلَى حَدِّ الْإِسْهَابِ وَالْإِطْنَابِ، وَتَصْوِيرِ الْبَاطِلِ فِي صُورَةِ الْحَقِّ. وَهَذَا بَيِّنٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. السَّادِسَةُ- مِنَ السِّحْرِ مَا يَكُونُ كُفْرًا مِنْ فَاعِلِهِ، مِثْلُ مَا يَدْعُونَ مِنْ تَغْيِيرِ صُوَرِ النَّاسِ، وَإِخْرَاجِهِمْ فِي هَيْئَةِ بَهِيمَةٍ، وَقَطْعِ مَسَافَةِ شَهْرٍ فِي لَيْلَةٍ، وَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ، فَكُلُّ مَنْ فَعَلَ هَذَا لِيُوهِمَ النَّاسَ أَنَّهُ مُحِقٌّ فَذَلِكَ كُفْرٌ مِنْهُ، قَالَهُ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْقُشَيْرِيُّ. قَالَ أَبُو عَمْرٌو: مَنْ زَعَمَ أَنَّ السَّاحِرَ يَقْلِبُ الْحَيَوَانَ مِنْ صُورَةٍ إِلَى صُورَةٍ، فَيَجْعَلُ الْإِنْسَانَ حِمَارًا أَوْ نَحْوَهُ، وَيَقْدِرُ عَلَى نَقْلِ الْأَجْسَادِ وَهَلَاكِهَا وَتَبْدِيلِهَا، فَهَذَا يَرَى قَتْلَ السَّاحِرِ لِأَنَّهُ كَافِرٌ بِالْأَنْبِيَاءِ، يَدَّعِي مِثْلَ آيَاتِهِمْ وَمُعْجِزَاتِهِمْ، وَلَا يَتَهَيَّأُ مَعَ هَذَا عِلْمُ صِحَّةِ النُّبُوَّةِ إِذْ قَدْ يَحْصُلُ مِثْلُهَا بِالْحِيلَةِ. وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ السِّحْرَ خُدَعٌ وَمَخَارِيقُ وَتَمْوِيهَاتٌ وَتَخْيِيلَاتٌ فَلَمْ يَجِبْ عَلَى أَصْلِهِ قَتْلُ السَّاحِرِ، إِلَّا أَنْ يَقْتُلَ بِفِعْلِهِ أَحَدًا فَيُقْتَلُ به.(2/45)
السَّابِعَةُ- ذَهَبَ أَهْلُ السُّنَّةِ إِلَى أَنَّ السِّحْرَ ثَابِتٌ وَلَهُ حَقِيقَةٌ. وَذَهَبَ عَامَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَبُو إسحاق الأسترآبادي مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ السِّحْرَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْوِيهٌ وَتَخْيِيلٌ وَإِيهَامٌ لِكَوْنِ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ مَا هُوَ بِهِ، وَأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْخِفَّةِ وَالشَّعْوَذَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى «1» " وَلَمْ يَقُلْ تَسْعَى عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ قَالَ" يُخَيَّلُ إِلَيْهِ". وَقَالَ أَيْضًا:" سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ «2» ". وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّا لَا نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ التَّخْيِيلُ وَغَيْرُهُ مِنْ جُمْلَةِ السِّحْرِ، وَلَكِنْ ثَبَتَ وَرَاءَ ذَلِكَ أُمُورٌ جَوَّزَهَا الْعَقْلُ وَوَرَدَ بِهَا السَّمْعُ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ ذِكْرِ السِّحْرِ وَتَعْلِيمِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ لَمْ يُمْكِنْ تَعْلِيمُهُ، وَلَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُعَلِّمُونَهُ النَّاسَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ حَقِيقَةٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى في قصة سحرة فرعون:" وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ" وَسُورَةِ" الْفَلَقِ"، مَعَ اتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا مَا كَانَ مِنْ سِحْرِ لَبِيَدِ بْنِ الْأَعْصَمِ، وَهُوَ مِمَّا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ لَبِيَدُ بْنُ الْأَعْصَمِ، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَمَّا حُلَّ السِّحْرِ: (إِنَّ اللَّهَ شَفَانِي) . وَالشِّفَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ بِرَفْعِ الْعِلَّةِ وَزَوَالِ الْمَرَضِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ حَقًّا وَحَقِيقَةً، فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عَلَى وُجُودِهِ وَوُقُوعِهِ. وَعَلَى هَذَا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يَنْعَقِدُ بِهِمُ الْإِجْمَاعُ، وَلَا عِبْرَةَ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ بِحُثَالَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَمُخَالَفَتِهِمْ أَهْلَ الْحَقِّ. وَلَقَدْ شَاعَ السِّحْرُ وَذَاعَ فِي سَابِقِ الزَّمَانِ وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ، وَلَمْ يَبْدُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنَ التَّابِعِينَ إِنْكَارٌ لِأَصْلِهِ. وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الْأَعْوَرِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: عِلْمُ السِّحْرِ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى مِصْرَ يُقَالُ لَهَا:" الْفَرَمَا" فَمَنْ كَذَّبَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، مُكَذِّبٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، مُنْكِرٌ لِمَا عُلِمَ مُشَاهَدَةً وَعِيَانًا. الثَّامِنَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا يُنْكَرُ أَنْ يَظْهَرَ عَلَى يَدِ السَّاحِرِ خَرْقُ الْعَادَاتِ مِمَّا لَيْسَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ مِنْ مَرَضٍ وَتَفْرِيقٍ وَزَوَالِ عَقْلٍ وَتَعْوِيجِ عُضْوٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى اسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ مِنْ مَقْدُورَاتِ الْعِبَادِ. قَالُوا: وَلَا يَبْعُدُ فِي السِّحْرِ أَنْ يُسْتَدَقَّ جِسْمُ السَّاحِرِ حَتَّى
يَتَوَلَّجَ فِي الْكُوَّاتِ وَالْخَوْخَاتِ وَالِانْتِصَابِ عَلَى رَأْسِ قَصَبَةٍ، والجري على
__________
(1) . راجع ج 11 ص 222.
(2) . راجع ج 7 ص 259.(2/46)
خَيْطٍ مُسْتَدَقٍّ، وَالطَّيَرَانُ فِي الْهَوَاءِ وَالْمَشْيُ عَلَى الْمَاءِ وَرُكُوبُ كَلْبٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ السِّحْرُ مُوجِبًا لِذَلِكَ، وَلَا عِلَّةَ لِوُقُوعِهِ وَلَا سَبَبًا مُوَلَّدًا، وَلَا يَكُونُ السَّاحِرُ مُسْتَقِلًّا بِهِ، وَإِنَّمَا يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَيُحْدِثُهَا عِنْدَ وُجُودِ السِّحْرِ، كَمَا يَخْلُقُ الشيع عِنْدَ الْأَكْلِ، وَالرِّيَّ عِنْدَ شُرْبِ الْمَاءِ. رَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَمَّارٍ الذَّهَبِيِّ أَنَّ سَاحِرًا كَانَ عِنْدَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ يَمْشِي عَلَى الْحَبْلِ، وَيَدْخُلُ فِي اسْتِ الْحِمَارِ وَيَخْرُجُ مِنْ فِيهِ، فَاشْتَمَلَ لَهُ جُنْدُبٌ عَلَى السَّيْفِ فَقَتَلَهُ جُنْدُبُ- هَذَا هُوَ جُنْدُبُ بْنُ كَعْبٍ الْأَزْدِيُّ وَيُقَالُ الْبَجَلِيُّ- وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِي حَقِّهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَكُونُ فِي أُمَّتِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُنْدُبٌ يَضْرِبُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ) . فَكَانُوا يَرَوْنَهُ جُنْدُبًا هَذَا قَاتِلُ السَّاحِرِ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: رَوَى عَنْهُ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ. التَّاسِعَةُ- أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي السِّحْرِ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ عِنْدَهُ إِنْزَالَ الْجَرَادِ وَالْقُمَّلِ وَالضَّفَادِعِ وَفَلْقَ الْبَحْرِ وَقَلْبَ الْعَصَا وَإِحْيَاءَ الْمَوْتَى وَإِنْطَاقَ الْعَجْمَاءِ، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِنْ عَظِيمِ آيَاتِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ وَلَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ عِنْدَ إِرَادَةِ السَّاحِرِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ: وَإِنَّمَا مَنَعْنَا ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْلَاهُ لَأَجَزْنَاهُ. الْعَاشِرَةُ- فِي الْفَرْقِ بَيْنَ السِّحْرِ وَالْمُعْجِزَةِ، قَالَ عُلَمَاؤُنَا: السِّحْرُ يُوجَدُ مِنَ السَّاحِرِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ يَكُونُ جَمَاعَةٌ يَعْرِفُونَهُ وَيُمْكِنُهُمُ الْإِتْيَانُ بِهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. وَالْمُعْجِزَةُ لَا يُمَكِّنُ اللَّهُ أَحَدًا أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهَا وَبِمُعَارَضَتِهَا، ثُمَّ السَّاحِرُ لَمْ يَدَّعِ النُّبُوَّةَ فَالَّذِي يَصْدُرُ مِنْهُ مُتَمَيِّزٌ عَنِ الْمُعْجِزَةِ، فَإِنَّ الْمُعْجِزَةَ شَرْطُهَا اقْتِرَانُ دَعْوَى النُّبُوَّةِ وَالتَّحَدِّي بِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ «1» . الحادية عشرة- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ السَّاحِرِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا سَحَرَ بِنَفْسِهِ بِكَلَامٍ يَكُونُ كُفْرًا يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ يَسْتَسِرُّ بِهِ كَالزِّنْدِيقِ وَالزَّانِي، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى السِّحْرَ كُفْرًا بِقَوْلِهِ:" وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ" وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ والشافعي
__________
(1) . يراجع ج 1 ص 69 وما بعدها طبعه ثانية.(2/47)
وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ قَتْلُ السَّاحِرِ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ وَأَبِي مُوسَى وَقَيْسِ ابن سَعْدٍ وَعَنْ سَبْعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، انْفَرَدَ بِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ، رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ عَنْ الحسن عَنْ جُنْدُبٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عَائِشَةَ. أَنَّهَا بَاعَتْ سَاحِرَةً كَانَتْ سَحَرَتْهَا وَجَعَلَتْ ثَمَنَهَا فِي الرِّقَابِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ سَحَرَ بِكَلَامٍ يَكُونُ كُفْرًا وَجَبَ قَتْلُهُ إِنْ لَمْ يَتُبْ، وَكَذَلِكَ لَوْ ثَبَتَتْ بِهِ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَوَصَفَتِ الْبَيِّنَةُ كَلَامًا يَكُونُ كُفْرًا. وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ سَحَرَ بِهِ لَيْسَ بِكُفْرٍ لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ، فَإِنْ كَانَ أَحْدَثَ فِي الْمَسْحُورِ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقِصَاصَ اقْتُصَّ مِنْهُ إِنْ كَانَ عَمَدَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا قِصَاصَ فِيهِ فَفِيهِ دِيَةٌ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَإِذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجَبَ اتِّبَاعُ أَشْبَهِهِمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السِّحْرُ الَّذِي أَمَرَ مَنْ أَمَرَ مِنْهُمْ بِقَتْلِ السَّاحِرِ سِحْرًا يَكُونُ كُفْرًا فَيَكُونُ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَمَرَتْ بِبَيْعِ سَاحِرَةٍ لَمْ يَكُنْ سِحْرُهَا كُفْرًا. فَإِنِ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِحَدِيثِ جُنْدُبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ) فَلَوْ صَحَّ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ بِقَتْلِ السَّاحِرِ الَّذِي يَكُونُ سِحْرُهُ كُفْرًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِلْأَخْبَارِ الَّتِي جَاءَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ ... ) قُلْتُ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَدِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مَحْظُورَةٌ لَا تُسْتَبَاحُ إِلَّا بِيَقِينٍ وَلَا يَقِينَ مَعَ الِاخْتِلَافِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنْ قَالَ أَهْلُ الصِّنَاعَةِ إِنَّ السِّحْرَ لَا يَتِمُّ إِلَّا مع الكفر ولاستكبار، أَوْ تَعْظِيمِ الشَّيْطَانِ فَالسِّحْرُ إِذًا دَالٌّ عَلَى الْكُفْرِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ: لَا يُقْتَلُ السَّاحِرُ إِلَّا أَنْ يَقْتُلَ بِسِحْرِهِ وَيَقُولَ تَعَمَّدْتُ الْقَتْلَ، وَإِنْ قَالَ لَمْ أَتَعَمَّدْهُ لَمْ يُقْتَلْ، وَكَانَتْ فِيهِ الدية كقتل الخطأ، وإن أضربه أُدِّبَ عَلَى قَدْرِ الضَّرَرِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمِ السِّحْرَ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ كَلَامٌ(2/48)
مُؤَلَّفٌ يُعَظِّمُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَتُنْسَبُ إِلَيْهِ الْمَقَادِيرُ وَالْكَائِنَاتُ. الثَّانِي: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ صَرَّحَ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّهُ كُفْرٌ فَقَالَ:" وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ" بِقَوْلِ السِّحْرُ" وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا" بِهِ وَبِتَعْلِيمِهِ، وَهَارُوتَ وَمَارُوتَ يَقُولَانِ:" إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ" وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلْبَيَانِ. احْتَجَّ أَصْحَابُ مَالِكٍ بِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، لِأَنَّ السِّحْرَ بَاطِنٌ لَا يُظْهِرُهُ صَاحِبُهُ فَلَا تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ كَالزِّنْدِيقِ، وَإِنَّمَا يُسْتَتَابُ مَنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ مُرْتَدًّا، قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ جَاءَ السَّاحِرُ أَوِ الزِّنْدِيقُ تَائِبًا قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِمَا قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمَا، وَالْحُجَّةُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا «1» " فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ قَبْلَ نُزُولِ الْعَذَابِ، فَكَذَلِكَ هَذَانَ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- وَأَمَّا سَاحِرُ الذِّمَّةِ، فَقِيلَ يُقْتَلُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُقْتَلُ إِلَّا أَنْ يَقْتُلَ بِسِحْرِهِ وَيَضْمَنَ مَا جَنَى، وَيُقْتَلُ إِنْ جَاءَ مِنْهُ مَا لَمْ يُعَاهَدْ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: فَأَمَّا إِذَا كَانَ ذِمِّيًّا فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ، فَقَالَ مَرَّةً: يُسْتَتَابُ وَتَوْبَتُهُ الْإِسْلَامُ. وَقَالَ مَرَّةً: يُقْتَلُ وَإِنْ أَسْلَمَ. وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلَا يُقْتَلُ إِذَا تَابَ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي ذِمِّيٍّ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُسْتَتَابُ وَتَوْبَتُهُ الْإِسْلَامُ. وَقَالَ مَرَّةً: يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ كَالْمُسْلِمِ. وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا فِي الذِّمِّيِّ إِذَا سُحِرَ: يُعَاقَبُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَتَلَ بِسِحْرِهِ، أَوْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَيُؤْخَذُ مِنْهُ بِقَدْرِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقْتَلُ، لِأَنَّهُ قَدْ نَقَضَ الْعَهْدَ. وَلَا يَرِثُ السَّاحِرُ وَرَثَتُهُ، لِأَنَّهُ كَافِرٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سِحْرُهُ لَا يُسَمَّى كُفْرًا. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَرْأَةِ تَعْقِدُ زَوْجَهَا عَنْ نَفْسِهَا أَوْ عَنْ غَيْرِهَا: تُنَكَّلُ وَلَا تُقْتَلُ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- واختلفوا هل يسئل السَّاحِرُ حَلَّ السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ، فَأَجَازَهُ سَعِيدُ ابن الْمُسَيَّبِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، وَإِلَيْهِ مَالَ الْمُزَنِيُّ وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا بَأْسَ بِالنُّشْرَةِ «2» . قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَفِي كِتَابِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنْ يَأْخُذَ سَبْعَ وَرَقَاتٍ من سدر
__________
(1) . راجع ج 15 ص 336.
(2) . النشرة (بالضم) : ضرب من الرقية والعلاج، يعالج به من كان يظن أن به مسا من الجن، لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي يكشف ويزال.(2/49)
أَخْضَرَ فَيَدُقَّهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ ثُمَّ يَضْرِبَهُ بِالْمَاءِ وَيَقْرَأَ عَلَيْهِ آيَةَ الْكُرْسِيِّ، ثُمَّ يَحْسُوَ مِنْهُ ثَلَاثَ حَسَوَاتٍ وَيَغْتَسِلَ بِهِ، فَإِنَّهُ يُذْهِبُ عَنْهُ كُلَّ مَا بِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ جَيِّدٌ لِلرَّجُلِ إِذَا حُبِسَ عَنْ أَهْلِهِ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- أَنْكَرَ مُعْظَمُ الْمُعْتَزِلَةِ الشَّيَاطِينَ وَالْجِنَّ، وَدَلَّ إِنْكَارُهُمْ عَلَى قِلَّةِ مُبَالَاتِهِمْ وَرَكَاكَةِ دِيَانَاتِهِمْ، وَلَيْسَ فِي إِثْبَاتِهِمْ مُسْتَحِيلٌ عَقْلِيٌّ، وَقَدْ دَلَّتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى إِثْبَاتِهِمْ، وَحَقُّ عَلَى اللَّبِيبِ الْمُعْتَصِمِ بِحَبْلِ اللَّهِ أَنْ يُثْبِتَ مَا قَضَى الْعَقْلُ بِجَوَازِهِ، وَنَصَّ الشَّرْعُ عَلَى ثُبُوتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا" وَقَالَ:" وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ «1» لَهُ" إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، مِنَ الْآيِ، وَسُورَةُ" الْجِنِّ" تَقْضِي بِذَلِكَ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ) . وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا الْخَبَرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَأَحَالُوا رُوحَيْنِ فِي جَسَدٍ، وَالْعَقْلُ لَا يُحِيلُ سُلُوكَهُمْ فِي الْإِنْسِ إِذَا كَانَتْ أَجْسَامُهُمْ رَقِيقَةً بَسِيطَةً عَلَى مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ بَلْ أَكْثَرَهُمْ، وَلَوْ كَانُوا كِثَافًا لَصَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْهُمْ، كَمَا يَصِحُّ دُخُولُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْفَرَاغِ مِنَ الْجِسْمِ، وَكَذَلِكَ الدِّيدَانُ قَدْ تَكُونُ فِي بَنِي آدَمَ وهي أحياء. الخامسة عشرة- قوله تعالى:" وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ"" مَا" نَفْيٌ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ:" وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ" وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ بِالسِّحْرِ، فَنَفَى اللَّهُ ذَلِكَ. وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، التَّقْدِيرُ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ، وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَهَارُوتُ وَمَارُوتُ بَدَلٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ فِي قَوْلِهِ:" وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا". هَذَا أَوْلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهَا وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى سِوَاهُ، فَالسِّحْرُ مِنَ اسْتِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ لِلَطَافَةِ جَوْهَرِهِمْ، وَدِقَّةِ أَفْهَامِهِمْ، وَأَكْثَرُ مَا يَتَعَاطَاهُ مِنَ الْإِنْسِ النِّسَاءُ وَخَاصَّةً فِي حَالِ طَمْثِهِنَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ «2» ". وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَعُوَذُ بِرَبِّي مِنَ النَّافِثَا ... تَ..............
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- إِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَكُونُ اثْنَانِ بَدَلًا مِنْ جَمْعٍ وَالْبَدَلُ إِنَّمَا يكون على حد المبدل منه، فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاثْنَيْنِ قد يطلق عليهما اسم
__________
(1) . راجع ج 11 ص 322
(2) . راجع ج 20 ص 257. [.....](2/50)
الْجَمْعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ" وَلَا يَحْجُبُهَا عَنِ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ إِلَّا اثْنَانِ مِنَ الْإِخْوَةِ فَصَاعِدًا، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" النِّسَاءِ «1» ". الثَّانِي: أَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا الرَّأْسَ فِي التَّعْلِيمِ نَصَّ عَلَيْهِمَا دُونَ أَتْبَاعِهِمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ «2» " الثَّالِثُ: إِنَّمَا خُصَّا بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِهِمْ لِتَمَرُّدِهِمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ «3» " وَقَوْلُهُ:" وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ". وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَقَدْ يُنَصُّ بِالذِّكْرِ عَلَى بَعْضِ أَشْخَاصِ الْعُمُومِ إِمَّا لِشَرَفِهِ وَإِمَّا لِفَضْلِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ «4» " وَقَوْلِهِ:" وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ"، وَإِمَّا لِطِيبِهِ كَقَوْلِهِ:" فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ"، وَإِمَّا لِأَكْثَرِيَّتِهِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا) ، وَإِمَّا لِتَمَرُّدِهِ وَعُتُوِّهِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ" مَا" عَطْفٌ عَلَى السِّحْرِ وَهِيَ مَفْعُولَةٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ" مَا" بِمَعْنَى الَّذِي، وَيَكُونُ السِّحْرُ مُنَزَّلًا عَلَى الْمَلَكَيْنِ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَامْتِحَانًا، وَلِلَّهِ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ، كَمَا امْتَحَنَ بِنَهَرِ طَالُوتَ، وَلِهَذَا يَقُولُ الْمَلَكَانِ: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ، أَيْ مِحْنَةٌ مِنَ اللَّهِ، نُخْبِرُكَ أَنَّ عَمَلَ السَّاحِرِ كُفْرٌ فَإِنْ أَطَعْتَنَا نَجَوْتَ، وَإِنْ عَصَيْتَنَا هَلَكْتَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ وَالسُّدِّيِّ وَالْكَلْبِيِّ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ الْفَسَادُ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَذَلِكَ فِي زَمَنِ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَيَّرَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ مَكَانَهُمْ، وَرَكَّبْتُ فِيكُمْ مَا رَكَّبْتُ فِيهِمْ لَعَمِلْتُمْ مِثْلَ أَعْمَالِهِمْ، فَقَالُوا: سُبْحَانَكَ! مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا ذَلِكَ، قَالَ: فَاخْتَارُوا مَلَكَيْنِ مِنْ خِيَارِكُمْ، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَأَنْزَلَهُمَا إِلَى الْأَرْضِ فَرَكَّبَ فِيهِمَا الشَّهْوَةَ، فَمَا مَرَّ بِهِمَا شَهْرٌ حَتَّى فُتِنَا بِامْرَأَةٍ اسْمُهَا بِالنِّبْطِيَّةِ" بيدخت" وَبِالْفَارِسِيَّةِ" ناهيل «5» " وَبِالْعَرَبِيَّةِ" الزُّهَرَةُ" اخْتَصَمَتْ إِلَيْهِمَا، وَرَاوَدَاهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ إِلَّا أَنْ يَدْخُلَا فِي دِينِهَا وَيَشْرَبَا الْخَمْرَ وَيَقْتُلَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، فَأَجَابَاهَا وَشَرِبَا الْخَمْرَ وَأَلَمَّا بِهَا، فَرَآهُمَا رَجُلٌ فَقَتَلَاهُ، وَسَأَلَتْهُمَا عَنِ الِاسْمِ الَّذِي يَصْعَدَانِ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَعَلَّمَاهَا فتكلمت به
__________
(1) . راجع ج 5 ص 72.
(2) . راجع ج 19 ص 77.
(3) . راجع ج 17 ص 185.
(4) . راجع ج 4 ص 109.
(5) . في بعض نسخ الأصل:" ناهيد" بالدال المهملة بدل اللام.(2/51)
فَعَرَجَتْ فَمُسِخَتْ كَوْكَبًا. وَقَالَ سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: فَحَدَّثَنِي كَعْبٌ الْحَبْرُ أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَكْمِلَا يَوْمَهُمَا حَتَّى عَمِلَا بِمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا. وَفِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ: فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا، فَهُمَا يُعَذَّبَانِ بِبَابِلَ فِي سَرَبٍ مِنَ الْأَرْضِ. قِيلَ: بَابِلُ الْعِرَاقِ. وَقِيلَ: بَابِلُ نَهَاوَنْدَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ فِيمَا يُرْوَى عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى الزُّهَرَةَ وَسُهَيْلًا سَبَّهُمَا وَشَتَمَهُمَا، وَيَقُولُ: إِنَّ سُهَيْلًا كَانَ عَشَّارًا «1» بِالْيَمَنِ يَظْلِمُ النَّاسَ، وَإِنَّ الزُّهَرَةَ كَانَتْ صَاحِبَةَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ. قُلْنَا: هَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ وَبَعِيدُ عَنِ ابن عمر وغيره، لا يصح منه شي، فَإِنَّهُ قَوْلٌ تَدْفَعُهُ الْأُصُولُ فِي الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ أُمَنَاءُ اللَّهِ عَلَى وَحْيِهِ، وَسُفَرَاؤُهُ إِلَى رُسُلِهِ" لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ «2» "." بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ «3» "." يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ «4» ". وَأَمَّا الْعَقْلُ فَلَا يُنْكِرُ وُقُوعَ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَيُوجَدُ مِنْهُمْ خِلَافُ مَا كُلِّفُوهُ، وَيَخْلُقُ فِيهِمُ الشَّهَوَاتِ، إِذْ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى كُلُّ مَوْهُومٍ، وَمِنْ هَذَا خَوْفُ الأنبياء والأولياء الفضلاء العلماء، ولكن وُقُوعُ هَذَا الْجَائِزِ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالسَّمْعِ وَلَمْ يَصِحَّ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ النُّجُومَ وَهَذِهِ الْكَوَاكِبَ حِينَ خَلَقَ السَّمَاءَ، فَفِي الْخَبَرِ: (أَنَّ السَّمَاءَ لَمَّا خُلِقَتْ خُلِقَ فِيهَا سَبْعَةُ دَوَّارَةٍ زُحَلُ وَالْمُشْتَرِي وَبَهْرَامُ وَعُطَارِدُ وَالزُّهَرَةُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ". وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:" وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «5» ". فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الزُّهَرَةَ وَسُهَيْلًا قَدْ كَانَا قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ:" مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا" عَوْرَةٌ «6» : لَا تَقْدِرُ عَلَى فِتْنَتِنَا، وَهَذَا كُفْرٌ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ وَمِنْ نِسْبَتِهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَقَدْ نَزَّهْنَاهُمْ وَهُمُ الْمُنَزَّهُونَ عَنْ كُلِّ مَا ذَكَرَهُ وَنَقَلَهُ الْمُفَسِّرُونَ، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَبْزَى وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ:" الْمَلِكَيْنِ" بِكَسْرِ اللَّامِ. قَالَ ابْنُ أَبْزَى: هُمَا دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ. فَ" مَا" عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَيْضًا نَافِيَةٌ، وَضَعَّفَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمَا عِلْجَانِ كَانَا بِبَابِلَ مَلَكَيْنِ، فَ" مَا" عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَفْعُولَةٌ غَيْرُ نافية.
__________
(1) . العشار: الذي يقبض عشر الأموال.
(2) . راجع ج 18 ص 196.
(3) . راجع ج 11 ص 281، 278.
(4) . راجع ج 11 ص 281، 278.
(5) . راجع ج 11 ص 281، 278.
(6) . كذا في أ، ب، ج. وفي ح، ز:" عوده". وكتب على هامش الازهرية:" لعله: تقديره". وقد تكون هذه الكلمة محرفة عن" غوره" وغور كل شي: عمقه وبعده.(2/52)
الثامنة عشرة- قوله تعالى:" بِبابِلَ" بَابِلُ لَا يَنْصَرِفُ لِلتَّأْنِيثِ وَالتَّعْرِيفِ وَالْعُجْمَةِ، وَهِيَ قُطْرٌ مِنَ الْأَرْضِ، قِيلَ: الْعِرَاقُ وَمَا وَالَاهُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ: أَنْتُمْ بَيْنَ الْحِيرَةِ وَبَابِلَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مِنْ نَصِيبِينَ إِلَى رَأْسِ الْعَيْنِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ بِالْمَغْرِبِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ جَبَلُ نَهَاوَنْدَ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ بِبَابِلَ، فَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لتبلبل الألسن بها حين سقط صرح نمرود. وَقِيلَ: سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ أَلْسِنَةِ بَنِي آدَمَ بَعَثَ رِيحًا فَحَشَرَتْهُمْ مِنَ الْآفَاقِ إِلَى بَابِلَ، فَبَلْبَلَ اللَّهُ أَلْسِنَتَهُمْ بِهَا، ثُمَّ فَرَّقَتْهُمْ تِلْكَ الرِّيحُ فِي الْبِلَادِ. وَالْبَلْبَلَةُ: التَّفْرِيقُ، قَالَ مَعْنَاهُ الْخَلِيلُ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: مِنْ أَخْصَرِ مَا قِيلَ فِي الْبَلْبَلَةِ وَأَحْسَنِهِ مَا رَوَاهُ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عِلْبَاءَ بْنِ أَحْمَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا هَبَطَ إِلَى أَسْفَلِ الْجُودِيِّ ابْتَنَى قَرْيَةً وَسَمَّاهَا ثَمَانِينَ، فَأَصْبَحَ ذَاتَ يَوْمٍ وَقَدْ تَبَلْبَلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ عَلَى ثَمَانِينَ لُغَةٍ، إِحْدَاهَا اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ، وَكَانَ لَا يَفْهَمُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بِشْرٍ الْمَازِنِيُّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اتَّقُوا الدنيا فوالذي نفسي بيده إنها لا سحر مِنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ) . قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِنَّمَا كَانَتِ الدُّنْيَا أَسْحَرُ مِنْهُمَا لِأَنَّهَا تَسْحَرُكَ بِخُدَعِهَا، وَتَكْتُمُكَ فِتْنَتَهَا، فَتَدْعُوكَ إِلَى التَّحَارُصِ عَلَيْهَا وَالتَّنَافُسِ فِيهَا، وَالْجَمْعِ لَهَا وَالْمَنْعِ، حَتَّى تُفَرِّقَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتُفَرِّقَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ رُؤْيَةِ الْحَقِّ وَرِعَايَتِهِ، فَالدُّنْيَا أَسْحَرُ مِنْهُمَا، تَأْخُذُ بِقَلْبِكَ عَنِ اللَّهِ، وَعَنِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ، وَعَنْ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ. وَسِحْرُ الدُّنْيَا مَحَبَّتُهَا وَتَلَذُّذُكَ بِشَهَوَاتِهَا، وَتَمَنِّيكَ بِأَمَانِيِّهَا الْكَاذِبَةَ حَتَّى تَأْخُذَ بِقَلْبِكَ، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ) . الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" هارُوتَ وَمارُوتَ" لَا يَنْصَرِفُ" هَارُوتُ"، لِأَنَّهُ أَعْجَمِيٌّ مَعْرِفَةٌ، وَكَذَا" مَارُوتُ"، وَيُجْمَعُ هَوَارِيتُ وَمَوَارِيتُ، مِثْلُ طَوَاغِيتَ، وَيُقَالُ: هَوَارِتَةٌ وَهَوَارٌ، وَمَوَارِتَةٌ وَمَوَارٌ، وَمِثْلُهُ جَالُوتُ وَطَالُوتُ، فَاعْلَمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَلْ هُمَا مَلَكَانِ أَوْ غَيْرُهُمَا؟ خِلَافٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَيْ وَالَّذِي أُنْزِلَ(2/53)
عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَأَنَّ الْمَلَكَيْنِ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ تَعْلِيمَ إِنْذَارٍ مِنَ السِّحْرِ لَا تَعْلِيمَ دُعَاءٍ إِلَيْهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالنَّظَرِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ عَلَى النَّهْيِ فَيَقُولَانِ لَهُمْ: لَا تَفْعَلُوا كَذَا، وَلَا تَحْتَالُوا بِكَذَا لِتُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. وَالَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِمَا هُوَ النَّهْيُ، كَأَنَّهُ قُولَا لِلنَّاسِ: لَا تَعْمَلُوا كَذَا، فَ" يُعَلِّمانِ" بِمَعْنَى يُعْلِمَانِ، كَمَا قَالَ:" وَلَقَدْ كَرَّمْنا «1» بَنِي آدَمَ" أَيْ أَكْرَمْنَا. الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ"" مِنْ" زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَالتَّقْدِيرُ: وما يعلمان أحدا." حَتَّى يَقُولا" نصب بحي فَلِذَلِكَ حُذِفَتْ مِنْهُ النُّونُ، وَلُغَةُ هُذَيْلٍ وَثَقِيفٍ" عتى" بالعين غير الْمُعْجَمَةِ. وَالضَّمِيرُ فِي" يُعَلِّمانِ" لِهَارُوتَ وَمَارُوتَ. وَفِي" يُعَلِّمانِ" قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى بَابِهِ مِنَ التَّعْلِيمِ. الثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْإِعْلَامِ لَا مِنَ التَّعْلِيمِ، فَ" يُعَلِّمانِ" بِمَعْنَى، يُعْلِمَانِ، وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَعَلَّمْ بِمَعْنَى اعْلَمْ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ:
تَعَلَّمْ رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ مُدْرِكِي ... وَأَنَّ وَعِيدًا مِنْكَ كَالْأَخْذِ بِالْيَدِ
وَقَالَ الْقُطَامِيُّ:
تَعَلَّمْ أَنَّ بَعْدَ الْغَيِّ رُشْدًا ... وَأَنَّ لِذَلِكَ الْغَيِّ انْقِشَاعَا
وَقَالَ زُهَيْرٌ:
تَعَلَّمْنَ هَا لَعَمْرُ اللَّهِ ذَا قَسَمًا ... فَاقْدِرْ بِذَرْعِكَ وَانْظُرْ أَيْنَ تَنْسَلِكُ «2»
وَقَالَ آخَرُ:
تَعَلَّمْ أَنَّهُ لَا طَيْرَ إِلَّا ... عَلَى مُتَطَيِّرٍ وَهُوَ الثُّبُورُ
" إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ" لَمَّا أَنْبَأَ بِفِتْنَتِهِمَا كَانَتِ الدُّنْيَا أَسْحَرُ مِنْهُمَا حِينَ كَتَمَتْ فِتْنَتَهَا." فَلا تَكْفُرْ" قَالَتْ فِرْقَةٌ بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ بِاسْتِعْمَالِهِ. وَحَكَى الْمَهْدَوِيُّ أَنَّهُ اسْتِهْزَاءٌ، لِأَنَّهُمَا إِنَّمَا يَقُولَانِهِ لِمَنْ قَدْ تحققا ضلاله.
__________
(1) . راجع ج 10 ص 293.
(2) . في البيت شاهد آخر، وهو تقديم" ها" التي للتنبيه على" ذا" وقد حال بينهما بقوله:" لعمر الله" والمعنى تعلمن الله هذا ما أقسم به. وفى الديوان:" فاقصد بذرعك".(2/54)
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما" قَالَ سِيبَوَيْهِ: التَّقْدِيرُ فَهُمْ يَتَعَلَّمُونَ، قَالَ وَمِثْلُهُ" كُنْ فَيَكُونُ". وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ" مَا يُعَلِّمانِ"، لِأَنَّ قَوْلَهُ:" وَما يُعَلِّمانِ" وَإِنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَا النَّافِيَةُ فَمُضَمَّنُهُ الْإِيجَابُ فِي التَّعْلِيمِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ مَرْدُودَةٌ عَلَى قَوْلِهِ:" يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ" ... فَيَتَعَلَّمُونَ، ويكون" فَيَتَعَلَّمُونَ" متصلة بقول" إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ" فَيَأْتُونَ فَيَتَعَلَّمُونَ. قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَا يَقُولَانِ لِمَنْ جَاءَهُمَا: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَرْجِعَ قَالَا لَهُ: ائْتِ هَذَا الرَّمَادَ فَبُلْ فِيهِ، فَإِذَا بَالَ فِيهِ خَرَجَ مِنْهُ نُورٌ يَسْطَعُ إِلَى السَّمَاءِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهُ دُخَانٌ أَسْوَدُ فَيَدْخُلُ فِي أُذُنَيْهِ وَهُوَ الْكُفْرُ، فَإِذَا أَخْبَرَهُمَا بِمَا رَآهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَّمَاهُ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ السَّاحِرَ لَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرِ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ التَّفْرِقَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لِلسِّحْرِ وَالْغَايَةِ فِي تَعْلِيمِهِ، فَلَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ لَذَكَرَهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ذَلِكَ خَرَجَ عَلَى الْأَغْلَبِ، وَلَا يُنْكَرُ أَنَّ السِّحْرَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْقُلُوبِ، بِالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَبِإِلْقَاءِ الشُّرُورِ حَتَّى يُفَرِّقَ السَّاحِرُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَيَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، وَذَلِكَ بِإِدْخَالِ الْآلَامِ وَعَظِيمِ الْأَسْقَامِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُدْرَكٌ بِالْمُشَاهَدَةِ وَإِنْكَارُهُ مُعَانَدَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ"" مَا هُمْ"، إِشَارَةٌ إِلَى السَّحَرَةِ. وَقِيلَ إِلَى الْيَهُودِ، وَقِيلَ إِلَى الشَّيَاطِينِ." بِضارِّينَ بِهِ" أَيْ بالسخر." مِنْ أَحَدٍ" أَيْ أَحَدًا، وَمِنْ زَائِدَةٌ." إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ" بِإِرَادَتِهِ وَقَضَائِهِ لَا بِأَمْرِهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَيَقْضِي عَلَى الْخَلْقِ بِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:" إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ" إِلَّا بِعِلْمِ اللَّهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَقَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ" إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ" إِلَّا بِعِلْمِ اللَّهِ غَلَطٌ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ فِي الْعِلْمِ أَذَنٌ، وَقَدْ أَذِنْتُ أَذَنًا. وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَحِلَّ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ وَظَلُّوا يَفْعَلُونَهُ كَانَ كَأَنَّهُ أَبَاحَهُ مجازا. الرابعة والعشرون- قوله تعالى:" وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ" يُرِيدُ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ أَخَذُوا بِهَا نَفْعًا قَلِيلًا فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: يَضُرُّهُمْ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ ضَرَرَ السِّحْرِ وَالتَّفْرِيقِ يَعُودُ(2/55)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
عَلَى السَّاحِرِ فِي الدُّنْيَا إِذَا عُثِرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يُؤَدَّبُ وَيُزْجَرُ، وَيَلْحَقُهُ شُؤْمُ السِّحْرِ. وَبَاقِي الْآيِ بَيِّنٌ لِتَقَدُّمِ مَعَانِيهَا. وَاللَّامُ فِي" وَلَقَدْ عَلِمُوا" لَامُ تَوْكِيدٍ." لَمَنِ اشْتَراهُ" لَامُ يَمِينٍ، وَهِيَ لِلتَّوْكِيدِ أَيْضًا. وَمَوْضِعُ" مَنْ" رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ مَا قَبْلَ اللَّامِ فِيمَا بعدها. و" من" بِمَعْنَى الَّذِي. وَقَالَ الْفَرَّاءُ. هِيَ لِلْمُجَازَاةِ. وَقَالَ الزجاج: ليس هذا بموضع شرط، و" من" بِمَعْنَى الَّذِي، كَمَا تَقُولُ: لَقَدْ عَلِمْتُ، لَمَنْ جَاءَكَ مَا لَهُ عَقْلٌ." مِنْ خَلاقٍ"" مِنْ" زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ خَلَاقٌ، وَلَا تُزَادُ فِي الْوَاجِبِ، هَذَا قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: تَكُونُ زَائِدَةً فِي الْوَاجِبِ، وَاسْتَدَلُّوا بقوله تعالى:" لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ «1» " وَالْخَلَاقُ: النَّصِيبُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَكَذَلِكَ هُوَ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ إِلَّا لِلنَّصِيبِ مِنَ الْخَيْرِ. وَسُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ" فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا. ثُمَّ قَالَ:" وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ" فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، فَالْجَوَابُ وَهُوَ قَوْلُ قُطْرُبٍ وَالْأَخْفَشِ: أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الشَّيَاطِينَ، وَالَّذِينَ شَرَوْا أَنْفُسَهُمْ- أَيْ بَاعُوهَا- هُمُ الْإِنْسُ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. قَالَ الزَّجَّاجُ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: الْأَجْوَدُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ" وَلَقَدْ عَلِمُوا" لِلْمَلَكَيْنِ، لِأَنَّهُمَا أَوْلَى بِأَنْ يَعْلَمُوا. وَقَالَ:" عَلِمُوا" كَمَا يُقَالُ: الزَّيْدَانِ قَامُوا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِينَ عَلِمُوا عُلَمَاءُ الْيَهُودِ، وَلَكِنْ قِيلَ:" لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ" أَيْ فَدَخَلُوا فِي مَحَلِّ مَنْ يُقَالُ لَهُ: لَسْتَ بِعَالِمٍ، لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِعِلْمِهِمْ وَاسْتَرْشَدُوا مِنَ الَّذِينَ عَمِلُوا بالسحر.
[سورة البقرة (2) : آية 103]
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا" أَيِ اتَّقَوْا السِّحْرَ." لَمَثُوبَةٌ" الْمَثُوبَةُ الثَّوَابُ، وَهِيَ جَوَابُ" وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا" عند قوم. وقال الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ: لَيْسَ لِ" لَوْ" هُنَا جَوَابٌ في اللفظ ولكن في المعنى، والمعنى لا ثيبوا. وَمَوْضِعُ" أَنَّ" مِنْ قَوْلِهِ:" وَلَوْ أَنَّهُمْ" مَوْضِعُ رَفْعٍ، أَيْ لَوْ وَقَعَ إِيمَانُهُمْ، لِأَنَّ" لَوْ" لَا يَلِيهَا إِلَّا الْفِعْلُ ظَاهِرًا أَوْ مُضْمَرًا، لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ حُرُوفِ الشَّرْطِ إِذْ كَانَ لَا بدله مِنْ جَوَابٍ، وَ" أَنَّ" يَلِيهِ فِعْلٌ. قَالَ محمد بن يزيد:
__________
(1) . راجع ج 16 ص 217. [.....](2/56)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
وإنما لم يجاز ب" لو" لِأَنَّ سَبِيلَ حُرُوفِ الْمُجَازَاةِ كُلَّهَا أَنْ تَقْلِبَ الْمَاضِي إِلَى مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي" لَوْ" لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجَازَى بها.
[سورة البقرة (2) : آية 104]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا" ذَكَرَ شَيْئًا آخَرَ مِنْ جَهَالَاتِ الْيَهُودِ وَالْمَقْصُودُ نَهْيُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ. وَحَقِيقَةُ" راعِنا" فِي اللُّغَةِ ارْعَنَا وَلْنَرْعَكَ، لِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ مِنَ اثْنَيْنِ، فَتَكُونُ مِنْ رَعَاكَ اللَّهُ، أَيِ احْفَظْنَا وَلْنَحْفَظْكَ، وَارْقُبْنَا وَلْنَرْقُبْكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَرِعْنَا سَمْعَكُ، أَيْ فَرِّغْ سَمْعَكُ لِكَلَامِنَا. وَفِي الْمُخَاطَبَةِ بِهَذَا جَفَاءٌ، فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَخَيَّرُوا مِنَ الْأَلْفَاظِ أَحْسَنَهَا وَمِنَ الْمَعَانِي أَرَقَّهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كان المسلمون يقولون للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَاعِنَا. عَلَى جِهَةِ الطَّلَبِ وَالرَّغْبَةِ- مِنَ الْمُرَاعَاةِ- أَيِ الْتَفِتْ إِلَيْنَا، وَكَانَ هَذَا بِلِسَانِ الْيَهُودِ سَبًّا، أَيِ اسْمَعْ لَا سَمِعْتَ، فَاغْتَنَمُوهَا وَقَالُوا: كُنَّا نَسُبُّهُ سِرًّا فَالْآنَ نَسُبُّهُ جَهْرًا، فَكَانُوا يُخَاطِبُونَ بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَضْحَكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَسَمِعَهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَكَانَ يَعْرِفُ لُغَتَهُمْ، فَقَالَ لِلْيَهُودِ: عَلَيْكُمْ لَعْنَةُ اللَّهِ! لَئِنْ سَمِعْتُهَا مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ يَقُولُهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ، فَقَالُوا: أَوَلَسْتُمْ تَقُولُونَهَا؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَنُهُوا عَنْهَا لِئَلَّا تَقْتَدِي بِهَا الْيَهُودُ فِي اللَّفْظِ وَتَقْصِدُ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ فِيهِ. الثَّانِيَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا- عَلَى تَجَنُّبِ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمَلَةِ الَّتِي فِيهَا التَّعْرِيضُ لِلتَّنْقِيصِ وَالْغَضِّ، وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا فَهْمُ الْقَذْفِ بِالتَّعْرِيضِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِمَا حِينَ قَالُوا: التَّعْرِيضُ مُحْتَمِلٌ لِلْقَذْفِ وَغَيْرِهِ، وَالْحَدُّ مِمَّا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ. وَسَيَأْتِي فِي" النُّورِ «1» " بَيَانُ هَذَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الدَّلِيلُ الثَّانِي- التَّمَسُّكُ بِسَدِ الذَّرَائِعِ «2» وَحِمَايَتِهَا وَهُوَ مذهب مالك وأصحابه وأحمد ابن حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَالذَّرِيعَةُ عِبَارَةٌ عَنْ أمر
__________
(1) . راجع ج 12 ص 175.
(2) . الذرائع (جمع الذريعة) وهى لغة: الوسيلة والسبب إلى الشيء.(2/57)
غَيْرِ مَمْنُوعٍ لِنَفْسِهِ يُخَافُ مِنَ ارْتِكَابِهِ الْوُقُوعُ فِي مَمْنُوعٍ. أَمَّا الْكِتَابُ فَهَذِهِ الْآيَةُ، وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهَا أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ وَهِيَ سَبٌّ بِلُغَتِهِمْ، فَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنَعَ مِنْ إِطْلَاقِ ذَلِكَ اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ لِلسَّبِّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ «1» " فَمَنَعَ مِنْ سَبِّ آلِهَتَهُمْ مَخَافَةَ مقابلتهم بمثل ذلك، وقوله تعالى:" وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ «2» " الْآيَةَ، فَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الصَّيْدَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، فَكَانَتِ الْحِيتَانُ تَأْتِيهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ شُرَّعًا، أَيْ ظَاهِرَةً، فَسَدُّوا عَلَيْهَا يَوْمَ السَّبْتِ وَأَخَذُوهَا يَوْمَ الْأَحَدِ، وَكَانَ السَّدُّ ذَرِيعَةً لِلِاصْطِيَادِ، فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَذَكَرَ اللَّهُ لَنَا ذَلِكَ فِي مَعْنَى التَّحْذِيرِ عَنْ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى لِآدَمَ وَحَوَّاءَ:" وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ" وَقَدْ تَقَدَّمَ «3» . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ثَابِتَةٌ صَحِيحَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ ذكرتا كنيسة رأياها بالحبشة فيها تصاويي [فَذَكَرَتَا «4» ذَلِكَ] لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ (. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَفَعَلَ ذَلِكَ أَوَائِلُهُمْ لِيَتَأَنَّسُوا بِرُؤْيَةِ تِلْكَ الصُّوَرِ وَيَتَذَكَّرُوا أَحْوَالَهُمُ الصَّالِحَةَ فَيَجْتَهِدُونَ كَاجْتِهَادِهِمْ وَيَعْبُدُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ قُبُورِهِمْ، فَمَضَتْ لَهُمْ بِذَلِكَ أَزْمَانٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ جَهِلُوا أَغْرَاضَهُمْ، وَوَسْوَسَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَنَّ آبَاءَكُمْ وَأَجْدَادَكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ هَذِهِ الصُّورَةَ فَعَبَدُوهَا، فَحَذَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَشَدَّدَ النَّكِيرَ وَالْوَعِيدَ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَسَدَّ الذَّرَائِعَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى ذَلِكَ فَقَالَ: (اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ) وَقَالَ: (اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ) . وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُتَشَابِهَاتٌ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ «5» (الْحَدِيثَ، فَمَنَعَ مِنَ الْإِقْدَامِ
__________
(1) . راجع ج 7 ص 61 وص 304.
(2) . راجع ج 7 ص 61 وص 304.
(3) . راجع ج 1 ص 304.
(4) . زيادة عن صحيح البخاري.
(5) . ورد هذا في صحيح مسلم كتاب البيوع ببعض اختلاف في ألفاظه.(2/58)
عَلَى الشُّبُهَاتِ مَخَافَةَ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، وَذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ الْبَأْسُ) . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمَ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: (نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ) . فَجَعَلَ التَّعَرُّضُ لِسَبِ الْآبَاءِ كَسَبِ الْآبَاءِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ مِنْكُمْ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ (. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ: الْعِينَةُ هُوَ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، ثُمَّ يَشْتَرِيهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَهَا بِهِ. قَالَ: فَإِنِ اشْتَرَى بِحَضْرَةِ طَالِبِ الْعِينَةِ سِلْعَةً مِنْ آخَرَ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ وَقَبَضَهَا ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ طَالِبِ الْعِينَةِ بِثَمَنٍ أَكْثَرَ مِمَّا اشْتَرَاهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِالنَّقْدِ بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ فَهَذِهِ أَيْضًا عِينَةٌ، وَهِيَ أَهْوَنُ مِنَ الْأُولَى، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ. وَسُمِّيَتْ عِينَةً لِحُصُولِ النَّقْدِ لِصَاحِبِ الْعِينَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَيْنَ هُوَ الْمَالُ الْحَاضِرُ وَالْمُشْتَرِي إِنَّمَا يَشْتَرِيهَا لِيَبِيعَهَا بِعَيْنٍ حَاضِرٍ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ فَوْرِهِ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ أُمَّ وَلَدٍ لِزَيْدِ بْنِ الْأَرْقَمِ ذَكَرَتْ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا بَاعَتْ مِنْ زَيْدٍ عَبْدًا بِثَمَانِمِائَةٍ إِلَى الْعَطَاءِ ثُمَّ ابْتَاعَتْهُ مِنْهُ بِسِتِّمِائَةٍ نَقْدًا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بِئْسَ مَا شَرَيْتِ، وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ! أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ لَمْ يَتُبْ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ، لِأَنَّ إِبْطَالَ الْأَعْمَالِ لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا إِلَّا بِالْوَحْيِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ. وَنَهَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ دَرَاهِمَ بدراهم بينهما حريزة «1» . قُلْتُ: فَهَذِهِ هِيَ الْأَدِلَّةُ الَّتِي لَنَا عَلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَعَلَيْهِ بَنَى الْمَالِكِيَّةَ كِتَابَ الْآجَالِ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمَسَائِلِ فِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا. وَلَيْسَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كِتَابُ الْآجَالِ. لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ
__________
(1) . كذا في أ. وفى ب:" جريرة". وفى ج" جريرة". وفى ح" جريزة". ولم نوفق إلى وجه لصواب فيها.(2/59)
عُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، قَالُوا: وَأَصْلُ الْأَشْيَاءِ عَلَى الظَّوَاهِرِ لَا عَلَى الظُّنُونِ. وَالْمَالِكِيَّةُ جَعَلُوا السِّلْعَةَ مُحَلَّلَةً لِيُتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى دَرَاهِمَ بِأَكْثَرَ مِنْهَا، وَهَذَا هُوَ الرِّبَا بِعَيْنِهِ، فَاعْلَمْهُ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَا تَقُولُوا راعِنا" نَهْيٌ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ" رَاعِنَّا" مُنَوَّنَةً. وَقَالَ: أَيْ هَجْرًا مِنَ الْقَوْلِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ وَنَصْبَهُ بِالْقَوْلِ، أَيْ لَا تَقُولُوا رُعُونَةً. وَقَرَأَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ وَالْأَعْمَشُ" رَاعُونَا"، يُقَالُ لِمَا نَتَأَ مِنَ الْجَبَلِ: رَعْنٌ، وَالْجَبَلُ أَرْعَنُ. وَجَيْشٌ أَرْعَنُ، أَيْ مُتَفَرِّقٌ. وَكَذَا رَجُلُ أَرْعَنُ، أَيْ مُتَفَرِّقُ الْحُجَجِ وَلَيْسَ عَقْلُهُ مُجْتَمِعًا، عَنِ النَّحَّاسِ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: رَعُنَ الرَّجُلُ يَرْعُنُ رَعْنًا فَهُوَ أَرْعَنُ، أَيْ أَهْوَجُ. وَالْمَرْأَةُ رَعْنَاءُ. وَسُمِّيَتِ الْبَصْرَةُ رَعْنَاءَ لِأَنَّهَا تُشَبَّهُ بِرَعْنِ الْجَبَلِ، قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ ذَلِكَ، وَأَنْشَدَ لِلْفَرَزْدَقِ:
لَوْلَا ابْنُ عُتْبَةَ عَمْرٌو وَالرَّجَاءُ لَهُ ... مَا كَانَتِ الْبَصْرَةُ الرَّعْنَاءُ لِي وَطَنًا
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقُولُوا انْظُرْنا" أُمِرُوا أَنْ يُخَاطِبُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِجْلَالِ، وَالْمَعْنَى: أَقْبِلْ عَلَيْنَا وَانْظُرْ إِلَيْنَا، فَحَذَفَ حَرْفَ التَّعْدِيَةِ، كَمَا قَالَ:
ظَاهِرَاتِ الْجَمَالِ وَالْحُسْنُ يَنْظُرْ ... نَ كَمَا يَنْظُرُ الْأَرَاكَ
الظِّبَاءُ أَيْ إِلَى الْأَرَاكِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى فَهِّمْنَا وَبَيِّنْ لَنَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى انْتَظِرْنَا وَتَأَنَّ بِنَا، قَالَ «1» :
فَإِنَّكُمَا إِنْ تَنْظُرَانِي سَاعَةً ... مِنَ الدَّهْرِ يَنْفَعُنِي لَدَى أُمِّ جُنْدُبِ
وَالظَّاهِرُ اسْتِدْعَاءُ نَظَرِ الْعَيْنِ الْمُقْتَرِنِ بِتَدَبُّرِ الْحَالِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى رَاعِنَا، فَبُدِّلَتِ اللَّفْظَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَزَالَ تَعَلُّقُ الْيَهُودِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَغَيْرُهُ" أَنْظِرْنَا" بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَكَسْرِ الظَّاءِ، بِمَعْنَى أَخِّرْنَا وَأَمْهِلْنَا حَتَّى نَفْهَمَ عَنْكَ وَنَتَلَقَّى منك، قال الشاعر «2» :
أَبَا هِنْدٍ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْنَا ... وَأَنْظِرْنَا نُخَبِّرْكَ الْيَقِينَا
الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاسْمَعُوا" لَمَّا نَهَى وأمر عز وجل، حَضَّ عَلَى السَّمْعِ الَّذِي فِي ضِمْنِهِ الطَّاعَةُ. وَأَعْلَمَ أَنَّ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ فَكَفَرَ عَذَابًا أليما.
__________
(1) . القائل هو امرؤ القيس، كما في ديوانه.
(2) . هو عمرو بن كلثوم.(2/60)
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
[سورة البقرة (2) : آية 105]
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَا يَوَدُّ" أَيْ مَا يَتَمَنَّى، وَقَدْ تَقَدَّمَ «1» ." الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ" مَعْطُوفٌ عَلَى" أَهْلِ". وَيَجُوزُ: وَلَا الْمُشْرِكُونَ، تَعْطِفُهُ عَلَى الَّذِينَ، قَالَهُ النَّحَّاسُ." أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ"" مِنْ" زَائِدَةٌ،" خَيْرٌ" اسْمُ مَا لَمْ يسم فاعله. وَ" أَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ بِأَنْ يُنَزَّلَ." وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ" قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:" يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ" أَيْ بِنُبُوَّتِهِ، خَصَّ بِهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ قَوْمٌ: الرَّحْمَةُ الْقُرْآنُ وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا الَّتِي قَدْ مَنَحَهَا اللَّهُ عِبَادَهُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، يُقَالُ: رَحِمَ يَرْحَمُ إِذَا رَقَّ. وَالرُّحْمُ وَالْمَرْحَمَةُ وَالرَّحْمَةُ بِمَعْنًى، قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ. وَرَحْمَةُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ: إِنْعَامُهُ عَلَيْهِمْ وَعَفْوُهُ لَهُمْ." وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ"" ذو" بمعنى صاحب.
[سورة البقرة (2) : آية 106]
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
فِيهِ خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها"" نُنْسِها" عَطْفٌ عَلَى" نَنْسَخْ" وَحُذِفَتِ الْيَاءُ لِلْجَزْمِ. وَمَنْ قَرَأَ" نَنْسَأْهَا" حَذَفَ الضَّمَّةَ مِنَ الْهَمْزَةِ لِلْجَزْمِ، وَسَيَأْتِي مَعْنَاهُ." نَأْتِ" جَوَابُ الشَّرْطِ، وَهَذِهِ آيَةٌ عُظْمَى فِي الْأَحْكَامِ. وَسَبَبُهَا أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا حَسَدُوا الْمُسْلِمِينَ فِي التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَطَعَنُوا فِي الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِشَيْءٍ ثُمَّ يَنْهَاهُمْ عَنْهُ، فَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَلِهَذَا يُنَاقِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:" وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ «2» " وأنزل" ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ".
__________
(1) . يراجع ص 34 من هذا الجزء.
(2) . راجع ج 10 ص 176.(2/61)
الثَّانِيَةُ- مَعْرِفَةُ هَذَا الْبَابِ أَكِيدَةٌ وَفَائِدَتُهُ عَظِيمَةٌ، لَا يَسْتَغْنِي عَنْ مَعْرِفَتِهِ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يُنْكِرُهُ إِلَّا الْجَهَلَةُ الْأَغْبِيَاءُ، لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ النَّوَازِلِ فِي الْأَحْكَامِ، وَمَعْرِفَةِ الْحَلَالِ مِنَ الْحَرَامِ. رَوَى أَبُو الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: دَخَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَجُلٌ يُخَوِّفُ النَّاسَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: رَجُلٌ يُذَكِّرُ النَّاسَ، فَقَالَ: لَيْسَ بِرَجُلٍ يُذَكِّرُ النَّاسَ! لَكِنَّهُ يَقُولُ أَنَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ فَاعْرِفُونِي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَتَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟! فَقَالَ: لَا، قَالَ: فَاخْرُجْ مِنْ مَسْجِدِنَا وَلَا تُذَكِّرْ فِيهِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَعَلِمْتَ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ!. وَمِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. الثَّالِثَةُ- النَّسْخُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- النَّقْلُ، كَنَقْلِ كِتَابٍ مِنْ آخَرَ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مَنْسُوخًا، أَعْنِي مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَإِنْزَالِهِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَهَذَا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» " أَيْ نَأْمُرُ بِنَسْخِهِ وَإِثْبَاتِهِ. الثَّانِي: الْإِبْطَالُ وَالْإِزَالَةُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا، وَهُوَ مُنْقَسِمٌ فِي اللُّغَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِبْطَالُ الشَّيْءِ وَزَوَالُهُ وَإِقَامَةُ آخَرَ مَقَامَهُ، وَمِنْهُ نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ إِذَا أَذْهَبَتْهُ وَحَلَّتْ مَحَلَّهُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها". وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: (لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ إِلَّا تَنَاسَخَتْ) أَيْ تَحَوَّلَتْ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، يَعْنِي أَمْرَ الْأُمَّةِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: النَّسْخُ نَسْخُ الْكِتَابِ، وَالنَّسْخُ أَنْ تُزِيلَ أَمْرًا كَانَ مِنْ قَبْلُ يُعْمَلُ بِهِ ثُمَّ تَنْسَخَهُ بِحَادِثٍ غَيْرِهِ، كَالْآيَةِ تَنْزِلُ بأمر ثم ينسخ بأخرى. وكل شي خَلَفَ شَيْئًا فَقَدِ انْتَسَخَهُ، يُقَالُ: انْتَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَالشَّيْبُ الشَّبَابُ. وَتَنَاسَخَ الْوَرَثَةُ: أَنْ تَمُوتَ وَرَثَةٌ بَعْدَ وَرَثَةٍ وَأَصْلُ الْمِيرَاثِ قَائِمٌ لَمْ يُقْسَمْ، وَكَذَلِكَ تَنَاسُخُ الْأَزْمِنَةِ وَالْقُرُونِ. الثَّانِي: إِزَالَةُ الشَّيْءِ دُونَ أَنْ يَقُومَ آخَرُ مَقَامَهُ، كَقَوْلِهِمْ: نَسَخَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى" فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ «2» " أَيْ يُزِيلُهُ فَلَا يُتْلَى وَلَا يُثْبَتُ فِي الْمُصْحَفِ بدله.
__________
(1) . راجع ج 16 ص 175.
(2) . راجع ج 12 ص 79. [.....](2/62)
وَزَعَمَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ هَذَا النَّسْخَ الثَّانِيَ قَدْ كَانَ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّورَةَ فَتُرْفَعُ فَلَا تُتْلَى وَلَا تُكْتَبُ. قُلْتُ: وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ سُورَةَ" الْأَحْزَابِ" كَانَتْ تَعْدِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي الطُّولِ، عَلَى مَا يَأْتِي مُبَيَّنًا هُنَاكَ «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا عبد الله ابن صَالِحٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ يُونُسَ وَعَقِيلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنِ سهل ابن حُنَيْفٍ فِي مَجْلِسِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ لِيَقْرَأ سُورَةً مِنَ القرآن فلم يقدر على شي منها، وقام آخر فلم يقدر على شي منها، وقام آخر فلم يقدر على شي مِنْهَا، فَغَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: قُمْتُ اللَّيْلَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِأَقْرَأ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ فَلَمْ أقدر على شي مِنْهَا، فَقَامَ الْآخَرُ فَقَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ كَذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَامَ الْآخَرُ فَقَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ كَذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّهَا مِمَّا نَسَخَ اللَّهُ الْبَارِحَةَ) . وَفِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ: وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ يَسْمَعُ مَا يُحَدِّثُ بِهِ أَبُو أُمَامَةَ فَلَا يُنْكِرُهُ. الرَّابِعَةُ- أَنْكَرَتْ طَوَائِفُ مِنَ الْمُنْتَمِينَ لِلْإِسْلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ جَوَازَهُ، وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ السَّابِقِ عَلَى وُقُوعِهِ فِي الشَّرِيعَةِ. وَأَنْكَرَتْهُ أَيْضًا طَوَائِفُ مِنَ الْيَهُودِ، وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِمَا جَاءَ فِي تَوْرَاتِهِمْ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ السَّفِينَةِ: إِنِّي قَدْ جَعَلْتُ كُلَّ دَابَّةٍ مَأْكَلًا لَكَ وَلِذُرِّيَّتِكَ، وَأَطْلَقْتُ ذَلِكَ لَكُمْ كَنَبَاتِ الْعُشْبِ، ما خلا الدم فلا تأكلوه. ثم قد حَرَّمَ عَلَى مُوسَى وَعَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثِيرًا مِنَ الْحَيَوَانِ، وَبِمَا كَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُزَوِّجُ الْأَخَ مِنَ الْأُخْتِ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَبِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ أُمِرَ بِذَبْحِ ابْنِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: لَا تَذْبَحْهُ، وَبِأَنَّ مُوسَى أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَقْتُلُوا مَنْ عَبَدَ مِنْهُمُ الْعِجْلَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِرَفْعِ السَّيْفِ عَنْهُمْ، وَبِأَنَّ نُبُوَّتَهُ غَيْرُ مُتَعَبَّدٍ بِهَا قَبْلَ بَعْثِهِ، ثُمَّ تُعُبِّدَ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْبَدَاءِ بَلْ هُوَ نَقْلُ الْعِبَادِ مِنْ عِبَادَةٍ إِلَى عِبَادَةٍ، وَحُكْمٍ إِلَى حُكْمٍ، لِضَرْبٍ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، إِظْهَارًا لِحِكْمَتِهِ وكمال مملكته. ولا
__________
(1) . راجع ج 14 ص 113.(2/63)
خِلَافَ بَيْنِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ قُصِدَ بِهَا مَصَالِحُ الْخَلْقِ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَلْزَمُ الْبَدَاءُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَآلِ الْأُمُورِ، وَأَمَّا الْعَالِمُ بِذَلِكَ فَإِنَّمَا تَتَبَدَّلُ خِطَابَاتُهُ بِحَسَبِ تَبَدُّلِ الْمَصَالِحِ، كَالطَّبِيبِ الْمُرَاعِي أَحْوَالَ الْعَلِيلِ، فَرَاعَى ذَلِكَ فِي خَلِيقَتِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَخِطَابُهُ يَتَبَدَّلُ، وَعِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ لَا تَتَغَيَّرُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ فِي جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَجَعَلَتِ الْيَهُودُ النَّسْخَ وَالْبَدَاءَ شَيْئًا وَاحِدًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجَوِّزُوهُ فَضَلُّوا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّسْخِ وَالْبَدَاءِ أَنَّ النَّسْخَ تَحْوِيلُ العبادة من شي إلى شي قَدْ كَانَ حَلَالًا فَيُحَرَّمُ، أَوْ كَانَ حَرَامًا فَيُحَلَّلُ. وَأَمَّا الْبَدَاءُ فَهُوَ تَرْكُ مَا عُزِمَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِكَ: امْضِ إِلَى فُلَانٍ الْيَوْمَ، ثُمَّ تَقُولُ لَا تَمْضِ إِلَيْهِ، فَيَبْدُو لَكَ الْعُدُولُ عَنِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا يَلْحَقُ الْبَشَرَ لِنُقْصَانِهِمْ. وَكَذَلِكَ إِنْ قُلْتَ: ازْرَعْ كَذَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ قُلْتَ: لَا تَفْعَلْ، فَهُوَ الْبَدَاءُ. الْخَامِسَةُ- اعْلَمْ أَنَّ النَّاسِخَ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيُسَمَّى الْخِطَابُ الشَّرْعِيُّ نَاسِخًا تَجَوُّزًا، إِذْ بِهِ يَقَعُ النَّسْخُ، كَمَا قَدْ يُتَجَوَّزُ فَيُسَمَّى الْمَحْكُومُ فِيهِ نَاسِخًا، فَيُقَالُ: صَوْمُ رَمَضَانَ نَاسِخٌ لِصَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَالْمَنْسُوخُ هُوَ الْمُزَالُ، وَالْمَنْسُوخُ عَنْهُ هُوَ الْمُتَعَبِّدُ بِالْعِبَادَةِ الْمُزَالَةِ، وَهُوَ الْمُكَلَّفُ. السَّادِسَةُ- اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ أَئِمَّتِنَا فِي حَدِّ النَّاسِخِ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْحُذَّاقُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ إِزَالَةُ مَا قَدِ اسْتَقَرَّ مِنَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِخِطَابٍ وَارِدٍ مُتَرَاخِيًا، هَكَذَا حَدَّهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَزَادَا: لَوْلَاهُ لَكَانَ السَّابِقُ ثَابِتًا، فَحَافَظًا عَلَى مَعْنَى النَّسْخِ اللُّغَوِيِّ، إِذْ هُوَ بِمَعْنَى الرَّفْعِ وَالْإِزَالَةِ، وَتَحَرُّزًا مِنَ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ، وَذَكَرَ الْخِطَابَ لِيَعُمَّ وُجُوهَ الدَّلَالَةِ مِنَ النَّصِّ وَالظَّاهِرِ وَالْمَفْهُومِ وَغَيْرِهِ، وَلِيُخْرِجَ الْقِيَاسَ وَالْإِجْمَاعَ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ النَّسْخُ فِيهِمَا وَلَا بِهِمَا. وَقَيَّدَا بِالتَّرَاخِي، لِأَنَّهُ لَوِ اتَّصَلَ بِهِ لَكَانَ بَيَانًا لِغَايَةِ الْحُكْمِ لَا نَاسِخًا، أَوْ يكون آخر الكلام يرفع أوله، كقولك: قُمْ لَا تَقُمْ. السَّابِعَةُ- الْمَنْسُوخُ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا أَهْلِ السُّنَّةِ هُوَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ نَفْسُهُ لَا مِثْلُهُ، كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَنَّهُ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ بِالنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ زَائِلٌ. وَالَّذِي(2/64)
قَادَهُمْ إِلَى ذَلِكَ مَذْهَبُهُمْ فِي أَنَّ الْأَوَامِرَ مُرَادَةٌ، وَأَنَّ الْحُسْنَ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ لِلْحَسَنِ، وَمُرَادُ اللَّهِ حَسَنٌ، وَهَذَا قَدْ أَبْطَلَهُ عُلَمَاؤُنَا فِي كُتُبِهِمْ. الثَّامِنَةُ- اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْأَخْبَارِ هَلْ يَدْخُلُهَا النَّسْخُ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْخَبَرُ لَا يَدْخُلُهُ النَّسْخُ لِاسْتِحَالَةِ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: إِنَّ الْخَبَرَ إِذَا تَضَمَّنَ حُكْمًا شَرْعِيًّا جَازَ نَسْخُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً". وَهُنَاكَ «1» يَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. التَّاسِعَةُ- التَّخْصِيصُ مِنَ الْعُمُومِ يُوهِمُ أَنَّهُ نُسِخَ وَلَيْسَ بِهِ، لِأَنَّ الْمُخَصَّصَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعُمُومُ قَطُّ، وَلَوْ ثَبَتَ تَنَاوُلُ الْعُمُومِ لِشَيْءٍ مَا ثُمَّ أُخْرِجَ ذَلِكَ الشَّيْءُ عَنِ الْعُمُومِ لَكَانَ نَسْخًا لَا تَخْصِيصًا، وَالْمُتَقَدِّمُونَ يُطْلِقُونَ عَلَى التَّخْصِيصِ نَسْخًا تَوَسُّعًا وَمَجَازًا. الْعَاشِرَةُ- اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ يَرِدُ فِي الشَّرْعِ أَخْبَارٌ ظَاهِرُهَا الْإِطْلَاقُ وَالِاسْتِغْرَاقُ، وَيُرَدُ تَقْيِيدُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَيَرْتَفِعُ ذَلِكَ الْإِطْلَاقُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ «2» ". فَهَذَا الْحُكْمُ ظَاهِرُهُ خَبَرٌ عَنْ إِجَابَةِ كُلِّ دَاعٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لَكِنْ قَدْ جَاءَ مَا قَيَّدَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، كَقَوْلِهِ" فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ «3» ". فَقَدْ يَظُنُّ مَنْ لَا بَصِيرَةَ عِنْدَهُ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ النَّسْخِ فِي الْأَخْبَارِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ. وَسَيَأْتِي لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ زِيَادَةُ بَيَانٍ فِي مَوْضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: جَائِزٌ نَسْخُ الْأَثْقَلِ إِلَى الْأَخَفِّ، كَنَسْخِ الثُّبُوتِ لِعَشَرَةٍ بِالثُّبُوتِ لِاثْنَيْنِ «4» . وَيَجُوزُ نَسْخُ الْأَخَفِّ إِلَى الْأَثْقَلِ، كَنَسْخِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَالْأَيَّامِ الْمَعْدُودَةِ بِرَمَضَانَ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي آيَةِ الصِّيَامِ «5» . وَيُنْسَخُ الْمِثْلِ بِمِثْلِهِ ثِقَلًا وَخِفَّةً، كَالْقِبْلَةِ. وَيُنْسَخُ الشَّيْءُ لَا إِلَى بَدَلٍ كَصَدَقَةِ النَّجْوَى. وَيُنْسَخُ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ. وَالسُّنَّةُ بِالْعِبَارَةِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ يُرَادُ بِهَا الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ الْقَطْعِيُّ. وَيُنْسَخُ خَبَرُ الْوَاحِدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَحُذَّاقُ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ) . وَهُوَ ظَاهِرُ مَسَائِلِ مَالِكٍ. وَأَبَى ذَلِكَ الشافعي وأبو الفرج المالكي،
__________
(1) . راجع ج 10 ص 127.
(2) . ص 308 من هذا الجزء.
(3) . ج 6 ص 423.
(4) . وهو أن الله تعالى نسخ وقوف الواحد للعشرة في الجهاد بثبوته لاثنين.
(5) . ص 275 من هذا الجزء.(2/65)
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْكُلَّ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ عِنْدِهِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي الْأَسْمَاءِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَلْدَ سَاقِطٌ فِي حَدِّ الزِّنَى عَنِ الثَّيِّبِ الَّذِي يُرْجَمُ، وَلَا مُسْقِطَ لِذَلِكَ إِلَّا السُّنَّةُ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا بَيِّنٌ. وَالْحُذَّاقُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ تُنْسَخُ بِالْقُرْآنِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْقِبْلَةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ إِلَى الشَّامِ لَمْ تَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ «1» " فَإِنَّ رُجُوعَهُنَّ إِنَّمَا كَانَ بِصُلْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقُرَيْشٍ. وَالْحُذَّاقُ عَلَى تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد عقلا، واختلقوا هَلْ وَقَعَ شَرْعًا، فَذَهَبَ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُ إِلَى وُقُوعِهِ فِي نَازِلَةِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ «2» ، وَأَبَى ذَلِكَ قَوْمٌ. وَلَا يَصِحُّ نَسْخُ نَصٍّ بِقِيَاسٍ، إِذْ مِنْ شُرُوطِ الْقِيَاسِ أَلَّا يُخَالِفَ نَصًّا. وَهَذَا كُلُّهُ فِي مُدَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ وَاسْتِقْرَارِ الشَّرِيعَةِ فَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ أَنَّهُ لَا نَسْخَ، وَلِهَذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ لَا يَنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ إِذِ انْعِقَادُهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ، فَإِذَا وَجَدْنَا إِجْمَاعًا يُخَالِفُ نَصًّا فَيُعْلَمُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ اسْتَنَدَ إِلَى نَصٍّ نَاسِخٍ لَا نَعْلَمُهُ نَحْنُ، وَأَنَّ ذَلِكَ النَّصَّ الْمُخَالِفَ مَتْرُوكُ الْعَمَلِ بِهِ، وَأَنَّ مُقْتَضَاهُ نُسِخَ وَبَقِيَ سُنَّةً يُقْرَأُ وَيُرْوَى، كَمَا آيَةُ عِدَّةِ السَّنَةِ «3» فِي الْقُرْآنِ تُتْلَى، فَتَأَمَّلْ هَذَا فَإِنَّهُ نَفِيسٌ، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ نَسْخِ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ، وَمِثْلُهُ صَدَقَةُ النَّجْوَى. وَقَدْ تُنْسَخُ التِّلَاوَةُ دُونَ الْحُكْمِ كَآيَةِ الرَّجْمِ. وَقَدْ تُنْسَخُ التِّلَاوَةُ وَالْحُكْمُ مَعًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنَّا نَقْرَأُ" لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ" وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْحُذَّاقُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ فَهُوَ مُتَعَبِّدٌ بِالْحُكْمِ الْأَوَّلِ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ. وَالْحُذَّاقُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْحُكْمِ قَبْلَ فِعْلِهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ، وَفِي فَرْضِ خَمْسِينَ صَلَاةً قَبْلَ فِعْلِهَا بِخَمْسٍ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" الْإِسْرَاءِ «4» " وَ" الصَّافَّاتِ «5» "، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- لِمَعْرِفَةِ النَّاسِخِ طُرُقٌ، مِنْهَا- أَنْ يَكُونَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الْأَشْرِبَةِ إِلَّا في ظروف
__________
(1) . راجع ج 18 ص 63.
(2) . ج 8 ص 259.
(3) . يريد قوله تعالى:" مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ ... " فإنه قد نسخ حكمها وبقيت تلاوتها. راجع ج 3 ص 226.
(4) . ج 10 ص 210.
(5) . ج 15 ص 107.(2/66)
الْأَدَمِ فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَلَّا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا) وَنَحْوَهُ. وَمِنْهَا- أَنْ يَذْكُرَ الرَّاوِي التَّارِيخَ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: سَمِعْتُ عَامَ الْخَنْدَقِ، وَكَانَ الْمَنْسُوخُ مَعْلُومًا قَبْلَهُ. أَوْ يَقُولُ: نُسِخَ حُكْمُ كَذَا بِكَذَا. وَمِنْهَا- أَنْ تُجْمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى حُكْمٍ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَأَنَّ نَاسِخَهُ مُتَقَدِّمٌ. وَهَذَا الْبَابُ مَبْسُوطٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، نَبَّهْنَا مِنْهُ عَلَى مَا فِيهِ لِمَنِ اقْتَصَرَ كِفَايَةً، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلْهِدَايَةِ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَرَأَ الْجُمْهُورُ" مَا نَنْسَخْ" بِفَتْحِ النُّونِ، مِنْ نَسَخَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُسْتَعْمَلُ عَلَى مَعْنَى: مَا نَرْفَعْ مِنْ حُكْمِ آيَةٍ وَنُبْقِي تِلَاوَتَهَا، كَمَا تَقَدَّمَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَا نَرْفَعْ مِنْ حُكْمِ آيَةٍ وَتِلَاوَتِهَا، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ" نُنْسِخْ" بِضَمِ النُّونِ، مِنْ أَنْسَخْتُ الْكِتَابَ، عَلَى مَعْنَى وَجَدْتُهُ مَنْسُوخًا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ غَلَطٌ: وَقَالَ الْفَارِسِيُّ أَبُو عَلِيٍّ: لَيْسَتْ لُغَةً، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: نَسَخَ وَأَنْسَخَ بِمَعْنًى، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَا نَجِدُهُ مَنْسُوخًا، كَمَا تَقُولُ: أَحْمَدْتُ الرَّجُلَ وَأَبْخَلْتُهُ، بِمَعْنَى وَجَدْتُهُ مَحْمُودًا وَبَخِيلًا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَلَيْسَ نَجِدُهُ مَنْسُوخًا إِلَّا بِأَنْ نَنْسَخَهُ، فَتَتَّفِقُ الْقِرَاءَتَانِ فِي الْمَعْنَى وَإِنِ اخْتَلَفَتَا فِي اللَّفْظِ. وَقِيلَ:" مَا نَنْسَخْ" مَا نَجْعَلْ لَكَ نَسْخَهُ، يُقَالُ: نَسَخْتُ الْكِتَابَ إِذَا كَتَبْتُهُ، وَانْتَسَخْتُهُ غَيْرِي إِذَا جَعَلْتَ نَسْخَهُ لَهُ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ لِلتَّعَدِّي، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَتَغَيَّرُ، وَيَصِيرُ الْمَعْنَى مَا نَنْسَخُكَ مِنْ آيَةٍ يَا مُحَمَّدُ، وَإِنْسَاخُهُ إِيَّاهَا إِنْزَالُهَا عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى مَا نُنَزِّلُ عَلَيْكَ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بخير منها أو مثلها، فيؤول الْمَعْنَى إِلَى أَنَّ كُلَّ آيَةٍ أُنْزِلَتْ أَتَى بِخَيْرٍ مِنْهَا، فَيَصِيرُ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مَنْسُوخًا وَهَذَا لَا يُمْكِنُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ إِلَّا الْيَسِيرُ مِنَ الْقُرْآنِ. فَلَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ أَفْعَلَ وَفَعَلَ بِمَعْنًى إِذْ لَمْ يُسْمَعْ، وَامْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ لِلتَّعَدِّي لِفَسَادِ الْمَعْنَى، لَمْ يَبْقَ مُمْكِنٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ أَحْمَدْتُهُ وَأَبْخَلْتُهُ إِذَا وَجَدْتُهُ مَحْمُودًا أَوْ بَخِيلًا. الرَّابِعَةَ عشرة- قوله تعالى:" أَوْ نُنْسِها" قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَالسِّينِ وَالْهَمْزِ، وَبِهِ قَرَأَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، مِنَ التَّأْخِيرِ، أَيْ نُؤَخِّرُ نَسْخَ لَفْظِهَا، أَيْ نَتْرُكُهُ فِي آخِرِ «1» أُمِّ الْكِتَابِ فَلَا يَكُونُ «2» . وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ. وَقَالَ غَيْرُ عَطَاءٍ: مَعْنَى أَوْ نَنْسَأْهَا: نُؤَخِّرْهَا عَنِ النَّسْخِ إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ، من قولهم:
__________
(1) . كذا في نسخة أوالذي في ب، ج، ح، ز:" في أم الكتاب".
(2) . في ح:" فلا تكن نسخا".(2/67)
نَسَأْتُ هَذَا الْأَمْرَ إِذَا أَخَّرْتَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُمْ: بِعْتُهُ نَسْأً إِذَا أَخَّرْتَهُ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَيَقُولُونَ: نَسَأَ اللَّهُ فِي أَجَلِكَ، وَأَنْسَأَ اللَّهُ أَجَلَكَ. وَقَدِ انْتَسَأَ الْقَوْمُ إِذَا تَأَخَّرُوا وَتَبَاعَدُوا، وَنَسَأْتُهُمْ أَنَا أَخَّرْتَهُمْ. فَالْمَعْنَى نُؤَخِّرُ نُزُولَهَا أَوْ نَسْخَهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَقِيلَ: نُذْهِبُهَا عَنْكُمْ حَتَّى لَا تُقْرَأَ وَلَا تُذْكَرَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ" نُنْسِها" بِضَمِ النُّونِ، مِنَ النِّسْيَانِ الَّذِي بِمَعْنَى التَّرْكِ، أَيْ نَتْرُكُهَا فَلَا نُبَدِّلُهَا وَلَا نَنْسَخُهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ «1» " أَيْ تَرَكُوا عِبَادَتَهُ فَتَرَكَهُمْ فِي الْعَذَابِ. وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: سَمِعْتُ أَبَا نُعَيْمٍ الْقَارِئَ يَقُولُ: قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ بِقِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلِيَّ إِلَّا حَرْفَيْنِ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَيْهِ" أَرِنا «2» " فَقَالَ: أَرِنَا، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَأَحْسَبُ الْحَرْفَ الْآخَرَ" أَوْ نَنْسَأْهَا" فَقَالَ:" أَوْ نُنْسِها". وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ" نُنْسِها" نَأْمُرُ بِتَرْكِهَا، يُقَالُ: أَنْسَيْتُهُ الشَّيْءَ أَيْ أَمَرْتُ بِتَرْكِهِ، وَنَسِيتُهُ تَرَكْتُهُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ عَلَيَّ عُقْبَةً أقضيها ... لست بناسيها ومنسيها «3»
أَيْ وَلَا آمُرُ بِتَرْكِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْقِرَاءَةَ بِضَمِ النُّونِ لَا يَتَوَجَّهُ فِيهَا مَعْنَى التَّرْكِ، لَا يُقَالُ: أَنْسَى بِمَعْنَى تَرَكَ، وَمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ" أَوْ نُنْسِها" قَالَ: نَتْرُكُهَا لَا نُبَدِّلُهَا، فَلَا يَصِحُّ. وَلَعَلَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: نَتْرُكُهَا، فَلَمْ يَضْبِطْ. وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالنَّظَرِ أَنَّ مَعْنَى" أَوْ نُنْسِها" نُبِحْ لَكُمْ تَرْكَهَا، مِنْ نَسِيَ إِذَا تَرَكَ، ثُمَّ تُعَدِّيهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ: ذَلِكَ مُتَّجَهٌ، لِأَنَّهُ بِمَعْنَى نَجْعَلُكَ تَتْرُكُهَا. وَقِيلَ: مِنَ النِّسْيَانِ عَلَى بَابِهِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الذِّكْرِ، عَلَى مَعْنَى أَوْ نُنْسِكَهَا يَا مُحَمَّدُ فَلَا تَذْكُرُهَا، نُقِلَ بِالْهَمْزِ فَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ: وَهُمَا النَّبِيُّ وَالْهَاءُ، لَكِنِ اسْمُ النَّبِيِّ مَحْذُوفٌ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- قوله تعالى:" نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها" لَفْظَةُ" بِخَيْرٍ" هُنَا صِفَةُ تَفْضِيلٍ، وَالْمَعْنَى بِأَنْفَعِ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فِي عَاجِلٍ إِنْ كَانَتِ النَّاسِخَةُ أَخَفَّ، وَفِي آجِلٍ إن كانت أثقل، وبمثلها
__________
(1) . راجع ج 8 ص 199. [.....]
(2) . سيأتي الكلام عليها في ص 127 من هذا الجزء.
(3) . العقبة (بضم فسكون) من معانيها: الإبل يرعاها الرجل ويسقها، أي أنا أسوق عقبى وأحسن رعيها.(2/68)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
إن كانت مستوية. وقال مالك: محكمة فكان؟ مَنْسُوخَةٍ. وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِأَخْيَرِ التَّفْضِيلِ، لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يَتَفَاضَلُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ:" مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها «1» " أَيْ فَلَهُ مِنْهَا خَيْرٌ، أَيْ نَفْعٌ وَأَجْرٌ، لَا الْخَيْرُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْأَفْضَلُ، وَيَدُلُّ على القول الأول قوله:" أَوْ مِثْلِها".
[سورة البقرة (2) : آية 107]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَلَمْ تَعْلَمْ" جُزِمَ بِلَمْ، وَحُرُوفُ الِاسْتِفْهَامِ لَا تُغَيِّرُ عَمَلَ الْعَامِلِ، وَفُتِحَتْ" أَنَّ" لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ نَصْب." لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" أَيْ بِالْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاعِ، وَالْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ، وَنُفُوذُ الْأَمْرِ وَالْإِرَادَةِ. وَارْتَفَعَ" مُلْكُ" بالابتداء، والخبر" اللَّهَ" وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ" أَنَّ". وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، لِقَوْلِهِ:" وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ" وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ ألم تعلموا أن لله سلطان السموات وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ، مِنْ وَلَيْتُ أَمْرَ فُلَانٍ، أَيْ قُمْتُ بِهِ، وَمِنْهُ وَلِيُّ الْعَهْدِ، أَيِ الْقَيِّمُ بِمَا عُهِدَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَعْنَى" مِنْ دُونِ اللَّهِ" سوى لله وَبَعْدَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
يَا نَفْسُ مَا لَكِ دُونَ اللَّهِ مِنْ وَاقِ ... وَمَا عَلَى حَدَثَانِ الدَّهْرِ مِنْ بَاقِ
وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ" وَلا نَصِيرٍ" بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى" وَلِيٍّ" وَيَجُوزُ" وَلَا نَصِيرٌ" بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى مَا لَكُمْ مِنْ دون الله ولي ولا نصير.
[سورة البقرة (2) : آية 108]
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَمْ تُرِيدُونَ" هَذِهِ" أَمِ" الْمُنْقَطِعَةَ الَّتِي بِمَعْنَى بَلْ، أَيْ بَلْ تُرِيدُونَ، وَمَعْنَى الكلام التوبيخ." أَنْ تَسْئَلُوا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِ" تُرِيدُونَ"." كَمَا سُئِلَ" الكاف في موضع
__________
(1) . راجع ج 13 ص 244.(2/69)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
نَصْبِ نَعْتٍ لِمَصْدَرٍ، أَيْ سُؤَالًا كَمَا. وَ" مُوسى " فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ." مِنْ قَبْلُ": سُؤَالُهُمْ إِيَّاهُ أَنْ يُرِيَهُمُ اللَّهَ جَهْرَةً، وَسَأَلُوا مُحَمَّدًا أَنْ يَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: سَأَلُوا أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ" كَمَا سِيلَ"، وَهَذَا عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: سَلْتُ أَسْأَلُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَدَلَ الْهَمْزَةِ يَاءٌ سَاكِنَةٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ فَانْكَسَرَتِ السِّينُ قَبْلَهَا. قَالَ النَّحَّاسُ: بَدَلُ الْهَمْزَةِ بعيد. والسواء من كل شي: الْوَسَطُ. قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:" فِي سَواءِ الْجَحِيمِ". وَحَكَى عِيسَى بْنُ عُمَرَ قَالَ: مَا زِلْتُ أَكْتُبُ حَتَّى انْقَطَعَ سَوَائِي، وَأَنْشَدَ قَوْلَ حَسَّانَ يَرْثِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَا وَيْحَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ وَرَهْطِهِ ... بَعْدَ الْمُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ الْمُلْحَدِ
وَقِيلَ: السَّوَاءُ الْقَصْدُ، عَنِ الْفَرَّاءُ، أَيْ ذَهَبَ عَنْ قَصْدِ الطَّرِيقِ وَسَمْتِهِ، أَيْ طَرِيقِ طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خُزَيْمَةَ وَوَهْبَ بْنَ زَيْدٍ قَالَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ائْتِنَا بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ نَقْرَؤُهُ، وَفَجِّرْ لَنَا أَنْهَارًا نَتَّبِعْكَ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 109 الى 110]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ". فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى-" وَدَّ" تَمَنَّى، وَقَدْ تَقَدَّمَ «1» ." كُفَّاراً" مَفْعُولٌ ثَانٍ بِ" يَرُدُّونَكُمْ"." مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ" قِيلَ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ" وَدَّ". وَقِيلَ: بِ" حَسَداً"، فَالْوَقْفُ عَلَى قوله:" كُفَّاراً". و" حَسَداً" مفعول له، أي ود. ذَلِكَ لِلْحَسَدِ، أَوْ مَصْدَرٌ دَلَّ عَلَى مَا قَبْلَهُ عَلَى الْفِعْلِ. وَمَعْنَى" مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ" أي من
__________
(1) . راجع ص 34 من هذا الجزء.(2/70)
تِلْقَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِدُوهُ فِي كِتَابٍ وَلَا أُمِرُوا بِهِ، وَلَفْظَةُ الْحَسَدِ تُعْطِي هَذَا. فَجَاءَ (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ" تَأْكِيدًا وَإِلْزَامًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ «1» "،" يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ"،" وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «2» ". وَالْآيَةُ فِي الْيَهُودِ. الثَّانِيَةُ- الْحَسَدُ نَوْعَانِ: مَذْمُومٌ وَمَحْمُودٌ، فَالْمَذْمُومُ أَنْ تَتَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَنْ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ، وَسَوَاءٌ تَمَنَّيْتَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَعُودَ إِلَيْكَ أَوْ لَا، وَهَذَا النَّوْعُ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ:" أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «3» " وَإِنَّمَا كَانَ مَذْمُومًا لِأَنَّ فِيهِ تَسْفِيهٌ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَى مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ. وَأَمَّا الْمَحْمُودُ فَهُوَ مَا جَاءَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَيْنِ رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ (. وَهَذَا الْحَسَدُ مَعْنَاهُ الْغِبْطَةُ. وَكَذَلِكَ تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ" بَابَ الِاغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ". وَحَقِيقَتُهَا: أَنْ تَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَكَ مَا لِأَخِيكَ الْمُسْلِمِ مِنَ الْخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ وَلَا يَزُولُ عَنْهُ خَيْرُهُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى هَذَا مُنَافَسَةً، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ «4» "." مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ" أَيْ من بعد ما تبين لهم الْحَقُّ لَهُمْ وَهُوَ مُحَمَّدُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى-" فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا" فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى:" فَاعْفُوا" وَالْأَصْلُ اعْفُوُوا حُذِفَتِ الضَّمَّةُ لِثِقَلِهَا، ثُمَّ حُذِفَتِ الْوَاوُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَالْعَفْوُ: تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ. وَالصَّفْحُ: إِزَالَةُ أَثَرِهِ مِنَ النَّفْسِ. صَفَحْتُ عَنْ فُلَانٍ إِذَا أَعْرَضْتُ عَنْ ذَنْبِهِ. وَقَدْ ضَرَبْتُ عَنْهُ صَفْحًا إِذَا أَعْرَضْتُ عَنْهُ وَتَرَكْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً «5» ". الثَّانِيَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ:" قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ" إِلَى قَوْلِهِ:" صاغِرُونَ «6» " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: النَّاسِخُ لَهَا" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «7» ". قَالَ أبو عبيدة:
__________
(1) . راجع ج 4 ص 267.
(2) . ج 6 ص 419.
(3) . ج 5 ص 251.
(4) . ج 19 ص 264.
(5) . ج 16 ص 62.
(6) . ج 8 ص 109.
(7) . ج 8 ص 72.(2/71)
كُلُّ آيَةٍ فِيهَا تَرْكٌ لِلْقِتَالِ فَهِيَ مَكِّيَّةٌ مَنْسُوخَةٌ بِالْقِتَالِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَحُكْمُهُ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مُعَانَدَاتِ الْيَهُودِ إِنَّمَا كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ. قُلْتُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ «1» وَأُسَامَةُ وَرَاءَهُ، يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي الْحَارِثِ ابن الْخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَسَارَا حَتَّى مَرَّا بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ «2» - وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ- فَإِذَا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلَاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ، وَفِي الْمُسْلِمِينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ «3» الدَّابَّةِ خَمَّرَ «4» ابْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ وقال: لا تغيروا عَلَيْنَا! فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: أَيُّهَا الْمَرْءُ، لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقًّا! فَلَا تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا، [ارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ «5» [فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَاغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا، فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ. فَاسْتَتَبَّ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَنُوا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَابَّتَهُ فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( [يَا سَعْدُ] «6» أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ- يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ- قَالَ كَذَا وَكَذَا) فَقَالَ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وأمي! اعف عنه واصفح، فو الذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لَقَدْ جَاءَكَ اللَّهُ بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ، وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ «7» عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ وَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ، فَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ شَرِقَ بِذَلِكَ، فَذَلِكَ فِعْلُ مَا رَأَيْتَ، فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ كَمَا
__________
(1) . فدكية: منسوبة إلى فدك (بالتحريك) قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان.
(2) . سلول: أم عبد الله بن أبى.
(3) . العجاج: الغبار. [.....]
(4) . خمر أنفه: غطاه.
(5) . زيادة عن صحيحي البخاري ومسلم يقتضيها السياق. والرحل: المنزل.
(6) . زيادة عن صحيحي البخاري ومسلم يقتضيها السياق. والرحل: المنزل.
(7) . البحيرة (تصغير البحرة) : مدينة الرسول عليه السلام، وقد جاء في رواية مكيرا.(2/72)
أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً «1» "، وَقَالَ:" وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ". فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَوَّلُ فِي الْعَفْوِ عَنْهُمْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ حَتَّى أَذِنَ لَهُ فِيهِمْ، فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا فَقَتَلَ اللَّهُ بِهِ مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ الْكُفَّارِ وَسَادَاتِ قُرَيْشٍ، فَقَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ غَانِمِينَ مَنْصُورِينَ، مَعَهُمْ أُسَارَى مِنْ صَنَادِيدِ الْكُفَّارِ وَسَادَاتِ قُرَيْشٍ، قَالَ عبد الله بن أبي بن سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ «2» ، فَبَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامُ، فَأَسْلَمُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى:" حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ" يَعْنِي قَتْلَ قُرَيْظَةَ وَجَلَاءَ بَنِي النَّضِيرِ." إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ" تَقَدَّمَ «3» . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ" جَاءَ فِي الْحَدِيثِ (أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا مَاتَ قَالَ النَّاسُ مَا خَلَّفَ وَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ مَا قَدَّمَ) . وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ) . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ. مَالُكَ مَا قَدَّمْتَ وَمَالُ وَارِثِكَ مَا أَخَّرْتَ) ، لَفْظُ النَّسَائِيِّ. وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: قَالَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ، قَالَ: (فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالَ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ) . وَجَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ «4» فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْقُبُورِ، أَخْبَارُ مَا عِنْدَنَا أَنَّ نِسَاءَكُمْ قَدْ تَزَوَّجْنَ، وَدُورَكُمْ قَدْ سُكِنَتْ، وَأَمْوَالَكُمْ قَدْ قُسِمَتْ. فَأَجَابَهُ هَاتِفٌ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَخْبَارُ مَا عِنْدَنَا أَنَّ مَا قَدَّمْنَاهُ وَجَدْنَاهُ، وَمَا أَنْفَقْنَاهُ فَقَدْ رَبِحْنَاهُ، وَمَا خَلَّفْنَاهُ فَقَدْ خَسِرْنَاهُ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ:
قَدِّمْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ صَالِحًا ... وَاعْمَلْ فَلَيْسَ إِلَى الخلو سبيل
__________
(1) . راجع ج 4 ص 303.
(2) . أي ظهر وجهه.
(3) . يراجع ج 1 ص 164 ويا بعدها، 224، 343 وما بعدها، طبعه ثانية.
(4) . بقيع الغرقد: مقبرة أهل المدينة.(2/73)
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
وَقَالَ آخَرُ:
قَدِّمْ لِنَفْسِكَ تَوْبَةً مَرْجُوَّةً ... قَبْلَ الْمَمَاتِ وَقَبْلَ حَبْسِ الْأَلْسُنِ
وَقَالَ آخَرُ:
وَلَدْتُكَ إِذْ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ بَاكِيًا ... وَالْقَوْمُ حَوْلَكَ يَضْحَكُونَ سُرُورَا
فَاعْمَلْ لِيَوْمِ تَكُونُ فِيهِ إِذَا بَكَوْا ... فِي يَوْمِ مَوْتِكَ ضَاحِكًا مَسْرُورَا
وَقَالَ آخَرُ:
سَابِقْ إِلَى الْخَيْرِ وَبَادِرْ بِهِ ... فَإِنَّمَا خَلْفَكَ مَا تَعْلَمُ
وَقَدِّمِ الْخَيْرَ فَكُلُّ امْرِئٍ ... عَلَى الَّذِي قَدَّمَهُ يَقْدَمُ
وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ قول أبي العتاهية:
استعد بِمَالِكَ فِي حَيَاتِكَ إِنَّمَا ... يَبْقَى وَرَاءَكَ مُصْلِحٌ أَوْ مُفْسِدُ
وَإِذَا تَرَكْتَ لِمُفْسِدٍ لَمْ يُبْقِهِ ... وَأَخُو الصَّلَاحِ قَلِيلُهُ يَتَزَيَّدُ
وَإِنِ اسْتَطَعْتَ فَكُنْ لِنَفْسِكَ وَارِثًا ... إِنَّ الْمُوَرِّثَ نَفْسَهُ لَمُسَدَّدُ
" إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" تقدم «1» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 111 الى 112]
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى " الْمَعْنَى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا. وَقَالَتْ النَّصَارَى لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ يَكُونَ" هُوداً" بِمَعْنَى يهوديا، حذف منه الزائد، وأن يكون
__________
(1) . يراجع ص 35 من هذا الجزء.(2/74)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
جَمْعٌ هَائِدٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ:" إِلَّا مَنْ كانَ" جَعَلَ" كَانَ" وَاحِدًا عَلَى لَفْظِ" مَنْ"، ثُمَّ قَالَ هُودًا فَجَمَعَ، لِأَنَّ مَعْنَى" مَنْ" جَمْعٍ. وَيَجُوزُ" تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ" وَتَقَدَّمَ «1» الْكَلَامُ فِي هَذَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ" أَصْلُ" هاتُوا" هَاتِيُوا، حُذِفَتِ الضَّمَّةُ لِثِقَلِهَا ثُمَّ حُذِفَتِ الْيَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، يُقَالُ فِي الْوَاحِدِ الْمُذَكَّرِ: هَاتِ، مِثْلَ رَامِ، وَفِي الْمُؤَنَّثِ: هَاتِي، مِثْلِ رَامِي. وَالْبُرْهَانُ: الدَّلِيلُ الَّذِي يُوقِعُ الْيَقِينَ، وَجَمْعُهُ بَرَاهِينُ، مِثْلُ قُرْبَانٍ وَقَرَابِينَ، وَسُلْطَانٍ وَسَلَاطِينَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: طَلَبُ الدَّلِيلِ هُنَا يَقْضِي إِثْبَاتَ النَّظَرِ وَيَرُدُّ عَلَى مَنْ يَنْفِيهِ." إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ" يَعْنِي فِي إِيمَانِكُمْ أَوْ فِي قَوْلِكُمْ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، أَيْ بَيِّنُوا مَا قُلْتُمْ بِبُرْهَانٍ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:" بَلى " رَدًّا عَلَيْهِمْ وَتَكْذِيبًا لَهُمْ، أَيْ لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ. وَقِيلَ: إِنَّ" بَلى " مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قِيلَ أَمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ؟ فَقِيلَ:" بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ" وَمَعْنَى" أَسْلَمَ" اسْتَسْلَمَ وَخَضَعَ. وَقِيلَ: أَخْلَصَ عَمَلَهُ. وَخَصَّ الْوَجْهَ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِ أَشْرَفَ مَا يُرَى مِنَ الْإِنْسَانِ، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْحَوَاسِّ، وَفِيهِ يَظْهَرُ الْعِزُّ وَالذُّلُّ. وَالْعَرَبُ تُخْبِرُ بِالْوَجْهِ عَنْ جُمْلَةِ الشَّيْءِ. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْوَجْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَقْصِدَ." وَهُوَ مُحْسِنٌ" جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَعَادَ الضَّمِيرُ فِي" وَجْهَهُ" و" لِلَّهِ" عَلَى لَفْظِ" مَنْ" وَكَذَلِكَ" أَجْرُهُ" وَعَادَ فِي" عَلَيْهِمْ" عَلَى الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ فِي" يَحْزَنُونَ" وَقَدْ تقدم «2» .
[سورة البقرة (2) : آية 113]
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
__________
(1) . راجع المسألة الثانية ص 5 من هذا الجزء.
(2) . راجع ج 1 ص 329 طبعه ثانية.(2/75)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
مَعْنَاهُ ادَّعَى كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَنَّ صَاحِبَهُ ليس على شي، وَأَنَّهُ أَحَقُّ بِرَحْمَةِ اللَّهِ مِنْهُ." وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ" يعني التوراة والإنجيل، والحملة في موضع الحال. وَالْمُرَادُ بِ" الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ" فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ: كُفَّارُ الْعَرَبِ، لِأَنَّهُمْ لَا كِتَابَ لَهُمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمُرَادُ أُمَمٌ كَانَتْ قَبْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْمَعْنَى كَذَلِكَ قَالَتِ الْيَهُودُ قَبْلَ النَّصَارَى. ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدِمَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْهُمْ أَحْبَارُ يَهُودٍ، فَتَنَازَعُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ للأخرى لستم على شي، فنزلت الآية.
[سورة البقرة (2) : آية 114]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ"" مَنْ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، و" أَظْلَمُ" خبره، والمعنى لا أحد أظلم. و" أَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ" مَساجِدَ"، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: كَرَاهِيَةَ أَنْ يُذْكَرَ، ثُمَّ حُذِفَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: مِنْ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا، وَحَرْفُ الْخَفْضِ يُحْذَفُ مَعَ" أَنْ" لِطُولِ الْكَلَامِ. وَأَرَادَ بِالْمَسَاجِدِ هُنَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَمَحَارِيبَهُ. وَقِيلَ الْكَعْبَةُ، وَجُمِعَتْ لِأَنَّهَا قِبْلَةُ الْمَسَاجِدِ أَوْ لِلتَّعْظِيمِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ سَائِرُ الْمَسَاجِدِ، وَالْوَاحِدُ مَسْجِدٌ (بِكَسْرِ الْجِيمِ) ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: مَسْجَدٌ، (بِفَتْحِهَا) . قَالَ الْفَرَّاءُ:" كُلُّ مَا كَانَ عَلَى فَعَلَ يَفْعُلُ، مِثْلَ دَخَلَ يَدْخُلُ، فَالْمَفْعَلُ مِنْهُ بِالْفَتْحِ اسْمًا كَانَ أَوْ مَصْدَرًا، وَلَا يَقَعُ فِيهِ الْفَرْقُ، مِثْلُ دَخَلَ يَدْخُلُ مَدْخَلًا، وَهَذَا مَدْخَلُهُ، إِلَّا أَحْرُفًا مِنَ الْأَسْمَاءِ أَلْزَمُوهَا كَسْرَ الْعَيْنِ، مِنْ ذَلِكَ: الْمَسْجِدُ وَالْمَطْلِعُ وَالْمَغْرِبُ وَالْمَشْرِقُ وَالْمَسْقِطُ وَالْمَفْرِقُ وَالْمَجْزِرُ وَالْمَسْكِنُ وَالْمَرْفِقُ (مِنْ رَفَقَ يَرْفُقُ) وَالْمَنْبِتُ وَالْمَنْسِكُ (مِنْ نَسَكَ ينسك) ، فجعلوا(2/76)
الْكَسْرَ عَلَامَةً لِلِاسْمِ، وَرُبَّمَا فَتَحَهُ بَعْضُ الْعَرَبِ فِي الِاسْمِ". وَالْمَسْجَدُ (بِالْفَتْحِ) : جَبْهَةُ الرَّجُلِ حَيْثُ يُصِيبُهُ نَدْبُ السُّجُودِ. وَالْآرَابُ «1» : السَّبْعَةُ مَسَاجِدَ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَفِيمَنْ نَزَلَتْ، فَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بُخْتَ نَصَّرَ، لِأَنَّهُ كَانَ أَخْرَبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: نَزَلَتْ فِي النَّصَارَى، وَالْمَعْنَى كَيْفَ تَدَّعُونَ أَيُّهَا النَّصَارَى أَنَّكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ! وَقَدْ خَرَّبْتُمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَمَنَعْتُمُ الْمُصَلِّينَ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا: التَّعَجُّبُ مِنْ فِعْلِ النَّصَارَى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعَ تَعْظِيمِهِمْ لَهُ، وَإِنَّمَا فَعَلُوا مَا فَعَلُوا عَدَاوَةٌ لِلْيَهُودِ. رَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ النَّصَارَى، حَمَلَهُمْ إِبْغَاضُ الْيَهُودِ عَلَى أَنْ أَعَانُوا بُخْتَ نَصَّرَ الْبَابِلِيَّ الْمَجُوسِيَّ عَلَى تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَرُوِيَ أَنَّ هَذَا التَّخْرِيبَ بَقِيَ إِلَى زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ إِذْ مَنَعُوا الْمُصَلِّينَ وَالنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَدُّوهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ مَنَعَ مِنْ كُلِّ مَسْجِدٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، فَتَخْصِيصُهَا بِبَعْضِ الْمَسَاجِدِ وَبَعْضِ الْأَشْخَاصِ ضَعِيفٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- خَرَابُ الْمَسَاجِدِ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا كَتَخْرِيبِ بُخْتَ نَصَّرَ وَالنَّصَارَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُمْ غَزَوْا بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ بَعْضِ مُلُوكِهِمْ- قِيلَ: اسْمُهُ نطوس «2» بْنُ اسبيسانوس الرُّومِيُّ فِيمَا ذَكَرَ الْغَزْنَوِيُّ- فَقَتَلُوا وَسَبَوْا، وَحَرَّقُوا التَّوْرَاةَ، وَقَذَفُوا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ الْعَذِرَةَ وَخَرَّبُوهُ. وَيَكُونُ مَجَازًا كَمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَتَعْطِيلُ الْمَسَاجِدِ عَنِ الصَّلَاةِ وَإِظْهَارُ شَعَائِرِ الإسلام فيها خراب لها.
__________
(1) . الآراب (جمع إرب بكسر فسكون) : الأعضاء، والمراد بالسبعة: الجبهة واليدان والركبتان والقدمان.
(2) . اضطربت الأصول في رسم هذا الاسم، ففي أ، ح، ز،" بطوس" بالباء الموحدة التحتانية. وفى ب:" تطرس" بالتاء المثناة من فوق، وفى ح:" نطوس" بالنون.(2/77)
الرَّابِعَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَلِهَذَا قُلْنَا لَا يَجُوزُ منع المرأة من الحج إذا كانت ضرورة «1» ، سَوَاءٌ كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا تُمْنَعُ أَيْضًا مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ مَا لَمْ يُخَفْ عَلَيْهَا الْفِتْنَةُ، وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ) وَلِذَلِكَ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ نَقْضُ الْمَسْجِدِ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا تَعْطِيلُهُ وَإِنْ خَرِبَتِ الْمَحَلَّةُ، وَلَا يُمْنَعُ بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ إِلَّا أَنْ يَقْصِدُوا الشِّقَاقَ وَالْخِلَافَ، بِأَنْ يَبْنُوا مَسْجِدًا إِلَى جَنْبِ مَسْجِدٍ أَوْ قُرْبِهِ، يُرِيدُونَ بِذَلِكَ تَفْرِيقَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْأَوَّلِ وَخَرَابِهِ وَاخْتِلَافَ الْكَلِمَةِ، فَإِنَّ الْمَسْجِدَ الثَّانِيَ يُنْقَضُ وَيُمْنَعُ مِنْ بُنْيَانِهِ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمِصْرِ جَامِعَانِ، وَلَا لِمَسْجِدٍ وَاحِدٍ إِمَامَانِ، وَلَا يُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ جَمَاعَتَانِ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا كُلِّهِ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي سُورَةِ" بَرَاءَةٌ «2» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي" النُّورِ «3» " حُكْمُ الْمَسَاجِدِ وَبِنَائِهَا بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَدَلَّتِ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى تَعْظِيمِ أَمْرِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ وَأَعْظَمَهَا أَجْرًا كَانَ مَنْعُهَا أَعْظَمَ إِثْمًا. الْخَامِسَةُ- كُلُّ مَوْضِعٍ يُمْكِنُ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ فِيهِ وَيُسْجَدَ لَهُ يُسَمَّى مَسْجِدًا، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا) ، أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ. وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْبُقْعَةَ إِذَا عُيِّنَتْ لِلصَّلَاةِ بِالْقَوْلِ خَرَجَتْ عَنْ جُمْلَةِ الْأَمْلَاكِ الْمُخْتَصَّةِ بِرَبِّهَا وَصَارَتْ عَامَّةً لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ بَنَى رَجُلٌ فِي دَارِهِ مَسْجِدًا وَحَجَزَهُ عَلَى النَّاسِ وَاخْتَصَّ بِهِ لِنَفْسِهِ لَبَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى حَدِّ الْمَسْجِدِيَّةِ، وَلَوْ أَبَاحَهُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ الْعَامَّةِ، وَخَرَجَ عَنِ اخْتِصَاصِ الْأَمْلَاكِ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ"" أُولئِكَ" مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ." خائِفِينَ" حَالٌ، يَعْنِي إِذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ وَحَصَلَتْ تَحْتَ سُلْطَانِهِمْ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْكَافِرُ حِينَئِذٍ مِنْ دُخُولِهَا. فَإِنْ دَخَلُوهَا، فَعَلَى خَوْفٍ مِنْ إِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ، وَتَأْدِيبِهِمْ عَلَى دُخُولِهَا. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ لَهُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ بِحَالٍ، عَلَى مَا يَأْتِي فِي" بَرَاءَةٌ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمَنْ جَعَلَ الْآيَةَ فِي النَّصَارَى رَوَى أنه مر زمان
__________
(1) . الصرورة: التي لم تحج قط. [.....]
(2) . راجع ج 8 ص 254 وص 104.
(3) . ج 12 ص 265.(2/78)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
بَعْدَ بِنَاءِ عُمَرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَدْخُلُهُ نَصْرَانِيٌّ إِلَّا أُوجِعَ ضَرْبًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُتَعَبَّدَهُمْ. وَمَنْ جَعَلَهَا فِي قُرَيْشٍ قَالَ: كَذَلِكَ نُودِيَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَا لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ) . وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ وَمَقْصُودُهُ الْأَمْرُ، أَيْ جَاهِدُوهُمْ وَاسْتَأْصِلُوهُمْ حَتَّى لَا يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْهُمُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِلَّا خَائِفًا، كَقَوْلِهِ:" وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ «1» " فَإِنَّهُ نَهْيٌ وَرَدَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ" قِيلَ الْقَتْلُ لِلْحَرْبِيِّ، وَالْجِزْيَةُ لِلذِّمِّيِّ، عَنْ قَتَادَةَ. السُّدِّيُّ: الْخِزْيُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا قِيَامُ الْمَهْدِيِّ، وَفَتْحُ عَمُّورِيَّةَ وَرُومِيَّةَ وَقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُدُنِهِمْ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ. وَمَنْ جَعَلَهَا فِي قُرَيْشٍ جَعَلَ الْخِزْيَ عَلَيْهِمْ فِي الْفَتْحِ، وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ لِمَنْ مَاتَ منهم كافرا.
[سورة البقرة (2) : آية 115]
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ"" الْمَشْرِقُ" مَوْضِعُ الشُّرُوقِ." وَالْمَغْرِبُ" مَوْضِعُ الْغُرُوبِ، أَيْ هُمَا لَهُ مِلْكٌ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْجِهَاتِ وَالْمَخْلُوقَاتِ بِالْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاعِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ وَالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ تَشْرِيفًا، نَحْوُ بَيْتِ اللَّهِ، وَنَاقَةِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْآيَةِ اقْتَضَى ذَلِكَ، عَلَى مَا يَأْتِي. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَأَيْنَما تُوَلُّوا" شَرْطٌ، وَلِذَلِكَ حُذِفَتِ النُّونُ، وَ" أَيْنَ" الْعَامِلَةُ، وَ" مَا" زَائِدَةٌ، وَالْجَوَابُ" فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ". وَقَرَأَ الْحَسَنُ" تَوَلَّوْا" بِفَتْحِ التَّاءِ وَاللَّامِ، وَالْأَصْلُ تتولوا. و" ثم" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ، وَمَعْنَاهَا الْبُعْدُ، إِلَّا أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْفَتْحِ غَيْرُ مُعْرَبَةٍ لِأَنَّهَا مُبْهَمَةٌ، تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ هُنَاكَ لِلْبُعْدِ، فَإِنْ أَرَدْتَ الْقُرْبَ قُلْتَ هُنَا. الثَّالِثَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ" فَأَيْنَما تُوَلُّوا" عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: نَزَلَتْ فِيمَنْ صَلَّى إِلَى غير القبلة في ليلة مظلمة، أخرجه
__________
(1) . راجع ج 14 ص 228.(2/79)
التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِيَالِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ:" فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ". قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أَشْعَثَ السَّمَّانِ، وَأَشْعَثُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو الرَّبِيعِ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ. وَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى هَذَا، قَالُوا: إِذَا صَلَّى فِي الْغَيْمِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ اسْتَبَانَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ جَائِزَةٌ، وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. قُلْتُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا قَالَ: تُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِعَادَةُ فِي الْوَقْتِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ عَلَى مَا أُمِرَ، وَالْكَمَالُ يُسْتَدْرَكُ فِي الْوَقْتِ، اسْتِدْلَالًا بِالسُّنَّةِ فِيمَنْ صَلَّى وَحْدَهُ ثُمَّ أَدْرَكَ تِلْكَ الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا فِي جَمَاعَةٍ أَنَّهُ يُعِيدُ مَعَهُمْ، وَلَا يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ اسْتِحْبَابًا إِلَّا مَنِ اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ أَوْ شَرَّقَ أَوْ غَرَّبَ جِدًّا مُجْتَهِدًا، وَأَمَّا مَنْ تَيَامَنَ أَوْ تَيَاسَرَ قَلِيلًا مُجْتَهِدًا فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجْزِيهِ، لِأَنَّ الْقِبْلَةَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ. وَمَا قَالَهُ مَالِكٌ أَصَحُّ، لِأَنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ تُبِيحُ الضَّرُورَةُ تَرْكَهَا فِي الْمُسَايَفَةِ، وَتُبِيحُهَا أَيْضًا الرُّخْصَةُ حَالَةَ السَّفَرِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: نَزَلَتْ فِي الْمُسَافِرِ يَتَنَفَّلُ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ، قَالَ: وَفِيهِ نَزَلَتْ" فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ". وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ النَّافِلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَمَا كَانَ مِثْلُهُ. وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَعَ الْقِبْلَةَ عَامِدًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ إِلَّا فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ، عَلَى مَا يَأْتِي. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمَرِيضِ يُصَلِّي عَلَى مَحْمَلِهِ، فَمَرَّةً قَالَ: لَا يُصَلِّي عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ فَرِيضَةً وَإِنِ اشْتَدَّ مَرَضُهُ. قَالَ سَحْنُونُ: فَإِنْ فَعَلَ أَعَادَ، حَكَاهُ الْبَاجِيُّ. وَمَرَّةً قَالَ: إِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُصَلِّي بِالْأَرْضِ إِلَّا إِيمَاءً فَلْيُصَلِّ عَلَى الْبَعِيرِ بَعْدَ أَنْ يُوقَفَ لَهُ وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ.(2/80)
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ صَحِيحٍ أَنْ يُصَلِّيَ فَرِيضَةً إِلَّا بِالْأَرْضِ إِلَّا فِي الْخَوْفِ الشَّدِيدِ خَاصَّةً، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُسَافِرِ سَفَرًا لَا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ: لَا يُتَطَوَّعُ عَلَى الرَّاحِلَةِ إِلَّا فِي سَفَرٍ تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ، قَالُوا: لِأَنَّ الْأَسْفَارَ الَّتِي حُكِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَتَطَوَّعُ فِيهَا كَانَتْ مِمَّا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمَا وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَجُوزُ التَّطَوُّعُ عَلَى الرَّاحِلَةِ خَارِجَ الْمِصْرِ فِي كُلِّ سَفَرٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِمَّا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ أَوْ لَا، لِأَنَّ الْآثَارَ لَيْسَ فِيهَا تَخْصِيصُ سَفَرٍ مِنْ سَفَرٍ، فَكُلُّ سَفَرٍ جَائِزٌ ذَلِكَ فِيهِ، إِلَّا أن يخص شي مِنَ الْأَسْفَارِ بِمَا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُصَلِّي فِي الْمِصْرِ عَلَى الدَّابَّةِ بِالْإِيمَاءِ، لِحَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى حِمَارٍ فِي أَزِقَّةِ الْمَدِينَةِ يُومِئُ إِيمَاءً. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: يَجُوزُ لِكُلِّ رَاكِبٍ وَمَاشٍ حَاضِرًا كَانَ أَوْ مُسَافِرًا أَنْ يَتَنَفَّلَ عَلَى دَابَّتِهِ وَرَاحِلَتِهِ وَعَلَى رِجْلَيْهِ [بِالْإِيمَاءِ] . وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مذهبهم جواز التنقل عَلَى الدَّابَّةِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ الصَّلَاةُ عَلَى الدَّابَّةِ فِي الْحَضَرِ، فَقَالَ: أَمَّا فِي السَّفَرِ فَقَدْ سَمِعْتُ، وَمَا سَمِعْتُ فِي الْحَضَرِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: مَنْ تَنَفَّلَ فِي مَحْمَلِهِ تَنَفَّلَ جَالِسًا، قِيَامُهُ تَرَبُّعٌ، يَرْكَعُ وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الصَّلَاةِ عَلَيْهِ خَارِجَ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: كَيْفَ نُصَلِّي عَلَى رَجُلٍ مَاتَ؟ وَهُوَ يُصَلِّي لِغَيْرِ قِبْلَتِنَا، وَكَانَ النَّجَاشِيُّ مَلِكُ الْحَبَشَةِ- وَاسْمُهُ أَصْحَمَةُ وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ عَطِيَّةُ- يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى مَاتَ، وَقَدْ صُرِفَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، وَنَزَلَ فِيهِ:" وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ «1» " فَكَانَ هَذَا عُذْرًا لِلنَّجَاشِيِّ، وَكَانَتْ صَلَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ أَجَازَ الصَّلَاةَ عَلَى الْغَائِبِ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمِنْ أَغْرَبِ مَسَائِلِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصَلَّى
عَلَى الغائب، وقد كنت ببغداد
__________
(1) . راجع ج 4 ص 322.(2/81)
فِي مَجْلِسِ الْإِمَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ مِنْ خُرَاسَانَ فَيَقُولُ لَهُ: كَيْفَ حَالَ فُلَانٍ؟ فَيَقُولُ لَهُ: مَاتَ، فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! ثُمَّ يَقُولُ لَنَا: قُومُوا فَلْأُصَلِّ لَكُمْ، فَيَقُومُ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ بِنَا، وَذَلِكَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الْمُدَّةِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ بَلَدِهِ سِتَّةُ أَشْهَرِ. وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على النَّجَاشِيِّ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمُ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ مَخْصُوصٌ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا- أَنَّ الْأَرْضَ دُحِيَتْ لَهُ جَنُوبًا وَشَمَالًا حَتَّى رَأَى نَعْشَ النَّجَاشِيِّ، كَمَا دُحِيَتْ لَهُ شَمَالًا وَجَنُوبًا حَتَّى رَأَى الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى. وَقَالَ الْمُخَالِفُ: وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي رُؤْيَتِهِ، وَإِنَّمَا الْفَائِدَةُ فِي لُحُوقِ بَرَكَتِهِ. الثَّانِي- أَنَّ النَّجَاشِيَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ هُنَاكَ وَلِيٌّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُومُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ. قَالَ الْمُخَالِفُ: هَذَا مُحَالٌ عَادَةً! مَلِكٌ عَلَى دِينٍ لَا يَكُونُ لَهُ أَتْبَاعٌ، وَالتَّأْوِيلُ بِالْمُحَالِ مُحَالٌ. الثَّالِثُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَرَادَ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّجَاشِيِّ إِدْخَالَ الرَّحْمَةِ عَلَيْهِ وَاسْتِئْلَافَ بَقِيَّةِ الْمُلُوكِ بَعْدَهُ إِذَا رَأَوْا الِاهْتِمَامَ بِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا. قَالَ الْمُخَالِفُ: بَرَكَةُ الدُّعَاءِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ سِوَاهُ تَلْحَقُ الْمَيِّتَ بِاتِّفَاقٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالَّذِي عِنْدِي فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّجَاشِيِّ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ النَّجَاشِيَّ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ أَثَرٌ، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ سَيَدْفِنُونَهُ بِغَيْرِ صَلَاةٍ فَبَادَرَ إِلَى الصَّلَاةِ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَحْسَنُ، لِأَنَّهُ إِذَا رَآهُ فَمَا صَلَّى عَلَى غَائِبٍ وَإِنَّمَا صَلَّى عَلَى مَرْئِيٍّ حَاضِرٍ، وَالْغَائِبُ مَا لَا يُرَى. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْقَوْلُ الرَّابِعُ- قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَتِ الْيَهُودُ قَدِ اسْتَحْسَنَتْ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقَالُوا: مَا اهْتَدَى إِلَّا بِنَا، فَلَمَّا حُوِّلَ إِلَى الْكَعْبَةِ قَالَتِ الْيَهُودُ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، فَنَزَلَتْ:" وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ" فَوَجْهُ النَّظْمِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا أَنْكَرُوا أَمْرَ الْقِبْلَةِ بَيَّنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَعَبَّدَ عِبَادُهُ بِمَا شَاءَ، فَإِنْ شَاءَ أَمَرَهُمْ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَإِنْ شَاءَ أَمَرَهُمْ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ، فِعْلٌ لَا حُجَّةَ «1» عليه، ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون.
__________
(1) . في ب، ج:" لا حجر".(2/82)
القول الخامس- أن الآية منسوخة بقوله:" وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ «1» " ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَكَأَنَّهُ كَانَ يُجَوِّزُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَرْءُ كَيْفَ شَاءَ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: النَّاسِخُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ" أَيْ تِلْقَاءَهُ، حَكَاهُ أَبُو عِيسَى الترمذي. وقول سادس- رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، الْمَعْنَى: أَيْنَمَا كُنْتُمْ مِنْ شَرْقٍ وَغَرْبٍ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَنَا بِاسْتِقْبَالِهِ وَهُوَ الْكَعْبَةُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا وَابْنِ جُبَيْرٍ لَمَّا نَزَلَتْ:" ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ فَنَزَلَتْ:" فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ". وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالنَّخَعِيِّ: أَيْنَمَا تُوَلُّوا فِي أَسْفَارِكُمْ وَمُنْصَرِفَاتكُمْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. وَقِيلَ: هِيَ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ" الْآيَةَ، فَالْمَعْنَى أَنَّ بِلَادَ لله أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ تَسَعُكُمْ، فَلَا يَمْنَعُكُمْ تَخْرِيبُ مَنْ خَرَّبَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ نَحْوَ قِبْلَةِ اللَّهِ أَيْنَمَا كُنْتُمْ مِنْ أَرْضِهِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ حِينَ صُدَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَيْتِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَاغْتَمَّ الْمُسْلِمُونَ لِذَلِكَ. فَهَذِهِ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ. وَمَنْ جَعَلَهَا مَنْسُوخَةً فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا خَبَرًا، لِأَنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ لِمَعْنَى الْأَمْرِ. يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى" فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ": وَلُّوا وُجُوهكُمْ نَحْوَ وَجْهِ اللَّهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الَّتِي تَلَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا أَمَرَ الْحَجَّاجُ بِذَبْحِهِ إِلَى الْأَرْضِ. الرَّابِعَةُ- اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ الْوَجْهِ الْمُضَافِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَقَالَ الْحُذَّاقُ: ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْوُجُودِ، وَالْعِبَارَةُ عَنْهُ بِالْوَجْهِ مِنْ مَجَازِ الْكَلَامِ، إِذْ كَانَ الْوَجْهُ أَظْهَرَ الْأَعْضَاءِ فِي الشَّاهِدِ وَأَجَلَّهَا قَدْرًا. وَقَالَ ابْنُ فُوْرَكَ: قَدْ تُذْكَرُ صِفَةُ الشَّيْءِ وَالْمُرَادُ بِهَا الْمَوْصُوفُ تَوَسُّعًا، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: رَأَيْتُ عِلْمَ فُلَانٍ الْيَوْمَ، وَنَظَرْتُ إِلَى عِلْمِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ رَأَيْتُ الْعَالِمَ وَنَظَرْتُ إِلَى الْعَالِمِ، كَذَلِكَ إِذَا ذُكِرَ الْوَجْهُ هُنَا، وَالْمُرَادُ مَنْ لَهُ الْوَجْهُ، أَيِ الْوُجُودُ. وَعَلَى هَذَا يُتَأَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ «2» " لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: لِلَّهِ الَّذِي لَهُ الْوَجْهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:" إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى «3» " أَيِ الَّذِي له الوجه. قال ابن عباس:
__________
(1) . راجع ص 159، 168 من هذا الجزء.
(2) . راجع ج 19 ص 128.
(3) . راجع ج 20 ص 88.(2/83)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
الْوَجْهُ عِبَارَةٌ عَنْهُ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ:" وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ «1» ". وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: تِلْكَ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ بِالسَّمْعِ زَائِدَةٌ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الْعُقُولُ مِنْ صِفَاتِ الْقَدِيمِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَضَعَّفَ أَبُو الْمَعَالِي هَذَا الْقَوْلَ، وَهُوَ كَذَلِكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ وُجُودُهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْوَجْهِ هُنَا الْجِهَةُ الَّتِي وُجِّهْنَا إِلَيْهَا أَيِ الْقِبْلَةُ. وَقِيلَ: الْوَجْهُ الْقَصْدُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبَّ الْعِبَادِ إِلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ
وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَثَمَّ رِضَا اللَّهِ وَثَوَابُهُ، كَمَا قَالَ:" إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ" أَيْ لِرِضَائِهِ وَطَلَبِ ثَوَابِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يبتغي به وجه لله بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ) . وَقَوْلُهُ: (يُجَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصُحُفٍ مُخْتَمَةٍ فَتُنْصَبُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَلَائِكَتِهِ أَلْقُوا هَذَا وَاقْبَلُوا هَذَا فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ وَعِزَّتِكَ يَا رَبَّنَا مَا رَأَيْنَا إِلَّا خَيْرًا وَهُوَ أَعْلَمُ فَيَقُولُ إِنَّ هَذَا كَانَ لِغَيْرِ وَجْهِي وَلَا أَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهِي) أَيْ خَالِصًا لِي، خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ فَثَمَّ اللَّهُ، وَالْوَجْهُ صِلَةٌ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ:" وَهُوَ مَعَكُمْ". قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَالْقُتَبِيُّ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ" أَيْ يُوَسِّعُ عَلَى عِبَادِهِ فِي دِينِهِمْ، وَلَا يُكَلِّفُهُمْ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ. وَقِيلَ:" واسِعٌ" بِمَعْنَى أَنَّهُ يَسَعُ عِلْمُهُ كُلَّ شي، كَمَا قَالَ:" وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً «2» ". وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْوَاسِعُ هُوَ الْجَوَادُ الَّذِي يَسَعُ عَطَاؤُهُ كل شي، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ «3» ". وَقِيلَ: وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ أَيْ لَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ. وَقِيلَ: مُتَفَضِّلٌ عَلَى الْعِبَادِ وَغَنِيٌّ عَنْ أَعْمَالِهِمْ، يقال: فلان يسع ما يسئل، أَيْ لَا يَبْخَلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ «4» " أَيْ لِيُنْفِقِ الْغَنِيُّ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهِ فِي الكتاب" الأسنى" والحمد لله.
[سورة البقرة (2) : آية 116]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116)
__________
(1) . راجع ج 17 ص 165.
(2) . راجع ج 11 ص 243.
(3) . راجع ج 7 ص 296.
(4) . راجع ج 18 ص 170.(2/84)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً" هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ. وَقِيلَ عَنِ الْيَهُودِ فِي قَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. وَقِيلَ عَنْ كَفَرَةِ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَنِ الْجَهَلَةِ الْكُفَّارِ فِي" مَرْيَمَ «1» " وَ" الْأَنْبِيَاءِ «2» ". الثَّانِيَةُ- قوله:" سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ" الْآيَةُ. خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أَنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لِي وَلَدٌ فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا". الثَّالِثَةُ-" سُبْحَانَ" مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَمَعْنَاهُ التَّبْرِئَةُ وَالتَّنْزِيهُ وَالْمُحَاشَاةُ، مِنْ قَوْلِهِمُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، بَلْ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ، أَحَدٌ فِي صِفَاتِهِ، لَمْ يَلِدْ فَيَحْتَاجُ إِلَى صَاحِبَةٍ،" أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ" وَلَمْ يُولَدْ فَيَكُونُ مَسْبُوقًا، جَلَّ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا! " بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" مَا" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ فِي الْمَجْرُورِ، أَيْ كُلُّ ذَلِكَ لَهُ مِلْكٌ بِالْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاعِ. وَالْقَائِلُ بأنه اتخذ ولدا داخل في جملة السموات وَالْأَرْضِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَعْنًى سُبْحَانَ اللَّهِ: بَرَاءَةُ اللَّهِ مِنَ السُّوءِ «3» . الرَّابِعَةُ- لَا يَكُونُ الْوَلَدُ إِلَّا مِنْ جِنْسِ الْوَالِدِ، فَكَيْفَ يَكُونُ لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وهو لا يشبهه شي، وَقَدْ قَالَ:" إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً «4» "، كَمَا قَالَ هُنَا:" بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" فَالْوَلَدِيَّةُ تَقْتَضِي الْجِنْسِيَّةَ وَالْحُدُوثَ، وَالْقِدَمُ يَقْتَضِي الْوَحْدَانِيَّةَ وَالثُّبُوتَ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. ثُمَّ إِنَّ الْبُنُوَّةَ تُنَافِي الرِّقَّ وَالْعُبُودِيَّةَ- عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" مَرْيَمَ «5» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- فَكَيْفَ يَكُونُ وَلَدَ عَبْدًا! هَذَا مُحَالٌ، وما أدى إلى المحال محال.
__________
(1) . راجع ج 11 ص 158 فما بعدها وص 281.
(2) . راجع ج 11 ص 158 فما بعدها وص 281. [.....]
(3) . راجع ج 1 ص 276 طبعه ثانية.
(4) . راجع ج 11 ص 158 فما بعدها وص 281.
(5) . راجع ج 11 ص 158 فما بعدها وص 281.(2/85)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ كُلُّهُمْ، ثُمَّ حُذِفَ الْهَاءُ وَالْمِيمُ." قانِتُونَ" أَيْ مُطِيعُونَ وَخَاضِعُونَ، فَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا تَقْنُتُ لله، أي تخضع وتطبع. وَالْجَمَادَاتُ قُنُوتُهُمْ فِي ظُهُورِ الصَّنْعَةِ عَلَيْهِمْ وَفِيهِمْ. فَالْقُنُوتُ الطَّاعَةُ، وَالْقُنُوتُ السُّكُوتُ، وَمِنْهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ، يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ إِلَى جَنْبِهِ حَتَّى نَزَلَتْ:" وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ" فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ. وَالْقُنُوتُ: الصَّلَاةُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
قَانِتًا لِلَّهِ يَتْلُو كُتُبَهُ ... وَعَلَى عَمْدٍ مِنَ النَّاسِ اعْتَزَلَ
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ:" كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ" أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. الْحَسَنُ: كُلٌّ قَائِمٌ بِالشَّهَادَةِ أَنَّهُ عَبْدُهُ. وَالْقُنُوتُ فِي اللُّغَةِ أَصْلُهُ الْقِيَامُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: (أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ) قَالَهُ الزَّجَّاجُ. فَالْخَلْقُ قَانِتُونَ، أَيْ قَائِمُونَ بِالْعُبُودِيَّةِ إِمَّا إِقْرَارًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَأَثَرُ الصَّنْعَةِ بَيِّنٌ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ الطَّاعَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ". وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ «1» ".
[سورة البقرة (2) : آية 117]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الاولى- قوله تعالى:" بَدِيعُ السَّماواتِ" فَعِيلٌ لِلْمُبَالَغَةِ، وَارْتَفَعَ عَلَى خَبَرِ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٍ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ مُبْدِعٌ، كَبَصِيرٍ مِنْ مُبْصِرٍ. أَبْدَعْتُ الشَّيْءَ لَا عَنْ مِثَالٍ، فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بديع السموات وَالْأَرْضِ، أَيْ مُنْشِئُهَا وَمُوجِدُهَا وَمُبْدِعُهَا وَمُخْتَرِعُهَا عَلَى غَيْرِ حَدٍّ وَلَا مِثَالٍ. وَكُلُّ مَنْ أَنْشَأَ مَا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ قِيلَ لَهُ مُبْدِعٌ، وَمِنْهُ أَصْحَابُ الْبِدَعِ. وَسُمِّيَتِ الْبِدْعَةُ بِدْعَةً لِأَنَّ قَائِلَهَا ابْتَدَعَهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ أَوْ مَقَالِ إِمَامٍ، وَفِي الْبُخَارِيِّ (وَنِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ) يَعْنِي قيام رمضان.
__________
(1) . راجع ج 3 ص 213.(2/86)
الثَّانِيَةُ- كُلُّ بِدْعَةٍ صَدَرَتْ مِنْ مَخْلُوقٍ فَلَا يخلو أَنْ يَكُونَ لَهَا أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ أَوَّلًا، فَإِنْ كَانَ لَهَا أَصْلٌ كَانَتْ وَاقِعَةً تَحْتَ عُمُومِ مَا نَدَبَ اللَّهُ إِلَيْهِ وَخَصَّ رَسُولَهُ عَلَيْهِ، فَهِيَ فِي حَيِّزِ الْمَدْحِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثَالُهُ مَوْجُودًا كَنَوْعٍ مِنَ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ وَفِعْلِ الْمَعْرُوفِ، فَهَذَا فِعْلُهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمَحْمُودَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْفَاعِلُ قَدْ سُبِقَ إِلَيْهِ. وَيَعْضُدُ هَذَا قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ «1» ، لَمَّا كَانَتْ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ وَدَاخِلَةً فِي حَيِّزِ الْمَدْحِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّاهَا إِلَّا أَنَّهُ تَرَكَهَا وَلَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا، وَلَا جَمَعَ النَّاسَ، عَلَيْهَا، فَمُحَافَظَةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهَا، وَجَمْعُ النَّاسِ لَهَا، وَنَدْبُهُمْ إِلَيْهَا، بِدْعَةٌ لَكِنَّهَا بِدْعَةٌ مَحْمُودَةٌ مَمْدُوحَةٌ. وَإِنْ كانت في خلاف ما أمر لله بِهِ وَرَسُولُهُ فَهِيَ فِي حَيِّزِ الذَّمِّ وَالْإِنْكَارِ، قَالَ مَعْنَاهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ. قُلْتُ: وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ: (وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) يُرِيدُ مَا لَمْ يُوَافِقْ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً، أَوْ عَمَلَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا بِقَوْلِهِ: (مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شي وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شي (. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا ابْتُدِعَ مِنْ قَبِيحٍ وَحَسَنٍ، وَهُوَ أَصْلُ هَذَا الْبَابِ، وَبِاللَّهِ الْعِصْمَةُ وَالتَّوْفِيقُ، لَا رَبَّ غَيْرُهُ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" أَيْ إِذَا أَرَادَ إِحْكَامَهُ وَإِتْقَانَهُ- كَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ- قَالَ لَهُ كُنْ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: قَضَاءُ الشَّيْءِ إِحْكَامُهُ وَإِمْضَاؤُهُ وَالْفَرَاغُ مِنْهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْقَاضِي، لِإِنَّهُ إِذَا حَكَمَ فَقَدْ فَرَغَ مِمَّا بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: قَضَى فِي اللُّغَةِ عَلَى وُجُوهِ، مَرْجِعِهَا إِلَى انْقِطَاعِ الشَّيْءِ وَتَمَامِهِ، قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أَوْ صَنَعَ السَّوَابِغَ تُبَّعُ «2»
وَقَالَ الشَّمَّاخُ فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
قَضَيْتَ أُمُورًا ثُمَّ غَادَرْتَ بَعْدَهَا ... بواثق في أكمامها لم تفتق
__________
(1) . يريد: قيام رمضان.
(2) . مسرودتان: درعان مخروزتان. والصنع: الحاذق بالعمل.(2/87)
قَالَ عُلَمَاؤُنَا:" قَضَى" لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ، يَكُونُ بِمَعْنَى الْخَلْقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ «1» " أَيْ خَلَقَهُنَّ. وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ «2» " أَيْ أَعْلَمْنَا. وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ «3» ". وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْإِلْزَامِ وَإِمْضَاءِ الْأَحْكَامِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَاكِمُ قَاضِيًا. وَيَكُونُ بِمَعْنَى تَوْفِيَةِ الْحَقِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ «4» ". وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" أَيْ إذا أراد خلق شي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:" قَضى " مَعْنَاهُ قَدَّرَ، وَقَدْ يجئ بِمَعْنَى أَمْضَى، وَيُتَّجَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَعْنَيَانِ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ قَدَّرَ فِي الْأَزَلِ وَأَمْضَى فِيهِ. وَعَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ أَمْضَى عِنْدَ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَمْراً" الْأَمْرُ وَاحِدُ الْأُمُورِ، وَلَيْسَ بِمَصْدَرِ أَمَرَ يَأْمُرُ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَالْأَمْرُ فِي الْقُرْآنِ يَتَصَرَّفُ عَلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَجْهًا: الْأَوَّلُ- الدِّينُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ «5» " يَعْنِي دِينَ اللَّهِ الْإِسْلَامَ. الثَّانِي- الْقَوْلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِذا جاءَ أَمْرُنا" يَعْنِي قَوْلُنَا، وَقَوْلُهُ:" فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ" يَعْنِي قَوْلَهُمْ. الثَّالِثُ- الْعَذَابُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ «6» " يَعْنِي لَمَّا وَجَبَ الْعَذَابُ بِأَهْلِ النَّارِ. الرَّابِعُ- عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِذا قَضى أَمْراً «7» " يَعْنِي عِيسَى، وَكَانَ فِي عِلْمِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ. الْخَامِسُ- الْقَتْلُ بِبَدْرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ «8» " يَعْنِي الْقَتْلَ بِبَدْرٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا «9» " يَعْنِي قَتْلَ كُفَّارِ مَكَّةَ. السَّادِسُ- فَتْحُ مَكَّةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ «10» " يَعْنِي فَتْحَ مَكَّةَ.
__________
(1) . راجع ج 15 ص 345.
(2) . راجع ج 10 ص 214، 36 2.
(3) . راجع ج 10 ص 214، 36 2.
(4) . راجع ج 13 ص 280.
(5) . راجع ج 8 ص 157.
(6) . راجع ج 9 ص 356.
(7) . راجع ج 4 ص 93.
(8) . راجع ج 15 ص 334. [.....]
(9) . راجع ج 8 ص 22.
(10) . راجع ج 8 ص 95.(2/88)
السابع- قتل قريظة وجلاء بني الضير، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ". الثَّامِنُ- الْقِيَامَةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" أَتى أَمْرُ اللَّهِ". التَّاسِعُ- الْقَضَاءُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" يُدَبِّرُ الْأَمْرَ" يَعْنِي الْقَضَاءَ. الْعَاشِرُ- الْوَحْيُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ" يَقُولُ: يُنَزِّلُ الْوَحْيَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَقَوْلُهُ:" يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ" يَعْنِي الْوَحْيَ. الْحَادِيَ عَشَرَ- أَمْرُ الْخَلْقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ" يَعْنِي أُمُورَ الْخَلَائِقِ. الثَّانِيَ عَشَرَ- النَّصْرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ". يَعْنُونَ النَّصْرَ،" قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ" يَعْنِي النَّصْرَ. الثَّالِثَ عَشَرَ- الذَّنْبُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها" يَعْنِي جَزَاءَ ذَنْبِهَا. الرَّابِعَ عَشَرَ- الشَّأْنُ وَالْفِعْلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ" أَيْ فِعْلُهُ وَشَأْنُهُ، وَقَالَ:" فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ" أَيْ فِعْلِهِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" كُنْ" قِيلَ: الْكَافُ مِنْ كَيْنُونِهِ، وَالنُّونُ مِنْ نُورِهِ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَعُوَذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) . وَيُرْوَى: (بِكَلِمَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ) عَلَى الْإِفْرَادِ. فَالْجَمْعُ لِمَا كَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، فَإِذَا قَالَ لكل أمر كن، ولكل شي كُنْ، فَهُنَّ كَلِمَاتٌ. يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُحْكَى عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: (عَطَائِي كَلَامٌ وَعَذَابِي كَلَامٌ) . خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ. وَالْكَلِمَةُ عَلَى الْإِفْرَادِ بِمَعْنَى الْكَلِمَاتِ أَيْضًا، لَكِنْ لَمَّا تَفَرَّقَتِ الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ فِي الْأُمُورِ فِي الْأَوْقَاتِ صَارَتْ كَلِمَاتٍ وَمَرْجِعُهُنَّ إِلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. وَإِنَّمَا قِيلَ" تَامَّةٌ" لِأَنَّ أَقَلَّ الْكَلَامِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ: حَرْفٌ مُبْتَدَأٌ، وَحَرْفٌ تُحْشَى بِهِ الْكَلِمَةُ، وَحَرْفٌ يُسْكَتُ عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ عَلَى حَرْفَيْنِ فَهُوَ عِنْدُهُمْ مَنْقُوصٌ، كَيَدٍ(2/89)
وَدَمٍ وَفَمٍ، وَإِنَّمَا نَقَصَ لِعِلَّةٍ. فَهِيَ مِنَ الْآدَمِيِّينَ مِنَ الْمَنْقُوصَاتِ لِأَنَّهَا عَلَى حَرْفَيْنِ، وَلِأَنَّهَا كَلِمَةٌ مَلْفُوظَةٌ بِالْأَدَوَاتِ. وَمِنْ رَبِّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَامَّةٌ، لِأَنَّهَا بِغَيْرِ الْأَدَوَاتِ، تَعَالَى عَنْ شَبَهِ الْمَخْلُوقِينَ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَيَكُونُ" قُرِئَ بِرَفْعِ النُّونِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: فَهُوَ يَكُونُ، أَوْ فَإِنَّهُ يَكُونُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى" يَقُولُ"، فَعَلَى الْأَوَّلِ كَائِنًا بَعْدَ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ إِذَا هُوَ عِنْدَهُ مَعْلُومٌ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَعَلَى الثَّانِي كَائِنًا مَعَ الْأَمْرِ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وَقَالَ: أَمْرُهُ لِلشَّيْءِ بِ" كُنْ" لَا يَتَقَدَّمُ الْوُجُودَ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ الشَّيْءُ مَأْمُورًا بِالْوُجُودِ إِلَّا وَهُوَ مَوْجُودٌ بِالْأَمْرِ، وَلَا مَوْجُودًا إِلَّا وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْوُجُودِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. قَالَ: وَنَظِيرُهُ قِيَامُ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ لَا يَتَقَدَّمُ دُعَاءَ اللَّهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ" ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ «1» ". وَضَعَّفَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ: هُوَ خَطَأٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْقَوْلَ مَعَ «2» التَّكْوِينِ وَالْوُجُودِ. وَتَلْخِيصُ الْمُعْتَقَدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَزَلْ آمِرًا لِلْمَعْدُومَاتِ بِشَرْطِ وُجُودِهَا، قَادِرًا مَعَ تَأَخُّرِ الْمَقْدُورَاتِ، عَالِمًا مَعَ تَأَخُّرِ الْمَعْلُومَاتِ. فَكُلُّ مَا فِي الْآيَةِ يَقْتَضِي الِاسْتِقْبَالَ فَهُوَ بِحَسَبِ الْمَأْمُورَاتِ، إِذِ المحدثات تجئ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ. وَكُلُّ مَا يُسْنَدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ قُدْرَةٍ وَعِلْمٍ فَهُوَ قديم لم يَزَلْ. وَالْمَعْنَى الَّذِي تَقْتَضِيهِ عِبَارَةُ" كُنْ": هُوَ قَدِيمٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ فَإِنْ قِيلَ: فَفِي أَيِّ حَالٍ يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ؟ أَفِي حَالِ عَدَمِهِ، أَمْ فِي حَالِ وُجُودِهِ؟ فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ عَدَمِهِ اسْتَحَالَ أَنْ يَأْمُرَ إِلَّا مَأْمُورًا، كَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ إِلَّا مِنْ آمِرٍ، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ وُجُودِهِ فَتِلْكَ حَالٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ فِيهَا بِالْوُجُودِ وَالْحُدُوثِ، لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ حَادِثٌ؟ قِيلَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَجْوِبَةٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا- أَنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ نُفُوذِ أَوَامِرِهِ فِي خَلْقِهِ الْمَوْجُودِ، كَمَا أَمَرَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَكُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ، وَلَا يَكُونُ هَذَا وَارِدًا فِي إِيجَادِ المعدومات.
__________
(1) . راجع ج 14 ص 19.
(2) . في أ:" من جهة التكوين".(2/90)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
الثاني- أن الله عز وجل عالم بما هُوَ كَائِنٌ قَبْلَ كَوْنِهِ، فَكَانَتِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ وَهِيَ كَائِنَةٌ بِعِلْمِهِ قَبْلَ كَوْنِهَا مُشَابِهَةً لِلَّتِي هِيَ مَوْجُودَةٌ، فَجَازَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: كُونِي. وَيَأْمُرُهَا بِالْخُرُوجِ مِنْ حَالِ الْعَدَمِ إِلَى حَالِ الْوُجُودِ، لِتَصَوُّرِ جَمِيعِهَا لَهُ وَلِعِلْمِهِ بِهَا فِي حَالِ الْعَدَمِ. الثَّالِثُ- أَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَامٌّ عَنْ جَمِيعِ مَا يُحْدِثُهُ وَيُكَوِّنُهُ إِذَا أَرَادَ خَلْقَهُ وَإِنْشَاءَهُ كَانَ، وَوُجِدَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ قَوْلٌ يَقُولُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ قَضَاءٌ يُرِيدُهُ، فَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْقَوْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلًا، كَقَوْلِ أبي النجم:
قد قالت الأتساع لِلْبَطْنِ الْحَقِ
وَلَا قَوْلَ هُنَاكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الظَّهْرَ قَدْ لَحِقَ بِالْبَطْنِ، وَكَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ الدُّوسِيِّ:
فَأَصْبَحَتْ مِثْلَ النَّسْرِ طَارَتْ فراخه ... إذا رام تطيارا يقل لَهُ قَعِ
وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ:
قَالَتْ جَنَاحَاهُ لساقيه الحقا ... ونجيا لحمكما أن يمزقا
[سورة البقرة (2) : آية 118]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْيَهُودُ. مُجَاهِدٌ: النَّصَارَى، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ، لِأَنَّهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ أَوَّلًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ وَالسُّدِّيُّ وقتادة: مشركو العرب. و" لَوْلا" بِمَعْنَى" هَلَّا" تَحْضِيضٌ، كَمَا قَالَ الْأَشْهَبُ بْنُ رُمَيْلَةَ «1» :
تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيْبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ ... بَنِي ضَوْطَرَى لولا الكمي المقنعا
__________
(1) . كذا في الأصول. وقال البغدادي صاحب خزانة الأدب:" نسبه ابن الشجري في أماليه للأشهب، والصحيح أنه من قصيدة لجرير، لا خلاف بين الرواة أنها له، وهي جواب عن قصيدة تقدمت لفرزدق على قافيها". وقضية عقر الإبل مشهورة في التواريخ. والنيب (بكسر النون وسكون الياء جمع ناب) : الناقة المسنة. وضوطرى: قيل: الرجل الضخم اللئيم الذي لا غناء عنده. وقيل: الحمقى. والكمي: الشجاع. والمقنع: الذي على رأسه البيضة والمغفر. راجع خزانة الأدب في الشاهد الرابع والستين بعد المائة. وكتاب المغني في" لولا" والنقائض ص 833 طبع أوربا، وذيل أمالى القالي.(2/91)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
وَلَيْسَتْ هَذِهِ" لَوْلَا" الَّتِي تُعْطِي مَنْعَ الشَّيْءِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ عُلَمَاءِ اللِّسَانِ أَنَّ" لَوْلَا" بِمَعْنَى التَّحْضِيضِ لَا يَلِيهَا إِلَّا الْفِعْلُ مُظْهَرًا أَوْ مُقَدَّرًا، وَالَّتِي لِلِامْتِنَاعِ يَلِيهَا الِابْتِدَاءُ، وَجَرَتِ الْعَادَةُ بِحَذْفِ الْخَبَرِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ هَلَّا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَعْلَمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَنُؤْمِنُ بِهِ، أَوْ يَأْتِينَا بِآيَةٍ تَكُونُ عَلَامَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ. والآية: الدلالة والعلامة، وقد تقدم «1» ." الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ" الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَ" الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ" كُفَّارَ الْعَرَبِ، أَوِ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَ" الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ" الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، أَوِ الْيَهُودَ فِي قَوْلِ مَنْ جَعَلَ" الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ" النَّصَارَى." تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ" قِيلَ: فِي التَّعْنِيتِ وَالِاقْتِرَاحِ وَتَرْكِ الْإِيمَانِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ." تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ" فِي اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ." قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ" تقدم «2» .
[سورة البقرة (2) : آية 119]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً"" بَشِيراً" نُصِبَ عَلَى الْحَالِ،" وَنَذِيراً" عُطِفَ عَلَيْهِ، وقد تقدم معناهما «3» ." وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ" قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ بَأْسَهُ بِالْيَهُودِ لَآمَنُوا) ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ" بِرَفْعٍ تُسْأَلُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ بِعَطْفِهِ عَلَى" بَشِيراً وَنَذِيراً". وَالْمَعْنَى إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا غَيْرَ مَسْئُولٍ. وَقَالَ سَعِيدٌ الْأَخْفَشُ: وَلَا تَسْأَلُ (بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ اللَّامِ) ، وَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَطْفًا عَلَى" بَشِيراً وَنَذِيراً". وَالْمَعْنَى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا غَيْرَ سَائِلٍ عَنْهُمْ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِكُفْرِهِمْ بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ يُغْنِي عَنْ سُؤَالِهِ عَنْهُمْ. هَذَا مَعْنَى غَيْرِ سَائِلٍ. وَمَعْنَى غَيْرِ مَسْئُولٍ لَا يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِكُفْرِ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ التَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: (لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ) . فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ" وَلَا تَسْأَلْ" جَزْمًا عَلَى النَّهْيِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ نافع وحده، وفية وجهان:
__________
(1) . راجع ج 1 ص 66 طبعه ثانية.
(2) . راجع ج 1 ص 180 طبعه ثانية.
(3) . راجع ج 1 ص 184، 238 طبعه ثانية.(2/92)
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نُهِيَ عَنِ السُّؤَالِ عَمَّنْ عَصَى وَكَفَرَ مِنَ الْأَحْيَاءِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَغَيَّرُ حَالُهُ فَيَنْتَقِلُ عَنِ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَعَنِ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ. وَالثَّانِي- وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَنَّهُ نُهِيَ عَنِ السُّؤَالِ عَمَّنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ وَمَعْصِيَتِهِ، تَعْظِيمًا لِحَالِهِ وَتَغْلِيظًا لِشَأْنِهِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: لَا تَسْأَلْ عَنْ فُلَانٍ! أَيْ قَدْ بَلَغَ فَوْقَ مَا تَحْسِبُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ" وَلَنْ تُسْأَلَ". وَقَرَأَ أُبَيٌّ" وَمَا تُسْأَلُ"، وَمَعْنَاهُمَا مُوَافِقٌ لِقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، نَفَى أَنْ يَكُونَ مَسْئُولًا عَنْهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا سَأَلَ أَيَّ أَبَوَيْهِ أَحْدَثُ مَوْتًا، فَنَزَلَتْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ" التَّذْكِرَةِ" أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَا لَهُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَآمَنَا بِهِ، وَذَكَرْنَا قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلرَّجُلِ: (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ) وَبَيَّنَّا ذَلِكَ، وَالْحَمْدُ لله.
[سورة البقرة (2) : آية 120]
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ". فيه مسألتان: الاولى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" الْمَعْنَى: لَيْسَ غَرَضُهُمْ يَا مُحَمَّدُ بِمَا يَقْتَرِحُونَ مِنَ الْآيَاتِ أَنْ يُؤْمِنُوا، بَلْ لَوْ أَتَيْتَهُمْ بِكُلِ مَا يَسْأَلُونَ لَمْ يَرْضَوْا عَنْكَ، وَإِنَّمَا يُرْضِيهِمْ تَرْكُ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعُهُمْ. يُقَالُ: رَضِيَ يَرْضَى رِضًا وَرُضًا وَرِضْوَانًا وَرُضْوَانًا وَمَرْضَاةً، وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ، وَيُقَالُ فِي التَّثْنِيَةِ: رِضَوَانٌ، وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: رِضَيَانٌ. وَحُكِيَ رِضَاءٌ مَمْدُودٌ، وَكَأَنَّهُ مصدر راضي يراضي مراضاة ورضاء. و" تَتَّبِعَ" مَنْصُوبٌ بِأَنْ وَلَكِنَّهَا لَا تَظْهَرُ مَعَ حَتَّى، قَالَهُ الْخَلِيلُ. وَذَلِكَ أَنَّ حَتَّى خَافِضَةٌ لِلِاسْمِ، كَقَوْلِهِ:" حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ" وَمَا يَعْمَلُ فِي الِاسْمِ لَا يَعْمَلُ فِي الْفِعْلِ أَلْبَتَّةَ، وَمَا يَخْفِضُ اسْمًا لَا يَنْصِبُ شَيْئًا. وَقَالَ النحاس:" تَتَّبِعَ" منصوب بحتى، و" حَتَّى" بَدَلٌ مِنْ أَنْ. وَالْمِلَّةُ: اسْمٌ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ فِي كُتُبِهِ وَعَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ.(2/93)
فَكَانَتِ الْمِلَّةُ وَالشَّرِيعَةُ سَوَاءٌ، فَأَمَّا الدِّينُ فَقَدْ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِلَّةِ وَالشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ الْمِلَّةَ وَالشَّرِيعَةَ مَا دَعَا اللَّهُ عِبَادَهُ إِلَى فِعْلِهِ، وَالدِّينُ مَا فَعَلَهُ الْعِبَادُ عَنْ أَمْرِهِ. الثَّانِيَةُ- تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أبو حنيفة والشافعي وداود وأحمد ابن حَنْبَلٍ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" مِلَّتَهُمْ" فَوَحَّدَ الْمِلَّةَ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:" لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ «1» "، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ) عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِسْلَامُ وَالْكُفْرُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ الْكَافِرُ) . وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إِلَى أَنَّ الْكُفْرَ مِلَلٌ، فَلَا يَرِثُ الْيَهُودِيُّ النَّصْرَانِيَّ، وَلَا يَرِثَانِ الْمَجُوسِيَّ، أَخْذًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ) ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:" مِلَّتَهُمْ" فَالْمُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُوَحَّدَةً فِي اللَّفْظِ بِدَلِيلِ إِضَافَتِهَا إِلَى ضَمِيرِ الْكَثْرَةِ، كَمَا تَقُولُ: أَخَذْتُ عَنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ- مَثَلًا- عِلْمَهُمْ، وَسَمِعْتُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ، يَعْنِي عُلُومَهُمْ وَأَحَادِيثَهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى " الْمَعْنَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ هُدَى اللَّهِ الْحَقِّ الَّذِي يَضَعُهُ فِي قَلْبِ مَنْ يَشَاءُ هُوَ الْهُدَى الْحَقِيقِيُّ، لَا مَا يَدَّعِيهِ هَؤُلَاءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ" الْأَهْوَاءُ جَمْعُ هَوًى، كَمَا تَقُولُ: جَمَلٌ وَأَجْمَالٌ، وَلَمَّا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً جُمِعَتْ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى أَفْرَادِ الْمِلَّةِ لَقَالَ هَوَاهُمْ. وَفِي هَذَا الْخِطَابِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ لِلرَّسُولِ، لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي- أَنَّهُ لِلرَّسُولِ وَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ فِيهِ تَأْدِيبٌ لِأُمَّتِهِ، إِذْ مَنْزِلَتُهُمْ دُونَ مَنْزِلَتِهِ. وَسَبَبُ الْآيَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَ المسالمة والهدية، وَيَعِدُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَنْ يَرْضَوْا عَنْهُ حَتَّى يتبع ملتهم، وأمره بجهادهم. قَوْلُهُ تَعَالَى:" مِنَ الْعِلْمِ" سُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَمَّنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، فَقَالَ: كَافِرٌ، فَقِيلَ: بِمَ كَفَّرْتَهُ؟ فَقَالَ: بِآيَاتٍ مِنْ كِتَابِ الله تَعَالَى:" وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ
«2» " وَالْقُرْآنُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ. فمن زعم أنه مخلوق فقد كفر.
__________
(1) . راجع ج 20 ص 229.
(2) . راجع ج 9 ص 326.(2/94)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
[سورة البقرة (2) : الآيات 121 الى 123]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ" قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْكِتَابُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْقُرْآنُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمْ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْكِتَابُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: التوراة، والآية تعم. و" الَّذِينَ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ،" آتَيْناهُمُ" صِلَتُهُ،" يَتْلُونَهُ" خَبَرُ الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَ الْخَبَرَ" أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ". وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى" يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ" فَقِيلَ: يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ، بِاتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَيُحَلِّلُونَ حَلَالَهُ، وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ، وَيَعْمَلُونَ بِمَا تَضَمَّنَهُ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ. قَالَ عِكْرِمَةُ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى:" وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها" أَيْ أَتْبَعَهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
قَدْ جَعَلَتْ دَلْوِي تَسْتَتْلِينِي «1»
وَرَوَى نَصْرُ بْنُ عِيسَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ" قَالَ: (يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ) . فِي إِسْنَادِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمَجْهُولِينَ فِيمَا ذَكَرَ الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ، إِلَّا أَنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: مَنْ يَتَّبِعُ الْقُرْآنَ يَهْبِطُ بِهِ عَلَى رِيَاضِ الْجَنَّةِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُمُ الَّذِينَ إِذَا مَرُّوا بِآيَةِ رَحْمَةٍ سَأَلُوهَا مِنَ اللَّهِ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةِ عَذَابٍ اسْتَعَاذُوا مِنْهَا. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ إِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ
__________
(1) . تمامه:
ولا أريد تبع القرين(2/95)
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
تَعَوَّذَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ، وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ، وَيَكِلُونَ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ إِلَى عَالِمِهِ. وَقِيلَ: يَقْرَءُونَهُ حَقَّ قِرَاءَتِهِ. قُلْتُ: وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يُرَتِّلُونَ أَلْفَاظَهُ، وَيَفْهَمُونَ مَعَانِيَهُ، فَإِنَّ بِفَهْمِ الْمَعَانِي يَكُونُ الاتباع لمن وفق.
[سورة البقرة (2) : آية 124]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
فيه عشرون مَسْأَلَةً: الْأُولَى- لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْكَعْبَةِ وَالْقِبْلَةِ اتَّصَلَ ذَلِكَ بِذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ الَّذِي بَنَى الْبَيْتَ، فَكَانَ مِنْ حَقِّ الْيَهُودِ- وَهُمْ مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ- أَلَّا يَرْغَبُوا عَنْ دِينِهِ. وَالِابْتِلَاءُ: الِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ، وَمَعْنَاهُ أَمْرٌ وَتَعَبُّدٌ. وَإِبْرَاهِيمُ تَفْسِيرُهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ فِيمَا ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَبِالْعَرَبِيَّةِ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَبٌ رَحِيمٌ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ السُّرْيَانِيِّ وَالْعَرَبِيِّ أَوْ يُقَارِبُهُ فِي اللَّفْظِ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ تَفْسِيرُهُ أَبٌ رَاحِمٌ، لِرَحْمَتِهِ بِالْأَطْفَالِ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ هُوَ وَسَارَةُ زَوْجَتُهُ كَافِلَيْنِ لِأَطْفَالِ المؤمنين الذين يَمُوتُونَ صِغَارًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الرُّؤْيَا الطَّوِيلِ عَنْ سَمُرَةَ، وَفِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي الرَّوْضَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحَوْلَهُ أَوْلَادُ النَّاسِ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ، وَالْحَمْدُ لله. وإبراهيم هذا هُوَ ابْنُ تَارخ بْنِ نَاخور فِي قَوْلِ بَعْضِ الْمُؤَرِّخِينَ. وَفِي التَّنْزِيلِ:" وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ «1» وَكَذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَلَا تَنَاقُضَ فِي ذَلِكَ، عَلَى مَا يَأْتِي فِي" الْأَنْعَامِ" بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَانَ لَهُ أَرْبَعُ بَنِينَ: إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَمَدْيَنُ وَمَدَائِنُ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ. وَقُدِّمَ عَلَى الْفَاعِلِ للاهتمام، إذ كون الرب تبارك وتعالى
__________
(1) . راجع ج 7 ص 22.(2/96)
مُبْتَلِيًا مَعْلُومٌ، وَكَوْنُ الضَّمِيرِ الْمَفْعُولِ فِي الْعَرَبِيَّةِ مُتَّصِلًا بِالْفَاعِلِ مُوجِبَ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ، فَإِنَّمَا بُنِيَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الِاهْتِمَامِ، فَاعْلَمْهُ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" إِبْراهِيمَ" بِالنَّصْبِ،" رَبُّهُ" بِالرَّفْعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى الْعَكْسِ، وَزَعَمَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَقْرَأَهُ كَذَلِكَ. وَالْمَعْنَى دَعَا إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ وَسَأَلَ، وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَجْلِ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ:" بِكَلِماتٍ". الثَّانِيَةُ- قوله تعالى:" بِكَلِماتٍ" الْكَلِمَاتُ جَمْعُ كَلِمَةٍ، وَيَرْجِعُ تَحْقِيقُهَا إِلَى كَلَامِ الْبَارِي تَعَالَى، لَكِنَّهُ عَبَّرَ عَنْهَا عَنِ الْوَظَائِفِ الَّتِي كُلِّفَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمَّا كَانَ تَكْلِيفُهَا بِالْكَلَامِ سُمِّيَتْ بِهِ، كَمَا سُمِّيَ عِيسَى كَلِمَةً، لِأَنَّهُ صَدَرَ عَنْ كَلِمَةٍ وَهِيَ" كُنْ". وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمُقَدِّمَتِهِ أَحَدُ قِسْمَيِ الْمَجَازِ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْكَلِمَاتِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا- شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ ثَلَاثُونَ سَهْمًا، عَشَرَةٌ مِنْهَا فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ:" التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ «1» " إِلَى آخِرِهَا، وَعَشَرَةٌ فِي الْأَحْزَابِ:" إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ «2» " إِلَى آخِرِهَا، وَعَشَرَةٌ فِي الْمُؤْمِنُونَ:" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «3» " إِلَى قَوْلِهِ:" عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ" وَقَوْلُهُ فِي" سَأَلَ سائِلٌ «4» ":" إِلَّا الْمُصَلِّينَ" إِلَى قَوْلِهِ:" وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا ابْتَلَى اللَّهُ أَحَدًا بِهِنَّ فَقَامَ بِهَا كُلِّهَا إِلَّا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ابْتُلِيَ بِالْإِسْلَامِ فَأَتَمَّهُ فَكَتَبَ اللَّهُ لَهُ الْبَرَاءَةَ فَقَالَ:" وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى «5» ". وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِذَبْحِ ابْنِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي مُبْتَلِيكَ بِأَمْرٍ، قَالَ: تَجْعَلُنِي لِلنَّاسِ إِمَامًا؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي؟ قَالَ: لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، قَالَ: تَجْعَلُ الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: وَأَمْنًا؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: وَتُرِينَا مَنَاسِكنَا وَتَتُوبُ عَلَيْنَا؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: وَتَرْزُقُ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ؟ قَالَ نَعَمْ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَتَمَّ. وَأَصَحُّ مِنْ هَذَا مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ
__________
(1) . راجع ج 8 ص 269.
(2) . راجع ج 14 ص 185. [.....]
(3) . راجع ج 12 ص 102.
(4) . راجع ج 18 ص 291.
(5) . راجع ج 17 ص 113.(2/97)
ابن طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:" وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ" قَالَ: ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالطَّهَارَةِ، خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ وَخَمْسٌ فِي الْجَسَدِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَالْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ، وَالسِّوَاكُ، وَفَرْقُ الشَّعْرِ. وَفِي الْجَسَدِ: تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَالِاخْتِتَانُ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ، وَغَسْلُ مَكَانِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ بِالْمَاءِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالَّذِي أَتَمَّ هُوَ إبراهيم، وهو ظاهر القرآن. وروى مطر «1» عَنْ أَبِي الْجَلْدِ أَنَّهَا عَشْرٌ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ مَوْضِعَ الْفَرْقِ غَسْلَ الْبَرَاجِمِ «2» ، وَمَوْضِعَ الِاسْتِنْجَاءِ «3» الِاسْتِحْدَادَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَنَاسِكُ الْحَجِّ خَاصَّةً. الْحَسَنُ: هِيَ الْخِلَالُ السِّتُّ: الْكَوْكَبُ، وَالْقَمَرُ، وَالشَّمْسُ، وَالنَّارُ، وَالْهِجْرَةُ، وَالْخِتَانُ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَيْسَتْ بِمُتَنَاقِضَةٍ، لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قُلْتُ: وَفِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلُ مَنِ اخْتَتَنَ، وَأَوَّلُ مَنْ أَضَافَ الضَّيْفُ، وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَحَدَّ، وَأَوَّلُ مَنْ قَلَّمَ الْأَظْفَارَ، وَأَوَّلُ مَنْ قَصَّ الشَّارِبَ، وَأَوَّلُ مَنْ شَابَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّيْبَ قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: وَقَارٌ، قَالَ: يَا رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ عَلَى الْمَنَابِرِ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ. قَالَ غَيْرُهُ: وَأَوَّلُ مَنْ ثَرَدَ الثَّرِيدَ، وَأَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ بِالسَّيْفِ، وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَاكَ، وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ، وَأَوَّلُ مَنْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ. وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن أَتَّخِذِ الْمِنْبَرَ فَقَدِ اتَّخَذَهُ أَبِي إِبْرَاهِيمُ وَإِنْ أَتَّخِذِ الْعَصَا فَقَدِ اتَّخَذَهَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ) . قُلْتُ: وهذه أحكام يجب بيانها والوقوف عَلَيْهَا وَالْكَلَامُ فِيهَا، فَأَوَّلُ ذَلِكَ" الْخِتَانُ" وَمَا جَاءَ فِيهِ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ: الرَّابِعَةُ- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلُ مَنِ اختتن. واختلف في السن التي اخْتَتَنَ فِيهَا، فَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا: (وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَعَاشَ
__________
(1) . في ج:" مطرف".
(2) . سيأتي الكلام على البراجم في المسألة العاشرة.
(3) . سيذكر المؤلف معنى الاستحداد عند المسألة التاسعة.(2/98)
بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ سَنَةً (. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ رَأْيًا، وَقَدْ رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ مَرْفُوعًا عَنْ يحيى ابن سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ سَنَةً) . ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ «1» . وَرُوِيَ مُسْنَدًا مَرْفُوعًا مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ يَحْيَى مِنْ وُجُوهٍ: (أَنَّهُ اخْتَتَنَ حِينَ بَلَغَ ثَمَانِينَ سَنَةً وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ «2» . كَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ" ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً"، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَجْلَانَ وَحَدِيثِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عِكْرِمَةُ: اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً. قَالَ: وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ بَعْدُ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَخْتُونٌ، هَكَذَا قال عكرمة وقاله الْمُسَيَّبُ بْنُ رَافِعٍ، ذَكَرَهُ الْمَرْوَزِيُّ. وَ" الْقَدُومُ" يُرْوَى مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: الْقَدُّومُ (مُشَدَّدًا) : مَوْضِعٌ. الْخَامِسَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْخِتَانِ، فَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُؤَكَّدَاتِ السُّنَنِ وَمِنْ فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ الَّتِي لَا يَسَعُ تَرْكُهَا فِي الرِّجَالِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ذَلِكَ فَرْضٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً". قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الِاخْتِتَانُ، وَإِلَيْهِ مَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيِّينَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ سُرَيْجٍ «3» عَلَى وُجُوبِهِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ الْخِتَانَ فَرْضٌ لَمَا أُبِيحَ النَّظَرُ إِلَيْهَا مِنَ الْمَخْتُونِ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يُبَاحُ لِمَصْلَحَةِ الْجِسْمِ كَنَظَرِ الطَّبِيبِ، وَالطِّبُّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ إِجْمَاعًا، عَلَى مَا يَأْتِي فِي" النَّحْلِ" بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِمَا رَوَاهُ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْخِتَانُ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ مَكْرُمَةٌ لِلنِّسَاءِ) . وَالْحَجَّاجُ لَيْسَ مِمَّنْ يحتج به.
__________
(1) . في ج:" ذكره عبد الرزاق".
(2) . قال النووي:" رواة مسلم متفقون على تخفيف (القدوم) ، ووقع في روايات البخاري الخلاف في تشديده وتخفيفه، قالوا: وآلة النجار يقال لها: قدوم بالتخفيف لأغير، وأما القدوم مكان بالشام ففيه التخفيف والتشديد. فمن رواه بالتشديد أراد القرية، ورواية التخفيف تحتمل القرية والآلة، والأكثرون على التخفيف وعلى إرادة الآلة".
(3) . في أ، ح:" ابن شريح".(2/99)
قُلْتُ: أَعْلَى مَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْفِطْرَةُ خَمْسٌ الِاخْتِتَانُ ... ) الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَخْتِنُ النِّسَاءَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تُنْهِكِي «1» فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْظَى لِلْمَرْأَةِ وَأَحَبُّ لِلْبَعْلِ) . قَالَ أَبُو دَاوُدُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ رَاوِيهِ مَجْهُولٌ. وَفِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا رَزِينٌ: (وَلَا تُنْهِكِي فَإِنَّهُ أَنْوَرُ لِلْوَجْهِ وَأَحْظَى عِنْدَ الرَّجُلِ) . السَّادِسَةُ- فَإِنْ وُلِدَ الصَّبِيُّ مَخْتُونًا فَقَدْ كُفِيَ مُؤْنَةَ الْخِتَانِ. قَالَ الْمَيْمُونِيُّ قَالَ لِي أَحْمَدُ: إِنَّ هَا هُنَا رَجُلًا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ مَخْتُونٌ، فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ غَمًّا شَدِيدًا، فَقُلْتُ لَهُ: إذا كان الله قد كفاك المئونة فَمَا غَمُّكَ بِهَذَا! السَّابِعَةُ- قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ حُدِّثْتُ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: خُلِقَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَخْتُونِينَ: آدَمُ وَشِيثٌ وَإِدْرِيسُ وَنُوحٌ وَسَامٌ وَلُوطٌ وَيُوسُفُ وَمُوسَى وَشُعَيْبٌ وَسُلَيْمَانُ وَيَحْيَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ الْهَاشِمِيُّ: هُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ: آدَمُ وَشِيثٌ وَنُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَلُوطٌ وَشُعَيْبٌ وَيُوسُفُ وَمُوسَى وَسُلَيْمَانُ وَزَكَرِيَّا وَعِيسَى وَحَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ (نَبِيُّ أَصْحَابِ الرَّسِّ) «2» وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. قُلْتُ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ فِي" كِتَابِ الْحِلْيَةِ" بِإِسْنَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُلِدَ مَخْتُونًا. وَأَسْنَدَ أَبُو عُمَرَ فِي التَّمْهِيدِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ بن بادي «3» العلاف حدثنا محمد ابن أَبِي السَّرِيِّ الْعَسْقَلَانِيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ خَتَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَجَعَلَ لَهُ مَأْدُبَةً وَسَمَّاهُ" مُحَمَّدًا". قَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا حَدِيثٌ مُسْنَدٌ غَرِيبٌ. قَالَ يَحْيَى بن أيوب: طلبت
__________
(1) ." لا تنهكى" أي لا تبالغي في استقصاء الختان.
(2) . في اللسان:" قال الزجاج: يروى أن الرس ديار لطائفة من ثمود، قال ويروى أن الرس قرية باليمامة يقال لها فلج، ويروى أنهم كذبوا نبيهم ورسوه في بئر، أي دسوه فيها حتى مات، ويروى أن الرس بئر، وكل بئر عند العرب رس".
(3) . في الأصول:" زياد" والتصويب عن تهذيب التهذيب.(2/100)
هَذَا الْحَدِيثَ فَلَمْ أَجِدْهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِمَّنْ لَقِيتُهُ إِلَّا عِنْدَ ابْنِ أَبِي السَّرِيِّ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولد مَخْتُونًا. الثَّامِنَةُ- وَاخْتَلَفُوا مَتَى يُخْتَنُ الصَّبِيُّ، فَثَبَتَ فِي الْأَخْبَارِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ قالوا: ختن إبراهيم إسماعيل لثلاث عثرة سَنَةً. وَخَتَنَ ابْنَهُ إِسْحَاقَ لِسَبْعَةِ أَيَّامٍ. وَرُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَخْتِنُ وَلَدَهَا يَوْمَ السَّابِعِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَقَالَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْيَهُودِ. ذَكَرَهُ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: يُخْتَنُ الصَّبِيُّ مَا بَيْنَ سَبْعِ سِنِينَ إِلَى عَشْرٍ. وَنَحْوَهُ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ: لَمْ أَسْمَعْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِثْلُ مَنْ أَنْتَ حِينَ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَنَا يَوْمئِذٍ مَخْتُونٌ. قَالَ: وَكَانُوا لَا يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حَتَّى يُدْرِكَ أَوْ يُقَارِبَ الِاحْتِلَامَ. وَاسْتَحَبَّ الْعُلَمَاءُ فِي الرَّجُلِ الكبير يسلم أن يختتن، وَكَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: لَا يَتِمُّ إِسْلَامُهُ حَتَّى يَخْتَتِنَ وَإِنْ بَلَغَ ثَمَانِينَ سَنَةً. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يُرَخِّصُ لِلشَّيْخِ الَّذِي يُسْلِمُ أَلَّا يَخْتَتِنَ، وَلَا يَرَى بِهِ بَأْسًا وَلَا بِشَهَادَتِهِ وَذَبِيحَتِهِ وَحَجِّهِ وَصَلَاتِهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا. وَحَدِيثُ بُرَيْدَةَ فِي حَجِّ الْأَغْلَفِ لَا يَثْبُتُ. وَرُوِيَ عن ابن عباس وجابر ابن زَيْدٍ وَعِكْرِمَةَ: أَنَّ الْأَغْلَفَ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ ولا تجوز شهادته. التاسعة- قوله: (وَأَوَّلُ مَنِ اسْتَحَدَّ) فَالِاسْتِحْدَادُ اسْتِعْمَالُ الْحَدِيدِ فِي حَلْقِ الْعَانَةِ. وَرَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اطَّلَى «1» وَلِيَ عَانَتُهُ بِيَدِهِ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا طَلَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا بَلَغَ إِلَى عَانَتِهِ قَالَ لَهُ: اخْرُجْ عَنِّي، ثُمَّ طَلَى عَانَتَهُ بِيَدِهِ. وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَتَنَوَّرُ، وَكَانَ إِذَا كَثُرَ الشَّعْرُ عَلَى عَانَتِهِ حَلَقَهُ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَكْثَرَ مِنْ فِعْلِهِ كَانَ الْحَلْقُ وَإِنَّمَا تَنَوَّرَ نَادِرًا، لِيَصِحَّ الجمع بين الحديثين.
__________
(1) . اطلى: يعنى بالنورة وهى حجر يتخذ منه طلاء لازالة الشعر من بواطن الجسد.(2/101)
الْعَاشِرَةُ- فِي تَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ. وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ: قَصُّهَا، وَالْقُلَامَةُ مَا يُزَالُ مِنْهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: أُحِبُّ لِلنِّسَاءِ مِنْ قَصِّ الْأَظْفَارِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ مِثْلَ ما هو على الرجال. ذكره الحارث ابن مِسْكِينٍ وَسَحْنُونُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ. وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي" نَوَادِرِ الْأُصُولِ" لَهُ (الْأَصْلُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ) : حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلَاءِ الزُّبَيْدِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ بِلَالٍ الْفَزَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بِشْرِ الْمَازِنِيَّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُصُّوا أَظَافِيركُمْ وَادْفِنُوا قُلَامَاتكُمْ وَنَقُّوا بَرَاجِمَكُمْ وَنَظِّفُوا لِثَاتَكُمْ مِنَ الطَّعَامِ وَتَسَنَّنُوا وَلَا تَدْخُلُوا عَلَيَّ قُخْرًا بُخْرًا «1» ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ فَأَحْسَنَ. قَالَ التِّرْمِذِيِّ: فَأَمَّا قَصُّ الْأَظْفَارِ فَمِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يَخْدِشُ وَيَخْمِشُ وَيَضُرُّ، وَهُوَ مُجْتَمَعُ الْوَسَخِ، فَرُبَّمَا أَجْنَبَ وَلَا يَصِلُ الْمَاءُ إِلَى الْبَشَرَةِ مِنْ أَجْلِ الْوَسَخِ فَلَا يَزَالُ جُنُبًا. وَمَنْ أَجْنَبَ فَبَقِيَ مَوْضِعُ إِبْرَةٍ مِنْ جَسَدِهِ بَعْدَ الْغُسْلِ غَيْرَ مَغْسُولٍ فَهُوَ جُنُبٌ عَلَى حَالِهِ حَتَّى يَعُمَّ الْغُسْلُ جَسَدَهُ كُلَّهُ، فَلِذَلِكَ نَدَبَهُمْ إِلَى قَصِّ الْأَظْفَارِ. وَالْأَظَافِيرُ جَمْعُ الْأُظْفُورِ، وَالْأَظْفَارُ جَمْعُ الظُّفْرِ. وَفِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ سَهَا فِي صَلَاتِهِ فَقَالَ: (وَمَا لِي لَا أُوهِمُ وَرَفْغُ «2» أَحَدِكُمْ بَيْنَ ظُفْرِهِ وَأُنْمُلَتِهِ وَيَسْأَلُنِي أَحَدُكُمْ عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ وَفِي أَظَافِيرِهِ الْجَنَابَةُ وَالتَّفَثُ) . وَذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ الطَّبَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِإلْكِيَا فِي" أَحْكَامِ الْقُرْآنِ" لَهُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ فَرَجِ أَبِي وَاصِلٍ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَصَافَحْتُهُ، فَرَأَى فِي أَظْفَارِي طُولًا فَقَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأله عن خبر السماء فقال: (يحي أَحَدُكُمْ يَسْأَلُ عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأَظْفَارُهُ كَأَظْفَارِ الطَّيْرِ حَتَّى يَجْتَمِعَ فِيهَا الْوَسَخُ وَالتَّفَثُ) . وَأَمَّا قَوْلُهُ: (ادْفِنُوا قُلَامَاتُكُمْ) فَإِنَّ جَسَدَ الْمُؤْمِنِ ذُو حُرْمَةٍ، فَمَا سَقَطَ مِنْهُ وَزَالَ عَنْهُ فَحِفْظُهُ مِنَ الْحُرْمَةِ قَائِمٌ، فَيَحِقُّ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفِنَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ مَاتَ دُفِنَ، فَإِذَا مَاتَ بَعْضُهُ فَكَذَلِكَ أَيْضًا تُقَامُ حُرْمَتُهُ بِدَفْنِهِ، كَيْ لَا يَتَفَرَّقَ وَلَا يَقَعَ فِي النَّارِ أَوْ فِي مَزَابِلَ قَذِرَةٍ. وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ
__________
(1) . اضطربت الأصول في رسم هذه الكلمة، والتصويب عن" نوادر الأصول" وسينقل المؤلف رحمه الله كلام الترمذي عن هذا الحديث. [.....]
(2) . الرفع: الوسخ الذي بين الأنملة والظفر.(2/102)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَفْنِ دَمِهِ حَيْثُ احْتَجَمَ كَيْ لَا تَبْحَثُ عَنْهُ الْكِلَابُ. حَدَّثَنَا بِذَلِكَ أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْهُنَيْدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَاعِزٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ يَقُولُ إِنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَحْتَجِمُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: (يَا عَبْدَ اللَّهِ اذْهَبْ بِهَذَا الدَّمِ فَأَهْرِقْهُ حَيْثُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ) . فَلَمَّا بَرَزَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَدَ إِلَى الدَّمِ فَشَرِبَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: (يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا صَنَعْتَ بِهِ؟) . قَالَ: جَعَلْتُهُ فِي أَخْفَى مَكَانٍ ظَنَنْتُ أَنَّهُ خَافِيًا عَنِ النَّاسِ. قَالَ: (لَعَلَّكَ شَرِبْتَهُ؟) قال نعم. قال: (لم شربت الدم، [ويل للناس منك «1» و] ويل لَكَ مِنَ النَّاسِ) . حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْهَرَوِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِدَفْنِ سَبْعَةِ أَشْيَاءَ مِنَ الْإِنْسَانِ: الشَّعْرُ، وَالظُّفْرُ، وَالدَّمُ، وَالْحَيْضَةُ، وَالسِّنُّ، وَالْقَلَفَةُ، وَالْبَشِيمَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (نَقُّوا بَرَاجِمَكُمْ) فَالْبَرَاجِمُ تِلْكَ الْغُضُونُ مِنَ الْمَفَاصِلِ، وَهِيَ مُجْتَمَعُ الدَّرَنِ (وَاحِدُهَا بُرْجُمَةٌ) وَهُوَ ظَهْرُ عُقْدَةِ كُلِّ مَفْصِلٍ، فَظَهْرُ الْعُقْدَةِ يُسَمَّى بُرْجُمَةً، وَمَا بَيْنَ الْعُقْدَتَيْنِ تُسَمَّى رَاجِبَةً، وَجَمْعُهَا رَوَاجِبُ، وَذَلِكَ مِمَّا يَلِي ظَهْرَهَا، وَهِيَ قَصَبَةُ الْأُصْبُعِ، فَلِكُلِ أُصْبُعٍ بُرْجُمَتَانِ وَثَلَاثُ رَوَاجِبَ إِلَّا الْإِبْهَامُ فَإِنَّ لَهَا بُرْجُمَةً وَرَاجِبَتَيْنِ، فَأَمَرَ بِتَنْقِيَتِهِ لِئَلَّا يَدْرَنُ فَتَبْقَى فِيهِ الْجَنَابَةُ، وَيَحُولُ الدَّرَنُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْبَشَرَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (نَظِّفُوا لِثَاتَكُمْ) فَاللِّثَةُ وَاحِدَةٌ، وَاللِّثَاتُ جَمَاعَةٌ، وَهِيَ اللَّحْمَةُ فَوْقَ الْأَسْنَانِ وَدُونَ الْأَسْنَانِ، وَهِيَ مَنَابِتُهَا. وَالْعُمُورُ: اللَّحْمَةُ الْقَلِيلَةُ بَيْنَ السِّنَّيْنِ، وَاحِدُهَا عَمْرٌ. فَأَمَرَ بِتَنْظِيفِهَا لِئَلَّا يَبْقَى فيها وضر الطَّعَامَ فَتَتَغَيَّرَ عَلَيْهِ النَّكْهَةُ وَتَتَنَكَّرُ الرَّائِحَةُ، وَيَتَأَذَّى الْمَلَكَانِ، لِأَنَّهُ طَرِيقِ الْقُرْآنِ، وَمَقْعَدُ الْمَلَكَيْنِ عِنْدَ نَابَيْهِ. وَرُوِيَ فِي الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ «2» " قَالَ: عِنْدَ نَابَيْهِ. حَدَّثَنَا بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ الشَّقَيْقِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَذْكُرُ ذَلِكَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَجَادَ مَا قَالَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ هُوَ عَمَلُ الشَّفَتَيْنِ يلفظ
__________
(1) . زيادة عن كتاب" نوادر الأصول".
(2) . راجع ج 17 ص 11.(2/103)
الْكَلَامَ عَنْ لِسَانِهِ إِلَى الْبَرَازِ. وَقَوْلُهُ:" لَدَيْهِ" أَيْ عِنْدَهُ، وَالَّدَى وَالْعِنْدُ فِي لُغَتِهِمُ السَّائِرَةِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ" لَدُنْ" فَالنُّونُ زَائِدَةٌ. فَكَأَنَّ الْآيَةَ تُنَبِّئُ أَنَّ الرَّقِيبَ عَتِيدٌ عِنْدَ مُغَلَّظِ الْكَلَامِ وَهُوَ النَّابُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (تَسَنَّنُوا) وَهُوَ السِّوَاكُ مَأْخُوذٌ مِنَ السِّنِّ، أَيْ نَظِّفُوا السِّنَّ. وَقَوْلُهُ: (لَا تَدْخُلُوا عَلَيَّ قُخْرًا بُخْرًا) فالمحفوظ عندي (فحلا وَقُلْحًا) . وَسَمِعْتُ الْجَارُودَ يَذْكُرُ عَنِ النَّضْرِ قَالَ: الْأَقْلَحُ الَّذِي قَدِ اصْفَرَّتْ أَسْنَانُهُ حَتَّى بَخِرَتْ مِنْ بَاطِنِهَا، وَلَا أَعْرِفُ الْقَخَرَ. وَالْبَخَرُ: الَّذِي تَجِدُ لَهُ رَائِحَةً مُنْكَرَةً لِبَشَرَتِهِ، يُقَالُ: رَجُلٌ أَبْخَرُ، وَرِجَالٌ بُخُرٌ. حَدَّثَنَا الْجَارُودُ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ تَمَّامِ بْنِ الْعَبَّاسِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اسْتَاكُوا، مَا لَكُمْ تَدْخُلُونَ عَلَيَّ قُلْحًا) . الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- فِي قَصِّ الشَّارِبِ. وَهُوَ الْأَخْذُ مِنْهُ حَتَّى يَبْدُوَ طَرَفُ الشَّفَةِ وَهُوَ الْإِطَارُ، وَلَا يَجُزُّهُ فَيُمَثِّلُ نَفْسَهُ، قَالَهُ مَالِكٌ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْهُ قَالَ: وَأَرَى أَنْ يُؤَدَّبَ مَنْ حَلَقَ شَارِبَهُ. وَذَكَرَ أَشْهَبُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي حَلْقِ الشَّارِبِ: هَذِهِ بِدَعٌ، وَأَرَى أَنْ يُوجَعَ ضَرْبًا مَنْ فَعَلَهُ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ قَالَ مَالِكٌ: أَرَى أَنْ يُوجَعَ مَنْ حَلَقَهُ ضَرْبًا. كَأَنَّهُ يَرَاهُ مُمَثِّلًا بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ بِنَتْفِهِ الشَّعْرَ، وَتَقْصِيرِهِ عِنْدَهُ أَوْلَى مِنْ حَلْقِهِ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ ذَا لِمَّةٍ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَيْنِ وَافِرِ الشَّعْرِ أَوْ مُقَصِّرٍ، وَإِنَّمَا حَلَقَ وَحَلَقُوا فِي النُّسُكِ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُصُّ أَظَافِرَهُ وَشَارِبَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْجُمُعَةِ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَمْ نَجِدْ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا شَيْئًا مَنْصُوصًا، وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ رَأَيْنَاهُمْ: الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ كَانَا يُحْفِيَانِ شَوَارِبَهُمَا، وَيَدُلُّ ذَلِكَ أَنَّهُمَا أَخَذَا ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ فَكَانَ مَذْهَبُهُمْ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ وَالشَّارِبِ أَنَّ الْإِحْفَاءَ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ. وَذَكَرَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَذْهَبَهُ فِي حَلْقِ الشَّارِبِ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ: رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يُحْفِي شَارِبَهُ شَدِيدًا، وَسَمِعْتُهُ سُئِلَ عَنِ السُّنَّةِ فِي إِحْفَاءِ الشَّارِبِ فَقَالَ: يُحْفَى كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَحْفُوا الشَّوَارِبَ) . قَالَ أَبُو عُمَرَ: إِنَّمَا فِي هَذَا الْبَابِ أَصْلَانِ:(2/104)
أَحَدُهُمَا: أَحْفُوا، وَهُوَ لَفْظٌ مُحْتَمِلُ التَّأْوِيلِ. وَالثَّانِي- قَصُّ الشَّارِبِ، وَهُوَ مُفَسَّرٌ، وَالْمُفَسَّرُ يَقْضِي عَلَى الْمُجْمَلِ، وَهُوَ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ أَوْلَى مَا قِيلَ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُصُّ مِنْ شَارِبِهِ وَيَقُولُ: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ كَانَ يَفْعَلُهُ) . قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَخَرَّجَ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْفِطْرَةُ خَمْسٌ الِاخْتِتَانُ وَالِاسْتِحْدَادُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ) . وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَوْفُوا اللِّحَى «1» ) . وَالْأَعَاجِمُ يَقُصُّونَ لِحَاهُمْ، وَيُوَفِّرُونَ شَوَارِبَهُمْ أَوْ يُوَفِّرُونَهُمَا مَعًا، وَذَلِكَ عَكْسُ الْجَمَالِ وَالنَّظَافَةِ. ذَكَرَ رَزِينٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُحْفِي شَارِبَهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى الْجِلْدِ، وَيَأْخُذُ هَذَيْنَ، يَعْنِي مَا بَيْنَ الشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْخُذُ مِنْ طُولِ لِحْيَتِهِ مَا زَادَ عَلَى الْقَبْضَةِ إِذَا حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ عَرْضِهَا وَطُولِهَا. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- وَأَمَّا الْإِبْطُ فَسُنَّتُهُ النَّتْفُ، كَمَا أَنَّ سُنَّةَ الْعَانَةِ الْحَلْقُ، فَلَوْ عُكِسَ جَازَ لِحُصُولِ النَّظَافَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ الْمُتَيَسَّرُ الْمُعْتَادُ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- وَفَرْقُ الشَّعْرِ: تَفْرِيقُهُ فِي الْمَفْرِقِ «2» ، وَفِي صِفَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِ انْفَرَقَتْ عَقِيصَتُهُ «3» فَرَقَ، يقال: فرقت الشعر أفرقه فرقا، يقول: إِنِ انْفَرَقَ شَعْرُ رَأْسِهِ فَرَقَهُ فِي مَفْرِقِهِ، فَإِنْ لَمْ يَنْفَرِقْ تَرَكَهُ وَفْرَةً «4» وَاحِدَةً. خَرَّجَ النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْدُلُ شَعْرَهُ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُفَرِّقُونَ شُعُورَهُمْ، وَكَانَ يُحِبُّ مُوَافَقَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ، ثُمَّ فَرَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: سَدْلُ الشَّعْرِ إِرْسَالُهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَا هُنَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ إِرْسَالُهُ عَلَى الْجَبِينِ، وَاتِّخَاذُهُ كَالْقُصَّةِ، وَالْفَرْقُ فِي الشَّعْرِ سُنَّةٌ
، لِأَنَّهُ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الجمعة
__________
(1) . إحفاء الشوارب: قص ما طال منها. وإعفاء اللحى: توفيرها.
(2) . المفرق: وسط الرأس.
(3) . العقيصة: الشعر المعقوص، وهو نحو من المضفور.
(4) . الوفرة: الشعر المجتمع على الرأس.(2/105)
أَقَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ حَرَسًا يَجُزُّونَ نَاصِيَةَ كُلِّ مَنْ لَمْ يُفَرِّقْ شَعْرَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْفَرْقَ كَانَ مِنْ سُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَأَمَّا الشَّيْبُ فَنُورٌ وَيُكْرَهُ نَتْفُهُ، فَفِي النَّسَائِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَشِيبُ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَتَبَ اللَّهُ لَهُ حَسَنَةً وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً) . قُلْتُ: وَكَمَا يُكْرَهُ نَتْفَهُ كَذَلِكَ يُكْرَهُ تَغْيِيرَهُ بِالسَّوَادِ، فَأَمَّا تَغْيِيرُهُ بِغَيْرِ السَّوَادِ فَجَائِزٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَقِّ أَبِي قُحَافَةَ- وَقَدْ جئ بِهِ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ «1» بَيَاضًا-: (غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ) . وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:
يُسَوَّدُ أَعْلَاهَا وَيُبَيَّضُ أَصْلَهَا ... وَلَا خَيْرَ فِي الْأَعْلَى إذا فسد الأصل
وقال آخر:
يَا خَاضِبَ الشَّيْبِ بِالْحِنَّاءِ تَسْتُرُهُ ... سَلِ الْمَلِيكَ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ وَأَمَّا الثَّرِيدُ فَهُوَ أَزْكَى الطَّعَامِ وَأَكْثَرُهُ بَرَكَةً، وَهُوَ طَعَامُ الْعَرَبِ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَضْلِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ فَقَالَ: (فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) . وَفِي صَحِيحِ الْبُسْتِيِّ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا ثَرَدَتْ غَطَّتْهُ شَيْئًا حَتَّى يَذْهَبَ فَوْرُهُ وَتَقُولَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ) . السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- قُلْتُ: وَهَذَا كُلُّهُ فِي مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَغَيْرُهُ. وَيَأْتِي ذِكْرُ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَالسِّوَاكِ فِي سُورَةِ" النِّسَاءِ «2» " وَحُكْمُ الِاسْتِنْجَاءِ فِي" بَرَاءَةٌ «3» " وَحُكْمُ الضِّيَافَةِ فِي" هُودٍ «4» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبْطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَلَّا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا تحديد في أكثر المدة،
__________
(1) . الثغامة: نبت أبيض الثمر والزهر، يشبه بياض الشيب به.
(2) . راجع ج 5 ص 212.
(3) . راجع ج 8 ص 262.
(4) . راجع ج 9 ص 64.(2/106)
وَالْمُسْتَحَبُّ تَفَقُّدُ ذَلِكَ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرْوِيهِ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ. قَالَ الْعُقَيْلِيِّ: فِي حَدِيثِهِ نَظَرٌ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ فِيهِ: لَيْسَ بِحُجَّةٍ، لِسُوءِ حِفْظِهِ وَكَثْرَةِ غَلَطِهِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَلَّا تَوْقِيتَ فِي ذَلِكَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. السَّابِعَةَ عشرة- قوله تعالى:" إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً" الْإِمَامُ: الْقُدْوَةُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِخَيْطِ الْبِنَاءُ: إِمَامٌ، وَلِلطَّرِيقِ: إِمَامٌ، لِأَنَّهُ يُؤَمُّ فِيهِ لِلْمَسَالِكِ، أَيْ يُقْصَدُ. فَالْمَعْنَى: جَعَلْنَاكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا يَأْتَمُّونَ بِكَ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ، وَيَقْتَدِي بِكَ الصَّالِحُونَ. فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِمَامًا لِأَهْلِ طَاعَتِهِ، فَلِذَلِكَ اجْتَمَعَتِ الْأُمَمُ عَلَى الدَّعْوَى فِيهِ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّهُ كَانَ حَنِيفًا. الثَّامِنَةَ عشرة- قوله تعالى:" وَمِنْ ذُرِّيَّتِي" دُعَاءٌ عَلَى جِهَةِ الرَّغْبَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ مِنْ ذُرِّيَّتِي يَا رَبِّ فَاجْعَلْ. وَقِيلَ: هَذَا مِنْهُ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِفْهَامِ عَنْهُمْ، أَيْ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي يَا رَبِّ مَاذَا يَكُونُ؟ فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِيهِمْ عَاصِيًا وَظَالِمًا لَا يَسْتَحِقُّ الْإِمَامَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِمَامٌ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَعْصِي فَقَالَ:" لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ". التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنْ ذُرِّيَّتِي" أَصْلُ ذُرِّيَّةٍ، فِعْلِيَّةٌ مِنَ الذَّرِّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْرَجَ الْخَلْقَ مِنْ صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَالذَّرِّ حِينَ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ يَذْرَؤُهُمْ ذَرْءًا خَلَقَهُمْ، وَمِنْهُ الذُّرِّيَّةُ وَهِيَ نَسْلُ الثَّقَلَيْنِ، إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ تَرَكَتْ هَمْزَهَا، وَالْجَمْعُ الذَّرَارِيُّ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ" ذِرِّيَّةٌ" بِكَسْرِ الذَّالِ وَ" ذَرِّيَّةٌ" بِفَتْحِهَا. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ أَبُو الْفَتْحِ عُثْمَانُ: يَحْتَمِلُ أَصْلُ هَذَا الْحَرْفِ أَرْبَعَةَ أَلْفَاظٍ: أَحَدُهَا- ذَرَأَ، وَالثَّانِي- ذَرَرَ، وَالثَّالِثُ- ذَرَوَ، وَالرَّابِعُ ذَرَيَ، فَأَمَّا الْهَمْزَةُ فَمِنْ ذَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ، وَأَمَّا ذَرَرَ فَمِنْ لَفْظِ الذَّرِّ وَمَعْنَاهُ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ (أَنَّ الْخَلْقَ كَانَ كَالذَّرِّ) وَأَمَّا الْوَاوُ وَالْيَاءُ، فَمِنْ ذَرَوْتُ الْحَبَّ وَذَرَيْتُهُ يُقَالَانِ جَمِيعًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ «1» " وَهَذَا لِلُطْفِهِ وَخِفَّتِهِ، وَتِلْكَ حال لذر أيضا. قال الجوهري:
__________
(1) . راجع ج 10 ص 413.(2/107)
ذرت الريح التراب وغيره تذروه وتذرويه ذَرْوًا وَذَرْيًا أَيْ نَسَفَتْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: ذَرَى النَّاسُ الْحِنْطَةَ، وَأَذْرَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَلْقَيْتُهُ، كَإِلْقَائِكَ الْحَبَّ لِلزَّرْعِ. وَطَعَنَهُ فَأَذْرَاهُ عَنْ ظَهْرِ دَابَّتِهِ، أَيْ أَلْقَاهُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: إِنَّمَا سُمُّوا ذُرِّيَّةً، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَرَأَهَا عَلَى الْأَرْضِ كَمَا ذرأ الزارع البذر. وقيل: أهل ذُرِّيَّةٍ، ذُرُّورَةٌ، لَكِنْ لَمَّا كَثُرَ التَّضْعِيفُ أُبْدِلَ مِنْ إِحْدَى الرَّاءَاتِ يَاءٌ، فَصَارَتْ ذُرُّويَةٌ، ثُمَّ أُدْغِمَتِ الْوَاوُ فِي الْيَاءِ فَصَارَتْ ذُرِّيَّةً. وَالْمُرَادُ بِالذُّرِّيَّةِ هُنَا الْأَبْنَاءُ خَاصَّةً، وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ «1» " يَعْنِي آبَاءَهُمْ. الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- قوله تعالى:" لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْعَهْدِ، فَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ النُّبُوَّةُ، وَقَالَهُ السُّدِّيُّ. مُجَاهِدٌ: الْإِمَامَةُ. قَتَادَةُ: الْإِيمَانُ. عَطَاءٌ: الرَّحْمَةُ. الضَّحَّاكُ: دِينُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: عَهْدُهُ أَمْرُهُ. وَيُطْلَقُ الْعَهْدُ عَلَى الْأَمْرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا «2» " أي أمرنا. وقال:" أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ" يَعْنِي أَلَمْ أُقَدِّمْ إِلَيْكُمُ الْأَمْرَ بِهِ، وَإِذَا كَانَ عَهْدُ اللَّهِ هُوَ أَوَامِرُهُ فَقَوْلُهُ:" لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" أَيْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا بِمَحَلِّ مَنْ يُقْبَلُ مِنْهُمْ أَوَامِرُ اللَّهِ وَلَا «3» يُقِيمُونَ عَلَيْهَا، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدَ هَذَا آنِفًا «4» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" قَالَ: لَا ينال عهد لله فِي الْآخِرَةِ الظَّالِمِينَ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ نَالَهُ الظَّالِمُ فَآمَنَ بِهِ، وَأَكَلَ وَعَاشَ وَأَبْصَرَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، أَيْ لَا يَنَالُ أَمَانِي الظَّالِمِينَ، أَيْ لَا أُؤَمِّنُهُمْ مِنْ عَذَابِي. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الظَّالِمُ هُنَا الْمُشْرِكُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ" لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمُونَ" بِرَفْعِ الظَّالِمُونَ. الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ. وَأَسْكَنَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ الْيَاءَ فِي" عَهْدِي"، وَفَتَحَهَا الْبَاقُونَ. الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ مَعَ الْقُوَّةِ عَلَى الْقِيَامِ بِذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يُنَازِعُوا الْأَمْرَ أَهْلَهُ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ «5» مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ. فَأَمَّا أَهْلُ الْفُسُوقِ وَالْجَوْرِ وَالظُّلْمِ
__________
(1) . راجع ج 15 ص 34.
(2) . راجع ج 4 ص 295. [.....]
(3) . في ب، ج:" ولا يفتون عليها".
(4) . آنفا: ألان. وفعلت الشيء آنفا. أي في أول وقت يقرب منى.
(5) . راجع ج 1 ص 264 طبعه ثانية.(2/108)
فَلَيْسُوا لَهُ بِأَهْلٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" وَلِهَذَا خَرَجَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَالْحُسَيْنُ «1» ابن عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَخَرَجَ خِيَارُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَعُلَمَاؤُهُمْ عَلَى الْحَجَّاجِ، وَأَخْرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَنِي أُمَيَّةَ وَقَامُوا عَلَيْهِمْ، فَكَانَتِ الْحَرَّةُ الَّتِي أَوْقَعَهَا بِهِمْ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ «2» . وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ الْجَائِرِ أَوْلَى مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فِي مُنَازَعَتِهِ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِ اسْتِبْدَالَ الْأَمْنِ بِالْخَوْفِ، وَإِرَاقَةَ الدِّمَاءِ، وَانْطِلَاقَ أَيْدِي السُّفَهَاءِ، وَشَنَّ الْغَارَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْخَوَارِجِ، فَاعْلَمْهُ. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: وَكُلُّ مَنْ كَانَ ظَالِمًا لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَلَا خَلِيفَةً وَلَا حَاكِمًا وَلَا مُفْتِيًا، وَلَا إِمَامَ صَلَاةٍ، وَلَا يُقْبَلُ عَنْهُ مَا يَرْوِيهِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الْأَحْكَامِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُعْزَلُ بِفِسْقِهِ حَتَّى يَعْزِلَهُ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ. وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْكَامِهِ مُوَافِقًا لِلصَّوَابِ مَاضٍ غَيْرَ مَنْقُوضٍ. وَقَدْ نَصَّ مَالِكٌ عَلَى هَذَا فِي الْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ أَنَّ أَحْكَامَهُمْ لَا تُنْقَضُ إِذَا أَصَابُوا بِهَا وَجْهًا مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يَخْرِقُوا الْإِجْمَاعَ، أَوْ يُخَالِفُوا النُّصُوصَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَوَارِجَ قَدْ خَرَجُوا فِي أَيَّامِهِمْ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْأَئِمَّةَ تَتَبَّعُوا أَحْكَامَهُمْ، وَلَا نَقَضُوا شَيْئًا مِنْهَا، وَلَا أَعَادُوا أَخْذَ الزَّكَاةِ وَلَا إِقَامَةَ الْحُدُودِ الَّتِي أَخَذُوا وَأَقَامُوا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا أَصَابُوا وَجْهَ الِاجْتِهَادِ لَمْ يُتَعَرَّضْ لِأَحْكَامِهِمْ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: وَأَمَّا أَخْذُ الْأَرْزَاقِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الظَّلَمَةِ فَلِذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: إِنْ كَانَ جَمِيعَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مَأْخُوذًا عَلَى مُوجَبِ الشَّرِيعَةِ فَجَائِزٌ أَخْذُهُ، وَقَدْ أَخَذَتِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِنْ يَدِ الْحَجَّاجِ وَغَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِطًا حَلَالًا وَظُلْمًا كَمَا في أيدي
__________
(1) . في ب، ج:" والحسن".
(2) . الذي في الأصول:" عقبة بن مسلم" وهو تحريف. ويوم الحرة ذكره ابن الأثير في النهاية فقال:" وهو يوم مشهور في الإسلام أيام يزيد بن معاوية لما انتهب المدينة عسكره من أهل الشام الذين ندبهم لقتال أهل المدينة من الصحابة والتابعين، وأمر عليهم مسلم بن عقبة المري في ذى الحجة سنة ثلاث وستين، وعقيبها هلك يزيد. والحرة هذه: أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود كثيرة وكانت الوقعة بها". ويراجع تاريخ الطبري وابن الأثير والنجوم الزاهرة في حوادث سنة ثلاث وستين.(2/109)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
الْأُمَرَاءِ الْيَوْمَ فَالْوَرَعُ تَرْكُهُ، وَيَجُوزُ لِلْمُحْتَاجِ أَخْذُهُ، وَهُوَ كَلِصٍّ فِي يَدِهِ مَالٌ مَسْرُوقٌ، وَمَالٌ جَيِّدٌ حَلَالٌ وَقَدْ وَكَّلَهُ فِيهِ رَجُلٌ فَجَاءَ اللِّصُّ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى إِنْسَانٍ فَيَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ الصَّدَقَةُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللِّصُّ يَتَصَدَّقُ بِبَعْضِ مَا سَرَقَ، إذا لم يكن شي مَعْرُوفٌ بِنَهْبٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ أَوِ اشْتَرَى كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا لَازِمًا- وَإِنْ كَانَ الْوَرَعُ التَّنَزُّهُ عَنْهُ- وَذَلِكَ أَنَّ الْأَمْوَالَ لَا تُحَرَّمُ بِأَعْيَانِهَا وَإِنَّمَا تُحَرَّمُ لِجِهَاتِهَا. وَإِنْ كَانَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ظُلْمًا صُرَاحًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ أَيْدِيهِمْ. وَلَوْ كَانَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمَالِ مَغْصُوبًا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ صَاحِبٌ وَلَا مُطَالِبٌ، فَهُوَ كَمَا لَوْ وُجِدَ فِي أَيْدِي اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَيُجْعَلُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَيُنْتَظَرُ طَالِبُهُ بِقَدْرِ الِاجْتِهَادِ، فَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ صَرَفَهُ الْإِمَامُ فِي مصالح المسلمين.
[سورة البقرة (2) : آية 125]
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً" فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" جَعَلْنَا" بِمَعْنَى صَيَّرْنَا لِتَعَدِّيهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ." الْبَيْتَ" يَعْنِي الْكَعْبَةَ." مَثابَةً" أَيْ مَرْجِعًا، يقال: ثاب يثوب مثابا ومثابة وثئوبا وَثَوَبَانًا. فَالْمَثَابَةُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ وَيُرَادُ بِهِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُثَابُ إِلَيْهِ، أَيْ يُرْجَعُ إِلَيْهِ. قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ فِي الْكَعْبَةِ «1» :
مَثَابًا لِأَفْنَاءِ الْقَبَائِلِ كُلِّهَا ... تَخُبُّ إِلَيْهَا الْيَعْمَلَاتُ الذَّوَامِلُ
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ:" مَثَابَاتٍ" عَلَى الْجَمْعِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الثَّوَابِ، أَيْ يُثَابُونَ هُنَاكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَقْضِي أَحَدٌ مِنْهُ وَطَرًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
جُعِلَ الْبَيْتُ مَثَابًا لَهُمْ ... لَيْسَ مِنْهُ الدَّهْرُ يَقْضُونَ الْوَطَرْ
وَالْأَصْلُ مَثُوبَةٌ، قُلِبَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ عَلَى الثَّاءِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ أَلِفًا اتِّبَاعًا لِثَابَ يَثُوبُ، وَانْتَصَبَ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَدَخَلَتِ الْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ لِكَثْرَةِ مَنْ يَثُوبُ أَيْ يَرْجِعُ، لِأَنَّهُ قَلَّ مَا يُفَارِقُ أَحَدُ الْبَيْتِ إِلَّا وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ مِنْهُ وَطَرًا، فَهِيَ كَنَسَّابَةِ وَعَلَّامَةٍ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هي هاء تأنيث المصدر وليست للمبالغة.
__________
(1) . الذي في اللسان وشرح القاموس مادة" ثوب" أن البيت لابي طالب.(2/110)
فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ كُلُّ مَنْ جَاءَهُ يَعُودُ إِلَيْهِ، قِيلَ: لَيْسَ يَخْتَصُّ بِمَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنَ الْجُمْلَةِ، وَلَا يَعْدَمُ قَاصِدًا مِنَ النَّاسِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَمْناً" اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى تَرْكِ إِقَامَةِ الْحَدِّ فِي الْحَرَمِ عَلَى الْمُحْصَنِ وَالسَّارِقِ إِذَا لَجَأَ إِلَيْهِ، وَعَضَّدُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً" كَأَنَّهُ قَالَ: آمِنُوا مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ. وَالصَّحِيحُ إِقَامَةُ الْحُدُودِ فِي الْحَرَمِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَنْسُوخِ، لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ حَاصِلٌ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ فِي الْبَيْتِ، وَيُقْتَلُ خَارِجَ الْبَيْتِ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ هَلْ يُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ أَمْ لَا؟ وَالْحَرَمُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَيْتِ حَقِيقَةً. وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ قُتِلَ بِهِ، وَلَوْ أَتَى حَدًّا أُقِيدَ مِنْهُ فِيهِ، وَلَوْ حَارَبَ فِيهِ حُورِبَ وَقُتِلَ مَكَانَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ لَا يُقْتَلُ فِيهِ وَلَا يُتَابَعُ، وَلَا يَزَالُ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَخْرُجَ. فَنَحْنُ نَقْتُلُهُ بِالسَّيْفِ، وَهُوَ يَقْتُلُهُ بِالْجُوعِ وَالصَّدِّ، فَأَيُّ قَتْلٍ أَشَدُّ مِنْ هَذَا. وَفِي قَوْلِهِ:" وَأَمْناً" تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، أَيْ لَيْسَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ، وَلَا يَحُجُّ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَمَنِ اسْتَعَاذَ بِالْحَرَمِ أَمِنَ مِنْ أَنْ يُغَارَ عَلَيْهِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا فِي" الْمَائِدَةِ «1» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى" فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاتَّخِذُوا" قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى جِهَةِ الْخَبَرِ عَمَّنِ اتَّخَذَهُ مِنْ مُتَّبِعِي إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى" جَعَلْنَا" أَيْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً وَاتَّخَذُوهُ مُصَلًّى. وَقِيلَ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى تَقْدِيرِ إِذْ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً وَإِذِ اتَّخَذُوا، فَعَلَى الْأَوَّلِ الْكَلَامُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَعَلَى الثَّانِي جُمْلَتَانِ. وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ" وَاتَّخِذُوا" بِكَسْرِ الْخَاءِ عَلَى جِهَةِ الْأَمْرِ، قَطَعُوهُ مِنَ الْأَوَّلِ وَجَعَلُوهُ مَعْطُوفًا جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةً. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى" اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ" كَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِلْيَهُودِ، أَوْ عَلَى مَعْنَى إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلْنَا. أَوْ عَلَى مَعْنَى قوله:" مَثابَةً" لان معناه ثوبوا.
__________
(1) . راجع ج 6 ص 325.(2/111)
الثَّانِيَةُ- رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي الْحِجَابِ، وَفِي أُسَارَى بَدْرٍ. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ اللَّهَ فِي ثَلَاثٍ، أَوْ وَافَقَنِي رَبِّي فِي ثَلَاثٍ ... الْحَدِيثَ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي أَرْبَعٍ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ صَلَّيْتَ خَلْفَ الْمَقَامِ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:" وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى" وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ ضَرَبْتَ عَلَى نِسَائِكَ الْحِجَابِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ:" وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ «1» "، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:" وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ
«2» "، فَلَمَّا نَزَلَتْ قُلْتُ أَنَا: تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ، فَنَزَلَتْ:" فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «3» "، وَدَخَلْتُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: لَتَنْتَهُنَّ أَوْ لَيُبَدِّلَنَّهُ اللَّهُ بِأَزْوَاجٍ خَيْرٍ مِنْكُنَّ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ:" عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ «4» ". قُلْتُ: لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ذِكْرٌ لِلْأُسَارَى، فَتَكُونُ مُوَافَقَةُ عُمَرَ فِي خَمْسٍ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" مِنْ مَقامِ" الْمَقَامُ فِي اللُّغَةِ: مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ. قال النحاس:" مقام" من قام يقوم، يكون مَصْدَرًا وَاسْمًا لِلْمَوْضِعِ. وَمُقَامٌ مِنْ أَقَامَ، فَأَمَّا قَوْلُ زُهَيْرٍ:
وَفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ «5» ... وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ
فَمَعْنَاهُ: فِيهِمْ أَهْلُ مَقَامَاتٍ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ الْمَقَامِ عَلَى أَقْوَالٍ، أَصَحُّهَا- أَنَّهُ الْحِجْرُ الَّذِي تَعْرِفُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ الَّذِي يُصَلُّونَ عِنْدَهُ رَكْعَتَيْ طَوَافٍ الْقُدُومِ. وَهَذَا قَوْلُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى الْبَيْتَ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ تَقَدَّمَ «6» إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَقَرَأَ:" وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى" فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَرَأَ فِيهِمَا بِ" قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" وَ" قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الصلوات
__________
(1) . راجع ج 14 ص 227.
(2) . راجع ج 12 ص 109، 10 1.
(3) . راجع ج 12 ص 109، 10 1.
(4) . راجع ج 18 ص 193.
(5) . في نسخ الأصل:" وجوهها". والتصويب عن الديوان.
(6) . في ب، ج، ز:" نفذ".(2/112)
[لأهل مكة «1» أفضل و] يدل مِنْ وَجْهٍ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لِلْغُرَبَاءِ أَفْضَلُ، عَلَى مَا يَأْتِي. وَفِي الْبُخَارِيِّ: أَنَّهُ الْحَجَرُ الَّذِي ارْتَفَعَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ حِينَ ضَعُفَ عَنْ رَفْعِ الْحِجَارَةِ الَّتِي كَانَ إِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهَا إِيَّاهُ فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ، وَغَرِقَتْ قَدَمَاهُ فِيهِ. قَالَ أَنَسٌ: رَأَيْتُ فِي الْمَقَامِ أَثَرَ أَصَابِعِهِ وَعَقِبِهِ وَأَخْمَصِ قَدَمَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَذْهَبَهُ مَسْحُ النَّاسِ بِأَيْدِيهِمْ، حَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمَقَامُ الْحَجَرُ الَّذِي وَضَعَتْهُ زَوْجَةُ إِسْمَاعِيلَ تَحْتَ قَدَمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ غَسَلَتْ رَأْسَهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ «2» وَعَطَاءٍ: الْحَجُّ كُلُّهُ. وَعَنْ عَطَاءٍ: عَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةُ وَالْجِمَارُ، وَقَالَهُ الشَّعْبِيُّ. النَّخَعِيُّ: الْحَرَمُ كُلُّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمُ، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ. فلت: وَالصَّحِيحُ فِي الْمَقَامِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، حَسَبَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ. وَخَرَّجَ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَجُلٍ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، أَوِ الْبَابِ وَالْمَقَامِ وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِفُلَانٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا هَذَا) ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ اسْتَوْدَعَنِي أَنْ أَدْعُوَ لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَقَالَ: (ارْجِعْ فَقَدْ غُفِرَ لِصَاحِبِكَ) . قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ ابن إِبْرَاهِيمَ الْقَاضِي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ يَحْيَى الْكَاتِبُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ الْقَطَّانِ الْكُوفِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عِمْرَانَ الْجَعْفَرِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، فَذَكَرَهُ. قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: كَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنِ الْحَارِثِ عَنْ مُحَمَّدِ عَنْ جَابِرٍ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمَعْنَى" مُصَلًّى". مُدَّعًى يُدْعَى فِيهِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: مَوْضِعُ صَلَاةٍ يُصَلَّى عِنْدَهُ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ: قِبْلَةٌ يَقِفُ الْإِمَامُ عِنْدَهَا، قَالَهُ الْحَسَنُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَعَهِدْنا" قِيلَ: مَعْنَاهُ أَمَرْنَا. وَقِيلَ: أَوْحَيْنَا." أَنْ طَهِّرا"" أَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْخَافِضِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: إنها بمعنى أي
__________
(1) . زيادة يقتضيها السياق، وقد اعتمدنا في زيادتها على ما ورد في المسألة السادسة ص 116 من هذا الجزء. [.....]
(2) . هذا الاسم ساقط من ب، ج، ز.(2/113)
مُفَسِّرَةٌ، فَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. وَقَالَ الكوفيون: تكون بمعنى القول. و" طَهِّرا" قِيلَ مَعْنَاهُ: مِنَ الْأَوْثَانِ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مِنَ الْآفَاتِ وَالرِّيَبِ. وَقِيلَ: مِنَ الْكُفَّارِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: ابْنِيَاهُ وَأَسِّسَاهُ عَلَى طَهَارَةٍ وَنِيَّةِ طَهَارَةٍ، فَيَجِيءُ مِثْلَ قَوْلِهِ:" أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى «1» ". وَقَالَ يَمَانُ: بَخِّرَاهُ وَخَلِّقَاهُ." بَيْتِيَ" أَضَافَ الْبَيْتَ إِلَى نَفْسِهِ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ، وَهِيَ إِضَافَةُ مَخْلُوقٍ إِلَى خَالِقٍ، وَمَمْلُوكٍ إِلَى مَالِكٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَهِشَامٌ وَحَفْصٌ:" بَيْتِيَ" بفتح الياء، والآخرون بإسكانها. الثانية- قوله تعالى:" لِلطَّائِفِينَ" ظاهره الذين يطفون بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَعْنَاهُ لِلْغُرَبَاءِ الطَّارِئِينَ عَلَى مَكَّةَ، وَفِيهِ بُعْدٌ." وَالْعاكِفِينَ" الْمُقِيمِينَ مِنْ بَلَدِيٍّ وَغَرِيبٍ، عَنْ عَطَاءٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:" لِلطَّائِفِينَ". وَالْعُكُوفُ فِي اللُّغَةِ: اللُّزُومُ وَالْإِقْبَالُ عَلَى الشَّيْءِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ «2» :
عَكْفَ النَّبِيطِ يَلْعَبُونَ الْفَنْزَجَا «3»
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْعَاكِفُونَ الْمُجَاوِرُونَ. ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُصَلُّونَ. وَقِيلَ: الْجَالِسُونَ بِغَيْرِ طَوَافٍ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ." وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" أَيِ الْمُصَلُّونَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ. وَخُصَّ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ أَحْوَالِ الْمُصَلِّي إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ «4» مَعْنَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لُغَةً وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الثَّالِثَةُ- لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ" دَخَلَ فِيهِ بِالْمَعْنَى جَمِيعُ بُيُوتِهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَهُ فِي التَّطْهِيرِ وَالنَّظَافَةِ. وَإِنَّمَا خُصَّ الْكَعْبَةُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهَا، أَوْ لِكَوْنِهَا أَعْظَمَ حُرْمَةً، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي التَّنْزِيلِ" فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ «5» " وَهُنَاكَ يَأْتِي حُكْمُ الْمَسَاجِدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه
__________
(1) . راجع ج 8 ص 259.
(2) . هو العجاج، يصف ثورا. وصدر البيت:
فهن يعكفن به إذا حجا
(3) . الفنزجة والفنزج (بفتح فسكون) : رقص العجم إذا أخذ بعضهم يد بعض وهم يرقصون.
(4) . راجع ج 1 ص 291، 344 طبعه ثانية.
(5) . راجع ج 12 ص 264.(2/114)
سَمِعَ صَوْتَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: مَا هَذَا! أَتَدْرِي أَيْنَ أَنْتَ!؟ وَقَالَ حُذَيْفَةُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ يَا أَخَا الْمُنْذِرِينَ يَا أَخَا الْمُرْسَلِينَ أَنْذِرْ قَوْمَكَ أَلَّا يَدْخُلُوا بَيْتًا مِنْ بُيُوتِي إِلَّا بِقُلُوبٍ سَلِيمَةٍ وَأَلْسِنَةٍ صَادِقَةٍ وَأَيْدٍ نَقِيَّةٍ وَفُرُوجٍ طَاهِرَةٍ وَأَلَّا يَدْخُلُوا بَيْتًا مِنْ بُيُوتِي مَا دَامَ لِأَحَدٍ عِنْدَهُمْ مَظْلِمَةٌ فَإِنِّي أَلْعَنُهُ مَا دَامَ قَائِمًا بَيْنَ يَدَيَّ حَتَّى يَرُدَّ تِلْكَ الظُّلَامَةَ إِلَى أَهْلِهَا فَأَكُونَ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَكُونَ مِنْ أَوْلِيَائِي وَأَصْفِيَائِي وَيَكُونَ جَارِي مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ (. الرَّابِعَةُ- اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ دَاخِلَ الْبَيْتِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنْ صَلَّى فِي جَوْفِهَا مُسْتَقْبِلًا حَائِطًا مِنْ حِيطَانِهَا فَصَلَاتَهُ جَائِزَةٌ، وَإِنْ صَلَّى نَحْوَ الْبَابِ وَالْبَابِ مَفْتُوحٌ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ صَلَّى عَلَى ظَهْرِهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقْبِلْ مِنْهَا شَيْئًا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُصَلَّى فِيهِ الْفَرْضُ وَلَا السُّنَنُ، وَيُصَلَّى فِيهِ التَّطَوُّعُ، غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ صَلَّى فِيهِ الْفَرْضُ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ. وَقَالَ أَصْبَغُ: يُعِيدُ أَبَدًا. قُلْتُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ فِي قُبُلِ الْكَعْبَةِ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ: (هَذِهِ الْقِبْلَةُ) وَهَذَا نَصٌّ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْحَجَبِيُّ الْبَيْتَ فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ. فَلَمَّا فَتَحُوا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ فَلَقِيتُ بِلَالًا فَسَأَلْتُهُ: هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ، نَعَمْ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِيهِ قَالَ: جَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ وَثَلَاثَةُ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ. قُلْنَا: هَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَلَّى بِمَعْنَى دَعَا، كَمَا قَالَ أُسَامَةُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَلَّى الصَّلَاةَ الْعُرْفِيَّةَ، وَإِذَا احْتَمَلَ هَذَا وَهَذَا سَقَطَ الاحتجاج به.(2/115)
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنْ أُسَامَةَ قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُوَرًا فِي الْكَعْبَةِ فَكُنْتُ آتِيهِ بِمَاءٍ فِي الدَّلْوِ يَضْرِبُ بِهِ تِلْكَ الصُّوَرَ. وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ حَدَّثَنَا عُمَيْرٌ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَعْبَةِ وَرَأَى صُوَرًا قَالَ: فَدَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَأَتَيْتُهُ بِهِ فَجَعَلَ يَمْحُوهَا وَيَقُولُ: (قَاتَلَ اللَّهُ قَوْمًا يُصَوِّرُونَ مَا لَا يَخْلُقُونَ) . فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي حَالَةِ مُضِيِّ أُسَامَةَ فِي طَلَبِ الْمَاءِ فَشَاهَدَ بِلَالٌ مَا لَمْ يُشَاهِدْهُ أُسَامَةُ، فَكَانَ مَنْ أَثْبَتَ أَوْلَى مِمَّنْ نَفَى، وَقَدْ قَالَ أُسَامَةُ نَفْسُهُ: فَأَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِ بِلَالٍ وَتَرَكُوا قَوْلِي. وَقَدْ رَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: كَيْفَ صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ؟ قَالَ: صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. قُلْنَا: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى النَّافِلَةِ، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي صِحَّةِ النَّافِلَةِ فِي الْكَعْبَةِ، وَأَمَّا الْفَرْضُ فَلَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَيَّنَ الْجِهَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ" عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ «1» ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ: (هَذِهِ الْقِبْلَةُ) فَعَيَّنَهَا كَمَا عَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ كَانَ الْفَرْضُ يَصِحُّ دَاخِلَهَا لَمَا قَالَ: (هَذِهِ الْقِبْلَةُ) . وَبِهَذَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ إِسْقَاطِ بَعْضِهَا، فَلَا تَعَارُضَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الْخَامِسَةُ- وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الصَّلَاةِ عَلَى ظَهْرِهَا، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ صَلَّى عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ. وَقَدْ روي عن بعض أصحاب مالك: يعيدا أَبَدًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ صَلَّى عَلَى ظهر الكعبة فلا شي عَلَيْهِ. السَّادِسَةُ- وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا أَيُّمَا أَفْضَلُ الصَّلَاةُ عِنْدَ الْبَيْتِ أَوِ الطَّوَافُ بِهِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: الطَّوَافُ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ أَفْضَلُ، وَالصَّلَاةُ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَفْضَلُ. وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ. وَفِي الْخَبَرِ: (لَوْلَا رِجَالٌ خُشَّعٌ وَشُيُوخٌ رُكَّعٌ وَأَطْفَالٌ رُضَّعٌ وَبَهَائِمُ رُتَّعٌ لَصَبَبْنَا عَلَيْكُمُ الْعَذَابَ صَبًّا) . وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ (السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
__________
(1) . راجع ص 160 من هذا الجزء.(2/116)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَوْلَا فِيكُمْ رِجَالٌ خُشَّعٌ وَبَهَائِمُ رُتَّعٌ وَصِبْيَانٌ رُضَّعٌ لَصُبَّ الْعَذَابُ عَلَى الْمُذْنِبِينَ صَبًّا) . لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ" وَشُيُوخٌ رُكَّعٌ". وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ (الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ فَاسْتَكْثِرْ أَوِ اسْتَقِلَّ) . خَرَّجَهُ الْآجُرِيُّ. وَالْأَخْبَارُ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ وَالسُّجُودِ كَثِيرَةٌ تَشْهَدُ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَاللَّهِ تعالى أعلم.
[سورة البقرة (2) : آية 126]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
وَفِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" بَلَداً آمِناً" يَعْنِي مَكَّةَ، فَدَعَا لِذُرِّيَّتِهِ وَغَيْرِهِمْ بِالْأَمْنِ وَرَغَدِ الْعَيْشِ. فَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ فَاقْتَلَعَ الطَّائِفَ مِنْ الشَّامِ فَطَافَ بِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ أُسْبُوعًا، فَسُمِّيَتْ الطَّائِفُ لِذَلِكَ، ثُمَّ أَنْزَلَهَا تِهَامَةَ، وَكَانَتْ مَكَّةُ وَمَا يَلِيهَا حِينَ ذَلِكَ قَفْرًا لَا مَاءَ وَلَا نَبَاتَ، فَبَارَكَ اللَّهُ فِيمَا حَوْلَهَا كَالطَّائِفِ وَغَيْرِهَا، وَأَنْبَتَ فِيهَا أَنْوَاعُ الثَّمَرَاتِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" إِبْرَاهِيمَ «1» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِيَةُ- اخْتَلَفَ العلماء في مكة هل صارت حراما آمِنًا بِسُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ أَوْ كَانَتْ قَبْلَهُ كَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ حَرَمًا مِنَ الْجَبَابِرَةِ الْمُسَلَّطِينَ، وَمِنَ الْخُسُوفِ وَالزَّلَازِلِ، وَسَائِرِ الْمَثُلَاتِ الَّتِي تَحِلُّ بِالْبِلَادِ، وَجَعَلَ فِي النُّفُوسِ الْمُتَمَرِّدَةِ مِنْ تَعْظِيمِهَا وَالْهَيْبَةِ لَهَا مَا صَارَ بِهِ أَهْلُهَا مُتَمَيِّزِينَ بِالْأَمْنِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى. وَلَقَدْ جَعَلَ فِيهَا سُبْحَانَهُ مِنَ الْعَلَامَةِ الْعَظِيمَةِ عَلَى تَوْحِيدِهِ مَا شُوهِدَ مِنْ أَمْرِ الصَّيْدِ فِيهَا، فَيَجْتَمِعُ فِيهَا الْكَلْبُ وَالصَّيْدُ فَلَا يُهَيِّجُ الْكَلْبُ الصَّيْدَ وَلَا يَنْفِرُ مِنْهُ، حَتَّى إِذَا خَرَجَا مِنَ الْحَرَمِ عَدَا الْكَلْبُ عَلَيْهِ وَعَادَ إِلَى النُّفُورِ وَالْهَرَبِ. وَإِنَّمَا سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَهَا آمِنًا مِنَ الْقَحْطِ وَالْجَدْبِ وَالْغَارَاتِ، وَأَنْ يَرْزُقَ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ، لَا عَلَى مَا ظَنَّهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ الْمَنْعُ مِنْ سَفْكِ الدَّمِ فِي حَقِّ مَنْ لزمه القتل،
__________
(1) . راجع 9 ص 368 فما بعدها.(2/117)
فَإِنَّ ذَلِكَ يُبْعِدُ كَوْنَهُ مَقْصُودًا لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُقَالَ: طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ فِي شَرْعِهِ تَحْرِيمُ قَتْلِ مَنِ الْتَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ، هَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. الثَّانِي- أَنَّ مَكَّةَ كَانَتْ حَلَالًا قَبْلَ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَسَائِرِ الْبِلَادِ، وَأَنَّ بِدَعْوَتِهِ صَارَتْ حَرَمًا آمِنًا كَمَا صَارَتْ الْمَدِينَةُ بِتَحْرِيمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمِنًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ حَلَالًا. احْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الْأُولَى بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ (إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يُعْضَدُ «1» شَوْكُهُ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا «2» (فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا الْإِذْخِرُ «3» فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ، فَقَالَ:) إِلَّا الْإِذْخِرُ (. وَنَحْوُهُ حَدِيثُ أَبِي شُرَيْحٍ، أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لِأَهْلِهَا وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدَّهَا بِمِثْلَيْ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّةَ (. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:" وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ إِخْبَارٌ بِسَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ فِيهَا وَقَضَائِهِ، وَكَوْنُ الْحُرْمَةِ مُدَّةُ آدَمَ وَأَوْقَاتُ عِمَارَةِ الْقُطْرِ بِإِيمَانٍ. وَالثَّانِي إِخْبَارٌ بِتَجْدِيدِ إِبْرَاهِيمَ لِحُرْمَتِهَا وَإِظْهَارِهِ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّثُورِ، وَكَانَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَانِيَ يَوْمِ الْفَتْحِ إِخْبَارًا بِتَعْظِيمِ حُرْمَةِ مَكَّةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِإِسْنَادِ التَّحْرِيمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ مِثَالًا لِنَفْسِهِ، وَلَا مَحَالَةَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَدِينَةِ هُوَ أَيْضًا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ نَافِذِ قَضَائِهِ وَسَابِقِ عِلْمِهِ". وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: كَانَتْ مَكَّةُ حَرَامًا فَلَمْ يَتَعَبَّدِ اللَّهُ الْخَلْقَ بذلك حتى سأله إبراهيم فحرمها.
__________
(1) . لا يعضد: لا يقطع.
(2) . الخلى (مقصور) : النبات الرطب الرقيق ما دام رطبا، واختلاؤه: قطعه.
(3) . الإذخر (بكسر الهمزة والخاء) : حشيشة طيبة الرائحة يسقف بها البيوت فوق الخشب، ويحرق بدل الخشب والفحم. والقين: الحداد.(2/118)
الثالثة- قوله تعالى:" وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ" تَقَدَّمَ معنى الرزق «1» . والثمرات جمع ثمرة، وقد تَقَدَّمَ «2» ." مَنْ آمَنَ" بَدَلُ مِنْ أَهْلِ، بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ. وَالْإِيمَانُ: التَّصْدِيقُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «3» ." قَالَ وَمَنْ كَفَرَ"" مَنْ" فِي قَوْلِهِ" وَمَنْ كَفَرَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالتَّقْدِيرُ وَارْزُقْ مَنْ كَفَرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَهِيَ شَرْطٌ وَالْخَبَرُ" فَأُمَتِّعُهُ" وَهُوَ الْجَوَابُ. وَاخْتُلِفَ هَلْ هَذَا الْقَوْلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا: هُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَرَءُوا" فَأُمَتِّعُهُ" بِضَمِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ." ثُمَّ أَضْطَرُّهُ" بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَضَمِّ الرَّاءِ، وَكَذَلِكَ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ خَلَا ابْنَ عَامِرٍ فَإِنَّهُ سَكَّنَ الْمِيمَ وَخَفَّفَ التَّاءَ. وَحَكَى أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ" فَنُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُ" بِالنُّونِ. وَقَالَ ابْنُ عباس ومجاهد وقتادة: هذا القول عن إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَرَءُوا" فَأَمْتِعْهُ" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ،" ثُمَّ اضْطَرَّهُ" بِوَصْلِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، فَكَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى الْكَافِرِينَ، وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي" قالَ" لِإِبْرَاهِيمَ، وَأُعِيدَ" قالَ" لِطُولِ الْكَلَامِ، أَوْ لِخُرُوجِهِ مِنَ الدُّعَاءِ لِقَوْمٍ إِلَى الدُّعَاءِ عَلَى آخَرِينَ. وَالْفَاعِلُ فِي" قالَ" عَلَى قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ، وَجَعَلَ الْقِرَاءَةَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَوَصْلِ الْأَلِفِ شَاذَّةً، قَالَ: وَنَسَقُ الْكَلَامِ وَالتَّفْسِيرِ جَمِيعًا يَدُلَّانِ عَلَى غَيْرِهَا، أَمَّا نَسَقُ الْكَلَامِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَبَّرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ:" رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً" ثُمَّ جَاءَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ" وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُ بِقَالَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ:" قالَ وَمَنْ كَفَرَ" فَكَانَ هَذَا جَوَابًا مِنَ اللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ بَعْدُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ. وَأَمَّا التَّفْسِيرُ فَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ. وَهَذَا لَفْظُ ابْنِ عَبَّاسٍ: دَعَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَنْ آمَنَ دُونَ النَّاسِ خَاصَّةً، فَأَعْلَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ يَرْزُقُ مَنْ كَفَرَ كَمَا يَرْزُقُ مَنْ آمَنَ، وَأَنَّهُ يُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ يَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ
__________
(1) . راجع المسألة الثانية والعشرين ج 1 ص 177.
(2) . راجع المسألة الرابعة ج 1 ص 229.
(3) . راجع المسألة الاولى ج 1 ص 162 طبعه ثانية. [.....](2/119)
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
النَّارِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ «1» " وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:" وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ «2» ". قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: إِنَّمَا عَلِمَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ فِي ذُرِّيَّتِهِ كُفَّارًا فَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:" لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ".
[سورة البقرة (2) : آية 127]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ" الْقَوَاعِدُ: أَسَاسُهُ، فِي قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هِيَ الْجُدُرُ. وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهَا الْأَسَاسُ. وَفِي الْحَدِيثِ: (إِنَّ الْبَيْتَ لَمَّا هُدِمَ أُخْرِجَتْ مِنْهُ حِجَارَةٌ عِظَامٌ) فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: هَذِهِ الْقَوَاعِدُ الَّتِي رَفَعَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْقَوَاعِدَ كَانَتْ قَدِ انْدَرَسَتْ فَأَطْلَعَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهَا. ابْنُ عَبَّاسٍ: وَضَعَ الْبَيْتَ عَلَى أَرْكَانٍ رَآهَا قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ الدُّنْيَا بِأَلْفَيْ عَامٍ ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِهِ. وَالْقَوَاعِدُ وَاحِدَتُهَا قَاعِدَةٌ. وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ وَاحِدهَا قَاعِدٌ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَنْ بَنَى الْبَيْتَ أَوَّلًا وَأَسَّسَهُ، فَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ. رُوِيَ عَنْ جَعْفَرٍ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: سُئِلَ أَبِي وَأَنَا حَاضِرٌ عَنْ بَدْءِ خَلْقِ الْبَيْتِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا قَالَ:" إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ:" أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ" فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ، فَعَاذُوا بِعَرْشِهِ وَطَافُوا حَوْلَهُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَسْتَرْضُونَ رَبَّهُمْ حَتَّى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ لَهُمُ: ابْنُوا لِي بَيْتًا فِي الْأَرْضِ يَتَعَوَّذُ بِهِ مَنْ سَخِطْتُ عَلَيْهِ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَيَطُوفُ حَوْلَهُ كَمَا طُفْتُمْ حَوْلَ عَرْشِي، فَأَرْضَى عَنْهُ كَمَا رَضِيَتْ عَنْكُمْ، فَبَنَوْا هَذَا الْبَيْتَ. وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إِلَى آدَمَ: إِذَا هَبَطْتَ ابْنِ لِي بَيْتًا ثُمَّ احْفُفْ بِهِ كَمَا رَأَيْتَ الْمَلَائِكَةَ تَحُفُّ بِعَرْشِي الَّذِي
__________
(1) . راجع ج 10 ص 236.
(2) . راجع ج 9 ص 48.(2/120)
فِي السَّمَاءِ. قَالَ عَطَاءٌ: فَزَعَمَ النَّاسُ أَنَّهُ بَنَاهُ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ: مِنْ حِرَاءٍ، وَمِنْ طُورِ سِينَا، وَمِنْ لُبْنَانَ، وَمِنْ الْجُودِيِّ، وَمِنْ طُورِ زَيْتًا، وَكَانَ رُبْضُهُ «1» مِنْ حِرَاءٍ. قَالَ الْخَلِيلُ: وَالرُّبُضُ هَا هُنَا الْأَسَاسُ الْمُسْتَدِيرُ بِالْبَيْتِ مِنَ الصَّخْرِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِمَا حَوْلَ الْمَدِينَةِ: رَبُضٌ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أُهْبِطَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ قَالَ لَهُ: يَا آدَمُ، اذْهَبْ فَابْنِ لِي بَيْتًا وَطُفْ بِهِ وَاذْكُرْنِي عِنْدَهُ كَمَا رَأَيْتَ الْمَلَائِكَةَ تَصْنَعُ حَوْلَ عَرْشِي، فَأَقْبَلَ آدَمُ يَتَخَطَّى وَطُوِيَتْ لَهُ الْأَرْضُ، وَقُبِضَتْ لَهُ المفازة، فلا يقع قدمه على شي مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا صَارَ عُمْرَانًا حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْضِعِ الْبَيْتُ الْحَرَامُ، وَأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ضَرَبَ بِجَنَاحَيْهِ الْأَرْضَ فَأَبْرَزَ عَنْ أُسٍّ ثَابِتٍ عَلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى، وَقَذَفَتْ إِلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ بِالصَّخْرِ، فَمَا يُطِيقُ الصَّخْرَةَ مِنْهَا ثَلَاثُونَ رَجُلًا، وَأَنَّهُ بَنَاهُ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: أَنَّهُ أُهْبِطَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَيْمَةٌ مِنْ خِيَامِ الْجَنَّةِ، فَضُرِبَتْ فِي مَوْضِعِ الْكَعْبَةِ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا وَيَطُوفَ حَوْلَهَا، فَلَمْ تَزَلْ بَاقِيَةً حَتَّى قَبَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ ثُمَّ رُفِعَتْ. وَهَذَا مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ أُهْبِطَ مَعَهُ بَيْتٌ فَكَانَ يَطُوفُ بِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ وَلَدِهِ كَذَلِكَ إِلَى زَمَانِ الْغَرَقِ، ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ فَصَارَ فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ الَّذِي يُدْعَى الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ. رُوِيَ هَذَا عَنْ قَتَادَةَ ذَكَرَهُ الْحَلِيمِيُّ فِي كِتَابِ" مِنْهَاجِ الدِّينِ" لَهُ، وَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى مَا قَالَ قَتَادَةُ مِنْ أَنَّهُ أُهْبِطَ مَعَ آدَمَ بَيْتٌ، أَيْ أُهْبِطَ مَعَهُ مِقْدَارُ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ طُولًا وَعَرْضًا وَسُمْكًا، ثُمَّ قِيلَ لَهُ: ابْنِ بِقَدْرِهِ، وَتَحَرَّى «2» أَنْ يَكُونَ بِحِيَالِهِ، فَكَانَ حِيَالَهُ مَوْضِعُ الْكَعْبَةِ، فَبَنَاهَا فِيهِ. وَأَمَّا الْخَيْمَةُ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أُنْزِلَتْ وَضُرِبَتْ فِي مَوْضِعِ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا أُمِرَ بِبِنَائِهَا فَبَنَاهَا كَانَتْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ طُمَأْنِينَةٌ لِقَلْبِ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عَاشَ ثُمَّ رُفِعَتْ، فَتَتَّفِقُ هَذِهِ الْأَخْبَارُ. فَهَذَا بِنَاءُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ بناه إبراهيم عليه السلام. قال ابن جريح وَقَالَ نَاسٌ: أَرْسَلَ اللَّهُ سَحَابَةً فِيهَا رَأْسٌ، فَقَالَ الرَّأْسُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْخُذَ بِقَدْرِ هَذِهِ السَّحَابَةِ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَيَخُطُّ قَدْرَهَا، ثُمَّ قَالَ الرَّأْسُ: إِنَّهُ قَدْ فَعَلْتَ، فَحَفَرَ فَأُبْرِزَ عَنْ أَسَاسٍ ثَابِتٍ في الأرض. وروي عن علي بن
__________
(1) . الربض (بضم الراء، وبسكون الباء وضمها) : الأساس. وبفتحهما: ما حول المدينة.
(2) . في أ، ج، ز:" ويجوز أن يكون".(2/121)
أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ بِعِمَارَةِ الْبَيْتِ خَرَجَ مِنْ الشَّامِ وَمَعَهُ ابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ وَأُمُّهُ هَاجَرُ، وَبَعَثَ مَعَهُ السَّكِينَةَ «1» لَهَا لِسَانٌ تَتَكَلَّمُ بِهِ يَغْدُو مَعَهَا إِبْرَاهِيمُ إِذَا غَدَتْ، وَيَرُوحُ مَعَهَا إِذَا رَاحَتْ، حَتَّى انْتَهَتْ بِهِ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَتْ لِإِبْرَاهِيمَ: ابْنِ عَلَى مَوْضِعِي «2» الْأَسَاسَ، فَرَفَعَ الْبَيْتَ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْضِعِ الرُّكْنِ، فَقَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، ابْغِنِي حَجَرًا أَجْعَلُهُ عَلَمًا لِلنَّاسِ، فَجَاءَهُ بِحَجَرٍ فَلَمْ يَرْضَهُ، وَقَالَ: ابْغِنِي غَيْرَهُ، فَذَهَبَ يَلْتَمِسُ، فَجَاءَهُ وَقَدْ أَتَى بِالرُّكْنِ فَوَضَعَهُ مَوْضِعَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَةِ، مَنْ جَاءَكَ بِهَذَا الْحَجَرِ؟ فَقَالَ: مَنْ لَمْ يكلني إليك. ابن عباس: صالح أَبُو قُبَيْسٍ «3» : يَا إِبْرَاهِيمُ، يَا خَلِيلَ الرَّحْمَنِ، إِنَّ لَكَ عِنْدِي وَدِيعَةٌ فَخُذْهَا، فَإِذَا هُوَ بِحَجَرٍ أَبْيَضَ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ كَانَ آدَمُ قَدْ نَزَلَ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا رَفَعَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ جَاءَتْ سَحَابَةٌ مُرَبَّعَةٌ فِيهَا رَأْسٌ فَنَادَتْ: أَنِ ارْفَعَا عَلَى تَرْبِيعِيَّ. فَهَذَا بِنَاءُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَرُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ لَمَّا فَرَغَا مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ أَعْطَاهُمَا اللَّهُ الْخَيْلَ جَزَاءً عَنْ رَفْعِ قَوَاعِدِ الْبَيْتِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنِي نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ هَمَّامِ أَخُو عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: كانت الخبيل وَحْشًا كَسَائِرِ الْوَحْشِ، فَلَمَّا أَذِنَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ بِرَفْعِ الْقَوَاعِدِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ اسْمَهُ: (إِنِّي مُعْطِيكُمَا كَنْزًا ادَّخَرْتُهُ لَكُمَا) ثُمَّ أَوْحَى إِلَى إِسْمَاعِيلَ أَنِ اخْرُجْ إِلَى أَجْيَادٍ فَادْعُ يَأْتِكَ الْكَنْزُ. فَخَرَجَ إِلَى أَجْيَادٍ- وَكَانَتْ وَطَنًا- وَلَا يَدْرِي مَا الدُّعَاءُ وَلَا الْكَنْزُ، فَأَلْهَمَهُ، فَلَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَرَسٌ بِأَرْضِ الْعَرَبِ إِلَّا جَاءَتْهُ فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَوَاصِيهَا وَذَلَّلَهَا لَهُ، فَارْكَبُوهَا وَاعْلِفُوهَا فَإِنَّهَا مَيَامِينُ، وَهِيَ مِيرَاثُ أَبِيكُمْ إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّمَا سُمِّيَ «4» الْفَرَسُ عَرَبِيًّا لِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ أُمِرَ بِالدُّعَاءِ وَإِيَّاهُ أَتَى. وَرَوَى عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ إِدْرِيسَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَنَى الْبَيْتَ بِالطِّينِ وَالْحِجَارَةِ شِيثٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَمَّا بُنْيَانُ قُرَيْشٍ لَهُ فَمَشْهُورٌ، وَخَبَرُ الْحَيَّةِ فِي ذَلِكَ مَذْكُورٌ، وَكَانَتْ تَمْنَعُهُمْ مِنْ هَدْمِهِ إِلَى أَنِ اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ عِنْدَ الْمَقَامِ فَعَجُّوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَالُوا: رَبَّنَا، لَمْ تُرَعْ! أَرَدْنَا تَشْرِيفَ بَيْتِكَ وَتَزْيِينَهُ، فَإِنْ كُنْتَ تَرْضَى بِذَلِكَ وَإِلَّا فَمَا بَدَا لك فافعل، فسمعوا
__________
(1) . السكينة (بفتح فكسر) : ريح خجوج، أي سريعة الحر؟.
(2) . في ج:" ابن على موضع الأساس". وأبو قبيس: اسم الجبل المشرف على مكة.
(3) . في ج:" ابن على موضع الأساس". وأبو قبيس: اسم الجبل المشرف على مكة.
(4) . هكذا في جميع النسخ التي بأيدينا.(2/122)
خَوَاتًا مِنَ السَّمَاءِ- وَالْخَوَاتُ: حَفِيفُ جَنَاحِ الطَّيْرِ الضَّخْمِ- فَإِذَا هُوَ بِطَائِرٍ أَعْظَمَ مِنَ النَّسْرِ، أَسْوَدَ الظَّهْرِ أَبْيَضَ الْبَطْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، فَغَرَزَ مَخَالِيبَهُ فِي قَفَا الْحَيَّةِ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهَا تَجُرُّ ذَنَبهَا أَعْظَمَ مِنْ كَذَا وَكَذَا حَتَّى انْطَلَقَ بِهَا نَحْوَ أَجْيَادٍ، فَهَدَمَتْهَا قُرَيْشٌ وَجَعَلُوا يَبْنُونَهَا بِحِجَارَةِ الْوَادِي تَحْمِلُهَا قُرَيْشٌ عَلَى رِقَابِهَا، فَرَفَعُوهَا فِي السَّمَاءِ عِشْرِينَ ذِرَاعًا، فَبَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُ حِجَارَةً مِنْ أَجْيَادٍ وَعَلَيْهِ نَمِرَةٌ «1» فَضَاقَتْ عَلَيْهِ النَّمِرَةُ فَذَهَبَ يَرْفَعُ النَّمِرَةَ عَلَى عَاتِقِهِ، فَتُرَى عَوْرَتُهُ مِنْ صِغَرِ النَّمِرَةِ، فَنُودِيَ: يَا مُحَمَّدُ، خَمِّرْ عَوْرَتَكَ، فَلَمْ يُرَ عُرْيَانًا بَعْدُ. وَكَانَ بَيْنَ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ وَبَيْنَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ خَمْسُ سِنِينَ، وَبَيْنَ مَخْرَجِهِ وَبِنَائِهَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ. وَذُكِرَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ: حَتَّى إِذَا بَنَوْهَا وَبَلَغُوا مَوْضِعَ الرُّكْنِ اخْتَصَمَتْ قُرَيْشٌ فِي الرُّكْنِ، أَيُّ الْقَبَائِلِ تَلِي رَفْعَهُ؟ حَتَّى شَجَرَ بَيْنَهُمْ، فَقَالُوا: تَعَالَوْا نُحَكِّمُ أَوَّلَ مَنْ يَطْلُعُ عَلَيْنَا مِنْ هَذِهِ السِّكَّةِ، فَاصْطَلَحُوا عَلَى ذَلِكَ، فَاطَّلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ غُلَامٌ عَلَيْهِ وِشَاحُ نَمِرَةٍ، فَحَكَّمُوهُ فَأَمَرَ بِالرُّكْنِ فَوُضِعَ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ أَمَرَ سَيِّدَ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَأَعْطَاهُ نَاحِيَةً مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ ارْتَقَى هُوَ فَرَفَعُوا إِلَيْهِ الرُّكْنَ، فَكَانَ هُوَ يَضَعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحُدِّثْتُ أَنَّ قُرَيْشًا وَجَدُوا فِي الرُّكْنِ كِتَابًا بِالسُّرْيَانِيَّةِ فَلَمْ يُدْرِ مَا هُوَ، حَتَّى قَرَأَهُ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ يَهُودِ، فَإِذَا فِيهِ:" أَنَا اللَّهُ ذو بكة خلقتها يوم خلقت السموات وَالْأَرْضَ وَصَوَّرْتُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَحَفَفْتُهَا بِسَبْعَةِ أَمْلَاكٍ حُنَفَاءَ لَا تَزُولُ حَتَّى يَزُولَ أَخْشَبَاهَا «2» ، مُبَارَكٌ لِأَهْلِهَا فِي الْمَاءِ وَاللَّبَنِ". وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ بَابُ الْكَعْبَةِ عَلَى عَهْدِ الْعَمَالِيقِ وَجُرْهُمُ وَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْأَرْضِ حَتَّى بَنَتْهُ قُرَيْشٌ. خَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْجَدْرِ «3» أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: (نَعَمْ) قُلْتُ: فَلِمَ لَمْ يُدْخِلُوهُ [فِي الْبَيْتِ «4» ] ؟ قَالَ: (إِنَّ قَوْمَكِ قصرت بهم النفقة) . قلت:
__________
(1) . النمرة: كل شملة مخططة من مآزر العرب.
(2) . الاخشان: الحبلان المطيفان بمكة، وهما: أبو قبيس، والأحمر.
(3) . الجدر: (بفتح الجيم وإسكا- الدال) : حجر الكعبة (بكسر الحاء) .
(4) . الزيادة عن صحيح مسلم.(2/123)
فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: (فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافَ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ لَنَظَرْتُ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْزِقَ بَابَهُ بِالْأَرْضِ (. وَخُرِّجَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَتْنِي خَالَتِي (يَعْنِي عَائِشَةَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا عَائِشَةُ لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ فَأَلْزَقْتُهَا بِالْأَرْضِ وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا وَزِدْتُ فِيهَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ فَإِنَّ قُرَيْشًا اقْتَصَرَتْهَا حَيْثُ بَنَتْ الْكَعْبَةَ (. وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ [أَبِيهِ عَنْ «1» ] عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) لَوْلَا حَدَاثَةُ [عَهْدِ «2» ] قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ وَلَجَعَلْتُهَا عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّ قُرَيْشًا حِينَ بَنَتْ الْكَعْبَةَ اسْتَقْصَرَتْ وَلَجَعَلْتُ لَهَا خَلْفًا (. وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: يَعْنِي بَابًا. وَفِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا:) لَجَعَلْتُ لَهَا خَلْفَيْنِ) يَعْنِي بَابَيْنِ، فَهَذَا بِنَاءُ قُرَيْشٍ. ثُمَّ لَمَّا غَزَا أَهْلُ الشَّامِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَوَهَتْ الْكَعْبَةُ مِنْ حَرِيقِهِمْ، هَدَمَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ وَبَنَاهَا عَلَى مَا أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ، وَزَادَ فِيهِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ، حَتَّى أَبْدَى أُسًّا نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَبَنَى عَلَيْهِ الْبِنَاءَ، وَكَانَ طُولُ الْكَعْبَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا زَادَ فِيهِ اسْتَقْصَرَهُ، فَزَادَ فِي طُولِهِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَجَعَلَ لَهَا بَابَيْنِ أَحَدُهُمَا يُدْخَلُ مِنْهُ، وَالْآخَرُ يُخْرَجُ مِنْهُ، كَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَأَلْفَاظُ الْحَدِيثِ تَخْتَلِفُ. وَذَكَرَ سُفْيَانُ عَنْ دَاوُدَ بْنِ شَابُورَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَنْ يَهْدِمَ الْكَعْبَةَ وَيَبْنِيَهُ «3» قَالَ لِلنَّاسِ: اهْدِمُوا، قَالَ: فَأَبَوْا أَنْ يَهْدِمُوا وَخَافُوا أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَخَرَجْنَا إِلَى مِنًى فَأَقَمْنَا بِهَا ثَلَاثًا نَنْتَظِرُ الْعَذَابَ. قَالَ: وَارْتَقَى ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ هُوَ بِنَفْسِهِ، فلما رأوا أنه لم يصبه شي اجْتَرَءُوا عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: فَهَدَمُوا. فَلَمَّا بَنَاهَا جَعَلَ لَهَا بَابَيْنِ: بَابًا يَدْخُلُونَ مِنْهُ، وَبَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ، وَزَادَ فِيهِ مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ سِتَّةَ أَذْرُعٍ، وَزَادَ فِي طُولِهَا تِسْعَةَ أَذْرُعٍ. قَالَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِهِ: فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك ابن مَرْوَانَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، وَيُخْبِرُهُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ وَضَعَ الْبِنَاءَ عَلَى أُسٍّ نَظَرَ إِلَيْهِ العدول من أهل
__________
(1) . الزيادة عن صحيح مسلم.
(2) . الزيادة عن صحيح مسلم. [.....]
(3) . كذا في نسخ الأصل. ولمعل تذكير الضمير على بمعنى البيت.(2/124)
مَكَّةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّا لَسْنَا من تلطيخ ابن الزبير في شي «1» ، أَمَّا مَا زَادَ فِي طُولِهِ فَأَقِرَّهُ، وَأَمَّا مَا زَادَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ فَرُدَّهُ إِلَى بِنَائِهِ، وَسُدَّ الْبَابُ الَّذِي فَتَحَهُ، فَنَقَضَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى بِنَائِهِ. فِي رِوَايَةٍ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَبَا خُبَيْبٍ (يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ) سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ مَا كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهَا، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: بَلَى، أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْهَا، قَالَ: سَمِعْتَهَا تَقُولُ مَاذَا؟ قَالَ: قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ قَوْمَكِ اسْتَقْصَرُوا مِنْ بُنْيَانِ الْبَيْتِ وَلَوْلَا حَدَاثَةُ عَهْدِهِمْ بِالشِّرْكِ أَعَدْتُ مَا تَرَكُوا مِنْهُ «2» فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ من بعدي أن يبنوه فهلمي لأربك مَا تَرَكُوا مِنْهُ فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ (. فِي أُخْرَى: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَوْ كُنْتُ سَمِعْتُهُ قَبْلَ أَنْ أَهْدِمَهُ لَتَرَكْتُهُ عَلَى مَا بَنَى ابْنُ الزُّبَيْرِ. فَهَذَا مَا جَاءَ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ مِنَ الْآثَارِ. وَرُوِيَ أَنَّ الرَّشِيدَ ذَكَرَ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ يُرِيدُ هَدْمَ مَا بَنَى الْحَجَّاجُ مِنَ الْكَعْبَةِ، وَأَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بِنَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ لِمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَامْتَثَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَّا تَجْعَلَ هَذَا الْبَيْتَ مَلْعَبَةً لِلْمُلُوكِ، لَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا نَقْضَ الْبَيْتَ وَبِنَاهُ، فَتَذْهَبُ هَيْبَتُهُ مِنْ صُدُورِ الناس. وذكر الوافدي: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ،: نَهَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبِّ أَسْعَدَ الْحِمْيَرِيِّ، وَهُوَ تُبَّعٌ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَسَا الْبَيْتَ، وَهُوَ تُبَّعُ الْآخَرُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتْ تُكْسَى الْقَبَاطِيَّ «3» ثُمَّ كُسِيَتِ الْبُرُدَ، وَأَوَّلُ مَنْ كَسَاهَا الدِّيبَاجَ الْحَجَّاجُ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَا يَنْبَغِي أن يؤخذ من كسوة الكعبة شي، فإنه مهدي إليها، ولا ينقص منها شي. رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ طِيبِ الْكَعْبَةِ يُسْتَشْفَى بِهِ، وَكَانَ إِذَا رَأَى الْخَادِمَ يَأْخُذُ مِنْهُ قَفَدَهَا قَفْدَةً «4» لَا يَأْلُو أَنْ يُوجِعَهَا. وَقَالَ عَطَاءٌ: كَانَ أَحَدُنَا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَشْفِيَ بِهِ جَاءَ بِطِيبٍ مِنْ عِنْدِهِ فَمَسَحَ بِهِ الحجر ثم أخذه.
__________
(1) . قوله: إنا لسنا ... إلخ، قال النووي:" يريد بذلك سبه وعيب فعله، يقال: لطخته أي رميته بأمر قبيح".
(2) . كان في صحيح مسلم. وفى نسخ الأصل:" تمامه".
(3) . القباطي (جمع القبطية القاف) : ثياب كتاب بيض رقاق تعمل بمصر، وهى منسوبة إلى القبط على غير قياس.
(4) . القفد (بفتح فسكون) : صفع الرأس ببسط الكف من قبل القفا.(2/125)
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا" الْمَعْنَى: وَيَقُولَانِ" رَبَّنا"، فَحَذَفَ. وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ:" وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ وَيَقُولَانِ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا". وَتَفْسِيرُ إِسْمَاعِيلَ: اسْمَعْ يَا أَللَّهُ، لِأَنَّ" إِيلَ" بِالسُّرْيَانِيَّةِ هُوَ اللَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «1» . فَقِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا دَعَا رَبَّهُ قَالَ: اسْمَعْ يَا إِيلُ، فَلَمَّا أَجَابَهُ رَبُّهُ وَرَزَقَهُ الْوَلَدَ سَمَّاهُ بِمَا دَعَاهُ. ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" اسْمَانِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْكِتَابِ" الأسنى في شرج أسماء الله الحسنى".
[سورة البقرة (2) : آية 128]
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ" أي صيرنا، و" مُسْلِمَيْنِ" مَفْعُولٌ ثَانٍ، سَأَلَا التَّثْبِيتَ وَالدَّوَامَ. وَالْإِسْلَامُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْإِيمَانُ وَالْأَعْمَالُ جَمِيعًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «2» " فَفِي هَذَا دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ شي وَاحِدٌ، وَعَضَّدُوا هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:" فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ «3» ". وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ" مُسْلِمِينَ" عَلَى الْجَمْعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ" أَيْ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا فَاجْعَلْ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَدْعُ نَبِيٌّ إِلَّا لِنَفْسِهِ وَلِأُمَّتِهِ إِلَّا إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّهُ دَعَا مَعَ دُعَائِهِ لِنَفْسِهِ وَلِأُمَّتِهِ ولهذه الامة. و" من" فِي قَوْلِهِ:" وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا" لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ أَعْلَمَهُ أَنَّ مِنْهُمْ ظَالِمِينَ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ: أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ" وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا" العرب خاصة. قال السهيلي «4» : وذريتهما
__________
(1) . راجع ص 36 من هذا الجزء.
(2) . راجع ج 4 ص 43.
(3) . راجع ج 17 ص 48.
(4) . اضطربت الأصول في ذكر كلام السهيلي، وقد ذكر الطبري في تاريخه خبر أولاد إسماعيل (ص 351 قسم أول) ، وابن الأثير (ج 1 ص 88) وابن هشام في سيرته ص 4 طبع أوربا، فيراجع.(2/126)
الْعَرَبُ، لِأَنَّهُمْ بَنُو نَبِتِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، أَوْ بَنُو تَيْمَنَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَيُقَالُ: قِيدَرَ بْنُ نَبِتِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ. أَمَّا الْعَدْنَانِيَّةُ فَمِنْ نَبِتِ، وَأَمَّا الْقَحْطَانِيَّةُ فَمِنْ قَيدَرَ بْنِ نَبِتِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، أَوْ تَيْمَنَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ دَعْوَتَهُ ظَهَرَتْ فِي الْعَرَبِ وَفِيمَنْ آمَنَ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَالْأُمَّةُ: الْجَمَاعَةُ هُنَا، وَتَكُونُ وَاحِدًا إِذَا كَانَ يُقْتَدَى بِهِ فِي الْخَيْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً «1» لِلَّهِ"، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: (يُبْعَثُ أُمَّةً وَحْدَهُ) لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرِكْ فِي دِينِهِ غَيْرَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الْأُمَّةِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «2» " أَيْ عَلَى دِينٍ وَمِلَّةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً «3» ". وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْحِينَ وَالزَّمَانَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ «4» " أَيْ بَعْدَ حِينٍ وَزَمَانٍ. وَيُقَالُ: هَذِهِ أُمَّةُ زَيْدٍ، أَيْ أُمُّ زَيْدٍ. وَالْأُمَّةُ أَيْضًا: الْقَامَةُ، يُقَالُ: فُلَانٌ حَسَنُ الْأُمَّةِ، أي حسن القامة، قال «5» :
وإن معاوية الاكرمي ... ن حِسَانُ الْوُجُوهِ طِوَالُ الْأُمَمِ
وَقِيلَ: الْأُمَّةُ الشَّجَّةُ الَّتِي تَبْلُغُ أُمَّ الدِّمَاغِ، يُقَالُ: رَجُلٌ مَأْمُومٌ وَأَمِيمٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَرِنا مَناسِكَنا"" أَرِنَا" مِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ، فَتَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَقِيلَ: مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، وَيَلْزَمُ قَائِلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى الْفِعْلُ مِنْهُ إِلَى ثَلَاثَةِ مَفَاعِيلَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَنْفَصِلُ «6» بِأَنَّهُ يُوجَدُ مُعَدًّى بِالْهَمْزَةِ مِنْ رُؤْيَةِ القلب إلى مفعولين [كغير المعدي «7» ] ، قال حطايط بْنُ يَعْفُرَ أَخُو الْأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ:
أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَزْلًا لِأَنَّنِي «8» ... أَرَى مَا تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدًا
وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَتَادَةُ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالسُّدِّيُّ وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ وَرُوَيْسٍ وَالسُّوسِيِّ" أَرْنَا" بِسُكُونِ الرَّاءِ فِي الْقُرْآنِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ. وَقَرَأَ أبو عمرو باختلاس كسرة
__________
(1) . راجع ج 10 ص 197.
(2) . راجع ج 16 ص 74.
(3) . راجع ج 11 ص 338.
(4) . راجع ج 9 ص 201.
(5) . القائل هو الأعشى، كما في اللسان. [.....]
(6) . قال أبو حيان في البحر:" وقوله: ينفصل ... إلخ. يعنى أنه قد استعمل في اللسان العربي متعديا إلى إثنين ومعه همزة النقل كما استعمل متعديا إلى اثنين بغير الهمزة.
(7) . زيادة عن ابن عطية.
(8) . ويروى" لعلى"، ولان بمعنى لعل.(2/127)
الرَّاءِ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَأَصْلُهُ أرينا بِالْهَمْزِ، فَمَنْ قَرَأَ بِالسُّكُونِ قَالَ: ذَهَبَتِ الْهَمْزَةُ وَذَهَبَتْ حَرَكَتُهَا وَبَقِيَتِ الرَّاءُ سَاكِنَةً عَلَى حَالِهَا، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَرْنَا إِدَاوَةَ عَبْدِ اللَّهِ نَمْلَؤُهَا ... مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ ظَمِئُوا
وَمَنْ كَسَرَ فَإِنَّهُ نَقَلَ حَرَكَةَ الْهَمْزَةِ الْمَحْذُوفَةِ إِلَى الرَّاءِ، وَأَبُو عَمْرٍو طَلَبَ الْخِفَّةَ. وَعَنْ شُجَاعِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ «1» وَكَانَ أَمِينًا صَادِقًا أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فَذَاكَرَهُ أَشْيَاءَ مِنْ حُرُوفِ أَبِي عَمْرٍو فَلَمْ يَرُدْ عَلَيْهِ إِلَّا حَرْفَيْنِ: هَذَا، وَالْآخَرُ" مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنْسَأْهَا" مَهْمُوزًا. قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَناسِكَنا" يُقَالُ: إِنَّ أَصْلَ النُّسُكِ فِي اللُّغَةِ الْغَسْلُ، يُقَالُ مِنْهُ: نَسَكَ ثَوْبَهُ إِذَا غَسَلَهُ. وَهُوَ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِلْعِبَادَةِ، يُقَالُ: رَجُلٌ نَاسِكٌ إِذَا كَانَ عَابِدًا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْمَنَاسِكِ هُنَا، فَقِيلَ: مَنَاسِكُ الْحَجِّ وَمَعَالِمُهُ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: الْمَنَاسِكُ الْمَذَابِحُ، أَيْ مَوَاضِعُ الذَّبْحِ. وَقِيلَ: جَمِيعُ الْمُتَعَبَّدَاتِ. وَكُلُّ مَا يُتَعَبَّدُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يقال له منسك ومسك. وَالنَّاسِكُ: الْعَابِدُ. قَالَ النَّحَّاسُ: يُقَالُ نَسَكَ يَنْسُكُ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ عَلَى هَذَا: مَنْسُكٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَفْعُلٌ. وَعَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قَالَ: أَيْ رَبِّ، قَدْ فَرَغْتُ فَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ جِبْرِيلَ فَحَجَّ بِهِ، حَتَّى إِذَا رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ وَجَاءَ يَوْمَ النَّحْرِ عَرَضَ لَهُ إِبْلِيسُ، فَقَالَ لَهُ: أَحْصِبْهُ، فَحَصَبَهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ الْغَدَ ثُمَّ الْيَوْمَ الثَّالِثَ، ثُمَّ عَلَا ثَبِيرًا «2» فَقَالَ: يَا عِبَادَ اللَّهِ، أَجِيبُوا، فَسَمِعَ دَعْوَتَهُ مِنْ بَيْنِ الْأَبْحُرِ مِمَّنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ، اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، قَالَ: وَلَمْ يَزَلْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ سَبْعَةُ مُسْلِمُونَ فَصَاعِدًا، لَوْلَا ذَلِكَ لَأُهْلِكَتِ الْأَرْضُ وَمَنْ عَلَيْهَا. وَأَوَّلُ مَنْ أَجَابَهُ أَهْلُ الْيَمَنِ. وَعَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ الْبَيْتِ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام فأراه الطواف
__________
(1) . في أ، ب، ز:" أبى نصرة". وفي ج، ح:" أبى بصرة". والتصويب عن طبقات القراء وتهذيب التهذيب.
(2) . ثبير: جبل بين مكة ومنى وهو على يمين الذاهب إلى مكة.(2/128)
بِالْبَيْتِ- قَالَ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ:" وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةَ- ثُمَّ انْطَلَقَا إِلَى الْعَقَبَةِ فَعَرَضَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ، فَأَخَذَ جِبْرِيلُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ وَأَعْطَى إِبْرَاهِيمَ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، فَرَمَى وَكَبَّرَ، وَقَالَ لِإِبْرَاهِيمَ: ارْمِ وَكَبِّرْ، فَرَمَيَا وَكَبَّرَا مَعَ كُلِّ رَمْيَةٍ حَتَّى أَفَلَ الشَّيْطَانُ. ثُمَّ انْطَلَقَا إِلَى الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى، فَعَرَضَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ، فَأَخَذَ جِبْرِيلُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ وَأَعْطَى إِبْرَاهِيمَ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، وَقَالَ: ارْمِ وَكَبِّرْ، فَرَمَيَا وَكَبَّرَا مَعَ كُلِّ رَمْيَةٍ حَتَّى أَفَلَ الشَّيْطَانُ. ثُمَّ أَتَيَا الْجَمْرَةَ الْقُصْوَى فَعَرَضَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ، فَأَخَذَ جِبْرِيلُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ وَأَعْطَى إِبْرَاهِيمَ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، وَقَالَ: ارْمِ وَكَبِّرْ، فَرَمَيَا وَكَبَّرَا مَعَ كُلِّ رَمْيَةٍ حَتَّى أَفَلَ الشَّيْطَانُ. ثُمَّ أَتَيَا الْجَمْرَةَ الْقُصْوَى فَعَرَضَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ، فَأَخَذَ جِبْرِيلُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ وَأَعْطَى إِبْرَاهِيمَ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، وَقَالَ: ارْمِ وَكَبِّرْ، فَرَمَيَا وَكَبَّرَا مَعَ كُلِّ رَمْيَةٍ حَتَّى أَفَلَ الشَّيْطَانُ. ثُمَّ أَتَى بِهِ جَمْعًا «1» فَقَالَ: هَا هُنَا يَجْمَعُ النَّاسُ الصَّلَوَاتِ. ثُمَّ أَتَى بِهِ عَرَفَاتٍ فَقَالَ: عَرَفْتَ؟ فَقَالَ نَعَمْ، فَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَ عَرَفَاتٍ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: عَرَفْتَ، عَرَفْتَ، عَرَفْتَ؟ أَيْ مِنًى وَالْجَمْعَ وَهَذَا، فَقَالَ نَعَمْ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْمَكَانُ عَرَفَاتٍ. وَعَنْ خُصَيْفِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ مُجَاهِدًا حَدَّثَهُ قَالَ: لَمَّا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" وَأَرِنا مَناسِكَنا" أَيِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ، وَهُمَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ بِنَصِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِ جِبْرِيلُ، فَلَمَّا مَرَّ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ إِذَا إِبْلِيسُ عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: كَبِّرْ وَارْمِهِ، فَارْتَفَعَ إِبْلِيسُ إِلَى الْوُسْطَى، فَقَالَ جِبْرِيلُ: كَبِّرْ وَارْمِهِ، ثُمَّ فِي الْجَمْرَةِ الْقُصْوَى كَذَلِكَ. ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِ إِلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، ثُمَّ أَتَى بِهِ عَرَفَةَ فَقَالَ لَهُ: هَلْ عَرَفْتَ مَا أَرَيْتُكَ؟ قَالَ نَعَمْ، فَسُمِّيَتْ عَرَفَاتٍ لِذَلِكَ فِيمَا قِيلَ، قَالَ: فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، قَالَ: كَيْفَ أَقُولُ؟ قَالَ قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَجِيبُوا رَبَّكُمْ، ثلاث مرار، فَفَعَلَ، فَقَالُوا: لَبَّيْكَ، اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. قَالَ: فَمَنْ أَجَابَ يَوْمئِذٍ فَهُوَ حَاجٌّ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّهُ حِينَ نَادَى اسْتَدَارَ فَدَعَا فِي كُلِّ وَجْهٍ، فَلَبَّى النَّاسُ مِنْ كُلِّ مَشْرِقٍ وَمَغْرِبٍ، وَتَطَأْطَأَتِ الْجِبَالُ حَتَّى بَعُدَ صَوْتُهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ: طُفْ بِهِ سَبْعًا، فَطَافَ بِهِ سَبْعًا هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، يَسْتَلِمَانِ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا فِي كُلِّ طَوَافٍ، فَلَمَّا أَكْمَلَا سَبْعًا صَلَّيَا خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: فَقَامَ جِبْرِيلُ فَأَرَاهُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا: الصفا والمروة ومنى والمزدلفة. قال:
__________
(1) . جمع (بفتح فسكون) : المزدلفة.(2/129)
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
فَلَمَّا دَخَلَ مِنًى وَهَبَطَ مِنْ الْعَقَبَةِ تَمَثَّلَ لَهُ إِبْلِيسُ ... ، فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَلَغَنِي أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ: حَجَّ إِسْحَاقُ وَسَارَةُ مِنْ الشَّامِ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَحُجُّهُ كُلَّ سَنَةٍ عَلَى الْبُرَاقِ، وَحَجَّتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ وَالْأُمَمُ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَابِطٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِذَا هَلَكَتْ أُمَّتُهُ لَحِقَ مَكَّةَ فَتَعَبَّدَ بِهَا هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ حَتَّى يَمُوتُوا فَمَاتَ بِهَا نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَقُبُورُهُمْ بَيْنَ زَمْزَمَ وَالْحِجْرِ (. وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ أَنَّ شُعَيْبًا مَاتَ بِمَكَّةَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقُبُورُهُمْ فِي غَرْبِيِّ مَكَّةَ بَيْنَ دَارِ النَّدْوَةِ وَبَيْنَ بَنِي سَهْمٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَبْرَانِ لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهُمَا، قَبْرُ إِسْمَاعِيلَ وَقَبْرُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فقبر إسماعيل في الجحر، وَقَبْرُ شُعَيْبٍ مُقَابِلَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ضَمْرَةَ السَّلُولِيُّ: مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ إِلَى زَمْزَمَ قُبُورُ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ نَبِيًّا جَاءُوا حُجَّاجًا فَقُبِرُوا هُنَالِكَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَتُبْ عَلَيْنا" اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ:" وَتُبْ عَلَيْنا" وَهُمْ أَنْبِيَاءٌ مَعْصُومُونَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: طَلَبَا التَّثْبِيتِ وَالدَّوَامِ، لَا أَنَّهُمَا كَانَ لَهُمَا ذَنْبٌ. قُلْتُ: وَهَذَا حَسَنٌ، وَأَحْسَنُ مِنْهُ أَنَّهُمَا لَمَّا عَرَفَا الْمَنَاسِكَ وَبَنَيَا الْبَيْتَ أَرَادَا أَنْ يُبَيِّنَا لِلنَّاسِ وَيُعَرِّفَاهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْقِفَ وَتِلْكَ الْمَوَاضِعَ مَكَانَ التَّنَصُّلِ مِنَ الذُّنُوبِ وَطَلَبِ التَّوْبَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَتُبْ عَلَى الظَّلَمَةِ مِنَّا. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ «1» عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي قِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ:" إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" فَأَغْنَى عن «2» إعادته.
[سورة البقرة (2) : آية 129]
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
__________
(1) . يراجع ج 1 ص 30 طبعه ثانية.
(2) . يراجع ج 1 ص 325 طبعه ثانية.(2/130)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ" يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ" وَابْعَثْ فِي آخِرِهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ". وَقَدْ رَوَى خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ، قَالَ: (نَعَمْ أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وبشرى عيسى) . و" رَسُولًا" أَيْ مُرْسَلًا، وَهُوَ فَعُولٌ مِنَ الرِّسَالَةِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ مِرْسَالٌ وَرَسْلَةٌ، إِذَا كَانَتْ سَهْلَةَ السَّيْرِ مَاضِيَةً أَمَامَ النُّوقِ. وَيُقَالُ لِلْجَمَاعَةِ الْمُهْمَلَةِ المرسلة: رسل، وجمه أَرْسَالٌ. يُقَالُ: جَاءَ الْقَوْمُ أَرْسَالًا، أَيْ بَعْضُهُمْ فِي أَثَرِ بَعْضٍ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلَّبَنِ رِسْلٌ، لِأَنَّهُ يُرْسَلُ مِنَ الضَّرْعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ"" الكتاب" القرآن و" الحكمة": الْمَعْرِفَةَ بِالدِّينِ، وَالْفِقْهِ فِي التَّأْوِيلِ، وَالْفَهْمِ الَّذِي هُوَ سَجِيَّةٌ وَنُورٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَهُ مَالِكٌ، وَرَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَقَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ:" الْحِكْمَةُ" السُّنَّةُ وَبَيَانُ الشَّرَائِعِ. وَقِيلَ: الْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ خَاصَّةً، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَنُسِبَ التَّعْلِيمُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَيْثُ هُوَ يُعْطِي الْأُمُورَ الَّتِي يُنْظَرُ فِيهَا، وَيَعْلَمُ طَرِيقَ النَّظَرِ بِمَا يُلْقِيهِ اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ وَحْيِهِ." وَيُزَكِّيهِمْ" أَيْ يُطَهِّرُهُمْ مِنْ وَضَرِ «1» الشِّرْكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَغَيْرِهِ. وَالزَّكَاةُ: التَّطْهِيرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «2» . وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَاتِ تِلَاوَةُ ظَاهِرِ الْأَلْفَاظِ. وَالْكِتَابُ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ. وَالْحِكْمَةُ الْحُكْمُ، وَهُوَ مُرَادُ اللَّهِ بِالْخِطَابِ مِنْ مُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ، وَمُفَسَّرٍ وَمُجْمَلٍ، وَعُمُومٍ وَخُصُوصٍ، وَهُوَ مَعْنَى مَا تقدم، والله تعالى أعلم." وَالْعَزِيزُ" مَعْنَاهُ الْمَنِيعُ الَّذِي لَا يُنَالُ وَلَا يُغَالَبُ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: مَعْنَاهُ الَّذِي لَا يعجزه شي، دَلِيلُهُ:" وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ «3» ". الْكِسَائِيُّ:" الْعَزِيزُ" الْغَالِبُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ «4» ". وَفِي الْمَثَلِ:" مَنْ عَزَّ بَزَّ" أَيْ مَنْ غَلَبَ سَلَبَ. وَقِيلَ:" الْعَزِيزُ" الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ، بَيَانُهُ" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «5» ". وَقَدْ زِدْنَا هَذَا الْمَعْنَى بَيَانًا فِي اسْمِهِ الْعَزِيزِ فِي كِتَابِ" الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى" وقد تقدم معنى" الحكيم «6» " والحمد الله.
__________
(1) . الوضر: الوسخ.
(2) . يراجع ج 1 ص 343 طبعه ثانية.
(3) . راجع ج 14 ص 361.
(4) . راجع ج 15 ص 174.
(5) . راجع ج 16 ص 8.
(6) . راجع المسألة الثالثة ج 1 ص 287 طبعه ثانية. [.....](2/131)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
[سورة البقرة (2) : آية 130]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ"" مَنْ" اسْتِفْهَامٌ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، و" يَرْغَبُ" صِلَةُ" مَنْ" ... " إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ" فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَهُوَ تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ وَقَعَ فِيهِ مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ وَمَا يَرْغَبُ، قَالَهُ النَّحَّاسُ. وَالْمَعْنَى: يَزْهَدُ فِيهَا وَيَنْأَى بِنَفْسِهِ عَنْهَا، أَيْ عَنِ الْمِلَّةِ وَهِيَ الدِّينُ وَالشَّرْعُ." إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ" قَالَ قَتَادَةُ: هُمِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، رَغِبُوا عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَاتَّخَذُوا الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ بِدْعَةً لَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الزَّجَّاجُ:" سَفِهَ" بِمَعْنَى جَهِلَ، أَيْ جَهِلَ أَمْرَ نَفْسِهِ فَلَمْ يُفَكِّرْ فِيهَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَعْنَى أَهْلَكَ نَفْسَهُ. وَحَكَى ثَعْلَبٌ وَالْمُبَرِّدُ أَنَّ" سَفِهَ" بِكَسْرِ الْفَاءِ يَتَعَدَّى كَسَفَّهَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَشَدِّهَا. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ وَيُونُسَ أَنَّهَا لُغَةٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ:" سَفِهَ نَفْسَهُ" أَيْ فَعَلَ بِهَا مِنَ السَّفَهِ مَا صَارَ بِهِ سَفِيهًا. وَعَنْهُ أَيْضًا هِيَ لُغَةٌ بِمَعْنَى سَفَّهَ، حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ، وَالْأَوَّلُ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. فَأَمَّا سَفُهَ بِضَمِ الْفَاءِ فَلَا يَتَعَدَّى، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ وَثَعْلَبٌ. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ عَنِ الْأَخْفَشِ أَنَّ الْمَعْنَى جَهِلَ فِي نَفْسِهِ، فَحُذِفَتْ" فِي" فَانْتَصَبَ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَمِثْلُهُ" عُقْدَةَ النِّكاحِ «1» "، أَيْ عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ. وَهَذَا يَجْرِي عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فِيمَا حَكَاهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَرَبَ فُلَانٌ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ، أَيْ فِي الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ. الْفَرَّاءُ: هُوَ تَمْيِيزٌ. قَالَ ابْنُ بَحْرٍ: مَعْنَاهُ جَهِلَ نَفْسَهُ وَمَا فِيهَا مِنَ الدِّلَالَاتِ وَالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ لَهَا صَانِعًا لَيْسَ كمثله شي، فَيُعْلَمُ بِهِ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ. قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ، فَيُفَكِّرُ فِي نَفْسِهِ مِنْ يَدَيْنِ يَبْطِشُ بِهِمَا، وَرِجْلَيْنِ يَمْشِي عَلَيْهِمَا، وَعَيْنٍ يُبْصِرُ بِهَا، وَأُذُنٍ يَسْمَعُ بِهَا، وَلِسَانٍ يَنْطِقُ بِهِ، وَأَضْرَاسٍ تَنْبُتُ لَهُ عِنْدَ غِنَاهُ عَنِ الرَّضَاعِ وَحَاجَتِهِ إِلَى الْغِذَاءِ لِيَطْحَنَ بِهَا الطَّعَامَ، وَمَعِدَةٍ أُعِدَّتْ لِطَبْخِ الْغِذَاءِ، وَكَبِدٍ يَصْعَدُ إِلَيْهَا صَفْوِهِ، وَعُرُوقٍ وَمَعَابِرَ يَنْفُذُ فِيهَا إِلَى الْأَطْرَافِ، وَأَمْعَاءٍ يَرْسُبُ إِلَيْهَا ثُفْلُ الْغِذَاءِ وَيَبْرُزُ مِنْ أَسْفَلِ الْبَدَنِ، فَيُسْتَدَلُّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ لَهُ خَالِقًا قَادِرًا عَلِيمًا حَكِيمًا، وَهَذَا مَعْنَى قوله تعالى:"
__________
(1) . أي في قوله تعالى:" وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ" راجع ج 3 ص 192.(2/132)
" وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ" أَشَارَ إِلَى هَذَا الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَسَيَأْتِي لَهُ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي سُورَةِ" وَالذَّارِيَاتِ «1» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ شَرِيعَةَ إِبْرَاهِيمَ شَرِيعَةٌ لَنَا إِلَّا مَا نُسِخَ مِنْهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ:" مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ «2» "،" أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ «3» ". وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا" أَيِ اخْتَرْنَاهُ لِلرِّسَالَةِ فَجَعَلْنَاهُ صَافِيًا مِنَ الْأَدْنَاسِ وَالْأَصْلُ فِي" اصْطَفَيْناهُ" اصْتَفَيْنَاهُ، أُبْدِلَتِ التَّاءُ طَاءً لِتَنَاسُبِهَا «4» مَعَ الصَّادِ فِي الْإِطْبَاقِ. وَاللَّفْظُ مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّفْوَةِ، وَمَعْنَاهُ تَخَيُّرُ الْأَصْفَى. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ" الصَّالِحُ فِي الْآخِرَةِ هُوَ الْفَائِزُ. ثُمَّ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ تَقْدِيمُ" فِي الْآخِرَةِ" وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الصِّلَةِ، قَالَ النَّحَّاسُ: فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ التَّقْدِيرُ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّالِحِينَ فِي الْآخِرَةِ، فَتَكُونُ الصِّلَةُ قَدْ تَقَدَّمَتْ، وَلِأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَإِنَّهُ صَالِحٌ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ حُذِفَ. وَقِيلَ:" فِي الْآخِرَةِ" مُتَعَلِّقٌ بِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ صَلَاحُهُ فِي الْآخِرَةِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ" الصَّالِحِينَ" لَيْسَ بِمَعْنَى الَّذِينَ صَلَحُوا، وَلَكِنَّهُ اسْمٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، كَمَا يُقَالُ الرَّجُلُ وَالْغُلَامُ. قُلْتُ: وَقَوْلٌ رَابِعٌ أَنَّ الْمَعْنَى وَإِنَّهُ فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، مَجَازُهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. وَرَوَى حَجَّاجُ بْنُ حَجَّاجٍ- وَهُوَ حَجَّاجٌ الْأَسْوَدُ، وَهُوَ أَيْضًا حَجَّاجٌ الْأَحْوَلُ الْمَعْرُوفُ بِزِقِّ الْعَسَلِ- قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ قُرَّةَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ الصَّالِحِينَ أَنْتَ أَصْلَحْتَهُمْ وَرَزَقْتَهُمْ أَنْ عَمِلُوا بِطَاعَتِكَ فَرَضِيتَ عَنْهُمْ، اللَّهُمَّ كَمَا أَصْلَحْتَهُمْ فَأَصْلِحْنَا، وَكَمَا رَزَقْتَهُمْ أَنْ عَمِلُوا بِطَاعَتِكَ فَرَضِيتَ عَنْهُمْ فَارْزُقْنَا أَنْ نَعْمَلَ بِطَاعَتِكَ، وَارْضَ عنا.
__________
(1) . راجع ج 17 ص 40.
(2) . راجع ج 12 ص 101.
(3) . راجع ج 10 ص 198.
(4) . في أ:" لتشابهها ... ".(2/133)
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)
[سورة البقرة (2) : آية 131]
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131)
الْعَامِلُ فِي" إِذْ" قَوْلُهُ:" اصْطَفَيْناهُ" أَيِ اصْطَفَيْنَاهُ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ. وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى حِينَ ابْتَلَاهُ بِالْكَوْكَبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ وَالْكَلْبِيُّ: أَيْ أَخْلِصْ دِينَكَ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ. وَقِيلَ: اخْضَعْ وَاخْشَعْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ حِينَ خَرَجَ مِنَ السَّرَبِ «1» ، عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي" الْأَنْعَامِ «2» ". وَالْإِسْلَامُ هُنَا عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِهِ. وَالْإِسْلَامُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ لِلْمُسْتَسْلِمِ. وَلَيْسَ كُلُّ إِسْلَامٍ إِيمَانًا، وَكُلُّ إِيمَانٍ إِسْلَامٌ، لِأَنَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فقد استسلم وَانْقَادَ لِلَّهِ. وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ آمَنَ بِاللَّهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَكَلَّمُ فَزَعًا «3» مِنَ السَّيْفِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِيمَانًا، خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْإِيمَانُ، فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ، وَكُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ، لِقَوْلِهِ:" إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «4» " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الدِّينُ، وَأَنَّ مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى:" قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا «5» " الْآيَةَ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ مُؤْمِنًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لَمَّا قَالَ لَهُ: أَعْطِ فُلَانًا فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أو مسلم) الْحَدِيثَ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ الْإِسْلَامَ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ بَاطِنٌ، وَالْإِسْلَامُ ظَاهِرٌ، وَهَذَا بَيِّنٌ. وَقَدْ يُطْلَقُ الْإِيمَانُ بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ، وَالْإِسْلَامِ وَيُرَادُ بِهِ الْإِيمَانُ، لِلُزُومِ أَحَدِهِمَا الْآخَرِ وَصُدُورِهِ عَنْهُ، كَالْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ ودلالة على صحته، فاعلمه. وبالله التوفيق.
[سورة البقرة (2) : آية 132]
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
__________
(1) . السرب (بالتحريك) : الحفير، وبئت تحت الأرض.
(2) . راجع 7 ص 24.
(3) . في ج:" فرقا".
(4) . راجع ج 4 ص 43.
(5) . راجع ج 16 ص 348.(2/134)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ" أَيْ بِالْمِلَّةِ، وَقِيلَ: بِالْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ:" أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ" وَهُوَ أَصْوَبُ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، أَيْ قُولُوا أَسْلَمْنَا. وَوَصَّى وَأَوْصَى لُغَتَانِ لِقُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ بمعنى، مثل كرمنا وأكرمنا، وقرى بِهِمَا. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ" وَوَصَّى"، وَفِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ" وَأَوْصَى" وَهِيَ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ. الْبَاقُونَ" وَوَصَّى" وَفِيهِ مَعْنَى التَّكْثِيرِ." وإِبْراهِيمُ" رُفِعَ بِفِعْلِهِ،" وَيَعْقُوبُ" عُطِفَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: هُوَ مَقْطُوعٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَالْمَعْنَى: وَأَوْصَى يَعْقُوبُ وَقَالَ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ، فَيَكُونُ إِبْرَاهِيمُ قَدْ وَصَّى بَنِيهِ، ثُمَّ وَصَّى بَعْدَهُ يَعْقُوبُ بَنِيهِ. وَبَنُو إِبْرَاهِيمَ: إِسْمَاعِيلُ، وَأُمُّهُ هَاجَرُ الْقِبْطِيَّة، وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ، نَقَلَهُ إِبْرَاهِيمُ إِلَى مَكَّةَ وَهُوَ رَضِيعٌ. وَقِيلَ: كَانَ لَهُ سَنَتَانِ، وَقِيلَ: كَانَ لَهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، عَلَى مَا يَأْتِي فِي سُورَةِ" إِبْرَاهِيمَ «1» " بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: وَوُلِدَ قَبْلَ أَخِيهِ إِسْحَاقَ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَاتَ وَلَهُ مِائَةٌ وَسَبْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ. وَكَانَ سِنُّهُ لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ تِسْعًا وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَهُوَ الذَّبِيحُ فِي قَوْلٍ. وَإِسْحَاقُ أُمُّهُ سَارَةُ، وَهُوَ الذَّبِيحُ فِي قَوْلٍ آخَرَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" وَالصَّافَّاتِ «2» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمِنْ وَلَدِهِ الرُّومُ وَالْيُونَانَ وَالْأَرْمَنُ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ. وَعَاشَ إِسْحَاقُ مِائَةً وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَمَاتَ بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. ثُمَّ لَمَّا تُوُفِّيَتْ سَارَةُ تَزَوَّجَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَنْطُورَا بِنْتَ يقطن الكنعانية، فولدت له مدين ومدائن وَنَهْشَانَ وَزَمْرَانَ وَنَشِيقَ وَشُيُوخَ «3» ، ثُمَّ تُوُفِّيَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَانَ بَيْنَ وَفَاتِهِ وَبَيْنَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوٌ مِنْ أَلْفَيْ سَنَةٍ وَسِتِّمِائَةِ سَنَةٍ، وَالْيَهُودُ يَنْقُصُونَ مِنْ ذَلِكَ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعمِائَةِ سَنَةٍ. وَسَيَأْتِي ذِكْرُ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ فِي سُورَةِ" يُوسُفَ «4» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ فَائِدِ الْأَسْوَارِيُّ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَكِّيُّ:" وَيَعْقُوبَ" بِالنَّصْبِ عَطْفًا على
__________
(1) . راجع ج 9 ص 368.
(2) . راجع ج 15 ص 99.
(3) . كذا وردت هذه الأسماء في نسخ الأصل. والذي في كتاب الرسل والملوك لابن جرير الطبري قسم أول ص 345 طبع أوربا:" يقسان، وزمران، ومديان، ويسبق، وسوح، وبسر". وفى تاريخ ابن الأثير ج 1 ص 87 طبع أوربا:" نفشان، ومران، ومديان، ومدن، ونشق، وسرح".
(4) . راجع ج 9 ص 130. [.....](2/135)
" بَنِيهِ"، فَيَكُونُ يَعْقُوبُ دَاخِلًا فِيمَنْ أَوْصَى. قَالَ القشيري: وقرى" يَعْقُوبَ" بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى" بَنِيهِ" وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ يَعْقُوبَ لَمْ يَكُنْ فِيمَا بَيْنَ أَوْلَادِ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا وَصَّاهُمْ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ يَعْقُوبَ أَدْرَكَ جَدَّهُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنَّمَا وُلِدَ بَعْدَ مَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّ «1» يَعْقُوبَ أَوْصَى بَنِيهِ أَيْضًا كَمَا فَعَلَ إِبْرَاهِيمُ. وَسَيَأْتِي تَسْمِيَةُ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا دَخَلَ يَعْقُوبُ إِلَى مِصْرَ رَآهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَالنِّيرَانَ وَالْبَقَرَ، فَجَمَعَ وَلَدَهُ وَخَافَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟ وَيُقَالُ: إِنَّمَا سُمِّيَ يَعْقُوبُ لِأَنَّهُ كَانَ هُوَ وَالْعِيصُ تَوْأَمَيْنِ، فَخَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ آخِذًا بِعَقِبِ أَخِيهِ الْعِيصِ. وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، لِأَنَّ هَذَا اشْتِقَاقٌ عَرَبِيٌّ، وَيَعْقُوبُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَافَقَ الْعَرَبِيَّةَ في التسمية به كذكر الخجل «2» . عَاشَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِائَةً وَسَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَمَاتَ بِمِصْرَ، وَأَوْصَى أَنْ يُحْمَلَ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَيُدْفَنَ عِنْدَ أَبِيهِ إِسْحَاقَ، فَحَمَلَهُ يُوسُفُ وَدَفَنَهُ عِنْدَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَا بَنِيَّ" مَعْنَاهُ أَنْ يَا بَنِيَّ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالضَّحَّاكِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أُلْغِيَتْ أَنْ لِأَنَّ التَّوْصِيَةَ كَالْقَوْلِ، وَكُلُّ كَلَامٍ يَرْجِعُ إِلَى الْقَوْلِ جَازَ فِيهِ دُخُولُ أَنْ وَجَازَ فِيهِ إِلْغَاؤُهَا. قَالَ: وَقَوْلُ النَّحْوِيِّينَ إِنَّمَا أَرَادَ" أَنْ" فَأُلْغِيَتْ لَيْسَ بِشَيْءٍ. النَّحَّاسُ:" يَا بَنِيَّ" نِدَاءٌ مُضَافٌ، وَهَذِهِ يَاءُ النَّفْسِ لَا يَجُوزُ هُنَا إِلَّا فَتْحُهَا، لِأَنَّهَا لَوْ سُكِّنَتْ لَالْتَقَى سَاكِنَانِ، وَمِثْلُهُ" بِمُصْرِخِيَّ «3» "." إِنَّ اللَّهَ" كُسِرَتْ" إِنَّ" لِأَنْ أَوْصَى وَقَالَ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: عَلَى إِضْمَارِ القول." اصْطَفى " اختار. قال الراجز:
يا ابن مُلُوكٍ وَرَّثُوا الْأَمْلَاكَا ... خِلَافَةَ اللَّهِ الَّتِي أَعْطَاكَا
لَكَ اصْطَفَاهَا وَلَهَا اصْطَفَاكَا
" لَكُمُ الدِّينَ" أَيِ الْإِسْلَامُ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي" الدِّينِ" لِلْعَهْدِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا عَرَفُوهُ." فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" إِيجَازٌ بَلِيغٌ. وَالْمَعْنَى: الْزَمُوا الْإِسْلَامَ وَدُومُوا عليه ولا تفارقوه
__________
(1) . في أ، ب، ز:" بل إن".
(2) . الحجل (بالتحريك) : طائر على قدر الحمام كالقطا، أحمر المنقار والرجلين، ويسمى دجاج البر. ويسمى الذكر منه يعقوب وجمعه يعاقب ويعاقيب.
(3) . راجع ج 9 ص 357.(2/136)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
حَتَّى، تَمُوتُوا. فَأَتَى بِلَفْظٍ مُوجِزٍ يَتَضَمَّنُ الْمَقْصُودَ، وَيَتَضَمَّنُ وَعْظًا وَتَذْكِيرًا بِالْمَوْتِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْءَ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ يَمُوتُ وَلَا يَدْرِي مَتَى، فَإِذَا أُمِرَ بِأَمْرٍ لَا يَأْتِيهِ الْمَوْتُ إِلَّا وَهُوَ عَلَيْهِ، فَقَدْ تَوَجَّهَ الْخِطَابُ مِنْ وَقْتِ الْأَمْرِ دائبا لازما. و" لَا" نَهْيٌ" تَمُوتُنَّ" فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ بِالنَّهْيِ، أُكِّدَ بِالنُّونِ الثَّقِيلَةِ، وَحُذِفَتِ الْوَاوُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ." إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ مُحْسِنُونَ بِرَبِّكُمُ الظَّنَّ، وَقِيلَ مُخْلِصُونَ، وقيل مفوضون، وقيل مؤمنون.
[سورة البقرة (2) : آية 133]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ"" شُهَدَاءَ" خَبَرُ كَانَ، وَلَمْ يُصْرَفْ لِأَنَّ فِيهِ أَلِفَ التَّأْنِيثِ، وَدَخَلَتْ لِتَأْنِيثِ الْجَمَاعَةِ كَمَا تَدْخُلُ الْهَاءُ. وَالْخِطَابُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ يَنْسُبُونَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ مَا لَمْ يُوصِ بِهِ بَنِيهِ، وَأَنَّهُمْ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ وَكَذَّبَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ: أَشَهِدْتُمْ يَعْقُوبَ وَعَلِمْتُمْ بِمَا أَوْصَى فَتَدَّعُونَ عَنْ عِلْمٍ، أَيْ لَمْ تَشْهَدُوا، بل أنتم تفترون!. و" أم" بِمَعْنَى بَلْ، أَيْ بَلْ أَشَهِدَ أَسْلَافُكُمْ يَعْقُوبَ. والعامل في" إذ" الاولى معنى الشهادة، و" إذ" الثانية بدل من الاولى. و" شهداء" جَمْعُ شَاهِدٍ أَيْ حَاضِرٍ. وَمَعْنَى" حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ" أَيْ مُقَدِّمَاتُهُ وَأَسْبَابُهُ، وَإِلَّا فَلَوْ حَضَرَ الْمَوْتُ لَمَا أَمْكَنَ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا. وَعَبَّرَ عَنِ الْمَعْبُودِ بِ" مَا" وَلَمْ يَقُلْ مَنْ، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَهُمْ، وَلَوْ قَالَ" مَنْ" لَكَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَنْظُرَ مَنْ لَهُمُ الِاهْتِدَاءُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَجْرِبَتَهُمْ فَقَالَ" مَا". وَأَيْضًا فَالْمَعْبُودَاتُ الْمُتَعَارَفَةُ مِنْ دُونِ اللَّهِ جَمَادَاتٌ كَالْأَوْثَانِ وَالنَّارِ وَالشَّمْسِ وَالْحِجَارَةِ، فَاسْتَفْهَمَ عَمَّا يَعْبُدُونَ مِنْ هَذِهِ. وَمَعْنَى" مِنْ بَعْدِي" أَيْ مِنْ بَعْدِ موتي. وحكي أن يعقوب حين خيركما تُخَيَّرُ الْأَنْبِيَاءُ اخْتَارَ الْمَوْتَ وَقَالَ: أَمْهِلُونِي حَتَّى أُوصِيَ بَنِيَّ وَأَهْلِي، فَجَمَعَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ هَذَا، فَاهْتَدَوْا وَقَالُوا:" نَعْبُدُ إِلهَكَ" الْآيَةَ. فَأَرَوْهُ ثُبُوتَهُمْ عَلَى الدِّينِ وَمَعْرِفَتَهُمْ بِاللَّهِ تَعَالَى.(2/137)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ"" إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى الْبَدَلِ، وَلَمْ تَنْصَرِفْ لِأَنَّهَا أَعْجَمِيَّةٌ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: وَإِنْ شِئْتَ صَرَفْتَ" إِسْحَاقَ" وَجَعَلْتَهُ مِنَ السَّحْقِ، وَصَرَفْتَ" يَعْقُوبَ" وَجَعَلْتَهُ مِنَ الطَّيْرِ. وَسَمَّى اللَّهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَمِّ وَالْجَدِّ أَبًا، وَبَدَأَ بِذِكْرِ الْجَدِّ ثُمَّ إِسْمَاعِيلَ العم لأنه أكبر من إسحاق. و" إِلهاً" بَدَلٌ مِنْ" إِلهَكَ" بَدَلَ النَّكِرَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَكَرَّرَهُ لِفَائِدَةِ الصِّفَةِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ. وَقِيلَ:" إِلهاً" حَالٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ، لِأَنَّ الْغَرَضَ إِثْبَاتُ حَالِ الْوَحْدَانِيَّةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ وَالْجَحْدَرِيُّ وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ" وَإِلَهَ أَبِيكَ" وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنْ يَكُونَ أَفْرَدَ وَأَرَادَ إِبْرَاهِيمَ وَحْدَهُ، وَكُرِهَ أَنْ يُجْعَلَ إِسْمَاعِيلَ أَبًا لِأَنَّهُ عَمَّ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا لَا يَجِبُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْعَمَّ أَبًا. الثَّانِي- عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ أَنْ يَكُونَ" أَبِيكَ" جَمْعُ سَلَامَةٍ، حَكَى سِيبَوَيْهِ أَبٌ وَأَبُونَ وَأَبِينَ، كَمَا قال الشاعر:
فقلنا أسلموا إن أَخُوكُمْ «1»
وَقَالَ آخَرُ:
فَلَمَّا تَبَيَّنَّ أَصْوَاتَنَا ... بَكَيْنَ وَفَدَّيْنَنَا بِالْأَبِينَا «2»
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الحال، والعامل" نَعْبُدُ".
[سورة البقرة (2) : آية 134]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134)
__________
(1) . الشاهد فيه" أخوكم" فإنه جمع بالواو والنون وحذفت النون للإضافة ليصح الاخبار به عن ضمير الجمع. وتمام البيت:
فقد سلمت من الإحن الصدور
وصف نساء سبين فوفد عليهن من قومهن من يفاديهن فبكين إليهم وفدينهم بآبائهن سرورا بوفودهم عليهن. (عن شرح الشواهد) .
(2) . راجع خزانة الأدب في الشاهد الثامن والعشرين بعد الثلاثمائة.(2/138)
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ"" تِلْكَ" مبتدأ، و" أُمَّةٌ" خَبَرٌ،" قَدْ خَلَتْ" نَعْتٌ لِأُمَّةٍ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَتْ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ، وَتَكُونُ" أُمَّةٌ" بَدَلًا مِنْ" تِلْكَ"." لَها مَا كَسَبَتْ"" مَا" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ أَوْ بِالصِّفَةِ عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ." وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ" مِثْلُهُ، يُرِيدُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يُضَافُ إِلَيْهِ أَعْمَالٌ وَأَكْسَابٌ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَقْدَرَهُ عَلَى ذَلِكَ، إِنْ كَانَ خَيْرًا فَبِفَضْلِهِ وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَبِعَدْلِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْآيُ فِي الْقُرْآنِ بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. فَالْعَبْدُ مُكْتَسِبٌ لِأَفْعَالِهِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ خُلِقَتْ لَهُ قُدْرَةً مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ، يُدْرِكُ بِهَا الْفَرْقَ بَيْنَ حَرَكَةِ الِاخْتِيَارِ وَحَرَكَةِ الرَّعْشَةِ مَثَلًا، وذلك التمكن هو مناط التكليف. وقالت الْجَبْرِيَّةُ بِنَفْيِ اكْتِسَابِ الْعَبْدِ، وَإِنَّهُ كَالنَّبَاتِ الَّذِي تَصْرِفُهُ الرِّيَاحُ. وَقَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ خِلَافَ هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ" أَيْ لَا يُؤَاخَذُ أَحَدٌ بِذَنْبِ أَحَدٍ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى " أَيْ لَا تَحْمِلُ حَامِلَةٌ ثقل أخرى، وسيأتي «1» .
[سورة البقرة (2) : آية 135]
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا" دَعَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ إِلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ:" بَلْ مِلَّةَ" أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ: بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةَ، فَلِهَذَا نُصِبَ الْمِلَّةُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى بَلْ نَهْتَدِي بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ صَارَ مَنْصُوبًا. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ:" بَلْ مِلَّةُ" بِالرَّفْعِ، وَالتَّقْدِيرُ بَلِ الهدى ملة، أو ملتنا دين إبراهيم. و" حَنِيفاً" مَائِلًا عَنِ الْأَدْيَانِ الْمَكْرُوهَةِ إِلَى الْحَقِّ دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. أَيْ بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَعْنِي، وَالْحَالُ خَطَأٌ، لَا يَجُوزُ جَاءَنِي غُلَامُ هِنْدٍ مُسْرِعَةً. وَسُمِّيَ إِبْرَاهِيمُ حنيفا لأنه
__________
(1) . راجع ج 7 ص 157.(2/139)
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
حَنِفَ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ. وَالْحَنَفُ: الْمَيْلُ، وَمِنْهُ رِجْلٌ حَنْفَاءُ، وَرَجُلٌ أَحْنَفُ، وَهُوَ الَّذِي تَمِيلُ قَدَمَاهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إِلَى أُخْتِهَا بِأَصَابِعِهَا. قَالَتْ أُمُّ الْأَحْنَفِ:
وَاللَّهِ لَوْلَا حَنَفٌ بِرِجْلِهِ ... مَا كَانَ فِي فِتْيَانِكُمْ مِنْ مِثْلِهِ
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا حُوِّلَ الظِّلُّ الْعَشِيَّ رَأَيْتَهُ ... حَنِيفًا وَفِي قَرْنِ الضُّحَى يَتَنَصَّرُ
أَيِ الْحِرْبَاءُ تَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِالْعَشِيِّ، وَالْمَشْرِقَ بِالْغَدَاةِ، وَهُوَ قِبْلَةُ النَّصَارَى. وَقَالَ قَوْمٌ: الْحَنَفُ الِاسْتِقَامَةُ، فَسُمِّيَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا لِاسْتِقَامَتِهِ. وَسُمِّيَ الْمِعْوَجُّ الرِّجْلَيْنِ أَحْنَفَ تَفَاؤُلًا بِالِاسْتِقَامَةِ، كَمَا قِيلَ لِلَّدِيغِ سَلِيمٌ، وللمهلكة مفازة، في قول أكثرهم.
[سورة البقرة (2) : آية 136]
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ" خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ) الْآيَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: إِذَا قِيلَ لَكَ أَنْتَ مُؤْمِنٌ؟ فَقُلْ:" آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ" الْآيَةَ. وَكَرِهَ أَكْثَرُ السَّلَفِ أَنْ يَقُولُ الرَّجُلُ: أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي" الْأَنْفَالِ «1» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وسيل بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ عَنْ رَجُلٍ قِيلَ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِفُلَانٍ النَّبِيِّ، فَسَمَّاهُ بِاسْمٍ لَمْ يَعْرِفْهُ، فَلَوْ قَالَ نَعَمْ، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، فَقَدْ شَهِدَ بِالنُّبُوَّةِ لِغَيْرِ نَبِيٍّ، وَلَوْ قَالَ لَا، فَلَعَلَّهُ نَبِيٌّ، فَقَدْ جَحَدَ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَقَدْ آمَنْتُ بِهِ. وَالْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، عَلَّمَهُمُ الْإِيمَانَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاءَ نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) . راجع ج 7 ص 763.(2/140)
فَسَأَلُوهُ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. فَلَمَّا جَاءَ ذِكْرُ عِيسَى قَالُوا: لَا نُؤْمِنُ بِعِيسَى وَلَا مَنْ آمَنَ بِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ" جَمْعُ إِبْرَاهِيمَ بَرَاهِيمُ، وَإِسْمَاعِيلَ سَمَاعِيلُ، قَالَهُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ، وَقَالَهُ الْكُوفِيُّونَ، وَحَكَوْا بَرَاهِمَةُ وَسَمَاعِلَةُ، وَحَكَوْا بَرَاهِمَ وَسَمَاعِلَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْهَمْزَةَ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ زِيَادَتِهَا، وَلَكِنْ أَقُولُ: أَبَارِهُ وَأَسَامِعُ، وَيَجُوزُ أَبَارِيهُ وَأَسَامِيعُ. وَأَجَازَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بِرَاهٍ، كَمَا يُقَالُ فِي التَّصْغِيرِ بُرَيْهُ. وَجَمْعُ إِسْحَاقَ أَسَاحِيقُ، وَحَكَى الْكُوفِيُّونَ أَسَاحِقَةٌ وَأَسَاحِقُ، وَكَذَا يَعْقُوبُ وَيَعَاقِيبُ، وَيَعَاقِبَةُ وَيَعَاقِبُ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَأَمَّا إِسْرَائِيلُ فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يُجِيزُ حَذْفَ الْهَمْزَةِ مِنْ أَوَّلِهِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ أَسَارِيلُ، وَحَكَى الْكُوفِيُّونَ أَسَارِلَةٌ وَأَسَارِلُ. وَالْبَابُ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنْ يُجْمَعَ مُسَلَّمًا فَيُقَالُ: إِبْرَاهِيمُونَ وَإِسْحَاقُونَ وَيَعْقُوبُونَ، وَالْمُسَلَّمُ لَا عَمَلَ فِيهِ. وَالْأَسْبَاطُ: وَلَدُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ وَلَدًا، وُلِدَ لِكُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ، وَاحِدُهُمْ سِبْطٌ. وَالسِّبْطُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبِيلَةِ فِي وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. وَسُمُّوا الْأَسْبَاطَ مِنَ السَّبْطِ وَهُوَ التَّتَابُعُ، فَهُمْ جَمَاعَةٌ مُتَتَابِعُونَ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ السَّبَطِ (بِالتَّحْرِيكِ) وَهُوَ الشَّجَرُ، أَيْ هُمْ فِي الْكَثْرَةِ بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرِ، الْوَاحِدَةُ سَبَطَةٌ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: وَيُبَيِّنُ لَكَ هَذَا مَا حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْأَنْبَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو نُجَيْدٍ «1» الدَّقَّاقُ قَالَ حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُلُّ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا عَشَرَةً: نُوحًا وَشُعَيْبًا وَهُودًا وَصَالِحًا وَلُوطًا وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَإِسْمَاعِيلَ وَمُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ لَهُ اسْمَانِ إِلَّا عِيسَى وَيَعْقُوبُ. وَالسِّبْطُ: الْجَمَاعَةُ وَالْقَبِيلَةُ الرَّاجِعُونَ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ. وَشَعْرٌ سَبْطٌ وَسَبِطَ: غَيْرُ جَعْدٍ. لَا نفرق بين أحد منهم" قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ لَا نُؤْمِنُ بِبَعْضِهِمْ وَنَكْفُرُ ببعضهم كما فعلت اليهود والنصارى.
__________
(1) . كذا في ج وتفسير ابن كثير في هذا الموضع. وفى سائر الأصول:" أبو مجيد" بالميم.(2/141)
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
[سورة البقرة (2) : آية 137]
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا" الْخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ. الْمَعْنَى: فَإِنْ آمَنُوا مِثْلَ إِيمَانِكُمْ، وَصَدَّقُوا مِثْلَ تَصْدِيقِكُمْ فَقَدِ اهْتَدَوْا، فَالْمُمَاثَلَةُ وَقَعَتْ بَيْنَ الْإِيمَانَيْنِ، وَقِيلَ «1» : إِنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ فِيمَا حَكَى الطَّبَرِيُّ:" فَإِنْ آمَنُوا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا" وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْقِرَاءَةِ وَإِنْ خَالَفَ الْمُصْحَفُ، فَ" مِثْلُ" زَائِدَةٌ كَمَا هِيَ فِي قَوْلِهِ:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «2» " أي ليس كهو شي. وقال الشاعر «3» :
فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ
وَرَوَى بَقِيَّةُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا تَقُولُوا فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ، وَلَكِنْ قُولُوا: بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ. تَابَعَهُ عَلِيُّ بن نصر الجهضيمي عَنْ شُعْبَةَ، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَالْمَعْنَى: أَيْ فَإِنْ آمَنُوا بِنَبِيِّكُمْ وَبِعَامَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ كَمَا لَمْ تُفَرِّقُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ أَبَوْا إِلَّا التَّفْرِيقَ فَهُمُ النَّاكِبُونَ عَنِ الدِّينِ «4» إِلَى الشِّقَاقِ" فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ". وَحُكِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ قَالُوا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ فِي قَوْلِهِ:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" زَائِدَةً. قَالَ: وَالَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ نَهْيِهِ عن القراءة العامة شي ذهب إليه للمبالغة في نقي التَّشْبِيهِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جِهَةِ التَّفْسِيرِ، أَيْ هَكَذَا فَلْيُتَأَوَّلْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى عَلَى، وَالْمَعْنَى: فَإِنْ آمَنُوا عَلَى مِثْلِ إِيمَانِكُمْ. وَقِيلَ:" مِثْلُ" عَلَى بَابِهَا أَيْ بِمِثْلِ الْمُنَزَّلِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ:" وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ «5» " وَقَوْلُهُ:" وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ «6» ".
__________
(1) . هذه الحملة من تمام القول الأول وليست قولا آخر كما يتبادر من السياق.
(2) . راجع ج 16 ص 8
(3) . هو حميد الأرقط، وصف قوما استؤصلوا فشبههم بالعصف الذي أكل حبه. والعصف التبن. (عن شرح الشواهد) .
(4) . في ج:" عن التبيين". وفى ب، ز:" عن التدين".
(5) . راجع ج 16 ص 13.
(6) . راجع ج 13 ص 351. [.....](2/142)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِنْ تَوَلَّوْا" أَيْ عَنِ الْإِيمَانِ" فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ" قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الشِّقَاقُ الْمُنَازَعَةُ. وَقِيلَ: الشِّقَاقُ الْمُجَادَلَةُ وَالْمُخَالَفَةُ وَالتَّعَادِي. وَأَصْلُهُ مِنَ الشِّقِّ وَهُوَ الْجَانِبُ، فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي شِقٍّ غَيْرِ شِقِّ صَاحِبِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إِلَى كَمْ تَقْتُلُ الْعُلَمَاءُ قَسْرًا ... وَتَفْجُرُ بِالشِّقَاقِ وَبِالنِّفَاقِ «1»
وَقَالَ آخَرُ:
وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمْ ... بُغَاةٌ مَا بَقِينَا فِي شِقَاقِ
وَقِيلَ: إِنَّ الشِّقَاقَ مَأْخُوذٌ مِنْ فِعْلِ مَا يَشُقُّ وَيَصْعُبُ، فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يَحْرِصُ عَلَى مَا يَشُقُّ عَلَى صَاحِبِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ" أَيْ فَسَيَكْفِي اللَّهُ رَسُولَهُ عَدُوَّهُ. فَكَانَ هَذَا وَعْدًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ سَيَكْفِيهِ مَنْ عَانَدَهُ وَمَنْ خَالَفَهُ مِنَ الْمُتَوَلِّينَ بِمَنْ يَهْدِيهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنْجَزَ لَهُ الْوَعْدَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي قَتْلِ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَبَنِي قُرَيْظَةَ وَإِجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ. وَالْكَافُ وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي مَوْضِعِ نَصْبِ مَفْعُولَانِ. وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ: فَسَيَكْفِيكَ [إِيَّاهُمْ «2» ] . وَهَذَا الْحَرْفُ" فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ" هُوَ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ دَمُ عُثْمَانَ حِينَ قُتِلَ بِإِخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ بذلك. و" السَّمِيعُ" لِقَوْلِ كُلِّ قَائِلٍ" الْعَلِيمُ" بِمَا يُنْفِذُهُ فِي عِبَادِهِ وَيُجْرِيهِ عَلَيْهِمْ. وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا دُلَامَةَ دَخَلَ عَلَى الْمَنْصُورِ وَعَلَيْهِ قَلَنْسُوَةٌ طَوِيلَةٌ، وَدُرَّاعَةٌ «3» مَكْتُوبٌ بَيْنَ كَتِفَيْهَا" فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"، وَسَيْفٌ مُعَلَّقٌ فِي وَسْطِهِ، وَكَانَ الْمَنْصُورُ قَدْ أَمَرَ الْجُنْدُ بِهَذَا الزِّيِّ، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ حَالُكَ يَا أَبَا دُلَامَةَ؟ قَالَ: بِشَرٍّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: مَا ظَنُّكَ بِرَجُلٍ وَجْهُهُ فِي وَسْطِهِ، وَسَيْفُهُ فِي اسْتِهِ، وَقَدْ نَبَذَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ! فَضَحِكَ الْمَنْصُورُ مِنْهُ، وَأَمَرَ بِتَغْيِيرِ ذَلِكَ الزي من وقته.
__________
(1) . في أ:" ... يقتل ... ويفجر ... " بالياء.
(2) . زيادة من إعراب القرآن للنحاس.
(3) . الدراعة والمدرع: جبة مشوقة المقدم.(2/143)
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
[سورة البقرة (2) : آية 138]
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)
فِيهِ مَسَالَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" صِبْغَةَ اللَّهِ" قَالَ الْأَخْفَشُ وَغَيْرُهُ: دِينُ اللَّهِ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ" مِلَّةَ". وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: وَهِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى تَقْدِيرِ اتَّبِعُوا. أَوْ عَلَى الْإِغْرَاءِ أَيِ الْزَمُوا. وَلَوْ قُرِئَتْ بِالرَّفْعِ لَجَازَ، أَيْ هِيَ صِبْغَةُ اللَّهِ. وَرَوَى شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ تَصْبُغُ أَبْنَاءَهُمْ يَهُودًا، وَإِنَّ النَّصَارَى تَصْبُغُ أَبْنَاءَهُمْ نَصَارَى، وَإِنَّ صِبْغَةَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَدُلُّكَ عَلَى هَذَا أَنَّ" صِبْغَةَ" بَدَلٌ مِنْ" مِلَّةَ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْفِطْرَةَ ابْتِدَاءُ الْخَلْقِ، وَابْتِدَاءُ مَا خُلِقُوا عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَقَتَادَةَ: الصِّبْغَةُ الدِّينُ. وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا يَصْبُغُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي الْمَاءِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْمَعْمُودِيَّةَ، وَيَقُولُونَ: هَذَا تَطْهِيرٌ لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا إِذَا وُلِدَ لَهُمْ وَلَدٌ فَأَتَى عَلَيْهِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ غَمَسُوهُ فِي مَاءٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ مَاءُ الْمَعْمُودِيَّةِ، فَصَبَغُوهُ بِذَلِكَ ليطهروه بِهِ مَكَانَ الْخِتَانِ، لِأَنَّ الْخِتَانَ تَطْهِيرٌ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ قَالُوا: الْآنَ صَارَ نَصْرَانِيًّا حَقًّا، فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ قَالَ:" صِبْغَةَ اللَّهِ" أَيْ صِبْغَةُ اللَّهِ أَحْسَنُ صِبْغَةٍ وَهِيَ الْإِسْلَامُ، فَسُمِّيَ الدِّينُ صِبْغَةً اسْتِعَارَةً وَمَجَازًا مِنْ حَيْثُ تَظْهَرُ أَعْمَالُهُ وَسِمَتُهُ عَلَى الْمُتَدَيِّنِ، كَمَا يَظْهَرُ أَثَرُ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ. وَقَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ مُلُوكِ هَمْدَانَ:
وَكُلُّ أُنَاسٍ لَهُمْ صِبْغَةٌ ... وَصِبْغَةُ هَمْدَانَ خَيْرُ الصِّبَغِ
صَبَغْنَا عَلَى ذَاكَ أَبْنَاءَنَا ... فَأَكْرِمْ بِصِبْغَتِنَا فِي الصِّبَغِ
وَقِيلَ: إِنَّ الصِّبْغَةَ الِاغْتِسَالُ لِمَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ، بَدَلًا مِنْ مَعْمُودِيَّةِ النَّصَارَى، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ غُسْلُ الْكَافِرِ وَاجِبًا تَعَبُّدًا، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ:(2/144)
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
الثَّانِيَةُ لِأَنَّ مَعْنَى" صِبْغَةَ اللَّهِ" غَسْلُ اللَّهِ، أَيِ اغْتَسِلُوا عِنْدَ إِسْلَامِكُمُ الْغُسْلُ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَبِهَذَا الْمَعْنَى جَاءَتِ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ فِي قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ وَثُمَامَةَ بْنِ أَثَالٍ حِينَ أَسْلَمَا. رَوَى أَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ فِي صَحِيحِ مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ ثُمَامَةَ الْحَنَفِيَّ «1» أُسِرَ فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَأَسْلَمَ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى حَائِطِ «2» أَبِي طَلْحَةَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ فَاغْتَسَلَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حَسُنَ إِسْلَامُ صَاحِبِكُمْ) . وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّهُ أَسْلَمَ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْتَسِلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ. ذَكَرَهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ. وَقِيلَ: إِنَّ الْقُرْبَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يُقَالُ لَهَا صِبْغَةٌ، حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ:" صِبْغَةَ اللَّهِ" دِينُهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الصِّبْغَةَ الْخِتَانُ، اخْتُتِنَ إِبْرَاهِيمُ فَجَرَتِ الصِّبْغَةُ عَلَى الْخِتَانِ لِصَبْغِهِمُ الْغِلْمَانَ فِي الْمَاءِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ
" ابتداء وخبر.
[سورة البقرة (2) : آية 139]
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
قَالَ الْحَسَنُ: كَانَتْ الْمُحَاجَّةُ أَنْ قَالُوا: نَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ، لِأَنَّا أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. وَقِيلَ: لِتَقَدُّمِ آبَائِنَا وَكُتُبِنَا، وَلِأَنَّا لَمْ نَعْبُدِ الْأَوْثَانَ. فَمَعْنَى الْآيَةِ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ، أَيْ قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ لِقِدَمِ آبَائِهِمْ وَكُتُبِهِمْ:" أَتُحَاجُّونَنا" أَيْ أَتُجَاذِبُونَنَا الْحُجَّةَ عَلَى دَعْوَاكُمْ وَالرَّبُّ وَاحِدٌ، وَكُلٌّ مُجَازًى بِعَمَلِهِ، فَأَيُّ تَأْثِيرٍ لِقِدَمِ الدِّينِ. وَمَعْنَى" فِي اللَّهِ" أَيْ فِي دِينِهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ وَالْحَظْوَةِ لَهُ «3» . وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ:" أَتُحَاجُّونَنا". وَجَازَ اجْتِمَاعُ حَرْفَيْنِ مِثْلَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مُتَحَرِّكَيْنِ، لِأَنَّ الثاني كالمنفصل. وقرا ابن محصين" أَتُحَاجُّونَّا" بِالْإِدْغَامِ لِاجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا
__________
(1) . ثمامة الحنفي هو ثمامة بن أثال المتقدم.
(2) . الحائط: البستان من النخل إذا كان عليه جدار.
(3) . كذا في الأصول، ولعل صوابه:" والحظوة عنده".(2/145)
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
جَائِزٌ إِلَّا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسَّوَادِ. وَيَجُوزُ" أَتُحَاجُّونَ" بِحَذْفِ النُّونِ الثَّانِيَةِ، كَمَا قَرَأَ نَافِعٌ" فَبِمَ تُبَشِّرُونِ «1» " قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ" أَيْ مُخْلِصُونَ الْعِبَادَةَ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّوْبِيخِ، أَيْ وَلَمْ تُخْلِصُوا أَنْتُمْ فَكَيْفَ تَدَّعُونَ مَا نَحْنُ أَوْلَى بِهِ مِنْكُمْ!. وَالْإِخْلَاصُ حَقِيقَتُهُ تَصْفِيَةُ الْفِعْلِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْمَخْلُوقِينَ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ فَمَنْ أَشْرَكَ مَعِي شَرِيكًا فَهُوَ لِشَرِيكِي يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَخْلِصُوا أَعْمَالَكُمْ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا خَلَصَ لَهُ وَلَا تَقُولُوا هَذَا لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ فَإِنَّهَا لِلرَّحِمِ وَلَيْسَ لله منها شي وَلَا تَقُولُوا هَذَا لِلَّهِ وَلِوُجُوهِكُمْ فَإِنَّهَا لِوُجُوهِكُمْ وليس لله تعالى منها شي (. رَوَاهُ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الْفِهْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... فَذَكَرَهُ، خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَالَ رُوَيْمٌ: الْإِخْلَاصُ مِنَ الْعَمَلِ هُوَ أَلَّا يُرِيدَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ عِوَضًا فِي الدَّارَيْنِ وَلَا حَظًّا مِنَ الْمَلَكَيْنِ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الْإِخْلَاصُ سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ، لَا يَعْلَمُهُ مَلَكٌ فَيَكْتُبُهُ، وَلَا شَيْطَانٌ فَيُفْسِدُهُ، وَلَا هَوًى فَيُمِيلُهُ. وَذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (سَأَلْتُ جِبْرِيلَ عَنِ الْإِخْلَاصِ مَا هُوَ فَقَالَ سَأَلْتُ رَبَّ الْعِزَّةِ عَنِ الْإِخْلَاصِ مَا هُوَ قَالَ سِرٌّ مِنْ سِرِّي اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ من أحببته من عبادي) .
[سورة البقرة (2) : آية 140]
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَمْ تَقُولُونَ" بِمَعْنَى قَالُوا «2» . وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ" تَقُولُونَ" بِالتَّاءِ وَهِيَ قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مُتَّسِقٌ، كَأَنَّ الْمَعْنَى: أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا عَلَى دِينِكُمْ، فَهِيَ أَمِ الْمُتَّصِلَةُ، وَهِيَ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قرأ بالياء منقطعة، فيكون
__________
(1) . راجع ج 10 ص 35.
(2) . هذا القول بأن" أم" منقطعة.(2/146)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
كَلَامَيْنِ وَتَكُونُ" أَمْ" بِمَعْنَى بَلْ." هُوداً" خَبَرُ كَانَ، وَخَبَرُ" إِنَّ" فِي الْجُمْلَةِ. وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ رَفْعُ" هُوداً" عَلَى خَبَرِ" إِنَّ" وَتَكُونُ كَانَ مُلْغَاةً، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ" تَقْرِيرٌ وَتَوْبِيخٌ فِي ادِّعَائِهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى. فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْكُمْ، أَيْ لَمْ يَكُونُوا هُودًا وَلَا نَصَارَى. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمَنْ أَظْلَمُ" لَفْظُهُ الِاسْتِفْهَامُ، وَالْمَعْنَى: لَا أحد أظلم." مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً" يُرِيدُ عِلْمَهُمْ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا عَلَى الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: مَا كَتَمُوهُ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِسِيَاقِ الْآيَةِ." وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" وَعِيدٌ وَإِعْلَامٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ أَمْرَهُمْ سُدًى وَأَنَّهُ يُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. وَالْغَافِلُ: الَّذِي لَا يَفْطِنُ لِلْأُمُورِ إِهْمَالًا مِنْهُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَرْضِ الْغُفْلِ وَهِيَ الَّتِي لَا عِلْمَ بِهَا وَلَا أَثَرَ عُمَارَةٍ. وَنَاقَةٌ غُفْلٌ: لَا سِمَةَ بِهَا. وَرَجُلٌ غُفْلٌ: لَمْ يُجَرِّبِ الْأُمُورَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَرْضٌ غُفْلٌ لَمْ تُمْطَرْ. غَفَلْتُ عَنِ الشَّيْءِ غَفْلَةً وَغُفُولًا، وَأَغْفَلْتُ الشَّيْءَ: تَرَكْتُهُ عَلَى ذِكْرٍ منك.
[سورة البقرة (2) : آية 141]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)
كَرَّرَهَا لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى التَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ، أَيْ إِذَا كَانَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى إِمَامَتِهِمْ وَفَضْلِهِمْ يُجَازَوْنَ بِكَسْبِهِمْ فَأَنْتُمْ أَحْرَى، فوجب التأكيد، فلذلك كررها.
[سورة البقرة (2) : آية 142]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ" أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ سَيَقُولُونَ فِي تَحْوِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الشَّامِ إلى الكعبة، ما وَلَّاهُمْ. و" سَيَقُولُ" بِمَعْنَى قَالَ، جَعَلَ الْمُسْتَقْبَلَ(2/147)
مَوْضِعَ الْمَاضِي، دَلَالَةً عَلَى اسْتِدَامَةِ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ. وَخَصَّ بِقَوْلِهِ:" مِنَ النَّاسِ" لِأَنَّ السَّفَهَ يَكُونُ فِي جَمَادَاتٍ وَحَيَوَانَاتٍ. وَالْمُرَادُ مِنَ" السُّفَهاءُ" جَمِيعُ مَنْ قَالَ:" مَا وَلَّاهُمْ". وَالسُّفَهَاءُ جَمْعٌ، وَاحِدُهُ سَفِيهٌ، وَهُوَ الْخَفِيفُ الْعَقْلُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَوْبٌ سَفِيهٌ إِذَا كَانَ خفيف النسج، وقد تقدم «1» . والنساء سقائه. وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ: السَّفِيهُ الْبَهَّاتُ الْكَذَّابُ الْمُتَعَمِّدُ خِلَافَ مَا يَعْلَمُ. قُطْرُبٌ: الظَّلُومُ الْجَهُولُ، وَالْمُرَادُ بِالسُّفَهَاءِ هُنَا الْيَهُودُ الَّذِينَ بِالْمَدِينَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. السُّدِّيُّ: الْمُنَافِقُونَ. الزَّجَّاجُ: كُفَّارُ قُرَيْشٍ لَمَّا أَنْكَرُوا تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ قَالُوا: قَدِ اشْتَاقَ مُحَمَّدٌ إِلَى مَوْلِدِهِ وَعَنْ قَرِيبٍ يَرْجِعُ إِلَى دِينِكُمْ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ: قَدِ الْتَبَسَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَتَحَيَّرَ. وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: ما ولاهم عن قبلتهم! واستهزءوا بالمسلمين. و" وَلَّاهُمْ" يَعْنِي عَدَلَهُمْ وَصَرَفَهُمْ. الثَّانِيَةُ- رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِمَالِكٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ «2» فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ. وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَإِنَّهُ صَلَّى أَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا الْعَصْرَ «3» وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ، لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ. وَكَانَ الَّذِي مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ الْبَيْتِ رِجَالٌ قُتِلُوا لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ"، فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ صَلَاةُ الصُّبْحِ. وَقِيلَ: نَزَلَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ بَنِي سَلِمَةَ وَهُوَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ بَعْدَ رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا فَتَحَوَّلَ في الصلاة، فسمي ذلك
__________
(1) . يراجع ج 1 ص 205 طبعه ثانية.
(2) . قباء (بالضم) : قرية على ميلين من المدينة على يسار لقاصد إلى مكة بها أثر بنيان كثير، وهناك مسجد التقوى. (عن معجم ياقوت) .
(3) . رواية البخاري كما في صحيحه:" وإنه صلى- أو صلاها- صلاة العصر ... ".(2/148)
الْمَسْجِدُ مَسْجِدُ الْقِبْلَتَيْنِ. وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ أَنَّ عَبَّادَ بْنَ نَهِيكٍ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ. وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ فِي التَّمْهِيدِ عَنْ نُوَيْلَةَ «1» بِنْتِ أَسْلَمَ وَكَانَتْ مِنَ الْمُبَايَعَاتِ، قَالَتْ: كُنَّا فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فَأَقْبَلَ عَبَّادُ بْنُ بِشْرِ بْنِ قَيْظِيٍّ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ- أَوْ قَالَ: الْبَيْتَ الْحَرَامَ- فَتَحَوَّلَ الرِّجَالُ مَكَانَ النِّسَاءِ، وَتَحَوَّلَ النِّسَاءُ مَكَانَ الرِّجَالِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ. وَكَانَ أَوَّلُ صَلَاةٍ إِلَى الْكَعْبَةِ الْعَصْرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ حِينَ صُرِفَتِ الْقِبْلَةُ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَبُو سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُجْتَازًا عَلَى الْمَسْجِدِ فَسَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ:" قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ" حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ، فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: تَعَالَ نَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَكُونْ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى فَتَوَارَيْنَا نَعَمًا»
فَصَلَّيْنَاهُمَا، ثُمَّ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ الظُّهْرَ يَوْمئِذٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَيْسَ لِأَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَحَدِيثُ:" كُنْتُ أُصَلِّي" فِي فَضْلِ الْفَاتِحَةِ، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «3» . الثَّالِثَةُ- وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ، فَقِيلَ: حُوِّلَتْ بَعْدَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ. وَخَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ أَيْضًا، قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ عَلِمَ اللَّهُ هَوَى نَبِيِّهِ فَنَزَلَتْ:" قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ" الْآيَةَ. فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ. وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ تَحْوِيلَهَا كَانَ قَبْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ
__________
(1) . في كتاب الاستيعاب والقاموس:" نوله" بالنون، وقال صاحب القاموس:" أو هي كجهينة". وقد ذكرت في كتاب الإصابة مصغرة في حرفي التاء والنون، وهى بالنون رواية إسحاق بن إدريس عن جعفر بن محمود، وبالتاء رواية إبراهيم بن حمزة، قال صاحب الإصابة:" وهى أوثق".
(2) . هذه الكلمة ساقطة من أ- والنعم- بفتحتين-: واحد الانعام، الإبل والشاء أو الإبل خاصة، يذكر ويؤنث.
(3) . يراجع ج 1 ص 108 طبعه ثانية. [.....](2/149)
اثْنَتَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ: صَلَّى الْمُسْلِمُونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ سَوَاءً، وَذَلِكَ أَنَّ قُدُومَهُ الْمَدِينَةَ كَانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ باستقبال الكعبة الثُّلَاثَاءِ لِلنِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ. الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِقْبَالِهِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، فَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَنْ رَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ، وَقَالَهُ «1» عِكْرِمَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ. الثَّانِي- أَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ، فَاخْتَارَ الْقُدْسَ طَمَعًا فِي إِيمَانِ الْيَهُودِ وَاسْتِمَالَتِهِمْ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: امْتِحَانًا لِلْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ أَلِفُوا الْكَعْبَةَ. الثَّالِثُ- وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُهُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْيِهِ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِصَلَاتِهِ الْكَعْبَةَ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ" الْآيَةَ. الْخَامِسَةُ- وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا حِينَ فُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ أَوَّلًا بِمَكَّةَ، هَلْ كَانَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ إِلَى مَكَّةَ، عَلَى قَوْلَيْنِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبِالْمَدِينَةِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ صَرَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: أَوَّلُ مَا افْتُرِضَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَلَمْ يَزَلْ يُصَلِّي إِلَيْهَا طُولَ مُقَامِهِ بِمَكَّةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ صَلَاةُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، عَلَى الْخِلَافِ، ثُمَّ صَرَفَهُ اللَّهُ إِلَى الْكَعْبَةِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي. قَالَ غَيْرُهُ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَرَادَ أَنْ يَسْتَأْلِفَ الْيَهُودَ فَتَوَجَّهَ [إِلَى] قِبْلَتِهِمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ عِنَادَهُمْ وَأَيِسَ مِنْهُمْ أَحَبَّ أَنْ يُحَوَّلَ إِلَى الْكَعْبَةَ فَكَانَ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، وَكَانَتْ مَحَبَّتُهُ إِلَى الْكَعْبَةِ لِأَنَّهَا قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا كَانَتْ أَدْعَى لِلْعَرَبِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: مُخَالَفَةً لِلْيَهُودِ، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَرُوِيَ عن أبي العالية
__________
(1) . في الأصول:" وقال".(2/150)
الرِّيَاحِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ «1» مَسْجِدُ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقِبْلَتُهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالَ: وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُصَلِّي إِلَى الصَّخْرَةِ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، وَهِيَ قِبْلَةُ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. السَّادِسَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَكِتَابِهِ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ إِلَّا مَنْ شَذَّ، كَمَا تَقَدَّمَ «2» . وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِبْلَةَ أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهَا نُسِخَتْ مَرَّتَيْنِ، عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلُ. السَّابِعَةُ- وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ قُرْآنٌ، فَلَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ:" كُنْتَ عَلَيْها" بِمَعْنَى أَنْتَ عَلَيْهَا. الثَّامِنَةُ- وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْقَطْعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ أَنَّ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ لَمَّا أَتَاهُمُ الْآتِي وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَبِلُوا قَوْلَهُ وَاسْتَدَارُوا نَحْوَ الْكَعْبَةِ، فَتَرَكُوا الْمُتَوَاتِرَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَهُوَ مَظْنُونٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِهِ عَقْلًا وَوُقُوعِهِ، فَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ ذَلِكَ عَقْلًا لَوْ تَعَبَّدَ الشَّرْعُ بِهِ، وَوُقُوعًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلِيلِ قِصَّةِ قُبَاءٍ، وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُنْفِذُ آحَادَ الْوُلَاةِ إِلَى الْأَطْرَافِ وَكَانُوا يُبَلِّغُونَ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ جَمِيعًا. وَلَكِنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ وَالْمُتَوَاتِرَ الْمَعْلُومَ لَا يُرْفَعُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَلَا ذَاهِبَ إِلَى تَجْوِيزِهِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. احْتَجَّ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ وَهُوَ رَفْعُ الْمَقْطُوعِ بِالْمَظْنُونِ. وأما قصة أهل قباء
__________
(1) . العبارة هنا غبر واضحة. والذي في تفسير الطبري (ج 2 ص 21 طبع بولاق) :" ... قال الربيع: إن يهوديا خاصم أبا العالية فقال: إن موسى عليه السلام كان يصلى إلى صخرة بيت المقدس، فقال أبو العالية: كان يصلى عند الصخرة إلى البيت الحرام، قال قال: فبيني وبينك مسجد صالح فإنه تحته من الجبل، قال أبو العالية: قد صليت فيه وقبلته إلى البيت الحرام، قال الربيع: وأخبرني أبو العالية أنه مر على مسجد ذى القرنين وقبلته إلى الكعبة".
(2) . عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها" ص 61 من هذا الجزء.(2/151)
وَوُلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَحْمُولٌ عَلَى قَرَائِنِ إِفَادَةِ الْعِلْمِ إِمَّا نَقْلًا وَتَحْقِيقًا، وَإِمَّا احْتِمَالًا وَتَقْدِيرًا. وَتَتْمِيمُ هَذَا سُؤَالًا وَجَوَابًا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. التَّاسِعَةُ- وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ إِنَّهُ مُتَعَبَّدٌ بِالْحُكْمِ الْأَوَّلِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ يَرْتَفِعُ بِوُجُودِ النَّاسِخِ لَا بِالْعِلْمِ بِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ لَمْ يَزَالُوا يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى أَنْ أَتَاهُمُ الْآتِي فَأَخْبَرَهُمْ بِالنَّاسِخِ فَمَالُوا نَحْوَ الْكَعْبَةِ. فَالنَّاسِخُ إِذَا حَصَلَ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ رَافِعٌ لَا مَحَالَةَ لَكِنْ بِشَرْطِ الْعِلْمِ بِهِ، لِأَنَّ النَّاسِخَ خِطَابٌ، وَلَا يَكُونُ خِطَابًا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ فِي عِبَادَاتٍ فُعِلَتْ بَعْدَ النَّسْخِ وَقَبْلَ الْبَلَاغِ هَلْ تُعَادُ أم لا، وعليه تنبي مَسْأَلَةُ الْوَكِيلِ فِي تَصَرُّفِهِ بَعْدَ عَزْلِ مُوَكِّلِهِ أَوْ مَوْتِهِ وَقَبْلَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَكَذَلِكَ الْمُقَارِضُ «1» ، وَالْحَاكِمُ إِذَا مَاتَ مَنْ وَلَّاهُ أَوْ عُزِلَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَا فَعَلَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ يَنْفُذُ فِعْلُهُ وَلَا يُرَدُّ حُكْمُهُ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمَذْهَبُ فِي أَحْكَامِ مَنْ أُعْتِقَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِعِتْقِهِ أَنَّهَا أَحْكَامُ حُرٍّ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَأَمَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَجَائِزَةٌ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الْمُعْتَقَةِ أَنَّهَا لَا تُعِيدُ مَا صَلَّتْ بَعْدَ عِتْقِهَا وَقَبْلَ عِلْمِهَا بِغَيْرِ سِتْرٍ، وإنما اختلفوا فيمن يطرأ عليه موجب بغير حُكْمَ عِبَادَتِهِ وَهُوَ فِيهَا، قِيَاسًا عَلَى مَسْأَلَةِ قُبَاءٍ، فَمَنْ صَلَّى عَلَى حَالٍ ثُمَّ تَغَيَّرَتْ بِهِ حَالُهُ تِلْكَ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ إِنَّهُ يُتِمُّهَا وَلَا يَقْطَعُهَا وَيَجْزِيهِ مَا مَضَى. وَكَذَلِكَ كَمَنْ صَلَّى عُرْيَانًا ثُمَّ وَجَدَ ثَوْبًا فِي الصَّلَاةِ، أَوْ ابْتَدَأَ صَلَاتَهُ صَحِيحًا فَمَرِضَ، أَوْ مَرِيضًا فَصَحَّ، أَوْ قَاعِدًا ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ، أَوْ أَمَةً عُتِقَتْ وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ إِنَّهَا تَأْخُذُ قِنَاعَهَا وَتَبْنِي. قُلْتُ: وَكَمَنَ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ فَطَرَأَ عَلَيْهِ الْمَاءُ إِنَّهُ لَا يَقْطَعُ، كَمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- وَغَيْرُهُمَا. وَقِيلَ: يَقْطَعُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَسَيَأْتِي. الْعَاشِرَةُ- وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مِنَ السَّلَفِ مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ عَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي توجيهه ولأنه وَرُسُلَهُ آحَادًا لِلْآفَاقِ، لِيُعَلِّمُوا النَّاسَ دِينَهُمْ فَيُبَلِّغُوهُمْ سُنَّةَ رَسُولِهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الأوامر والنواهي.
__________
(1) . القراض (بكسر القاف) عند المالكية هو ما يسمى بالمضاربة عند الحنفية، وهو إعطاء المقارص (بكسر الراء وهو رب المال) المقارض (بفتح الراء وهو العامل) مالا ليتجر به على أن يكون له جزء معلوم من الربح.(2/152)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَانَ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا بعد شي وَفِي حَالٍ بَعْدَ حَالٍ، عَلَى حَسَبِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، حَتَّى أَكْمَلَ اللَّهُ دِينَهُ، كَمَا قَالَ:" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «1» ". قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ" أَقَامَهُ حُجَّةً، أَيْ لَهُ مُلْكُ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا، فَلَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَهْدِي مَنْ يَشاءُ" إِشَارَةٌ إِلَى هِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ إِلَى قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَالصِّرَاطُ. الطَّرِيقُ. وَالْمُسْتَقِيمُ: الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «2» .
[سورة البقرة (2) : آية 143]
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً" الْمَعْنَى: وَكَمَا أَنَّ الْكَعْبَةَ وَسْطُ الْأَرْضِ كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، أَيْ جَعَلْنَاكُمْ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ وَفَوْقَ الْأُمَمِ. وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ أَحْمَدَ الْأَشْيَاءِ أَوْسَطُهَا. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً" قَالَ: (عَدْلًا) . قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي التَّنْزِيلِ:" قالَ أَوْسَطُهُمْ «3» " أَيْ أَعْدَلُهُمْ وَخَيْرُهُمْ. وَقَالَ زُهَيْرٌ:
هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ ... إِذَا نَزَلَتْ إحدى الليالي بمعظم
__________
(1) . راجع ج 6 ص 16.
(2) . ج 1 ص 147.
(3) . ج 18 ص 244.(2/153)
آخَرُ:
أَنْتُمْ أَوْسَطُ حَيٍّ عَلِمُوا ... بِصَغِيرِ الْأَمْرِ أَوْ إِحْدَى الْكُبَرِ
وَقَالَ آخَرُ:
لَا تَذْهَبَنَّ فِي الْأُمُورِ فَرَطًا ... لَا تَسْأَلَنَّ إِنْ سَأَلْتَ شَطَطَا
وَكُنْ مِنَ النَّاسِ جَمِيعًا وَسَطَا
وَوَسَطُ الْوَادِي: خَيْرُ مَوْضِعٍ فِيهِ وَأَكْثَرُهُ كَلَأً وَمَاءً. ولما كان الوسط مجانبا للغلق وَالتَّقْصِيرِ كَانَ مَحْمُودًا، أَيْ هَذِهِ الْأُمَّةُ لَمْ تُغْلِ غُلُوَّ النَّصَارَى فِي أَنْبِيَائِهِمْ، وَلَا قَصَّرُوا تَقْصِيرَ الْيَهُودِ فِي أَنْبِيَائِهِمْ. وَفِي الْحَدِيثِ: (خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا) . وَفِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:" عَلَيْكُمْ «1» بِالنَّمَطِ الْأَوْسَطِ، فَإِلَيْهِ يَنْزِلُ الْعَالِي، وَإِلَيْهِ يَرْتَفِعُ النَّازِلَ". وَفُلَانٌ مِنْ أَوْسَطِ قَوْمِهِ، وَإِنَّهُ لَوَاسِطَةُ قَوْمِهِ، وَوَسَطَ قَوْمِهِ، أَيْ مِنْ خِيَارِهِمْ وَأَهْلُ الْحَسَبِ مِنْهُمْ. وَقَدْ وَسَطَ وَسَاطَةً وَسِطَةً، وَلَيْسَ مِنَ الْوَسَطِ الَّذِي بَيْنَ شَيْئَيْنِ في شي. وَالْوَسْطُ (بِسُكُونِ السِّينِ) الظَّرْفُ، تَقُولُ: صَلَّيْتُ وَسْطَ الْقَوْمِ. وَجَلَسْتُ وَسَطَ الدَّارِ (بِالتَّحْرِيكِ) لِأَنَّهُ اسْمٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَكُلُّ مَوْضِعٍ صَلُحَ فِيهِ" بَيْنَ" فَهُوَ وَسْطٌ، وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ فِيهِ" بَيْنَ" فَهُوَ وَسَطٌ بِالتَّحْرِيكِ، وَرُبَّمَا يُسَكَّنُ وَلَيْسَ بِالْوَجْهِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" لِتَكُونُوا" نُصِبَ بِلَامِ كَيْ، أي لان تكونوا." شُهَداءَ" خَبَرُ كَانَ." عَلَى النَّاسِ" أَيْ فِي الْمَحْشَرِ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَى أُمَمِهِمْ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يُدْعَى نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ فَيَقُولُ هَلْ بَلَّغْتَ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لِأُمَّتِهِ هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ فَيَقُولُ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَيَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ... (. وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ مُطَوَّلًا ابن المبارك بمعناه،
__________
(1) . في اللسان والنهاية:" ... خير هذه الامة النمط الأوسط، يلحق بهم التالي، ويرجع إليهم الغالي" والنمط: جماعة من الناس أمرهم واحد. وقيل: هو الطريقة.(2/154)
وَفِيهِ: (فَتَقُولُ تِلْكَ الْأُمَمُ كَيْفَ يَشْهَدُ عَلَيْنَا مَنْ لَمْ يُدْرِكْنَا فَيَقُولُ لَهُمُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ كَيْفَ تَشْهَدُونَ عَلَى مَنْ لَمْ تُدْرِكُوا فَيَقُولُونَ رَبَّنَا بَعَثْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا وَأَنْزَلْتَ إِلَيْنَا عَهْدَكَ وَكِتَابَكَ وَقَصَصْتَ عَلَيْنَا أَنَّهُمْ قَدْ بَلَّغُوا فَشَهِدْنَا بِمَا عَهِدْتَ إِلَيْنَا فَيَقُولُ الرَّبُّ صَدَقُوا فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً- وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ- لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (. قَالَ ابْنُ أَنْعُمَ: فَبَلَغَنِي أَنَّهُ يَشْهَدُ يَوْمَئِذٍ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إلا من كان في قلبه جنة «1» عَلَى أَخِيهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَعْنَى الْآيَةِ يَشْهَدُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ حِينَ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ فَقَالَ: (وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ) . ثُمَّ مُرَّ عَلَيْهِ بِأُخْرَى فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقَالَ: (وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ) . فَقَالَ عُمَرٌ: فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي، مُرَّ بِجِنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ فَقُلْتَ: (وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ) وَمُرَّ بِجِنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقُلْتَ: (وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ) ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ (. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ. وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ فِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ وَتَلَا:" لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً". وَرَوَى أَبَانُ وَلَيْثٌ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (أُعْطِيَتْ أُمَّتِي ثَلَاثًا لَمْ تعط إلا الأنبياء كَانَ اللَّهُ إِذَا بَعَثَ نَبِيًّا قَالَ لَهُ ادْعُنِي أَسْتَجِبْ لَكَ وَقَالَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وَكَانَ اللَّهُ إِذَا بَعَثَ النَّبِيَّ قال له مَا جَعَلَ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وَقَالَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وَكَانَ اللَّهُ إِذَا بَعَثَ النَّبِيَّ جَعَلَهُ شَهِيدًا عَلَى قَوْمِهِ وَجَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ (. خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي" نَوَادِرِ الْأُصُولِ". الثَّالِثَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَنْبَأَنَا رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْنَا مِنْ تَفْضِيلِهِ لَنَا بِاسْمِ الْعَدَالَةِ وَتَوْلِيَةِ خَطِيرِ الشَّهَادَةِ على جميع خلقه، فجعلنا أَوَّلًا مَكَانًا وَإِنْ كُنَّا آخِرًا زَمَانًا، كَمَا قال
__________
(1) . الحنة (بكسر الحاء) : العداوة، وهى لغة قليلة في الإحنة.(2/155)
عَلَيْهِ السَّلَامُ: (نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ) . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ إِلَّا الْعُدُولُ، وَلَا يَنْفُذُ قَوْلُ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا. وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْعَدَالَةِ وَحُكْمُهَا فِي آخِرِ السُّورَةِ «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الرَّابِعَةُ- وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ وَوُجُوبِ الْحُكْمِ بِهِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا عُدُولًا شَهِدُوا عَلَى النَّاسِ. فَكُلُّ عَصْرٍ شَهِيدٌ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ، فَقَوْلُ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ وَشَاهِدٌ عَلَى التَّابِعِينَ، وَقَوْلُ التَّابِعِينَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ. وَإِذْ جُعِلَتِ الْأُمَّةُ شُهَدَاءَ فَقَدْ وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِمْ. وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: أُرِيدَ بِهِ جَمِيعُ الْأُمَّةِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَثْبُتُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. وَبَيَانُ هَذَا فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً" قِيلَ: مَعْنَاهُ بِأَعْمَالِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ:" عَلَيْكُمْ" بِمَعْنَى لَكُمْ، أَيْ يَشْهَدُ لَكُمْ بِالْإِيمَانِ. وَقِيلَ: أَيْ يَشْهَدُ عَلَيْكُمْ بِالتَّبْلِيغِ لَكُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها" قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقِبْلَةِ هُنَا الْقِبْلَةُ الْأُولَى، لِقَوْلِهِ" كُنْتَ عَلَيْها". وَقِيلَ: الثَّانِيَةُ، فَتَكُونُ الْكَافُ زَائِدَةً، أَيْ أَنْتَ الْآنَ عَلَيْهَا، كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَمَا قَالَ:" كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" أَيْ أَنْتُمْ، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَسَيَأْتِي «2» . قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ" قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: مَعْنَى" لِنَعْلَمَ" لِنَرَى. وَالْعَرَبُ تَضَعُ الْعِلْمَ مَكَانَ الرُّؤْيَةِ، وَالرُّؤْيَةَ مَكَانَ الْعِلْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ «3» " بِمَعْنَى أَلَمْ تَعْلَمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِلَّا لِتَعْلَمُوا أَنَّنَا نَعْلَمُ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا فِي شَكٍّ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِنُمَيِّزَ أَهْلَ الْيَقِينِ مِنْ أَهْلِ الشَّكِّ، حَكَاهُ ابْنُ فُوْرَكَ، وَذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِلَّا لِيَعْلَمَ النَّبِيُّ وَأَتْبَاعُهُ، وَأَخْبَرَ تَعَالَى بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، كَمَا يُقَالُ: فَعَلَ الْأَمِيرُ كَذَا، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ أَتْبَاعُهُ، ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ وَهُوَ جَيِّدٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لِيَعْلَمَ مُحَمَّدٌ، فَأَضَافَ عِلْمَهُ إِلَى نَفْسِهِ تَعَالَى تَخْصِيصًا وَتَفْضِيلًا، كَمَا كَنَّى عَنْ نفسه سبحانه في قوله: (يا ابن آدم مرضت «4» فلم تعدني)
__________
(1) . راجع ج 3 ص 383.
(2) . راجع ج 4 ص 170.
(3) . راجع ج 20 ص 44.
(4) . أضاف المرض إليه سبحانه وتعالى والمراد العبد تشريفا للعبد وتقريبا له. وفى الحديث:" قال يا رب وكيف أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدى فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك وعدته لوجدتني عنده ... ". راجع صحيح مسلم" فضل عيادة المريض".(2/156)
الْحَدِيثَ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ عِلْمُ الْمُعَايَنَةِ الَّذِي يُوجِبُ الْجَزَاءَ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، عَلِمَ مَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، تَخْتَلِفُ الْأَحْوَالُ عَلَى الْمَعْلُومَاتِ وَعِلْمُهُ لَا يَخْتَلِفُ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِالْكُلِّ تَعَلُّقًا وَاحِدًا. وَهَكَذَا كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ «1» "،" وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ «2» " وَمَا أَشْبَهَ. وَالْآيَةُ جَوَابٌ لِقُرَيْشٍ فِي قَوْلِهِمْ:" مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها" وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَأْلَفُ الْكَعْبَةَ، فَأَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَمْتَحِنَهُمْ بِغَيْرِ مَا أَلِفُوهُ لِيَظْهَرَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ لَا يَتَّبِعُهُ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ" إِلَّا لِيُعْلَمُ" فَ" مَنْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، لِأَنَّهَا اسْمُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ." يَتَّبِعُ الرَّسُولَ" يَعْنِي فِيمَا أُمِرَ بِهِ مِنَ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ." مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ" يَعْنِي مِمَّنْ يَرْتَدُّ عَنْ دِينِهِ، لِأَنَّ الْقِبْلَةَ لَمَّا حُوِّلَتِ ارتد من المسلمين قوم ونافق قوم. ولهذا قَالَ:" وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً" أَيْ تَحْوِيلُهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَالتَّقْدِيرُ فِي الْعَرَبِيَّةِ: وَإِنْ كَانَتِ التَّحْوِيلَةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً" ذَهَبَ الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّ" إِنْ" وَاللَّامَ بِمَعْنَى مَا وَإِلَّا، وَالْبَصْرِيُّونَ يَقُولُونَ: هِيَ إِنَّ الثَّقِيلَةَ خُفِّفَتْ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ وَإِنْ كَانَتِ الْقِبْلَةُ أَوِ التَّحْوِيلَةُ أَوِ التَّوْلِيَةُ لَكَبِيرَةً." إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ" أَيْ خَلَقَ الْهُدَى الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ «3» ". قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ" اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ مَاتَ وَهُوَ يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ «4» . وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا وُجِّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْكَعْبَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ" الْآيَةَ، قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَسَمَّى الصَّلَاةَ إِيمَانًا لِاشْتِمَالِهَا عَلَى نِيَّةِ وَقَوْلٍ وَعَمَلٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنِّي لَأَذْكُرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ: إِنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ:" وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ" أي
__________
(1) . راجع ج 4 ص 218. [.....]
(2) . راجع ج 16 ص 253.
(3) . راجع ج 17 ص 308.
(4) . راجع ص 148 من هذا الجزء.(2/157)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ وَتَصْدِيقكُمْ لِنَبِيِّكُمْ، وَعَلَى هَذَا مُعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ" وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ" قَالَ: صَلَاتُكُمْ. قوله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ" الرَّأْفَةُ أَشَدُّ مِنَ الرَّحْمَةِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: الرَّأْفَةُ أَكْثَرُ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى لُغَتِهِ وَأَشْعَارِهِ وَمَعَانِيهِ فِي الْكِتَابِ" الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى" فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَأَبُو عَمْرٍو" لَرَؤُفٌ" عَلَى وَزْنِ فَعُلٍ، وَهِيَ لُغَةُ بَنِي أَسَدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ:
وشر الطالبين فلا تكنه ... يقاتل عمه الرءوف الرَّحِيمَ
وَحَكَى الْكِسَائِيُّ أَنَّ لُغَةَ بَنِي أَسَدٍ" لَرَأْفٌ"، عَلَى فَعْلٍ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنِ القعقاع" لرؤف" مُثَقَّلًا بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَكَذَلِكَ سَهَّلَ كُلَّ هَمْزَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، سَاكِنَةً كَانَتْ أَوْ متحركة.
[سورة البقرة (2) : آية 144]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذِهِ الْآيَةُ مُقَدَّمَةٌ فِي النُّزُولِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ". وَمَعْنَى" تَقَلُّبَ وَجْهِكَ": تَحَوُّلُ وَجْهِكَ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. الزَّجَّاجُ: تَقَلُّبُ عَيْنَيْكَ فِي النَّظَرِ إِلَى السَّمَاءِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَخَصَّ السَّمَاءَ بِالذِّكْرِ إِذْ هِيَ مُخْتَصَّةٌ بِتَعْظِيمِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهَا وَيَعُودُ مِنْهَا كَالْمَطَرِ وَالرَّحْمَةِ وَالْوَحْيِ. وَمَعْنَى" تَرْضاها" تُحِبُّهَا. قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ إِذَا صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ يَنْظُرُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى قِبَلِ الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ". وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ". وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى وَالْقَوْلُ فِيهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.(2/158)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ" فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَوَلِّ" أَمْرٌ" وَجْهَكَ شَطْرَ" أَيْ نَاحِيَةَ" الْمَسْجِدِ الْحَرامِ" يَعْنِي الْكَعْبَةَ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا. قِيلَ: حِيَالَ الْبَيْتِ كُلِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: حِيَالَ الْمِيزَابِ مِنْ الْكَعْبَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَالْمِيزَابُ: هُوَ قِبْلَةُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ، وَهُنَاكَ قِبْلَةُ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ. قُلْتُ: قَدْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْبَيْتُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْحَرَمِ وَالْحَرَمُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ فِي مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا مِنْ أُمَّتِي) . الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ" الشَّطْرُ لَهُ مَحَامِلُ: يَكُونُ النَّاحِيَةَ وَالْجِهَةَ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ ظَرْفُ مَكَانٍ، كَمَا تَقُولُ: تِلْقَاءَهُ وَجِهَتَهُ. وَانْتَصَبَ الظَّرْفُ لِأَنَّهُ فَضْلَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْمَفْعُولِ [بِهِ «1» ] ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفِعْلَ وَاقِعٌ فِيهِ. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ: إِنَّ فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ" فَوَلِّ وَجْهَكَ تِلْقَاءَ المسجد الحرام". وقال الشاعر «2» :
أَقُولُ لِأُمِّ زِنْبَاعٍ أَقِيمِي ... صُدُورَ الْعِيسِ شَطْرَ بَنِي تَمِيمِ
وَقَالَ آخَرُ:
وَقَدْ أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمُ ... هَوْلٌ لَهُ ظُلَمٌ يَغْشَاكُمُ قِطَعَا
وَقَالَ آخَرُ:
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَمْرًا رَسُولًا ... وَمَا تُغْنِي الرِّسَالَةُ شَطْرَ عَمْرِو
وَشَطْرُ الشَّيْءِ: نِصْفُهُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: (الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ) . وَيَكُونُ مِنَ الْأَضْدَادِ، يُقَالُ: شَطَرَ إِلَى كَذَا إِذَا أَقْبَلَ نَحْوَهُ، وَشَطَرَ عَنْ كَذَا إِذَا أُبْعِدَ مِنْهُ وَأَعْرَضَ عَنْهُ. فَأَمَّا الشَّاطِرُ مِنَ الرِّجَالِ فَلِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ فِي نَحْوٍ غَيْرِ الِاسْتِوَاءِ، وَهُوَ الَّذِي أَعْيَا أَهْلَهُ خُبْثًا، وَقَدْ شَطَرَ وشطر (بالضم) شطارة فيهما. وسيل بَعْضُهُمْ عَنِ الشَّاطِرِ، فَقَالَ: هُوَ مَنْ أَخَذَ في البعد عما نهى الله عنه.
__________
(1) . التكملة عن إعراب القرآن للنحاس.
(2) . هو أبو زنباع الجذامي، (عن اللسان) .(2/159)
الثانية- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْكَعْبَةَ قِبْلَةٌ فِي كُلِّ أُفُقٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ شَاهَدَهَا وَعَايَنَهَا فُرِضَ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُهَا، وَأَنَّهُ إِنْ تَرَكَ اسْتِقْبَالَهَا وَهُوَ مُعَايِنٌ لَهَا وَعَالِمٌ بِجِهَتِهَا فَلَا صَلَاةَ لَهُ، وَعَلَيْهِ إِعَادَةُ كُلِّ مَا صَلَّى ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ غَابَ عَنْهَا أَنْ يَسْتَقْبِلَ نَاحِيَتَهَا وَشَطْرَهَا وَتِلْقَاءَهَا، فَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ مَا يُمْكِنُهُ مِنَ النُّجُومِ وَالرِّيَاحِ وَالْجِبَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى نَاحِيَتِهَا. وَمَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلْيَكُنْ وَجْهُهُ إِلَى الْكَعْبَةِ وَيَنْظُرْ إِلَيْهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّ النَّظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ عِبَادَةٌ، قَالَهُ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ. الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفُوا هَلْ فَرْضُ الْغَائِبِ اسْتِقْبَالُ الْعَيْنِ أَوِ الْجِهَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ لِمَا لَا يَصِلُ «1» إِلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْجِهَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ- أَنَّهُ الْمُمْكِنُ الَّذِي يَرْتَبِطُ بِهِ التَّكْلِيفُ. الثَّانِي- أَنَّهُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ" يَعْنِي مِنَ الْأَرْضِ مِنْ شَرْقٍ أَوْ غَرْبٍ" فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ". الثَّالِثُ- أَنَّ الْعُلَمَاءَ احْتَجُّوا بِالصَّفِّ الطَّوِيلِ الَّذِي يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ أَضْعَافُ عَرْضِ الْبَيْتِ. الْخَامِسَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّةٌ وَاضِحَةٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي أَنَّ الْمُصَلِّيَ حُكْمَهُ أَنْ يَنْظُرَ أَمَامَهُ لَا إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ. يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ. وَقَالَ شَرِيكٌ الْقَاضِي: يَنْظُرُ فِي الْقِيَامِ إِلَى مَوْضِعِ السُّجُودِ، وَفِي الرُّكُوعِ إِلَى مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ، وَفِي السُّجُودِ إِلَى مَوْضِعِ أَنْفِهِ، وَفِي الْقُعُودِ إِلَى حِجْرِهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا يَنْظُرُ أَمَامَهُ فَإِنَّهُ إِنْ حَنَى رَأْسَهُ ذَهَبَ بَعْضُ الْقِيَامِ الْمُفْتَرَضِ عَلَيْهِ فِي الرَّأْسِ وَهُوَ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ، وَإِنْ أَقَامَ رَأْسَهُ وَتَكَلَّفَ النَّظَرَ بِبَصَرِهِ إِلَى الْأَرْضِ فَتِلْكَ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ وَحَرَجٌ. وَمَا جَعَلَ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، أَمَا إِنَّ ذلك أفضل لمن قدر عليه.
__________
(1) . كذا في كتاب الأحكام لابن العربي. وفى الأصول:" ما لا يوصل إليه".(2/160)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ" يُرِيدُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى" لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ" يَعْنِي تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلَيْسَ مِنْ دِينِهِمْ وَلَا فِي كِتَابِهِمْ؟ قِيلَ عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا مِنْ كِتَابِهِمْ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ وَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِهِ. الثَّانِي- أَنَّهُمْ عَلِمُوا مِنْ دِينِهِمْ جَوَازَ النَّسْخِ وَإِنْ جَحَدَهُ بَعْضُهُمْ، فَصَارُوا عَالِمِينَ بِجَوَازِ الْقِبْلَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ" تقدم «1» معناه. وقراء ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" تَعْمَلُونَ" بِالتَّاءِ عَلَى مُخَاطَبَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَهُوَ إِعْلَامٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُهْمِلُ «2» أَعْمَالَ الْعِبَادِ ولا يغفل عنها، ضمنه الوعيد. وقرأ الباقون بالياء من تحت.
[سورة البقرة (2) : آية 145]
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ" لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا وَقَدْ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ، وَلَيْسَ تَنْفَعُهُمُ الْآيَاتُ، أَيِ الْعَلَامَاتُ. وَجَمْعُ قِبْلَةٍ فِي التَّكْسِيرِ: قِبَلٌ. وَفِي التَّسْلِيمِ: قِبِلَاتٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تُبْدَلَ مِنَ الْكَسْرَةِ فَتْحَةٌ، فَتَقُولُ قِبَلَاتٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تُحْذَفَ الْكَسْرَةُ وَتُسَكَّنَ الْبَاءُ فَتَقُولُ قِبْلَاتٌ. وَأُجِيبَتْ" لَئِنْ" بِجَوَابِ" لَوْ" وَهِيَ ضِدُّهَا فِي أَنَّ" لَوْ" تَطْلُبُ فِي جَوَابِهَا الْمُضِيَّ وَالْوُقُوعَ، وَ" لَئِنْ" تَطْلُبُ الِاسْتِقْبَالَ، فَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ: أُجِيبَتْ بِجَوَابِ" لَوْ" لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَلَوْ أَتَيْتَ. وَكَذَلِكَ تُجَابُ" لَوْ" بِجَوَابِ" لَئِنْ"، تَقُولُ: لَوْ أَحْسَنْتَ أُحْسِنُ إِلَيْكَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا «3» " أَيْ وَلَوْ أَرْسَلْنَا رِيحًا. وَخَالَفَهُمَا سِيبَوَيْهِ فَقَالَ: إن معنى" لئن" مخالف
__________
(1) . راجع ج 1 ص 466.
(2) . ف ب:" بأن الله تعالى يعلم أعمال ... ".
(3) . راجع ج 14 ص 45.(2/161)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
لِمَعْنَى" لَوْ" فَلَا يَدْخُلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى الأخر، فالمعنى: ولين أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ لَا يَتَّبِعُونَ قِبْلَتَكَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَمَعْنَى" وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا" لَيَظَلُّنَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ" لَفْظُ خَبَرٍ وَيَتَضَمَّنُ الامر، أي فلا تركن إلى شي مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْيَهُودَ لَيْسَتْ مُتَّبِعَةً قِبْلَةَ النَّصَارَى وَلَا النَّصَارَى مُتَّبِعَةً قِبْلَةَ الْيَهُودِ، عَنِ السُّدِّيِّ وَابْنِ زَيْدٍ. فَهَذَا إِعْلَامٌ بِاخْتِلَافِهِمْ وَتَدَابُرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمَعْنَى وَمَا مَنِ اتَّبَعَكَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ بِمُتَّبِعٍ قِبْلَةَ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَلَا مَنْ لَمْ يُسْلِمْ قِبْلَةَ مَنْ أَسْلَمَ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ" الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَتَّبِعَ هَوَاهُ فَيَصِيرَ بِاتِّبَاعِهِ ظَالِمًا، وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَكُونُ بِهِ ظَالِمًا، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى إِرَادَةِ أُمَّتِهِ لِعِصْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَطَعْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مِنْهُ، وَخُوطِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْظِيمًا لِلْأَمْرِ وَلِأَنَّهُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ. وَالْأَهْوَاءُ: جَمْعُ هَوًى، وَقَدْ تَقَدَّمَ «1» ، وَكَذَا" مِنَ الْعِلْمِ" تَقَدَّمَ «2» أَيْضًا، فلا معنى للإعادة.
[سورة البقرة (2) : آية 146]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ"" الَّذِينَ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ" يَعْرِفُونَهُ". وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خفض على الصفة ل" لظالمين"، و" يعرفون" فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ يَعْرِفُونَ نُبُوَّتَهُ وَصِدْقَ رِسَالَتِهِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَقِيلَ:" يَعْرِفُونَ" تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ أَنَّهُ حَقٌّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جريج والربيع وقتادة أيضا.
__________
(1) . راجع ج 94 من هذا الجزء.
(2) . راجع ص 95 من هذا الجزء.(2/162)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
وَخَصَّ الْأَبْنَاءَ فِي الْمَعْرِفَةِ بِالذِّكْرِ دُونَ الْأَنْفُسِ وَإِنْ كَانَتْ أَلْصَقَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمُرُّ عَلَيْهِ مِنْ زَمَنِهِ بُرْهَةٌ لَا يَعْرِفُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَلَا يَمُرُّ عَلَيْهِ وَقْتٌ لَا يَعْرِفُ فِيهِ ابْنَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: أَتَعْرِفُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَعْرِفُ ابْنَكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَأَكْثَرَ، بَعَثَ اللَّهُ أَمِينَهُ فِي سَمَائِهِ إِلَى أَمِينِهِ فِي أَرْضِهِ بِنَعْتِهِ فَعَرَفْتُهُ، وَابْنِي لَا أَدْرِي مَا كَانَ مِنْ أُمِّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ" يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَخُصَيْفٌ. وَقِيلَ: اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا آنِفًا. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَهُمْ يَعْلَمُونَ" ظَاهِرٌ فِي صِحَّةِ الْكُفْرِ عِنَادًا، وَمِثْلُهُ:" وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ" «1» وَقَوْلُهُ:" فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ".
[سورة البقرة (2) : آية 147]
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ" يَعْنِي اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ، لَا مَا أَخْبَرَكَ بِهِ الْيَهُودُ مِنْ قِبْلَتِهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ" الْحَقَّ" مَنْصُوبًا بِ" يَعْلَمُونَ" أَيْ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ. وَيَصِحُّ نَصْبُهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْزَمِ الْحَقَّ. وَالرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَوْ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَإٍ، وَالتَّقْدِيرُ هُوَ الْحَقُّ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ جَاءَكُ الْحَقُّ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَأَمَّا الَّذِي فِي" الْأَنْبِيَاءِ"" الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ «2» " فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَرَأَهُ إِلَّا مَنْصُوبًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي فِي سُورَةِ" الْبَقَرَةِ" مُبْتَدَأُ آيَةٍ «3» ، وَالَّذِي فِي الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَ كَذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ" أَيْ مِنَ الشَّاكِّينَ. وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ. يُقَالُ: امْتَرَى فُلَانٌ [فِي] كَذَا إِذَا اعْتَرَضَهُ الْيَقِينُ مَرَّةً وَالشَّكُّ أُخْرَى فَدَافَعَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَمِنْهُ الْمِرَاءُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشُكُّ فِي قَوْلِ صَاحِبِهِ. وَالِامْتِرَاءُ فِي الشَّيْءِ الشَّكُّ فِيهِ، وَكَذَا التَّمَارِي. وَأَنْشَدَ الطَّبَرِيُّ شَاهِدًا عَلَى أَنَّ الْمُمْتَرِينَ الشَّاكُّونَ قَوْلَ الْأَعْشَى:
تَدِرُّ على أسوق الممترين ... من ركضا إذا ما السراب ارجحن
__________
(1) . راجع ج 13 ص 163.
(2) . راجع ج 11 ص 280.
(3) . في أ:" به". [.....](2/163)
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَوَهِمَ فِي هَذَا، لِأَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ وَغَيْرَهُ قَالَ: الْمُمْتَرُونَ فِي الْبَيْتِ هُمُ الَّذِينَ يَمْرُونَ الْخَيْلَ بِأَرْجُلِهِمْ هَمْزًا لِتَجْرِيَ كَأَنَّهُمْ يَحْتَلِبُونَ الْجَرْيَ مِنْهَا، وَلَيْسَ فِي الْبَيْتِ مَعْنَى الشَّكِّ كَمَا قَالَ الطَّبَرِيُّ. قُلْتُ: مَعْنَى الشَّكِّ فِيهِ مَوْجُودٌ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَخْتَبِرَ الْفَرَسَ صَاحِبُهُ هَلْ هُوَ عَلَى مَا عَهِدَ من الجري أم لا، لئلا يكون أصابه شي، أَوْ يَكُونَ هَذَا عِنْدَ أَوَّلِ شِرَائِهِ فَيُجْرِيهِ لِيَعْلَمَ مِقْدَارَ جَرْيِهِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَمَرَيْتُ الْفَرَسَ إِذَا اسْتَخْرَجْتَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْجَرْيِ بِسَوْطٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَالِاسْمُ الْمِرْيَةُ (بِالْكَسْرِ) وَقَدْ تُضَمُّ. وَمَرَيْتُ النَّاقَةَ مَرْيًا: إِذَا مَسَحْتُ ضَرْعَهَا لِتَدِرَّ. وَأَمْرَتْ هِيَ إِذَا دَرَّ لَبَنُهَا، وَالِاسْمُ الْمِرْيَةُ (بِالْكَسْرِ) ، وَالضَّمُّ غَلَطٌ. وَالْمِرْيَةُ: الشَّكُّ، وَقَدْ تُضَمُّ، وقرئ بهما.
[سورة البقرة (2) : آية 148]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الاولى- قوله تعالى:"- لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
" الْوِجْهَةُ وَزْنُهَا فِعْلَةٌ مِنَ الْمُوَاجَهَةِ. وَالْوِجْهَةُ وَالْجِهَةُ وَالْوَجْهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْمُرَادُ الْقِبْلَةُ، أَيْ إِنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ قِبْلَتَكَ وَأَنْتَ لَا تَتَّبِعُ قِبْلَتَهُمْ، وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ إِمَّا بِحَقٍّ وَإِمَّا بِهَوًى. الثانية- قوله تعالى:"وَمُوَلِّيها
"" هُوَ" عَائِدٌ عَلَى لَفْظِ كُلٍّ لَا عَلَى مَعْنَاهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى الْمَعْنَى لَقَالَ: هُمْ مُوَلُّوهَا وُجُوهَهُمْ، فَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ مَفْعُولٌ أَوَّلُ وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ، أَيْ هُوَ مُوَلِّيهَا وَجْهَهُ وَنَفْسَهُ. وَالْمَعْنَى: وَلِكُلِّ صَاحِبِ مِلَّةٍ قِبْلَةٌ، صَاحِبُ الْقِبْلَةِ مُوَلِّيهَا وَجْهَهُ، عَلَى لَفْظِ كُلٍّ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّبِيعِ وَعَطَاءٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ عَلِيُّ بن سليمان:"وَلِّيها
" أَيْ مُتَوَلِّيهَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عَامِرٍ" مُوَلَّاهَا" عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَالضَّمِيرُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِوَاحِدٍ، أَيْ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ قِبْلَةٌ، الْوَاحِدُ مُوَلَّاهَا أَيْ مَصْرُوفٌ إِلَيْهَا، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ" هُوَ" ضَمِيرُ اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، إِذْ(2/164)
مَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَاعِلٌ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى: لِكُلِّ صَاحِبِ مِلَّةٍ قِبْلَةٌ اللَّهُ مُوَلِّيهَا إِيَّاهُ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ: أَنَّ قَوْمًا قَرَءُوا" وَلِكُلِّ وِجْهَةٌ" بِإِضَافَةِ كُلٍّ إِلَى وِجْهَةٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَخَطَّأَهَا الطَّبَرِيُّ، وَهِيَ مُتَّجِهَةٌ، أَيْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ لِكُلِّ وِجْهَةٍ وَلَّاكُمُوهَا، وَلَا تَعْتَرِضُوا فِيمَا أَمَرَكُمْ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ، أَيْ إِنَّمَا عَلَيْكُمُ الطاعة في الجميع. وقدم قوله"- لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
" على الامر في قوله:"اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
" لِلِاهْتِمَامِ بِالْوِجْهَةِ كَمَا يُقَدَّمُ الْمَفْعُولُ، وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَسَلِمَتِ الْوَاوُ فِي"جْهَةٌ
" لِلْفَرْقِ بَيْنَ عِدَةٍ وَزِنَةٍ، لِأَنَّ جِهَةً ظَرْفٌ، وَتِلْكَ مَصَادِرُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ شَذَّ عَنِ الْقِيَاسِ فَسَلِمَ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ اسْمٌ وَلَيْسَ بِمَصْدَرٍ. وَقَالَ غَيْرُ أَبِي عَلِيٍّ: وَإِذَا أَرَدْتَ الْمَصْدَرَ قُلْتَ جِهَةٌ، وَقَدْ يُقَالُ الْجِهَةُ فِي الظَّرْفِ. الثالثة- قوله تعالى:"اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
" أَيْ إِلَى الْخَيْرَاتِ، فَحَذَفَ الْحَرْفَ، أَيْ بَادِرُوا مَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ اسْتِقْبَالِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ الْحَثَّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ وَالِاسْتِعْجَالِ إِلَى جَمِيعِ الطَّاعَاتِ بِالْعُمُومِ، فَالْمُرَادُ مَا ذُكِرَ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ لِسِيَاقِ الْآيِ. وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ الْمُبَادَرَةُ بِالصَّلَاةِ أَوَّلَ وَقْتِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَجِّرِ إِلَى الصَّلَاةِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي الْبَدَنَةَ ثُمَّ الَّذِي عَلَى أَثَرِهِ كَالَّذِي يُهْدِي الْبَقَرَةَ ثُمَّ الَّذِي عَلَى أَثَرِهِ كَالَّذِي يُهْدِي الْكَبْشَ ثُمَّ الَّذِي عَلَى أَثَرِهِ كَالَّذِي يُهْدِي الدَّجَاجَةَ ثُمَّ الَّذِي عَلَى أَثَرِهِ كَالَّذِي يُهْدِي الْبَيْضَةَ (. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا وَقَدْ تَرَكَ مِنَ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ (. وَأَخْرَجَهُ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَوْلَهُ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَيْرُ الْأَعْمَالِ الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا) . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ" أَوَّلَ وَقْتِهَا" بِإِسْقَاطِ" فِي". وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَوَسَطُ الْوَقْتِ رَحْمَةُ اللَّهِ(2/165)
وَآخِرُ الْوَقْتِ عَفْوُ اللَّهِ (. زَادَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: رِضْوَانُ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ عَفْوِهِ، فَإِنَّ رِضْوَانَهُ عَنِ الْمُحْسِنِينَ وَعَفْوَهُ عَنِ الْمُقَصِّرِينَ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: آخِرُ الْوَقْتِ أَفْضَلُ، لِأَنَّهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَفَصَّلَ الْقَوْلَ، فَأَمَّا الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ فَأَوَّلُ الْوَقْتِ فِيهِمَا أَفْضَلُ، أَمَّا الصُّبْحُ فَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُصَلِّي الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ) - فِي رِوَايَةٍ- (مُتَلَفِّفَاتٍ) . وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَلِحَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَتَوَارَتْ بِالْحِجَابِ، أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ. وَأَمَّا الْعِشَاءُ فَتَأْخِيرُهَا أَفْضَلُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ. رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: مَكَثْنَا [ذَاتَ «1» ] لَيْلَةٍ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ بَعْدَهُ، فَلَا نَدْرِي أَشَيْءٌ شَغَلَهُ فِي أَهْلِهِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، فَقَالَ حِينَ خَرَجَ: (إِنَّكُمْ لَتَنْتَظِرُونَ صَلَاةً مَا يَنْتَظِرُهَا أَهْلُ دِينٍ غَيْرُكُمْ وَلَوْلَا أَنْ يَثْقُلَ عَلَى أُمَّتِي لَصَلَّيْتُ بِهِمْ هَذِهِ السَّاعَةَ) . وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ ثُمَّ صَلَّى ... ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِبُّ تَأْخِيرَهَا. وَأَمَّا الظُّهْرُ فَإِنَّهَا تَأْتِي النَّاسَ [عَلَى «2» ] غَفْلَةٍ فَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا قَلِيلًا حَتَّى يَتَأَهَّبُوا وَيَجْتَمِعُوا. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ قَالَ مَالِكٌ: أَوَّلُ الْوَقْتِ أَفْضَلُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ إِلَّا لِلظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: وَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى الظُّهْرُ عِنْدَ الزَّوَالِ وَلَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَقُولُ: تِلْكَ صَلَاةُ الْخَوَارِجِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَصَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلظُّهْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَبْرِدْ) ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ فقال له: (أبرد) حتى رأينا في التُّلُولِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ»
جَهَنَّمَ فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ) . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ. وَالَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ مَا رَوَاهُ أَنَسٌ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ، وَإِذَا كان البرد عجل.
__________
(1) . الزيادة عن صحيح مسلم وسنن النسائي.
(2) . الزيادة عن أحكام القرآن لابن العربي.
(3) . الفيح: سطوع الحر وفورانه.(2/166)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ:" وَقَدِ اخْتَارَ قَوْمٌ [مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ «1» ] تَأْخِيرَ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّمَا الْإِبْرَادُ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ إِذَا كَانَ [مَسْجِدًا «2» ] يَنْتَابُ «3» أَهْلُهُ مِنَ الْبُعْدِ، فَأَمَّا الْمُصَلِّي وَحْدَهُ وَالَّذِي يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ قَوْمِهِ فَالَّذِي أُحِبُّ لَهُ أَلَّا يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ. قَالَ أَبُو عِيسَى: وَمَعْنَى مَنْ ذَهَبَ إِلَى تَأْخِيرِ الظُّهْرِ «4» فِي شِدَّةِ الْحَرِّ هُوَ أَوْلَى وَأَشْبَهُ بِالِاتِّبَاعِ، وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الرُّخْصَةَ لِمَنْ يَنْتَابُ مِنَ الْبُعْدِ وَلِلْمَشَقَّةِ عَلَى النَّاسِ، فَإِنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَذَّنَ بِلَالٌ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [يَا بِلَالُ «5» ] أَبْرِدْ ثُمَّ أَبْرِدْ) . فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ لَمْ يَكُنْ لِلْإِبْرَادِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَعْنًى، لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي السَّفَرِ وَكَانُوا لَا يَحْتَاجُونَ أَنْ يَنْتَابُوا مِنَ الْبُعْدِ". وَأَمَّا الْعَصْرُ فَتَقْدِيمُهَا أَفْضَلُ. وَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ رَجَاءَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ تَقْدِيمِهَا، فَإِنَّ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ مَعْلُومٌ، وَفَضْلَ أَوَّلِ الْوَقْتِ مَجْهُولٌ وَتَحْصِيلُ الْمَعْلُومِ أَوْلَى، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. الرَّابِعَةُ- قوله تعالى:" أَيْنَما تَكُونُوا" شرط، وجوابه:"أْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
" يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ وصف نفسه تعالى بالقدرة على كل شي لِتَنَاسُبِ الصِّفَةِ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْإِعَادَةِ بعد الموت والبلى.
[سورة البقرة (2) : الآيات 149 الى 150]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
__________
(1) . الزيادة من صحيح الترمذي.
(2) . انتاب: قصد.
(3) . انتاب: قصد.
(4) . كذا في صحيح الترمذي. وفى الأصول:" تأخير الصلاة".
(5) . الزيادة من صحيح الترمذي.(2/167)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ" قِيلَ: هَذَا تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَاهْتِمَامٌ بِهَا، لِأَنَّ مَوْقِعَ التَّحْوِيلِ كَانَ صَعْبًا «1» فِي نُفُوسِهِمْ جِدًّا، فَأَكَّدَ الْأَمْرَ لِيَرَى النَّاسُ الِاهْتِمَامَ بِهِ فَيَخِفُّ عَلَيْهِمْ وَتَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأَوَّلِ: وَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْكَعْبَةِ، أَيْ عَايِنْهَا إِذَا صَلَّيْتَ تِلْقَاءَهَا. ثم قال:" وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ" مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا" فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ". ثُمَّ قَالَ:" وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ" يَعْنِي وُجُوبَ الِاسْتِقْبَالِ فِي الْأَسْفَارِ، فَكَانَ هَذَا أَمْرًا بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ مِنْ نَوَاحِي الْأَرْضِ. قُلْتُ: هَذَا الْقَوْلُ أَحْسَنُ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ فِيهِ حَمْلُ كُلِّ آيَةٍ عَلَى فَائِدَةٍ. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رَاحِلَتِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَكَبَّرَ ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ. قَالَ: وَفِيهِ نَزَلَ" فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ" وَقَدْ تَقَدَّمَ. قُلْتُ: وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَوْلَى، وَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَيُرْوَى أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ سُئِلَ مَا مَعْنَى تَكْرِيرِ الْقَصَصِ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ لَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ، فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْقِصَّةُ مُكَرَّرَةً لَجَازَ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ وَلَا تَكُونُ عِنْدَ بَعْضٍ، فَكُرِّرَتْ لِتَكُونَ عِنْدَ مَنْ حَفِظَ الْبَعْضَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ" قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ. وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُمْ: رَاجَعْتَ قِبْلَتَنَا، وَقَدْ أُجِيبُوا عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ:" قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ". وَقِيلَ: مَعْنَى" لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ" لِئَلَّا يَقُولُوا لَكُمْ: قَدْ أُمِرْتُمْ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ وَلَسْتُمْ تَرَوْنَهَا، فلما قال عز وجل:" وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ"
__________
(1) . في نسخ الأصل:" كان معنى". والتصويب عن تفسير ابن عطية.(2/168)
زَالَ هَذَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِنَّ" إِلَّا" هَا هُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَيْ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «1» :
مَا بِالْمَدِينَةِ دَارٌ غَيْرُ وَاحِدَةٍ ... دَارُ الْخَلِيفَةِ إِلَّا دَارُ مَرْوَانَا
كَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا دَارُ الْخَلِيفَةِ وَدَارُ مَرْوَانَ، وَكَذَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ «2» " أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا. وَأَبْطَلَ الزَّجَّاجُ هَذَا الْقَوْلَ وَقَالَ: هَذَا خَطَأٌ عِنْدَ الْحُذَّاقِ مِنَ النَّحْوِيِّينَ، وَفِيهِ بُطْلَانُ الْمَعَانِي، وَتَكُونُ" إِلَّا" وَمَا بَعْدَهَا مُسْتَغْنًى عَنْ ذِكْرِهِمَا. وَالْقَوْلُ عِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ، أَيْ لَكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: أَيْ عَرَّفَكُمُ اللَّهُ أمر الاحتجاج في القبلة في قوله:"- لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
"" ولِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ" إِلَّا مَنْ ظَلَمَ بِاحْتِجَاجِهِ فِيمَا قَدْ وَضَحَ لَهُ، كَمَا تَقُولُ: مالك عَلَيَّ حُجَّةٌ إِلَّا الظُّلْمَ أَوْ إِلَّا أَنْ تظلمني، أي مالك حُجَّةٌ أَلْبَتَّةَ وَلَكِنَّكَ تَظْلِمُنِي، فَسَمَّى ظُلْمَهُ حُجَّةً لِأَنَّ الْمُحْتَجَّ بِهِ سَمَّاهُ حُجَّةً وَإِنْ كَانَتْ دَاحِضَةً. وَقَالَ قُطْرُبُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، فَالَّذِينَ بَدَلٌ مِنَ الْكَافِ وَالْمِيمِ فِي" عَلَيْكُمْ". وَقَالَتْ فِرْقَةٌ:" إِلَّا الَّذِينَ" اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ وَقَالَ: نَفَى اللَّهُ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ حُجَّةٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي اسْتِقْبَالِهِمْ الْكَعْبَةَ. وَالْمَعْنَى: لَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْحُجَّةَ الدَّاحِضَةَ. حَيْثُ قَالُوا: مَا وَلَّاهُمْ، وَتَحَيَّرَ مُحَمَّدٌ فِي دِينِهِ، وَمَا تَوَجَّهَ إِلَى قِبْلَتِنَا إِلَّا أَنَّا كُنَّا أَهْدَى مِنْهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي لَمْ تَنْبَعِثْ إِلَّا مِنْ عَابِدِ وَثَنٍ أَوْ يَهُودِيٍّ أَوْ مُنَافِقٍ. وَالْحُجَّةُ بِمَعْنَى الْمُحَاجَّةِ الَّتِي هِيَ الْمُخَاصَمَةُ وَالْمُجَادَلَةُ. وَسَمَّاهَا اللَّهُ حُجَّةً وَحَكَمَ بِفَسَادِهَا حَيْثُ كَانَتْ مِنْ ظَلَمَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، وَهَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْيَهُودَ، ثُمَّ اسْتَثْنَى كُفَّارَ الْعَرَبِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا يُحَاجُّونَكُمْ، وَقَوْلُهُ" مِنْهُمْ" يَرُدُّ هَذَا التَّأْوِيلَ. وَالْمَعْنَى لَكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، يَعْنِي كُفَّارَ قُرَيْشٍ فِي قولهم: رجع محمد إلى قبلتنا
__________
(1) . هو الفرزدق، وأراد مروان بن الحكم. (عن شرح الشواهد) .
(2) . راجع ج 20 ص 116.(2/169)
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
وَسَيَرْجِعُ إِلَى دِينِنَا كُلِّهِ. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي النَّازِلَةِ مِنْ غَيْرِ الْيَهُودِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ زَيْدٍ" أَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ عَلَى مَعْنَى اسْتِفْتَاحِ الْكَلَامِ، فَيَكُونُ" الَّذِينَ ظَلَمُوا" ابْتِدَاءٌ، أَوْ عَلَى مَعْنَى الْإِغْرَاءِ، فَيَكُونُ" الَّذِينَ" مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَلا تَخْشَوْهُمْ" يُرِيدُ النَّاسَ" وَاخْشَوْنِي" الْخَشْيَةُ أَصْلُهَا طُمَأْنِينَةٌ فِي الْقَلْبِ تَبْعَثُ عَلَى التَّوَقِّي. وَالْخَوْفُ: فَزَعُ الْقَلْبِ تَخِفُّ لَهُ الْأَعْضَاءُ، وَلِخِفَّةِ الْأَعْضَاءِ بِهِ سُمِّيَ خَوْفًا. وَمَعْنَى الْآيَةِ التَّحْقِيرُ لِكُلِّ مَنْ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَمْرُ بِاطِّرَاحِ أَمْرِهِمْ وَمُرَاعَاةِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ" مَعْطُوفٌ عَلَى" لِئَلَّا يَكُونَ" أَيْ وَلِأَنْ أُتِمَّ، قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقِيلَ: مَقْطُوعٌ «1» فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مُضْمَرٌ، التَّقْدِيرُ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ عَرَّفْتُكُمْ قِبْلَتِي، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ الْهِدَايَةُ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَقِيلَ: دُخُولُ الْجَنَّةِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَلَمْ تَتِمَّ نِعْمَةُ الله على عبد حتى يدخله الجنة. و" لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" تقدم «2» .
[سورة البقرة (2) : آية 151]
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" كَما أَرْسَلْنا" الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى النَّعْتِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، الْمَعْنَى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ إِتْمَامًا مِثْلَ مَا أَرْسَلْنَا، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ، أَيْ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِي بَيَانِ سُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِثْلَ مَا أَرْسَلْنَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ اهْتِدَاءً مِثْلَ مَا أَرْسَلْنَا. وَقِيلَ: هِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَعْنَى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَالتَّشْبِيهُ وَاقِعٌ عَلَى أَنَّ النِّعْمَةَ فِي الْقِبْلَةِ كَالنِّعْمَةِ فِي الرِّسَالَةِ، وَأَنَّ الذِّكْرَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي عِظَمِهِ كَعِظَمِ النِّعْمَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أي فاذكروني
__________
(1) . نص العبارة في البحر المحيط لابي حيان:" وقيل: تتعلق اللام بفعل مؤخر، التقدير: ولأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي".
(2) . يراجع ج 1 ص 160 طبعه ثانية.(2/170)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
كَمَا أَرْسَلْنَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ. أَيْ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا تَعْرِفُونَهُ بِالصِّدْقِ فَاذْكُرُونِي بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ. وَالْوَقْفُ عَلَى" تَهْتَدُونَ" عَلَى هَذَا الْقَوْلِ جَائِزٌ. قُلْتُ: وَهَذَا اخْتِيَارُ التِّرْمِذِيِّ الْحَكِيمِ فِي كِتَابِهِ، أَيْ كَمَا فَعَلْتُ بِكُمْ هَذَا مِنَ الْمِنَنِ الَّتِي عَدَدْتُهَا عَلَيْكُمْ فَاذْكُرُونِي بِالشُّكْرِ أَذْكُرُكُمْ بِالْمَزِيدِ، لِأَنَّ فِي ذِكْرِكُمْ ذَلِكَ شُكْرًا لِي، وَقَدْ وَعَدْتُكُمْ بِالْمَزِيدِ عَلَى الشُّكْرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:" لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «1» "، فَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ" كَما" هُنَا، وَفِي الْأَنْفَالِ" كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ «2» " وَفِي آخِرِ الْحِجْرِ" كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ" مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا بعده، على ما يأتي بيانه «3» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 152 الى 153]
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ" أَمْرٌ وَجَوَابُهُ، وَفِيهِ مَعْنَى الْمُجَازَاةِ فَلِذَلِكَ جُزِمَ. وَأَصْلُ الذِّكْرِ التَّنَبُّهُ بِالْقَلْبِ لِلْمَذْكُورِ وَالتَّيَقُّظُ لَهُ. وَسُمِّيَ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ ذِكْرًا لِأَنَّهُ دَلَالَةٌ عَلَى الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ إِطْلَاقُ الذِّكْرِ عَلَى الْقَوْلِ اللِّسَانِيِّ صَارَ هُوَ السَّابِقَ لِلْفَهْمِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: اذْكُرُونِي بِالطَّاعَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالثَّوَابِ وَالْمَغْفِرَةِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقَالَ أَيْضًا: الذِّكْرُ طَاعَةُ اللَّهِ، فَمَنْ لَمْ يُطِعْهُ لَمْ يَذْكُرْهُ وَإِنْ أَكْثَرَ التَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ وَقِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهَ وَإِنْ أَقَلَّ صَلَاتَهُ وَصَوْمَهُ وَصَنِيعَهُ لِلْخَيْرِ وَمَنْ عَصَى اللَّهَ فَقَدْ نَسِيَ اللَّهَ وَإِنْ كَثَّرَ صَلَاتَهُ وَصَوْمَهُ وَصَنِيعَهُ لِلْخَيْرِ) ، ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ فِي" أَحْكَامِ الْقُرْآنِ" لَهُ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: إِنِّي لَأَعْلَمَ السَّاعَةَ الَّتِيِ يَذْكُرُنَا اللَّهُ فِيهَا، قِيلَ لَهُ: وَمِنْ أَيْنَ تَعْلَمُهَا؟ قَالَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ". وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَذْكُرُ اللَّهَ إِلَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، لَا يَذْكُرُهُ مُؤْمِنٌ إِلَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَلَا يَذْكُرُهُ كَافِرٌ إِلَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ بعذاب. وسيل أَبُو عُثْمَانَ فَقِيلَ لَهُ: نَذْكُرُ اللَّهَ وَلَا نَجِدُّ فِي قُلُوبِنَا حَلَاوَةً؟ فَقَالَ: احْمَدُوا اللَّهَ تعالى على أن زين جارحة من جواركم بِطَاعَتِهِ. وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرًا عَلَى الْحَقِيقَةِ نسي في جنب ذكره
__________
(1) . راجع ج 9 ص 343. [.....]
(2) . راجع ج 7 ص 367.
(3) . راجع ج 10 ص 57(2/171)
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
كل شي، وحفظ الله عليه كل شي، وكان له عوضا من كل شي. وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ مِنْ عَمَلٍ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ. وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِ الذِّكْرِ وَثَوَابِهِ كَثِيرَةٌ خَرَّجَهَا الْأَئِمَّةُ. رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَنْبِئْنِي مِنْهَا بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ: (لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) . وَخُرِّجَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا هُوَ ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ) . وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْبَابِ مَزِيدُ بَيَانٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً «1» " وَأَنَّ الْمُرَادَ ذِكْرُ الْقَلْبِ الَّذِي يَجِبُ اسْتِدَامَتُهُ فِي عُمُومِ الْحَالَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ" قَالَ الْفَرَّاءُ يُقَالُ: شَكَرْتُكَ وَشَكَرْتُ لَكَ، وَنَصَحْتُكَ وَنَصَحْتُ لَكَ، وَالْفَصِيحُ الْأَوَّلُ «2» . وَالشُّكْرُ مَعْرِفَةُ الْإِحْسَانِ وَالتَّحَدُّثُ بِهِ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الظُّهُورُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «3» . فَشُكْرُ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ بِذِكْرِ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ، وَشُكْرُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ لِلْعَبْدِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ بِطَاعَتِهِ لَهُ، إِلَّا أَنَّ شُكْرَ الْعَبْدِ نُطْقٌ بِاللِّسَانِ وَإِقْرَارٌ بِالْقَلْبِ بِإِنْعَامِ الرَّبِّ مَعَ الطَّاعَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا تَكْفُرُونِ" نَهْيٌ، وَلِذَلِكَ حُذِفَتْ مِنْهُ نُونُ الْجَمَاعَةِ، وَهَذِهِ نُونُ الْمُتَكَلِّمِ. وَحُذِفَتِ الْيَاءُ لِأَنَّهَا رَأْسُ آيَةٍ، وَإِثْبَاتُهَا أَحْسَنُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ، أَيْ لَا تَكْفُرُوا نِعْمَتِي وَأَيَادِيَّ. فَالْكُفْرُ هُنَا سَتْرُ النِّعْمَةِ لَا التَّكْذِيبُ. وَقَدْ مضى القول في الكفر «4» لغة، مضى الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الِاسْتِعَانَةِ «5» بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، فَلَا معنى للإعادة.
[سورة البقرة (2) : آية 154]
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)
__________
(1) . راجع ج 14 ص 197.
(2) . الذي في معاجم اللغة أن الفصيح الثاني.
(3) . تراجع المسألة الثالثة وما بعدها ج 1 ص 397 طبعه ثانية.
(4) . يراجع ج 1 ص 183.
(5) . يراجع ج 1 ص 371 طبعه ثانية.(2/172)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ"، وَهُنَاكَ «1» يَأْتِي الْكَلَامُ فِي الشُّهَدَاءِ وَأَحْكَامِهِمْ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يُحْيِيهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ لِيَرْزُقَهُمْ- عَلَى مَا يَأْتِي- فَيَجُوزُ أَنْ يُحْيِيَ الْكُفَّارَ لِيُعَذِّبَهُمْ، وَيَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ. وَالشُّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ سَيَحْيَوْنَ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الشُّهَدَاءِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ فَرْقٌ إِذْ كُلُّ أَحَدٍ سَيَحْيَا. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلكِنْ لَا تَشْعُرُونَ" وَالْمُؤْمِنُونَ يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ سَيَحْيَوْنَ. وَارْتَفَعَ" أَمْواتٌ" عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، وَكَذَلِكَ" بَلْ أَحْياءٌ" أَيْ هُمْ أَمْوَاتٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَلَا يَصِحُّ إِعْمَالُ الْقَوْلِ فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَنَاسُبٌ، كَمَا يَصِحُّ فِي قَوْلِكَ: قُلْتُ كَلَامًا وَحُجَّةً.
[سورة البقرة (2) : آية 155]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ" هَذِهِ الْوَاوُ مَفْتُوحَةٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا ضُمَّتْ إِلَى النُّونِ الثَّقِيلَةِ بُنِيَ الْفِعْلُ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَالْبَلَاءُ يَكُونُ حَسَنًا وَيَكُونُ سَيِّئًا. وَأَصْلُهُ الْمِحْنَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «2» . والمعنى لنمتحننكم لِنَعْلَمَ الْمُجَاهِدَ وَالصَّابِرَ عِلْمَ مُعَايَنَةٍ حَتَّى يَقَعَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا ابْتُلُوا بِهَذَا لِيَكُونَ آيَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ فَيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ إِنَّمَا صَبَرُوا عَلَى هَذَا حِينَ وَضَحَ لَهُمُ الْحَقُّ. وَقِيلَ: أَعْلَمَهُمْ بِهَذَا لِيَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْهُ أَنَّهُ يُصِيبُهُمْ، فَيُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِ فَيَكُونُوا أَبْعَدَ لَهُمْ مِنَ الْجَزَعِ، وَفِيهِ تَعْجِيلُ ثَوَابِ الله تعالى على العزم وتوطين النفس. قوله تعالى:" بِشَيْءٍ" لَفْظٌ مُفْرَدٌ وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ" بِأَشْيَاءَ" عَلَى الْجَمْعِ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّوْحِيدِ، أَيْ بِشَيْءٍ من هذا وشئ مِنْ هَذَا، فَاكْتَفَى بِالْأَوَّلِ إِيجَازًا" مِنَ الْخَوْفِ" أَيْ خَوْفِ الْعَدُوِّ وَالْفَزَعِ فِي الْقِتَالِ، قَالَهُ ابن عباس. وقال الشافعي: هو خوف
__________
(1) . راجع ج 4 ص 268.
(2) . تراجع المسألة الثالثة عشرة ج 1 ص 387 طبعه ثانية.(2/173)
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ." وَالْجُوعِ" يَعْنِي الْمَجَاعَةَ بِالْجَدْبِ وَالْقَحْطِ، فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ الْجُوعُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ" وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ" بسبب الاشتغال بقتال الكفار. وقيل: الجوائح الْمُتْلِفَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بِالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ." وَالْأَنْفُسِ" قَالَ ابن عباس: بالقتل ولموت فِي الْجِهَادِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَعْنِي بِالْأَمْرَاضِ." وَالثَّمَراتِ" قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُرَادُ مَوْتُ الْأَوْلَادِ، وَوَلَدُ الرَّجُلِ ثَمَرَةُ قَلْبِهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ، عَلَى مَا يَأْتِي. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ قِلَّةُ النَّبَاتِ وَانْقِطَاعُ الْبَرَكَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" أَيْ بِالثَّوَابِ عَلَى الصَّبْرِ. وَالصَّبْرُ أَصْلُهُ الْحَبْسُ، وَثَوَابُهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «1» . لَكِنْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِالصَّبْرِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى) . وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَتَمَّ مِنْهُ، أَيْ إِنَّمَا الصَّبْرُ الشَّاقُّ عَلَى النَّفْسِ الَّذِي يَعْظُمُ الثَّوَابُ عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ هُجُومِ الْمُصِيبَةِ وَحَرَارَتِهَا، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْقَلْبِ وَتَثَبُّتِهِ فِي مَقَامِ الصَّبْرِ، وَأَمَّا إِذَا بَرَدَتْ حَرَارَةُ الْمُصِيبَةِ فَكُلُّ أَحَدٍ يَصْبِرُ إِذْ ذَاكَ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَلْتَزِمَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ مَا لَا بُدَّ لِلْأَحْمَقِ مِنْهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: لَمَّا قَالَ تَعَالَى:" وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" صَارَ الصَّبْرُ عَيْشًا «2» . وَالصَّبْرُ صَبْرَانِ: صَبْرٌ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَهَذَا مُجَاهِدٌ، وَصَبْرٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، فَهَذَا عَابِدٌ. فَإِذَا صَبَرَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَصَبَرَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ أَوْرَثَهُ اللَّهُ الرِّضَا بِقَضَائِهِ، وَعَلَامَةُ الرِّضَا سُكُونُ الْقَلْبِ بِمَا وَرَدَ عَلَى النَّفْسِ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمَحْبُوبَاتِ. وَقَالَ الْخَوَّاصُ: الصَّبْرُ الثَّبَاتُ عَلَى أَحْكَامِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ رُوَيْمٌ: الصَّبْرُ تَرْكُ الشَّكْوَى. وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: الصَّبْرُ هُوَ الِاسْتِعَانَةُ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ: الصَّبْرُ حَدُّهُ أَلَّا تَعْتَرِضَ عَلَى التَّقْدِيرِ، فَأَمَّا إِظْهَارُ الْبَلْوَى عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الشَّكْوَى فَلَا يُنَافِي الصَّبْرَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ:" إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ «3» " مَعَ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ أنه قال:" مَسَّنِيَ الضُّرُّ".
__________
(1) . راجع ج 1 ص 371.
(2) . هكذا في جميع النسخ التي بأيدينا.
(3) . راجع ج 15 ص 215.(2/174)
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
[سورة البقرة (2) : الآيات 156 الى 157]
الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" مُصِيبَةٌ" الْمُصِيبَةِ: كُلُّ مَا يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ وَيُصِيبُهُ، يُقَالُ: أَصَابَهُ إِصَابَةً وَمُصَابَةً وَمُصَابًا. وَالْمُصِيبَةُ وَاحِدَةُ الْمَصَائِبِ. وَالْمَصُوبَةُ (بِضَمِ الصَّادِ) مِثْلُ الْمُصِيبَةِ. وَأَجْمَعَتِ الْعَرَبُ عَلَى هَمْزِ الْمَصَائِبِ، وَأَصْلُهُ الْوَاوُ، كَأَنَّهُمْ شَبَّهُوا الْأَصْلِيَّ بِالزَّائِدِ، وَيُجْمَعُ عَلَى مَصَاوِبَ، وَهُوَ الْأَصْلُ. وَالْمُصَابُ الْإِصَابَةُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَسُلَيْمُ إِنَّ مُصَابَكُمْ رَجُلًا ... أَهْدَى السَّلَامَ تَحِيَّةً ظُلْمُ
وَصَابَ السَّهْمُ الْقِرْطَاسُ يُصِيبُ صبيا، لُغَةٌ فِي أَصَابَهُ. وَالْمُصِيبَةُ: النَّكْبَةُ يُنْكَبُهَا الْإِنْسَانُ وَإِنْ صَغُرَتْ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ، رَوَى عِكْرِمَةُ أَنَّ مِصْبَاحَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْطَفَأَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ:" إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ" فَقِيلَ: أَمُصِيبَةٌ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (نَعَمْ كُلُّ مَا آذَى الْمُؤْمِنِ فَهُوَ مُصِيبَةٌ) . قُلْتُ: هَذَا ثَابِتٌ مَعْنَاهُ فِي الصَّحِيحِ، خَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنُ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا سَقَمٍ وَلَا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ «1» إِلَّا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ) . الثَّانِيَةُ- خَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنْ هِشَامِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أُمِّهِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَذَكَرَ مُصِيبَتَهُ فَأَحْدَثَ اسْتِرْجَاعًا وَإِنْ تَقَادَمَ عَهْدُهَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الأجر مثله يوم أصيب) .
__________
(1) . قال النوى في شرحه على صحيح مسلم:" قال القاضي: هو بضم الياء وفتح الهاء على ما لم يسم فاعله، وضبطه غيره بفتح الياء وضم الهاء، أي يغمه، وكلاهما صحيح".(2/175)
الثَّالِثَةُ- مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ الْمُصِيبَةُ فِي الدِّينِ، ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ عَنِ الْفِرْيَابِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا فِطْرُ بْنُ خَلِيفَةَ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا أَصَابَ أَحَدُكُمْ مُصِيبَةً فَلْيَذْكُرْ مُصَابَهُ بِي فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ) . أَخْرَجَهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مُسْنَدِهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: أَنْبَأَنَا فِطْرٌ ... ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً. وَأَسْنَدَ مِثْلَهُ عَنْ مَكْحُولٍ مُرْسَلًا. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَصَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ الْمُصِيبَةَ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا الْمُسْلِمُ بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، انْقَطَعَ الْوَحْيُ وَمَاتَتِ النُّبُوَّةُ. وَكَانَ أَوَّلَ ظُهُورِ الشَّرِّ بِارْتِدَادِ الْعَرَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ أَوَّلَ انْقِطَاعِ الْخَيْرِ وَأَوَّلَ نُقْصَانِهِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: مَا نَفَضْنَا أَيْدِينَا مِنَ التُّرَابِ مِنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا. وَلَقَدْ أَحْسَنَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ فِي نَظْمِهِ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ حَيْثُ يَقُولُ:
اصْبِرْ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ وَتَجَلَّدِ ... وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَرْءَ غَيْرُ مُخَلَّدِ
أَوَمَا تَرَى أَنَّ الْمَصَائِبَ جَمَّةٌ ... وَتَرَى الْمَنِيَّةَ لِلْعِبَادِ بِمَرْصَدِ
مَنْ لَمْ يُصَبْ مِمَّنْ تَرَى بِمُصِيبَةٍ؟ ... هَذَا سَبِيلٌ لَسْتَ فِيهِ بِأَوْحَدِ
فَإِذَا ذَكَرْتَ مُحَمَّدًا وَمُصَابَهُ ... فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ" جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مَلْجَأً لِذَوِي الْمَصَائِبِ، وَعِصْمَةً لِلْمُمْتَحَنِينَ: لِمَا جَمَعَتْ مِنَ الْمَعَانِي الْمُبَارَكَةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ:" إِنَّا لِلَّهِ" تَوْحِيدٌ وَإِقْرَارٌ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالْمُلْكِ. وَقَوْلُهُ:" وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ" إِقْرَارٌ بِالْهَلْكِ، عَلَى أَنْفُسِنَا وَالْبَعْثِ مِنْ قُبُورِنَا، وَالْيَقِينُ أَنَّ رُجُوعَ الْأَمْرِ كُلِّهِ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ لَهُ. قَالَ سَعِيدُ ابن جُبَيْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَمْ تُعْطَ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ نَبِيًّا قَبْلَ نَبِيِّنَا، وَلَوْ عَرَفَهَا يَعْقُوبُ لَمَا قَالَ: يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ. الْخَامِسَةُ- قَالَ أَبُو سِنَانٍ: دَفَنْتُ ابْنِي سِنَانًا، وَأَبُو طَلْحَةَ الْخَوْلَانِيُّ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، فَلَمَّا أَرَدْتُ الْخُرُوجَ أَخَذَ بِيَدَيَّ فَأَنْشَطَنِي وَقَالَ: أَلَا أُبَشِّرُكَ يَا أَبَا سِنَانٍ، حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ أَقَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ أَقَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ فَمَاذَا قال عبدي(2/176)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
فَيَقُولُونَ حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ (. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:) مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ اللَّهُمَّ أَجِرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا (. فَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" إِمَّا بِالْخَلَفِ كَمَا أَخْلَفَ اللَّهُ لِأُمِّ سَلَمَةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ تَزَوَّجَهَا لَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ زَوْجُهَا. وَإِمَّا بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَقَدْ يَكُونُ بِهِمَا. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ" هَذِهِ نِعَمٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الصَّابِرِينَ الْمُسْتَرْجِعِينَ. وَصَلَاةُ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ: عَفْوُهُ وَرَحْمَتُهُ وَبَرَكَتُهُ وَتَشْرِيفُهُ إِيَّاهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْغُفْرَانُ وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ. وَمِنْ هَذَا الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ إِنَّمَا هُوَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءُ لَهُ، وَكَرَّرَ الرَّحْمَةَ لَمَّا اخْتَلَفَ اللَّفْظُ تَأْكِيدًا وَإِشْبَاعًا لِلْمَعْنَى، كَمَا قَالَ:" مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى "، وَقَوْلُهُ" أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ". وَقَالَ الشَّاعِرُ:
صَلَّى عَلَى يَحْيَى وَأَشْيَاعِهِ ... رَبٌّ كَرِيمٌ وَشَفِيعٌ مُطَاعْ
وَقِيلَ: أَرَادَ بِالرَّحْمَةِ كَشْفَ الْكُرْبَةِ وَقَضَاءَ الْحَاجَةِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نِعْمَ الْعِدْلَانِ وَنِعْمَ الْعِلَاوَةُ:" الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ". أَرَادَ بِالْعِدْلَيْنِ الصَّلَاةَ وَالرَّحْمَةَ، وَبِالْعِلَاوَةِ الِاهْتِدَاءَ. قِيلَ: إِلَى اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَإِجْزَالِ الْأَجْرِ، وَقِيلَ: إِلَى تَسْهِيلِ الْمَصَائِبِ وتخفيف الحزن.
[سورة البقرة (2) : آية 158]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)(2/177)
فِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَالَ: كُنَّا نَرَى أَنَّهُمَا مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ أَمْسَكْنَا عَنْهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما". وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: (قُلْتُ لِعَائِشَةَ مَا أَرَى عَلَى أَحَدٍ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ شَيْئًا، وَمَا أُبَالِي أَلَّا أَطُوفَ بَيْنَهُمَا. فَقَالَتْ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي! طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَافَ الْمُسْلِمُونَ، وَإِنَّمَا كَانَ مَنْ أَهَلَّ لِمَنَاةَ «1» الطَّاغِيَةِ الَّتِي بِالْمُشَلَّلِ لَا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما" وَلَوْ كَانَتْ كَمَا تَقُولُ لَكَانَتْ:" فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا". قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إِنَّمَا كَانَ مَنْ لَا يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُونَ إِنَّ طَوَافَنَا بَيْنَ هَذَيْنَ الْحَجَرَيْنِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ: إِنَّمَا أُمِرْنَا بِالطَّوَافِ [بِالْبَيْتِ «2» ] وَلَمْ نُؤْمَرْ بِهِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ" قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: فَأَرَاهَا قَدْ نَزَلَتْ فِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. قَالَ:" هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ، وَفِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى" إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ":" قَالَتْ عَائِشَةُ وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا"، ثُمَّ أَخْبَرَتْ أَبَا بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّاسَ- إِلَّا مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ- مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ بِمَنَاةَ كَانُوا يَطُوفُونَ كُلُّهُمْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ فِي الْقُرْآنِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نَطُوفُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ فَلَمْ يَذْكُرِ الصفا، فهل علينا من حرج أن
__________
(1) . مناة: اسم ضم في جهة البحر مما يلي قديدا بالمشلل (وهو جبل يهبط منه إلى قديد من ناحية البحر) على سبعة أميال من المدينة. وكانت الأزد وغسان يهلون له ويحجون إليه، وكان أول من نصبه عمرو بن لحى الخزاعي. (راجع معجم ياقوت في اسم مناة) . [.....]
(2) . زيادة عن الترمذي.(2/178)
نَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ" الْآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَسْمَعُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا: فِي الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالَّذِينَ يَطُوفُونَ ثُمَّ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا فِي الْإِسْلَامِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا حَتَّى ذَكَرَ ذلك بعد ما ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ". وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ قَالَ: (سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ «1» عَنِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَالَ: كَانَا مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ أَمْسَكْنَا عَنْهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما" قَالَ: هُمَا تَطَوُّعٌ،" وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ". خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ شَيَاطِينُ تَعْزِفُ اللَّيْلَ كُلَّهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَكَانَ بَيْنَهُمَا آلِهَةٌ، فَلَمَّا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ قَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا نَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَإِنَّهُمَا شِرْكٌ، فَنَزَلَتْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ عَلَى الصَّفَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ صَنَمٌ يُسَمَّى" إِسَافًا" وَعَلَى الْمَرْوَةِ صَنَمٌ يُسَمَّى" نَائِلَةَ" فَكَانُوا يَمْسَحُونَهُمَا إِذَا طَافُوا، فَامْتَنَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. الثَّانِيَةُ- أَصْلُ الصَّفَا فِي اللُّغَةِ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ، وَهُوَ هُنَا جَبَلٌ بِمَكَّةَ مَعْرُوفٌ، وَكَذَلِكَ الْمَرْوَةُ جَبَلٌ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ أَخْرَجَهُمَا بِلَفْظِ التَّعْرِيفِ. وَذَكَرَ الصَّفَا لِأَنَّ آدَمَ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَيْهِ فَسُمِّيَ بِهِ، وَوَقَفَتْ حَوَّاءُ عَلَى الْمَرْوَةِ فَسُمِّيَتْ بِاسْمِ الْمَرْأَةِ، فَأُنِّثَ لِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ عَلَى الصَّفَا صَنَمٌ يُسَمَّى" إِسَافًا" وَعَلَى الْمَرْوَةِ صَنَمٌ يُدْعَى" نَائِلَةَ" فَاطُّرِدَ ذَلِكَ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ وَقُدِّمَ الْمُذَكَّرُ، وَهَذَا حَسَنٌ، لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَمَا كَانَ كَرَاهَةُ مَنْ كَرِهَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا إِلَّا مِنْ أَجْلِ هَذَا، حَتَّى رَفَعَ اللَّهُ الْحَرَجَ فِي ذَلِكَ. وَزَعَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُمَا زَنَيَا في الكعبة فمسخهما الله حجرين
__________
(1) . كذا في الأصول وصحيح البخاري وتفسير الطبري. والذي في صحيح الترمذي:" أنس بن سيرين ... ". وهو مولى أنس بن مالك وممن روى عنه.(2/179)
فَوَضَعَهُمَا عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيُعْتَبَرَ بِهِمَا، فَلَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ عُبِدَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَالصَّفَا (مَقْصُورٌ) : جَمْعُ صَفَاةٍ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمُلْسُ. وَقِيلَ: الصَّفَا اسْمٌ مُفْرَدٌ، وَجَمْعُهُ صُفِيٌّ (بِضَمِ الصَّادِ) وَأَصْفَاءٌ عَلَى مِثْلِ أَرْحَاءٍ. قَالَ الرَّاجِزُ «1» :
كَأَنَّ مَتْنَيْهِ «2» مِنَ النَّفِيِّ ... مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ
وَقِيلَ: مِنْ شُرُوطِ الصَّفَا الْبَيَاضُ وَالصَّلَابَةُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ صَفَا يَصْفُو، أَيْ خَلَصَ مِنَ التُّرَابِ وَالطِّينِ. وَالْمَرْوَةُ (وَاحِدَةٌ الْمَرْوِ) وَهِيَ الْحِجَارَةُ الصِّغَارُ الَّتِي فِيهَا لِينٌ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا الصِّلَابُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَرْوَ الْحِجَارَةُ صَلِيبُهَا وَرَخْوُهَا الَّذِي يَتَشَظَّى وَتَرِقُّ حَاشِيَتُهُ، وَفِي هَذَا يُقَالُ: الْمَرْوُ أَكْثَرُ وَيُقَالُ فِي الصَّلِيبِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَتَوَلَّى الْأَرْضَ خَفًّا ذَابِلًا ... فَإِذَا مَا صَادَفَ المرو رضخ
وقال أبو ذؤيب:
حتى كأني لِلْحَوَادِثِ مَرْوَةً ... بِصَفَا الْمُشَقَّرِ «3» كُلَّ يَوْمٍ تُقْرَعُ
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا الْحِجَارَةُ السُّودُ. وَقِيلَ: حِجَارَةٌ بيض براقة تكون فيها النار. الثالثة- قوله تعالى:" مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ" أَيْ مِنْ مَعَالِمِهِ وَمَوَاضِعِ عِبَادَاتِهِ، وَهِيَ جَمْعُ شَعِيرَةٍ. وَالشَّعَائِرُ: الْمُتَعَبَّدَاتُ الَّتِي أَشْعَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى، أَيْ جَعَلَهَا أَعْلَامًا لِلنَّاسِ، مِنَ الْمَوْقِفِ وَالسَّعْيِ وَالنَّحْرِ. وَالشِّعَارُ: الْعَلَامَةُ، يُقَالُ: أَشْعَرَ الْهَدْيَ أَعْلَمَهُ بِغَرْزِ حَدِيدَةٍ فِي سَنَامِهِ، مِنْ قَوْلِكَ: أَشْعَرْتُ أَيْ أَعْلَمْتُ، وَقَالَ الْكُمَيْتُ:
نُقَتِّلُهُمْ جِيلًا فَجِيلًا تَرَاهُمُ ... شَعَائِرَ قُرْبَانٍ بِهِمْ يتقرب
__________
(1) . هو الأخيل، كما في اللسان.
(2) . في اللسان:" قال ابن سيده: كذا أنشده أبو على، وأنشده ابن دريد في الجمهرة:" كأن متني" قال: وهو الصحيح، لقوله بعده: من طول إشرافى على العلوي. والنفي: تطاير الماء عن الرشاء عند الاستقاء. ونفى المطر: ما تنقيه وترشه. قال صاحب اللسان:" وفسره ثعلب فقال: شبه الماء وقد وقع على متن المستقى بذرق الطائر على المصفى".
(3) . المشقر: حضن بالبحرين عظيم لعبد القيس يلي حصنا لهم آخر يقال له الصفا قبل مدينة هجر. ويروى" بصفا المشرق" قال أبو عبيدة: المشرق سوق الطائف. وقال الأصمعي: المشرق المصلى. (عن شرح الديوان ومعجم ياقوت) .(2/180)
الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ" أَيْ قَصَدَ. وَأَصْلُ الْحَجِّ الْقَصْدُ، قَالَ الشَّاعِرُ «1» :
فَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا» كَثِيرَةً ... يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا
السِّبُّ: لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: السِّبُّ (بِالْكَسْرِ) الْكَثِيرُ السِّبَابُ. وَسَبُّكَ أَيْضًا الَّذِي يسابك، قال الشاعر «3» :
لَا تَسُبَّنَّنِي فَلَسْتَ بِسِبِّي ... إِنَّ سِبِّي مِنَ الرِّجَالِ الْكَرِيمُ
وَالسِّبُّ أَيْضًا الْخِمَارُ، وَكَذَلِكَ الْعِمَامَةُ، قَالَ الْمُخَبَّلُ السَّعْدِيُّ:
يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا
وَالسِّبُّ أَيْضًا الْحَبْلُ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ، قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
تَدَلَّى عَلَيْهَا بَيْنَ سِبٍّ وَخَيْطَةٍ ... بِجَرْدَاءَ مِثْلَ الْوَكْفِ يَكْبُو غُرَابُهَا
وَالسُّبُوبُ: الْحِبَالُ. وَالسِّبُّ: شُقَّةُ كَتَّانٍ رَقِيقَةٌ، وَالسَّبِيبَةُ مِثْلُهُ، وَالْجَمْعُ السُّبُوبُ وَالسَّبَائِبُ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَحَجَّ الطَّبِيبُ الشَّجَّةَ إذا سبرها بالميل، قال الشاعر «4» :
يَحُجُّ مَأْمُومَةً «5» فِي قَعْرِهَا لَجَفٌ
اللَّجَفُ: الْخَسْفُ. تَلَجَّفَتِ الْبِئْرُ: انْخَسَفَ أَسْفَلُهَا. ثُمَّ اخْتَصَّ هَذَا الِاسْمُ بِالْقَصْدِ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ لِأَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوِ اعْتَمَرَ" أَيْ زَارَ. والعمرة: الزيارة، قال الشاعر «6» :
لَقَدْ سَمَا ابْنُ مَعْمَرٍ حِينَ اعْتَمَرْ ... مَغْزًى بعيدا من بعيد وضبر «7»
__________
(1) . هو المخبل السعدي كما سيجيء.
(2) . الحلول: الأحياء المجتمعة، وهو جمع حال. والمزعفر: الملون بالزعفران، وسادات العرب تصبغ عما ثمها بالزعفران.
(3) . هو عبد الرحمن بن حسان يهجو مسكينا الدارمي. (عن اللسان) .
(4) . هو عذار بن درة الطائي، كما في اللسان. وتمام البيت:
فاست الطبيب قذاها كالمغاريد
(5) . المأمومة: الشجة التي بلغت أم الرأس، وهى الجلدة التي تجمع الدماغ. وفى اللسان:" وفسر ابن دريد هذا الشعر فقال: وصف هذا الشاعر طبيبا يداوى شجة بعيدة القعر فهو يجزع من هولها، فالقذى يتساقط من استه كالمغاريد". والمغاريد: جمع مغرود وهو صمغ معروف.
(6) . هو العجاج يمدح عمر بن عبيد الله القرشي. عن اللسان.
(7) . ضمير: جمع قوائمه ليثب.(2/181)
السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَلا جُناحَ عَلَيْهِ" أَيْ لَا إِثْمَ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْجُنُوحِ وَهُوَ الْمَيْلُ، وَمِنْهُ الْجَوَانِحُ لِلْأَعْضَاءِ لِاعْوِجَاجِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَأْوِيلُ عَائِشَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ" وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَ، إِبَاحَةُ الْفِعْلِ. وَقَوْلُهُ: لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ أَلَّا تَفْعَلَ، إِبَاحَةٌ لِتَرْكِ الْفِعْلِ، فَلَمَّا سَمِعَ عُرْوَةُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى:" فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما" قَالَ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الطَّوَافِ جَائِزٌ، ثُمَّ رَأَى الشَّرِيعَةَ مُطْبِقَةً عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لَا رُخْصَةَ فِي تَرْكِهِ فَطَلَبَ الْجَمْعَ بَيْنَ هَذَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ. فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: لَيْسَ قَوْلُهُ:" فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما" دَلِيلًا عَلَى تَرْكِ الطَّوَافِ، إِنَّمَا كَانَ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى تَرْكِهِ لَوْ كَانَ" فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا" فَلَمْ يَأْتِ هَذَا اللَّفْظُ لِإِبَاحَةِ تَرْكِ الطَّوَافِ، وَلَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ لِإِفَادَةِ إِبَاحَةِ الطَّوَافِ لِمَنْ كَانَ يَتَحَرَّجُ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ لِمَنْ كَانَ يَطُوفُ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَصْدًا لِلْأَصْنَامِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الطَّوَافَ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ إِذَا لَمْ يَقْصِدِ الطَّائِفُ قَصْدًا بَاطِلًا". فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ" فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا" وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَيُرْوَى أَنَّهَا فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ كَذَلِكَ، وَيُرْوَى عَنْ أَنَسٍ مِثْلُ هَذَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ مَا فِي الْمُصْحَفِ، وَلَا يُتْرَكُ مَا قَدْ ثَبَتَ فِي الْمُصْحَفِ إِلَى قِرَاءَةٍ لَا يُدْرَى أَصَحَّتْ أَمْ لَا، وَكَانَ عَطَاءٌ يُكْثِرُ الْإِرْسَالَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ. وَالرِّوَايَةُ فِي هَذَا عَنْ أَنَسٍ قَدْ قِيلَ إِنَّهَا لَيْسَتْ بِالْمَضْبُوطَةِ، أَوْ تَكُونُ" لَا" زَائِدَةَ لِلتَّوْكِيدِ، كَمَا قَالَ:
وَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَلَّا تَسْخَرَا ... لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمْطَ الْقَفَنْدَرَا «1»
السَّابِعَةُ- رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا فَقَرَأَ:" وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى" وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ، ثُمَّ أَتَى الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ قَالَ: (نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ) فَبَدَأَ بِالصَّفَا وَقَالَ «2» " إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ"
__________
(1) . القفندر: القبيح المنظر.
(2) . الذي في صحيح الترمذي:" وقرأ". [.....](2/182)
قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِالصَّفَا قَبْلَ الْمَرْوَةِ، فَإِنْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ قَبْلَ الصَّفَا لَمْ يُجْزِهِ وَيَبْدَأُ بِالصَّفَا. الثَّامِنَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ: هُوَ رُكْنٌ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ) . خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَكَتَبَ بِمَعْنَى أَوْجَبَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ"، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ) . وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أُمِّ وَلَدٍ لِشَيْبَةَ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَهُوَ يَقُولُ: (لَا يُقْطَعُ الْأَبْطَحُ إِلَّا شَدًّا «1» ) فَمَنْ تَرَكَهُ أَوْ شَوْطًا مِنْهُ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا رَجَعَ مِنْ بَلَدِهِ أَوْ مِنْ حَيْثُ ذَكَرَ إِلَى مَكَّةَ، فَيَطُوفُ وَيَسْعَى، لِأَنَّ السَّعْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا مُتَّصِلًا بِالطَّوَافِ. وَسَوَاءٌ عِنْدَ مَالِكٍ كَانَ ذَلِكَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعُمْرَةِ فَرْضًا، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَصَابَ النِّسَاءَ فَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَهَدْيٌ عِنْدَ مَالِكٍ مَعَ تَمَامِ مَنَاسِكِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ هَدْيٌ، وَلَا مَعْنَى لِلْعُمْرَةِ إِذَا رَجَعَ وَطَافَ وَسَعَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَإِنْ تَرَكَهُ أَحَدٌ مِنَ الْحَاجِّ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بِلَادِهِ جَبَرَهُ بِالدَّمِ، لِأَنَّهُ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ «2» . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَنْسِ بْنِ مَالِكٍ وَابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ تَطَوُّعٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً". وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" يَطَّوَّعُ" مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ، وَكَذَلِكَ" فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ" الْبَاقُونَ" تَطَوَّعَ" مَاضٍ، وَهُوَ مَا يَأْتِيهِ الْمُؤْمِنُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَمَنْ أَتَى بِشَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ فَإِنَّ اللَّهَ يَشْكُرُهُ. وَشُكْرُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ إِثَابَتُهُ عَلَى الطَّاعَةِ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَا ذَكَرْنَا، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ) فَصَارَ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْحَجِّ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا، كَبَيَانِهِ لِعَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَمَا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يُتَّفَقْ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ أَوْ تَطَوُّعٌ. وَقَالَ طُلَيْبٌ: رَأَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْمًا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَالَ: هَذَا مَا أَوْرَثَتْكُمْ أمكم أم إسماعيل.
__________
(1) . شدا: أي عدوا.
(2) . العتبية: كتاب في مذهب الامام مالك، نسبت إلى مؤلفها فقيه الأندلسي محمد بن أحمد بن عبد العزيز العتبى القرطبي المتوفى سنة 254 هـ.(2/183)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)
قُلْتُ: وَهَذَا ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" إِبْرَاهِيمَ «1» ". التَّاسِعَةُ- وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَطُوفَ أَحَدٌ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ رَاكِبًا إِلَّا مِنْ عُذْرٍ، فَإِنْ طَافَ مَعْذُورًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ طَافَ غَيْرَ مَعْذُورٍ أَعَادَ إِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الْبَيْتِ، وَإِنْ غَابَ عَنْهُ أَهْدَى. إِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ بِنَفْسِهِ وَقَالَ: (خُذُوا عَنِّي مَنَاسِككُمْ) . وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ مِنَ الْعُذْرِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ عَلَى بَعِيرِهِ وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ بِمِحْجَنِهِ «2» ، وَقَالَ لِعَائِشَةَ وَقَدْ قَالَتْ لَهُ: إِنِّي أَشْتَكِي، فَقَالَ: (طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ) . وَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا بَيْنَ أَنْ يَطُوفَ عَلَى بَعِيرٍ أَوْ يَطُوفَ عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ، فَإِنْ طَافَ عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ طَائِفًا، وَإِنَّمَا الطَّائِفُ الْحَامِلُ. وَإِذَا طَافَ عَلَى بَعِيرٍ يَكُونُ هُوَ الطَّائِفُ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَهَذِهِ تَفْرِقَةُ اخْتِيَارٍ، وَأَمَّا الْإِجْزَاءُ فَيُجْزِئُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَطِيفَ بِهِ مَحْمُولًا، أَوْ وُقِفَ به بعرفات محمولا كان مجزئا عنه.
[سورة البقرة (2) : آية 159]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159)
فيه سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي يَكْتُمُ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مَلْعُونٌ. وَاخْتَلَفُوا مَنِ الْمُرَادِ بِذَلِكَ، فَقِيلَ: أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَرُهْبَانُ النَّصَارَى الَّذِينَ كَتَمُوا أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَتَمَ الْيَهُودُ أَمْرَ الرَّجْمِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ كُلُّ مَنْ كَتَمَ الْحَقَّ، فَهِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ كَتَمَ عِلْمًا مِنْ دِينِ اللَّهِ يُحْتَاجُ إِلَى بَثِّهِ، وَذَلِكَ مُفَسَّرٌ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ [يَعْلَمُهُ «3» ] فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ) . رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَيُعَارِضُهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةٌ. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (حَدِّثِ النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ أَتُحِبُّونَ أن
__________
(1) . راجع ج 9 ص 368.
(2) . المحجن: عصا معوجة الرأس يتناول بها الراكب ما سقط له.
(3) . الزيادة عن سنن ابن ماجة.(2/184)
يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ (. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى بَعْضِ الْعُلُومِ، كَعِلْمِ الْكَلَامِ أَوْ مَا لَا يَسْتَوِي فِي فَهْمِهِ جَمِيعُ الْعَوَامِّ، فَحُكْمُ الْعَالِمِ أَنْ يُحَدِّثَ بِمَا يُفْهَمُ عَنْهُ، وَيُنْزِلَ كُلَّ إِنْسَانٍ مَنْزِلَتَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الَّتِي أَرَادَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: لَوْلَا «1» آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا حَدَّثْتُكُمْ حَدِيثًا. وَبِهَا اسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَبْلِيغِ الْعِلْمِ الْحَقِّ، وَتِبْيَانِ الْعِلْمِ عَلَى الْجُمْلَةِ، دُونَ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ، إِذْ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ عَلَى مَا عَلَيْهِ فِعْلُهُ، كَمَا لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ «2» فِي هَذَا. وَتَحْقِيقُ الْآيَةِ هُوَ: أَنَّ الْعَالِمَ إِذَا قَصَدَ كِتْمَانَ الْعِلْمِ عَصَى، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّبْلِيغُ إِذَا عُرِفَ أَنَّهُ مَعَ غَيْرِهِ. وَأَمَّا مَنْ سُئِلَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّبْلِيغُ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَلِلْحَدِيثِ. أَمَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْلِيمُ الْكَافِرِ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ حَتَّى يُسْلِمَ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَعْلِيمُ الْمُبْتَدِعِ الْجِدَالَ وَالْحِجَاجَ لِيُجَادِلَ بِهِ أَهْلَ الْحَقِّ، وَلَا يُعَلَّمُ الْخَصْمُ عَلَى خَصْمِهِ حُجَّةً يَقْطَعُ بِهَا مَالَهُ، وَلَا السُّلْطَانُ تَأْوِيلًا يَتَطَرَّقُ بِهِ إِلَى مَكَارِهَ الرَّعِيَّةِ، وَلَا يَنْشُرُ الرُّخَصَ فِي السُّفَهَاءِ فَيَجْعَلُوا ذَلِكَ طَرِيقًا إِلَى ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ، وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا تَمْنَعُوا الْحِكْمَةَ أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ وَلَا تَضَعُوهَا فِي غَيْرِ أَهْلِهَا فَتَظْلِمُوهَا) . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا تُعَلِّقُوا الدُّرَّ فِي أَعْنَاقِ الْخَنَازِيرِ) ، يُرِيدُ تَعْلِيمَ الْفِقْهِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ. وَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ: إِنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إِنَّمَا جَاءَ فِي الشَّهَادَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ، لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ (مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ) وَلَمْ يَقُلْ عَنْ شَهَادَةٍ، وَالْبَقَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِ مَا يُزِيلُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى " يَعُمُّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَنْبَطَ، لِشُمُولِ اسْمِ الْهُدَى لِلْجَمِيعِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَيَانُ إِلَّا وَقَدْ وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ، وَقَالَ:" إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا" فَحَكَمَ بِوُقُوعِ الْبَيَانِ بخبرهم.
__________
(1) . الذي في صحيح البخاري وسنن ابن ماجة:" لولا آيتان".
(2) . تراجع المسألة الثانية ج 1 ص 335 طبعه ثانية.(2/185)
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مَنْهِيًّا عَنِ الْكِتْمَانِ وَمَأْمُورًا بِالْبَيَانِ لِيَكْثُرَ الْمُخْبِرُونَ وَيَتَوَاتَرَ بِهِمُ الْخَبَرُ. قُلْنَا: هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُنْهَوْا عَنِ الْكِتْمَانِ إِلَّا وَهُمْ مِمَّنْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ التَّوَاطُؤ عَلَيْهِ، وَمَنْ جَازَ مِنْهُمُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكِتْمَانِ فَلَا يَكُونُ خَبَرُهُمْ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- لَمَّا قَالَ:" مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى " دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ جَائِزٌ كَتْمِهِ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ خَوْفِ فَإِنَّ ذَلِكَ آكَدُ فِي الْكِتْمَانِ. وَقَدْ تَرَكَ أَبُو هُرَيْرَةَ ذَلِكَ حِينَ خَافَ فَقَالَ: حَفِظْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ «1» : الْبُلْعُومُ مَجْرَى الطَّعَامِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهَذَا الَّذِي لَمْ يَبُثَّهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ فِيهِ الْفِتْنَةَ أَوِ الْقَتْلَ إِنَّمَا هُوَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْفِتَنِ وَالنَّصِّ عَلَى أَعْيَانِ الْمُرْتَدِّينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ" الْكِنَايَةُ فِي" بَيَّنَّاهُ" تَرْجِعُ إِلَى مَا أُنْزِلَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى. وَالْكِتَابُ: اسْمُ جِنْسٍ، فَالْمُرَادُ جَمِيعُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ" أي يتبرأ منهم ويبعد هم مِنْ ثَوَابِهِ وَيَقُولُ لَهُمْ: عَلَيْكُمْ لَعْنَتِي، كَمَا قَالَ لِلَّعِينِ:" وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي". وَأَصْلُ اللَّعْنِ فِي اللُّغَةِ الْإِبْعَادُ وَالطَّرْدُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «2» . السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ" قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ: الْمُرَادُ بِ" اللَّاعِنُونَ" الْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا وَاضِحٌ جَارٍ عَلَى مُقْتَضَى الْكَلَامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: هُمُ الْحَشَرَاتُ وَالْبَهَائِمُ يُصِيبُهُمُ الْجَدْبُ بِذُنُوبِ عُلَمَاءِ السُّوءِ الْكَاتِمِينَ فَيَلْعَنُونَهُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالصَّوَابُ قَوْلُ مَنْ قَالَ:" اللَّاعِنُونَ" الْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِدَوَابِّ الْأَرْضِ فَلَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ إِلَّا بِنَصٍّ أَوْ خَبَرٍ لَازِمٍ وَلَمْ نَجِدْ مِنْ ذَيْنِكَ شَيْئًا.
__________
(1) . أبو عبد الله: كنية البخاري رضى الله عنه.
(2) . يراجع ص 25 من هذا الجزء.(2/186)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
قُلْتُ: قَدْ جَاءَ بِذَلِكَ خَبَرٌ رَوَاهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ" قَالَ: (دَوَابُّ الْأَرْضِ) . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ أَنْبَأَنَا عَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ عَنْ زَاذَانَ عَنِ الْبَرَاءِ، إِسْنَادٌ حَسَنٌ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جُمِعَ مَنْ لَا يَعْقِلُ جَمْعَ مَنْ يَعْقِلُ؟. قِيلَ: لِأَنَّهُ أُسْنِدَ إِلَيْهِمْ فِعْلُ مَنْ يَعْقِلُ، كَمَا قَالَ:" رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «1» " وَلَمْ يَقُلْ سَاجِدَاتٍ، وَقَدْ قَالَ:" لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا «2» "، وَقَالَ:" وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ «3» "، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ:" اللَّاعِنُونَ" كُلُّ الْمَخْلُوقَاتِ مَا عَدَا الثَّقَلَيْنِ: الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْكَافِرُ إِذَا ضُرِبَ فِي قَبْرِهِ فَصَاحَ سَمِعَهُ الْكُلُّ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ وَلَعَنَهُ كُلُّ سَامِعٍ) . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالسُّدِّيُّ: (هُوَ الرَّجُلُ يَلْعَنُ صَاحِبَهُ فَتَرْتَفِعُ اللَّعْنَةُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ تَنْحَدِرُ فَلَا تَجِدُ صَاحِبَهَا الَّذِي قِيلَتْ فِيهِ أَهْلًا لِذَلِكَ، فَتَرْجِعُ إِلَى الَّذِي تَكَلَّمَ بِهَا فَلَا تَجِدُهُ أَهْلًا فَتَنْطَلِقُ فَتَقَعُ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ كَتَمُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى، فَهُوَ قَوْلُهُ:" وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ" فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمُ ارْتَفَعَتِ اللَّعْنَةُ عَنْهُ فَكَانَتْ فِيمَنْ بَقِيَ مِنَ اليهود.
[سورة البقرة (2) : آية 160]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِلَّا الَّذِينَ تابُوا" اسْتَثْنَى تَعَالَى التَّائِبِينَ الصَّالِحِينَ لِأَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمُ الْمُنِيبِينَ لِتَوْبَتِهِمْ. وَلَا يَكْفِي فِي التَّوْبَةِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا قَوْلُ الْقَائِلِ: قَدْ تُبْتُ، حَتَّى يَظْهَرَ مِنْهُ فِي الثَّانِي خِلَافُ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ مُرْتَدًّا رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ مُظْهِرًا شَرَائِعَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي ظَهَرَ مِنْهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَجَانَبَ أَهْلَ الْفَسَادِ وَالْأَحْوَالَ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ جَانَبَهُمْ وَخَالَطَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهَكَذَا يَظْهَرُ عَكْسَ مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ التَّوْبَةِ وَأَحْكَامُهَا فِي" النِّسَاءِ «4» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ بعض العلماء في قوله:
__________
(1) . راجع ج 9 ص 122.
(2) . راجع ج 15 ص 350.
(3) . راجع ج 7 ص 344.
(4) . راجع ج 5 ص 91.(2/187)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
" وَبَيَّنُوا" أَيْ بِكَسْرِ الْخَمْرِ وَإِرَاقَتِهَا. وَقِيلَ:" بَيَّنُوا" يَعْنِي مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ. وَالْعُمُومُ أَوْلَى عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، أَيْ بَيَّنُوا خِلَافَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ." فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" تَقَدَّمَ «1» وَالْحَمْدُ لله.
[سورة البقرة (2) : الآيات 161 الى 162]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَهُمْ كُفَّارٌ" الْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ لِي كَثِيرٌ مِنْ أَشْيَاخِي إِنَّ الْكَافِرَ الْمُعَيَّنَ لَا يَجُوزُ لَعْنُهُ، لِأَنَّ حَالَهُ عِنْدَ الْمُوَافَاةِ لَا تُعْلَمُ، وَقَدْ شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي إِطْلَاقِ اللَّعْنَةِ: الْمُوَافَاةَ عَلَى الْكُفْرِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَعَنَ أَقْوَامًا بِأَعْيَانِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِمَآلِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازِ لَعْنِهِ لِظَاهِرِ حَالِهِ وَلِجَوَازِ قَتْلِهِ وَقِتَالِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ هَجَانِي وَقَدْ عَلِمَ أَنِّي لَسْتُ بِشَاعِرٍ فَالْعَنْهُ وَاهْجُهُ عَدَدَ مَا هَجَانِي) . فَلَعَنَهُ، وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ وَالدِّينُ وَالْإِسْلَامُ مَآلَهُ. وَانْتَصَفَ بِقَوْلِهِ: (عَدَدَ مَا هَجَانِي) وَلَمْ يَزِدْ لِيُعْلَمَ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ. وَأَضَافَ الْهَجْوَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي بَابِ الْجَزَاءِ دُونَ الِابْتِدَاءِ بِالْوَصْفِ بِذَلِكَ، كَمَا يُضَافُ إِلَيْهِ الْمَكْرُ وَالِاسْتِهْزَاءُ وَالْخَدِيعَةُ. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. قُلْتُ: أَمَّا لَعْنُ الْكُفَّارِ جُمْلَةً مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ فَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ سَمِعَ الْأَعْرَجَ يَقُولُ: مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إِلَّا وَهُمْ يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ فِي رَمَضَانَ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَسَوَاءٌ كَانَتْ لَهُمْ ذِمَّةٌ أَمْ لَمْ تَكُنْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ، ولكنه مباح لمن
__________
(1) . تراجع المسألة الخامسة وما بعدها ج 1 ص 325 طبعه ثانية. [.....](2/188)
فَعَلَهُ، لِجَحْدِهِمُ الْحَقَّ وَعَدَاوَتِهِمْ لِلدِّينِ وَأَهْلِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ جَاهَرَ بِالْمَعَاصِي كَشُرَّابِ الْخَمْرِ وَأَكَلَةِ الرِّبَا، وَمَنْ تَشَبَّهَ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ وَمِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ لَعْنُهُ. الثَّانِيَةُ- لَيْسَ لَعْنُ الْكَافِرِ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ لَهُ عَنِ الْكُفْرِ، بَلْ هُوَ جَزَاءٌ عَلَى الْكُفْرِ وَإِظْهَارُ قُبْحِ كُفْرِهِ، كَانَ الْكَافِرُ مَيِّتًا أَوْ مَجْنُونًا. وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي لَعْنِ مَنْ جُنَّ أَوْ مَاتَ مِنْهُمْ، لَا بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ وَلَا بِطَرِيقِ الزَّجْرِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَأَثَّرُ بِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ النَّاسَ يَلْعَنُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَتَأَثَّرَ بِذَلِكَ وَيَتَضَرَّرَ وَيَتَأَلَّمَ قَلْبُهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً «1» "، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِلَعْنِهِمْ، لَا عَلَى الْأَمْرِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ لَعْنَ الْعَاصِي الْمُعَيَّنَ لَا يجوز اتفاقا، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أُتِيَ بِشَارِبِ خَمْرٍ مِرَارًا، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ: لَعَنَهُ اللَّهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ) فَجَعَلَ لَهُ حُرْمَةَ الْأُخُوَّةِ، وَهَذَا يُوجِبُ الشَّفَقَةَ، وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قُلْتُ: خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا فِي لَعْنِ الْعَاصِي الْمُعَيَّنِ، قَالَ: وَإِنَّمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ) فِي حَقِّ نُعَيْمَانَ «2» بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَمَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَنْبَغِي لَعْنُهُ، وَمَنْ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَلَعْنَتُهُ جَائِزَةٌ سَوَاءً سُمِّيَ أَوْ عُيِّنَ أَمْ لَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَلْعَنُ إِلَّا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ مَا دَامَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِلَّعْنِ، فَإِذَا تَابَ مِنْهَا وَأَقْلَعَ وَطَهَّرَهُ الْحَدُّ فَلَا لَعْنَةَ تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ. وَبَيَّنَ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يثرب «3» .
__________
(1) . راجع ج 13 ص 339.
(2) . نعمان: هو ابن عمرو بن رفاعة، شهد العقبة وبدرا والمشاهد بعدها، وكان كثير المزاح، يضحك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مزاحه. (عن أسد الغابة) .
(3) . قال ابن الأثير في النهاية:" أي لا يوبخها ولا يقرعها بالزنا بعد الضرب. وقيل: أراد لا يقنع في عقوبتها بالتثريب بل يضربها الحد".(2/189)
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ صِحَّتِهِ عَلَى أَنَّ التَّثْرِيبَ وَاللَّعْنَ إِنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ أَخْذِ الْحَدِّ وَقَبْلَ التَّوْبَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَمَّا لَعْنُ الْعَاصِي مُطْلَقًا فَيَجُوزُ إِجْمَاعًا، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) . الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" أَيْ إِبْعَادُهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ. وَأَصْلُ اللَّعْنِ: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «1» . فَاللَّعْنَةُ مِنَ الْعِبَادِ الطَّرْدُ، وَمِنَ اللَّهِ الْعَذَابُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ" وَالْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ أجمعون" بالرفع. وتأويلها: أولئك جزاءهم أَنْ يَلْعَنَهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَيَلْعَنُهُمُ النَّاسُ أَجْمَعُونَ، كَمَا تَقُولُ: كَرِهْتُ قِيَامَ زِيدٍ وَعَمْرٍو وَخَالِدٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: كَرِهْتُ أَنْ قَامَ زَيْدٌ. وَقِرَاءَةُ الْحَسَنِ هَذِهِ مُخَالَفَةٌ لِلْمَصَاحِفِ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ يَلْعَنُهُمْ جَمِيعُ النَّاسِ لِأَنَّ قَوْمَهُمْ لَا يَلْعَنُونَهُمْ، قِيلَ عَنْ هَذَا ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ، أَحَدُهَا- أَنَّ اللَّعْنَةَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ يُطْلَقُ عَلَيْهَا لَعْنَةُ النَّاسِ تغلِيبًا لِحُكْمِ الْأَكْثَرِ عَلَى الْأَقَلِّ. الثَّانِي- قَالَ السُّدِّيُّ: كُلُّ أَحَدٍ يَلْعَنُ الظَّالِمَ، وَإِذَا لَعَنَ الْكَافِرُ الظَّالِمَ فَقَدْ لَعَنَ نَفْسَهُ. الثَّالِثُ- قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الْمُرَادُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَلْعَنُهُمْ قَوْمُهُمْ مَعَ جَمِيعِ النَّاسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً «2» ". ثم قال عز وجل:" خالِدِينَ فِيها" يَعْنِي فِي اللَّعْنَةِ، أَيْ فِي جَزَائِهَا. وَقِيلَ: خُلُودُهُمْ فِي اللَّعْنَةِ أَنَّهَا مُؤَبَّدَةٌ عليهم" وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ" أي لا يؤخرون عن العذاب وقتا من الأوقات." و" خالِدِينَ" نُصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي" عَلَيْهِمْ"، وَالْعَامِلُ فِيهِ الظَّرْفُ مِنْ قَوْلِهِ:" عَلَيْهِمْ" لان فيها معنى استقرار اللعنة.
[سورة البقرة (2) : آية 163]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ" لَمَّا حَذَّرَ تَعَالَى مِنْ كِتْمَانِ الْحَقِّ بَيَّنَ أَنَّ أَوَّلَ مَا يَجِبُ إِظْهَارُهُ وَلَا يَجُوزُ كِتْمَانُهُ أَمْرُ التَّوْحِيدِ، وَوَصَلَ ذلك بذكر البرهان، وعلم طريق
__________
(1) . راجع ص 25 من هذا الجزء.
(2) . راجع ج 13 ص 339.(2/190)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
النَّظَرِ، وَهُوَ الْفِكْرُ فِي عَجَائِبِ الصُّنْعِ، لِيُعْلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ لَا يشبهه شي. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَالَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: يَا مُحَمَّدُ انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى سُورَةَ" الْإِخْلَاصِ" وَهَذِهِ الْآيَةَ. وَكَانَ لِلْمُشْرِكِينَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا، فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ وَاحِدٌ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ" نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ. أَوَّلُهَا كُفْرٌ وَآخِرُهَا إِيمَانٌ، وَمَعْنَاهُ لَا مَعْبُودَ إِلَّا اللَّهُ. وَحُكِيَ عَنِ الشِّبْلِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُ، وَلَا يَقُولُ: لَا إِلَهَ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَخْشَى أَنْ آخُذَ فِي كَلِمَةِ الْجُحُودِ وَلَا أَصِلَ إِلَى كَلِمَةِ الْإِقْرَارِ. قُلْتُ: وَهَذَا مِنْ عُلُومِهِمُ الدَّقِيقَةِ، الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا حَقِيقَةٌ، فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ اسْمُهُ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَكَرَّرَهُ، وَوَعَدَ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ لِقَائِلِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَّجَهُ الْمُوَطَّأُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ) . خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَالْمَقْصُودُ الْقَلْبُ لَا اللِّسَانُ، فَلَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ وَمَاتَ وَمُعْتَقَدُهُ وَضَمِيرُهُ الْوَحْدَانِيَّةُ وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الصِّفَاتِ لَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى مَعْنَى اسْمِهِ الْوَاحِدِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ فِي" الْكِتَابِ الْأَسْنَى، فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى". وَالْحَمْدُ لله.
[سورة البقرة (2) : آيَةً 164]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
فِيهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَالَ عَطَاءٌ: لَمَّا نَزَلَتْ" وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ" قَالَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: كَيْفَ يَسَعُ النَّاسَ إِلَهٌ وَاحِدٌ! فَنَزَلَتْ" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ". وَرَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ أَبِيهِ(2/191)
عَنْ أَبِي الضُّحَى قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ" وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ" قَالُوا هَلْ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" فَكَأَنَّهُمْ طَلَبُوا آيَةً فَبَيَّنَ لَهُمْ دَلِيلَ التَّوْحِيدِ، وَأَنَّ هَذَا الْعَالَمَ وَالْبِنَاءَ الْعَجِيبَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَانٍ وَصَانِعٍ. وَجَمَعَ السموات لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ كُلُّ سَمَاءٍ مِنْ جِنْسٍ غَيْرِ جِنْسِ الْأُخْرَى. وَوَحَّدَ الْأَرْضَ لِأَنَّهَا كُلَّهَا تراب، والله تعالى أعلم. فآية السموات: ارْتِفَاعُهَا بِغَيْرِ عَمَدٍ مِنْ تَحْتِهَا وَلَا عَلَائِقَ مِنْ فَوْقِهَا، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْقُدْرَةِ وَخَرْقِ الْعَادَةِ. وَلَوْ جَاءَ نَبِيٌّ فَتُحُدِّيَ بِوُقُوفِ جَبَلٍ فِي الْهَوَاءِ دُونَ عَلَاقَةٍ كَانَ مُعْجِزًا. ثُمَّ مَا فِيهَا مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ السَّائِرَةِ وَالْكَوَاكِبِ الزَّاهِرَةِ شَارِقَةً وَغَارِبَةً نَيِّرَةً وَمَمْحُوَّةً آيَةٌ ثَانِيَةٌ. وَآيَةُ الْأَرْضِ: بِحَارُهَا وَأَنْهَارُهَا وَمَعَادِنُهَا وَشَجَرُهَا وَسَهْلُهَا وَوَعْرُهَا. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ" قِيلَ: اخْتِلَافُهُمَا بِإِقْبَالِ أَحَدِهِمَا وَإِدْبَارِ الْآخَرِ مِنْ حَيْثُ لَا يُعْلَمُ. وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمَا فِي الْأَوْصَافِ مِنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ. وَاللَّيْلُ جَمْعُ لَيْلَةٍ، مِثْلُ تَمْرَةٍ وَتَمْرٍ وَنَخْلَةٍ وَنَخْلٍ. وَيُجْمَعُ أَيْضًا لَيَالِي وَلَيَالٍ بِمَعْنًى، وَهُوَ مِمَّا شَذَّ عَنْ قِيَاسِ الْجُمُوعِ، كَشَبَهٍ وَمُشَابِهٍ وَحَاجَةٍ وَحَوَائِجَ وَذَكَرٍ وَمَذَاكِرٍ، وَكَأَنَّ لَيَالِيَ فِي الْقِيَاسِ جَمْعُ لَيْلَاةٍ. وَقَدِ اسْتَعْمَلُوا ذَلِكَ فِي الشِّعْرِ قال:
في كل يوم وَكُلِّ لَيْلَاةٍ
وَقَالَ آخَرُ:
فِي كُلِّ يَوْمٍ مَا وَكُلِّ لَيْلَاهُ ... حَتَّى يَقُولَ كُلُّ رَاءٍ إِذْ رَآهُ
يَا وَيْحَهُ مِنْ جَمَلٍ مَا أَشْقَاهُ
قَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ: وَيُقَالُ إِنَّ بَعْضَ الطَّيْرِ يُسَمَّى لَيْلًا، وَلَا أَعْرِفُهُ «1» . وَالنَّهَارُ يُجْمَعُ نُهُرٌ وَأَنْهِرَةٌ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبٌ: نَهَرٌ جَمْعُ نُهُرٍ وَهُوَ جَمْعُ [الجمع «2» ] للنهار، وقيل النهار اسم
__________
(1) . قال الجوهري في الصحاح:" وذكر قوم أن الليل ولد الكروان، وأن النهار ولد الحبارى، وقد جاء ذلك في بعض الاشعار".
(2) . زيادة عن اللسان.(2/192)
مُفْرَدٌ لَمْ يُجْمَعْ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرُ، كَقَوْلِكَ الضِّيَاءُ، يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَوْلَا الثَّرِيدَانِ هَلَكْنَا بِالضُّمُرْ ... ثَرِيدُ لَيْلِ وَثَرِيدٌ بِالنُّهُرْ
قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: النَّهَارُ مَعْرُوفٌ، وَالْجَمْعُ نُهُرٌ وَأَنْهَارٌ. وَيُقَالُ: إِنَّ النَّهَارَ يُجْمَعُ عَلَى النُّهُرِ. وَالنَّهَارُ: ضِيَاءُ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَرَجُلٌ نَهِرٌ: صَاحِبُ نَهَارٍ. وَيُقَالُ: إِنَّ النَّهَارَ فَرْخُ الْحُبَارَى. قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: أَوَّلُ النَّهَارِ طُلُوعُ الشَّمْسِ، وَلَا يُعَدُّ مَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ النَّهَارِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: أَوَّلَهُ عِنْدَ الْعَرَبِ طُلُوعُ الشمس، استشهد بِقَوْلِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
وَالشَّمْسُ تَطْلُعُ كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ ... حَمْرَاءَ يُصْبِحُ لَوْنُهَا يَتَوَرَّدُ
وَأَنْشَدَ قَوْلَ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ:
وَجَاعِلُ الشَّمْسِ مِصْرًا «1» لَا خَفَاءَ بِهِ ... بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلَا
وَأَنْشَدَ الْكِسَائِيُّ:
إِذَا طَلَعَتْ شَمْسُ النَّهَارِ فَإِنَّهَا ... أَمَارَةُ تَسْلِيمِي عَلَيْكِ فَسَلِّمِي
قَالَ الزَّجَّاجُ فِي كِتَابِ الْأَنْوَاءِ: أَوَّلُ النَّهَارِ ذُرُورُ الشَّمْسِ. وَقَسَّمَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الزَّمَنَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمًا جَعَلَهُ لَيْلًا مَحْضًا، وَهُوَ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَقِسْمًا جَعَلَهُ نَهَارًا مَحْضًا، وَهُوَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا. وَقِسْمًا جَعَلَهُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، لِبَقَايَا ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَمَبَادِئِ ضَوْءِ النَّهَارِ. قُلْتُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّهَارَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي الْمُجْمَلِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ" حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ" قَالَ لَهُ عَدِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَجْعَلُ تَحْتَ وِسَادَتِي عِقَالَيْنِ: عِقَالًا أَبْيَضَ وَعِقَالًا أَسْوَدَ، أَعْرِفُ بهما الليل من النهار. فقال
__________
(1) . المصر: الحاجز بين الشيئين.(2/193)
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أن وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ إِنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ) . فَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْضِي أَنَّ النَّهَارَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْفِقْهِ فِي الْأَيْمَانِ، وَبِهِ تَرْتَبِطُ الْأَحْكَامُ. فَمَنْ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَ فُلَانًا نَهَارًا فَكَلَّمَهُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ حَنِثَ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَحْنَثُ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْفَيْصَلُ فِي ذَلِكَ وَالْحَكَمُ. وَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ اللُّغَةِ وَأَخْذِهِ مِنَ السُّنَّةِ فَهُوَ مِنْ وَقْتِ الْإِسْفَارِ إِذَا اتَّسَعَ وَقْتُ النَّهَارِ، كَمَا قَالَ «1» :
مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا ... يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا
وَقَدْ جَاءَ عَنْ حُذَيْفَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ. وَسَيَأْتِي فِي آيِ الصِّيَامِ «2» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ" الْفُلْكُ: السُّفُنُ، وَإِفْرَادُهُ وَجَمْعُهُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. وَلَيْسَتِ الْحَرَكَاتُ فِي الْمُفْرَدِ تِلْكَ بِأَعْيَانِهَا فِي الْجَمْعِ، بَلْ كَأَنَّهُ بَنَى الْجَمْعَ بِنَاءً آخَرَ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَوَسُّطُ التَّثْنِيَةِ فِي قَوْلِهِمْ: فُلْكَانِ. وَالْفُلْكُ الْمُفْرَدُ مُذَكَّرٌ، قَالَ تَعَالَى:" فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ «3» " فَجَاءَ بِهِ مُذَكَّرًا، وَقَالَ:" وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ" فَأَنَّثَ. وَيَحْتَمِلُ وَاحِدًا وَجَمْعًا، وَقَالَ:" حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ «4» " فَجَمَعَ، فَكَأَنَّهُ يَذْهَبُ بِهَا إِذَا كَانَتْ وَاحِدَةً إِلَى الْمَرْكَبِ فَيُذَكَّرُ، وَإِلَى السَّفِينَةِ فَيُؤَنَّثُ. وَقِيلَ: وَاحِدُهُ فَلَكٌ، مِثْلُ أَسَدٍ وَأُسْدٍ، وَخَشَبٍ وَخُشْبٍ، وَأَصْلُهُ مِنَ الدَّوَرَانِ، وَمِنْهُ: فَلَكُ السَّمَاءِ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهِ النُّجُومُ. وَفَلَّكَتِ الْجَارِيَةُ اسْتَدَارَ ثَدْيُهَا، وَمِنْهُ فَلْكَةُ الْمِغْزَلِ. وَسُمِّيَتِ السَّفِينَةُ فُلْكًا لِأَنَّهَا تَدُورُ بِالْمَاءِ أَسْهَلَ دَوْرٍ. وَوَجْهُ الْآيَةِ فِي الْفُلْكِ: تَسْخِيرُ اللَّهِ إِيَّاهَا حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ وَوُقُوفُهَا فَوْقَهُ مَعَ ثِقَلِهَا. وَأَوَّلُ مَنْ عَمِلَهَا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى، وَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: اصْنَعْهَا عَلَى جُؤْجُؤِ «5» الطَّائِرِ، فَعَمِلَهَا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وِرَاثَةً فِي الْعَالَمِينَ بِمَا أَرَاهُ جِبْرِيلُ. فَالسَّفِينَةُ طَائِرٌ مَقْلُوبٌ وَالْمَاءُ فِي أَسْفَلِهَا نَظِيرَ الْهَوَاءِ فِي أعلاها، قاله ابن العربي.
__________
(1) . هو قيس بن الخطيم، يصف طعنة.
(2) . راجع ص 273 من هذا الجزء.
(3) . راجع ج 15 ص 34.
(4) . راجع ج 8 ص 324.
(5) . الجؤجؤ: الصدر. وقيل: عظامه.(2/194)
الرَّابِعَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ وَمَا كَانَ مِثْلُهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ مُطْلَقًا لِتِجَارَةٍ كَانَ أَوْ عِبَادَةٍ، كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ. وَمِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ. الْحَدِيثُ. وَحَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ أُمِّ حَرَامٍ، أَخْرَجَهُمَا الْأَئِمَّةُ: مَالِكٌ وَغَيْرُهُ. رَوَى حَدِيثَ أَنَسٍ عَنْهُ جَمَاعَةٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ بِشْرُ بْنُ عُمَرَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُمِّ حَرَامٍ، جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ أُمِّ حَرَامٍ لَا مِنْ مُسْنَدِ أَنَسٍ. هَكَذَا حَدَّثَ عَنْهُ بِهِ بُنْدَارٌ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، فَفِيهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى رُكُوبِ الْبَحْرِ فِي الْجِهَادِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَإِذَا جَازَ رُكُوبُهُ لِلْجِهَادِ فَرُكُوبُهُ لِلْحَجِّ المفترض أولى وأوجب. وروي عن عمر ابن الْخَطَّابِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْمَنْعُ مِنْ رُكُوبِهِ. وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ يَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ، وَلَوْ كَانَ رُكُوبُهُ يُكْرَهُ أَوْ لَا يَجُوزُ لَنَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ قَالُوا لَهُ: إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَمَا كَانَ مِثْلُهَا نَصٌّ فِي الْغَرَضِ وَإِلَيْهَا الْمَفْزَعُ. وَقَدْ تُؤُوِّلَ مَا رُوِيَ عَنِ الْعُمَرَيْنِ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَتَرْكِ التَّغْرِيرِ بِالْمُهَجِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا، وَأَمَّا فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ فَلَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَرَبَ الْبَحْرَ وَسْطَ الْأَرْضِ وَجَعَلَ الْخَلْقَ فِي الْعَدْوَتَيْنِ «1» ، وَقَسَّمَ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ فَلَا يُوصَلُ إِلَى جَلْبِهَا إِلَّا بِشَقِ الْبَحْرِ لَهَا، فَسَهَّلَ اللَّهُ سَبِيلَهُ بِالْفُلْكِ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ الرُّكُوبَ لِلْحَجِّ فِي الْبَحْرِ، وَهُوَ لِلْجِهَادِ لِذَلِكَ أَكْرَهُ. وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ يَرُدُّ قَوْلَهُ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ قَالَ: إِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ لِأَنَّ السُّفُنَ بِالْحِجَازِ صِغَارٌ، وَأَنَّ النِّسَاءَ لَا يَقْدِرْنَ عَلَى الِاسْتِتَارِ عِنْدَ الْخَلَاءِ فِيهَا لِضِيقِهَا وَتَزَاحُمِ النَّاسِ فِيهَا، وَكَانَ الطَّرِيقُ مِنْ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ عَلَى الْبَرِّ مُمْكِنًا، فَلِذَلِكَ كَرِهَ مَالِكٌ ذَلِكَ. وَأَمَّا السُّفُنُ الْكِبَارُ نَحْوُ سُفُنِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَلَيْسَ بِذَلِكَ بَأْسٌ. قَالَ: وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَجَّ عَلَى كُلِّ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا مِنَ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ، نِسَاءً كَانُوا أَوْ رِجَالًا، إِذَا كَانَ الْأَغْلَبُ مِنَ الطَّرِيقِ الْأَمْنِ، وَلَمْ يَخُصَّ بَحْرًا مِنْ بَرٍّ.
__________
(1) . العدوة: شاطئ الوادي. [.....](2/195)
قُلْتُ: فَدَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْنَى عَلَى إِبَاحَةِ رُكُوبِهِ لِلْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا: الْعِبَادَةُ وَالتِّجَارَةُ، فَهِيَ الْحُجَّةُ وَفِيهَا الْأُسْوَةُ. إِلَّا أَنَّ النَّاسَ فِي رُكُوبِ الْبَحْرِ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ، فَرُبَّ رَاكِبٍ يَسْهُلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَا يَشُقُّ، وَآخَرُ يَشُقُّ عَلَيْهِ وَيَضْعُفُ بِهِ، كَالْمَائِدِ «1» الْمُفْرِطِ الْمَيْدِ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ مَعَهُ عَلَى أَدَاءِ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْفَرَائِضِ، فَالْأَوَّلُ ذَلِكَ لَهُ جَائِزٌ، وَالثَّانِي يَحْرُمُ عليه ويمنع منه. لا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهِيَ: الْخَامِسَةُ- إِنَّ الْبَحْرَ إِذَا ارْتَجَّ «2» لَمْ يَجُزْ رُكُوبُهُ لِأَحَدٍ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فِي حِينِ ارْتِجَاجِهِ وَلَا فِي الزَّمَنِ الَّذِي الْأَغْلَبُ فِيهِ عَدَمُ السَّلَامَةِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ رُكُوبُهُ فِي زَمَنٍ تَكُونُ السَّلَامَةُ فِيهِ الْأَغْلَبَ، فَإِنَّ الَّذِينَ يَرْكَبُونَهُ حَالَ السَّلَامَةِ وَيَنْجُونَ لَا حَاصِرَ لَهُمْ، وَالَّذِينَ يَهْلِكُونَ فِيهِ مَحْصُورُونَ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" بِما يَنْفَعُ النَّاسَ" أَيْ بِالَّذِي يَنْفَعُهُمْ مِنَ التِّجَارَاتِ وَسَائِرِ الْمَآرِبِ الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا أَحْوَالُهُمْ. وَبِرُكُوبِ الْبَحْرِ تُكْتَسَبُ الْأَرْبَاحُ، وَيَنْتَفِعُ مَنْ يُحْمَلُ إِلَيْهِ الْمَتَاعَ أَيْضًا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ طَعَنَ فِي الدِّينِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِكُمْ:" مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «3» " فَأَيْنَ ذِكْرُ التَّوَابِلِ الْمُصْلِحَةِ لِلطَّعَامِ مِنَ الْمِلْحِ وَالْفُلْفُلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؟ فَقِيلَ لَهُ فِي قَوْلِهِ:" بِما يَنْفَعُ النَّاسَ". السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ" يَعْنِي بِهَا الْأَمْطَارَ الَّتِي بِهَا إِنْعَاشُ الْعَالَمِ وَإِخْرَاجُ النَّبَاتِ وَالْأَرْزَاقِ، وَجَعَلَ مِنْهُ الْمَخْزُونَ عِدَّةً لِلِانْتِفَاعِ فِي غَيْرِ وَقْتِ نُزُولِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ «4» ". الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ" أَيْ فَرَّقَ وَنَشَرَ، وَمِنْهُ" كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ «5» ". وَدَابَّةٌ تَجْمَعُ الْحَيَوَانَ كُلَّهُ، وَقَدْ أخرج بعض الناس الطير، وهو مردود،
__________
(1) . المائد: الذي يركب البحر فتغثى نفسه حتى يدار به ويكاد يغشى عليه.
(2) . أرتج البحر: إذا هاج. وقيل: إذا كثر ماؤه فعم كل شي.
(3) . راجع ج 6 ص 420.
(4) . راجع ج 12 ص 112.
(5) . راجع ج 20 ص 165.(2/196)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها «1» " فَإِنَّ الطَّيْرَ يَدِبُّ عَلَى رِجْلَيْهِ فِي بَعْضِ حَالَاتِهِ، قَالَ الْأَعْشَى:
دَبِيبَ قَطَا الْبَطْحَاءِ فِي كُلِّ مَنْهَلِ
وَقَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ:
صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ
التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ" تَصْرِيفُهَا: إِرْسَالُهَا عَقِيمًا وَمُلْقِحَةً، وَصِرًّا وَنَصْرًا وَهَلَاكًا، وَحَارَّةً وَبَارِدَةً، وَلَيِّنَةً وَعَاصِفَةً. وَقِيلَ: تَصْرِيفُهَا إِرْسَالُهَا جَنُوبًا وَشَمَالًا، وَدَبُورًا وَصَبًّا، وَنَكْبَاءَ، وَهِيَ الَّتِي تَأْتِي بَيْنَ مَهَبَّيْ رِيحَيْنِ. وَقِيلَ: تَصْرِيفُهَا أَنْ تَأْتِيَ السُّفُنُ الْكِبَارُ بِقَدْرِ مَا تَحْمِلُهَا، وَالصِّغَارُ كَذَلِكَ، وَيُصْرَفُ عنهما ما يضربهما، وَلَا اعْتِبَارَ بِكِبَرِ الْقِلَاعِ وَلَا صِغَرِهَا، فَإِنَّ الرِّيحَ لَوْ جَاءَتْ جَسَدًا وَاحِدًا لَصَدَمَتِ الْقِلَاعَ وَأَغْرَقَتْ. وَالرِّيَاحُ جَمْعُ رِيحٍ سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّهَا تَأْتِي بِالرَّوْحِ غَالِبًا. رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَلَا تَسُبُّوهَا وَاسْأَلُوا اللَّهَ خَيْرَهَا وَاسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا «2» ) . وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الزُّرَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ فَإِنَّهَا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ وَلَكِنْ سَلُوا اللَّهَ مِنْ خَيْرِهَا وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا (. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ فَإِنَّهَا مِنْ نَفَسِ الرَّحْمَنِ) . الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِيهَا التَّفْرِيجُ وَالتَّنْفِيسُ وَالتَّرْوِيحُ، وَالْإِضَافَةُ مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهَا كَذَلِكَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (نُصِرْتُ «3» بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ) . وَهَذَا مَعْنَى مَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
__________
(1) . راجع ج 9 ص 6.
(2) . كذا ورد في سنن أبى داود. والذي في الأصول:" الريح من روح الله. قال سلمة: فروح الله عز وجل تأتى ... " إلخ وسلمة هذا أحد من روى عنهم أبو داود هذا الحديث.
(3) . أي يوم الأحزاب. وسيأتي معنى" الصبا والدبور".(2/197)
فَرَّجَ عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّيحِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، فَقَالَ تَعَالَى:" فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها «1» ". وَيُقَالُ: نَفَّسَ اللَّهُ عَنْ فُلَانٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، أَيْ فَرَّجَ عَنْهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . أَيْ فَرَّجَ عَنْهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّ الصَّبَا رِيحٌ إِذَا مَا تَنَسَّمَتْ ... عَلَى كَبِدٍ مَهْمُومٍ تَجَلَّتْ هُمُومُهَا
قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: النَّسِيمُ أَوَّلُ هُبُوبِ الرِّيحِ. وَأَصْلُ الرِّيحِ رَوْحٌ، وَلِهَذَا قِيلَ فِي جَمْعِ الْقِلَّةِ أَرْوَاحٌ، وَلَا يُقَالُ: أَرْيَاحٌ، لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ، وَإِنَّمَا قِيلَ: رِيَاحٌ مِنْ جِهَةِ الْكَثْرَةِ وَطَلَبِ تَنَاسُبِ الْيَاءِ مَعَهَا. وفي مصحف حفصة" وتصريف الأرواح". العاشرة- قوله تعالى:" وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ" قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" الرِّيحِ" عَلَى الْإِفْرَادِ، وَكَذَا فِي الْأَعْرَافِ وَالْكَهْفِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالنَّمْلِ وَالرُّومِ وَفَاطِرِ وَالشُّورَى وَالْجَاثِيَةِ، لَا خِلَافَ بَيْنِهِمَا فِي ذَلِكَ. وَوَافَقَهُمَا ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْأَعْرَافِ وَالنَّمْلِ وَالرُّومِ وَفَاطِرٍ وَالشُّورَى. وَأَفْرَدَ حَمْزَةُ" الرِّيحَ لَوَاقِحَ «2» ". وَأَفْرَدَ ابْنُ كَثِيرٍ" وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيحَ «3» " فِي الْفُرْقَانِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْجَمْعِ فِي جَمِيعِهَا سِوَى الَّذِي فِي إِبْرَاهِيمَ وَالشُّورَى فَلَمْ يَقْرَأْهُمَا بِالْجَمْعِ سِوَى نَافِعٍ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ السَّبْعَةُ فِيمَا سِوَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ. وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الرُّومِ هُوَ الثَّانِي" اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ «4» ". وَلَا خِلَافَ بَيْنِهِمْ فِي" الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ". وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ يَجْمَعُ الرِّيَاحَ إِذَا كَانَ فِيهَا أَلِفٍ وَلَامٍ فِي جَمِيعِ القرآن، سوى" تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ" و" الرِّيحَ الْعَقِيمَ". فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَلِفٌ وَلَامٌ أَفْرَدَ. فَمَنْ وَحَّدَ الرِّيحَ فَلِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْجِنْسِ يَدُلُّ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَمَنْ جَمَعَ فَلِاخْتِلَافِ الْجِهَاتِ الَّتِي تَهُبُّ مِنْهَا الرِّيَاحُ. وَمَنْ جَمَعَ مع الرحمة ووجد مَعَ الْعَذَابِ فَإِنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ في القرآن، نحو:" الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ" و" الرِّيحَ الْعَقِيمَ" فَجَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ مَجْمُوعَةً مَعَ الرَّحْمَةِ مُفْرَدَةً مَعَ الْعَذَابِ، إِلَّا فِي يُونُسَ فِي قَوْلِهِ:" وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ". وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَقُولُ إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا) . وَذَلِكَ لِأَنَّ رِيحَ الْعَذَابِ شديدة ملتئمة الاجزاء كأنها جسم
__________
(1) . راجع ج 14 ص 143.
(2) . راجع ج 10 ص 15.
(3) . راجع ج 13 ص 39.
(4) . راجع ج 14 ص 44.(2/198)
وَاحِدٌ، وَرِيحُ الرَّحْمَةِ لَيِّنَةٌ مُتَقَطِّعَةٌ فَلِذَلِكَ هِيَ رِيَاحٌ. فَأُفْرِدَتْ مَعَ الْفُلْكِ فِي" يُونُسَ"، لِأَنَّ رِيحَ إِجْرَاءِ السُّفُنِ إِنَّمَا هِيَ رِيحٌ وَاحِدَةٌ مُتَّصِلَةٌ ثُمَّ وُصِفَتْ بِالطَّيِّبِ فَزَالَ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رِيحِ الْعَذَابِ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَالَ الْعُلَمَاءُ: الرِّيحُ تُحَرِّكُ الْهَوَاءَ، وَقَدْ يَشْتَدُّ وَيَضْعُفُ. فَإِذَا بَدَتْ حَرَكَةَ الْهَوَاءِ مِنْ تُجَاهِ الْقِبْلَةِ ذَاهِبَةً إِلَى سَمْتِ الْقِبْلَةِ قِيلَ لِتِلْكَ الرِّيحِ:" الصَّبَا". وَإِذَا بَدَتْ حَرَكَةُ الْهَوَاءِ مِنْ وَرَاءِ الْقِبْلَةِ وَكَانَتْ ذَاهِبَةً إِلَى تُجَاهِ الْقِبْلَةِ قِيلَ لِتِلْكَ الرِّيحِ:" الدَّبُورُ". وَإِذَا بَدَتْ حَرَكَةُ الْهَوَاءِ عَنْ يَمِينِ الْقِبْلَةِ ذَاهِبَةً إِلَى يَسَارِهَا قِيلَ لَهَا:" رِيحُ الْجَنُوبِ". وَإِذَا بَدَتْ حَرَكَةُ الْهَوَاءِ عَنْ يَسَارِ الْقِبْلَةِ ذَاهِبَةً إِلَى يَمِينِهَا قِيلَ لَهَا:" رِيحُ الشَّمَالِ". وَلِكُلِ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الرِّيَاحِ طَبْعٌ، فَتَكُونُ مَنْفَعَتُهَا بِحَسَبِ طَبْعِهَا، فَالصَّبَا حَارَّةٌ يَابِسَةٌ، وَالدَّبُورُ بَارِدَةٌ رَطْبَةٌ، وَالْجَنُوبُ حَارَّةٌ رَطْبَةٌ، وَالشَّمَالُ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ. وَاخْتِلَافُ طِبَاعِهَا كَاخْتِلَافِ طَبَائِعِ فُصُولِ السَّنَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ لِلزَّمَانِ أَرْبَعَةَ فُصُولٍ مَرْجِعُهَا إِلَى تَغْيِيرِ أَحْوَالِ الْهَوَاءِ، فَجَعَلَ الرَّبِيعَ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ الْفُصُولِ حَارًّا رَطْبًا، وَرَتَّبَ فِيهِ النَّشْءَ وَالنُّمُوَّ فَتَنْزِلُ فِيهِ الْمِيَاهُ، وَتُخْرِجُ الْأَرْضُ زَهْرَتَهَا وَتُظْهِرُ نَبَاتَهَا، وَيَأْخُذُ النَّاسُ فِي غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَكَثِيرٍ مِنَ الزَّرْعِ، وَتَتَوَالَدُ فِيهِ الْحَيَوَانَاتُ وَتَكْثُرُ الْأَلْبَانُ. فَإِذَا انْقَضَى الرَّبِيعُ تَلَاهُ الصَّيْفُ الَّذِي هُوَ مُشَاكِلٌ لِلرَّبِيعِ فِي إِحْدَى طَبِيعَتَيْهِ وَهِيَ الْحَرَارَةُ، وَمُبَايِنٌ لَهُ فِي الْأُخْرَى وَهِيَ الرُّطُوبَةُ، لِأَنَّ الْهَوَاءَ فِي الصَّيْفِ حَارٌّ يَابِسٌ، فَتَنْضَجُ فِيهِ الثِّمَارُ وَتَيْبَسُ فِيهِ الْحُبُوبُ الْمَزْرُوعَةُ فِي الرَّبِيعِ. فَإِذَا انْقَضَى الصَّيْفُ تَبِعَهُ الْخَرِيفُ الَّذِي هُوَ مَشَاكِلٌ لِلصَّيْفِ فِي إِحْدَى طَبِيعَتَيْهِ وَهِيَ الْيُبْسُ، وَمُبَايِنٌ لَهُ فِي الْأُخْرَى وَهِيَ الْحَرَارَةُ، لِأَنَّ الْهَوَاءَ فِي الْخَرِيفِ بَارِدٌ يَابِسٌ، فَيَتَنَاهَى فِيهِ صَلَاحُ الثِّمَارِ وَتَيْبَسُ وَتَجِفُّ فَتَصِيرُ إِلَى حَالِ الِادِّخَارِ، فَتُقْطَفُ الثِّمَارُ وَتُحْصَدُ الْأَعْنَابُ وَتَفْرُغُ مِنْ جَمْعِهَا الْأَشْجَارُ. فَإِذَا انْقَضَى الْخَرِيفُ تَلَاهُ الشِّتَاءُ وَهُوَ مُلَائِمٌ لِلْخَرِيفِ فِي إِحْدَى طَبِيعَتَيْهِ وَهِيَ الْبُرُودَةُ، وَمُبَايِنٌ لَهُ فِي الْأُخْرَى وَهُوَ الْيُبْسُ، لِأَنَّ الْهَوَاءَ فِي الشِّتَاءِ بَارِدٌ رَطْبٌ، فَتَكْثُرُ الْأَمْطَارُ والثلوج وتمهد الْأَرْضُ كَالْجَسَدِ الْمُسْتَرِيحِ، فَلَا تَتَحَرَّكُ إِلَّا أَنْ يعبد اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَيْهَا حَرَارَةَ(2/199)
الرَّبِيعِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ مَعَ الرُّطُوبَةِ كَانَ عِنْدَ ذَلِكَ النَّشْءِ وَالنُّمُوِّ بِإِذْنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَقَدْ تَهُبُّ رِيَاحٌ كَثِيرَةٌ سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ، إِلَّا أَنَّ الْأُصُولَ هَذِهِ الْأَرْبَعُ. فَكُلُّ رِيحٍ تَهُبُّ بَيْنَ رِيحَيْنِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الرِّيحِ الَّتِي تَكُونُ فِي هُبُوبِهَا أَقْرَبُ إِلَى مَكَانِهَا وَتُسَمَّى" النَّكْبَاءَ". الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ" سُمِّيَ السَّحَابُ سَحَابًا لِانْسِحَابِهِ فِي الْهَوَاءِ. وَسَحَبْتُ ذَيْلِي سَحْبًا. وَتَسَحَّبَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ: اجْتَرَأَ. وَالسَّحْبُ: شِدَّةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. وَالْمُسَخَّرُ: الْمُذَلَّلُ، وَتَسْخِيرُهُ بَعْثُهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ. وَقِيلَ: تَسْخِيرُهُ ثُبُوتُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ وَلَا عَلَائِقَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَدْ يَكُونُ بِمَاءٍ وَبِعَذَابٍ، رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ فَإِذَا شَرْجَةٌ «1» مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ قَالَ فُلَانٌ لِلِاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ لِاسْمِكَ فَمَا تَصْنَعُ [فِيهَا «2» ] قَالَ أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ (. وَفِي رِوَايَةٍ" وَأَجْعَلُ ثُلُثَهُ فِي الْمَسَاكِينِ وَالسَّائِلِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ) . وَفِي التَّنْزِيلِ:" وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ «3» "، وَقَالَ:" حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ «4» " وَهُوَ فِي التَّنْزِيلِ كَثِيرٌ. وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى سَحَابًا مُقْبِلًا مِنْ أُفُقٍ مِنَ الْآفَاقِ تَرَكَ مَا هُوَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ حَتَّى يَسْتَقْبِلَهُ فَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أُرْسِلَ بِهِ) فَإِنْ أَمْطَرَ قَالَ: (اللَّهُمَّ سيبا نافعا) مرتين أو ثلاثة، وَإِنْ كَشَفَهُ اللَّهُ وَلَمْ يُمْطِرْ حَمِدَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ يَوْمَ الرِّيحِ وَالْغَيْمِ عُرِفَ ذَلِكَ في وجهه
__________
(1) . الحرة: أرض ذات أحجار سود. والشرجة: طريق الماء ومسيله.
(2) . الزيادة عن صحيح مسلم. [.....]
(3) . راجع ج 14 ص 326.
(4) . راجع ج 7 ص 229.(2/200)
وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ سُرَّ بِهِ وَذَهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابًا سُلِّطَ عَلَى أُمَّتِي) . وَيَقُولُ إِذَا رَأَى الْمَطَرَ: (رَحْمَةٌ) . فِي رِوَايَةٍ فَقَالَ: (لَعَلَّهُ يَا عَائِشَةُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ" فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا «1» . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَالْآيُ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَأَنَّ تَسْخِيرَهَا لَيْسَ ثُبُوتُهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. فَإِنَّ الثُّبُوتَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الِانْتِقَالِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالثُّبُوتِ كَوْنُهَا فِي الْهَوَاءِ لَيْسَتْ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ فَصَحِيحٌ، لِقَوْلِهِ" بَيْنَ" وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُسَخَّرَةٌ مَحْمُولَةٌ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ فِي الْقُدْرَةِ، كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ «2» " وَقَالَ:" أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ «3» ". الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: السَّحَابُ غِرْبَالُ الْمَطَرِ، لَوْلَا السَّحَابُ حِينَ يَنْزِلُ الْمَاءُ مِنَ السَّمَاءِ لَأَفْسَدَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ مَرَّ عَلَى بَغْلَةٍ وَأَنَا فِي بَنِي سَلِمَةَ، فَمَرَّ بِهِ تُبَيْعٌ ابْنُ امْرَأَةِ كَعْبٍ فَسَلَّمَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ سَمِعْتَ كَعْبَ الْأَحْبَارِ يَقُولُ فِي السَّحَابِ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: السَّحَابُ غِرْبَالُ الْمَطَرِ، لَوْلَا السَّحَابُ حِينَ يَنْزِلُ الْمَاءُ مِنَ السَّمَاءِ لَأَفْسَدَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبًا يَقُولُ فِي الْأَرْضِ تُنْبِتُ الْعَامَ نَبَاتًا، وَتُنْبِتُ عَامًا قَابِلًا غَيْرَهُ؟ قَالَ نَعَمْ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ الْبَذْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقَدْ سَمِعْتُ ذلك من كعب. الرابعة عشرة- قوله تعالى:" لَآياتٍ" أَيْ دَلَالَاتٍ تَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ هَذِهِ الْأُمُورَ عُقَيْبَ قَوْلِهِ:" وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ" ليدل بها عَلَى صِدْقِ الْخَبَرِ عَمَّا ذَكَرَهُ قَبْلَهَا مِنْ وَحْدَانِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ، وَذِكْرُ رَحْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ بِخَلْقِهِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَمَجَّ بِهَا) أَيْ لَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا وَلَمْ يَعْتَبِرْهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا أَنْكَرْتَ أَنَّهَا أَحْدَثَتْ أَنْفُسَهَا. قِيلَ لَهُ: هَذَا مُحَالٌ، لِأَنَّهَا لَوْ أَحْدَثَتْ أَنْفُسَهَا لَمْ تَخْلُ مِنْ أَنْ تَكُونَ أَحْدَثَتْهَا وَهِيَ مَوْجُودَةٌ أَوْ هِيَ مَعْدُومَةٌ، فَإِنْ أَحْدَثَتْهَا وهى
__________
(1) . راجع ج 16 ص 205.
(2) . راجع ج 10 ص 152.
(3) . راجع ج 18 ص 217.(2/201)
مَعْدُومَةٌ كَانَ مُحَالًا، لِأَنَّ الْإِحْدَاثَ لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِنْ حَيٍّ عَالِمٍ قَادِرٍ مُرِيدٍ، وَمَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ لَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فَوُجُودُهَا يُغْنِي عَنْ إِحْدَاثِ أَنْفُسِهَا. وَأَيْضًا فَلَوْ جَازَ مَا قَالُوهُ لَجَازَ أَنْ يُحْدِثَ الْبِنَاءُ نَفْسَهُ، وَكَذَلِكَ النِّجَارَةُ وَالنَّسْجُ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَمَا أَدَّى إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقْتَصِرْ بِهَا فِي وَحْدَانِيَّتِهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْأَخْبَارِ حَتَّى قَرَنَ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ فِي آيٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1» " وَالْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ"، وَقَالَ:" أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «2» " يَعْنِي بِالْمَلَكُوتِ الْآيَاتِ. وَقَالَ:" وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ «3» ". يقول: أو لم يَنْظُرُوا فِي ذَلِكَ نَظَرَ تَفَكُّرٍ وَتَدَبُّرٍ حَتَّى يَسْتَدِلُّوا بِكَوْنِهَا مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَالتَّغْيِيرَاتِ عَلَى أَنَّهَا مُحْدَثَاتٍ، وَأَنَّ الْمُحْدَثَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ صَانِعٍ يَصْنَعُهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ الصَّانِعَ حَكِيمٌ عَالِمٌ قَدِيرٌ مُرِيدٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ مُتَكَلِّمٌ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْمَلَ مِنْهُ وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَقَالَ تَعَالَى:" وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ «4» " يَعْنِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ،" ثُمَّ جَعَلْناهُ" أَيْ جَعَلْنَا نَسْلَهُ وَذُرِّيَّتَهُ" نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ" إِلَى قَوْلِهِ:" تُبْعَثُونَ". فَالْإِنْسَانُ إِذَا تَفَكَّرَ بِهَذَا التَّنْبِيهِ بِمَا جُعِلَ لَهُ مِنَ الْعَقْلِ فِي نَفْسِهِ رَآهَا مُدَبِّرَةً وَعَلَى أَحْوَالٍ شَتَّى مُصَرِّفَةً. كَانَ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ لَحْمًا وَعَظْمًا، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ نَفْسَهُ مِنْ حَالِ النَّقْصِ إِلَى حَالِ الْكَمَالِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُحْدِثَ لِنَفْسِهِ فِي الْحَالِ الْأَفْضَلِ الَّتِي هِيَ كَمَالُ عَقْلِهِ وَبُلُوغُ أَشُدِّهِ عُضْوًا مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَزِيدَ فِي جَوَارِحِهِ جَارِحَةً، فَيَدُلُّهُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ فِي حَالِ نَقْصِهِ وَأَوَانِ ضَعْفِهِ عَنْ فِعْلِ ذَلِكَ أَعْجَزُ. وَقَدْ يَرَى نَفْسَهُ شَابًّا ثُمَّ كَهْلًا ثُمَّ شَيْخًا وَهُوَ لَمْ يَنْقُلْ نَفْسَهُ مِنْ حَالِ الشَّبَابِ وَالْقُوَّةِ إِلَى حَالِ الشَّيْخُوخَةِ وَالْهَرَمِ، وَلَا اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ وَلَا فِي وُسْعِهِ أَنْ يُزَايِلَ حَالَ الْمَشِيبِ وَيُرَاجِعَ قُوَّةَ الشَّبَابِ، فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ تِلْكَ الْأَفْعَالَ بِنَفْسِهِ، وَأَنَّ لَهُ صَانِعًا صَنَعَهُ وَنَاقِلًا نَقَلَهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ تَتَبَدَّلْ أَحْوَالُهُ بِلَا نَاقِلٍ وَلَا مُدَبِّرٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إِنَّ كُلَّ شي في العالم الكبير له نظير الْعَالَمِ الصَّغِيرِ، الَّذِي هُوَ بَدَنُ الْإِنْسَانِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:" لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" وقال:
__________
(1) . راجع ج 8 ص 386.
(2) . ج 7 ص 330.
(3) . ج 17 ص 40.
(4) . ج 12 ص 109.(2/202)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
" وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ". فَحَوَاسُّ الْإِنْسَانِ أَشْرَفُ مِنَ الْكَوَاكِبِ الْمُضِيئَةِ، وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي إِدْرَاكِ الْمُدْرَكَاتِ بِهَا، وَأَعْضَاؤُهُ تَصِيرُ عِنْدَ الْبِلَى تُرَابًا مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، وَفِيهِ مِنْ جِنْسِ الْمَاءِ الْعَرَقُ وَسَائِرُ رُطُوبَاتِ الْبَدَنِ، وَمِنْ جِنْسِ الْهَوَاءِ فِيهِ الرُّوحُ وَالنَّفَسُ، وَمِنْ جِنْسِ النَّارِ فِيهِ الْمِرَّةُ الصَّفْرَاءُ. وَعُرُوقُهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَنْهَارِ فِي الْأَرْضِ، وَكَبِدُهُ بِمَنْزِلَةِ الْعُيُونِ الَّتِي تُسْتَمَدُّ مِنْهَا الْأَنْهَارِ، لِأَنَّ الْعُرُوقَ تَسْتَمِدُّ مِنَ الْكَبِدِ. وَمَثَانَتُهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَحْرِ، لِانْصِبَابٍ مَا فِي أَوْعِيَةِ الْبَدَنِ إِلَيْهَا كَمَا تَنْصَبُّ الْأَنْهَارُ إِلَى الْبَحْرِ. وَعِظَامُهُ بِمَنْزِلَةِ الْجِبَالِ الَّتِي هِيَ أَوْتَادُ الْأَرْضِ. وَأَعْضَاؤُهُ كَالْأَشْجَارِ، فَكَمَا أَنَّ لِكُلِّ شَجَرٍ وَرَقًا وَثَمَرًا فَكَذَلِكَ لِكُلِّ عُضْوٍ فِعْلٌ أَوْ أَثَرٌ. وَالشَّعْرُ عَلَى الْبَدَنِ بِمَنْزِلَةِ النَّبَاتِ وَالْحَشِيشِ عَلَى الْأَرْضِ. ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ يَحْكِي بِلِسَانِهِ كُلَّ صَوْتِ حَيَوَانٍ، وَيُحَاكِي بِأَعْضَائِهِ صَنِيعَ كُلِّ حَيَوَانٍ، فَهُوَ الْعَالَمُ الصَّغِيرُ مَعَ الْعَالَمِ الْكَبِيرِ مَخْلُوقٌ مُحْدَثٌ لِصَانِعٍ وَاحِدٍ، لَا إِلَهَ إلا هو. قوله تعالى:
[سورة البقرة (2) : آية 165]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165)
لَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْآيَةِ قَبْلَ مَا دَلَّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِظَمِ سُلْطَانِهِ أَخْبَرَ أَنَّ مَعَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْقَاهِرَةِ لِذَوِي الْعُقُولِ مَنْ يَتَّخِذُ مَعَهُ أَنْدَادًا، وَوَاحِدُهَا نِدٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «1» . وَالْمُرَادُ الْأَوْثَانُ وَالْأَصْنَامُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا كَعِبَادَةِ اللَّهِ مَعَ عَجْزِهَا، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ" أَيْ يُحِبُّونَ أَصْنَامَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ عَلَى الْحَقِّ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ، وَقَالَ مَعْنَاهُ الزَّجَّاجُ. أَيْ أَنَّهُمْ مَعَ عَجْزِ الْأَصْنَامِ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ مَعَ قُدْرَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بِالْأَنْدَادِ الرُّؤَسَاءُ الْمُتَّبَعُونَ، يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ. وَجَاءَ الضَّمِيرُ فِي" يُحِبُّونَهُمْ" عَلَى هَذَا عَلَى الْأَصْلِ، وَعَلَى الأول جاء ضمير الأصنام
__________
(1) . تراجع المسألة السادسة ج 1 ص 230 طبعه ثانية.(2/203)
ضَمِيرَ مَنْ يَعْقِلُ عَلَى غَيْرِ الْأَصْلِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ وَالزَّجَّاجُ أَيْضًا: مَعْنَى" يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ" أي يسؤون بَيْنَ الْأَصْنَامِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَحَبَّةِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَهَذَا الْقَوْلُ الصَّحِيحُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ:" وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ". وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ" يَحِبُّونَهُمْ" بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الْقُرْآنِ، وَهِيَ لُغَةٌ، يُقَالُ: حَبَبْتُ الرَّجُلَ فَهُوَ مَحْبُوبٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَنْشَدَنِي أَبُو تُرَابٍ:
أُحِبُّ لِحُبِّهَا السُّودَانَ حَتَّى ... حببت لحبها سود الكلاب
و" من" فِي قَوْلِهِ" مَنْ يَتَّخِذُ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بالابتداء، و" يتخذ" عَلَى اللَّفْظِ، وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ" يَتَّخِذُونَ" على المعنى، و" يحبونهم" عَلَى الْمَعْنَى، وَ" يُحِبُّهُمْ" عَلَى اللَّفْظِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي" يَتَّخِذُ" أَيْ مُحِبِّينَ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَ نَعْتًا لِلْأَنْدَادِ، أَيْ مَحْبُوبَةٌ. وَالْكَافُ مِنْ" كَحُبِّ" نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ يُحِبُّونَهُمْ حُبًّا كحب الله." وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ" أَيْ أَشَدُّ مِنْ حُبِّ أَهْلِ الْأَوْثَانِ لِأَوْثَانِهِمْ وَالتَّابِعِينَ لِمَتْبُوعِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ" وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ" لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَبَّهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ أَحَبُّوهُ. وَمَنْ شَهِدَ لَهُ مَحْبُوبُهُ بِالْمَحَبَّةِ كَانَتْ مَحَبَّتُهُ أَتَمَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ". وَسَيَأْتِي بَيَانُ حُبِّ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ تَعَالَى وَحُبِّهِ لَهُمْ فِي سُورَةِ" آلِ عِمْرَانَ «1» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ" قِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ بِالتَّاءِ، وَأَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ الْكُوفَةَ وَأَبُو عَمْرٍو بِالْيَاءِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ. وَفِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ وَحَذْفٌ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمَعْنَى لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي الدُّنْيَا عَذَابَ الْآخِرَةِ لَعَلِمُوا حِينَ يرونه أن القوة لله جميعا. و" يَرَى" عَلَى هَذَا مِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ. قَالَ النَّحَّاسُ فِي كِتَابِ" مَعَانِي الْقُرْآنِ" لَهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ التَّفْسِيرِ. وَقَالَ فِي كِتَابِ" إِعْرَابِ الْقُرْآنِ" لَهُ: وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي جَاءَ بِهِ أَبُو عُبَيْدٍ بَعِيدٌ، وَلَيْسَتْ عِبَارَتُهُ فِيهِ بِالْجَيِّدَةِ، لِأَنَّهُ يُقَدِّرُ: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ، فَكَأَنَّهُ يَجْعَلُهُ مَشْكُوكًا فِيهِ وَقَدْ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَكِنِ التَّقْدِيرُ وَهُوَ قَوْلُ الأخفش:
__________
(1) . راجع ج 4 ص 59.(2/204)
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)
وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ. و" يرى" بِمَعْنَى يَعْلَمُ، أَيْ لَوْ يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ قُوَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَشِدَّةِ عَذَابِهِ، فَ" يَرَى" وَاقِعَةً عَلَى أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ، وَسَدَّتْ مَسَدَّ المفعولين. و" الذين" فَاعِلُ" يَرَى"، وَجَوَابُ" لَوْ" مَحْذُوفٌ، أَيْ لَتَبَيَّنُوا ضَرَرَ اتِّخَاذِهِمُ الْآلِهَةَ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ." وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا «1» عَلى رَبِّهِمْ"،" وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ «2» " وَلَمْ يَأْتِ لِ" لَوْ" جَوَابٌ. قَالَ الزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ: الْإِضْمَارُ أَشَدُّ لِلْوَعِيدِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَوْ رَأَيْتَ فُلَانًا وَالسِّيَاطُ تَأْخُذُهُ! وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي حَالَ رُؤْيَتِهِمُ الْعَذَابَ وَفَزَعِهِمْ مِنْهُ وَاسْتِعْظَامِهِمْ لَهُ لَأَقَرُّوا أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ، فَالْجَوَابُ مُضْمَرٌ عَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنَ الْمَعْنَى وَهُوَ الْعَامِلُ فِي" أَنَّ". وَتَقْدِيرٌ آخَرُ: وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم مِنْهُ لَعَلِمْتَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ خُوطِبَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْوِيَةِ عِلْمِهِ بِمُشَاهَدَةِ مِثْلِ هَذَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلظَّالِمِ هَذَا. وَقِيلَ:" أَنَّ" فِي مَوْضِعِ نَصْبِ مَفْعُولٍ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ لِأَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا. وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
وَأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الْكَرِيمِ ادِّخَارَهُ ... وَأَعْرِضْ عَنْ شَتْمِ اللَّئِيمِ تَكَرُّمَا
أَيْ لِادِّخَارِهِ، وَالْمَعْنَى: وَلَوْ تَرَى يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي حَالِ رُؤْيَتِهِمْ لِلْعَذَابِ لِأَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ لَعَلِمْتَ مَبْلَغَهُمْ مِنَ النَّكَالِ وَلَاسْتَعْظَمْتَ مَا حَلَّ بِهِمْ. وَدَخَلَتْ" إِذْ" وَهِيَ لِمَا مَضَى فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ الْمُسْتَقْبَلَاتِ تَقْرِيبًا لِلْأَمْرِ وَتَصْحِيحًا لِوُقُوعِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحْدَهُ" يُرَوْنَ" بِضَمِ الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَعْقُوبُ وَشَيْبَةُ وسلام وأبو جعفر" إن القوة، وإن اللَّهَ" بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فِيهِمَا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ يَقُولُونَ إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ. وَثَبَتَ بِنَصِ هَذِهِ الْآيَةِ الْقُوَّةُ لِلَّهِ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي نَفْيِهِمْ مَعَانِي الصِّفَاتِ القديمة، تعالى الله عن قولهم.
[سورة البقرة (2) : آية 166]
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166)
__________
(1) . راجع ج 6 ص 411، 408.
(2) . راجع ج 6 ص 411، 408.(2/205)
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا" يَعْنِي السَّادَةَ وَالرُّؤَسَاءَ تَبَرَّءُوا مِمَّنِ اتَّبَعَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ. عَنْ قَتَادَةَ وَعَطَاءٍ وَالرَّبِيعِ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا وَالسُّدِّيُّ: هُمُ الشَّيَاطِينُ الْمُضِلُّونَ تَبَرَّءُوا مِنَ الْإِنْسِ. وقل: هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَتْبُوعٍ." وَرَأَوُا الْعَذابَ" يَعْنِي التَّابِعِينَ وَالْمَتْبُوعِينَ، قِيلَ: بِتَيَقُّنِهِمْ لَهُ عِنْدَ المعاينة في الدنيا. وقيل: عند العرض والمسألة فِي الْآخِرَةِ. قُلْتُ: كِلَاهُمَا حَاصِلٌ، فَهُمْ يُعَايِنُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ مَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْهَوَانِ، وَفِي الْآخِرَةِ يَذُوقُونَ أَلِيمَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ" أَيِ الْوُصُلَاتُ الَّتِي كَانُوا يَتَوَاصَلُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا مِنْ رَحِمِ وَغَيْرِهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ. الْوَاحِدُ سَبَبٌ وَوُصْلَةٌ. وَأَصْلُ السَّبَبِ الْحَبْلُ يَشُدُّ بِالشَّيْءِ فَيَجْذِبُهُ، ثُمَّ جُعِلَ كُلُّ مَا جَرَّ شَيْئًا سَبَبًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ الْأَسْبَابَ أَعْمَالَهُمْ. وَالسَّبَبُ النَّاحِيَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ... وَلَوْ رام أسباب السماء بسلم
[سورة البقرة (2) : آية 167]
وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً"" أَنَّ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيْ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ لَنَا رَجْعَةً" فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ" جَوَابُ التَّمَنِّي. وَالْكَرَّةُ: الرَّجْعَةُ وَالْعَوْدَةُ إِلَى حَالٍ قَدْ كَانَتْ، أَيْ قَالَ الْأَتْبَاعُ: لَوْ رُدِدْنَا إِلَى الدُّنْيَا حتى نعمل صالحا ونتبرأ منهم" كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا" أي تبرأ كَمَا، فَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى النَّعْتِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى الْحَالِ، تَقْدِيرُهَا مُتَبَرِّئِينَ، وَالتَّبَرُّؤُ الِانْفِصَالُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ" الْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. أَيْ كَمَا أَرَاهُمُ اللَّهُ الْعَذَابَ كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أعمالهم. و" يُرِيهِمُ اللَّهُ" قيل:(2/206)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)
هِيَ مِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ، فَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا لِمَفْعُولَيْنِ: الْأَوَّلُ الْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي" يُرِيهِمُ"، وَالثَّانِي" أَعْمالَهُمْ"، وتكون" حَسَراتٍ" حال. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، فَتَكُونُ" حَسَراتٍ" الْمَفْعُولَ الثَّالِثَ." أَعْمالَهُمْ" قَالَ الرَّبِيعُ: أَيِ الْأَعْمَالُ الْفَاسِدَةُ الَّتِي ارْتَكَبُوهَا فَوَجَبَتْ لَهُمْ بِهَا النَّارُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالسُّدِّيُّ: الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الَّتِي تَرَكُوهَا فَفَاتَتْهُمُ الْجَنَّةُ، وَرُوِيَتْ فِي هَذَا الْقَوْلِ أَحَادِيثُ. قَالَ السُّدِّيُّ: تُرْفَعُ لَهُمُ الْجَنَّةُ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَإِلَى بُيُوتِهِمْ فِيهَا لَوْ أَطَاعُوا اللَّهَ تَعَالَى، ثُمَّ تُقَسَّمُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فَذَلِكَ حِينَ يَنْدَمُونَ. وَأُضِيفَتْ هَذِهِ الْأَعْمَالُ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ مَأْمُورُونَ بِهَا، وَأَمَّا إِضَافَةُ الْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ إِلَيْهِمْ فَمِنْ حَيْثُ عَمِلُوهَا. وَالْحَسْرَةُ وَاحِدَةُ الْحَسَرَاتِ، كَتَمْرَةٍ وَتَمَرَاتٍ، وَجَفْنَةٍ وَجَفَنَاتٍ، وَشَهْوَةٍ وَشَهَوَاتٍ. هَذَا إِذَا كَانَ اسْمًا، فَإِنْ نَعَتَّهُ سَكَّنْتَ، كقولك: ضخمة وضخمات، وعبلة وعبلات. والحسرة أعلا درجات الندامة على شي فَائِتٍ. وَالتَّحَسُّرُ: التَّلَهُّفُ، يُقَالُ: حَسِرْتُ عَلَيْهِ (بِالْكَسْرِ) أَحْسَرُ حَسَرًا وَحَسْرَةً. وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشَّيْءِ الْحَسِيرِ الَّذِي قَدِ انْقَطَعَ وَذَهَبَتْ قُوَّتُهُ، كَالْبَعِيرِ إِذَا عَيِيَ. وَقِيلَ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ حَسَرَ إِذَا كَشَفَ، وَمِنْهُ الْحَاسِرُ فِي الْحَرْبِ: الَّذِي لَا دِرْعَ مَعَهُ. وَالِانْحِسَارُ. الِانْكِشَافُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ" دَلِيلٌ عَلَى خُلُودِ الْكُفَّارِ فِيهَا وَأَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا. وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ". وسيأتي «1» .
[سورة البقرة (2) : آية 168]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ" قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي ثَقِيفٍ وَخُزَاعَةَ وَبَنِي مُدْلِجٍ فِيمَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَاللَّفْظِ عَامٌّ. وَالطَّيِّبُ هُنَا الْحَلَالُ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي الطَّيِّبِ. وقال الشافعي: الطيب المستلذ، فهو
__________
(1) . راجع ج 7 ص 206. [.....](2/207)
تَنْوِيعٌ، وَلِذَلِكَ يُمْنَعُ أَكْلُ الْحَيَوَانِ الْقَذِرِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا فِي" الْأَنْعَامِ" «1» وَ" الْأَعْرَافِ «2» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" حَلالًا طَيِّباً"" حَلَالًا" حَالَ، وَقِيلَ مَفْعُولٌ. وَسُمِّيَ الْحَلَالُ حَلَالًا لِانْحِلَالِ عُقْدَةَ الْخَطَرِ عَنْهُ. قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: النَّجَاةُ فِي ثَلَاثَةٍ: أَكْلُ الْحَلَالِ، وَأَدَاءُ الْفَرَائِضِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ السَّاجِيُّ وَاسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ: خَمْسُ خِصَالٍ بِهَا تَمَامُ الْعِلْمِ، وَهِيَ: مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَإِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالْعَمَلِ عَلَى السُّنَّةِ، وَأَكْلُ الْحَلَالِ، فَإِنْ فُقِدَتْ وَاحِدَةً لَمْ يُرْفَعِ الْعَمَلُ. قَالَ سَهْلٌ: وَلَا يَصِحُّ أَكْلُ الْحَلَالِ إِلَّا بِالْعِلْمِ، وَلَا يَكُونُ الْمَالُ حَلَالًا حَتَّى يَصْفُوَ مِنْ سِتِّ خِصَالٍ: الرِّبَا وَالْحَرَامِ وَالسُّحْتِ- وَهُوَ اسْمٌ مُجْمَلٌ- وَالْغُلُولِ وَالْمَكْرُوهِ وَالشُّبْهَةِ. الثالثة- قوله تعالى:" وَلا تَتَّبِعُوا" نَهْيَ" خُطُواتِ الشَّيْطانِ"" خُطُوَاتِ" جَمْعُ خَطْوَةٍ وَخُطْوَةٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْخُطُوَاتُ جَمْعُ خَطْوَةٍ، بِالْفَتْحِ. وَخُطْوَةٌ (بِالضَّمِّ) : مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَجَمْعُ الْقِلَّةِ خَطْوَاتٌ وَخُطُوَاتٌ وَخَطَوَاتٌ، وَالْكَثِيرُ خُطًا. وَالْخَطْوَةُ (بِالْفَتْحِ) : الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ، وَالْجَمْعُ خَطَوَاتٌ (بِالتَّحْرِيكِ) وَخِطَاءٌ، مِثْلُ رَكْوَةٍ وَرِكَاءٍ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
لَهَا وَثَبَاتٌ كَوَثْبِ الظِّبَاءِ ... فؤاد خِطَاءٌ وَوَادٍ مَطَرْ «3»
وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ الْعَدَوِيُّ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ" خَطَوَاتٍ" بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَقَتَادَةَ وَالْأَعْرَجِ وَعَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ وَالْأَعْمَشِ" خُطُؤَاتِ" بِضَمِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ وَالْهَمْزَةِ عَلَى الْوَاوِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَذَهَبُوا بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِلَى أَنَّهَا جَمْعُ خَطِيئَةٍ، مِنَ الْخَطَأِ لَا مِنَ الْخَطْوِ. وَالْمَعْنَى عَلَى قراءة الجمهور: ولا تفقوا أَثَرَ الشَّيْطَانِ وَعَمَلَهُ، وَمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ فَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الشَّيْطَانِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" خُطُواتِ الشَّيْطانِ" أَعْمَالُهُ. مُجَاهِدٌ: خَطَايَاهُ. السُّدِّيُّ: طَاعَتُهُ. أَبُو مِجْلَزٍ: هِيَ النُّذُورُ فِي الْمَعَاصِي.
__________
(1) . راجع ج 7 ص 115، 00 3.
(2) . راجع ج 7 ص 115، 00 3.
(3) . يقول: مرة تخطو فتكف عن العدو، ومرة تعدو عدوا يشبه المطر. عن شرح الديوان.(2/208)
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
قُلْتُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا عَدَا السُّنَنَ وَالشَّرَائِعَ مِنَ الْبِدَعِ وَالْمَعَاصِي. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي" الشَّيْطَانِ" مُسْتَوْفًى «1» . الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ" أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ الشَّيْطَانَ عَدُوٌّ، وَخَبَرُهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ. فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَأْخُذَ حَذَرَهُ مِنْ هَذَا الْعَدُوِّ الَّذِي قَدْ أَبَانَ عَدَاوَتَهُ مِنْ زَمَنِ آدَمَ، وَبَذَلَ نَفْسَهُ وَعُمْرَهُ فِي إِفْسَادِ أَحْوَالِ بَنِي آدَمَ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْحَذَرِ مِنْهُ فَقَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ:" وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ"،" إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" وَقَالَ:" الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ «2» " وَقَالَ:" وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً" وَقَالَ:" إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «3» " وَقَالَ:" إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ «4» " وَقَالَ:" إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ «5» ". وَهَذَا غَايَةٌ فِي التَّحْذِيرِ، وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَقَالَ عبد الله ابن عُمَرَ: إِنَّ إِبْلِيسَ مُوثَقٌ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَإِذَا تَحَرَّكَ فَإِنَّ كُلَّ شَرٍّ فِي الْأَرْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مِنْ تَحَرُّكِهِ. وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ وَفِيهِ: (وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ) الْحَدِيثَ. وَقَالَ فِيهِ: حديث حسن صحيح غريب.
[سورة البقرة (2) : آية 169]
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ" سُمِّيَ السُّوءُ سُوءًا لِأَنَّهُ يَسُوءُ صَاحِبَهُ بِسُوءِ عَوَاقِبِهِ. وَهُوَ مَصْدَرُ سَاءَهُ يَسُوءُهُ سُوءًا وَمُسَاءَةً إِذَا أَحْزَنَهُ. وَسُؤْتُهُ فَسِيءَ إِذَا أَحْزَنْتَهُ فَحَزِنَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا «6» ". وقال الشاعر:
__________
(1) . تراجع المسألة العاشرة ج 1 ص 90 طبعه ثانية.
(2) . راجع ج 3 ص 328.
(3) . راجع ج 6 ص 292.
(4) . راجع ج 13 ص 261.
(5) . راجع ج 14 ص 323.
(6) . راجع ج 18 ص 220.(2/209)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
إِنْ يَكُ هَذَا الدَّهْرُ قَدْ سَاءَنِي ... فَطَالَمَا قَدْ سَرَّنِي الدَّهْرُ
الْأَمْرُ عِنْدِي فِيهِمَا وَاحِدٌ ... لِذَاكَ شُكْرٌ وَلِذَاكَ صَبْرُ
وَالْفَحْشَاءُ أَصْلُهُ قُبْحُ الْمَنْظَرِ، كَمَا قَالَ:
وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّيمِ «1» لَيْسَ بِفَاحِشٍ
ثُمَّ اسْتُعْمِلَتِ اللَّفْظَةُ فِيمَا يُقْبَحُ مِنَ الْمَعَانِي. وَالشَّرْعُ هُوَ الَّذِي يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ، فَكُلُّ مَا نَهَتْ عَنْهُ الشَّرِيعَةُ فَهُوَ مِنَ الْفَحْشَاءِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الْفَحْشَاءِ فَإِنَّهُ الزِّنَى، إِلَّا قَوْلَهُ:" الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ" فَإِنَّهُ مَنْعُ الزَّكَاةِ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا قِيلَ: السُّوءُ مَا لَا حَدَّ فِيهِ، وَالْفَحْشَاءُ مَا فِيهِ حَدٌّ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" قَالَ الطَّبَرِيُّ: يُرِيدُ مَا حَرَّمُوا مِنَ الْبَحِيرَةِ «2» وَالسَّائِبَةِ «3» وَنَحْوِهَا مِمَّا جَعَلُوهُ شَرْعًا." وَأَنْ تَقُولُوا" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا على قوله تعالى:" بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ".
[سورة البقرة (2) : آية 170]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا قِيلَ لَهُمُ" يَعْنِي كُفَّارَ الْعَرَبِ. ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ. الطَّبَرِيُّ: الضَّمِيرُ فِي" لَهُمُ" عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:" يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا".
__________
(1) . الريم: الظبى الأبيض الخالص البياض.
(2) . قال أبو إسحاق النحوي:" أثبت ما روينا عن أهل اللغة في البحيرة أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن فكان آخرها ذكرا بحروا أذنها أي شقوه، واعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح، ولا تحلا، (تطرد) عن ماء ترده، ولا تمنع من مرعى، وإذا لقيها المعنى المنقطع به لم يركبها".
(3) . كان الرجل في الجاهلية إذا قدم من سفر بعيد، أو برئ من علة، أو نحبة دابة من مشقة أو حرب قال: ناقتي سائبة، أي تسيب فلا ينتفع بظهرها ولا تحلا عن ماء، ولا تمنع من كلا ولا تركب. (عن اللسان) .(2/210)
وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى" مِنْ" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ" الآية. وقوله تَعَالَى:" اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ" أَيْ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ." قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا" أَلْفَيْنَا: وَجَدْنَا. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ... وَلَا ذَاكِرِ اللَّهِ إِلَّا قَلِيلًا
الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ" الْأَلِفُ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَفُتِحَتِ الْوَاوُ لِأَنَّهَا وَاوُ عَطْفٍ، عَطَفَتْ جُمْلَةَ كَلَامٍ عَلَى جُمْلَةٍ، لِأَنَّ غَايَةَ الْفَسَادِ فِي الِالْتِزَامِ أَنْ يَقُولُوا: نَتَّبِعُ آبَاءَنَا وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ، فَقُرِّرُوا عَلَى الْتِزَامِهِمْ هَذَا، إِذْ هِيَ حَالُ آبَائِهِمْ. مَسْأَلَةٌ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَقُوَّةُ أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَةِ تُعْطِي إِبْطَالَ التَّقْلِيدِ، وَنَظِيرُهَا:" وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا" الْآيَةَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَالَّتِي قَبْلَهَا مُرْتَبِطَةٌ بِمَا قَبْلَهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ جَهَالَةِ الْعَرَبِ فِيمَا تَحَكَّمَتْ فِيهِ بِآرَائِهَا السَّفِيهَةِ فِي الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ «1» ، فَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ أَمْرٌ وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ فَاتَّبَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَتَرَكُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَأَمَرَ بِهِ فِي دِينِهِ، فَالضَّمِيرُ فِي" لَهُمُ" عَائِدٌ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا. الثَّالِثَةُ- تَعَلَّقَ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي ذَمِّ التَّقْلِيدِ لِذَمِّ اللَّهِ تَعَالَى الْكُفَّارَ بِاتِّبَاعِهِمْ لِآبَائِهِمْ فِي الْبَاطِلِ، وَاقْتِدَائِهِمْ بِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ. وَهَذَا فِي الْبَاطِلِ صَحِيحٌ، أَمَّا التَّقْلِيدُ فِي الْحَقِّ فَأَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَعِصْمَةٌ مِنْ عِصَمِ الْمُسْلِمِينَ يَلْجَأُ إِلَيْهَا الْجَاهِلُ الْمُقَصِّرُ عَنْ دَرْكِ النَّظَرِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِهِ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ عَلَى مَا يَأْتِي، وَأَمَّا جَوَازُهُ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ فَصَحِيحٌ. الرَّابِعَةُ- التَّقْلِيدُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ حَقِيقَتُهُ قَبُولُ قَوْلٍ بِلَا حُجَّةٍ، وَعَلَى هَذَا فَمَنْ قَبِلَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي مُعْجِزَتِهِ يَكُونُ مُقَلِّدًا، وَأَمَّا مَنْ نَظَرَ فِيهَا فَلَا يَكُونُ مُقَلِّدًا.
__________
(1) . قال المفسرون: الوصيلة كانت في الشاة خاصة، كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم، فإذا ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وفيها معان أخر. (يراجع اللسان مادة" وصل") . وتقدم معنى" البحيرة والسائبة" ص 210.(2/211)
وَقِيلَ: هُوَ اعْتِقَادُ صِحَّةِ فُتْيَا مَنْ لَا يُعْلَمُ صِحَّةَ قَوْلِهِ. وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ قِلَادَةِ الْبَعِيرِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: قَلَّدْتُ الْبَعِيرَ إِذَا جَعَلْتَ فِي عُنُقِهِ حَبْلًا يُقَادُ بِهِ، فَكَأَنَّ الْمُقَلِّدَ يَجْعَلُ أَمْرَهُ كُلَّهُ لِمَنْ يَقُودُهُ حَيْثُ شَاءَ، وَكَذَلِكَ قَالَ شَاعِرُهُمْ:
وَقَلِّدُوا أَمْرَكُمْ لِلَّهِ دَرُّكُمْ ... ثَبْتَ الْجَنَانِ بِأَمْرِ الْحَرْبِ مُضْطَلِعَا
الْخَامِسَةُ- التَّقْلِيدُ لَيْسَ طَرِيقًا لِلْعِلْمِ وَلَا مُوَصِّلًا لَهُ، لَا فِي الْأُصُولِ وَلَا فِي الْفُرُوعِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، خِلَافًا لِمَا يُحْكَى عَنْ جُهَّالِ الْحَشْوِيَّةِ وَالثَّعْلَبِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ، وَأَنَّ النَّظَرَ وَالْبَحْثَ حَرَامٌ، وَالِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِمْ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ. السَّادِسَةُ- فَرْضُ الْعَامِّيِّ الَّذِي لَا يَشْتَغِلُ بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ أُصُولِهَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ أَعْلَمَ مَنْ فِي زَمَانِهِ وَبَلَدِهِ فَيَسْأَلُهُ عَنْ نَازِلَتِهِ فَيَمْتَثِلُ فيها فتواه، لقوله تعالى:" فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ «1» "، وَعَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي أَعْلَمِ أَهْلِ وَقْتِهِ بِالْبَحْثِ عَنْهُ، حَتَّى يَقَعَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ مِنَ الْأَكْثَرِ مِنَ النَّاسِ. وَعَلَى الْعَالِمِ أَيْضًا فَرْضُ أَنْ يُقَلِّدَ عَالِمًا مِثْلَهُ فِي نَازِلَةٍ خَفِيَ عَلَيْهِ فِيهَا وَجْهُ الدَّلِيلِ وَالنَّظَرِ، وَأَرَادَ أَنْ يُجَدِّدَ الْفِكْرَ فِيهَا وَالنَّظَرَ حَتَّى يَقِفَ عَلَى الْمَطْلُوبِ، فَضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ ذَلِكَ، وَخَافَ عَلَى الْعِبَادَةِ أَنْ تَفُوتَ، أَوْ عَلَى الْحُكْمِ أَنْ يَذْهَبَ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ الْآخَرُ صَحَابِيًّا أَوْ غَيْرَهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ. السَّابِعَةُ- قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى إِبْطَالِ التَّقْلِيدِ فِي الْعَقَائِدِ. وَذَكَرَ فِيهِ غَيْرُهُ خِلَافًا كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَأَبِي عُمَرَ وَعُثْمَانَ بْنِ عِيسَى بْنِ دِرْبَاسٍ الشَّافِعِيِّ. قَالَ ابْنُ دِرْبَاسٍ فِي كِتَابِ" الِانْتِصَارِ" لَهُ: وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي أَمْرِ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «2» ". فَذَمَّهُمْ بِتَقْلِيدِهِمْ آبَاءَهُمْ وَتَرْكِهِمُ اتِّبَاعَ الرُّسُلِ، كَصَنِيعِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي تَقْلِيدِهِمْ كُبَرَاءَهُمْ وَتَرْكِهِمُ اتِّبَاعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دِينِهِ، وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ تَعَلَّمُ أَمْرِ التَّوْحِيدِ وَالْقَطْعُ بِهِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي آيَةِ التَّوْحِيدِ «3» ، وَاللَّهُ يهدي من يريد.
__________
(1) . راجع ج 10 ص 108 وج 11 ص 272. [.....]
(2) . راجع ج 16 ص 74.
(3) . ص 190 من هذا الجزء.(2/212)
قَالَ ابْنُ دِرْبَاسٍ: وَقَدْ أَكْثَرَ أَهْلُ الزَّيْغِ الْقَوْلَ عَلَى مَنْ تَمَسْكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّهُمْ مُقَلِّدُونَ. وَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُمْ، بَلْ هُوَ بِهِمْ أَلْيَقُ وَبِمَذَاهِبِهِمْ أَخْلَقُ، إِذْ قَبِلُوا قَوْلَ سَادَاتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ فِيمَا خَالَفُوا فِيهِ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَكَانُوا دَاخِلِينَ فِيمَنْ ذَمَّهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ:" رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا" إِلَى قَوْلِهِ:" كَبِيراً «1» " وَقَوْلِهِ:" إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ «2» ". ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ:" قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ «3» " ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ" فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ «4» " الْآيَةَ. فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْهُدَى فِيمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَلَيْسَ قَوْلُ أَهْلِ الْأَثَرِ فِي عَقَائِدِهِمْ: إِنَّا وَجَدْنَا أَئِمَّتَنَا وَآبَاءَنَا وَالنَّاسَ عَلَى الْأَخْذِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الْأُمَّةِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا وأَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا بِسَبِيلٍ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ نَسَبُوا ذَلِكَ إِلَى التَّنْزِيلِ وَإِلَى مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ، وَأُولَئِكَ نَسَبُوا إِفْكَهُمْ إِلَى أَهْلِ الْأَبَاطِيلِ، فَازْدَادُوا بِذَلِكَ فِي التَّضْلِيلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَثْنَى عَلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْقُرْآنِ حَيْثُ قَالَ:" إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ «5» ". فَلَمَّا كَانَ آبَاؤُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَنْبِيَاءَ مُتَّبِعِينَ لِلْوَحْيِ وَهُوَ الدِّينُ الْخَالِصُ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ، كَانَ اتِّبَاعُهُ آبَاءَهُ مِنْ صِفَاتِ الْمَدْحِ. وَلَمْ يَجِئْ فِيمَا جَاءُوا بِهِ ذِكْرَ الْأَعْرَاضِ وَتَعَلُّقَهَا بِالْجَوَاهِرِ وَانْقِلَابَهَا فِيهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَا هُدَى فِيهَا وَلَا رُشْدَ فِي وَاضِعِيهَا. قَالَ ابْنُ الْحَصَّارِ: وَإِنَّمَا ظَهَرَ التَّلَفُّظُ بِهَا فِي زَمَنِ الْمَأْمُونِ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ لَمَّا تُرْجِمَتْ كُتُبُ الْأَوَائِلِ وَظَهَرَ فِيهَا اخْتِلَافُهُمْ فِي قِدَمِ الْعَالَمِ وَحُدُوثِهِ. وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْجَوْهَرِ وَثُبُوتِهِ، وَالْعَرَضِ وَمَاهِيَّتِهِ، فَسَارَعَ الْمُبْتَدِعُونَ وَمَنْ فِي قَلْبِهِ زَيْغٌ إِلَى حِفْظِ تِلْكَ الِاصْطِلَاحَاتِ، وَقَصَدُوا بِهَا الْإِغْرَابَ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، وَإِدْخَالَ الشُّبَهِ عَلَى الضُّعَفَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ. فَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ ظَهَرَتِ الْبِدْعَةُ، وَصَارَتْ لِلْمُبْتَدِعَةِ شِيعَةٌ، وَالْتَبَسَ الْأَمْرُ عَلَى السُّلْطَانِ، حَتَّى قَالَ الْأَمِيرُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَجَبَرَ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَضُرِبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ على ذلك.
__________
(1) . راجع ج 14 ص 249.
(2) . راجع ج 16 ص 74 فما بعدها.
(3) . راجع ج 9 ص 191.
(4) . راجع ج 16 ص 74 فما بعدها.
(5) . راجع ج 9 ص 191.(2/213)
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
فَانْتُدِبَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ كَالشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ «1» بْنِ كُلَّابٍ وَابْنِ مُجَاهِدٍ وَالْمُحَاسِبِيِّ وَأَضْرَابِهِمْ، فَخَاضُوا مَعَ الْمُبْتَدِعَةِ فِي اصْطِلَاحَاتِهِمْ، ثُمَّ قَاتَلُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ بِسِلَاحِهِمْ. وَكَانَ مَنْ دَرَجَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُتَمَسِّكِينَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مُعْرِضِينَ عَنْ شُبَهِ الْمُلْحِدِينَ، لَمْ يَنْظُرُوا فِي الْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ، عَلَى ذَلِكَ كَانَ السَّلَفُ. قُلْتُ: وَمَنْ نَظَرَ الْآنَ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ حَتَّى يُنَاضِلَ بِذَلِكَ عَنِ الدِّينِ فَمَنْزِلَتُهُ قَرِيبَةٌ مِنَ النَّبِيِّينَ. فَأَمَّا مَنْ يُهَجِّنُ مِنْ غُلَاةِ الْمُتَكَلِّمِينَ طَرِيقَ مَنْ أَخَذَ بِالْأَثَرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَحُضُّ عَلَى دَرْسِ كُتُبِ الْكَلَامِ، وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ الْحَقَّ إِلَّا مِنْ جِهَتِهَا بِتِلْكَ الِاصْطِلَاحَاتِ فَصَارُوا مَذْمُومِينَ لِنَقْضِهِمْ طَرِيقَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْمُخَاصَمَةُ وَالْجِدَالُ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ فَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي الْقُرْآنِ، وَسَيَأْتِي بيانه «2» إن شاء الله تعالى.
[سورة البقرة (2) : آية 171]
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
شَبَّهَ تَعَالَى وَاعِظَ الْكُفَّارِ وَدَاعِيهِمْ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّاعِي الَّذِي يَنْعِقُ بِالْغَنَمِ وَالْإِبِلِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءَهُ وَنِدَاءَهُ، وَلَا تَفْهَمُ مَا يَقُولُ، هَكَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ وَسِيبَوَيْهِ، وَهَذِهِ نِهَايَةُ الْإِيجَازِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَمْ يُشَبَّهُوا بِالنَّاعِقِ إِنَّمَا شُبِّهُوا بِالْمَنْعُوقِ بِهِ. وَالْمَعْنَى: وَمَثَلُكَ يَا مُحَمَّدُ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ النَّاعِقِ وَالْمَنْعُوقِ بِهِ مِنَ الْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَفْهَمُ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمَعْنَى مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في دعائهم الآلهة الحماد كَمَثَلِ الصَّائِحِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فَيُجِيبُهُ الصَّدَى، فَهُوَ يَصِيحُ بِمَا لَا يَسْمَعُ، وَيُجِيبُهُ مَا لَا حَقِيقَةٌ فِيهِ وَلَا مُنْتَفَعٌ. وَقَالَ قُطْرُبُ: الْمَعْنَى مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي دُعَائِهِمْ مَا لَا يَفْهَمُ، يَعْنِي الْأَصْنَامَ، كَمَثَلِ الرَّاعِي إِذَا نَعَقَ بِغَنَمِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ هِيَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمُرَادُ مَثَلُ الْكَافِرِينَ فِي دُعَائِهِمْ آلِهَتَهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِشَيْءٍ بَعِيدٍ فَهُوَ لا يسمع من أجل
__________
(1) . في الأصول:" وأبى عبد الله" والتصويب عن القاموس وشرحه، وهو عبد الله بن سعيد بن كلاب التميمي البصري، وهو رأس الطائفة الكلابية من أهل السنة.
(2) . راجع ج 12 ص 94، ج 13 ص 350.(2/214)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
الْبُعْدِ، فَلَيْسَ لِلنَّاعِقِ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا النِّدَاءُ الَّذِي يُتْعِبُهُ وَيُنْصِبُهُ. فَفِي هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الثَّلَاثَةُ يُشَبَّهُ الْكُفَّارَ بِالنَّاعِقِ الصَّائِحِ، وَالْأَصْنَامَ بِالْمَنْعُوقِ بِهِ. وَالنَّعِيقُ: زَجْرُ الْغَنَمِ وَالصِّيَاحُ بِهَا، يُقَالُ: نَعَقَ الراعي بغنمه ينعق نعيقا ونعاقا ونعاقا، أَيْ صَاحَ بِهَا وَزَجَرَهَا. قَالَ الْأَخْطَلُ:
انْعِقْ بِضَأْنِكَ يَا جَرِيرٌ فَإِنَّمَا ... مَنَّتْكَ نَفْسَكَ فِي الْخَلَاءِ ضَلَالًا
قَالَ الْقُتَبِيُّ: لَمْ يَكُنْ جَرِيرٌ رَاعِي ضَأْنٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ بَنِي كُلَيْبٍ يُعَيَّرُونَ بِرَعْيِ الضَّأْنِ، وَجَرِيرٌ مِنْهُمْ، فَهُوَ فِي جَهْلِهِمْ. وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ الْمَثَلَ بِرَاعِي الْغَنَمِ فِي الْجَهْلِ وَيَقُولُونَ:" أَجْهَلُ مِنْ رَاعِي ضَأْنٍ". قَالَ الْقُتَبِيُّ: وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا فِي مَعْنَى الْآيَةِ كَانَ مَذْهَبًا، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِيمَا نَعْلَمُ. وَالنِّدَاءُ لِلْبَعِيدِ، وَالدُّعَاءُ لِلْقَرِيبِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْأَذَانِ بِالصَّلَاةِ نِدَاءٌ لِأَنَّهُ لِلْأَبَاعِدِ. وَقَدْ تُضَمُّ النُّونُ فِي النِّدَاءِ وَالْأَصْلُ الْكَسْرُ. ثُمَّ شَبَّهَ تَعَالَى الْكَافِرِينَ بِأَنَّهُمْ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أول «1» السورة.
[سورة البقرة (2) : آية 172]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
هَذَا تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ هُنَا بِالذِّكْرِ تَفْضِيلًا. وَالْمُرَادُ بِالْأَكْلِ الِانْتِفَاعُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ. وَقِيلَ: هُوَ الْأَكْلُ الْمُعْتَادُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ" يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ" وَقَالَ:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ" ثُمَّ ذَكَرَ «2» الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ [وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ] وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ [وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ «3» ] فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ (." وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ" إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ" تقدم معنى الشكر «4» فلا معنى للإعادة.
__________
(1) . راجع ج 1 ص 214 طبعه ثانية.
(2) . هذه الجملة من كلام الراوي، والضمير للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. و" الرجل" بالرفع مبتدأ، مذكور على الحكاية من لفظ الرسول عليه السلام. ويجوز أن ينصب على أنه مفعول" ذكر".
(3) . الزيادة عن صحيح مسلم.
(4) . تراجع المسألة الثالثة وما بعدها ج 1 ص 397 طبعه ثانية.(2/215)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
[سورة البقرة (2) : آية 173]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
فِيهِ أَرْبَعُ وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً «1» : الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ" إِنَّمَا" كَلِمَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْحَصْرِ، تَتَضَمَّنُ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ، فَتُثْبِتُ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ وَتَنْفِي مَا عَدَاهُ، وَقَدْ حَصَرَتْ هَا هُنَا التَّحْرِيمَ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ جَاءَتْ عُقَيْبَ التَّحْلِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ" فَأَفَادَتِ الْإِبَاحَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، ثُمَّ عَقَّبَهَا بِذِكْرِ الْمُحَرَّمِ بِكَلِمَةٍ" إِنَّمَا" الْحَاصِرَةُ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْإِيعَابُ لِلْقِسْمَيْنِ، فَلَا مُحَرَّمٌ يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَأَكَّدَهَا بِالْآيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِعَرَفَةَ:" قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ" إِلَى آخِرِهَا، فَاسْتَوْفَى الْبَيَانُ أولا وآخرا، قال ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي تِلْكَ فِي" الْأَنْعَامِ «2» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِيَةُ-" الْمَيْتَةُ" نُصِبَ بِ" حَرَّمَ"، وَ" مَا" كَافَّةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَهَا بِمَعْنَى الَّذِي، مُنْفَصِلَةً فِي الْخَطِّ، وَتُرْفَعُ" الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ" عَلَى خَبَرِ" إِنَّ" وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ. وَفِي" حَرَّمَ" ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الَّذِي، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ «3» ". وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ" حُرِّمَ" بِضَمِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَرَفْعِ الْأَسْمَاءِ بَعْدَهَا، إِمَّا عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَإِمَّا عَلَى خَبَرٍ إِنَّ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرِ بْنِ الْقَعْقَاعِ أَيْضًا" الْمَيِّتَةَ" بِالتَّشْدِيدِ. الطَّبَرِيُّ: وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ: التَّشْدِيدُ وَالتَّخْفِيفُ فِي مَيْتٍ، وَمَيِّتٍ لُغَتَانِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ: مَا قَدْ مَاتَ فَيُقَالَانِ فِيهِ، وَمَا لَمْ يَمُتْ بَعْدُ فَلَا يُقَالُ فِيهِ" مَيْتٌ" بِالتَّخْفِيفِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «4» ". وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ ... إِنَّمَا الْمَيْتُ ميت الأحياء
__________
(1) . اضطربت جميع نسخ الأصل في ذكر هذه المسائل، فبعضها أسقط الثانية، وأخرى" الحادية والعشرين". أخرى" الرابعة والعشرين". [.....]
(2) . راجع ج 7 ص 115.
(3) . راجع ج 11 ص 223.
(4) . راجع ج 15 ص 254.(2/216)
وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ بِتَخْفِيفٍ مَا لَمْ يَمُتْ، إِلَّا مَا رَوَى الْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ" وَمَا هُوَ بِمَيْتٍ «1» " وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ التَّثْقِيلُ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا مَا مَاتَ مَيْتٌ مِنْ تَمِيمِ ... فَسَرَّكَ أَنْ يَعِيشَ فَجِئْ بِزَادِ
فَلَا أَبْلَغَ فِي الْهِجَاءِ مِنْ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَيِّتَ حَقِيقَةً، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ شَارَفَ الْمَوْتَ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ. الثَّالِثَةُ- الْمَيْتَةُ: مَا فَارَقَتْهُ الرُّوحُ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ مِمَّا يُذْبَحُ، وَمَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ فَذَكَاتُهُ كَمَوْتِهِ، كَالسِّبَاعِ وَغَيْرِهَا، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ هُنَا وَفِي" الْأَنْعَامِ «2» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الرَّابِعَةُ- هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ دَخَلَهَا التَّخْصِيصُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ الْحُوتُ وَالْجَرَادُ وَدَمَانِ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ) . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الْعَنْبَرِ «3» يُخَصَّصُ عُمُومَ الْقُرْآنِ بِصِحَّةِ سَنَدِهِ. خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ"، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ هُنَاكَ «4» ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ جَمِيعِ دَوَابِّ الْبَحْرِ حَيِّهَا وَمَيِّتِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَتَوَقَّفَ أَنْ يُجِيبَ فِي خِنْزِيرِ الْمَاءِ وَقَالَ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ خِنْزِيرًا! قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَأَنَا أَتَّقِيهِ وَلَا أَرَاهُ حَرَامًا. الْخَامِسَةُ- وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَخْصِيصِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِالسُّنَّةِ، وَمَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى تَخْصِيصِ هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا بِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ كُنَّا نَأْكُلُ الْجَرَادَ مَعَهُ. وَظَاهِرُهُ أَكْلُهُ كَيْفَ مَا مَاتَ بِعِلَاجٍ أَوْ حَتْفَ أَنْفِهِ، وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ نَافِعٍ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا. وَمَنَعَ مَالِكٌ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ مِنْ أَكْلِهِ إِنْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ، ألا ترى أن الحرم يجزئه إذا قتله، فأشبه الغزال. وقال
__________
(1) . راجع ج 9 ص 352.
(2) . راجع ج 7 ص 116.
(3) . العنبر: سمكة كبيرة بحرية تتخذ من جلدها الاتراس، ويقال للترس: عنبر، وسمي هذا الحوت بالعنبر لوجوده في جوفه. (عن القسطلاني واللسان) .
(4) . راجع ج 6 ص 318.(2/217)
أَشْهَبُ: إِنْ مَاتَ مِنْ قَطْعِ رِجْلٍ أَوْ جَنَاحٍ لَمْ يُؤْكَلْ، لِأَنَّهَا حَالَةٌ قَدْ يَعِيشُ بِهَا وَيَنْسِلُ. وَسَيَأْتِي لِحُكْمِ الْجَرَادِ مَزِيدُ بَيَانٍ فِي" الْأَعْرَافِ «1» " عِنْدَ ذِكْرِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّادِسَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنْتَفَعَ بِالْمَيْتَةِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَاخْتَلَفَ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، فَقَالَ مَرَّةً: يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى شَاةِ مَيْمُونَةٍ فَقَالَ: (هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا) الْحَدِيثَ. وَقَالَ مَرَّةً: جُمْلَتُهَا مُحَرَّمٌ، فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا بِشَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَاتِ عَلَى وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ، حَتَّى لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْقَى الزَّرْعُ وَلَا الْحَيَوَانُ الْمَاءَ النَّجِسَ، وَلَا تُعْلَفُ الْبَهَائِمُ النَّجَاسَاتِ، وَلَا تُطْعَمُ الْمَيْتَةَ الْكِلَابُ وَالسِّبَاعُ، وَإِنْ أَكَلَتْهَا لَمْ تُمْنَعْ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ" وَلَمْ يَخُصَّ وَجْهًا مِنْ وَجْهٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْخِطَابُ مُجْمَلٌ، لِأَنَّ الْمُجْمَلَ مَا لَا يُفْهَمُ الْمُرَادُ مِنْ ظَاهِرِهِ، وَقَدْ فَهِمَتِ الْعَرَبُ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ"، وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ) . وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٌ (لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ) . وَهَذَا آخِرُ مَا وَرَدَ بِهِ كِتَابُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي" النَّحْلِ «2» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّابِعَةُ- فَأَمَّا النَّاقَةُ إِذَا نُحِرَتْ، أَوِ الْبَقَرَةُ أَوِ الشَّاةُ إِذَا ذُبِحَتْ، وَكَانَ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ مَيِّتٌ فَجَائِزٌ أَكْلُهُ مِنْ غَيْرِ تَذْكِيَةٍ لَهُ فِي نَفْسِهِ، إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا فَيُذَكَّى، وَيَكُونَ لَهُ حُكْمُ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَنِينَ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ الذَّبْحِ مَيِّتًا جَرَى مَجْرَى الْعُضْوِ مِنْ أَعْضَائِهَا. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الشَّاةَ وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوِ اسْتَثْنَى عُضْوًا مِنْهَا، وَكَانَ مَا فِي بَطْنِهَا تَابِعًا لَهَا كَسَائِرِ أَعْضَائِهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوقِعَ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا عِتْقًا مُبْتَدَأً، وَلَوْ كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْهَا لَمْ يَتْبَعْهَا فِي بَيْعٍ وَلَا عِتْقٍ. وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْبَقَرَةِ وَالشَّاةِ تُذْبَحُ، وَالنَّاقَةِ تُنْحَرُ فَيَكُونُ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ مَيِّتٌ، فَقَالَ: (إِنْ شِئْتُمْ فَكُلُوهُ لِأَنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ) . خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِمَعْنَاهُ مِنْ حديث
__________
(1) . راجع ج 7 ص 268.
(2) . في قوله تعالى:" إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ... " آية 115 ولم يذكر المؤلف فيها شيئا، بل أحال على ما هنا، راجع ج 10 ص 195.(2/218)
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَهُوَ نَصٌّ لَا يُحْتَمَلُ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ فِي سُورَةِ" الْمَائِدَةِ «1» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّامِنَةُ- وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ فِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ هَلْ يَطْهُرُ بالدباغ أولا، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَطْهُرُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ) . وَوَجْهُ قَوْلِهِ: لَا يَطْهُرُ، بِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْمَيْتَةِ لَوْ أُخِذَ مِنْهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ كَانَ نَجِسًا، فَوَجَبَ أَلَّا يُطَهِّرَهُ الدِّبَاغُ قِيَاسًا عَلَى اللحم. وتحمل لأخبار بِالطَّهَارَةِ عَلَى أَنَّ الدِّبَاغَ يُزِيلُ الْأَوْسَاخَ عَنِ الْجِلْدِ حَتَّى يُنْتَفَعَ بِهِ فِي الْأَشْيَاءِ الْيَابِسَةِ وَفِي الْجُلُوسِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ فِي الْمَاءِ بِأَنْ يُجْعَلَ سِقَاءً، لِأَنَّ الْمَاءَ عَلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَهُ وَصْفٌ عَلَى مَا يَأْتِي مِنْ حُكْمِهِ فِي سُورَةِ" الْفُرْقَانِ «2» ". وَالطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ مُتَوَجِّهَةٌ نَحْوَ إِزَالَةِ الْأَوْسَاخِ كَمَا تَتَوَجَّهُ إِلَى الطَّهَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. التَّاسِعَةُ- وَأَمَّا شَعْرُ الْمَيْتَةِ وَصُوفُهَا فَطَاهِرٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا بَأْسَ بِمَسْكِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ وَصُوفِهَا وَشَعْرِهَا إِذَا غُسِلَ) . وَلِأَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا لَوْ أُخِذَ مِنْهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، إِلَّا أَنَّ اللَّحْمَ لَمَّا كَانَ نَجِسًا فِي حَالِ الْحَيَاةِ كَانَ كَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الصُّوفُ خِلَافَهُ فِي حَالِ الْمَوْتِ كَمَا كَانَ خِلَافَهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ اسْتِدْلَالًا بِالْعَكْسِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا اللَّبَنُ وَالْبَيْضَةُ مِنَ الدَّجَاجَةِ الْمَيِّتَةِ، لِأَنَّ اللَّبَنَ عِنْدَنَا طَاهِرٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْضَةُ، وَلَكِنَّهُمَا حَصَلَا فِي وِعَاءٍ نَجِسٍ فَتَنَجَّسَا بِمُجَاوَرَةِ الْوِعَاءِ لَا أَنَّهُمَا نُجِّسَا بِالْمَوْتِ. وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا وَمَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِمَا مِنَ الْخِلَافِ فِي سُورَةِ" النَّحْلِ «3» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْعَاشِرَةُ- وَأَمَّا مَا وَقَعَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ فَلَهُ حَالَتَانِ: حَالَةٌ تَكُونُ إِنْ أُخْرِجَتِ الْفَأْرَةُ حَيَّةً فَهُوَ طَاهِرٌ. وَإِنْ مَاتَتْ فِيهِ فَلَهُ حَالَتَانِ: حَالَةٌ يَكُونُ مَائِعًا فَإِنَّهُ يَنْجُسُ جَمِيعُهُ. وَحَالَةٌ يَكُونُ جَامِدًا فَإِنَّهُ يَنْجُسُ مَا جَاوَرَهَا، فَتُطْرَحُ وَمَا حَوْلَهَا، وَيُنْتَفَعُ بِمَا بَقِيَ وَهُوَ عَلَى طَهَارَتِهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ فَتَمُوتُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
__________
(1) . راجع ج 6 ص 50.
(2) . راجع ج 13 ص 39 فما بعدها.
(3) . راجع ج 10 ص 195.(2/219)
(إِنْ كَانَ جَامِدًا فَاطْرَحُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ) . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ إِذَا غُسِلَ، فَقِيلَ: لَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، لِأَنَّهُ مَائِعٌ نُجَسٌ فَأَشْبَهَ الدَّمَ وَالْخَمْرَ وَالْبَوْلَ وَسَائِرَ النَّجَاسَاتِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، لِأَنَّهُ جِسْمٌ تَنَجَّسَ بِمُجَاوَرَةِ النَّجَاسَةِ فَأَشْبَهَ الثَّوْبَ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الدَّمَ، لِأَنَّهُ نَجِسٌ بِعَيْنِهِ، وَلَا الْخَمْرَ وَالْبَوْلَ لِأَنَّ الْغَسْلَ يَسْتَهْلِكُهُمَا وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- فَإِذَا حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهِ بِالْغَسْلِ رَجَعَ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى فِي الطَّهَارَةِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ، لَكِنْ لَا يَبِيعُهُ حَتَّى يُبَيِّنَ، لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ عِنْدَ النَّاسِ تَأْبَاهُ نُفُوسُهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ وَنَجَاسَتَهُ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ حَتَّى يُبَيِّنَ الْعَيْبَ كَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الْمَعِيبَةِ. وَأَمَّا قَبْلَ الْغَسْلِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِحَالٍ، لِأَنَّ النَّجَاسَاتِ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ نَجَسٌ فَأَشْبَهَ الْخَمْرَ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ فَقَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا «1» فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا) . وَأَنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ. وَهَذَا الْمَائِعُ مُحَرَّمٌ لِنَجَاسَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُحَرَّمَ ثَمَنُهُ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتُلِفَ إِذَا وَقَعَ فِي الْقِدْرِ حَيَوَانٌ، طَائِرٌ أَوْ غَيْرُهُ [فَمَاتَ] فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُؤْكَلُ مَا فِي الْقِدْرِ، وَقَدْ تَنَجَّسَ بِمُخَالَطَةِ الْمَيْتَةِ إِيَّاهُ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يُغْسَلُ اللَّحْمُ وَيُرَاقُ الْمَرَقُ. وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: يُغْسَلُ اللَّحْمُ وَيُؤْكَلُ. وَلَا مُخَالِفَ لَهُ فِي الْمَرَقِ «2» مِنْ أَصْحَابِهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- فَأَمَّا إِنْفَحَةُ الْمَيْتَةِ وَلَبَنُ الْمَيْتَةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: ذَلِكَ نَجَسٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ". وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِطَهَارَتِهِمَا، وَلَمْ يَجْعَلْ لِمَوْضِعِ الْخِلْقَةِ أَثَرًا فِي تَنَجُّسٍ مَا جَاوَرَهُ مِمَّا حَدَثَ فِيهِ خِلْقَةٍ، قَالَ: وَلِذَلِكَ يُؤْكَلُ اللَّحْمُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْعُرُوقِ، مَعَ الْقَطْعِ بِمُجَاوَرَةِ الدَّمِ لِدَوَاخِلِهَا مِنْ غَيْرِ تَطْهِيرٍ وَلَا غَسْلٍ إِجْمَاعًا. وَقَالَ مَالِكٌ نَحْوَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، وَلَكِنْ يَنْجُسُ بِمُجَاوَرَةِ الْوِعَاءِ النَّجِسِ وَهُوَ مِمَّا لَا يتأتى فيه الغسل.
__________
(1) . جمل الشحم وأجمله: أذابه واستخرج دهنه.
(2) . في بعض الأصول والنسخة الازهرية:" ولا مخالف له في الصحابة". [.....](2/220)
وَكَذَلِكَ الدَّجَاجَةُ تَخْرُجُ مِنْهَا الْبَيْضَةُ بَعْدَ مَوْتِهَا، لِأَنَّ الْبَيْضَةَ لَيِّنَةٌ فِي حُكْمِ الْمَائِعِ قَبْلَ خُرُوجِهَا، وَإِنَّمَا تَجْمُدُ وَتَصْلُبُ بِالْهَوَاءِ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُكُمْ يُؤَدِّي إِلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ كَانُوا يَأْكُلُونَ الْجُبْنَ وَكَانَ مَجْلُوبًا إِلَيْهِمْ مِنْ أَرْضِ الْعَجَمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَبَائِحَ الْعَجَمِ وَهُمْ مَجُوسٌ مَيْتَةٌ، وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِأَنْ يَكُونَ مُجَمَّدًا بِإِنْفَحَةِ مَيْتَةٍ أَوْ ذُكِّيَ. قِيلَ لَهُ: قَدْرُ مَا يَقَعُ مِنَ الْإِنْفَحَةِ فِي اللَّبَنِ الْمُجَبَّنِ يَسِيرٌ، وَالْيَسِيرُ مِنَ النَّجَاسَةِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ إِذَا خَالَطَ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَائِعِ. هَذَا جَوَابٌ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَكَلَتِ الْجُبْنَ الْمَحْمُولَ مِنْ أَرْضِ الْعَجَمِ، بَلِ الْجُبْنُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِ الْعَرَبِ، فَلَمَّا انْتَشَرَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَرْضِ الْعَجَمِ بِالْفُتُوحِ صَارَتِ الذَّبَائِحُ لَهُمْ، فَمِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةَ أَكَلَتْ جُبْنًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا مِنْ أَرْضِ الْعَجَمِ وَمَعْمُولًا مِنْ إِنْفَحَةِ ذَبَائِحِهِمْ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ طَعَامِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْمَجُوسِ وَسَائِرِ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ مِنَ الْكُفَّارِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذَكَاةٍ إِلَّا الْجُبْنَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ" الْجُبْنُ وَالسَّمْنُ" حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى السُّدِّيُّ حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ هَارُونَ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ. فَقَالَ: (الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ) . الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالدَّمَ" اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الدَّمَ حَرَامٌ نَجِسٌ لَا يُؤْكَلُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَأَمَّا الدَّمُ فَمُحَرَّمٌ مَا لَمْ تَعُمَّ بِهِ الْبَلْوَى، وَمَعْفُوٌّ عَمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى. وَالَّذِي تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى هُوَ الدَّمُ فِي اللَّحْمِ وَعُرُوقُهُ، وَيَسِيرُهُ فِي الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ يُصَلَّى فِيهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ"، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ" قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً «1» ".
__________
(1) . راجع ج 7 ص 1 51.(2/221)
فَحَرَّمَ الْمَسْفُوحَ مِنَ الدَّمِ. وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (كُنَّا نَطْبُخُ الْبُرْمَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلُوهَا الصُّفْرَةُ مِنَ الدَّمِ فَنَأْكُلُ وَلَا نُنْكِرُهُ، لِأَنَّ التَّحَفُّظَ مِنْ هَذَا إِصْرٌ وَفِيهِ مَشَقَّةٌ، وَالْإِصْرُ وَالْمَشَقَّةُ فِي الدِّينِ مَوْضُوعٌ. وَهَذَا أَصْلُ فِي الشَّرْعِ، أَنَّ كُلَّمَا حَرَجَتِ الْأُمَّةُ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَةِ فِيهِ وَثَقُلَ عَلَيْهَا سَقَطَتِ الْعِبَادَةُ عَنْهَا فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَأَنَّ الْمَرِيضَ يُفْطِرُ وَيَتَيَمَّمُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ. قُلْتُ: ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الدم هاهنا مُطْلَقًا، وَقَيَّدَهُ فِي الْأَنْعَامِ بِقَوْلِهِ" مَسْفُوحاً «1» " وَحَمَلَ العلماء هاهنا الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ إِجْمَاعًا. فَالدَّمُ هُنَا يُرَادُ بِهِ الْمَسْفُوحَ، لِأَنَّ مَا خَالَطَ اللَّحْمَ فَغَيْرُ مُحَرَّمٍ بِإِجْمَاعٍ، وَكَذَلِكَ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَفِي دَمِ الْحُوتِ الْمُزَايِلُ لَهُ اخْتِلَافٌ، وَرُوِيَ عَنِ الْقَابِسِيِّ أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَيَلْزَمُ عَلَى طَهَارَتِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ دَمُ السَّمَكِ نَجِسًا لَشُرِعَتْ ذَكَاتُهُ. قُلْتُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي دَمِ الْحُوتِ، سَمِعْتُ بَعْضَ الْحَنَفِيَّةِ يَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ طَاهِرٌ أَنَّهُ إِذَا يَبِسَ ابْيَضَّ بِخِلَافِ سَائِرِ الدِّمَاءِ فَإِنَّهُ يَسْوَدُّ. وَهَذِهِ النُّكْتَةُ لَهُمْ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ" خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَ اللَّحْمِ مِنَ الْخِنْزِيرِ لِيَدُلَّ عَلَى تَحْرِيمِ عَيْنِهِ ذُكِّيَ أَوْ لَمْ يُذَكَّ، وَلِيَعُمَّ الشَّحْمَ وَمَا هُنَالِكَ مِنَ الْغَضَارِيفِ «2» وَغَيْرِهَا. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ شَحْمِ الْخِنْزِيرِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ شَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمًا لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ اللَّحْمِ. فَإِنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ لَحْمًا فَأَكَلَ شَحْمًا حَنِثَ لِأَنَّ اللَّحْمَ مَعَ الشَّحْمِ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّحْمِ، فَقَدْ دَخَلَ الشَّحْمُ فِي اسْمِ اللَّحْمِ وَلَا يَدْخُلُ اللَّحْمُ فِي اسْمِ الشَّحْمِ. وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى لَحْمَ الْخِنْزِيرِ فَنَابَ ذِكْرُ لَحْمِهِ عَنْ شَحْمِهِ، لِأَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ اسْمِ اللَّحْمِ. وَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الشُّحُومَ بِقَوْلِهِ:" حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما" فَلَمْ يَقَعْ بِهَذَا عَلَيْهِمْ تَحْرِيمُ اللَّحْمِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي اسْمِ الشَّحْمِ، فَلِهَذَا فرق مالك بين الحالف
__________
(1) . راجع ج 7 ص 123.
(2) . الغضروف والغرضوف: كل عظم لين رخص في أي موضع كان.(2/222)
فِي الشَّحْمِ وَالْحَالِفِ فِي اللَّحْمِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْحَالِفِ نِيَّةٌ فِي اللَّحْمِ دُونَ الشَّحْمِ فَلَا يَحْنَثُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَا يَحْنَثُ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ إِذَا حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ لَحْمًا فَأَكَلَ شَحْمًا. وَقَالَ أَحْمَدُ: إِذَا حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ لَحْمًا فَأَكَلَ الشَّحْمَ لَا بَأْسَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ اجْتِنَابَ الدَّسَمِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- لَا خِلَافَ أَنَّ جُمْلَةَ الْخِنْزِيرِ مُحَرَّمَةٌ إِلَّا الشَّعْرَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْخِرَازَةُ بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رجلا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخِرَازَةِ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ، فَقَالَ: (لَا بَأْسَ بِذَلِكَ) ذَكَرَهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ، قَالَ: وَلِأَنَّ الْخِرَازَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ، وَبَعْدَهُ مَوْجُودَةٌ ظَاهِرَةٌ، لَا نَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَهَا وَلَا أَحَدَ مِنَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ. وَمَا أَجَازَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَابْتِدَاءِ الشَّرْعِ مِنْهُ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- لَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ خِنْزِيرِ الْبَرِّ كَمَا ذَكَرْنَا، وَفِي خِنْزِيرِ الْمَاءِ خِلَافٌ. وَأَبَى مَالِكٌ أَنْ يُجِيبَ فِيهِ بِشَيْءٍ، وَقَالَ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ خِنْزِيرًا! وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي" الْمَائِدَةِ «1» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- ذَهَبَ أَكْثَرُ اللُّغَوِيِّينَ إِلَى أَنَّ لَفْظَةَ الْخِنْزِيرِ رُبَاعِيَّةٌ. وَحَكَى ابْنُ سِيدَهْ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ خَزَرِ الْعَيْنِ، لِأَنَّهُ كَذَلِكَ يَنْظُرُ، وَاللَّفْظَةُ عَلَى هَذَا ثُلَاثِيَّةٌ. وَفِي الصِّحَاحِ: وَتَخَازَرَ الرَّجُلُ إِذَا ضَيَّقَ جَفْنَهُ لِيُحَدِّدِ النَّظَرَ. وَالْخَزَرُ: ضِيقُ الْعَيْنِ وَصِغَرُهَا. رَجُلٌ أَخْزَرُ بَيِّنُ الْخَزَرِ. وَيُقَالُ: هُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ بِمُؤَخَّرِهَا. وَجَمْعُ الْخِنْزِيرِ خَنَازِيرُ. وَالْخَنَازِيرُ أَيْضًا عِلَّةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ قُرُوحٌ صُلْبَةٌ تَحْدُثُ فِي الرَّقَبَةِ. الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ" أَيْ ذُكِرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ وَالْمُعَطِّلِ. فَالْوَثَنِيُّ يَذْبَحُ لِلْوَثَنِ، وَالْمَجُوسِيُّ لِلنَّارِ، وَالْمُعَطِّلُ لَا يَعْتَقِدُ شَيْئًا فَيَذْبَحُ لِنَفْسِهِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَا ذَبَحَهُ الْمَجُوسِيُّ لِنَارِهِ وَالْوَثَنِيُّ لِوَثَنِهِ لَا يُؤْكَلُ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُمَا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَذْبَحَا لِنَارِهِ وَوَثَنِهِ، وَأَجَازَهُمَا ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو ثَوْرٍ إِذَا ذَبَحَ لمسلم بأمره. وسيأتي لهذا مزيد بيان
__________
(1) . راجع ج 6 ص 320(2/223)
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ" الْمَائِدَةِ «1» ". وَالْإِهْلَالُ: رَفْعُ الصَّوْتِ، يُقَالُ: أَهَلَّ بِكَذَا، أَيْ رَفَعَ صَوْتَهُ. قَالَ ابْنُ أَحْمَرَ يَصِفُ فَلَاةً:
يهل بالفريد رُكْبَانَهَا ... كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ الْمُعْتَمِرُ
وَقَالَ النَّابِغَةُ:
أَوْ دُرَّةٌ صَدَفِيَّةٌ غَوَّاصُهَا ... بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلُّ وَيَسْجُدُ
وَمِنْهُ إِهْلَالُ الصَّبِيِّ وَاسْتِهْلَالُهُ، وَهُوَ صِيَاحُهُ عِنْدَ وِلَادَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الْمُرَادُ مَا ذُبِحَ لِلْأَنْصَابِ وَالْأَوْثَانِ، لَا مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسِيحِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ" الْمَائِدَةِ «2» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَجَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ بِالصِّيَاحِ بِاسْمِ الْمَقْصُودِ بِالذَّبِيحَةِ، وَغَلَبَ ذَلِكَ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ حَتَّى عُبِّرَ بِهِ عَنِ النِّيَّةِ الَّتِي هِيَ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَاعَى النِّيَّةَ فِي الْإِبِلِ الَّتِي نَحَرَهَا غَالِبٌ أَبُو الْفَرَزْدَقِ فَقَالَ: إِنَّهَا مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، فَتَرَكَهَا النَّاسُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَرَأَيْتُ فِي أَخْبَارِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ مُتْرَفَةٍ صَنَعَتْ لِلُعَبِهَا عُرْسًا فَنَحَرَتْ جَزُورًا، فَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا فَإِنَّهَا إِنَّمَا نُحِرَتْ لِصَنَمٍ. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى التَّمِيمِيِّ شَيْخِ مُسْلِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ قَابُوسٍ قَالَ: أَرْسَلَ أَبِي امْرَأَةً إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَمَرَهَا أَنْ تَقْرَأَ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْهُ، وَتَسْأَلَهَا أَيَّةَ صَلَاةٍ كَانَتْ أَعْجَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُومُ عَلَيْهَا. قَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ يُطِيلُ فِيهِنَّ الْقِيَامَ وَيُحْسِنُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَدَعْ قَطُّ، صَحِيحًا وَلَا مَرِيضًا وَلَا شَاهِدًا، رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ. قَالَتِ امْرَأَةٌ عِنْدَ ذَلِكَ مِنَ النَّاسِ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ لَنَا أَظْآرًا مِنَ الْعَجَمِ لَا يَزَالُ يَكُونُ لَهُمْ عِيدٌ فَيُهْدُونَ لَنَا مِنْهُ، أَفَنَأْكُلُ مِنْهُ شَيْئًا؟ قَالَتْ: أَمَّا مَا ذُبِحَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ فَلَا تَأْكُلُوا وَلَكِنْ كُلُوا مِنْ أَشْجَارِهِمْ. الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَمَنِ اضْطُرَّ" قُرِئَ بِضَمِ النُّونِ لِلِاتِّبَاعِ وَبِالْكَسْرِ وَهُوَ الْأَصْلُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَفِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ فَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى شي من هذه
__________
(1) . راجع ج 6 ص 76.
(2) . راجع ج 6 ص 76.(2/224)
الْمُحَرَّمَاتِ أَيْ أُحْوِجَ إِلَيْهَا، فَهُوَ افْتُعِلَ مِنَ الضَّرُورَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ" فَمَنِ اطُّرَ" بِإِدْغَامِ الضَّادِ فِي الطَّاءِ. وَأَبُو السَّمَّالِ" فَمَنِ اضْطِرَّ" بكسر الطاء. وأصله أضطر فَلَمَّا أُدْغِمَتْ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الرَّاءِ إِلَى الطَّاءِ. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- الِاضْطِرَارُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بِإِكْرَاهٍ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ بِجُوعٍ فِي مَخْمَصَةٍ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ مَنْ صَيَّرَهُ الْعُدْمُ وَالْغَرَثُ وَهُوَ الْجُوعُ إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أُكْرِهَ وَغُلِبَ عَلَى أَكْلِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَالرَّجُلِ يَأْخُذُهُ الْعَدُوُّ فَيُكْرِهُونَهُ عَلَى أَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، إِلَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُبِيحُ ذَلِكَ إِلَى آخِرِ الْإِكْرَاهِ. وَأَمَّا الْمَخْمَصَةُ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ دَائِمَةً أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ دَائِمَةً فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الشِّبَعِ مِنَ الْمَيْتَةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهَا وَهُوَ يَجِدُ مَالَ مُسْلِمٍ لَا يَخَافُ فِيهِ قَطْعًا، كَالتَّمْرِ الْمُعَلَّقِ وَحَرِيسَةِ «1» الْجَبَلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا قَطْعَ فِيهِ وَلَا أَذًى. وَهَذَا مِمَّا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ إِذْ رَأَيْنَا إِبِلًا مَصْرُورَةً «2» بعضاه الشجر فثبنا إليهما فَنَادَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ فَقَالَ: (إِنَّ هَذِهِ الْإِبِلَ لِأَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هُوَ قُوَّتُهُمْ وَيُمْنُهُمْ «3» بَعْدَ اللَّهِ أَيَسُرُّكُمْ لَوْ رَجَعْتُمْ إِلَى مَزَاوِدِكُمْ فَوَجَدْتُمْ مَا فِيهَا قَدْ ذَهَبَ بِهِ أَتَرَوْنَ ذَلِكَ عَدْلًا) قَالُوا لَا، فَقَالَ: (إِنَّ هَذِهِ كَذَلِكَ) . قُلْنَا: أَفَرَأَيْتَ إِنِ احْتَجْنَا إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؟ فَقَالَ: (كُلْ وَلَا تَحْمِلْ وَاشْرَبْ وَلَا تَحْمِلْ) . خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ: هَذَا الْأَصْلُ عِنْدِي. وَذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَحِلُّ لِأَحَدِنَا مِنْ مَالِ أَخِيهِ إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ؟ قَالَ: (يَأْكُلُ وَلَا يَحْمِلُ وَيَشْرَبُ وَلَا يَحْمِلُ) . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَكُلُّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَمَرْدُودٌ إِلَى تَحْرِيمِ اللَّهِ الْأَمْوَالَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ رَدَّ رَمَقِ مُهْجَةِ الْمُسْلِمِ، وَتَوَجَّهَ
__________
(1) . الحريسة: الشاة تسرق ليلا. وفى الحديث (لا قطع في حريسة الجبل) أي ليس فيما حرس بالجبل قطع، لأنه ليس بحرز.
(2) . مصرورة: مربوطة الضروع، وكان عادة العرب أنهم إذا أرسلوا الحلويات إلى المراعى ربطوا ضروعها.
(3) . كذا في سنن ابن ماجة، أي بركتهم وخيرهم. وفى الأصول" قيمهم".(2/225)
الْفَرْضُ فِي ذَلِكَ بِأَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ غَيْرُهُ قضى عليه بنرميق تلك المهجة الآدمية. وكان للممنوع منه ماله مِنْ ذَلِكَ مُحَارَبَةٌ مَنْ مَنْعِهِ وَمُقَاتَلَتِهِ، وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِلَّا وَاحِدٌ لَا غَيْرَ، فَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْفَرْضُ. فَإِنْ كَانُوا كَثِيرًا أَوْ جَمَاعَةً وَعَدَدًا كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ. وَالْمَاءُ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَرُدُّ نَفْسَ الْمُسْلِمِ وَيُمْسِكُهَا سَوَاءٌ. إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ قِيمَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَلَى الَّذِي رُدَّتْ بِهِ مُهْجَتُهُ وَرَمَقَ بِهِ نَفَسَهُ، فَأَوْجَبَهَا مُوجِبُونَ، وَأَبَاهَا آخَرُونَ، وَفِي مَذْهَبِنَا الْقَوْلَانِ جَمِيعًا. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ مُتَأَخِّرِيهِمْ وَمُتَقَدِّمِيهِمْ فِي وُجُوبِ رَدِّ مُهْجَةِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ خَوْفِ الذَّهَابِ وَالتَّلَفِ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا مَضَرَّةَ فِيهِ عَلَى صَاحِبِهِ وَفِيهِ الْبُلْغَةُ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ- خَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنْبَأَنَا شَبَابَةُ (ح) «1» وحدثنا محمد ابن بَشَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبَّادَ بْنَ شُرَحْبِيلَ- رَجُلًا مِنْ بَنِي غُبَّرٍ- قَالَ: أَصَابَنَا عام مَخْمَصَةٌ فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَأَتَيْتُ حَائِطًا «2» مِنْ حِيطَانِهَا فَأَخَذْتُ سُنْبُلًا فَفَرَكْتُهُ وَأَكَلْتُهُ وَجَعَلْتُهُ فِي كِسَائِي، فَجَاءَ صَاحِبُ الْحَائِطِ فَضَرَبَنِي وَأَخَذَ ثَوْبِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فقال للرجل: (ما أطعمه إِذْ كَانَ جَائِعًا أَوْ سَاغِبًا وَلَا عَلَّمْتَهُ إِذْ كَانَ جَاهِلًا) فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِوَسْقٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ نِصْفِ وَسْقٍ. قُلْتُ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ اتَّفَقَ عَلَى رِجَالِهِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، إِلَّا ابْنَ أَبِي شَيْبَةَ فَإِنَّهُ لِمُسْلِمٍ وَحْدَهُ. وَعَبَّادُ بْنُ شُرَحْبِيلَ الْغُبَرِيُّ الْيَشْكُرِيُّ لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ شَيْئًا، وَلَيْسَ لَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ هذه القصة فما ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ يَنْفِي الْقَطْعَ وَالْأَدَبَ فِي الْمَخْمَصَةِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ عَلَى مَاشِيَةٍ فَإِنْ كَانَ فِيهَا صَاحِبُهَا فَلْيَسْتَأْذِنْهُ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَلْيَحْتَلِبْ وَلْيَشْرَبْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَلْيُصَوِّتْ ثَلَاثًا فَإِنْ أَجَابَ فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب
__________
(1) . إذا كان للحديث إسنادان أو أكثر كتبوا عند الانتقال من إسناد إلى إسناد:" ح" وهى مأخوذة من التحول ... إلخ. راجع كتب المصطلح.
(2) . الحائط: البستان من النخيل وغيره إذا كان عليه جدار.(2/226)
وَلَا يَحْمِلْ (. وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:) مَنْ دَخَلَ حَائِطًا فَلْيَأْكُلْ وَلَا يَتَّخِذْ خُبْنَةً (. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ. وَذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ، فَقَالَ: (مَنْ أَصَابَ مِنْهُ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شي عَلَيْهِ) . قَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ بِحَائِطٍ فَلْيَأْكُلْ وَلَا يَتَّخِذْ ثِبَانًا) . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَهُوَ الْوِعَاءُ الَّذِي يُحْمَلُ فِيهِ الشَّيْءُ، فَإِنْ حَمَلْتَهُ بَيْنَ يَدَيْكَ فَهُوَ ثِبَانٌ، يُقَالُ: قَدْ تَثَبَّنْتُ ثِبَانًا، فَإِنْ حَمَلْتَهُ عَلَى ظَهْرِكَ فَهُوَ الْحَالُ، يُقَالُ مِنْهُ: قَدْ تَحَوَّلْتُ كِسَائِي إِذَا جَعَلْتَ فِيهِ شَيْئًا ثُمَّ حَمَلْتَهُ عَلَى ظَهْرِكِ. فَإِنْ جَعَلْتَهُ فِي حِضْنِكَ فَهُوَ خُبْنَةٌ، وَمِنْهُ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْمَرْفُوعُ (وَلَا يَتَّخِذُ خُبْنَةً) . يُقَالُ مِنْهُ: خَبَنْتُ أَخْبِنُ خَبْنًا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَإِنَّمَا يُوَجَّهُ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّهُ رُخِّصَ فِيهِ لِلْجَائِعِ المضطر الذي لا شي مَعَهُ يَشْتَرِي بِهِ أَلَّا يَحْمِلَ إِلَّا مَا كَانَ فِي بَطْنِهِ قَدْرَ قُوَّتِهِ. قُلْتُ: لِأَنَّ الْأَصْلَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ تَحْرِيمُ مَالِ الْغَيْرِ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ عَادَةٌ بِعَمَلِ ذَلِكَ كَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، أَوْ كَمَا هُوَ الْآنَ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ. وَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَوْقَاتِ الْمَجَاعَةِ وَالضَّرُورَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي «1» وَهُوَ النَّادِرُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ يَأْكُلُ حَتَّى يَشْبَعَ وَيَتَضَلَّعَ «2» ، وَيَتَزَوَّدُ إِذَا خَشِيَ الضَّرُورَةَ فِيمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ مَفَازَةٍ وَقَفْرٍ، وَإِذَا وَجَدَ عَنْهَا غِنًى طَرَحَهَا. قَالَ مَعْنَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الضَّرُورَةَ تَرْفَعُ التَّحْرِيمَ فَيَعُودُ مُبَاحًا. وَمِقْدَارُ الضَّرُورَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي حَالَةِ عَدَمِ الْقُوتِ إِلَى حَالَةِ وُجُودِهِ. وَحَدِيثُ الْعَنْبَرِ نَصٌّ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعُوا مِنْ سَفَرِهِمْ وَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُمُ الزَّادُ، انطلقوا إلى ساحل البحر فرفع
__________
(1) . يريد بالثاني أحد فرضي المخمصة الذي تقدم في المسألة" الثانية والعشرين" وهو غير الدائمة.
(2) . تضلع: أمثلا شعبا أوربا.(2/227)
لَهُمْ عَلَى سَاحِلِهِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ، فَلَمَّا أَتَوْهُ إِذَا هِيَ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَمِيرُهُمْ: مَيْتَةٌ. ثُمَّ قَالَ: لَا، بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا. قَالَ: فَأَقَمْنَا عَلَيْهَا شَهْرًا وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ حَتَّى سَمِنَّا، الْحَدِيثَ. فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا- رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- مِمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّهُ مَيْتَةً وَتَزَوَّدُوا مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَلَالٌ وَقَالَ: (هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شي فَتُطْعِمُونَا) فَأَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ فَأَكَلَهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ. يَأْكُلُ بِقَدْرِ سَدِّ الرَّمَقِ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ حَبِيبٍ وَفَرَّقَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ بَيْنَ حَالَةِ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ فَقَالُوا: الْمُقِيمُ يَأْكُلُ بِقَدْرِ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ، وَالْمُسَافِرُ يَتَضَلَّعُ وَيَتَزَوَّدُ: فَإِذَا وَجَدَ غِنًى عَنْهَا طَرَحَهَا، وَإِنْ وَجَدَ مُضْطَرًّا أَعْطَاهُ إِيَّاهَا وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ عِوَضًا، فَإِنَّ الْمَيْتَةَ لَاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا. الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- فَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى خَمْرٍ فَإِنْ كَانَ بِإِكْرَاهٍ شَرِبَ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ بِجُوعٍ أَوْ عَطَشٍ فَلَا يَشْرَبُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ قَالَ: وَلَا يَزِيدُهُ الْخَمْرُ إِلَّا عَطَشًا. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا، وَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ بِشَرْطِ عَدَمِ الضَّرُورَةِ. وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: إِنْ رَدَّتِ الْخَمْرُ عَنْهُ جُوعًا أَوْ عَطَشًا شَرِبَهَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْخِنْزِيرِ" فَإِنَّهُ رِجْسٌ" ثُمَّ أَبَاحَهُ لِلضَّرُورَةِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي الْخَمْرِ إِنَّهَا" رِجْسٌ" فَتَدْخُلُ فِي إِبَاحَةِ الْخِنْزِيرِ لِلضَّرُورَةِ بِالْمَعْنَى الْجَلِيِّ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنَ الْقِيَاسِ، وَلَا بُدَّ أَنْ تَرْوِيَ وَلَوْ سَاعَةً، وَتَرُدَّ الْجُوعَ وَلَوْ مُدَّةً. الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- رَوَى أَصْبَغُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَالَ: يَشْرَبُ الْمُضْطَرُّ الدَّمَ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَيَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَلَا يَقْرَبُ ضَوَالَّ الْإِبِلِ- وَقَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ- وَيَشْرَبُ الْبَوْلَ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ، لِأَنَّ الْخَمْرَ يَلْزَمُ فِيهَا الْحَدُّ فَهِيَ أَغْلَظُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ. السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- فَإِنْ غُصَّ بِلُقْمَةٍ فَهَلْ يُسِيغُهَا بِخَمْرٍ أَوْ لَا، فَقِيلَ. لَا، مَخَافَةَ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ. وَأَجَازَ ذَلِكَ ابْنُ حَبِيبٍ، لِأَنَّهَا حَالَةُ ضَرُورَةٍ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" أَمَّا الْغَاصُّ بِلُقْمَةٍ(2/228)
فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَنَا فَإِنْ شَاهَدْنَاهُ فَلَا تَخْفَى عَلَيْنَا بِقَرَائِنِ الْحَالِ صُورَةُ الْغُصَّةِ مِنْ غَيْرِهَا، فَيُصَدَّقُ إِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حَدَدْنَاهُ ظَاهِرًا وَسَلِمَ مِنَ الْعُقُوبَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بَاطِنًا. ثُمَّ إِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَخِنْزِيرًا وَلَحْمَ ابْنِ آدَمَ أَكَلَ الْمَيْتَةَ، لِأَنَّهَا حَلَالٌ فِي حَالِ. وَالْخِنْزِيرُ وَابْنُ آدَمَ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ. وَالتَّحْرِيمُ الْمُخَفَّفُ أَوْلَى أَنْ يُقْتَحَمَ مِنَ التَّحْرِيمِ الْمُثَقَّلِ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ أَنْ يَطَأَ أُخْتَهُ أَوْ أَجْنَبِيَّةً، وَطِئَ الْأَجْنَبِيَّةَ لِأَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ بِحَالٍ. وَهَذَا هُوَ الضَّابِطُ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ. وَلَا يَأْكُلُ ابْنَ آدَمَ وَلَوْ مَاتَ، قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَدَاوُدُ. احْتَجَّ أَحْمَدُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا) . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَأْكُلُ لَحْمَ ابْنِ آدَمَ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ ذِمِّيًّا لِأَنَّهُ مُحْتَرَمُ الدَّمِ، وَلَا مُسْلِمًا وَلَا أَسِيرًا لِأَنَّهُ مَالُ الْغَيْرِ. فَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّا أَوْ زَانِيًا مُحْصَنًا جَازَ قَتْلُهُ وَالْأَكْلُ مِنْهُ. وَشَنَّعَ دَاوُدُ عَلَى الْمُزَنِيِّ بِأَنْ قَالَ: قَدْ أَبَحْتُ أَكْلَ لُحُومِ الْأَنْبِيَاءِ! فَغَلَبَ عَلَيْهِ ابْنُ شُرَيْحٍ بِأَنْ قَالَ: فَأَنْتَ قَدْ تَعَرَّضْتَ لِقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ إِذْ مَنَعْتَهُمْ مِنْ أَكْلِ الْكَافِرِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الصَّحِيحُ عِنْدِي أَلَّا يَأْكُلَ الْآدَمِيَّ إِلَّا إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّ ذَلِكَ يُنْجِيهِ وَيُحْيِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الْمُضْطَرِّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَهُوَ يَجِدُ مَالَ الْغَيْرِ تَمْرًا أَوْ زَرْعًا أَوْ غَنَمًا، فَقَالَ: إِنْ أَمِنَ الضَّرَرَ عَلَى بَدَنِهِ بِحَيْثُ لَا يُعَدُّ سَارِقًا وَيُصَدَّقُ فِي قَوْلِهِ، أَكَلَ مِنْ أَيِّ ذَلِكَ وَجَدَ مَا يَرُدُّ جُوعَهُ وَلَا يَحْمِلُ مِنْهُ شَيْئًا، وَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوْفًى. وَإِنْ هُوَ خَشِيَ أَلَّا يُصَدِّقُوهُ وَأَنْ يَعُدُّوهُ سَارِقًا فَإِنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةَ أَجْوَزُ عِنْدِي، وَلَهُ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ عَلَى هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ سَعَةٌ. الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ- رَوَى أَبُو دَاوُدَ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ الْحَرَّةَ «1» وَمَعَهُ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ نَاقَةً لِي ضَلَّتْ فَإِنْ وَجَدْتَهَا فَأَمْسِكْهَا، فَوَجَدَهَا فَلَمْ يَجِدْ صَاحِبهَا فَمَرِضَتْ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: انْحَرْهَا، فَأَبَى فَنَفَقَتْ. فَقَالَتِ: اسْلَخْهَا حَتَّى نُقَدِّدَ لَحْمَهَا وَشَحْمَهَا وَنَأْكُلَهُ، فَقَالَ: حتى أسأل
__________
(1) . الحرة (بفتح الحاء والراء المشددة) : أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود. [.....](2/229)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: (هَلْ عِنْدَكَ غِنًى يُغْنِيكَ) قَالَ لَا، قَالَ: (فَكُلُوهَا) قَالَ: فَجَاءَ صَاحِبُهَا فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: هَلَّا كُنْتَ نَحَرْتَهَا فَقَالَ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْكَ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَأْكُلُ مِنَ الْمَيْتَةِ وَإِنْ لَمْ يَخَفِ التَّلَفَ، لِأَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الْغِنَى وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ. وَالثَّانِي- يَأْكُلُ وَيَشْبَعُ وَيَدَّخِرُ وَيَتَزَوَّدُ، لِأَنَّهُ أَبَاحَهُ الِادِّخَارَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ أَلَّا يَشْبَعَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ قَالَ أَنْبَأَنَا عُقْبَةُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عُقْبَةَ الْعَامِرِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنِ الْفُجَيْعِ الْعَامِرِيِّ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا يُحِلُّ لَنَا الْمَيْتَةَ؟ قَالَ: (مَا طَعَامُكُمْ) قُلْنَا: نَغْتَبِقُ وَنَصْطَبِحُ. قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ «1» : فَسَّرَهُ لِي عُقْبَةُ: قَدَحٌ غَدْوَةً وَقَدَحٌ عَشِيَّةً. قَالَ: (ذَاكَ وَأَبِي الْجُوعُ) . قَالَ: فَأَحَلَّ لَهُمُ الْمَيْتَةَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: الْغَبُوقُ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ وَالصَّبُوحُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْغَبُوقُ الْعَشَاءُ، وَالصَّبُوحُ الْغَدَاءُ، وَالْقَدَحُ مِنَ اللَّبَنِ بِالْغَدَاةِ، وَالْقَدَحُ بِالْعَشِيِّ يُمْسِكُ الرَّمَقَ وَيُقِيمُ النَّفْسَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُغَذِّي الْبَدَنَ وَلَا يُشْبِعُ الشِّبَعَ التَّامَّ، وَقَدْ أَبَاحَ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ، فَكَانَ دَلَالَتُهُ أَنَّ تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ مُبَاحٌ إِلَى أَنْ تَأْخُذَ النَّفْسُ حَاجَتَهَا مِنَ الْقُوتِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: إِذَا جَازَ أَنْ يَصْطَبِحُوا وَيَغْتَبِقُوا جَازَ أَنْ يَشْبَعُوا وَيَتَزَوَّدُوا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنَ الْمَيْتَةِ إِلَّا قَدْرَ مَا يُمْسِكُ رَمَقَهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمُزَنِيُّ. قَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ بِهَذِهِ الْحَالِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا شَيْئًا، فَكَذَلِكَ إِذَا بَلَغَهَا بَعْدَ تَنَاوُلِهَا. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَتَضَلَّعُ مِنْهَا بِشَيْءٍ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: لَا يَزْدَادُ عَلَى ثَلَاثِ لُقَمٍ. وَالصَّحِيحُ خِلَافُ هَذَا، كَمَا تَقَدَّمَ. التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- وَأَمَّا التَّدَاوِي بِهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يُحْتَاجَ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا قَائِمَةَ الْعَيْنِ أَوْ مُحْرِقَةً، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ بِالْإِحْرَاقِ فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا وَالصَّلَاةُ. وَخَفَّفَهُ ابْنُ الماجشون
__________
(1) . أبو نعيم: كنية الفضل بن دكين.(2/230)
بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَرْقَ تَطْهِيرُ لِتَغَيُّرِ الصِّفَاتِ. وَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ فِي الْمَرْتَكِ «1» يُصْنَعُ مِنْ عِظَامِ الْمَيْتَةِ إِذَا وَضَعَهُ فِي جُرْحِهِ لَا يُصَلِّي بِهِ حَتَّى يَغْسِلَهُ. وَإِنْ كَانَتِ الْمَيْتَةُ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا فَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ: لَا يُتَدَاوَى بِهَا بِحَالٍ وَلَا بِالْخِنْزِيرِ، لِأَنَّ مِنْهَا عِوَضًا حَلَالًا بِخِلَافِ الْمَجَاعَةِ. وَلَوْ وُجِدَ مِنْهَا عِوَضٌ فِي الْمَجَاعَةِ لَمْ تُؤْكَلْ. وَكَذَلِكَ الْخَمْرُ لَا يُتَدَاوَى بِهَا، قَالَهُ مَالِكٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ شُرْبُهَا لِلتَّدَاوِي دُونَ الْعَطَشِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي الطَّبَرِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَقَالَ بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ شُرْبُهَا لِلْعَطَشِ دُونَ التَّدَاوِي، لِأَنَّ ضَرَرَ الْعَطَشِ عَاجِلٌ بِخِلَافِ التَّدَاوِي. وَقِيلَ: يَجُوزُ شُرْبُهَا لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. وَمَنَعَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ التَّدَاوِي بِكُلِّ مُحَرَّمٍ إِلَّا بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ خَاصَّةً، لِحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينِ. وَمَنَعَ بَعْضُهُمُ التَّدَاوِي بِكُلِّ مُحَرَّمٍ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ) ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِطَارِقِ بْنِ سُوَيْدٍ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنِ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا فَقَالَ، إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: (إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٍ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَيَّدَ بِحَالَةِ الِاضْطِرَارِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِالسُّمِّ وَلَا يجوز شربه، والله أعلم. الموفية ثلاثين- قوله تعالى:" غَيْرَ باغٍ"" غَيْرَ" نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَإِذَا رَأَيْتَ" غَيْرَ" يَصْلُحُ فِي مَوْضِعِهِ" فِي" فَهِيَ حَالٌ، وَإِذَا صَلُحَ مَوْضِعُهَا" إلا" فهي استثناء، فقس عليه. و" باغ" أَصْلُهُ بَاغِي، ثُقِّلَتِ الضَّمَّةُ عَلَى الْيَاءِ فَسُكِّنَتْ وَالتَّنْوِينُ سَاكِنٌ، فَحُذِفَتِ الْيَاءُ وَالْكَسْرَةُ تَدُلُّ عَلَيْهَا. وَالْمَعْنَى فِيمَا قَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَالرَّبِيعُ وَابْنُ زَيْدٍ وَعِكْرِمَةُ" غَيْرَ باغٍ" فِي أَكْلِهِ فَوْقَ حَاجَتِهِ،" وَلا عادٍ" بِأَنْ يَجِدَ عَنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ مَنْدُوحَةً وَيَأْكُلَهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ:" غَيْرَ باغٍ" فِي أَكْلِهَا شَهْوَةً وَتَلَذُّذًا،" وَلا عادٍ" بِاسْتِيفَاءِ الْأَكْلِ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا: الْمَعْنَى" غَيْرَ باغٍ" عَلَى الْمُسْلِمِينَ" وَلا عادٍ" عَلَيْهِمْ، فَيَدْخُلُ فِي الْبَاغِي وَالْعَادِيِّ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ وَالْخَارِجُ عَلَى السُّلْطَانِ وَالْمُسَافِرُ فِي قطع الرحم والغارة على
__________
(1) . المرتك (كمقعد) : ضرب من الأدوية.(2/231)
الْمُسْلِمِينَ وَمَا شَاكَلَهُ. وَهَذَا صَحِيحٌ، فَإِنَّ أَصْلَ الْبَغْيِ فِي اللُّغَةِ قَصْدُ الْفَسَادِ، يُقَالُ: بَغَتِ الْمَرْأَةُ تَبْغِي بِغَاءً إِذَا فَجَرَتْ، قَالَ اللَّهُ تعالى:" وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ «1» " [النور: 33] . وَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ الْبَغْيُ فِي طَلَبِ غَيْرِ الْفَسَادِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَرَجَ الرَّجُلُ فِي بِغَاءِ إِبِلٍ لَهُ، أَيْ فِي طَلَبِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لا يمنعك من بغا ... ء الخير تعقاد الرتائم
إِنَّ الْأَشَائِمَ كَالْأَيَا ... مِنِ وَالْأَيَامِنَ كَالْأَشَائِمِ
الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا عادٍ" أَصْلُ" عَادٍ" عَائِدٌ، فَهُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ، كَشَاكِي السِّلَاحِ وَهَارٍ ولاث. والأصل شائك وهائر ولائت، مِنْ لُثْتُ الْعِمَامَةَ. فَأَبَاحَ اللَّهُ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ أَكْلَ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ لِعَجْزِهِ عَنْ جَمِيعِ الْمُبَاحَاتِ كَمَا بَيَّنَّا، فَصَارَ عَدَمُ الْمُبَاحِ شَرْطًا فِي اسْتِبَاحَةِ الْمُحَرَّمِ. الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ إِذَا اقْتَرَنَ بِضَرُورَتِهِ مَعْصِيَةٌ، بِقَطْعِ طَرِيقٍ وَإِخَافَةِ سَبِيلٍ، فَحَظَرَهَا عَلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ لِأَجْلِ مَعْصِيَتِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ ذَلِكَ عَوْنًا، وَالْعَاصِي لَا يَحِلُّ أَنْ يُعَانَ، فَإِنْ أَرَادَ الْأَكْلَ فَلْيَتُبْ وَلْيَأْكُلْ. وَأَبَاحَهَا لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ لَهُ، وَسَوِيًّا فِي اسْتِبَاحَتِهِ بَيْنَ طَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَعَجَبًا مِمَّنْ يُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ مَعَ التَّمَادِي عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَمَا أَظُنُّ أَحَدًا يَقُولُهُ، فَإِنْ قَالَهُ فَهُوَ مُخْطِئٌ قَطْعًا. قُلْتُ: الصَّحِيحُ خِلَافَ هَذَا، فَإِنَّ إِتْلَافَ الْمَرْءِ نَفْسَهُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ أَشَدُّ مَعْصِيَةً مِمَّا هُوَ فِيهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «2» " [النساء: 29] وَهَذَا عَامٌّ، وَلَعَلَّهُ يَتُوبُ فِي ثَانِي حَالٍ فَتَمْحُو التَّوْبَةُ عَنْهُ مَا كَانَ. وَقَدْ قَالَ مَسْرُوقٌ: مَنِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِإِلْكِيَا: وَلَيْسَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ رُخْصَةً بَلْ هُوَ عَزِيمَةٌ وَاجِبَةٌ، وَلَوِ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ كَانَ عاصيا،
__________
(1) . راجع ج 12 ص 254.
(2) . راجع ج 5 ص 156.(2/232)
وَلَيْسَ [تَنَاوُلُ «1» ] الْمَيْتَةِ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ أَوْ مُتَعَلِّقًا بِالسَّفَرِ بَلْ هُوَ مِنْ نَتَائِجِ الضَّرُورَةِ سَفَرًا كَانَ أَوْ حَضَرًا، وَهُوَ كَالْإِفْطَارِ لِلْعَاصِي الْمُقِيمِ إِذَا كَانَ مَرِيضًا، وَكَالتَّيَمُّمِ لِلْعَاصِي الْمُسَافِرِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ. قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا. قُلْتُ: وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ، فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: فَأَمَّا الْأَكْلُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ فَالطَّائِعُ وَالْعَاصِي فِيهِ سَوَاءٌ، لِأَنَّ الْمَيْتَةَ يَجُوزُ تَنَاوُلُهَا فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَلَيْسَ بِخُرُوجِ الْخَارِجِ إِلَى الْمَعَاصِي يَسْقُطُ عَنْهُ حُكْمُ الْمُقِيمِ بَلْ أَسْوَأُ حَالَةٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْفِطْرُ وَالْقَصْرُ، لِأَنَّهُمَا رُخْصَتَانِ مُتَعَلِّقَتَانِ بِالسَّفَرِ. فَمَتَى كَانَ السَّفَرُ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرَ فِيهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الرُّخْصَةَ تَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّهُ يَتَيَمَّمُ إِذَا عُدِمَ الْمَاءَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ التَّيَمُّمَ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ سَوَاءٌ. وَكَيْفَ يَجُوزُ مَنْعُهُ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالتَّيَمُّمِ لِأَجْلِ مَعْصِيَةٍ ارْتَكَبَهَا، وَفِي تَرْكِهِ الْأَكْلَ تَلَفُ نَفْسِهِ، وَتِلْكَ أَكْبَرُ الْمَعَاصِي، وَفِي تَرْكِهِ التَّيَمُّمَ إِضَاعَةٌ لِلصَّلَاةِ. أَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: ارْتَكَبْتُ مَعْصِيَةً فَارْتَكِبْ أُخْرَى! أَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِشَارِبِ الْخَمْرِ: ازْنِ، وَلِلزَّانِي: اكْفُرْ! أَوْ يُقَالُ لَهُمَا: ضَيِّعَا الصَّلَاةَ؟ ذَكَرَ هَذَا كُلَّهُ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا عَنْ مَالِكٍ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ:" وَرَوَى زِيَادُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْدَلُسِيُّ أَنَّ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَيُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ. فَسَوَّى بَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُ نَفْسِهِ بِالْإِمْسَاكِ عَنِ الْأَكْلِ، وَأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَكْلِ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ، وَمَنْ كَانَ فِي سَفَرِ مَعْصِيَةٍ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْفُرُوضُ وَالْوَاجِبَاتُ مِنَ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ، بَلْ يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِهَا، فَكَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ إِنَّمَا أُبِيحَتْ فِي الْأَسْفَارِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهَا، فَلَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى الْمَعَاصِي وَلَهُ سَبِيلَ إِلَى أَلَّا يَقْتُلَ نَفْسَهُ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَذَلِكَ بِأَنْ يَتُوبَ ثُمَّ يَتَنَاوَلَ لَحْمَ الْمَيْتَةِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ. وَتَعَلَّقَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ" فَاشْتَرَطَ فِي إِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلضَّرُورَةِ ألا يكون باغيا. والمسافر
__________
(1) . الزيادة عن كتاب" أحكام القرآن" للكيا الهراسى.(2/233)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
عَلَى وَجْهِ الْحِرَابَةِ أَوِ الْقَطْعِ، أَوْ فِي قَطْعِ رَحِمٍ أَوْ طَالِبِ إِثْمٍ- بَاغٍ وَمُعْتَدٍ، فَلَمْ تُوجَدْ فِيهِ شُرُوطُ الْإِبَاحَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ". قُلْتُ: هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ، وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَمَنْظُومُ الْآيَةِ أَنَّ الْمُضْطَرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَغَيْرُهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَالْأَصْلُ عُمُومُ الْخِطَابِ، فَمَنِ ادَّعَى زَوَالَهُ لِأَمْرٍ مَا فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. الرَّابِعَةُ وثلاثون «1» - قوله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" أَيْ يَغْفِرُ الْمَعَاصِي، فَأَوْلَى لا يُؤَاخِذَ بِمَا رُخِّصَ فِيهِ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ أَنَّهُ رخص.
[سورة البقرة (2) : آية 174]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ" يَعْنِي عُلَمَاءَ الْيَهُودِ، كَتَمُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِحَّةِ رِسَالَتِهِ. وَمَعْنَى" أَنْزَلَ": أَظْهَرَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ «2» " [الانعام: 93] أَيْ سَأُظْهِرُ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى بَابِهِ مِنَ النُّزُولِ، أَيْ مَا أَنْزَلَ بِهِ مَلَائِكَتَهُ عَلَى رُسُلِهِ." وَيَشْتَرُونَ بِهِ" أَيْ بِالْمَكْتُومِ" ثَمَناً قَلِيلًا" يَعْنِي أَخْذَ الرِّشَاءِ. وَسَمَّاهُ قَلِيلًا لِانْقِطَاعِ مُدَّتِهِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ مَا كَانُوا يَأْخُذُونَهُ مِنَ الرِّشَاءِ كَانَ قَلِيلًا. قُلْتُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَخْبَارِ فَإِنَّهَا تَتَنَاوَلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ كَتَمَ الْحَقَّ مُخْتَارًا لِذَلِكَ بِسَبَبِ دُنْيَا يُصِيبُهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ «3» هَذَا الْمَعْنَى. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فِي بُطُونِهِمْ" ذَكَرَ الْبُطُونَ دَلَالَةً وَتَأْكِيدًا عَلَى حَقِيقَةِ الْأَكْلِ، إِذْ قَدْ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي مِثْلِ أَكَلَ فُلَانٌ أَرْضِي وَنَحْوِهِ. وَفِي ذكر البطون أيضا تنبيه على جشعهم
__________
(1) . يلاحظ أن نسخ الأصل اضطربت في عد هذه المسائل.
(2) . راجع ج 7 ص 40.
(3) . راجع ج 1 ص 334، ص 9 من هذا الجزء.(2/234)
وَأَنَّهُمْ بَاعُوا آخِرَتَهُمْ بِحَظِّهِمْ مِنَ الْمَطْعَمِ الَّذِي لَا خَطَرَ لَهُ. وَمَعْنَى" إِلَّا النَّارَ" أَيْ إِنَّهُ حَرَامٌ يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، فَسُمِّيَ مَا أَكَلُوهُ مِنَ الرِّشَاءِ نَارًا لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهِمْ إِلَى النَّارِ، هَكَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: أَيْ إِنَّهُ يُعَاقِبُهُمْ عَلَى كِتْمَانِهِمْ بِأَكْلِ النَّارِ فِي جَهَنَّمَ حَقِيقَةً. فَأَخْبَرَ عَنِ الْمَآلِ بِالْحَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا «1» " [النساء: 10] أي أن عاقبته تؤول إِلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ:
لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ «2»
قَالَ:
فَلِلْمَوْتِ مَا تَلِدُ الْوَالِدَةُ
آخَرُ:
وَدُورنَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا
وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ كَثِيرٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ" عِبَارَةٌ عَنِ الْغَضَبِ عَلَيْهِمْ وَإِزَالَةُ الرِّضَا عَنْهُمْ، يُقَالُ: فُلَانٌ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا إِذَا غَضِبَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْمَعْنَى" وَلا يُكَلِّمُهُمُ" بِمَا يحبونه. وفي التنزيل:" اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «3» " [المؤمنون: 108] . وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَا يُرْسِلُ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ بِالتَّحِيَّةِ." وَلا يُزَكِّيهِمْ" أَيْ لَا يُصْلِحُ أَعْمَالَهُمُ الْخَبِيثَةَ فَيُطَهِّرُهُمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ خَيْرًا ولا يسميهم أزكياء. و" أَلِيمٌ" بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «4» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ شَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ (. وَإِنَّمَا خَصَّ هَؤُلَاءِ بِأَلِيمِ الْعَذَابِ وَشِدَّةِ الْعُقُوبَةِ لِمَحْضِ الْمُعَانَدَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ الْحَامِلِ لَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْمَعَاصِي، إِذْ لَمْ يَحْمِلْهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ، وَلَا دَعَتْهُمْ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ كَمَا تَدْعُو مَنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُمْ. وَمَعْنَى" لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ" لَا يَرْحَمُهُمْ وَلَا يَعْطِفُ عَلَيْهِمْ. وَسَيَأْتِي فِي" آلِ عِمْرَانَ «5» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
__________
(1) . راجع ج 5 ص 53.
(2) . اختلف في أنه حديث أو غير حديث. راجع كشف الخفاء ج 2 ص 140.
(3) . راجع ج 12 ص 153.
(4) . راجع ج 1 ص 198.
(5) . راجع ج 4 ص 119.(2/235)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
[سورة البقرة (2) : آية 175]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ" تَقَدَّمَ «1» الْقَوْلُ فِيهِ. وَلَمَّا كَانَ الْعَذَابُ تَابِعًا لِلضَّلَالَةِ وَكَانَتِ الْمَغْفِرَةُ تَابِعَةً لِلْهُدَى الَّذِي اطَّرَحُوهُ دَخَلَا فِي تَجَوُّزِ الشِّرَاءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ" مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ- مِنْهُمِ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ- أَنَّ" مَا" مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ، وَهُوَ مَرْدُودٌ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ، كَأَنَّهُ قَالَ: اعْجَبُوا مِنْ صَبْرِهِمْ عَلَى النَّارِ وَمُكْثِهِمْ فِيهَا. وَفِي التَّنْزِيلِ:" قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ «2» " [عبس: 17] و" أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ «3» " [مريم: 38] . وَبِهَذَا الْمَعْنَى صَدَّرَ أَبُو عَلِيٍّ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالرَّبِيعُ: مَا لَهُمْ وَاللَّهِ عَلَيْهَا مِنْ صَبْرٍ، وَلَكِنْ مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى النَّارِ! وَهِيَ لُغَةٌ يَمَنِيَّةٌ مَعْرُوفَةٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَخْبَرَنِي الْكِسَائِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي قَاضِي الْيَمَنِ أَنَّ خَصْمَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَيْهِ فَوَجَبَتِ الْيَمِينُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَحَلَفَ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: مَا أَصْبَرَكَ عَلَى اللَّهِ؟ أَيْ مَا أَجْرَأَكَ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: مَا أَشْجَعَهُمْ عَلَى النَّارِ إِذْ يَعْمَلُونَ عَمَلًا يُؤَدِّي إِلَيْهَا. وَحَكَى الزَّجَّاجُ أَنَّ الْمَعْنَى مَا أَبْقَاهُمْ عَلَى النَّارِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا أَصْبَرَ فُلَانًا عَلَى الْحَبْسِ! أَيْ مَا أَبْقَاهُ فِيهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَمَا أَقَلَّ جَزَعِهِمْ مِنَ النَّارِ، فَجَعَلَ قِلَّةَ الْجَزَعِ صَبْرًا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَقُطْرُبٌ: أَيْ مَا أَدْوَمَهُمْ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ النَّارِ. وَقِيلَ:" مَا" اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَعَطَاءٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى، ومعناه: أي أي شي صَبَّرَهُمْ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ النَّارِ؟! وَقِيلَ: هَذَا على وجه الاستهانة بهم والاستخفاف بأمرهم.
[سورة البقرة (2) : آية 176]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176)
__________
(1) . يراجع ج 1 ص 210 طبعه ثانية. [.....]
(2) . راجع ج 19 ص 215.
(3) . راجع ج 11 ص 108.(2/236)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" ذلِكَ"" ذَلِكَ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْحُكْمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: ذَلِكَ الْحُكْمُ بِالنَّارِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: تَقْدِيرُهُ الْأَمْرُ ذَلِكَ، أَوْ ذَلِكَ الْأَمْرُ، أَوْ ذَلِكَ الْعَذَابُ لَهُمْ. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَخَبَرٌ" ذَلِكَ" مُضْمَرٌ، مَعْنَاهُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ لَهُمْ. وَقِيلَ: مَحَلُّهُ نَصْبٌ، مَعْنَاهُ فَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِمْ." بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ" يَعْنِي الْقُرْآنَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ" بِالْحَقِّ" أَيْ بِالصِّدْقِ. وَقِيلَ بِالْحُجَّةِ." وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ" يَعْنِي التَّوْرَاةَ، فَادَّعَى النَّصَارَى أَنَّ فِيهَا صِفَةَ عِيسَى، وَأَنْكَرَ الْيَهُودُ صِفَتَهُ. وَقِيلَ: خَالَفُوا آبَاءَهُمْ وَسَلَفَهُمْ فِي التَّمَسُّكِ بِهَا. وَقِيلَ: خَالَفُوا مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخْتَلَفُوا فِيهَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْقُرْآنَ، وَالَّذِينَ اخْتَلَفُوا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، يَقُولُ بَعْضُهُمْ: هُوَ سِحْرٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَبَعْضُهُمْ: مُفْتَرًى، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي معنى الشقاق، والحمد لله «1» .
[سورة البقرة (2) : آية 177]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
فِيهِ ثَمَانِ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَيْسَ الْبِرَّ" اخْتُلِفَ مِنَ الْمُرَادِ بِهَذَا الْخِطَابِ، فَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ قَبْلَ الْفَرَائِضِ إِذَا شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ الربيع وقتادة أيضا: الخطاب لليهود
__________
(1) . راجع ص 143 من هذا الجزء.(2/237)
وَالنَّصَارَى لِأَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي التَّوَجُّهِ وَالتَّوَلِّي، فَالْيَهُودُ إِلَى الْمَغْرِبِ قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالنَّصَارَى إِلَى الْمَشْرِقِ مَطْلِعَ الشَّمْسِ، وَتَكَلَّمُوا فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ وَفَضَّلَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ تَوْلِيَتَهَا، فَقِيلَ لَهُمْ: لَيْسَ الْبِرَّ مَا أَنْتُمْ فِيهِ، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ. الثَّانِيَةُ- قَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ" الْبِرَّ" بِالنَّصْبِ، لِأَنَّ لَيْسَ مِنْ أَخَوَاتِ كَانَ، يَقَعُ بَعْدَهَا الْمَعْرِفَتَانِ فَتَجْعَلُ أَيَّهُمَا شِئْتَ الِاسْمَ أَوِ الْخَبَرَ، فَلَمَّا وَقَعَ بَعْدُ" لَيْسَ":" الْبِرُّ" نَصَبَهُ، وَجَعَلَ" أَنْ تُوَلُّوا" الِاسْمَ، وَكَانَ الْمَصْدَرُ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ اسْمًا لِأَنَّهُ لَا يَتَنَكَّرُ، وَالْبِرُّ قَدْ يَتَنَكَّرُ وَالْفِعْلُ أَقْوَى فِي التَّعْرِيفِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ" الْبِرُّ" بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لَيْسَ، وَخَبَرُهُ" أَنْ تُوَلُّوا"، تَقْدِيرُهُ: لَيْسَ الْبِرُّ تَوْلِيَتَكُمْ وُجُوهَكُمْ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَيْسَ تَوْلِيَتُكُمْ وُجُوهَكُمُ الْبِرَّ، كَقَوْلِهِ:" مَا كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا «1» " [الجاثية: 25] ،" ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا «2» " [الروم: 10] " فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ «3» " [الحشر: 17] وَمَا كَانَ مِثْلُهُ. وَيُقَوِّي قِرَاءَةَ الرَّفْعِ أَنَّ الثَّانِي مَعَهُ الْبَاءُ إِجْمَاعًا فِي قَوْلِهِ:" وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها" [البقرة: 189] وَلَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا الرَّفْعُ، فَحَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي أَوْلَى مِنْ مُخَالَفَتِهِ لَهُ. وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ بِالْبَاءِ" لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تُوَلُّوا" وَكَذَلِكَ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ، وَالْقِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ" الْبِرُّ هَا هُنَا اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، كقوله تعالى:" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «4» " [يوسف: 82] ،" وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ «5» " [البقرة: 93] قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَقُطْرُبٌ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ
أَيْ ذَاتُ إِقْبَالٍ وَذَاتُ إِدْبَارٍ. وَقَالَ النَّابِغَةُ:
وَكَيْفَ تُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ ... خِلَالَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ «6»
__________
(1) . راجع ج 16 ص 173.
(2) . راجع ج 14 ص 10.
(3) . راجع ج 18 ص 42.
(4) . راجع ج 9 ص 246.
(5) . راجع ص 31 من هذا الجزء.
(6) . الخلالة: (بفتح الخاء وكسرها وضمها، جمع الخلة) : الصداقة. وَأَبُو مَرْحَبٍ: كُنْيَةُ الظِّلِّ، وَيُقَالُ: هُوَ كُنْيَةُ عرقوب. يقول: خلة هذه المرأة ووصالها لا يثبت كما لا تثبت خلة أبى مرحب، فلا ينبغي أن نستأنس إليها ويعتد بها. (عن اللسان وشرح الشواهد) .(2/238)
أَيْ كَخِلَالَةِ أَبِي مَرْحَبٍ، فَحَذَفَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَكِنَّ ذَا الْبِرِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ «1» " [آل عمران: 163] أَيْ ذَوُو دَرَجَاتٍ. وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَفُرِضَتِ الْفَرَائِضُ وَصُرِفَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ وَحُدَّتِ الْحُدُودُ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: لَيْسَ الْبِرَّ كُلَّهُ أَنْ تُصَلُّوا وَلَا تَعْمَلُوا غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْبِرَّ- أَيْ ذَا الْبِرِّ- مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، إِلَى آخِرِهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَعَطَاءٌ وَسُفْيَانُ وَالزَّجَّاجُ أَيْضًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" الْبِرَّ" بِمَعْنَى الْبَارِّ وَالْبَرِّ، وَالْفَاعِلُ قَدْ يُسَمَّى بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ عَدْلٌ، وَصَوْمٌ وَفِطْرٌ. وَفِي التَّنْزِيلِ:" إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً «2» " [الملك: 30] أَيْ غَائِرًا، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: لَوْ كُنْتُ مِمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ لَقَرَأْتُ" وَلكِنَّ الْبِرَّ" بِفَتْحِ الْبَاءِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ" فَقِيلَ: يَكُونُ" الْمُوفُونَ" عَطْفًا عَلَى" مَنْ" لِأَنَّ مَنْ فِي مَوْضِعِ جَمْعٍ وَمَحَلِّ رَفْعٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُوفُونَ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ." وَالصَّابِرِينَ" نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ. وَالْعَرَبُ تَنْصِبُ عَلَى الْمَدْحِ وَعَلَى الذَّمِّ كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إِفْرَادَ الْمَمْدُوحِ وَالْمَذْمُومِ وَلَا يُتْبِعُونَهُ أَوَّلَ الْكَلَامِ، وَيَنْصِبُونَهُ. فَأَمَّا الْمَدْحُ فَقَوْلُهُ:" وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ «3» " [النساء: 162] . وَأَنْشَدَ الْكِسَائِيُّ:
وَكُلُّ قَوْمٍ أَطَاعُوا أَمْرَ مُرْشِدِهِمْ ... إِلَّا نُمَيْرًا أَطَاعَتْ أَمْرَ غَاوِيهَا
الظَّاعِنِينَ وَلَمَّا يُظْعِنُوا أَحَدًا ... وَالْقَائِلُونَ لِمَنْ دَارٌ نُخَلِّيهَا
وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
لَا يَبْعَدْنَ قَوْمِي الَّذِينَ هُمْ ... سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزْرِ «4»
النَّازِلِينَ بِكُلِ مُعْتَرَكٍ ... وَالطَّيِّبُونَ مَعَاقِدَ الْأُزْرِ
وَقَالَ آخَرُ:
نَحْنُ بَنِي ضبة أصحاب الجمل
__________
(1) . راجع ج 4 ص 263.
(2) . راجع ج 18 ص 222.
(3) . راجع ج 6 ص 13.
(4) . راجع كتاب سيبويه وتوجيه الاعراب فيه (ج 1 ص 104، 246، 249) طبع بولاق.(2/239)
فَنُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ. وَأَمَّا الذَّمُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:" مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا «1» " [الأحزاب: 61] الآية. وقال عروة ابن الْوَرْدِ:
سَقَوْنِي الْخَمْرَ ثُمَّ تَكَنَّفُونِي ... عُدَاةُ اللَّهِ مِنْ كَذِبٍ وَزُورِ
وَهَذَا مَهْيَعٌ «2» فِي النُّعُوتِ، لَا مَطْعَنَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ، مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا بَيَّنَّا. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ تَعَسَّفَ فِي كَلَامِهِ: إِنَّ هَذَا غَلَطٌ مِنَ الْكُتَّابِ حِينَ كَتَبُوا مُصْحَفَ الْإِمَامِ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ نَظَرَ فِي الْمُصْحَفِ فَقَالَ: أَرَى «3» فِيهِ لَحْنًا وَسَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا. وَهَكَذَا قَالَ فِي سورة النساء" وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ" [النساء: 162] ، وفي سورة المائدة" وَالصَّابِئُونَ" [ «4» المائدة: 69] . وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقِيلَ:" الْمُوفُونَ" رُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ وَهُمُ الْمُوفُونَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ:" وَالصَّابِرِينَ" عُطِفٌ عَلَى" ذَوِي الْقُرْبى " كَأَنَّهُ قَالَ: وَآتَى الصَّابِرِينَ. قَالَ النَّحَّاسُ:" وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ وَغَلَطٌ بَيِّنٌ، لِأَنَّكَ إِذَا نَصَبْتَ" وَالصَّابِرِينَ" وَنَسَّقْتَهُ عَلَى" ذَوِي الْقُرْبى " دَخَلَ فِي صِلَةِ" مَنْ" وَإِذَا رَفَعْتَ" وَالْمُوفُونَ" عَلَى أَنَّهُ نَسَقٌ عَلَى" مَنْ" فَقَدْ نَسَّقْتَ عَلَى" مَنْ" مِنْ قَبْلِ أَنْ تَتِمَّ الصِّلَةُ، وَفَرَّقْتَ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ بِالْمَعْطُوفِ". وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ" وَالْمُوفِينَ، والصَّابِرِينَ". وَقَالَ النَّحَّاسُ:" يَكُونَانِ مَنْسُوقَيْنِ عَلَى" ذَوِي الْقُرْبى " أَوْ عَلَى الْمَدْحِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ فِي النِّسَاءِ" والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة «5» " [النساء: 162] . وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَالْأَعْمَشُ" وَالْمُوفُونَ وَالصَّابِرُونَ" بِالرَّفْعِ فِيهِمَا. وقرا
__________
(1) . راجع ج 14 ص 247. [.....]
(2) . المهيع: الطريق الواسع البين.
(3) . هذا القول من أخبث ما وضع الوضاعون على عثمان رضى الله عنه، وقد أنكر العلماء صحة نسبته إليه. على أن عثمان لم يستقل بجمع المصحف بل شاركه؟؟ الصحابة في جمعه وكتابته ولم ينشروه بين المسلمين حتى قابلوه على الصحف التي جمع القرآن فيها عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فلم يتداوله المسلمون إلا وهو بإجماع الصحابة موافق تمام الموافقة للعرضة الأخيرة التي عرض فيها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن على جبريل عليه السلام. وهل يظن ظان أن عثمان رضى الله عنه وهو ثالث الخلفاء الراشدين يرى في المصحف لحنا يخالف ما أنزل الله ويتركه ويقول: ستقيمه العرب بألسنتها! وكيف يفعل أن يقول ذلك في حضرة الصحابة ولا يقفون في وجهه ويردون عليه قوله وهم أنصار الدين وحماته. وممن أنكر نسبة هذا القول إلى عثمان المصنف والزمخشري وأبو حيان والآلوسي في سورة" النساء" عند قوله تعالى:" وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ" آية 162، راجع ج 6 ص 13.
(4) . راجع ج 6 ص 246.
(5) . كذا في كتاب" إعراب القرآن" للنحاس، وما يدل عليه سياق الكلام في البحر المحيط لابي حيان في سورة" النساء". وفى الأصول:" والمقيمين ... والمؤتين".(2/240)
الْجَحْدَرِيُّ" بِعُهُودِهِمْ". وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ" وَالْمُوفُونَ" عُطِفَ عَلَى الضَّمِيرِ الَّذِي فِي" آمَنَ". وَأَنْكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَقَالَ: لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ هُوَ وَالْمُوفُونَ، أَيْ آمَنَّا جَمِيعًا. كَمَا تَقُولُ: الشُّجَاعُ مَنْ أَقْدَمَ هُوَ وَعَمْرٌو، وَإِنَّمَا الَّذِي بَعْدَ قَوْلِهِ" مَنْ آمَنَ" تَعْدَادٌ لِأَفْعَالِ مَنْ آمَنَ وَأَوْصَافِهِمْ. الْخَامِسَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ أُمَّهَاتِ الْأَحْكَامِ، لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ سِتَّ عَشْرَةَ قَاعِدَةً: الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَبِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ- وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهَا فِي" الْكِتَابِ الْأَسْنَى"- وَالنَّشْرَ وَالْحَشْرَ وَالْمِيزَانَ وَالصِّرَاطَ وَالْحَوْضَ وَالشَّفَاعَةَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ- وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهَا فِي كِتَابِ" التَّذْكِرَةِ"- وَالْمَلَائِكَةَ وَالْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ وَأَنَّهَا حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- كَمَا تَقَدَّمَ- وَالنَّبِيِّينَ وَإِنْفَاقَ الْمَالِ فِيمَا يَعِنُّ مِنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَإِيصَالَ الْقَرَابَةِ وَتَرْكَ قَطْعِهِمْ وَتَفَقُّدَ الْيَتِيمِ وَعَدَمَ إِهْمَالِهِ وَالْمَسَاكِينُ كَذَلِكَ، وَمُرَاعَاةَ ابْنِ السَّبِيلِ- قِيلَ الْمُنْقَطِعُ بِهِ، وَقِيلَ: الضَّيْفُ- وَالسُّؤَالَ وَفَكَّ الرِّقَابِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ «1» ، وَالْمُحَافَظَةَ عَلَى الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْوَفَاءَ بِالْعُهُودِ وَالصَّبْرَ فِي الشَّدَائِدِ. وَكُلُّ قَاعِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ تَحْتَاجُ إِلَى كِتَابٍ وَتَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَكْثَرِهَا، وَيَأْتِي بَيَانُ بَاقِيهَا بِمَا فِيهَا فِي مَوَاضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاخْتُلِفَ هَلْ يُعْطَى الْيَتِيمُ مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ بِمُجَرَّدِ الْيُتْمِ عَلَى وَجْهِ الصِّلَةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، أَوْ لَا يُعْطَى حَتَّى يَكُونَ فَقِيرًا، قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ. وَهَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ إِيتَاءُ الْمَالِ غَيْرُ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ، عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ آنِفًا «2» . السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ" اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ وَبِهَا كَمَالُ الْبِرِّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِمَا خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ) ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ" لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ" إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ وَقَالَ:" هَذَا حَدِيثٌ ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة
__________
(1) . راجع ج 8 ص 167.
(2) . آنفا: أي ألان. (2- 16)(2/241)
مَيْمُونٌ الْأَعْوَرُ يُضَعَّفُ. وَرَوَى بَيَانُ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ قَوْلَهُ وَهُوَ أَصَحُّ". قُلْتُ: وَالْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَقَالٌ فَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ مَعْنَى مَا فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ" فَذَكَرَ الزَّكَاةَ مَعَ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ:" وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ" لَيْسَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ يَكُونُ تَكْرَارًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ صَرْفُ الْمَالِ إِلَيْهَا. قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجِبُ عَلَى النَّاسِ فِدَاءُ أَسْرَاهُمْ وَإِنِ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ أَمْوَالَهُمْ. وَهَذَا إِجْمَاعٌ أَيْضًا، وَهُوَ يُقَوِّي مَا اخْتَرْنَاهُ، وَالْمُوَفِّقُ الْإِلَهُ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" عَلى حُبِّهِ" الضَّمِيرُ فِي" حُبِّهِ" اخْتُلِفَ فِي عَوْدِهِ، فَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُعْطِي لِلْمَالِ، وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ وَهُوَ الْمَالُ. ويجوز نصب" ذَوِي الْقُرْبى " بالحلب، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى حُبِّ الْمُعْطِي ذَوِي الْقُرْبَى. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمَالِ، فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ مُضَافًا إِلَى الْمَفْعُولِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجِيءُ قَوْلُهُ" عَلى حُبِّهِ" اعْتِرَاضًا بَلِيغًا أَثْنَاءَ الْقَوْلِ. قُلْتُ: ونطيره قَوْلُهُ الْحَقُّ:" وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً
«1» " فَإِنَّهُ جَمَعَ الْمَعْنَيَيْنِ، الِاعْتِرَاضَ وَإِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ عَلَى حُبِّ الطَّعَامِ. وَمِنَ الِاعْتِرَاضِ قَوْلُهُ الْحَقُّ:" وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ «2» " وَهَذَا عِنْدَهُمْ يُسَمَّى التَّتْمِيمَ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا الِاحْتِرَاسُ وَالِاحْتِيَاطَ، فَتَمَّمَ بِقَوْلِهِ" عَلى حُبِّهِ" وَقَوْلُهُ:" وَهُوَ مُؤْمِنٌ"، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
مَنْ يَلْقَ يَوْمًا عَلَى عِلَّاتِهِ هَرِمًا ... يَلْقَ السَّمَاحَةَ مِنْهُ وَالنَّدَى خُلُقَا
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
عَلَى هَيْكَلٍ يُعْطِيكَ قَبْلَ سُؤَالِهِ ... أَفَانِينَ جَرْيٍ غَيْرَ كَزٍّ وَلَا وَانِ
فَقَوْلُهُ:" عَلَى عِلَّاتِهِ" وَ" قَبْلَ سُؤَالِهِ" تَتْمِيمٌ حَسَنٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ عنترة:
أثنى علي بما علمت فإنني ... سهل مخالفتي إذا لم أظلم
__________
(1) . راجع ج 19 ص 126.
(2) . راجع ج 5 ص 399.(2/242)
فَقَوْلُهُ:" إِذَا لَمْ أُظْلَمِ" تَتْمِيمٌ حَسَنٌ. وَقَالَ طَرَفَةُ:
فَسَقَى دِيَارَكِ غَيْرَ مُفْسِدِهَا ... صَوْبُ الرَّبِيعِ وَدِيمَةٌ تَهْمِي
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ ضَبْعٍ الْفَزَارِيُّ:
فَنِيتُ وَمَا يَفْنَى صَنِيعِي وَمَنْطِقِي ... وَكُلُّ امْرِئٍ إِلَّا أَحَادِيثَهُ فَانِ
فَقَوْلُهُ:" غَيْرَ مُفْسِدِهَا"، وَ" إِلَّا أَحَادِيثَهُ" تَتْمِيمٌ وَاحْتِرَاسٌ. وَقَالَ أَبُو هَفَّانَ:
فَأَفْنَى الرَّدَى أَرْوَاحَنَا غَيْرَ ظَالِمٍ ... وَأَفْنَى النَّدَى أَمْوَالَنَا غَيْرَ عَائِبِ
فَقَوْلُهُ:" غَيْرَ ظَالِمٍ، وَ" غَيْرَ عَائِبٍ" تَتْمِيمٌ وَاحْتِيَاطٌ، وَهُوَ فِي الشِّعْرِ كَثِيرٌ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْإِيتَاءِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى مَصْدَرِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ «1» " أَيِ الْبُخْلُ خَيْرًا لَهُمْ، فَإِذَا أَصَابَتِ النَّاسَ حَاجَةٌ أَوْ فَاقَةٌ فَإِيتَاءُ الْمَالِ حَبِيبٌ إِلَيْهِمْ. وَقِيلَ يَعُودُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ:" مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ". وَالْمَعْنَى الْمَقْصُودَ أَنْ يَتَصَدَّقَ الْمَرْءُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ وَهُوَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ يَخْشَى الْفَقْرَ وَيَأْمَنُ الْبَقَاءَ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا" أَيْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ." وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ" الْبَأْسَاءُ: الشِّدَّةُ وَالْفَقْرُ. وَالضَّرَّاءُ: الْمَرَضُ وَالزَّمَانَةُ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (يَقُولُ اللَّهَ تَعَالَى أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ عِبَادِي ابْتَلَيْتُهُ بِبَلَاءٍ فِي فِرَاشِهِ فَلَمْ يَشْكُ إِلَى عُوَّادِهِ أَبْدَلْتُهُ لَحْمًا خَيْرًا مِنْ لَحْمِهِ وَدَمًا خَيْرًا مِنْ دَمِهِ فَإِنْ قَبَضْتُهُ فَإِلَى رَحْمَتِي وَإِنْ عَافَيْتُهُ عَافَيْتُهُ وَلَيْسَ لَهُ ذَنْبٌ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَحْمٌ خَيْرٌ مِنْ لَحْمِهِ؟ قَالَ: (لَحْمٌ لَمْ يُذْنِبْ) قِيلَ: فَمَا دَمٌ خَيْرٌ مِنْ دَمِهِ؟ قَالَ: (دَمٌ لَمْ يذنب) ووالبأساء وَالضَّرَّاءُ اسْمَانِ بُنِيَا عَلَى فَعْلَاءَ، وَلَا فِعْلَ لَهُمَا، لِأَنَّهُمَا اسْمَانِ وَلَيْسَا بِنَعْتٍ." وَحِينَ الْبَأْسِ" أي وقت الحزب «2» . قَوْلُهُ تَعَالَى:" أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" وَصَفَهُمْ بِالصِّدْقِ وَالتَّقْوَى فِي أُمُورِهِمْ وَالْوَفَاءِ بِهَا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا جَادِّينَ فِي الدِّينِ، وَهَذَا غاية الثناء. والصدق: خلاف
__________
(1) . راجع ج 4 ص 290.
(2) . في ب:" وقت الجدب".(2/243)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
الْكَذِبِ. وَيُقَالُ: صَدَقُوهُمُ الْقِتَالَ. وَالصِّدِّيقُ: الْمُلَازِمُ لِلصِّدْقِ، وَفِي الْحَدِيثِ: (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ الله صديقا) .
[سورة البقرة (2) : آية 178]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178)
فِيهِ سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- رَوَى الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ، فَقَالَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ:" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ له من أخيه شي" فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ" فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ" يَتَّبِعُ بِالْمَعْرُوفِ وَيُؤَدِّي بِإِحْسَانٍ" ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ" مِمَّا كَتَبَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ" فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ" قَتَلَ بَعْدَ قَبُولِ الدِّيَةِ". هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو [قَالَ «1» ] سَمِعْتُ مُجَاهِدًا [قَالَ «2» ] سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ [يَقُولُ «3» ] . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى " قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ قبائل العرب اقتتلتا فقالوا، نقتل بِعَبْدِنَا فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، وَبِأَمَتِنَا فُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ، وَنَحْوُهُ عَنْ قَتَادَةَ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ"" كُتِبَ" مَعْنَاهُ فُرِضَ وَأُثْبِتَ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا ... وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ
__________
(1) . الزيادة عن صحيح البخاري.
(2) . الزيادة عن صحيح البخاري.
(3) . الزيادة عن صحيح البخاري.(2/244)
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ" كُتِبَ" هُنَا إِخْبَارٌ عَمَّا كُتِبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَسَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ. وَالْقِصَاصُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَصِّ الْأَثَرِ وَهُوَ اتِّبَاعُهُ، وَمِنْهُ الْقَاصُّ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْآثَارَ وَالْأَخْبَارَ. وَقَصُّ الشَّعْرِ اتِّبَاعُ أَثَرِهِ، فَكَأَنَّ الْقَاتِلَ سَلَكَ طَرِيقًا مِنَ الْقَتْلِ فَقَصَّ أَثَرَهُ فِيهَا وَمَشَى عَلَى سَبِيلِهِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهُ" فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً" [الكهف: 64] . وَقِيلَ: الْقَصُّ الْقَطْعُ، يُقَالُ: قَصَصْتُ مَا بَيْنَهُمَا. وَمِنْهُ أَخْذُ الْقِصَاصِ، لِأَنَّهُ يَجْرَحُهُ مِثْلَ جُرْحِهِ أَوْ يَقْتُلُهُ بِهِ، يُقَالُ: أَقَصَّ الْحَاكِمُ فُلَانًا مِنْ فُلَانٍ وَأَبَاءَهُ بِهِ فَأَمْثَلَهُ فَامْتَثَلَ مِنْهُ، أَيِ اقْتَصَّ مِنْهُ. الثَّالِثَةُ- صُورَةُ الْقِصَاصِ هُوَ أَنَّ الْقَاتِلَ فُرِضَ عَلَيْهِ إِذَا أَرَادَ الْوَلِيُّ الْقَتْلَ الِاسْتِسْلَامُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالِانْقِيَادُ لِقِصَاصِهِ الْمَشْرُوعِ، وَأَنَّ الْوَلِيَّ فُرِضَ عَلَيْهِ الْوُقُوفُ عِنْدَ قَاتِلِ وَلِيِّهِ وَتَرْكُ التَّعَدِّي عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَتَعَدَّى فَتَقْتُلُ غَيْرَ الْقَاتِلِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّ مِنْ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ وَرَجُلٌ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ وَرَجُلٍ أَخَذَ بِذُحُولِ «1» الْجَاهِلِيَّةِ) . قَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ فِيهِمْ بَغْيٌ وَطَاعَةٌ لِلشَّيْطَانِ، فَكَانَ الْحَيُّ إِذَا كَانَ فِيهِ عِزٌّ وَمَنَعَةٌ فَقُتِلَ لَهُمْ عَبْدٌ، قَتَلَهُ عَبْدُ قَوْمٍ آخَرِينَ قَالُوا: لَا نَقْتُلُ بِهِ إِلَّا حُرًّا، وَإِذَا قُتِلَتْ مِنْهُمُ امْرَأَةٌ قَالُوا: لَا نَقْتُلُ بِهَا إِلَّا رَجُلًا، وَإِذَا قُتِلَ لَهُمْ وَضِيعٌ قَالُوا: لَا نَقْتُلُ بِهِ إِلَّا شَرِيفًا، وَيَقُولُونَ: (الْقَتْلُ أَوْقَى لِلْقَتْلِ) بِالْوَاوِ وَالْقَافِ، وَيُرْوَى (أَبْقَى) بِالْبَاءِ وَالْقَافِ، وَيُرْوَى (أَنْفَى) بِالنُّونِ وَالْفَاءِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنِ الْبَغْيِ فَقَالَ:" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ" الْآيَةَ، وقال" وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ" [البقرة: 179] . وَبَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْجَزْلِ بَوْنٌ عَظِيمٌ. الرَّابِعَةُ- لَا خِلَافَ أَنَّ الْقِصَاصَ فِي الْقَتْلِ لا يقيمه إلا أولو الْأَمْرِ، فُرِضَ عَلَيْهِمُ النُّهُوضُ بِالْقِصَاصِ وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَاطَبَ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِصَاصِ، ثُمَّ لَا يَتَهَيَّأُ لِلْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى الْقِصَاصِ، فَأَقَامُوا السُّلْطَانَ مَقَامَ أنفسهم
__________
(1) . الذحل (بفتح فسكون) : قيل هو العداوة والحقد، وقيل: النار وطلب المكافأة بجناية جنيت عليه من قتل أو جرح، ونحو ذلك. [.....](2/245)
فِي إِقَامَةِ الْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْحُدُودِ. وَلَيْسَ الْقِصَاصُ بِلَازِمٍ إِنَّمَا اللَّازِمُ أَلَّا يُتَجَاوَزَ الْقِصَاصُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُدُودِ إِلَى الِاعْتِدَاءِ، فَأَمَّا إِذَا وَقَعَ الرِّضَا بِدُونِ الْقِصَاصِ مِنْ دِيَةٍ أَوْ عَفْوٍ فَذَلِكَ مُبَاحٌ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى" كُتِبَ عَلَيْكُمُ" مَعْنَاهُ فُرِضَ وَأُلْزِمَ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْقِصَاصُ غَيْرَ وَاجِبٍ؟ قِيلَ لَهُ: مَعْنَاهُ إِذَا أَرَدْتُمْ، فَأَعْلَمَ أَنَّ الْقِصَاصَ هُوَ الْغَايَةُ عِنْدَ التَّشَاحِّ. وَالْقَتْلَى جَمْعُ قَتِيلٍ، لَفْظٌ مُؤَنَّثٌ تَأْنِيثَ الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ مِمَّا يَدْخُلُ عَلَى النَّاسِ كُرْهًا، فَلِذَلِكَ جَاءَ عَلَى هَذَا الْبِنَاءِ كَجَرْحَى وَزَمْنَى وَحَمْقَى وَصَرْعَى وَغَرْقَى، وَشَبَهِهِنَّ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى " الْآيَةَ. اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِهَا، فَقَالَتْ طَائِفَةُ: جَاءَتِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةً لِحُكْمِ النَّوْعِ إِذَا قَتَلَ نَوْعَهُ، فَبَيَّنَتْ حُكْمَ الْحُرِّ إِذَا قَتَلَ حُرًّا، وَالْعَبْدُ إِذَا قَتَلَ عَبْدًا، وَالْأُنْثَى إِذَا قَتَلَتْ أُنْثَى، وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ إِذَا قَتَلَ الْآخَرَ، فَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَفِيهَا إِجْمَالٌ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ" [المائدة: 45] ، وَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُنَّتِهِ لَمَّا قُتِلَ الْيَهُودِيُّ بِالْمَرْأَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ" الْمَائِدَةِ «1» " وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ. السَّادِسَةُ- قَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالثَّوْرِيُّ: يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى " فَعَمَّ، وَقَوْلُهُ:" وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ" [المائدة: 45] ، قَالُوا: وَالذِّمِّيُّ مَعَ الْمُسْلِمِ «2» مُتَسَاوِيَانِ فِي الْحُرْمَةِ الَّتِي تَكْفِي فِي الْقِصَاصِ وَهِيَ حُرْمَةُ الدَّمِ الثَّابِتَةُ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ مَحْقُونُ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَالْمُسْلِمُ كَذَلِكَ، وَكِلَاهُمَا قَدْ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمَ يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ الذِّمِّيِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَالَ الذِّمِّيِّ قَدْ سَاوَى مَالَ الْمُسْلِمِ، فَدَلَّ عَلَى مُسَاوَاتِهِ لِدَمِهِ إِذِ الْمَالُ إِنَّمَا يَحْرُمُ بِحُرْمَةِ مَالِكِهِ. وَاتَّفَقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى عَلَى أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ كَمَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ علي وابن مسعود
__________
(1) . راجع ج 6 ص 191.
(2) . في ب، ج، ز:" مع الحر".(2/246)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَقَتَادَةُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ. وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَا يَقْتُلُونَ الْحُرَّ بِالْعَبْدِ، لِلتَّنْوِيعِ وَالتَّقْسِيمِ فِي الْآيَةِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَمَّا اتَّفَقَ جَمِيعُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ فِيمَا دُونَ النُّفُوسِ كَانَتِ النُّفُوسُ أَحْرَى بِذَلِكَ، وَمَنْ فَرَّقَ مِنْهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ فَقَدْ نَاقَضَ. وَأَيْضًا فَالْإِجْمَاعُ فِيمَنْ قَتَلَ عَبْدًا خَطَأً أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الْقِيمَةُ، فَكَمَا لَمْ يُشْبِهِ الْحُرَّ فِي الْخَطَأِ لَمْ يُشْبِهْهُ فِي الْعَمْدِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَبْدَ سِلْعَةٌ مِنَ السِّلَعِ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى، وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ الْحُرُّ كَيْفَ شَاءَ، فَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنِهِ وَبَيْنَ الْحُرِّ وَلَا مُقَاوَمَةَ. قُلْتُ: هَذَا الْإِجْمَاعُ صَحِيحٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ أَوَّلًا:" وَلَمَّا اتَّفَقَ جَمِيعُهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- فَقَدْ نَاقَضَ" فَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَدَاوُدُ بِالْقِصَاصِ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي النَّفْسِ وَفِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ، وَاسْتَدَلَّ دَاوُدُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ) فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي" النِّسَاءِ «1» " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّابِعَةُ- وَالْجُمْهُورُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَلَا يَصِحُّ لَهُمْ مَا رَوَوْهُ مِنْ حَدِيثِ رَبِيعَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ يَوْمَ خَيْبَرٍ مُسْلِمًا بِكَافِرٍ، لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْفُوعًا. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ:" لَمْ يُسْنِدْهُ غَيْرُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَالصَّوَابُ عَنْ رَبِيعَةَ عَنِ ابْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ مُرْسَلٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَابْنُ الْبَيْلَمَانِيِّ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ إِذَا وَصَلَ الْحَدِيثَ، فَكَيْفَ بِمَا يُرْسِلُهُ". قُلْتُ: فَلَا يَصِحُّ فِي الْبَابِ إِلَّا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ يُخَصِّصُ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى " الْآيَةَ، وَعُمُومَ قَوْلِهِ:" النَّفْسَ بِالنَّفْسِ" [المائدة: 45] . الثَّامِنَةُ- رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ مُبَيِّنَةً حُكْمَ الْمَذْكُورِينَ، لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَقْتُلَ حُرٌّ عَبْدًا أَوْ عَبْدٌ حُرًّا، أَوْ ذَكَرٌ أُنْثَى أَوْ أُنْثَى ذَكَرًا، وَقَالَا: إِذَا قَتَلَ رَجُلٌ امْرَأَةً فإن أراد أولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا
__________
(1) . راجع ج 5 ص 314.(2/247)
أَوْلِيَاءَهُ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنْ أَرَادُوا اسْتَحْيَوْهُ وَأَخَذُوا مِنْهُ دِيَةَ الْمَرْأَةِ. وَإِذَا قَتَلَتِ امْرَأَةٌ رَجُلًا فَإِنْ أَرَادَ أَوْلِيَاؤُهُ قَتْلَهَا قَتَلُوهَا وَأَخَذُوا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِلَّا أَخَذُوا دِيَةَ صَاحِبِهِمْ وَاسْتَحْيَوْهَا. رَوَى هَذَا الشَّعْبِيُّ عَنْ عَلِيٍّ، وَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الشَّعْبِيَّ لَمْ يَلْقَ عَلِيًّا. وَقَدْ رَوَى الْحَكَمُ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ قَالَا: إِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ مُتَعَمِّدًا فَهُوَ بِهَا قَوَدٌ، وَهَذَا يُعَارِضُ رِوَايَةَ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ. وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَعْوَرَ وَالْأَشَلَّ إِذَا قَتَلَ رَجُلًا سَالِمَ الْأَعْضَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَقْتُلَ الْأَعْوَرَ، وَيَأْخُذَ مِنْهُ نِصْفَ الدِّيَةِ مِنْ أَجْلٍ أَنَّهُ قَتَلَ ذَا عَيْنَيْنِ وَهُوَ أَعْوَرُ، وَقَتَلَ ذَا يَدَيْنِ وَهُوَ أَشَلُّ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أن النفس مكافيه لِلنَّفْسِ، وَيُكَافِئُ الطِّفْلُ فِيهَا الْكَبِيرَ. وَيُقَالُ لِقَائِلِ ذَلِكَ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَا تُكَافِئُهُ الْمَرْأَةُ وَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ) فَلِمَ قَتَلْتَ الرَّجُلَ بِهَا وَهِيَ لَا تُكَافِئُهُ ثُمَّ تَأْخُذُ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَالْعُلَمَاءُ قَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ الدِّيَةَ لَا تَجْتَمِعُ مَعَ الْقِصَاصِ، وَأَنَّ الدِّيَةَ إِذَا قُبِلَتْ حَرُمَ الدَّمُ وَارْتَفَعَ الْقِصَاصُ، فَلَيْسَ قَوْلُكَ هَذَا بِأَصْلٍ وَلَا قِيَاسٍ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَإِذَا قَتَلَ الْحُرُّ الْعَبْدَ، فَإِنْ أَرَادَ سَيِّدُ الْعَبْدِ قَتَلَ وَأَعْطَى دِيَةَ الْحُرِّ إِلَّا قِيمَةَ الْعَبْدِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَحْيَا وَأَخَذَ قِيمَةَ الْعَبْدِ، هَذَا مَذْكُورٌ عَنْ، عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ، وَقَدْ أُنْكِرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ أَيْضًا. التَّاسِعَةُ- وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ، وَالْجُمْهُورُ لَا يَرَوْنَ الرُّجُوعَ بِشَيْءٍ. وَفِرْقَةٌ تَرَى الِاتِّبَاعَ بِفَضْلِ الدِّيَاتِ. قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: وَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا قِصَاصَ بَيْنِهِمَا فيما دون النفس بالنفس وَإِنَّمَا هُوَ فِي النَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَهُمَا مَحْجُوجَانِ بِإِلْحَاقِ مَا دُونَ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ عَلَى طَرِيقِ الأخرى وَالْأَوْلَى، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. الْعَاشِرَةُ- قَالَ ابْنُ العربي: ولقد بَلَغَتِ الْجَهَالَةُ بِأَقْوَامٍ إِلَى أَنْ قَالُوا: يُقْتَلُ الْحُرُّ بِعَبْدِ نَفْسِهِ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من قتل عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ) وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمَنْ قُتِلَ(2/248)
مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ
«1» " [الاسراء: 33] وَالْوَلِيُّ هَا هُنَا السَّيِّدُ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى نَفْسِهِ". وَقَدِ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ قَتَلَ عَبْدَهُ خَطَأً أَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ قِيمَتُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ عَبْدَهُ مُتَعَمِّدًا فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفَاهُ سَنَةً وَمَحَا سَهْمَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُقِدْهُ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ لِمَ لَمْ تَقُولُوا: يُنَصَّبُ النِّكَاحُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ عَنِ الزَّوْجِ، إِذِ النِّكَاحُ ضَرْبٌ مِنَ الرِّقِّ، وَقَدْ قَالَ ذَلِكَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. قُلْنَا: النِّكَاحُ يَنْعَقِدُ لَهَا عَلَيْهِ، كَمَا يَنْعَقِدُ لَهُ عَلَيْهَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ أُخْتَهَا ولا أربعا سواها، وتطالبه في حق الوطي بِمَا يُطَالِبُهَا، وَلَكِنْ لَهُ عَلَيْهَا فَضْلُ الْقِوَامَةِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَهُ عَلَيْهَا بِمَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ، أَيْ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ صَدَاقٍ وَنَفَقَةٍ، فَلَوْ أَوْرَثَ شُبْهَةً لَأَوْرَثَهَا فِي الْجَانِبَيْنِ. قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي ضَعَّفَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، وَتَتْمِيمُ مَتْنِهِ: (وَمَنْ جَدَعَهُ جَدَعْنَاهُ وَمَنْ أَخْصَاهُ أَخْصَيْنَاهُ) . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ: سَمَاعُ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ صَحِيحٌ، وَأَخَذَ بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَأَنَا أَذْهَبُ إِلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ الْحَدِيثُ لَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَذَانَ الْإِمَامَانِ، وَحَسْبُكَ بِهِمَا!. وَيُقْتَلُ الْحُرُّ بِعَبْدِ نَفْسِهِ. قَالَ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ سَمُرَةَ إِلَّا حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [وَاخْتَلَفُوا «2» فِي الْقِصَاصِ بَيْنَ الْعَبِيدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، هَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالزُّهْرِيِّ وَقُرَّانَ «3» وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا قِصَاصَ بَيْنِهِمْ إِلَّا فِي النَّفْسِ. قَالَ ابن المنذر: الأول أصح [. الحادية عشرة- رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَأَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقِيدُ الْأَبَ مِنَ ابْنِهِ، وَلَا يُقِيدُ الِابْنَ مِنْ أَبِيهِ. قَالَ أَبُو عِيسَى:" هَذَا حَدِيثٌ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ سُرَاقَةَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ، رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنِ الْمُثَنَّى
بْنِ الصَّبَّاحِ، وَالْمُثَنَّى يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ، وَقَدْ روى هذا
__________
(1) . راجع ج 10 ص 254.
(2) . ما بين المربعين ساقط من ب، ج، ز.
(3) . قران (بضم القاف وتشديد الراء) بن تمام الأسدي، توفى سنة إحدى وثمانين ومائة.(2/249)
الْحَدِيثَ أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنِ الْحَجَّاجِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مُرْسَلًا، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ اضْطِرَابٌ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْأَبَ إِذَا قَتَلَ ابْنَهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ، وَإِذَا قَذَفَهُ لَا يُحَدُّ". وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الرَّجُلِ يَقْتُلُ ابْنَهُ عَمْدًا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ دِيَتُهُ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ نَافِعٍ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يُقْتَلُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهَذَا نَقُولُ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَأَمَّا ظَاهِرُ الْكِتَابِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ"، وَالثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ) وَلَا نَعْلَمُ خَبَرًا ثَابِتًا يَجِبُ بِهِ اسْتِثْنَاءُ الْأَبِ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَةِ، وَقَدْ رَوَيْنَا فِيهِ أَخْبَارًا غَيْرَ ثَابِتَةٍ. وَحَكَى إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ أَنَّهُ يُقْتَلُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ، لِلْعُمُومَاتِ فِي الْقِصَاصِ. وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَلَعَلَّهُمَا لَا يَقْبَلَانِ أَخْبَارَ الْآحَادِ فِي مُقَابَلَةِ عُمُومَاتِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: لَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ ابْنَهُ مُتَعَمِّدًا مِثْلَ أَنْ يُضْجِعَهُ وَيَذْبَحَهُ أَوْ يَصْبِرَهُ «1» مِمَّا لَا عُذْرَ لَهُ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ فِي ادِّعَاءِ الْخَطَأِ، أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ قَوْلًا وَاحِدًا. فَأَمَّا إِنْ رَمَاهُ بِالسِّلَاحِ أَدَبًا أَوْ حَنَقًا فَقَتَلَهُ، فَفِيهِ فِي الْمَذْهَبِ قَوْلَانِ: يُقْتَلُ بِهِ، وَلَا يُقْتَلُ بِهِ وَتُغَلَّظُ الدِّيَةُ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةُ العلماء. ويقتل الا جني بِمِثْلِ هَذَا. ابْنُ الْعَرَبِيِّ «2» :" سَمِعْتُ شَيْخَنَا فَخْرَ الْإِسْلَامِ الشَّاشِيَّ يَقُولُ فِي النَّظَرِ: لَا يُقْتَلُ الْأَبُ بِابْنِهِ، لِأَنَّ الْأَبَ كَانَ سَبَبَ وُجُودِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ هُوَ سَبَبَ عَدَمِهِ؟ وَهَذَا يَبْطُلُ بِمَا إِذَا زَنَى بِابْنَتِهِ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ، وَكَانَ سَبَبُ وُجُودِهَا وَتَكُونُ هِيَ سَبَبَ عَدَمِهِ، [ثُمَّ أَيُّ فِقْهٍ تَحْتَ هَذَا، وَلِمَ لَا يَكُونُ سَبَبَ عَدَمِهِ إِذَا عَصَى اللَّهَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ «3» [. وَقَدْ أَثَرُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا يُقَادُ الوالد
__________
(1) . صبر الإنسان وغيره على القتل: أن يحبس ويرمى حتى يموت. وفى أ، ج:" أو يضربه".
(2) . أثبتنا كلام ابن العربي هنا كما ورد في كتابه" أحكام القرآن"، وقد ورد في الأصول بنقص وتحريف من النساخ.
(3) . زيادة عن ابن العربي.(2/250)
بِوَلَدِهِ) وَهُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ، وَمُتَعَلِّقُهُمْ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى بِالدِّيَةِ مُغَلَّظَةً فِي قَاتِلِ ابْنِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ، فَأَخَذَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَسْأَلَةَ مُسْجَلَةً «1» ، [وَقَالُوا «2» : لَا يُقْتَلُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ [، وَأَخَذَهَا مَالِكٌ مُحْكَمَةً مُفَصَّلَةً فَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ حَذَفَهُ بِالسَّيْفِ وَهَذِهِ حَالَةٌ مُحْتَمَلَةٌ لِقَصْدِ الْقَتْلِ وَعَدَمِهِ، وَشَفَقَةُ الْأُبُوَّةِ شُبْهَةٌ مُنْتَصِبَةٌ شَاهِدَةٌ بِعَدَمِ الْقَصْدِ إِلَى الْقَتْلِ تُسْقِطُ الْقَوَدَ، فَإِذَا أَضْجَعَهُ كشف الْغِطَاءَ عَنْ قَصْدِهِ فَالْتَحَقَ بِأَصْلِهِ". قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَكَانَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ يَقُولُونَ: إِذَا قَتَلَ الِابْنُ الْأَبَ قُتِلَ بِهِ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِهِ: لَا تُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ، قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَطَ الْمُسَاوَاةَ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ وَالْوَاحِدِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:" وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ" [المائدة: 45] . وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِصَاصِ فِي الْآيَةِ قَتْلُ مَنْ قَتَلَ كَائِنًا مَنْ كَانَ، رَدًّا عَلَى الْعَرَبِ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَ بِمَنْ قُتِلَ مَنْ لَمْ يَقْتُلْ، وَتَقْتُلْ فِي مُقَابَلَةِ الْوَاحِدِ مِائَةً، افْتِخَارًا وَاسْتِظْهَارًا بِالْجَاهِ وَالْمَقْدِرَةِ، فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقْتَلَ مَنْ قَتَلَ، وَقَدْ قَتَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَبْعَةً بِرَجُلٍ بِصَنْعَاءَ وَقَالَ: لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ جَمِيعًا. وَقَتَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحَرُورِيَّةَ «3» بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، فَإِنَّهُ تَوَقَّفَ عَنْ قِتَالِهِمْ حَتَّى يُحْدِثُوا، فَلَمَّا ذَبَحُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَبَّابٍ كَمَا تُذْبَحُ الشَّاةُ، وَأُخْبِرَ عَلِيٌّ بِذَلِكَ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ! نَادُوهُمْ أَنْ أَخْرِجُوا إِلَيْنَا قَاتِلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، فَقَالُوا: كُلُّنَا قَتَلَهُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِأَصْحَابِهِ: دُونَكُمُ الْقَوْمَ، فَمَا لَبِثَ أَنْ قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ) خَرَّجَ الْحَدِيثَيْنِ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ. وَفِي التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ) . وَقَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَأَيْضًا فَلَوْ عَلِمَ الْجَمَاعَةُ أَنَّهُمْ إِذَا قَتَلُوا الْوَاحِدَ لَمْ يُقْتَلُوا لِتَعَاوُنِ الْأَعْدَاءِ عَلَى قَتْلِ أَعْدَائِهِمْ بِالِاشْتِرَاكِ فِي قَتْلِهِمْ وَبَلَغُوا الأمل من التشفي،
__________
(1) . أي مرسلة مطلقة.
(2) . زيادة عن ابن العربي.
(3) . الحرورية: طائفة من الخوارج نسبوا إلى حروراء (موضع قريب من الكوفة) لان أول مجتمعهم وتحكيمهم فيها.(2/251)
وَمُرَاعَاةُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ الْأَلْفَاظِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [وَقَالَ «1» ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ وَابْنُ سِيرِينَ: لَا يُقْتَلُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ. رَوَيْنَا ذَلِكَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا أَصَحُّ، وَلَا حُجَّةَ مَعَ مَنْ أَبَاحَ قَتْلَ جَمَاعَةٍ بِوَاحِدٍ. وَقَدْ ثَبَتَ عن ابن الزبير ما ذكرناه «2» [. التاسعة عَشْرَةَ- رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَا إِنَّكُمْ مَعْشَرَ خُزَاعَةَ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ وَإِنِّي عَاقِلُهُ فَمَنْ قُتِلَ لَهُ بَعْدَ مَقَالَتِي هَذِهِ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خَيْرَتَيْنِ أَنْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ أَوْ يَقْتُلُوا (، لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ «3» عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (من قتل لَهُ قَتِيلٌ فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يَعْفُوَ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ) . وَذَهَبَ إِلَى هَذَا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَخْذِ الدِّيَةِ مِنْ قَاتِلِ الْعَمْدِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: وَلِيُّ الْمَقْتُولِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الْقَاتِلُ. يُرْوَى هَذَا عن سعيد ابن الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ، وَرَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ أَبِي شُرَيْحٍ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَأَيْضًا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ فَإِنَّمَا لَزِمَتْهُ الدِّيَةُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، لِأَنَّ فَرْضًا عَلَيْهِ إِحْيَاءَ نَفْسِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «4» " [النساء: 29] . وَقَوْلُهُ:" فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ" أَيْ تَرَكَ لَهُ دَمَهُ، فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ، وَرَضِيَ مِنْهُ بِالدِّيَةِ" فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ" أَيْ فَعَلَى صَاحِبِ الدَّمِ اتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالدِّيَةِ، وَعَلَى الْقَاتِلِ أَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ، أَيْ مِنْ غَيْرِ مُمَاطَلَةٍ وَتَأْخِيرٍ عَنِ الْوَقْتِ" ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ" أَيْ أَنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا لَمْ يَفْرِضِ اللَّهُ عَلَيْهِمْ غَيْرَ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ، فَتَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالدِّيَةِ إِذَا رَضِيَ بِهَا وَلِيُّ الدَّمِ، عَلَى مَا يأتي بيانه. وقال
__________
(1) . ما بين المربعين ساقط من ب، ج، ز.
(2) . ما بين المربعين ساقط من ب، ج، ز. [.....]
(3) . أبو شريح الخزاعي: هو أبو شريح الكعبي، واختلف في اسمه، والمشهور أنه خويلد بن عمرو بن صخر، أسلم يوم الفتح.
(4) . راجع ج 5 ص 156.(2/252)
آخَرُونَ: لَيْسَ لِوَلِيِ الْمَقْتُولِ إِلَّا الْقِصَاصُ، وَلَا يَأْخُذُ الدِّيَةَ إِلَّا إِذَا رَضِيَ الْقَاتِلُ، رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الرَّبِيعِ «1» حِينَ كُسِرَتْ ثَنِيَّةُ الْمَرْأَةِ، رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ قَالُوا: فَلَمَّا حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ وَقَالَ: (الْقِصَاصُ كتاب الله، القصاص كتاب الله) ولم يخبر الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَجِبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِي الْعَمْدِ هُوَ الْقِصَاصُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِحَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ الْمَذْكُورِ. وَرَوَى الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ قال: أخبرني أبو حنيفة ابن سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ الشِّهَابِيُّ قَالَ: وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَامَ الْفَتْحِ: (مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِنْ أَحَبَّ أَخَذَ الْعَقْلَ وَإِنْ أَحَبَّ فَلَهُ الْقَوَدُ) . فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فَقُلْتُ لِابْنِ أَبِي ذِئْبٍ: أَتَأْخُذُ بِهَذَا يَا أَبَا الْحَارِثِ فَضَرَبَ صَدْرِي وَصَاحَ عَلَيَّ صِيَاحًا كَثِيرًا وَنَالَ مِنِّي وَقَالَ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ: تَأْخُذُ بِهِ! نَعَمْ آخُذُ بِهِ، وَذَلِكَ الْفَرْضُ عَلَيَّ وَعَلَى مَنْ سَمِعَهُ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ثَنَاؤُهُ اخْتَارَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّاسِ فَهَدَاهُمْ بِهِ وَعَلَى يَدَيْهِ، وَاخْتَارَ لَهُمْ مَا اخْتَارَهُ لَهُ وَعَلَى لِسَانِهِ، فَعَلَى الْخَلْقِ أَنْ يَتَّبِعُوهُ طَائِعِينَ أَوْ دَاخِرِينَ، لَا مَخْرَجَ لِمُسْلِمٍ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: وَمَا سَكَتَ عَنِّي حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ يَسْكُتَ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ" اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ" مَنْ" وَ" عُفِيَ" عَلَى تَأْوِيلَاتٍ خَمْسٍ: أَحَدُهَا- أَنَّ" مَنْ" يُرَادُ بها القاتل، و" عفي" تَتَضَمَّنُ عَافِيًا هُوَ وَلِيُّ الدَّمِ، وَالْأَخُ هُوَ المقتول، و" شي" هُوَ الدَّمُ الَّذِي يُعْفَى عَنْهُ وَيُرْجَعُ إِلَى أَخْذِ الدِّيَةِ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَالْعَفْوُ فِي هَذَا الْقَوْلِ عَلَى بَابِهِ الَّذِي هُوَ التَّرْكُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَاتِلَ إِذَا عَفَا عَنْهُ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ عن دم مقتول وَأَسْقَطَ الْقِصَاصَ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الدِّيَةَ وَيَتَّبِعُ بِالْمَعْرُوفِ، ويؤدي إليه القاتل بإحسان.
__________
(1) . الربيع (بضم الراء وفتح الموحدة وتشديد المثناة المكسورة بعدها عين مهملة) وهى عمة أنس بن مالك.(2/253)
الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّ" مَنْ" يُرَادُ بِهِ الْوَلِيُّ" وَعُفِيَ" يُسِّرَ، لَا عَلَى بَابِهَا في العفو، والأخ يراد به القاتل، و" شيء" هُوَ الدِّيَةُ، أَيْ أَنَّ الْوَلِيَّ إِذَاَ جَنَحَ إِلَى الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى أَخْذِ الدِّيَةِ فَإِنَّ الْقَاتِلَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهَا أَوْ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ، فَمَرَّةً تُيَسَّرُ وَمَرَّةً لَا تُيَسَّرُ. وَغَيْرُ مَالِكٍ يَقُولُ: إِذَا رَضِيَ الْأَوْلِيَاءُ بِالدِّيَةِ فَلَا خِيَارَ لِلْقَاتِلِ بَلْ تَلْزَمُهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ هَذَا الْقَوْلُ، وَرَجَّحَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ مَعْنًى" عُفِيَ" بُذِلَ، وَالْعَفْوُ فِي اللُّغَةِ: الْبَذْلُ، وَلِهَذَا قَالَ الله تعالى:" خُذِ الْعَفْوَ «1» " [الأعراف: 199] أَيْ مَا سَهُلَ. وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ:
خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي
[وَقَالَ «2» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ) يَعْنِي شَهِدَ اللَّهُ عَلَى عباده. فكأنه قال: من بذل له شي مِنَ الدِّيَةِ فَلْيَقْبَلْ وَلْيَتَّبِعْ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَالَ قَوْمٌ: وَلْيُؤَدِّ إِلَيْهِ الْقَاتِلُ بِإِحْسَانٍ، فَنَدَبَهُ تَعَالَى إِلَى أَخْذِ الْمَالِ إِذَا سُهِّلَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْقَاتِلِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ تَخْفِيفُ مِنْهُ وَرَحْمَةٌ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ عَقِبَ ذِكْرِ الْقِصَاصِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ «3» " [المائدة: 45] فَنَدَبَ إِلَى رَحْمَةِ الْعَفْوِ وَالصَّدَقَةِ، وَكَذَلِكَ نَدَبَ فِيمَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى قَبُولِ الدِّيَةِ إِذَا بَذَلَهَا الْجَانِي بِإِعْطَاءِ الدِّيَةِ، ثُمَّ أَمَرَ الْوَلِيَّ بِاتِّبَاعٍ وَأَمَرَ الْجَانِي بِالْأَدَاءِ بِالْإِحْسَانِ. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِي الْمُعَيَّنِينَ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ كُلُّهَا وَتَسَاقَطُوا الدِّيَاتِ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُقَاصَّةً. وَمَعْنَى الْآيَةِ: فَمَنْ فضل له من الطائفتين على الأخرى شي مِنْ تِلْكَ الدِّيَاتِ، وَيَكُونُ" عُفِيَ" بِمَعْنَى فُضِلَ. [رَوَى «4» سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ شُوعَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ الْعَرَبِ قِتَالٌ، فَقُتِلَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. وَقَالَ أَحَدُ الْحَيَّيْنِ: لَا نَرْضَى حَتَّى يُقْتَلَ بِالْمَرْأَةِ الرَّجُلُ وَبِالرَّجُلِ الْمَرْأَةُ، فَارْتَفَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (الْقَتْلُ سَوَاءٌ) فَاصْطَلَحُوا عَلَى الدِّيَاتِ، فَفَضَلَ أَحَدُ الْحَيَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ، فَهُوَ قَوْلُهُ:" كُتِبَ" إِلَى قَوْلِهِ:" فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ" يَعْنِي فَمَنْ فُضِلَ لَهُ عَلَى أَخِيهِ فَضْلٌ فَلْيُؤَدِّهِ بِالْمَعْرُوفِ، فَأَخْبَرَ الشَّعْبِيُّ عَنِ السَّبَبِ فِي نُزُولِ الْآيَةِ، وَذَكَرَ سُفْيَانُ الْعَفْوَ هُنَا الْفَضْلَ، وَهُوَ معنى يحتمله اللفظ] .
__________
(1) . راجع ج 7 ص 344.
(2) . ما بين المربعين في ح، وساقط من سائر النسخ.
(3) . ج 6 ص 208.
(4) . ما بين المربعين في ح، وساقط من سائر النسخ.(2/254)
وَتَأْوِيلٌ خَامِسٌ «1» - وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْحَسَنُ فِي الْفَضْلِ بَيْنَ دِيَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ، أَيْ مَنْ كَانَ لَهُ ذلك الفضل فاتباع بالمعروف، و" عُفِيَ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا بِمَعْنَى فُضِلَ. السَّادِسَةَ عشرة- هَذِهِ الْآيَةُ حَضٌّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى حُسْنِ الِاقْتِضَاءِ مِنَ الطَّالِبِ، وَحُسْنُ الْقَضَاءِ مِنَ الْمُؤَدِّي، وَهَلْ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ. فَقِرَاءَةُ الرَّفْعِ تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى فَعَلَيْهِ اتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ. قَالَ النَّحَّاسُ:" فَمَنْ عُفِيَ لَهُ" شَرْطٌ وَالْجَوَابُ،" فَاتِّباعٌ" وَهُوَ رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ فَعَلَيْهِ اتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ. وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ القرآن" فاتباعا"، و" أداء" بِجَعْلِهِمَا مَصْدَرَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ" فَاتِّبَاعًا" بِالنَّصْبِ. وَالرَّفْعُ سَبِيلٌ للواجبات، كقوله تعالى:" فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ «2» " [البقرة: 229] . وَأَمَّا الْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ فَيَأْتِي مَنْصُوبًا، كَقَوْلِهِ:" فَضَرْبَ الرِّقابِ «3» " [محمد: 4] . السابع عشرة- قَوْلُهُ تَعَالَى:" ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ" لِأَنَّ أَهْلَ التَّوْرَاةِ كَانَ لَهُمُ الْقَتْلُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَأَهْلَ الْإِنْجِيلِ كَانَ لَهُمُ الْعَفْوُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَوَدٌ وَلَا دِيَةٌ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ تَخْفِيفًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، فَمَنْ شَاءَ قَتَلَ، وَمَنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ، وَمَنْ شَاءَ عَفَا. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ" شَرْطٌ وَجَوَابُهُ، أَيْ قتل بعد أخذ الدية وسقوط [الدم «4» ] قَاتِلِ وَلِيِّهِ." فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ" قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا قَتَلَ قَتِيلًا فَرَّ إِلَى قَوْمِهِ فَيَجِيءُ قَوْمُهُ فَيُصَالِحُونَ بِالدِّيَةِ فَيَقُولُ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ: إِنِّي أَقْبَلُ الدِّيَةَ، حَتَّى يَأْمَنَ الْقَاتِلُ وَيَخْرُجَ، فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يَرْمِي إِلَيْهِمْ بالدية. واختلف العلماء فيمن تقل بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: هُوَ كَمَنْ قَتَلَ ابْتِدَاءً، إِنْ شَاءَ الْوَلِيُّ قَتَلَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَعَذَابُهُ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ: عَذَابُهُ أَنْ يُقْتَلَ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يُمَكِّنُ الْحَاكِمُ الْوَلِيَّ مِنَ الْعَفْوِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا أعفى «5» من قتل بعد أخذ
__________
(1) . يلاحظ أن المؤلف رحمه الله لم يذكر التأويل الثالث والرابع.
(2) . راجع ج 3 ص 127.
(3) . راجع ج 16 ص 225.
(4) . زيادة يقتضيها السياق.
(5) . أعفى: من عفا الشيء إذا كثر وزاد، وهذا دعاء عليه، أي لا كثر ماله ولا استغنى.(2/255)
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
الدِّيَةِ) . وَقَالَ الْحَسَنُ: عَذَابُهُ أَنْ يَرُدَّ الدِّيَةَ فَقَطْ وَيَبْقَى إِثْمُهُ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَمْرُهُ إِلَى الْإِمَامِ يَصْنَعُ فِيهِ مَا يَرَى. وَفِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ أُصِيبَ بِدَمٍ أَوْ خَبْلٍ- وَالْخَبْلُ عَرَجٌ- فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ فَإِنْ أَرَادَ الرَّابِعَةَ فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَعْفُوَ أَوْ يَأْخُذَ الْعَقْلَ فَإِنْ قَبِلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ عَدَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ النار خالدا فيها مخلدا) .
[سورة البقرة (2) : آية 179]
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ" هَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ الْوَجِيزِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَعْنَاهُ: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، رَوَاهُ سُفْيَانُ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقِصَاصَ إِذَا أُقِيمَ وَتَحَقَّقَ الْحُكْمُ فِيهِ ازْدُجِرَ مَنْ يُرِيدُ قَتْلَ آخَرَ، مَخَافَةَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فَحَيِيَا بِذَلِكَ مَعًا. وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ الْآخَرُ حَمِيَ قَبِيلَاهُمَا وَتَقَاتَلُوا، وَكَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا إِلَى قَتْلِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ، فَلَمَّا شَرَعَ اللَّهُ الْقِصَاصَ قَنَعَ الْكُلُّ بِهِ وَتَرَكُوا الِاقْتِتَالَ، فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ حَيَاةٌ. الثَّانِيَةُ- اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ أَحَدٍ حَقَّهُ دُونَ السُّلْطَانِ، وَلَيْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يَقْتَصَّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِسُلْطَانٍ أَوْ مَنْ نَصَّبَهُ السُّلْطَانُ لِذَلِكَ، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ السُّلْطَانَ لِيَقْبِضَ أَيْدِيَ النَّاسِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ. الثَّالِثَةُ- وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ عَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ نَفْسِهِ إِنْ تَعَدَّى عَلَى أَحَدٍ مِنْ رَعِيَّتِهِ، إِذْ هُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا لَهُ مَزِيَّةُ النَّظَرِ لَهُمْ كَالْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَامَّةِ فَرْقٌ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ:" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى "، وَثَبَتَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ شَكَا إِلَيْهِ أَنَّ عَامِلًا قَطَعَ يَدَهُ: لَئِنْ كُنْتَ صَادِقًا لَأُقِيدَنَّكُ مِنْهُ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ(2/256)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ شَيْئًا إِذْ أَكَبَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَطَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُرْجُونٍ كَانَ مَعَهُ، فَصَاحَ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [تَعَالَ [فَاسْتَقِدْ (. قَالَ: بَلْ عَفَوْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ أَبِي فِرَاسٍ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَلَا مَنْ ظَلَمَهُ أَمِيرُهُ فَلْيَرْفَعْ ذَلِكَ إِلَيَّ أُقِيدُهُ مِنْهُ. فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَئِنْ أَدَّبَ رَجُلٌ مِنَّا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ رَعِيَّتِهِ لَتَقُصَّنَّهُ مِنْهُ؟ قَالَ: كَيْفَ لَا أَقُصُّهُ مِنْهُ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُصُّ مِنْ نَفْسِهِ!. وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ عَنْهُ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ عُمَّالِي لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَكُمْ وَلَا لِيَأْخُذُوا أَمْوَالَكُمْ، فَمَنْ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ فَلْيَرْفَعْهُ إِلَيَّ أَقُصُّهُ مِنْهُ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَاهُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" تَقَدَّمَ «1» مَعْنَاهُ. وَالْمُرَادُ هُنَا تَتَّقُونَ الْقَتْلَ فَتَسْلَمُونَ مِنَ الْقِصَاصِ، ثُمَّ يَكُونُ ذَلِكَ دَاعِيَةً لِأَنْوَاعِ التَّقْوَى فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُ بِالطَّاعَةِ عَلَى الطَّاعَةِ. وَقَرَأَ أَبُو الْجَوْزَاءِ أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الربعي" وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ". قَالَ النَّحَّاسُ: قِرَاءَةُ أَبِي الْجَوْزَاءِ شَاذَّةٌ. قَالَ غَيْرُهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَالْقِصَاصِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْقَصَصِ الْقُرْآنَ، أَيْ لَكُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ الْقَصَصُ حَيَاةٌ، أي نجاة.
[سورة البقرة (2) : آية 180]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
فِيهِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" كُتِبَ عَلَيْكُمْ" هَذِهِ آيَةُ الْوَصِيَّةِ، لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرٌ لِلْوَصِيَّةِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، [وَفِي «2» " النِّسَاءِ":" مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ «3» " [النساء: 12] وفي" المائدة":" حِينَ الْوَصِيَّةِ «4» ". [المائدة: 106] . وَالَّتِي فِي الْبَقَرَةِ أَتَمَّهَا وَأَكْمَلَهَا [وَنَزَلَتْ قَبْلَ نزول الفرائض والمواريث، على ما يأتي
__________
(1) . يراجع ج 1 ص 226 وما بعدها، طبعه ثانية.
(2) . ما بين المربعين ساقط في ب، ج، ز. [.....]
(3) . راجع ج 5 ص 73.
(4) . راجع ج 6 ص 348.(2/257)
بَيَانُهُ. وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيرُ وَاوِ الْعَطْفِ، أَيْ وَكُتِبَ عَلَيْكُمْ، فَلَمَّا طَالَ الْكَلَامُ أُسْقِطَتِ الْوَاوُ. وَمِثْلُهُ فِي بَعْضِ الْأَقْوَالِ:" لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى" «1» [الليل: 16- 15] أَيْ وَالَّذِي، فَحُذِفَ. وَقِيلَ: لَمَّا ذُكِرَ أَنَّ لِوَلِيِ الدَّمِ أَنْ يَقْتَصَّ، فَهَذَا الَّذِي أَشْرَفَ عَلَى مَنْ يَقْتَصُّ مِنْهُ وَهُوَ سَبَبُ الْمَوْتِ فَكَأَنَّمَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ، فَهَذَا أَوَانُ الْوَصِيَّةِ، فَالْآيَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِمَا قَبْلَهَا وَمُتَّصِلَةٌ بِهَا فَلِذَلِكَ سَقَطَتْ واو العطف. و" كُتِبَ" مَعْنَاهُ فُرِضَ وَأُثْبِتَ، كَمَا تَقَدَّمَ «2» . وَحُضُورُ الْمَوْتِ: أَسْبَابُهُ، وَمَتَى حَضَرَ السَّبَبُ كَنَّتْ بِهِ الْعَرَبُ عَنِ الْمُسَبِّبِ، قَالَ شَاعِرُهُمْ:
يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ ... سَائِلٌ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ «3»
وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا ... قَوْلًا يُبَرِّئُكُمْ إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ
وَقَالَ عَنْتَرَةُ:
وَإِنَّ الْمَوْتَ طَوْعُ يَدِي إِذَا مَا ... وَصَلْتُ بَنَانَهَا بِالْهُنْدُوَانِ
وَقَالَ جَرِيرٌ فِي مُهَاجَاةِ الْفَرَزْدَقِ:
أَنَا الْمَوْتُ الَّذِي حُدِّثْتَ عَنْهُ ... فَلَيْسَ لِهَارِبٍ مِنِّي نَجَاءُ
الثَّانِيَةُ- إِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ" كُتِبَ" وَلَمْ يَقُلْ كَتَبْتُ، وَالْوَصِيَّةُ مُؤَنَّثَةٌ؟ قِيلَ لَهُ: إِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْوَصِيَّةِ الْإِيصَاءَ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ تَخَلَّلَ فَاصِلٌ، فَكَانَ الْفَاصِلُ كَالْعِوَضِ مِنْ تَاءِ التَّأْنِيثِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: حَضَرَ الْقَاضِي الْيَوْمَ امْرَأَةٌ. وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ: قَامَ امْرَأَةٌ. وَلَكِنَّ حُسْنَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مَعَ طُولِ الْحَائِلِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنْ تَرَكَ خَيْراً"" إِنْ" شَرْطٌ، وَفِي جَوَابِهِ لِأَبِي الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ قَوْلَانِ، قَالَ الْأَخْفَشُ: التَّقْدِيرُ فَالْوَصِيَّةُ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْفَاءُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
مَنْ يَفْعَلُ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا ... وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلَانِ
وَالْجَوَابُ الْآخَرُ: أَنَّ الْمَاضِيَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا. فَإِنْ قَدَّرْتَ الْفَاءَ فَالْوَصِيَّةُ رفع بالابتداء، وإن لم تقدر
__________
(1) . راجع ج 20 ص 86.
(2) . راجع ص 244 من هذا الجزء.
(3) . الصوت مذكر، وإنما أنثه ها هنا لأنه أراد به الضوضاء والجلبة، على معنى الصيحة. (عن اللسان) .(2/258)
الْفَاءَ جَازَ أَنْ تَرْفَعَهَا بِالِابْتِدَاءِ، وَأَنْ تَرْفَعَهَا عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَيْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْوَصِيَّةُ. وَلَا يَصِحُّ عِنْدَ جُمْهُورِ النُّحَاةِ أَنْ تَعْمَلَ" الْوَصِيَّةُ" فِي" إِذا" لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الصِّلَةِ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الْوَصِيَّةُ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَعْمَلَ فِيهَا مُتَقَدِّمَةً. وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي" إِذا":" كُتِبَ" وَالْمَعْنَى: تَوَجَّهَ إِيجَابُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ وَمُقْتَضَى كِتَابِهِ إِذَا حَضَرَ، فَعَبَّرَ عَنْ تَوَجُّهِ الْإِيجَابِ بِكُتِبَ لِيَنْتَظِمَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْأَزَلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي" إِذا" الْإِيصَاءُ يَكُونَ مُقَدَّرًا دَلَّ عَلَى الْوَصِيَّةِ، الْمَعْنَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْإِيصَاءُ إِذًا. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" خَيْراً" الْخَيْرُ هُنَا الْمَالُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ، فَقِيلَ: الْمَالُ الْكَثِيرُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالُوا سَبْعِمِائَةِ دِينَارٍ إِنَّهُ قَلِيلٌ. قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ: الْخَيْرُ أَلْفُ دِينَارٍ فَمَا فَوْقَهَا. الشَّعْبِيُّ مَا بَيْنَ خَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ إِلَى أَلْفٍ. وَالْوَصِيَّةُ عِبَارَةٌ عن كل شي يُؤْمَرُ بِفِعْلِهِ وَيُعْهَدُ بِهِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ. وَخَصَّصَهَا الْعُرْفُ بِمَا يُعْهَدُ بِفِعْلِهِ وَتَنْفِيذِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْجَمْعُ وَصَايَا كَالْقَضَايَا جَمْعُ قَضِيَّةٍ. وَالْوَصِيُّ يَكُونُ الْمُوصِي وَالْمُوصَى إِلَيْهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ وَصَى مُخَفَّفًا. وَتَوَاصَى النَّبْتُ تَوَاصِيًا إِذَا اتَّصَلَ. وَأَرْضٌ وَاصِيَةٌ: مُتَّصِلَةُ النَّبَاتِ. وَأَوْصَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ وَأَوْصَيْتُ إِلَيْهِ إِذَا جَعَلْتَهُ وَصِيَّكُ. وَالِاسْمُ الْوِصَايَةُ وَالْوِصَايَةُ (بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ) . وَأَوْصَيْتُهُ وَوَصَّيْتُهُ أَيْضًا تَوْصِيَةً بِمَعْنًى، وَالِاسْمُ الْوُصَاةُ. وَتَوَاصَى الْقَوْمُ أَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَفِي الْحَدِيثِ: (اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عَوَانٍ «1» عِنْدَكُمْ) . وَوَصَّيْتُ الشَّيْءَ بِكَذَا إِذَا وَصَلْتَهُ بِهِ. الْخَامِسَةُ- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَنْ خَلَّفَ مَالًا، بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ قِبَلَهُ وَدَائِعُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ غَيْرُ واجبة على من ليس قبله شي مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ، مُوسِرًا كَانَ الْمُوصِي أَوْ فَقِيرًا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الوصية واجبة على ظاهر القرآن، قال الزهدي وَأَبُو مِجْلَزٍ، قَلِيلًا كَانَ الْمَالُ أَوْ كَثِيرًا. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَيْسَتِ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً إِلَّا عَلَى رَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ عِنْدَهُ مَالٌ
__________
(1) . عوان (جمع عانة) : وهى الأسيرة. يقول: إنما هن عندكم بمنزلة الأسرى.(2/259)
لِقَوْمٍ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ وَصِيَّتَهُ وَيُخْبِرَ بِمَا عَلَيْهِ. فَأَمَّا مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَلَا وَدِيعَةَ عِنْدَهُ فَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا حَسَنٌ، لِأَنَّ اللَّهَ فَرَضَ أَدَاءَ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَمَنْ لَا حَقَّ عَلَيْهِ وَلَا أَمَانَةَ قِبَلَهُ فَلَيْسَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ. احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ما حق امرئ مسلم له شي يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ) وَفِي رِوَايَةٍ (يَبِيتُ ثَلَاثَ لَيَالٍ) وَفِيهَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ إِلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي. احْتَجَّ مَنْ لَمْ يُوجِبْهَا بِأَنْ قَالَ: لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ يَجْعَلْهَا إِلَى إِرَادَةِ الْمُوصِي، وَلَكَانَ ذَلِكَ لَازِمًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، ثُمَّ لَوْ سَلِمَ أَنَّ ظَاهِرَهُ الْوُجُوبُ فَالْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ يَرُدُّهُ، وَذَلِكَ فِيمَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ حُقُوقٌ لِلنَّاسِ يَخَافُ ضَيَاعَهَا عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ لَهُ حُقُوقٌ عِنْدَ النَّاسِ يَخَافُ تَلَفَهَا عَلَى الْوَرَثَةِ، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ وَلَا يُخْتَلَفُ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" كُتِبَ عَلَيْكُمْ" وكتب بمعنى فُرِضَ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ. قِيلَ لَهُمْ: قَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَبْلُ، وَالْمَعْنَى: إِذَا أَرَدْتُمُ الْوَصِيَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُوصِ، وَقَدْ أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ، فَإِنْ أَوْصَى فَحَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَلَا شي عَلَيْهِ. السَّادِسَةُ- لَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِقْدَارَ مَا يُوصَى بِهِ مِنَ الْمَالِ، وَإِنَّمَا قَالَ:" إِنْ تَرَكَ خَيْراً" وَالْخَيْرُ الْمَالُ، كقوله:" وَما تُنْفِقُوا مِنْ «1» خَيْرٍ" [البقرة: 272] ،" وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ «2» " [العاديات: 8] فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْصَى بِالْخُمُسِ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ بِالْخُمُسِ. وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ. أَوْصَى عُمَرُ بِالرُّبُعِ. وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (لَأَنْ أُوصِيَ بِالْخُمُسِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ، وَلَأَنْ أُوصِي بالربع أحسن إلي من أُوصِيَ بِالثُّلُثِ) . وَاخْتَارَ جَمَاعَةٌ لِمَنْ مَالُهُ قَلِيلٌ وَلَهُ وَرَثَةٌ تَرْكَ الْوَصِيَّةِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ ابن أبي مليكة عن
__________
(1) . راجع ج 3 ص 339.
(2) . راجع ج 20 ص 162.(2/260)
عَائِشَةَ قَالَ لَهَا: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُوصِيَ: قَالَتْ: وَكَمْ مَالُكَ؟ قَالَ: ثَلَاثَةُ آلَافٍ. قَالَتْ: فَكَمْ عِيَالُكَ؟ قَالَ أَرْبَعَةُ. قَالَتْ: إِنَّ اللَّهَ تعالى يقول:" إِنْ تَرَكَ خَيْراً" وهذا شي يَسِيرٌ فَدَعْهُ لِعِيَالِكَ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ لَكَ. السَّابِعَةُ- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرِ مِنَ الثُّلُثِ إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ لَمْ يَتْرُكِ الْمُوصِي وَرَثَةً جَازَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِمَالِهِ كُلِّهِ. وَقَالُوا: إِنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الثُّلُثِ فِي الْوَصِيَّةِ إِنَّمَا كَانَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَدَعَ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) الْحَدِيثَ، رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ. وَمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ فَلَيْسَ مِمَّنْ عُنِيَ بِالْحَدِيثِ، رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَمَسْرُوقٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْحَاقُ وَمَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا، الْخِلَافَ فِي بَيْتِ الْمَالِ هَلْ هُوَ وَارِثٌ أَوْ حَافِظٌ لِمَا يُجْعَلُ فِيهِ؟ قَوْلَانِ. الثَّامِنَةُ- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَهُ وَرَثَةٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ مَالِهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: إِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أُوصِيَ، فَقَالَ لَهُ: أَوْصِ وَمَالُكَ فِي مَالِي، فَدَعَا كَاتِبًا فَأَمْلَى، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَقُلْتُ لَهُ مَا أَرَاكَ إِلَّا وَقَدْ أَتَيْتَ عَلَى مَالِي وَمَالِكَ، وَلَوْ دَعَوْتَ إِخْوَتِي فَاسْتَحْلَلْتَهُمْ. التَّاسِعَةُ- وَأَجْمَعُوا أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُغَيِّرَ وَصِيَّتَهُ وَيَرْجِعَ فِيمَا شَاءَ مِنْهَا، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي الْمُدَبَّرِ، فَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْأَمْرُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُوصِيَ إِذَا أَوْصَى فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ بِوَصِيَّةٍ فِيهَا عَتَاقَةُ رَقِيقٍ مِنْ رَقِيقِهِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُغَيِّرُ مِنْ ذَلِكَ مَا بَدَا لَهُ وَيَصْنَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ حَتَّى يَمُوتَ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَطْرَحَ تِلْكَ الْوَصِيَّةَ وَيُسْقِطَهَا فَعَلَ، إِلَّا أَنْ يُدَبِّرَ فَإِنْ دَبَّرَ مَمْلُوكًا فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى تَغْيِيرٍ مَا دَبَّرَ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ما حق امرئ مسلم له شي يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عِنْدَهُ) . قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْمَالِكِيُّ: الْمُدَبَّرُ فِي الْقِيَاسِ كَالْمُعْتَقِ إِلَى شَهْرٍ، لِأَنَّهُ أَجَلٌ آتٍ(2/261)
لَا مَحَالَةَ. وَأَجْمَعُوا أَلَّا يَرْجِعَ فِي الْيَمِينِ بِالْعِتْقِ وَالْعِتْقِ إِلَى أَجَلٍ فَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: هُوَ وَصِيَّةٌ، لِإِجْمَاعِهِمْ أَنَّهُ فِي الثُّلُثِ كَسَائِرِ الوصايا. وفي إجازتهم وطئ الْمُدَبَّرَةِ مَا يَنْقُضُ قِيَاسَهُمُ الْمُدَبَّرَ عَلَى الْعِتْقِ إِلَى أَجَلٍ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ مُدَبَّرًا، وَأَنَّ عَائِشَةَ دَبَّرَتْ جَارِيَةٌ لَهَا ثُمَّ بَاعَتْهَا، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُغَيِّرُ الرَّجُلُ مِنْ وَصِيَّتِهِ مَا شَاءَ إِلَّا الْعَتَاقَةَ. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالنَّخَعِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ. الْعَاشِرَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، وَأَرَادَ الْوَصِيَّةَ، فَلَهُ الرُّجُوعُ عِنْدَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ. وَإِنْ قَالَ: فُلَانٌ مُدَبَّرٌ بَعْدَ مَوْتِي، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ. وَإِنْ أَرَادَ التَّدْبِيرَ بِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ لَمْ يَرْجِعْ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ فَكُلُّ هَذَا عِنْدَهُمْ وَصِيَّةٌ، لِأَنَّهُ فِي الثُّلُثِ، وَكُلُّ مَا كَانَ فِي الثُّلُثِ فَهُوَ وَصِيَّةٌ، إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: لَا يَكُونُ الرُّجُوعُ فِي الْمُدَبَّرِ إِلَّا بِأَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ: (قَدْ رَجَعْتُ) رُجُوعًا، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجِ الْمُدَبَّرَ عن ملكه حثى يَمُوتَ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ بِمَوْتِهِ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَرْجِعُ فِي الْمُدَبَّرِ كَمَا يَرْجِعُ فِي الْوَصِيَّةِ. وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ قِيَاسًا عَلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَى الرُّجُوعِ فِيمَنْ أَوْصَى بِعِتْقِهِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِذَا قَالَ قَدْ رَجَعْتُ فِي مُدَبَّرِي فَقَدْ بَطَلَ التَّدْبِيرُ، فَإِنْ مَاتَ لَمْ يَعْتِقْ. وَاخْتَلَفَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ فِيمَنْ قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، وَلَمْ يُرِدِ الْوَصِيَّةَ وَلَا التَّدْبِيرَ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هُوَ وَصِيَّةٌ. وَقَالَ أَشْهَبُ: هُوَ مدبر وإن لم يرد الوصية. الحادية- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ أَوْ مُحْكَمَةٌ، فَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، ظَاهِرُهَا الْعُمُومُ وَمَعْنَاهَا الْخُصُوصُ فِي الْوَالِدَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَرِثَانِ كَالْكَافِرَيْنِ وَالْعَبْدَيْنِ وَفِي الْقَرَابَةِ غَيْرَ الْوَرَثَةِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَطَاوُسٌ وَالْحَسَنُ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ الْوَصِيَّةَ وَاجِبَةٌ فِيمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَرِثَانِ وَالْأَقْرِبَاءِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ جَائِزَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَقَتَادَةُ: الْآيَةُ عَامَّةٌ، وَتَقَرَّرَ الْحُكْمُ بِهَا بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ، وَنُسِخَ مِنْهَا كُلُّ مَنْ كَانَ يَرِثُ بِآيَةِ(2/262)
الْفَرَائِضِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ آيَةَ الْفَرَائِضِ لَمْ تَسْتَقِلَّ بِنَسْخِهَا بَلْ بِضَمِيمَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ) . رَوَاهُ أَبُو أُمَامَةَ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَنَسْخُ الْآيَةِ إِنَّمَا كَانَ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ لَا بِالْإِرْثِ، عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ. وَلَوْلَا هَذَا الْحَدِيثُ لَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ بِأَنْ يَأْخُذُوا الْمَالَ عَنِ الْمُوَرِّثِ بِالْوَصِيَّةِ، وَبِالْمِيرَاثِ إِنْ لَمْ يُوصِ، أَوْ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، لَكِنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ هَذَا الْحَدِيثُ وَالْإِجْمَاعُ. وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو الْفَرَجِ وَإِنْ كَانَا مَنَعَا مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ فَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ بِدَلِيلِ أَنَّ الْكُلَّ حُكْمُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَمِنْ عِنْدِهِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي الْأَسْمَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى «1» . وَنَحْنُ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ بَلَغَنَا آحَادًا لَكِنْ قَدِ انْضَمَّ إِلَيْهِ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ. فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقْرَبِينَ الْوَارِثِينَ مَنْسُوخٌ بِالسُّنَّةِ وَأَنَّهَا مُسْتَنَدُ الْمُجْمِعِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: نُسِخَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ بِالْفَرْضِ فِي سُورَةِ" النِّسَاءِ" وَثَبَتَتْ لِلْأَقْرَبِينَ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْمَالِكِيِّينَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنُسِخَ مِنْ ذَلِكَ مَا أُحِبُّ، فَجُعِلَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَجُعِلَ لِلْأَبَوَيْنِ لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشَّطْرُ وَالرُّبُعُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وابن زيد: الآية كلها مَنْسُوخَةٌ، وَبَقِيَتِ الْوَصِيَّةُ نَدْبًا، وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَذَكَرَهُ النَّحَّاسُ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ «2» : لَا وَصِيَّةَ. قَالَ عُرْوَةُ بْنُ ثَابِتٍ: قُلْتُ لِلرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ أَوْصِ لِي بِمُصْحَفِكَ، فَنَظَرَ إِلَى وَلَدِهِ وَقَرَأَ" وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ «3» " [الأنفال: 75] . وَنَحْوُ هَذَا صَنَعَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
__________
(1) . يراجع 65 من هذا الجزء.
(2) . خثيم: بضم أوله وفتح المثلة، كذا في التقريب. وفى الخلاصة بفتح المعجمة والمثلثة بينهما تحتانية ساكنة.
(3) . راجع ج 8 ص 58.(2/263)
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالْأَقْرَبِينَ" الْأَقْرَبُونَ جَمْعُ أَقْرَبَ. قَالَ قَوْمٌ: الْوَصِيَّةُ لِلْأَقْرَبِينَ أَوْلَى مِنَ الْأَجَانِبِ، لِنَصِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، حَتَّى قَالَ الضَّحَّاكُ: إِنْ أَوْصَى لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ فَقَدْ خَتَمَ عَمَلَهُ بِمَعْصِيَةٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «1» أَنَّهُ أَوْصَى لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ لِكُلِ وَاحِدَةٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ. وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ وَصَّتْ لِمَوْلَاةٍ لَهَا بِأَثَاثِ البيت. وروي عن سالم ابن عَبْدِ اللَّهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ أَوْصَى لِغَيْرِ الْأَقْرَبِينَ رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ لِلْأَقْرَبِينَ، فَإِنْ كَانَتْ لِأَجْنَبِيٍّ فَمَعَهُمْ، وَلَا تَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ مَعَ تَرْكِهِمْ. وَقَالَ النَّاسُ حِينَ مَاتَ أَبُو الْعَالِيَةِ: عَجَبًا لَهُ! أَعْتَقَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ رِيَاحٍ «2» وَأَوْصَى بِمَالِهِ لِبَنِي هَاشِمٍ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَلَا كَرَامَةَ. وَقَالَ طَاوُسٌ: إِذَا أوص لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى قَرَابَتِهِ وَنُقِضَ فِعْلُهُ، وَقَالَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمْ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَنْ أَوْصَى لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ وَتَرَكَ قَرَابَتَهُ مُحْتَاجِينَ فَبِئْسَمَا صَنَعَ! وَفِعْلُهُ مَعَ ذَلِكَ جَائِزٌ مَاضٍ لِكُلِّ مَنْ أَوْصَى لَهُ مِنْ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ، قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ، مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ. وَهُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. قُلْتُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَحْسَنُ، وَأَمَّا أَبُو الْعَالِيَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَعَلَّهُ نَظَرَ إِلَى أَنَّ بَنِي هَاشِمٍ أَوْلَى مِنْ مُعْتِقَتِهِ لِصُحْبَتِهِ ابْنَ عَبَّاسٍ وَتَعْلِيمِهِ إِيَّاهُ وَإِلْحَاقِهِ بِدَرَجَةِ الْعُلَمَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى. وَهَذِهِ الْأُبُوَّةُ وَإِنْ كَانَتْ مَعْنَوِيَّةً فَهِيَ الْحَقِيقِيَّةُ، وَمُعْتِقَتُهُ غَايَتُهَا أَنْ أَلْحَقَتْهُ بِالْأَحْرَارِ فِي الدُّنْيَا، فَحَسْبُهَا ثَوَابُ عِتْقُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَرِيضَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَشَذَّ أَهْلُ الظَّاهِرِ فَقَالُوا: لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ وَهُوَ كَالصَّحِيحِ، وَالْحَدِيثُ وَالْمَعْنَى يَرُدُّ عَلَيْهِمْ. قَالَ سَعْدٌ: عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ «3» مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَ بِي مَا تَرَى مِنَ الْوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا بنت واحدة،
__________
(1) . في ب، ج:" عن عمر". والمعروف أن سيدنا عمر مات مدينا.
(2) . رياح (ككتاب) : قبيلة.
(3) . أشفى على الشيء: أشرف. [.....](2/264)
أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: (لَا) ، قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: (لَا، الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) الْحَدِيثَ. وَمَنَعَ أَهْلُ الظَّاهِرِ أَيْضًا الْوَصِيَّةَ بِأَكْثَرِ مِنَ الثُّلُثِ وَإِنْ أجازها الورثة. وأجاز ذلك الكافة إذا أجازا الْوَرَثَةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الْمَرِيضَ إِنَّمَا مُنِعَ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِ الْوَارِثِ، فَإِذَا أَسْقَطَ الْوَرَثَةُ حَقَّهُمْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا صَحِيحًا، وَكَانَ كَالْهِبَةِ مِنْ عِنْدِهِمْ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ) . وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إِلَّا أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ) . الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِي رُجُوعِ الْمُجِيزِينَ لِلْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ لَهُمُ الرُّجُوعُ فِيهِ. هَذَا قَوْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَهُمُ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِنْ أَحَبُّوا. هَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَشُرَيْحٍ وَالْحَكَمِ وَطَاوُسٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَفَرَّقَ مَالِكٌ فَقَالَ: إِذَا أَذِنُوا فِي صِحَّتِهِ فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا، وَإِنْ أَذِنُوا لَهُ فِي مَرَضِهِ حِينَ يُحْجَبُ عَنْ مَالِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ. احْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الاولى بأن المنع إنما وَقَعَ مِنْ أَجْلِ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا أَجَازُوهُ جَازَ. وَقَدِ اتَّفَقُوا أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِأَكْثَرِ مِنْ ثُلُثِهِ لِأَجْنَبِيٍّ جَازَ بِإِجَازَتِهِمْ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّانِي بِأَنَّهُمْ أَجَازُوا شَيْئًا لَمْ يَمْلِكُوهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا يُمْلَكُ الْمَالُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَقَدْ يَمُوتُ الْوَارِثُ الْمُسْتَأْذِنُ قَبْلَهُ وَلَا يَكُونُ وَارِثًا وَقَدْ يَرِثُهُ غَيْرُهُ، فَقَدْ أَجَازَ مَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ فلا يلزمه شي. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِأَنْ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ صَحِيحًا فَهُوَ أَحَقُّ بِمَالِهِ كُلِّهِ يَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ، فَإِذَا أَذِنُوا لَهُ فِي صِحَّتِهِ فَقَدْ تَرَكُوا شَيْئًا لَمْ يَجِبْ لَهُمْ، وَإِذَا أَذِنُوا لَهُ فِي مَرَضِهِ فَقَدْ تَرَكُوا مَا وَجَبَ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِيهِ إِذَا كَانَ قَدْ أَنْفَذَهُ لِأَنَّهُ قَدْ فَاتَ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- فَإِنْ لَمْ يُنْفِذِ الْمَرِيضُ ذَلِكَ كَانَ لِلْوَارِثِ الرُّجُوعُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ بِالتَّنْفِيذِ، قَالَهُ الْأَبْهَرِيُّ. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّ قَوْلَ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ(2/265)
أَشْبَهُ بِالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاتَّفَقَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْكُوفِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُمْ إِذَا أَجَازُوا ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَزِمَهُمْ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلِ يُوصِي لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ بِمَالٍ، وَيَقُولُ فِي وَصِيَّتِهِ: إِنْ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ فَهِيَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهُ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَمْ يُجِيزُوهُ. فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ لَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ رُجِعَ إِلَيْهِمْ. وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَعْمَرٍ صَاحِبِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ يَمْضِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- لَا خِلَافَ فِي وَصِيَّةِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ الضَّعِيفَ فِي عَقْلِهِ وَالسَّفِيهَ وَالْمُصَابَ الَّذِي يُفِيقُ أحيانا تجوز وَصَايَاهُمْ إِذَا كَانَ مَعَهُمْ مِنْ عُقُولِهِمْ مَا يَعْرِفُونَ مَا يُوصُونَ بِهِ. وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ إِذَا كَانَ يَعْقِلُ مَا أَوْصَى بِهِ وَلَمْ يَأْتِ بِمُنْكَرٍ مِنَ الْقَوْلِ فَوَصِيَّتُهُ جَائِزَةٌ مَاضِيَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا تَجُوزُ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَلَمْ أَجِدْ لِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ شَيْئًا ذَكَرَهُ وَنَصَّ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَالثَّانِي كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَحُجَّتُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ طَلَاقُهُ وَلَا عَتَاقُهُ وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي جِنَايَةٍ وَلَا يُحَدُّ فِي قَذْفٍ، فَلَيْسَ كَالْبَالِغِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ وَصِيَّتُهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَدِ اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ وَصِيَّةَ الْبَالِغِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ جَائِزَةٌ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ يَعْقِلُ مِنَ الصِّبْيَانِ مَا يُوصِي بِهِ فَحَالُهُ حَالُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَعِلَّةُ الْحَجْرِ تَبْذِيرُ الْمَالِ وَإِتْلَافُهُ، وَتِلْكَ عِلَّةٌ مُرْتَفِعَةٌ عَنْهُ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ بِالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْمَجْنُونِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، فَوَجَبَ أَنْ تَجُوزَ وَصِيَّتُهُ مَعَ الْأَمْرِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّهُ الْأَمْرُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شُرَيْحٍ: مَنْ أَوْصَى مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ فَأَصَابَ الْحَقَّ فَاللَّهُ قَضَاهُ عَلَى لِسَانِهِ لَيْسَ لِلْحَقِّ مِدْفَعٌ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ
- قَوْلُهُ تَعَالَى:" بِالْمَعْرُوفِ" يَعْنِي بِالْعَدْلِ، لَا وَكْسَ فِيهِ وَلَا شَطَطَ، وَكَانَ هذا موكولا إِلَى اجْتِهَادِ الْمَيِّتِ وَنَظَرِ الْمُوصِي، ثُمَّ تَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَقْدِيرَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ(2/266)
نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي حَسَنَاتِكُمْ لِيَجْعَلَهَا لَكُمْ زَكَاةً (. أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا تَجُوزُ وَصِيَّةٌ إِلَّا فِي الثُّلُثِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «1» " [المائدة: 49] وَحُكْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الثُّلُثَ كَثِيرٌ هُوَ الْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ. فَمَنْ تَجَاوَزَ مَا حَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَقَدْ أَتَى مَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، وَكَانَ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ عَاصِيًا إِذَا كَانَ بِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَالِمًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَوْلُهُ (الثُّلُثُ كَثِيرٌ) يُرِيدُ أَنَّهُ غَيْرُ قَلِيلٍ. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" حَقًّا" يَعْنِي ثَابِتًا ثُبُوتَ نَظَرٍ وَتَحْصِينٍ، لَا ثُبُوتَ فَرْضٍ وَوُجُوبٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:" عَلَى الْمُتَّقِينَ" وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ نَدْبًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَكَانَ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ مَنْ يَتَّقِي، أَيْ يَخَافُ تَقْصِيرًا، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ إِلَّا فِيمَا يُتَوَقَّعُ تَلَفُهُ إِنْ مَاتَ، فَيَلْزَمُهُ فَرْضًا الْمُبَادَرَةُ بِكَتْبِهِ وَالْوَصِيَّةِ بِهِ، لِأَنَّهُ إِنْ سَكَتَ عَنْهُ كَانَ تَضْيِيعًا لَهُ وَتَقْصِيرًا مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى. وَانْتَصَبَ" حَقًّا" عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ، وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ" حَقٌّ" بِمَعْنَى ذَلِكَ حَقٌّ. الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ- قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمُبَادَرَةُ بِكَتْبِ الْوَصِيَّةِ لَيْسَتْ مَأْخُوذَةً مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَفَائِدَتُهَا: الْمُبَالَغَةُ فِي زِيَادَةِ الِاسْتِيثَاقِ وَكَوْنُهَا مَكْتُوبَةً مَشْهُودًا بِهَا وَهِيَ الْوَصِيَّةُ الْمُتَّفَقُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، فَلَوْ أَشْهَدَ الْعُدُولَ وَقَامُوا بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ لَفْظًا لَعُمِلَ بِهَا وَإِنْ لَمْ تُكْتَبْ خَطًّا، فَلَوْ كَتَبَهَا بِيَدِهِ وَلَمْ يُشْهِدْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِهَا إِلَّا فِيمَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ إِقْرَارٍ بِحَقٍّ لِمَنْ لَا يُتَّهَمُ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ تَنْفِيذُهُ. الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانُوا يَكْتُبُونَ فِي صُدُورِ وَصَايَاهُمْ (هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له،
__________
(1) . راجع ج 6 ص 212.(2/267)
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. وَأَوْصَى مَنْ تَرَكَ بَعْدَهُ مِنْ أَهْلِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ حَقَّ تُقَاتِهِ وَأَنْ يُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنَهُمْ، وَيُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَأَوْصَاهُمْ بِمَا وَصَّى بِهِ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ويعقوب: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) .
[سورة البقرة (2) : آية 181]
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَمَنْ بَدَّلَهُ" شَرْطٌ، وَجَوَابُهُ" فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ" وَ" مَا" كَافَّةٌ ل" إن" عن العمل. و" إِثْمُهُ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ،" عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ" مَوْضِعَ الْخَبَرِ. وَالضَّمِيرِ فِي" بَدَّلَهُ" يَرْجِعُ إِلَى الْإِيصَاءِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي مَعْنَى الْإِيصَاءِ، وَكَذَلِكَ الضَّمِيرُ فِي" سَمِعَهُ"، وَهُوَ كَقَوْلِهِ:" فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ «1» " [البقرة: 275] أي وعظ، وقوله:" إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ «2» " [النساء: 8] أَيِ الْمَالَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ" مِنْهُ". وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
مَا هَذِهِ الصَّوْتُ
أَيِ الصَّيْحَةُ. وَقَالَ امرؤ القيس:
برهرهة رودة رَخْصَةٌ ... كَخُرْعُوبَةِ الْبَانَةِ الْمُنْفَطِرْ «3»
وَالْمُنْفَطِرُ الْمُنْتَفِخُ بِالْوَرَقِ، وَهُوَ أَنْعَمُ مَا يَكُونُ، ذَهَبَ إِلَى الْقَضِيبِ وترك لفظ الخرعوبة. و" سَمِعَهُ" يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنَ الْوَصِيِّ نَفْسِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِمَّنْ يَثْبُتُ بِهِ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ عَدْلَانِ. وَالضَّمِيرُ فِي" إِثْمُهُ" عَائِدٌ عَلَى التَّبْدِيلِ، أَيْ إِثْمُ التَّبْدِيلِ عَائِدٌ عَلَى الْمُبَدِّلِ لَا عَلَى الْمَيِّتِ، فَإِنَّ الْمُوصِيَ خَرَجَ بِالْوَصِيَّةِ عَنِ اللَّوْمِ وَتَوَجَّهَتْ عَلَى الْوَارِثِ أَوِ الْوَلِيِّ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْمُوصِيَ إِذَا غير فترك الْوَصِيَّةَ أَوْ لَمْ يُجِزْهَا عَلَى مَا رُسِمَ له في الشرع فعليه الإثم.
__________
(1) . راجع ج 3 ص 359.
(2) . راجع ج 5 ص 48.
(3) . البرهرهة: الرقيقة الجلد، أو هي الملساء المترجمة. الرؤدة والرءودة: الشابة الحسنة، السريعة الشباب مع حسن غذا، والرخصة: اللينة الخلق. والخرعوبة: القضيب الغض اللدن. والبانة: يريد شجر البان.(2/268)
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
الثَّانِيَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ إِذَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ خَرَجَ بِهِ عَنْ ذِمَّتِهِ وَحَصَلَ الْوَلِيُّ مَطْلُوبًا بِهِ، لَهُ الْأَجْرُ فِي قَضَائِهِ، وَعَلَيْهِ الْوِزْرُ فِي تَأْخِيرِهِ. وقال القاضي أبو بكر ابن الْعَرَبِيِّ:" وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَدَائِهِ، وَأَمَّا إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَتَرَكَهُ ثُمَّ وَصَّى بِهِ فَإِنَّهُ لَا يُزِيلُهُ عَنْ ذِمَّتِهِ تَفْرِيطُ الْوَلِيِّ فِيهِ". الثَّالِثَةُ- وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِمَا لَا يَجُوزُ، مِثْلَ أَنْ يُوصِيَ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أو شي مِنَ الْمَعَاصِي أَنَّهُ يَجُوزُ تَبْدِيلُهُ وَلَا يَجُوزُ إِمْضَاؤُهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ إِمْضَاءُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" صِفَتَانِ لِلَّهِ تعالى لا يخفى معهما شي من جنف الموصين وتبديل المعتدين.
[سورة البقرة (2) : آية 182]
فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تعالى:" فَمَنْ خافَ"" من" شرط، و" خاف" بِمَعْنَى خَشِيَ. وَقِيلَ: عَلِمَ. وَالْأَصْلُ خَوَفَ، قُلِبَتِ الْوَاوُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَتَحَرُّكِ مَا قَبْلَهَا. وَأَهْلُ الْكُوفَةِ يُمِيلُونَ" خَافَ" لِيُدِلُّوا عَلَى الْكَسْرَةِ مِنْ فَعِلَتْ." مِنْ مُوصٍ" بِالتَّشْدِيدِ قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، وَخَفَّفَ الْبَاقُونَ، وَالتَّخْفِيفُ أَبْيَنُ، لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّحْوِيِّينَ يَقُولُونَ" مُوَصٍّ" لِلتَّكْثِيرِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ كَرَّمَ وَأَكْرَمَ." جَنَفاً" مِنْ جَنِفَ يَجْنَفُ إِذَا جَارَ، وَالِاسْمُ مِنْهُ جَنِفٌ وَجَانِفٌ، عَنِ النَّحَّاسِ. وَقِيلَ: الْجَنَفُ الْمَيْلُ. قَالَ الْأَعْشَى:
تَجَانَفُ عَنْ حِجْرِ «1» الْيَمَامَةِ نَاقَتِي ... وَمَا قَصَدَتْ مِنْ أَهْلِهَا لَسَوَائِكَا
وَفِي الصِّحَاحِ:" الْجَنَفُ" الْمَيْلُ. وَقَدْ جَنِفَ بِالْكَسْرِ يَجْنَفُ جَنَفًا إِذَا مَالَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً". قال الشاعر «2» :
هُمُ الْمَوْلَى وَإِنْ جَنَفُوا عَلَيْنَا ... وَإِنَّا مِنْ لقائهم لزور
__________
(1) . في الصحيح المنير واللسان:" جو".
(2) . هو عامر الخصفى.(2/269)
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَوْلَى هَا هُنَا فِي مَوْضِعِ الْمَوَالِي، أَيْ بَنِي الْعَمِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا" «1» . وَقَالَ لَبِيَدٌ:
إِنِّي امْرُؤٌ مَنَعَتْ أُرُومَةُ عَامِرٍ ... ضَيْمِي وَقَدْ جَنَفَتْ عَلَيَّ خُصُومِي
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَكَذَلِكَ الْجَانِئُ (بِالْهَمْزِ) وَهُوَ الْمَائِلُ أَيْضًا. وَيُقَالُ: أَجْنَفَ الرَّجُلُ، أَيْ جَاءَ بِالْجَنَفِ. كَمَا يُقَالُ: أَلَامَ، أَيْ أَتَى بِمَا يُلَامُ عَلَيْهِ. وَأَخَسَّ، أَيْ أَتَى بِخَسِيسٍ. وَتَجَانَفَ لِإِثْمٍ، أَيْ مَالَ. وَرَجُلٌ أَجْنَفُ، أَيْ مُنْحَنِي الظَّهْرِ. وَجُنَفَى (عَلَى فُعَلَى بِضَمِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ": اسْمُ مَوْضِعٍ، عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَرَأَ" حَيْفًا" بِالْحَاءِ وَالْيَاءِ، أَيْ ظُلْمًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:" فَمَنْ خافَ" أَيْ مَنْ خَشِيَ أَنْ يَجْنَفَ الْمُوصِي وَيَقْطَعَ مِيرَاثَ طَائِفَةٍ وَيَتَعَمَّدَ الْأَذِيَّةَ «2» ، أَوْ يَأْتِيَهَا دُونَ تَعَمُّدٍ، وَذَلِكَ هُوَ الْجَنَفُ دُونَ إِثْمٍ، فَإِنْ تَعَمَّدَ فَهُوَ الْجَنَفُ فِي إِثْمٍ. فَالْمَعْنَى مَنْ وُعِظَ فِي ذَلِكَ وَرُدَّ عَنْهُ فَأَصْلَحَ بِذَلِكَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَرَثَتِهِ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ فِي ذَاتِهِمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ." إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ" عَنِ الْمُوصِي إِذَا عَمِلَتْ فِيهِ الْمَوْعِظَةُ وَرَجَعَ عَمَّا أَرَادَ مِنَ الْأَذِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَغَيْرُهُمْ: مَعْنَى الْآيَةِ مَنْ خَافَ أي علم وراي وأتى علمه بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي أَنَّ الْمُوصِيَ جَنَفَ وَتَعَمَّدَ أَذِيَّةَ بَعْضِ وَرَثَتِهِ فَأَصْلَحَ مَا وَقَعَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالشِّقَاقِ" فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ"، أَيْ لَا يَلْحَقُهُ إِثْمُ الْمُبَدِّلِ الْمَذْكُورُ قَبْلُ. وَإِنْ كَانَ فِي فِعْلِهِ تَبْدِيلٌ مَا وَلَا بُدَّ، وَلَكِنَّهُ تَبْدِيلٌ لِمَصْلَحَةٍ. وَالتَّبْدِيلُ الَّذِي فِيهِ الْإِثْمُ إِنَّمَا هُوَ تَبْدِيلُ الْهَوَى. الثَّانِيَةُ- الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ خافَ" لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. قِيلَ لَهُمْ: إِنْ خِفْتُمْ مِنْ مُوصٍ مَيْلًا فِي الْوَصِيَّةِ وَعُدُولًا عَنِ الْحَقِّ وَوُقُوعًا فِي إِثْمٍ وَلَمْ يُخْرِجْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُوصِيَ بِالْمَالِ إِلَى زَوْجِ ابْنَتِهِ أَوْ لِوَلَدِ ابْنَتِهِ لِيَنْصَرِفَ الْمَالُ إِلَى ابْنَتِهِ، أَوْ إِلَى ابْنِ ابْنِهِ وَالْغَرَضُ أَنْ يَنْصَرِفَ الْمَالُ إِلَى ابْنِهِ، أَوْ أَوْصَى لِبَعِيدٍ وَتَرَكَ الْقَرِيبَ، فَبَادِرُوا إِلَى السَّعْيِ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ، فَإِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ سَقَطَ الْإِثْمُ عَنِ الْمُصْلِحِ. وَالْإِصْلَاحُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِذَا قام أحدهم به سقط عم الباقين، وإن لم يفعلوا أثم الكل.
__________
(1) . راجع ج 15 ص 330.
(2) . في الأصول هنا وفيما سيأتي" الاذاية".(2/270)
الثَّالِثَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى الْحُكْمِ بِالظَّنِّ، لِأَنَّهُ إِذَا ظَنَّ قَصْدَ الْفَسَادِ وَجَبَ السَّعْيُ فِي الصَّلَاحِ. وَإِذَا تَحَقَّقَ الْفَسَادُ لَمْ يَكُنْ صُلْحًا إِنَّمَا يَكُونُ حُكْمًا بِالدَّفْعِ وَإِبْطَالًا لِلْفَسَادِ وَحَسْمًا لَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ" عُطِفَ عَلَى" خافَ"، وَالْكِنَايَةُ عَنِ الْوَرَثَةِ، وَلَمْ يَجْرِ لَهُمْ ذِكْرٌ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ الْمَعْنَى، وَجَوَابُ الشَّرْطِ" فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ". الرَّابِعَةُ- لَا خِلَافَ أَنَّ الصَّدَقَةَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَالصِّحَّةِ أَفْضَلُ مِنْهَا عِنْدَ الْمَوْتِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ سُئِلَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: (أَنْ تَصَّدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ) الْحَدِيثَ، أَخْرَجَهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَأَنْ يَتَصَدَّقَ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ بِدِرْهَمٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِمِائَةٍ) . وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَثَلُ الَّذِي يُنْفِقُ أَوْ يَتَصَدَّقُ عِنْدَ مَوْتِهِ مَثَلُ الذي يهدي بعد ما يَشْبَعُ) . الْخَامِسَةُ- مَنْ لَمْ يَضُرَّ فِي وَصِيَّتِهِ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا تَرَكَ مِنْ زَكَاتِهِ. رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَأَوْصَى فَكَانَتْ وَصِيَّتُهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا تَرَكَ مِنْ زَكَاتِهِ) . فَإِنْ ضَرَّ فِي الْوَصِيَّةِ وَهِيَ: السَّادِسَةُ- فَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ (. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ أَوِ الْمَرْأَةَ لَيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ فَيُضَارَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ) . وَتَرْجَمَ النَّسَائِيُّ" الصَّلَاةَ عَلَى مَنْ جَنَفَ «1» فِي وَصِيَّتِهِ" أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ أَنْبَأَنَا هُشَيْمٌ عَنْ مَنْصُورٍ وَهُوَ ابْنُ زَاذَانَ عَنِ الْحَسَنِ «2» عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ موته ولم يكن له مال
__________
(1) . في سنن النسائي:" حيف" بالحاء والياء.
(2) . كذا في النسائي. وفى الأصول:" عن الحسن عن سمرة عن عمران".(2/271)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
غَيْرُهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: (لَقَدْ هَمَمْتُ أَلَّا أُصَلِّيَ عَلَيْهِ) [ثُمَّ دَعَا مَمْلُوكِيهِ «1» ] فَجَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ: وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا، بَدَلَ قَوْلِهِ: (لَقَدْ هَمَمْتُ أَلَّا أُصَلِّيَ عَلَيْهِ) .
[سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 184]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ" لَمَّا ذَكَرَ مَا كُتِبَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْقِصَاصِ وَالْوَصِيَّةِ ذَكَرَ أَيْضًا أَنَّهُ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ وَأَلْزَمَهُمْ إِيَّاهُ وَأَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بُنِيَ الْإِسْلَامِ عَلَى خَمْسً شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ) رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ. وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الْإِمْسَاكُ، وَتَرْكُ التَّنَقُّلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَيُقَالُ لِلصَّمْتِ صَوْمٌ، لِأَنَّهُ. إِمْسَاكٌ عَنِ الْكَلَامِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مريم:" إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً «2» " [مريم: 26] أَيْ سُكُوتًا عَنِ الْكَلَامِ. وَالصَّوْمِ: رُكُودُ الرِّيحِ، وَهُوَ إِمْسَاكُهَا عَنِ الْهُبُوبِ. وَصَامَتِ الدَّابَّةُ عَلَى آرِيِّهَا «3»
: قَامَتْ وَثَبَتَتْ فَلَمْ تَعْتَلِفْ. وَصَامَ النَّهَارُ: اعْتَدَلَ. وَمَصَامُ الشَّمْسِ حَيْثُ تَسْتَوِي فِي مُنْتَصَفِ النَّهَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ الْعَجَاجِ وَخَيْلٌ تَعْلُكُ اللُّجُمَا
__________
(1) . الزيادة عن سنن النسائي.
(2) . راجع ج 11 ص 97.
(3) . الأري: حبل تشد به الداية في محبسها، ويسمى الأخية.(2/272)
أَيْ خَيْلٌ ثَابِتَةٌ مُمْسِكَةٌ عَنِ الْجَرْيِ وَالْحَرَكَةِ، كما قال «1» :
كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ فِي مَصَامِهَا
أَيْ هِيَ ثَابِتَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا فَلَا تَنْتَقِلُ، وَقَوْلُهُ:
وَالْبَكَرَاتُ شَرُّهُنَّ الصَّائِمَةُ «2»
يَعْنِي الَّتِي لَا تَدُورُ. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَدَعْهَا «3» وَسَلِّ الْهَمَّ عَنْكَ بِجَسْرَةٍ ... ذَمُولٍ إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا
أَيْ أَبْطَأَتِ الشَّمْسُ عَنِ الِانْتِقَالِ وَالسَّيْرِ فَصَارَتْ بِالْإِبْطَاءِ كَالْمُمْسِكَةِ. وَقَالَ آخَرُ:
حَتَّى إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَاعْتَدَلَ ... وَسَالَ لِلشَّمْسِ لُعَابٌ فَنَزَلَ
وَقَالَ آخَرُ:
نَعَامًا بوجرة صفر الخدود ... دما تَطْعَمُ النَّوْمُ إِلَّا صِيَامَا «4»
أَيْ قَائِمَةً. وَالشِّعْرُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ. وَالصَّوْمُ فِي الشَّرْعِ: الْإِمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ مَعَ اقْتِرَانِ النِّيَّةِ بِهِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَتَمَامُهُ وَكَمَالُهُ بِاجْتِنَابِ الْمَحْظُورَاتِ وَعَدَمِ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةً فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) . الثَّانِيَةُ- فَضْلُ الصَّوْمِ عَظِيمٌ، وَثَوَابُهُ جَسِيمٌ، جَاءَتْ بِذَلِكَ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ صِحَاحٌ وَحِسَانٌ ذَكَرَهَا الْأَئِمَّةُ فِي مَسَانِيدِهِمْ، وَسَيَأْتِي بَعْضُهَا، وَيَكْفِيكَ الْآنَ مِنْهَا فِي فَضْلِ الصَّوْمِ أَنْ خَصَّهُ اللَّهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال مخبرا عن ربه:
__________
(1) . هو امرؤ القيس، كما في اللسان والمعلقات، وتمام البيت:
بأمراس كان على صم جندل
[.....]
(2) . قبله:
شر الدلاء الولغة الملازمة
(3) . في الأصول:" فدع ذا" والتصويب عن الديوان واللسان.
(4) . تقدم الكلام على هذا البيت ج 1 ص 423 طبعه ثانية، فليراجع.(2/273)
(يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمُ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) الْحَدِيثَ. وَإِنَّمَا خَصَّ الصَّوْمَ بِأَنَّهُ لَهُ وَإِنْ كَانَتِ الْعِبَادَاتُ كُلُّهَا لَهُ لِأَمْرَيْنِ بَايَنَ الصَّوْمُ بِهِمَا سَائِرَ الْعِبَادَاتِ. أَحَدُهُمَا أَنَّ الصَّوْمَ يَمْنَعُ مِنْ مَلَاذِّ النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا مَا لَا يَمْنَعُ مِنْهُ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ. الثَّانِي أَنَّ الصَّوْمَ سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ لَا يَظْهَرُ إِلَّا لَهُ، فَلِذَلِكَ صَارَ مُخْتَصًّا بِهِ. وَمَا سِوَاهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ ظَاهِرٌ، رُبَّمَا فَعَلَهُ تَصَنُّعًا وَرِيَاءً، فَلِهَذَا صَارَ أَخَصَّ بِالصَّوْمِ مِنْ غَيْرِهِ. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" كَما كُتِبَ" الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى النَّعْتِ، التَّقْدِيرُ كِتَابًا كَمَا، أَوْ صَوْمًا كَمَا. أَوْ عَلَى الْحَالِ مِنَ الصِّيَامِ، أَيْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ مُشَبَّهًا كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: الْكَافُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ نَعْتًا لِلصِّيَامِ، إِذْ لَيْسَ تَعْرِيفُهُ بِمَحْضٍ، لِمَكَانِ الْإِجْمَالِ الَّذِي فِيهِ بِمَا فَسَّرَتْهُ الشَّرِيعَةُ، فَلِذَلِكَ جَازَ نَعْتُهُ بِ" كَمَا" إِذْ لَا يُنْعَتُ بِهَا إِلَّا النَّكِرَاتُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كُتِبَ عَلَيْكُمْ صِيَامٌ، وَقَدْ ضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ. وَ" مَا" فِي مَوْضِعِ خَفْضِ، وَصِلَتِهَا:" كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ". وَالضَّمِيرُ فِي" كُتِبَ" يَعُودُ عَلَى" مَا". وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَوْضِعِ التَّشْبِيهِ وَهِيَ: الرَّابِعَةُ- فَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: التَّشْبِيهُ يَرْجِعُ إِلَى وَقْتِ الصَّوْمِ وَقَدْرِ الصَّوْمِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَى قَوْمِ مُوسَى وَعِيسَى صَوْمَ رَمَضَانَ فَغَيَّرُوا، وَزَادَ أَحْبَارُهُمْ عَلَيْهِمْ عَشْرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ مَرِضَ بَعْضُ أَحْبَارِهِمْ فَنَذَرَ إِنْ شَفَاهُ اللَّهُ أَنْ يَزِيدَ فِي صَوْمِهِمْ عَشْرَةَ أَيَّامٍ فَفَعَلَ، فَصَارَ صَوْمُ النَّصَارَى خَمْسِينَ يَوْمًا، فَصَعُبَ عَلَيْهِمْ فِي الْحَرِّ فَنَقَلُوهُ إِلَى الرَّبِيعِ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ النَّحَّاسُ وَقَالَ: وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِمَا فِي الْآيَةِ. وَفِيهِ حَدِيثٌ يدل على صحته أسنده عن دغفل ابن حَنْظَلَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (كَانَ عَلَى النَّصَارَى صَوْمُ شَهْرٍ فَمَرِضَ رجل منهم فقالوا لئن شفاه الله لنزيدن عَشْرَةً ثُمَّ كَانَ آخَرُ فَأَكَلَ لَحْمًا فَأَوْجَعَ فاه فقالوا لئن شفاه الله لنزيدن سَبْعَةً ثُمَّ كَانَ مَلِكٌ آخَرُ فَقَالُوا لَنُتِمَّنَّ هَذِهِ السَّبْعَةَ الْأَيَّامَ وَنَجْعَلَ صَوْمَنَا فِي الرَّبِيعِ قَالَ فَصَارَ خَمْسِينَ (. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى كُلِّ أمة. وقيل:(2/274)
أَخَذُوا بِالْوَثِيقَةِ «1» فَصَامُوا قَبْلَ الثَّلَاثِينَ يَوْمًا وَبَعْدَهَا يَوْمًا، قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، حَتَّى بَلَغَ صَوْمُهُمْ خَمْسِينَ يَوْمًا، فَصَعُبَ عَلَيْهِمْ فِي الْحَرِّ فَنَقَلُوهُ إِلَى الْفَصْلِ الشَّمْسِيِّ. قَالَ النَّقَّاشُ: وَفِي ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنْ دَغْفَلِ بْنِ حَنْظَلَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالسُّدِّيِّ. قُلْتُ: وَلِهَذَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- كُرِهَ الْآنَ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ وَالسِّتَّةُ مِنْ شَوَّالَ بِإِثْرِ يَوْمِ الْفِطْرِ مُتَّصِلًا بِهِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ صُمْتُ السَّنَةَ كُلَّهَا لَأَفْطَرْتُ يَوْمَ الشَّكِّ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّصَارَى فُرِضَ عَلَيْهِمْ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ كَمَا فُرِضَ عَلَيْنَا، فَحَوَّلُوهُ إِلَى الْفَصْلِ الشَّمْسِيِّ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يُوَافِقُ الْقَيْظَ فَعَدُّوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهُمْ قَرْنٌ فَأَخَذُوا بِالْوَثِيقَةِ لِأَنْفُسِهِمْ فَصَامُوا قَبْلَ الثَّلَاثِينَ يَوْمًا وَبَعْدَهَا يَوْمًا، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْآخَرُ يَسْتَنُّ بِسُنَّةِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ حَتَّى صَارُوا إِلَى خَمْسِينَ يَوْمًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ". وَقِيلَ: التَّشْبِيهُ رَاجِعٌ إِلَى أَصْلِ وُجُوبِهِ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ، لَا فِي الْوَقْتِ وَالْكَيْفِيَّةِ. وَقِيلَ: التَّشْبِيهُ وَاقِعٌ عَلَى صِفَةِ الصَّوْمِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَنْعِهِمْ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنِّكَاحِ، فَإِذَا حَانَ الْإِفْطَارُ فَلَا يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَنْ نَامَ. وَكَذَلِكَ كَانَ فِي النَّصَارَى أَوَّلًا وَكَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:" أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ" [البقرة: 187] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ «2» ، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ. وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَعَطَاءٌ: التَّشْبِيهُ وَاقِعٌ عَلَى الصَّوْمِ لَا عَلَى الصِّفَةِ وَلَا عَلَى الْعِدَّةِ وَإِنِ اخْتَلَفَ الصِّيَامَانِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. الْمَعْنَى:" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ" أَيْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ،" كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ" وَهُمُ الْيَهُودُ- فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ- ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ. ثُمَّ نُسِخَ هَذَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بِشَهْرِ رَمَضَانَ. وَقَالَ مُعَاذُ بن جبل: نسخ ذلك" ب أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ" ثُمَّ نُسِخَتِ الْأَيَّامُ بِرَمَضَانَ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"" لَعَلَّ" تَرَجٍّ فِي حَقِّهِمْ، كما تقدم «3» . و" تَتَّقُونَ" قِيلَ: مَعْنَاهُ هُنَا تَضْعُفُونَ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا قَلَّ الأكل ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت
__________
(1) . الوثيقة في الامر: إحكامه والأخذ بالثقة.
(2) . راجع ص 314 من هذا الجزء.
(3) . يراجع ج 1 ص 226 طبعه ثانية.(2/275)
الشَّهْوَةُ قَلَّتِ الْمَعَاصِي. وَهَذَا وَجْهٌ مَجَازِيٌّ حَسَنٌ. وَقِيلَ: لِتَتَّقُوا الْمَعَاصِيَ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْعُمُومِ، لِأَنَّ الصِّيَامَ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ وَوِجَاءٌ) «1» وَسَبَبُ تَقْوَى، لِأَنَّهُ يُمِيتُ الشَّهَوَاتِ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ"" أَيَّاماً" مَفْعُولٌ ثَانٍ بِ" كُتِبَ"، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقِيلَ: نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ لِ" كُتِبَ"، أَيْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ فِي أَيَّامٍ. وَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ: شَهْرُ رَمَضَانَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ" فِيهِ سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَرِيضاً" لِلْمَرِيضِ حَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَلَّا يُطِيقَ الصَّوْمَ بِحَالٍ، فَعَلَيْهِ الْفِطْرُ وَاجِبًا. الثَّانِيَةُ- أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الصَّوْمِ بِضَرَرٍ وَمَشَقَّةٍ، فَهَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْفِطْرُ وَلَا يَصُومُ إِلَّا جَاهِلٌ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: مَتَى حَصَلَ الْإِنْسَانُ فِي حَالٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا اسْمَ الْمَرَضِ صَحَّ الْفِطْرُ، قِيَاسًا عَلَى الْمُسَافِرِ لِعِلَّةِ السَّفَرِ، وَإِنْ لَمْ تَدْعُ إِلَى الْفِطْرِ ضرورة. قال طريف ابن تَمَّامٍ الْعُطَارِدِيُّ: دَخَلْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ يَأْكُلُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: إِنَّهُ وَجِعَتْ أُصْبُعِي هَذِهِ. وَقَالَ جُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِذَا كَانَ بِهِ مَرَضٌ يُؤْلِمُهُ وَيُؤْذِيهِ أَوْ يَخَافُ تَمَادِيَهُ أَوْ يَخَافُ تَزَيُّدَهُ صَحَّ لَهُ الْفِطْرُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مَذْهَبُ حُذَّاقِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَبِهِ يُنَاظِرُونَ. وَأَمَّا لَفْظُ مَالِكٍ فَهُوَ الْمَرَضُ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى الْمَرْءِ وَيَبْلُغُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَرَضِ الْمُبِيحِ لِلْفِطْرِ، فَقَالَ مَرَّةً: هُوَ خَوْفُ التَّلَفِ مِنَ الصِّيَامِ. وَقَالَ مَرَّةً: شِدَّةُ الْمَرَضِ وَالزِّيَادَةِ فِيهِ وَالْمَشَقَّةُ الْفَادِحَةُ. وَهَذَا صَحِيحُ مَذْهَبِهِ وَهُوَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَخُصَّ مَرَضًا مِنْ مَرَضٍ فَهُوَ مُبَاحٌ فِي كُلِّ مَرَضٍ، إِلَّا مَا خَصَّهُ الدليل من الصداع والحمى والمرضى الْيَسِيرِ الَّذِي لَا كُلْفَةَ مَعَهُ فِي الصِّيَامِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا لَمْ يَقْدِرْ مِنَ الْمَرَضِ عَلَى الصَّلَاةِ قَائِمًا أَفْطَرَ، وَقَالَهُ النَّخَعِيُّ. وَقَالَتْ فرقة: لا يفطر بالمرض إلا من
__________
(1) . الوجاء: أن ترض أنثيا الفحل رضا شديدا يذهب شهوة الجماع، وينزل في قطعة منزلة الخصى. أراد أن الصوم يقطع النكاح كما يقطعه الوجاء.(2/276)
دَعَتْهُ ضَرُورَةُ الْمَرَضِ نَفْسِهِ إِلَى الْفِطْرِ، وَمَتَى احْتَمَلَ الضَّرُورَةَ مَعَهُ لَمْ يُفْطِرْ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قُلْتُ: قَوْلُ ابْنِ سيرين أعدل شي فِي هَذَا الْبَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْبُخَارِيُّ: اعْتَلَلْتُ بِنَيْسَابُورَ عِلَّةً خَفِيفَةً وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَعَادَنِي إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ لِي: أَفْطَرْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ فَقُلْتُ نَعَمْ. فَقَالَ: خَشِيتَ أَنْ تَضْعُفَ عَنْ قَبُولِ الرُّخْصَةِ. قُلْتُ: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قُلْتُ لِعَطَاءٍ: مِنْ أَيُّ الْمَرَضِ أُفْطِرُ؟ قَالَ: مِنْ أَيِّ مَرَضٍ كَانَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً" قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ إِسْحَاقَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا خَافَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ صَائِمٌ إِنْ لَمْ يُفْطِرْ أَنْ تَزْدَادَ عَيْنُهُ وَجَعًا أَوْ حُمَّاهُ شِدَّةً أَفْطَرَ. الثانية- قوله تعالى:" أَوْ عَلى سَفَرٍ" اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي السَّفَرِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ الْفِطْرُ وَالْقَصْرُ، بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى سَفَرِ الطَّاعَةِ كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَيَتَّصِلُ بِهَذَيْنَ سَفَرُ صِلَةِ الرَّحِمِ وَطَلَبِ الْمَعَاشِ الضَّرُورِيِّ. أَمَّا سَفَرُ التِّجَارَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ بِالْمَنْعِ وَالْإِجَازَةِ، وَالْقَوْلُ بِالْجَوَازِ أَرْجَحُ. وَأَمَّا سَفَرُ الْعَاصِي فَيُخْتَلَفُ فِيهِ بِالْجَوَازِ وَالْمَنْعِ، وَالْقَوْلُ بِالْمَنْعِ أَرْجَحُ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَمَسَافَةُ الْفِطْرِ عِنْدَ مَالِكٍ حَيْثُ تُقْصَرُ الصَّلَاةُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَدْرِ ذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا، قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ، وَقَالَ مَرَّةً: اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا، وَقَالَ مَرَّةً سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ مِيلًا، وَقَالَ مَرَّةً: مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ يَوْمَانِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَفَصَلَ مَرَّةً بَيْنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَقَالَ فِي الْبَحْرِ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَفِي الْبَرِّ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا، وَفِي الْمَذْهَبِ ثَلَاثُونَ مِيلًا، وَفِي غَيْرِ الْمَذْهَبِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ. وَقَالَ ابْنُ عَمْرٍو وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالثَّوْرِيُّ: الْفِطْرُ فِي سَفَرِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قُلْتُ: وَالَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ يُفْطِرَانِ وَيَقْصُرَانِ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا.(2/277)
الثَّالِثَةُ- اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ فِي رَمَضَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُبَيِّتَ الْفِطْرَ، لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يَكُونُ مُسَافِرًا بِالنِّيَّةِ بِخِلَافِ الْمُقِيمِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُسَافِرًا بِالْعَمَلِ وَالنُّهُوضِ، وَالْمُقِيمُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى عَمَلٍ، لِأَنَّهُ إِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ كَانَ مُقِيمًا فِي الْحِينِ، لِأَنَّ الْإِقَامَةَ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى عَمَلٍ فَافْتَرَقَا. وَلَا خِلَافَ بَيْنِهِمْ أَيْضًا فِي الَّذِي يُؤَمِّلُ السَّفَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ، فَإِنْ أَفْطَرَ فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إِنْ كَانَ قَدْ تَأَهَّبَ لِسَفَرِهِ وَأَخَذَ فِي أَسْبَابِ الحركة فلا شي عَلَيْهِ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَصْبَغَ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ، فَإِنْ عَاقَهُ عَنِ السَّفَرِ عَائِقٌ كَانَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَحَسْبُهُ أَنْ يَنْجُوَ إِنْ سَافَرَ؟. وَرَوَى عِيسَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا قَضَاءَ يَوْمٍ، لِأَنَّهُ مُتَأَوَّلٌ فِي فِطْرِهِ. وقال أشهب: ليس عليه شي مِنَ الْكَفَّارَةِ سَافَرَ أَوْ لَمْ يُسَافِرْ. وَقَالَ سَحْنُونُ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ سَافَرَ أَوْ لَمْ يُسَافِرْ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ تَقُولُ: غَدًا تَأْتِينِي حَيْضَتِي، فَتُفْطِرُ لِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْلِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَأَصْبَغَ وَقَالَ: لَيْسَ مِثْلَ الْمَرْأَةِ، لِأَنَّ الرَّجُلَ يُحْدِثُ السَّفَرَ إِذَا شَاءَ، وَالْمَرْأَةَ لَا تُحْدِثُ الْحَيْضَةَ. قُلْتُ: قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ فِي نَفْيِ الْكَفَّارَةِ حَسَنٌ، لِأَنَّهُ فِعْلُ مَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ، وَالذِّمَّةُ بَرِيئَةٌ، فَلَا يَثْبُتُ فيها شي إِلَّا بِيَقِينٍ وَلَا يَقِينَ مَعَ الِاخْتِلَافِ، ثُمَّ إِنَّهُ مُقْتَضَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" أَوْ عَلى سَفَرٍ". وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: هَذَا أَصَحُّ أَقَاوِيلِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَهِكٍ لِحُرْمَةِ الصَّوْمِ بِقَصْدٍ إِلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ مُتَأَوِّلٌ، وَلَوْ كَانَ الْأَكْلُ مَعَ نِيَّةِ السَّفَرِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ خُرُوجِهِ مَا أَسْقَطَهَا عَنْهُ خُرُوجَهُ، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ تَجِدُهُ كَذَلِكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ سَهْلٍ بِمِصْرَ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عن محمد ابن كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ يُرِيدُ السَّفَرَ وَقَدْ رَحَلَتْ دَابَّتُهُ وَلَبِسَ ثِيَابَ السَّفَرِ وَقَدْ تَقَارَبَ غُرُوبُ الشَّمْسِ، فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَّ رَكِبَ. فَقُلْتُ لَهُ: سُنَّةٌ؟ قَالَ نَعَمْ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا قَالَ قَالَ لِي أَبُو مُوسَى: أَلَمْ أُنْبِئَنَّكَ إِذَا خَرَجْتُ خَرَجْتُ صَائِمًا، وَإِذَا دَخَلْتَ دَخَلْتَ صَائِمًا، فَإِذَا خَرَجْتَ فَاخْرُجْ مُفْطِرًا، وَإِذَا دَخَلْتَ فَادْخُلْ(2/278)
مُفْطِرًا. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يُفْطِرُ إِنْ شَاءَ فِي بَيْتِهِ يَوْمَ يُرِيدُ أَنْ
يَخْرُجَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: يُفْطِرُ إِذَا بَرَزَ عَنِ الْبُيُوتِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: لَا، بَلْ حِينَ يَضَعُ رِجْلَهُ فِي الرَّحْلِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَوْلُ أَحْمَدُ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِمَنْ أَصْبَحَ صَحِيحًا ثُمَّ اعْتَلَّ: إِنَّهُ يُفْطِرُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَصْبَحَ فِي الْحَضَرِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى السَّفَرِ فَلَهُ كَذَلِكَ أَنْ يُفْطِرَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يُفْطِرُ يَوْمَهُ ذَلِكَ وَإِنْ نَهَضَ فِي سَفَرِهِ، كَذَلِكَ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَمَكْحُولٌ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَاخْتَلَفُوا إِنْ فَعَلَ، فَكُلُّهُمْ قَالَ يَقْضِي وَلَا يُكَفِّرُ. قَالَ مَالِكٌ: لِأَنَّ السَّفَرَ عُذْرٌ طَارِئٌ، فَكَانَ كَالْمَرَضِ يَطْرَأُ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّهُ يَقْضِي وَيُكَفِّرُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ كِنَانَةَ وَالْمَخْزُومِيِّ، وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَقَالَ بِهِ، قَالَ: لِأَنَّ السَّفَرَ عُذْرٌ طَرَأَ بَعْدَ لُزُومِ الْعِبَادَةِ وَيُخَالِفُ الْمَرَضَ وَالْحَيْضَ، لِأَنَّ الْمَرَضَ يُبِيحُ لَهُ الْفِطْرَ، وَالْحَيْضَ يُحَرِّمُ عَلَيْهَا الصَّوْمَ، وَالسَّفَرَ لَا يُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِهَتْكِ حُرْمَتِهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَبَاحَ لَهُ الْفِطْرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ" لَا يُفْطِرُ" فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِحْبَابٌ لِمَا عَقَدَهُ فَإِنْ أَخَذَ بِرُخْصَةِ اللَّهِ كَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلَا وَجْهَ لَهَا، وَمَنْ أَوْجَبَهَا فَقَدْ أَوْجَبَ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: يُفْطِرُ إِنْ شَاءَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ إِذَا خَرَجَ مُسَافِرًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. قُلْتُ: وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ" بَابَ مَنْ أَفْطَرَ فِي السَّفَرِ لِيَرَاهُ النَّاسُ" وَسَاقَ الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ «1» ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَرَفَعَهُ إِلَى يَدَيْهِ لِيُرِيَهُ النَّاسَ فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ فِيهِ: ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ شَرِبَهُ نَهَارًا لِيَرَاهُ النَّاسُ ثُمَّ أَفْطَرَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ. وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ فَسَقَطَ مَا خَالَفَهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَفِيهِ أَيْضًا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الصَّوْمَ لَا يَنْعَقِدُ فِي السَّفَرِ. رُوِيَ عَنْ عمر وابن عباس
__________
(1) . عسفان (بضم العين وسكون السين المهملتين) : قرية بينها وبين مكة ثمانية وأربعون ميلا.(2/279)
وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ قَضَى فِي الْحَضَرِ. وعن عبد الرحمن ابن عَوْفٍ: الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ. وَقَالَ بِهِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ" عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ، وَبِمَا رَوَى كَعْبُ بْنُ عَاصِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ) . وَفِيهِ أَيْضًا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مَنْ بَيَّتَ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُطَرِّفٌ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَكَانَ مَالِكٌ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ لِأَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ، فَلَمَّا اخْتَارَ الصَّوْمَ وَبَيَّتَهُ لَزِمَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْفِطْرُ، فَإِنْ أَفْطَرَ عَامِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ إِلَّا عَبْدَ الْمَلِكِ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنْ أَفْطَرَ بِجِمَاعٍ كَفَرَ، لِأَنَّهُ لَا يَقْوَى بِذَلِكَ عَلَى سَفَرِهِ وَلَا عُذْرَ لَهُ، لِأَنَّ الْمُسَافِرَ إِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ لِيَقْوَى بِذَلِكَ عَلَى سَفَرِهِ. وَقَالَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ بِالْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ: إِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، مِنْهُمُ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ فقهاء الكوفة، قال أَبُو عُمَرَ. الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَفْضَلِ مِنَ الْفِطْرِ أَوِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ مَا رُوِيَ عَنْهُمَا: الصَّوْمُ أَفْضَلُ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ. وَجُلُّ مَذْهَبِ مَالِكٍ التَّخْيِيرُ وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنِ اتَّبَعَهُ: هُوَ مُخَيَّرٌ، وَلَمْ يُفَصِّلْ، وَكَذَلِكَ ابْنُ عُلَيَّةَ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: سَافَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ، خَرَّجَهُ مَالِكٌ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ صَاحِبَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمَا قَالَا: الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة وأصحابه. وروي عن ابن عمرو ابن عَبَّاسٍ: الرُّخْصَةُ أَفْضَلُ، وَقَالَ بِهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. كُلُّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْفِطْرُ أَفْضَلُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:" يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" [البقرة: 185] .(2/280)
الخامسة- قوله تعالى:" فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ" فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ مَنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَأَفْطَرَ فَلْيَقْضِ. وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ إِذَا صَامُوا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَفِي الْبَلَدِ رَجُلٌ مَرِيضٌ لَمْ يَصِحَّ فَإِنَّهُ يَقْضِي تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ: إِنَّهُ يَقْضِي شَهْرًا بِشَهْرٍ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ عَدَدِ الْأَيَّامِ. قَالَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ: وَهَذَا بَعِيدٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ" وَلَمْ يَقُلْ فَشَهْرٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. وَقَوْلُهُ:" فَعِدَّةٌ" يَقْتَضِي اسْتِيفَاءَ عَدَدِ مَا أَفْطَرَ فِيهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ بَعْضَ رَمَضَانَ وَجَبَ قَضَاءَ مَا أَفْطَرَ بَعْدَهُ بِعَدَدِهِ، كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ إِفْطَارِهِ جَمِيعِهِ فِي اعْتِبَارِ عَدَدِهِ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَعِدَّةٌ" ارْتَفَعَ" عِدَّةٌ" عَلَى خَبَرِ الِابْتِدَاءِ، تَقْدِيرُهُ فَالْحُكْمُ أَوْ فَالْوَاجِبُ عِدَّةٌ، وَيَصِحُّ فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: وَيَجُوزُ فَعِدَّةً، أَيْ فَلْيَصُمْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَعَلَيْهِ صِيَامُ عِدَّةٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافَ وَأُقِيمَتِ الْعِدَّةُ مَقَامَهُ. وَالْعِدَّةُ فِعْلَةٌ مِنَ الْعَدِّ، وَهِيَ بِمَعْنَى الْمَعْدُودِ، كَالطَّحْنِ بِمَعْنَى الْمَطْحُونِ، تَقُولُ: أَسْمَعُ جَعْجَعَةً وَلَا أَرَى طَحْنًا «1» . وَمِنْهُ عِدَّةُ الْمَرْأَةِ." مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ" لَمْ يَنْصَرِفْ" أُخَرُ" عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، لِأَنَّهَا مَعْدُولَةٌ عَنِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، لِأَنَّ سَبِيلَ فُعَلَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، نَحْوُ الْكُبَرِ وَالْفُضَلِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هِيَ مَعْدُولَةٌ عَنْ آخِرٍ، كَمَا تَقُولُ: حَمْرَاءُ وَحُمَرُ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَنْصَرِفْ. وَقِيلَ: مُنِعَتْ مِنَ الصَّرْفِ لِأَنَّهَا عَلَى وَزْنِ جُمَعٍ وَهِيَ صفة لأيام، ولم تجئ أُخْرَى لِئَلَّا يَشْكُلَ بِأَنَّهَا صِفَةٌ لِلْعِدَّةِ. وَقِيلَ: إِنَّ" أُخَرَ" جَمْعُ أُخْرَى كَأَنَّهُ أَيَّامٌ أُخْرَى ثُمَّ كُثِّرَتْ فَقِيلَ: أَيَّامٌ أُخَرُ. وَقِيلَ: إِنَّ نَعْتَ الْأَيَّامِ يَكُونُ مُؤَنَّثًا فَلِذَلِكَ نُعِتَتْ بِأُخَرَ. السَّابِعَةُ- اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُوبِ تَتَابُعِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرَهُمَا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي" سُنَنِهِ"، فَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: نَزَلَتْ" فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ" فَسَقَطَتْ «2» " مُتَتَابِعَاتٍ" قَالَ هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
__________
(1) . مثل يضرب للرجل الذي يكثر الكلام ولا يعمل، وللذي بعد ولا يفعل.
(2) . قال الزرقاني في شرح الموطأ: معنى" سقطت" نسخت، قال: وليس بين اللوحين" متتابعات" أي ليس في المصحف كلمة" متتابعات". وقال الدارقطني: إن كلمة" سقطت" انفرد بها عروة.(2/281)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمٌ مِنْ رَمَضَانَ فَلْيَسْرُدْهُ «1» وَلَا يَقْطَعْهُ) فِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ الرحمن ابن إِبْرَاهِيمَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ. وَأَسْنَدَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ" صُمْهُ كَيْفَ شِئْتَ". وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ:" صُمْهُ كَمَا أَفْطَرْتَهُ". وَأُسْنِدَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ تَقْطِيعِ صِيَامِ رَمَضَانَ فَقَالَ: (ذَلِكَ إِلَيْكَ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَحَدِكُمْ دَيْنٌ فَقَضَى الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ أَلَمْ يَكُنْ قَضَاهُ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَعْفُوَ وَيَغْفِرَ (. إِسْنَادُهُ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّهُ مُرْسَلٌ وَلَا يَثْبُتُ مُتَّصِلًا. وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: يَصُومُ رَمَضَانَ مُتَتَابِعًا مَنْ أَفْطَرَهُ مُتَتَابِعًا مِنْ مَرَضٍ أَوْ فِي سَفَرٍ «2» . قَالَ الْبَاجِيُّ فِي" الْمُنْتَقَى":" يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الْإِخْبَارَ عَنِ الْوُجُوبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الْإِخْبَارَ عَنِ الِاسْتِحْبَابِ، وَعَلَى الِاسْتِحْبَابِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَإِنْ فَرَّقَهُ أَجْزَأَهُ، وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ" وَلَمْ يَخُصَّ مُتَفَرِّقَةً مِنْ مُتَتَابِعَةٍ، وَإِذَا أَتَى بِهَا مُتَفَرِّقَةً فَقَدْ صَامَ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، فَوَجَبَ أَنْ يَجْزِيَهُ". ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا وَجَبَ التَّتَابُعُ فِي الشَّهْرِ لِكَوْنِهِ مُعَيَّنًا، وَقَدْ عُدِمَ التَّعْيِينُ فِي الْقَضَاءِ فَجَازَ التَّفْرِيقُ. الثَّامِنَةُ- لَمَّا قَالَ تَعَالَى:" فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ" دَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِزَمَانٍ، لِأَنَّ اللَّفْظَ مُسْتَرْسِلٌ عَلَى الْأَزْمَانِ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلَّا فِي شَعْبَانَ، الشُّغْلُ «3» مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، أَوْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فِي رِوَايَةٍ: وَذَلِكَ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا نَصٌّ وَزِيَادَةُ بَيَانٍ لِلْآيَةِ. وَذَلِكَ يَرُدُّ عَلَى دَاوُدَ قَوْلَهُ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ ثَانِيَ شَوَّالٍ. وَمَنْ لَمْ يَصُمْهُ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ آثِمٌ عِنْدَهُ، وَبَنَى عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَوَجَدَ رَقَبَةً تُبَاعُ بِثَمَنٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّاهَا وَيَشْتَرِيَ غَيْرَهَا، لِأَنَّ الْفَرْضَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ أَوَّلَ رَقَبَةٍ يَجِدُهَا فَلَا يَجْزِيهِ غَيْرُهَا. وَلَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ رَقَبَةً فَلَا يجوز له أن يشتري
__________
(1) . أي يتابعه.
(2) . عبارة الموطأ:" يصوم قضاء رمضان متتابعا من أفطره من مرض أو سفر".
(3) . قال النووي: هو مرفوع على أنه فاعل لفعل مقدر، أي يمنعني الشغل.(2/282)
غَيْرَهَا، وَلَوْ مَاتَ الَّذِي عِنْدَهُ فَلَا يَبْطُلُ الْعِتْقُ، كَمَا يَبْطُلُ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً بِعَيْنِهَا فَمَاتَتْ يَبْطُلُ نَذْرُهُ، وَذَلِكَ يُفْسِدُ قَوْلَهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: إِذَا مَاتَ بَعْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ شَوَّالٍ لَا يَعْصِي عَلَى شَرْطِ الْعَزْمِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ وَلَا مُفَرِّطٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، غَيْرَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَعْجِيلُ الْقَضَاءِ لِئَلَّا تُدْرِكَهُ الْمَنِيَّةُ فَيَبْقَى عَلَيْهِ الْفَرْضُ. التَّاسِعَةُ- مَنْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ أَيَّامٍ مِنْ رَمَضَانَ فَمَضَتْ عَلَيْهِ عِدَّتُهَا مِنَ الْأَيَّامِ بَعْدَ الْفِطْرِ أَمْكَنَهُ فِيهَا صِيَامُهُ فَأَخَّرَ ذَلِكَ ثُمَّ جَاءَهُ مَانِعٌ مَنَعَهُ مِنَ الْقَضَاءِ إِلَى رَمَضَانَ آخَرَ فَلَا إِطْعَامَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُفَرِّطٍ حِينَ فَعَلَ مَا يَجُوزُ لَهُ مِنَ التَّأْخِيرِ. هَذَا قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنَ الْمَالِكِيِّينَ، وَيَرَوْنَهُ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ. الْعَاشِرَةُ- فَإِنْ أَخَّرَ قَضَاءَهُ عَنْ شَعْبَانَ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الزَّمَانِ الَّذِي يُقْضَى فِيهِ رَمَضَانُ فَهَلْ يَلْزَمُهُ لِذَلِكَ كَفَّارَةٌ أَوْ لَا، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: نَعَمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَدَاوُدُ: لَا. قُلْتُ: وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ لِقَوْلِهِ، وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُرْسَلًا وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُطْعِمُ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ الْإِطْعَامَ، إِنَّمَا قَالَ:" فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ". قُلْتُ: قَدْ جَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُسْنَدًا فِيمَنْ فَرَّطَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ قَالَ: يَصُومُ هَذَا مَعَ النَّاسِ، وَيَصُومُ الَّذِي فَرَّطَ فِيهِ وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَجُلٍ أَفْطَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ مَرَضٍ ثُمَّ صَحَّ وَلَمْ يَصُمْ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ قَالَ: (يَصُومُ الَّذِي أَدْرَكَهُ ثُمَّ يَصُومُ الشَّهْرَ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا) . فِي إِسْنَادِهِ ابْنُ نَافِعٍ وَابْنُ وَجِيهٍ ضَعِيفَانِ. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- فَإِنْ تَمَادَى بِهِ الْمَرَضُ فَلَمْ يَصِحَّ حَتَّى جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ، فَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ يُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ، ثُمَّ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا لَمْ يَصِحَّ بَيْنَ الرَّمَضَانَيْنِ صَامَ عَنْ هَذَا وَأَطْعَمَ عَنِ الثَّانِي(2/283)
وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِذَا صَحَّ فَلَمْ يَصُمْ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ صَامَ عَنْ هَذَا وَأَطْعَمَ عَنِ الْمَاضِي، فَإِذَا أَفْطَرَ قَضَاهُ، إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ قَدْ يُحْتَجُّ بِهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَرِضْتُ رَمَضَانَيْنِ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْتَمَرَّ بِكَ مَرَضُكَ، أَوْ صَحَحْتَ بَيْنَهُمَا؟ فَقَالَ: بَلْ صَحَحْتُ، قَالَ: صُمْ رَمَضَانَيْنِ وَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا. وَهَذَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَوْ تَمَادَى بِهِ مَرَضُهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. وَهَذَا يُشْبِهُ مَذْهَبَهُمْ فِي الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ أَنَّهُمَا يُطْعِمَانِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا، عَلَى مَا يَأْتِي «1» . الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفَ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْإِطْعَامَ فِي قَدْرِ مَا يَجِبُ أَنْ يُطْعِمَ، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُونَ: يُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يُطْعِمُ نصف صاع عن كل يوم. الثالثة- وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَفْطَرَ أَوْ جَامَعَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ نَاسِيًا لَمْ يكن عليه شي غَيْرُ قَضَائِهِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَمَادَى فِيهِ لِلِاخْتِلَافِ ثُمَّ يَقْضِيَهُ، وَلَوْ أَفْطَرَهُ عَامِدًا أَثِمَ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غَيْرُ قَضَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلَا يَتَمَادَى، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَفِّهِ عَمَّا يَكُفُّ الصَّائِمَ هَا هُنَا إِذْ هُوَ غَيْرُ صَائِمٍ عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ لِإِفْطَارِهِ عَامِدًا. وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلَا خِلَافَ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ بِإِصَابَةِ أَهْلِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ يَوْمَانِ، وَكَانَ ابْنُ الْقَاسِمِ يُفْتِي بِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ: إِنْ أَفْطَرَ عَمْدًا فِي قَضَاءِ الْقَضَاءِ كَانَ عَلَيْهِ مَكَانَهُ صِيَامُ يَوْمَيْنِ، كَمَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ بِإِصَابَةِ أَهْلِهِ، وَحَجَّ قَابِلًا فَأَفْسَدَ حَجَّهُ أَيْضًا بِإِصَابَةِ أَهْلِهِ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّتَانِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَدْ خَالَفَهُ فِي الْحَجِّ ابْنُ وَهْبٍ وَعَبْدُ الْمَلِكِ، وَلَيْسَ يَجِبُ الْقِيَاسُ عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ. وَالصَّوَابُ عِنْدِي- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ إِلَّا قَضَاءُ يَوْمٍ وَاحِدٍ، لأنه يوم واحد أفسده مرتين.
__________
(1) . راجع ص 288 من هذا الجزء. [.....](2/284)
قُلْتُ: وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ" فَمَتَى أَتَى بِيَوْمٍ تَامٍّ بَدَلًا عَمَّا أَفْطَرَهُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ فَقَدْ أَتَى بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ لِعِلَّةٍ فَمَاتَ مِنْ عِلَّتِهِ تِلْكَ، أَوْ سَافَرَ فَمَاتَ فِي سَفَرِهِ ذلك أنه لا شي عَلَيْهِ. وَقَالَ طَاوُسٌ وَقَتَادَةُ فِي الْمَرِيضِ يَمُوتُ قَبْلَ أَنْ يَصِحَّ: يُطْعَمُ عَنْهُ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يَقْضِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ: لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَاللَّيْثُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: يُصَامُ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُمْ خَصَّصُوهُ بِالنَّذْرِ، وَرُوِيَ مِثْلَهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ: يُطْعَمُ عَنْهُ. احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالصَّوْمِ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ) . إِلَّا أَنَّ هَذَا عَامٌّ فِي الصَّوْمِ، يُخَصِّصُهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي قَدْ مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ- وَفِي رِوَايَةٍ صَوْمُ شَهْرٍ- أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: (أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا) قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: (فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ) . احْتَجَّ مَالِكٌ وَمَنْ وَافَقَهُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:" وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «1» " [الانعام: 164] وَقَوْلِهِ:" وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى " «2» [النجم: 39] وَقَوْلِهِ:" وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها" [الانعام: 164] وَبِمَا خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَكِنْ يُطْعَمُ عَنْهُ مَكَانَ كل يَوْمٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ) . قُلْتُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ عَامٌّ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ) صَوْمَ رَمَضَانَ. فَأَمَّا صَوْمُ النَّذْرِ فَيَجُوزُ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، فَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ نَحْوُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ: صَوْمُ شَهْرَيْنِ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: (صُومِي عَنْهَا) قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قط أفأحج عنها؟ قال:
__________
(1) . راجع ج 7 ص 156، 157.
(2) . راجع ج 17 ص 114.(2/285)
(جي عَنْهَا) . فَقَوْلُهَا: شَهْرَيْنِ، يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ رَمَضَانُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَقْوَى مَا يُحْتَجُّ بِهِ لِمَالِكٍ أَنَّهُ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَيَعْضُدُهُ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ، وَهُوَ أَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لَا مَدْخَلَ لِلْمَالِ فِيهَا فَلَا تُفْعَلُ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَالصَّلَاةِ. ولا ينقص هَذَا بِالْحَجِّ لِأَنَّ لِلْمَالِ فِيهِ مَدْخَلًا. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الصَّوْمَ لَا يَنْعَقِدُ فِي السَّفَرِ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ أَبَدًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:" فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ" أَيْ فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ، وَلَا حَذْفَ فِي الْكَلَامِ وَلَا إِضْمَارَ. [وَبِقَوْلِهِ «1» عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ) قَالَ: مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْبِرِّ فَهُوَ مِنَ الْإِثْمِ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ لَا يَجُوزُ فِي السَّفَرِ [. وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: فِيهِ مَحْذُوفٌ فَأَفْطَرَ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: (سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ، رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسٍ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: (غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسِتَّ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ (. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" فيه خمس مسائل: الاولى قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ" قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَأَصْلُهُ يُطَوَّقُونَهُ نُقِلَتِ الْكَسْرَةُ إِلَى الطَّاءِ وَانْقَلَبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا. وَقَرَأَ حُمَيْدٌ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ اعْتِلَالِ، وَالْقِيَاسُ الِاعْتِلَالُ. وَمَشْهُورُ قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ" يُطَوَّقُونَهُ" بِفَتْحِ الطَّاءِ مُخَفَّفَةً وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ بِمَعْنَى يُكَلَّفُونَهُ. وَقَدْ رَوَى مُجَاهِدٌ" يَطِيقُونَهُ" بِالْيَاءِ بَعْدَ الطَّاءِ عَلَى لَفْظِ" يَكِيلُونَهُ" وَهِيَ بَاطِلَةٌ وَمُحَالٌ، لِأَنَّ الْفِعْلَ مَأْخُوذٌ مِنَ الطَّوْقِ، فَالْوَاوُ لَازِمَةٌ وَاجِبَةٌ فِيهِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْيَاءِ فِي هَذَا الْمِثَالِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: وَأَنْشَدَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى النَّحْوِيُّ لِأَبِي ذُؤَيْبٍ: فَقِيلَ تَحَمَّلْ فَوْقَ طَوْقِكَ إِنَّهَا مُطَبَّعَةٌ «2» مَنْ يَأْتِهَا لا يضيرها
__________
(1) . ما بين المربعين في ج. وسائط من سائر نسخ الأصل.
(2) . مطبعة: مملوءة.(2/286)
فَأَظْهَرَ الْوَاوَ فِي الطَّوْقِ، وَصَحَّ بِذَلِكَ أَنَّ وَاضِعَ الْيَاءِ مَكَانَهَا يُفَارِقُ الصَّوَابَ. وَرَوَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ" يَطَّيَّقُونَهُ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْيَاءِ مَفْتُوحَتَيْنِ بِمَعْنَى يُطِيقُونَهُ، يُقَالُ: طَاقَ وَأَطَاقَ وَأُطِيقُ بِمَعْنًى. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَعَائِشَةَ وَطَاوُسٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ" يَطَّوَّقُونَهُ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَشَدَّ الطَّاءِ مَفْتُوحَةً، وَهِيَ صَوَابٌ فِي اللُّغَةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ يَتَطَوَّقُونَهُ فَأُسْكِنَتِ التَّاءُ وَأُدْغِمَتْ فِي الطَّاءِ فَصَارَتْ طَاءً مُشَدَّدَةً، وَلَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، خِلَافًا لِمَنْ أَثْبَتَهَا قُرْآنًا، وَإِنَّمَا هِيَ قِرَاءَةٌ عَلَى التَّفْسِيرِ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ" فِدْيَةُ طَعَامٍ" مُضَافًا،" مَسَاكِينَ" جَمْعًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ" طَعَامُ مِسْكِينٍ" بِالْإِفْرَادِ فِيمَا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَطَاءٍ عَنْهُ. وَهِيَ قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ، لِأَنَّهَا بَيَّنَتِ الْحُكْمَ فِي الْيَوْمِ، وَاخْتَارَهَا أَبُو عُبَيْدٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَبَيَّنَتْ أَنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ إِطْعَامُ وَاحِدٍ، فَالْوَاحِدُ مُتَرْجَمٌ عَنِ الْجَمِيعِ، وَلَيْسَ الْجَمِيعُ بِمُتَرْجَمٍ عَنْ وَاحِدٍ. وَجَمْعُ الْمَسَاكِينِ لَا يُدْرَى كَمْ مِنْهُمْ فِي اليوم الأمن غَيْرِ الْآيَةِ. وَتُخَرَّجُ قِرَاءَةُ الْجَمْعِ فِي" مَسَاكِينَ" لَمَّا كَانَ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ جَمْعٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَلْزَمُهُ مِسْكِينٌ فَجُمِعَ لَفْظُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً «1» " [النور: 4] أَيِ اجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، فَلَيْسَتِ الثَّمَانُونَ مُتَفَرِّقَةً فِي جَمِيعِهِمْ، بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَمَانُونَ، قَالَ مَعْنَاهُ أَبُو عَلِيٍّ. وَاخْتَارَ قِرَاءَةَ الْجَمْعِ النَّحَّاسُ قَالَ: وَمَا اخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ مَرْدُودٌ، لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالدَّلَالَةِ، فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مَعْنَى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامٌ مَسَاكِينَ" أَنَّ لِكُلِ يَوْمٍ مِسْكِينًا، فَاخْتِيَارُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِتَرُدَّ جَمْعًا عَلَى جَمْعٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنْ يُقْرَأَ" فِدْيَةٌ طَعامُ" قَالَ: لِأَنَّ الطَّعَامَ هُوَ الْفِدْيَةُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ نَعْتًا لِأَنَّهُ جوهر ولكنه يجوز على البدل، وأبين من أَنْ يُقْرَأَ" فِدْيَةٌ طَعامُ" بِالْإِضَافَةِ، لِأَنَّ" فِدْيَةٌ" مبهمة تقع للطعام وغيره، فصار مِثْلَ قَوْلِكَ: هَذَا ثَوْبٌ خَزٌّ. الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ، فَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ. رَوَى الْبُخَارِيُّ:" وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا [الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا] عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَزَلَ رَمَضَانُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَكَانَ مَنْ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا تَرَكَ الصَّوْمَ مِمَّنْ
__________
(1) . راجع ج 12 ص 171.(2/287)