وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
{لِّلصَّابِرينَ} {لَئِن}
(126) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِالعَدْلِ فِي القَصَاصِ، وَالمُمَاثَلَةِ فِي الاسْتِيفَاءِ لِلحَقِّ، فَإِنْ أَخَذَ رَجُلٌ مِنْكُمْ شَيْئاً، فَخُذُوا مِثْلَهُ. وَفِي مَعْرَكَةِ أُحُدٍ قُتِلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ (عَمُّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم) وَمَثَّلَ المُشْرِكُونَ بِجُثَّتِهِ، فَاغْتَاظَ الرَّسُولُ لِذَلِكَ كَثِيراً وَقَالَ: " لَئِنْ أَظْهَرَنِي اللهُ عَلَيْهِمْ لأُمَثِلَّنَ بِثَلاَثِينَ رَجُلاً مِنْهُمْ " فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةُ، فَكَفَّرَ الرَّسُولُ عَنْ يَمِينِهِ وَأَمْلَكَ عَنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ المُؤْمِنِينَ إِذَا صَبَرُوا، وَلَمْ يَقْتَصُّوا لأَنْفُسِهِمْ، كَانَ ذَلِكَ خَيْراً لَهُمْ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ.
وَلِهَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ أَمْثَالٌ فِي القُرْآنِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ العَدْلِ وَالنَّدْبِ إِلَى الفَضْلِ {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَاْ} ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} .(1/2027)
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)
(127) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ الكَرِيمَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا أَصَابَهُ مِنْ أَذًى فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمِنْ إِعْرَاضٍ عَنِ الدَّعْوَةِ، وَيُخْبِرُهُ بِأَنَّ الصَّبْرَ لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَعَوْنِهِ وَقُوَّتِهِ، وَيَقُولُ لَهُ لاَ تَحْزَنْ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ، وَلاَ تَكُنْ فِي ضِيقٍ وَغَمٍّ مِمَّا يُجْهِدُونَ أَنْفُسَهُمْ بِهِ فِي عَدَاوَتِكَ، وَإِيصَالِ الأَذَى إِلَيْكَ، فَإِنَّ اللهَ كَافِيكَ وَنَاصِرُكَ وَمُظْهِرُكَ عَلَيْهِمْ.
ضَيْقٍ - ضِيقِ صَدْرٍ وَحَرَجٍ.(1/2028)
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
(128) - إِنَّ اللهَ مُؤَيِّدٌ بِنَصْرِهِ وَعَوْنِهِ وَهُدَاهُ الذِينَ آمَنُوا، وَاتَّقَوْا مَحَارِمَ رَبِّهِمْ، فَاجْتَنَبُوهَا خَوْفاً مِنْ عِقَابِهِ، وَالذِينَ يُحْسِنُونَ رِعَايَةَ فَرَائِضِهِ، وَالقِيَامَ بِحُقُوقِهِ، وَلُزُومَ طَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَفِي تَرْكِ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ.(1/2029)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
{سُبْحَانَ} {الأقصى} {بَارَكْنَا} {آيَاتِنَآ}
(1) - يُمَجِّدُ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ الكَرِيمَةُ، وَيُنَزِهُهَا عَنْ شِرْكِ مَنْ أَشْرَكَ، وَيُعَظِّمُ شَأْنَهُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَقَدْ أَسْرَى بِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَيْلاً مِنْ مَكَّةَ (المَسْجِدِ الحَرَامِ) ، إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ (المَسْجِدِ الأَقْصَى) ، وَهُوَ المَسْجِدُ الذِي بَارَكَ اللهُ مَا حَوْلَهُ، مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ وَنَبَاتٍ. . لِيُرِيَ عَبْدَهُ مُحَمَّداً، مِنْ آيَاتِهِ العِظَامِ، مَا فِيهِ الدَّلِيلُ القَاطِعُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَهُوَ السَّمِيعُ لأَقْوَالِ العِبَادِ، البَصِيرُ بِأَحْوَالِهِمْ.
(كَانَ الإِسْرَاءُ قَبْلَ خَمْسِ سِنِينَ مِنَ الهِجْرَةِ، فَأَسْرَى اللهُ تَعَالَى بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وِفْقاً لِمَا جَاءَ فِي الأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) .
(وَاخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ حَوْلَ مَا إِذَا كَانَ الإِسْرَاءُ قَدْ تَمَّ بِبَدَنِهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، أَوْ بِرُوحِهِ فَقَطْ. وَأَكْثَرُ الفُقَهَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ أَسْرَي بِهِ بِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ، يَقْظَةً لاَ مَنَاماً. وَلَمَّا حَدَّثَ الرَّسُولُ قُرَيْشاً بِإِسْرَائِهِ اسْتَغْرَبُوا ذَلِكَ كَثِيراً، وَأَخَذُوا يَسْأَلُونَهُ عَنْ صِفَاتِ بَيْتِ المَقْدِسِ، فَأَخَذَ يَصِفُهُ لَهُمْ، فَقَالُوا: أَمَّا النَّعْتَ فَصَحِيحٌ.
وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ بِبَدَنِهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَدَأَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ: {سبحانالذي أسرى بِعَبْدِهِ} ، فَالتَّسْبِيحُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الأُمُورِ العِظَامِ، فَلَوْ كَانَ الأَمْرُ لَمْ يَتَعَدَّ المَنَامَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَبِيرُ شَيءٍ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعْظِماً، وَلَمَا ارْتَدَّتْ جَمَاعَةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ عَنِ الإِسْلاَمِ، وَلَمَا بَادَرَتْ قُرَيْشٌ إِلَى تَكْذِيبِهِ، ثُمَّ إِنَّ عِبَارَةَ (عَبْدِهِ) تَدُلُّ عَلَى مَجْمُوعِ الرُّوحِ وَالجَسَدِ. وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى عَنْ هَذَا الإِسْرَاءِ: {مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى} وَالبَصَرُ مِنَ آلاَتِ الذَّاتِ لاَ الرُّوحِ.
وَمَنْ آمَنَ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى التِي لاَ حُدُودَ لَهَا، لاَ يَسْتَعْظِمُ أَنْ يُسْرِيَ اللهُ بِرَسُولِهِ مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى بِجَسَدِهِ، لأنَّ الإِسْرَاءَ بِالنَّبِيِّ بِجَسَدِهِ هُوَ أَمَامَ قُدْرَةِ اللهِ فِي مِثْلِ السُّهُولَةِ التِي يُسْرَى بِهِ بِرُوحِهِ، وَلِذَلِكَ فَلاَ يَسْتَغْرِبْ مُؤْمِنٌ بِاللهِ وُقُوعَ هَذا الحَادِثِ) .
وَقَدْ جَاءَ فِي كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَبُوءَتَانِ لِنَبِيَّيْنِ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ تُشِيرَ أُولاَهُمَا إِلَى أَنَّ سَيِّدَ الرُّسُلِ أُوْ رَسُولَ اللهِ سَيَزُورُ بَيْتَ المَقْدِسِ (الهَيْكَلَ) فَجْأَةً. وَتَقُولُ الأٌخْرَى إِنَّهُ سَيُعْرَجُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ لِيَمْثُلَ فِي حَضْرَةْ الرَّبِّ العَظِيمِ لِيَمْنَحَهُ المَجْدَ وَالسُّلْطَانَ لإِبَادَةِ الشِّرْكِ مِنَ الأَرْضِ. وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هَذا الشَّرَفَ العَظِيمَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ هُوَ المَقْصُودُ بِالنَّبُوءَتَيْنِ.(1/2030)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)
{وَآتَيْنَآ} {الكتاب} {وَجَعَلْنَاهُ} {إِسْرَائِيلَ}
(2) - وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى التَّوْرَاةَ عَلَى عَبْدِهِ مُوسَى (الكِتَابَ) وَجَعَلَهُ هَادِياً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَمَرَهُمْ بِأَلاَّ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيّاً، وَلاَ نَصِيراً، وَلاَ مَعْبُوداً (وَكِيلاً) ، يَكِلُونَ أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ، وَيُعَوَِّلُونَ فِيهَا عَلَيْهِ.(1/2031)
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
(3) - وَيُهِيبُ اللهُ تَعَالَى بِذُرِّيَّةِ مَنْ كَانُوا مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ - وَيُرَادُ بِهِمْ هُنَا بَنُو إِسْرَائِيلَ - أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِأَبِيهِمْ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، الذِي كَانَ عَبْداً كَثِيرَ الشُّكْرَانِ لَهُ (شَكُوراً) ، وَأَنْ يَقْتَدُوا بِهِ، كَمَا اقْتَدَى بِهِ المُؤْمِنُونَ المُخْلِصُونَ مِنْ أَسْلاَفِهِمْ.(1/2032)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
{إِسْرَائِيلَ} {الكتاب}
(4) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَضَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ بِأَنَّهُمْ سَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ، وَسَتَكُونُ لَهُمْ قُوَّةٌ وَسَيْطَرَةٌ، وَغَلَبٌ فِي الأَرْضِ، وَفَي كُلِّ مَرَّةٍ يَجْعَلُونَ فِيهَا القُوَّةَ وَالسَّيْطَرَةَ وَسِيلَةً لِلطُّغْيَانِ، وَالفَسَادِ فِي الأَرْضِ، يُسَلِّطُ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَنْ يَقْهَرُهُمْ، وَيُعَاقِبُهُمْ عِقَاباً شَدِيداً، وَيَسْتَبِيحُ حُرُمَاتِهِمْ، وَيُدَمِّرُهُمْ تَدْمِيراً.(1/2033)
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
(5) - فَإِذَا حَانَ وَقْتُ العِقَابِ، عَلَى إِفْسَادِهِمْ فِي الأَرْضِ فِي المَرَّةِ الأُوْلَى، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عِبَاداً مُؤْمِنِينَ مِنْ خَلْقِهِ، ذَوِي بَطْشٍ شَدِيدٍ فِي الحُرُوبِ، فَقَهَرُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَرَدَّدُوا خِلاَلَ بُيُوتِهِمْ وَمَساكِنِهِمْ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً، وَلاَ يَخَافُونَ عَلَيْهِمْ رِدَّةً. وَكَانَ وَعْدُ اللهِ وَمَا قَضَاهُ كَائِناً لاَ بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، كَمَا قَضَى اللهُ وَأَعْلَمَ.
وَقَدْ وَرَدَتْ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ حَوْلَ (العِبِادِ) الذِينَ سَيُسَلِّطُهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكُلُّهَا تَجْعَلُ هؤُلاَءِ مِنَ الأَقْوَامِ البَائِدَةِ (الآشُورِيِّينَ وَالكِلْدَانِيِّينَ وَالرُّومَانِ. . .) عَلَى اعْتِبَارِ أَنْ تِلْكَ الأَقْوَامَ سَبَقَ لَهَا أَنْ أَذَاقَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الوَيْلاَتَ، وَدَمَّرَتْ مُلْكَهُمْ، وَشَرَّدَتْهُمْ فِي الأَرْضِ.
وَلَكِّنَ الأُسْتَاذَ مُحَمَّد مُتْوَلِّي الشِّعْرَاوِيَّ يَرَى أَنَّ العِبَادَ الذِينَ عَنَاهُمُ النَّصُّ هُمُ المُسْلِمُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ شُعُوبِ الأَرْضِ. وَيَدْعَمُ رَأْيَهُ بِمَا خُلاَصَتُهُ:
أ - اسْتَعْمَلَتِ الآيَةُ تَعْبِيرَ (فَإِذَا جَاءَ) ؛ (وَإِذَا) ظَرَفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ، يَعْنِي أَنَّ الفِعْلَ المُحْكِيَّ عَنْهُ سَيَحْدُثُ بَعْدَ القَوْلِ الذِي تَضَمَّنَ لَفْظَةَ (إِذَا جَاءَ) . وَهَذا يَعْنِي أَنَّ الأَمْرَ الذِي قَضَاهُ اللهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ سَيَقَعُ بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ القُرْآنِيَّةِ التِي أَشَارَتْ إِلَى مَا قَضَاهُ اللهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقاً بِحَادِثٍ وَقَعَ قَبْلَهَا.
ب - اسْتَعْمَلَتِ الآيَةُ عِبَارَةَ (عِبَاداً لَنَا) . وَعِبَادُ اللهِ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ، فِي التَّعْبِيرِ القُرْآنِي تَعْنِي أَنَّ القَوْمَ الذِينَ سَيُسَلِّطُهُمُ اللهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَبِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كُتُبٍ، وَمَنْ أَرْسَلَ مِنْ رُسُلٍ وَأَنْبِيَاءٍ لِهِدَايَةِ البَشَرِ، وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ اليَوْمَ مَنْ تَجْتَمِعُ فِيهِمْ هَذِهِ الأَوْصَافُ غَيْرُ المُسْلِمِينَ.
كَمَا أَنَّ الأُمَمَ الخَالِيَةَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَها مَنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَنْهَا إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ الخَالِصِ.
ج - إِنَّ العِبَادَ الذِينَ سَيُسَلِّطُهُمُ اللهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ هُمْ أَنْفُسُهُمْ فِي المَرَّتَيْنِ، وَإِنَّ اليَهُودَ سَيَتَغَلَّبُونَ عَلَى هؤُلاَءِ العِبَادِ بَعْدَ المَرَّةِ الأًُولَى، ثُمَّ يَرُدُّ اللهُ تَعَالَى الكَرَّةَ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، بَعْدَ أَنْ يُمْعِنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَسَاداً فِي الأَرْضِ وَطُغْيَاناً. وَلَمْ يَبْقَ مِنَ الأُمَمِ الخَالِيَّةِ بَقِيَّةٌ يُمْكِنُ أَنْ تُنْسَبَ إِلَى أَسْلاَفِهَا المُؤْمِنِينَ أَيْضاً لِتَقُومَ عَنْهُمْ بِالانْتِقَامِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَيْرُ أَهْلِ الإِسْلاَمِ.
وَيَرَى الأُسْتَاذُ مُحَمَّد مُتْوَلِّي الشَّعْرَاوِيّ أَنَّ اليَهُودَ كَانَ لَهُمْ سُلْطَانٌ فِي الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ فَأَكْثَرُوا الفَسَادَ زَمَنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَتَآمَرُوا عَلَى الرَّسُولِ وَالمُسْلِمِينَ، فَسَلَّطَ اللهُ المُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلُوا بَعْضَهُمْ، وَأَخْرَجُوا البَاقِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللهُ تَعَالَى فِي النَّصِّ قَهْرَ اليَهُودِ فِي المَرَّةِ الأُوْلَى مِنْ قِبَلِ عِبَادِ اللهِ مُتَلاَزِماً مَعَ دُخُولِ هَؤُلاَءِ العِبَادِ المَسْجِدَ الأَقْصَى، وَلاَ بِحُدُوثِ ذَلِكَ فِي أَرْضِ فِلَسْطِينَ. وَفِي الحَقِيقَةِ إِنَّ المَسْجِدَ الأَقْصَى كَانَ، حِينَمَا قَهَرَ المُسْلِمُونَ اليَهُودَ فِي الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ، تَحْتَ حُكْمِ الرُّومَانِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْيَهُودِ فِي فِلَسْطِينَ سُلْطَانٌ وَلاَ كَيَانٌ مُتَمَيِّزٌ فِي ذَلِكَ الحِينِ.(1/2034)
ثُمَّ يَبْتَعِدُ المُسْلِمُونَ عَنْ دِينِهِمْ، وَيَتْرُكُونَ الأَخْذَ بِشَرِيعَتِهِمْ، وَتَتَفَرَّقُ كَلِمَتُهُمْ، فَيُدِيلُ اللهُ لِلْيَهُودِ عَلَيْهِمْ، بَعْدَ أَنْ يُمِدَّهُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ، وَيَجْعَلَهُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً مِنْهُمْ فِي المَرَّةِ الأُوْلَى.
ثُمَّ يَسْتَسْلِمُ اليَهُودُ إِلَى الإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ، وَيَرْجِعُونَ إِلَى مَسْلَكِهِمْ القَدِيمِ فِي الإِسَاءَةِ إِلَى عِبَادِ اللهِ، وَيَسْتَطِيلُونَ عَلَى مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَيَعُودُ المُسْلِمُونَ إِلَى دِينِهِمْ، فَتَتَّحِدُ كَلِمَتُهُمْ، وَيَجْمَعُونَ قُوَاهُمْ، وَيُهَاجِمُونَ اليَهُودَ لِيَنْتَقِمُوا مِنْهُمْ فَيَقْهَرُونَهُمْ، وَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ المَسْجِدَ الأَقْصَى لاَ يُنَازِعُهُمْ فِي دُخُولِهِمْ إِلَيْهِ مُنَازِعٌ (كَمَا وَقَعَ لَهُمْ فِي المَرَّةِ الأُوْلَى بَعْدَ أَنِ احْتَلُّوا فِلَسْطِينَ وَطَرَدُوا الرُّومَانَ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ أَخْرَجُوا اليَهُودَ مِنَ الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ) ، وَيُدَمِّرُونَ مَا يَمْلِكُهُ اليَهُودُ تَدْمِيراً شَامِلاً.
وَإِذَا أَضَفْنَا إِلَى حُجَجِ الأُسْتَاذِ شَعْرَاوِي المُسْتَوْحَاةِ مِنَ النَّصِّ القُرْآنِيِّ الكَرِيمِ حَدِيثاً لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم (رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ) عَنْ مُسْتَقْبَلِ العِلاَقَاتِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ وَاليَهُودِ، وَمَا سَيَكُونُ مِنَ المُسْلِمِينَ مِنْ قَتْلِ اليَهُودِ قَتْلاً ذَرِيعاً لاَ يَبْقُونَ فِيهِ وَلاَ يَذَرُونَ، نَجِدُ أَنَّ الرَّأْيَ الذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أُسْتَاذُنا الجَلِيلُ يَقُومُ عَلَى سَنَدٍ مَتِينٍ. وَالحَدِيثُ الذِي رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ هُوَ التَّالِي:
" لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ المُسْلِمُونَ اليَهُودَ فَيَقْتُلُهُمْ المُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِيءَ اليَهُودِيُّ وَرَاءَ الحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الحَجَرُ وَالشَّجَرُ يَا عَبْدَ اللهِ هَذا يَهُوِدٌّي خَلْفِي تَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلاَّ الغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ اليَهُودِ " (صَدَقَ رَسُولُ اللهِ) .(1/2035)
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
{وَأَمْدَدْنَاكُم} {بِأَمْوَالٍ} {وَجَعَلْنَاكُمْ}
(6) - حَتَّى إِذَا ذَاقَ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَيْلاَتَ القَهْرِ وَالذُّلِّ وَالغَلَبِ، رَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ، فَجَمَعُوا شَمْلَهُمْ، وَأَصْلَحُوا أُمُورَهُمْ، وَاسْتَنْجَدُوا بِبَعْضِ عِبَادِ اللهِ الذِينَ لاَ يُدْرِكُونَ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ نُفُوسُهُمْ، وَفِي ذَلِكَ الحِينِ يَكُونُونَ قَدْ كَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَتَزَايَدَ عَدَدُهُمْ، وَيَكُونَ أَعْدَاؤُهُمُ - العِبَادُ المُؤْمِنُونَ - قَدِ ابْتَعَدُوا عَنْ دِينِهِمْ، وَمَنْهَجِ شَرِيعَتِهِمْ، فَيُعَاقِبُهُمُ اللهُ، وَيُدِيلُ لِلْيَهُودِ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأَنَّ اليَهُودَ عَادُوا إِلَى اللهِ تَائِبِينَ مُخْلِصِينَ، وَالْتَزَمُوا بِمَا شَرَعَهُ لَهُمْ رَبُّهُمْ فِي كِتَابِهِمْ، وَإِنَّمَا لأَنَّ أَعَدَاءَهُمْ هُمُ الَّذِينَ ابْتَعَدُوا عَنْ دِينِهِمْ، وَتَفَرَّقََتْ كَلِمَتُهُمْ، فَسَلَّطَ اليَهُودَ عَلَيْهِمْ (كَمَا جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ فِي الإِصْحَاحِ التَّاسِعِ مِنْ سِفْرِ تَثْيِنَةِ الاشْتِرَاعِ) .(1/2036)
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
{الآخرة}
(7) - وَيُقَرِّرُ اللهُ تَعَالَى هُنَا القَاعِدَةَ الثَّابِتَةَ التِي لاَ تَتَغَيَّرُ أَبَداً، وَهِيَ أَنَّ عَمَلَ الإِنْسَانِ عَائِدٌ عَلَيْهِ بِنَتَائِجِهِ إِنْ خَيْراً فَخَيْراً، وَإِنْ شَرّاً فَشَرّاً. فَإِنْ أَحْسَنَ الإِنْسَانُ كَانَ إِحْسَانُهُ لِنَفْسِهِ. يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، فَفِي الدُّنْيا يَدْفَعُ اللهُ عَنْهُ الأَذَى، وَيَرُدُّ كَيْدَ أَعْدَائِهِ إِلَى نُحُورِهِمْ، وَيَزِيدُهُ قُوَّةً. وَأَمَّا فِي الآخِرَةِ فَإِنَّ اللهَ يُثِيبُهُ عَلَى عَمَلِهِ بِالجَنَّةِ، وَيَمُنُّ عَلَيْهِ بِرِضْوَانِهِ.
فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ العِقَابِ عَلَى إِفْسَادِهِمْ فِي الأَرْضِ فِي المَرَّةِ الثَّانِيَّةِ، فَإِنَّ الأَعْدَاءَ الذِينَ غَلَبَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَسْتَجْمِعُونَ قُوَاهُمْ، وَيَنْدَفِعُونَ لِعِقَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ المَرَّةَ المَسْجِدَ الأَقْصَى، وَيُذِيقُونَهُمْ أَنْوَاعاً مِنَ القَهْرِ وَالوَيْلاَتِ وَالإِذْلاَلِ، وَيَقْتُلُونَهُمْ قَتْلاً ذَرِيعاً، وَيُخَرِّبُونَ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ أَيْدِيهِمْ مِمَّا كَانَ يَمْلِكُهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، حَتَّى لَتُرَى آثَارُ المَسَاءَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ.(1/2037)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
{لِلْكَافِرِينَ}
(8) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّهُ قَدْ يَرْحَمُهُمْ، وَيَصْرِفُ عَنْهُمْ عَدُوَّهُمْ، بَعْدَ المَرَّةِ الثَّانِيَةِ، إِذَا اسْتَفَادُوا مِنَ الدُّورُسِ وَالعِبَرِ، وَعَادُوا إلى طَرِيقِ الحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَكَفُّوا عَنِ ارْتِكَابِ المَعَاصِي وَالفَسَادِ فِي الأَرْضِ، وَقَتْلِ الأَنْبِيَاءِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَيُهَدِّدُهُمْ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ إِنْ عَادُوا إِلَى الإِفْسَادِ، عَادَ اللهُ إِلَى الإِدَالَةِ عَلَيْهِمْ، وَتَسْلِيطِ الأَعْدَاءِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا.
(وَقَدْ سَلَّطَ اللهُ المُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ فَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ، وَفَرَضُوا عَلَيْهِمُ الجِزْيَّةَ، وَأَذَاقُوهُمْ وَيْلاَتِ الحُرُوبِ) .
وَيُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنَّ مَصِيرَ الكُفَّارِ وَالمُفْسِدِينَ وَاحِدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُوَ العَذَابِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، التِي تَحْصُرُهُمْ جَمِيعاً، وَتُحِيطُ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَلاَ يُفْلِتُ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
حَصِيراً - سِجْناً أَوْ مِهَاداً أَوْ فِرَاشاً.(1/2038)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)
{القرآن} {الصالحات}
(9) - يَمْدَحُ اللهُ تَعَالَى القُرْآنَ، إِنَّهُ يَتَّصِفُ بِثَلاَثِ صِفَاتٍ:
- يَهْدِي لأَقْوَمِ الطُّرُقِ، وَأَوْضَحِ السُّبُلِ.
- إِنَّهُ يُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ وِفْقَ مَا شَرَعَهُ اللهُ، أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً عِنْدَ رَبِّهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ.
- إِنَّهُ يُنْذِرُ الكَافِرِينَ الذِينَ يَكْذِبُونَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللهِ، وَبِرِسَالَةِ رُسُلِهِ، وَبِالمَعَادِ يَوْمَ القِيَامَةِ لِلْحِسَابِ وَالجَزَاءِ.
هِيَ أَقْوَمُ - أَسَدُّ الطُّرُقِ، وَهِيَ مِلَّةُ الإِسْلاَمِ وَالتَّوْحِيدِ.(1/2039)
وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
(10) - وَيُنْذِرُ اللهُ تَعَالَى الَّذِينَ لاَ يُصَدِّقُونَ بِالمَعَادِ فِي الأخِرَةِ، وَلاَ يُقِرُّونَ بِوُجُودِ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ عَلَى الأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا، فَلاَ يَتَحَاشَوْنَ ارْتِكَابَ المَعَاصِي. . . بِأَنَّهُ تَعَالَى أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً فِي الآخِرَةِ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَمَا اجْتَرَحُوهُ مِنَ الآثَامِ.
أَعْتَدْنَا - أَعْدَدْنَا.(1/2040)
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
{الإنسان}
(11) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ عَجَلَةِ الإِنْسَانِ، وَدُعَائِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ بِالشَّرِّ حِينَ الغَضَبِ، كَمَا يُسَارِعُ إِلَى الدُّعَاءِ فِي الخَيْرِ، فَلَوِ اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ لأَهْلَكَهُ وَأَهْلَكَ أَهْلَهُ. وَالَّذِي يَحْمِلُ الإِنْسَانَ عَلَى ذلِكَ هُوَ قَلَقُهُ، وَعَجَلَتُهُ، وَقِلَّةُ صَبْرِهِ.
(وَقَدْ يَكُونُ المَعْنَى: أَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يُبَالِغُ فِي الدُّعَاءِ طَلَباً لِشَيءٍ يُعْتَقَدُ أَنَّ فِيهِ خَيْرَهُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبَ بَلاَئِهِ وَشَرِّهِ لِجَهْلِهِ بِحَالِهِ، وَهُوَ إِنَّمَا يُقْدِمُ عَلَى ذَلِكَ لِكَوْنِهِ عَجُولاً مُغْتَراً بِظَوَاهِرِ الأُمُورِ) .(1/2041)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
{الليل} {آيَتَيْنِ} {الليل} {فَصَّلْنَاهُ}
(12) - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى الهِدَايَةَ وَالإِرْشَادَ بِالقُرْآنِ، جَاءَ عَلَى ذِكْرِ الاسْتِدْلاَلِ بِآيَاتِ اللهِ التِي بَثَّهَا فِي الأَنْفُسِ وَالآفَاقِ، وَلَفْتِ الأَنْظَارِ إِلَيْهَا لِيَتَفَكَّرَ النَّاسُ فِيهَا، وَيَتَّعِظُوا، وَيَتَّقُوا رَبَّهُمْ، وَيُؤْمِنُوا بِهِ، وَبِأَنَّهُ وَاحِدٌ لاَ إِلهَ غَيْرُهُ، وَلاَ رَبَّ سِوَاهُ، تَنَزَّهَ عَنِ الشَّرِيكِ وَالوَلَدِ وَالصَّاحِبَةِ. فَقَالَ: إِنَّهُ جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ مِنْ آيَاتِهِ، فَجَعَلَ اللَّيْلَ مُظْلِماً، وَمَحَا الضِّيَاءَ مِنْهُ لتَسْكُنَ الخَلاَئِقُ فِيهِ، وَتَرْتَاحَ الأَبْدَانُ مِنْ عَنَاءِ العَمَلِ فِي النَّهَارِ. وَجَعَلَ النَّهَارَ مُبْصِراً مُضِيئاً، لِيَسْعَى النَّاسُ فِيهِ طَلَباً لِمَعَاشِهِمْ، وَتَصْرِيفِ أُمُورِهِمْ.
وَقَدْ خَالَفَ اللهُ تَعَالَى بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، طُولاً وَقَصْراً، لِيَعْلَمَ النَّاسُ عَدَدَ السِّنِينَ، وِالحِسَابَ، لأَنَّهُ لَوِ اسْتَمَرَّ الضِّيَاءُ لَمَا عَرَفَ النَّاسُ مِقْدَارَ الوَقْتِ الذِي يَمُرُّ. وَكَذَلِكَ لَوْ جُعَلَ اللَّيْلَ مُسْتَمِرّاً، لَمَا عَرَفَ النَّاسُ مِنْهُ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ بَيَّنَ كُلَّ شَيءٍ، عَلَى نَحْوٍ مُفَصَّلٍ، لِيَعْلَمَ العِبَادُ مَا هُمْ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ، فَتَقُومَ الحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً لِلْمُصَادَفَةِ.
فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ - خَلَقْنَا القَمَرَ مَطْمُوسَ النُّورِ مُظْلِماً.
آيَةَ النهار مُبْصِرَةً - الشَّمْسَ مُضِيئَةً مُنِيرَةً لِلإِبْصَارِ.(1/2042)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)
{إِنْسَانٍ} {أَلْزَمْنَاهُ} {طَآئِرَهُ} {القيامة} {كِتَاباً} {يَلْقَاهُ}
(13) - وَالإِنْسَانُ مُلْتَزِمٌا بِعَمَلِهِ، وَمَسْؤُولٌ عَنْهُ. وَهَذا العَمَلُ مُلْتَصِقٌ بِالإِنْسَانِ، وَمُلاَزِمٌ لَهُ مُلاَزَمَةَ القِلاَدَةِ لِلعُنُقِ، لاَ يَنْفَكُ عَنْهُ بِحَالٍ، وَسَيُؤَاخِذُهُ اللهُ عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُخْرِجُ لَهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ صَحِيفَةَ أَعْمَالِهِ كُلِّهَا، لاَ يَغِيبُ عَنْهَا عَمَلٌ صَغِيرٌ وَلاَ كَبِيرٌ، لِيُحَاسَبَ عَلَى هذِهِ الأَعْمَالِ جَمِيعِهَا.
(وَطَائِرُ الإِنْسَانِ هُنَا عَمَلُهُ الذِي سَبَّبَ الخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَكَانَتِ العَرَبُ تَزْجُرُ الطَّيْرَ، فَإِذَا طَارَ الطَّائِرُ يَمِيناً تَيَمَّنُوا وَتَفَاءَلُوا بِالخَيْرِ، وَإِنْ طَارَ شِمالاً تَشَاءَمُوا وَتَوَجَّسُوا خِيْفَةً مِنَ الشَّرِّ. وَالعَرَبِ تَضْرِبُ مَثَلاً لِلشَّيءِ الذِي يُلاَزِمُ الإِنْسَانَ وَلاَ يُفَارِقُهُ أَبَداً، فَتَقُولُ: أَلْزَمْتُهُ إِيَّاهُ فِي عُنُقِهِ) .(1/2043)
اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
{كِتَابَكَْ}
(14) - وَيُقَالُ لِكُلِّ وَاحِدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ: إِقْرَأْ كِتَابَكَ الذِي يَحْوِي أَعْمَالَكَ كُلَّهَا، صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا، يَكْفِيكَ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ المُحَاسِبَ عَلَى نَفْسِكَ، وَقَدْ عَدَلَ مَعَكَ مَنْ جَعَلَكَ حَسِيباً عَلَى نَفْسِكَ.
حَسِيباً - حَاسِباً وَعَادّاً أَوْ مُحَاسِباً.(1/2044)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
(15) - مَنِ اسْتَقَامَ عَلَى طَرِيقِ الحَقِّ وَاتَّبَعَهُ، وَاتَّبَعَ النُّورَ الذِي بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدُ صلى الله عليه وسلم فِإِنَّهُ يَكُونُ قَدِ اهْتَدَى، وَتَكُونُ عَاقِبَةُ هُدَاهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ عَنِ الحَقِّ، وَزَاغَ عَنْ سَبِيلِ الرَّشَادِ، فَإِنَّمَا يَجْنِي عَلَى نَفْسِهِ، وَيَعُودُ وَبَالُ سَعْيهِ عَلَيْهِ هُوَ، وَلاَ يَحْمِلُ أَحَدٌ ذَنْبَ أَحَدٍ، وَلاَ يَجْنِي جَانٍ إِلاَّ عَلَى نَفْسِهِ.
وَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ لاَ يُعَذِّبُ أَحَداً إِلاَّ بَعْدَ قِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِ، يَدْعُونَهُ إِلَى الحَقِّ.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ حِينَ قَالَ: اكْفُرُوا بِمُحَمَّدٍ وَعَلَيَّ وِزْرُكُمْ) .
لا تَزِرُ وَازِرَةٌ - لاَ تَحْمِلُ نَفْسٌ آثِمَةٌ.(1/2045)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
{فَدَمَّرْنَاهَا}
(16) - فِي قِرَاءَةٍ (أَمَرْنَا) وَجْهَانِ:
(أَمَرْنَا بِالتَّخْفِيفِ - وَهُوَ المَشْهُورُ فِي قِرَاءَتِهَا: فَمِنْ قَائِلٍ: إِنَّ المَعْنَى هُوَ أَنَّهُ إِذَا دَنَا تَعَلُّقِ إِرَادَتِنَا بِإِهْلاَكِ قَرْيَةٍ بِعَذَابِ الاسْتِئْصَالِ لِمَا ظَهَرَ فِيهَا مِنَ المَعَاصِي، وَلَمَّا دَنَّسَتْ بِهِ نَفْسَهَا مِنَ الآثَامِ، لَمْ يُعَاجِلْهَا اللهُ تَعَالَى بِالعُقُوبَةِ، بَلْ يَأْمُرُ مُتْرَفِيهَا بِالطَّاعَةِ فَإِذَا فَسَقُوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَتَمَرَّدُوا، حَقَّ عَلَيْهِمُ العَذَابُ لارْتِكَابِهِمُ الكَبَائِرَ وَالفَوَاحِشَ، فَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى بِتَدْمِيرِ تِلْكَ القَرْيَةِ. (وَخَصَّ اللهُ تَعَالَى المُتْرَفِينَ بِالذِّكْرِ لِمَا جَرَتْ بِهِ العَادَةُ مِنْ أَنَّ العَامَّةَ تُقَلِّدُهُمْ وَتَكُونُ تَبَعاً لَهُمْ، فِيمَا يَفْعَلُونَ) .
- وَمِنْ قَائِلٍ بَلْ إِنَّ المَعْنَى هُوَ: أَنَّ اللَه يُسَخِّرُهُمْ لِفِعْلِ الفَوَاحِشِ فَيَسْتَحِقُّونَ العُقُوبَةَ.
- وَأَمَّرْنا - بِتَشْدِيدِ المِيمِ - وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ مَعْنَاهَا سَلَّطْنَا شِرارَهَا فَعَصَوْا فِيهَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَكَهُمُ اللهُ بِالعَذَابِ. وَهذا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى {وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا} .
- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضاً: إِنَّ مَعْنَى (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) ، أَكْثَرْنَا عَدَدَهُمْ فَيُؤَدّي ذلِكَ إِلى انْتِشَارِ الفِسْقِ وَالفَسَادِ وَالكُفْرِ، فَيُهْلِكُكُم اللهُ بِالعَذَابِ.
أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا - أَمَرْنَا مُنَعَّمِيهَا بِطَاعَةِ اللهِ.
فَفَسَقُواْ فِيهَا - فَتَمَرَّدُوا وَعَصَوْا وَخَرَجُوا عَنِ الطَّاعَةِ.
فَدَمَّرْنَاهَا - اسْتَأْصَلْنَاهَا وَمَحَوْنا آثَارَهَا.(1/2046)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
(17) يُنْذِرُ اللهُ الكُفَّارَ مِنْ قُرَيشٍ، الذِينَ كَذَّبُوا رَسُولَهُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ عَذَابُهُ، عَلَى مَا يَفْعَلُونَ، وَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّهُ أَهْلَكَ أُمَماً مِنَ المُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ، وَإِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ لَيْسُوا أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِمَّنْ أَهْلَكَهُمْ، فَهُمْ يَسْتَحِقُّونَ العُقُوبَةَ بِالأَحْرَى وَالأَوْلَى، لأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَاللهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، وَلاَ تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ.
القُرُونِ - الأُمَمِ المُكَذِّبَةِ السَّالِفَةِ.(1/2047)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)
{يَصْلاهَا}
(18) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لاَ يَصِلُ إِلَى الدُّنْيا وَمَا فِيهَا كُلُّ مَنْ أَرَادَهَا، وَإِنَّمَا يَصِلُ إِلَيْهَا مَنْ أَرَادَ اللهُ لَهُ ذَلِكَ، وَبِالقَدْرِ الَّذِي يُرِيدُهُ اللهُ لَهُ، وَفِي الدَّارِ الآخِرَةِ يَكُونُ مَصِيرُهُ نَارَ جَهَنَّمَ، وَيَدْخُلُهَا حَتَّى تَغْمُرَهُ مِنْ جَوَانِبِهِ (يَصْلاهَا) ، وَهُوَ مَذْمُومٌ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِ وَتَصَرُّفِهِ، إِذْ اخْتَارَ الدُّنْيا الفَانِيَةَ عَلَى الآخِرَةِ البَاقِيَةِ، وَهُوَ مُبْعَدٌ حَقِيرٌ مُهَانٌ (مَدْحُوراً) . وَفِي الحَدِيثِ " الدُّنْيا دَارُ مَنْ لاَ دَارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لاَ مَالَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لاَ عَقْلَ لَهُ " (أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعاً) .
يَصْلاهَا - يَدْخُلُهَا أَوْ يُقَاسِي حَرَّهَا.
مَّدْحُوراً - مَطْرُوداً مُبْعَداً مِنْ رَحْمَةِ اللهِ.(1/2048)
وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
{الآخرة} {فَأُولَئِكَ}
(19) - وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَمَا فِيهَا مِنْ نَعِيمٍ وَسُرُورٍ، وَرِضْوَانٍ مِنَ اللهِ، وَطَلَبَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِهِ، وَهُوَ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ قَلْبُهُ مُؤْمِناً مُصَدِّقاً بِالثَّوَابِ وَالجَزَاءِ وَاليَوْمَ الآخِرِ، فَأُولئِكَ يَشْكُرُ اللهُ سَعْيَهُمْ وَيَجْزِيهِمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ، وَهُوَ دُخُولُ الجَنَّةِ.(1/2049)
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
(20) - وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الفَرِيقَيْنِ: الذِينَ أَرَادُوا الدُّنْيا وَزِينَتَها، وَالذِين أَرَادُوا الآخِرَةَ وَنَعِيمَهَا، وَسَعَوْا لَهَا سَعْيَها، يَمُدُّهُمُ اللهُ فِيمَا هُمْ فِيهِ (مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ) ، فَهُوَ المُتَصَرِّفُ الحَاكِمُ الذِي لاَ يَجُوزُ، فَيُعْيِطي كُلاًّ مِنْهُمْ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا المِقْدَارَ الذِي يَقْتَضِيهِ صَلاحُهُ، ثُمَّ تَخْتَلِفُ الأَحْوَالُ: فَفَرِيقُ العَاجِلَةِ يُصْرَفُ إِلَى جَهَنَّمَ، وَفَرِيقُ الآجِلَةِ يَصِيرُ إِلَى الجَنَّةِ. وَعَطَاءُ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَمْنَعَهُ أَوْ يَرُدَّهُ أَوْ يُنْقِصَ مِنْهُ.
كُلاًّ نُمِدُّ - نَزِيدُ مِنَ العَطَاءِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى.
مَحْظُوراً - مَمْنُوعاً عَمَّنْ يُرِيدُهُ اللهُ.(1/2050)
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
{وَلَلآخِرَةُ} {دَرَجَاتٍ}
(21) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّهُ فَضَّلَ النَّاسَ، بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فِي الدُّنْيا: فِي المَالِ وَالجَمَالِ وَالحَيَاةِ وَالعَمَلِ وَالأَعْمَارِ، لِحِكْمَةٍ وَأَسْبَابٍ اقْتَضَتْهَا حِكْمَتُهُ، وَإِنَّ تَفَاوُتَهُمْ فِي الآخِرَةِ سَيَكُونُ أَكْبَرَ مِنْ تَفَاوُتِهِمْ فِي الدُّنْيا، وَسَيَكُونُ تَفَاضُلُهُمْ فِي الآخِرَةِ أَكْبَرَ مِنْ تَفَاضُلِهِمْ فِي الدُّنْيا.(1/2051)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
{آخَرَ}
(22) - وَيُخَاطِبُ اللهُ تَعَالَى المُكَلَّفِينَ مِنَ الأُمَّةِ فَيَقُولُ لَهُمْ: لاَ تَجْعَلْ أَيُّهَا الإِنْسَانُ للهِ شَرِيكاً وَأَنْتَ تَعْبُدُهُ، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ قَعَدْتَ مَذْمُوماً عَلَى إِشْرَاكِكَ بِرَبِّكَ، مَخْذُولاً لاَ يَنْصُرُكَ اللهُ، وَيَكِلُكَ إِلَى مَنْ عَبَدْتَهُ، وَهُوَ لاَ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً، وَلاَ يَمْلِكُ لَكَ أَنْتَ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً.(1/2052)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
{وبالوالدين} {إِحْسَاناً}
(23) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ (وَقَضَى رَبُّكَ - يَعْنِي أَمَرَ رَبُّكَ وَوَصَّى) ، وَوَصَّى اللهُ المُؤْمِنِينَ بِالإِحْسَانِ إِلَى الوَالِدَيْنِ، فَإِذَا بَلَغَا الكِبَرَ، أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا، عِنْدَ أَبْنَائِهِمَا، فَعَلَى الأَبْنَاءِ أَلاَّ يُسْمِعُوهُمَا قَوْلاً سَيِّئاً حَتَّى وَلاَ تَأَفُّفاً (وَأُفٍّ كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى الضَّجَرِ وَالضِّيقِ) ، وَيَجِبُ أَنْ لاَ يَنْتَهِرُوهُمَا، وَأَنْ لاَ يَصْدُرَ مِنْهُمْ إِلَيْهِمَا فِعْلٌ قَبِيحٌ يَدُلُّ عَلَى سُوءِ الأَدَبِ. وَأَمَرَ اللهُ الأَبْنَاءَ بِالإِحْسَانِ فِي القَوْلِ إِلى الأَبَوَيْنِ وَتَوْقِيرِهِمَا، وَبِاسْتِعْمَالِ الكَلاَمِ الطَّيِّبِ الكَرِيمِ فِي مُخَاطَبَتِهِمَا (فَلاَ نِعْمَةَ تَصِلُ إِلَى الإِنْسَانِ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَةِ الخَالِقِ ثُمَّ نِعْمَةِ الأَبَوَيْنِ) .
قَضَى رَبُّكَ - أَمَرَ وَأَلْزَمَ وَحَكَمَ.
أُفٍّ - كَلِمَةُ تَضَجُّرٍ وَتَبَرُّمٍ.
لا تَنْهَرْهُمَا - لاَ تَزْجُرْهُمَا عَمَّا لا يُعْجِبُكَ.
قَوْلاً كَرِيماً - حَسَناً لَيِّناً جَمِيلاً.(1/2053)
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
(24) - وَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى الأَبْنَاءَ بِالتَّوَاضُعِ للأَبَوَيْنِ فِي تَصَرُّفِهِمْ مَعَهَمُا، حَتَّى يَبْدُو الأَبْنَاءَ وَكَأَنَّهُمْ أَذِلاَّءُ مِنْ شِدَّةِ الرَّحْمَةِ، لاَ يَرُدُّونَ لَهُمَا طَلَباً، وَلاَ يَرْفُضُونَ لَهُمَا أَمْراً. ثُمَّ أَمْرَ الأَبْنَاءَ بِالدُّعَاءِ لِلأَبَوَيْنِ، وَالتَّرَحُّمْ عَلَيْهِمَا، جَزَاءَ مَا احْتَمَلاَه فِي تَرْبِيَةِ الأَبْنَاءِ مِنْ عَنَاءٍ وَمَشَقَّةٍ وَعَنَتٍ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا، ثُمَّ دَخَلَ النَّارَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأَبْعَدَهُ اللهَ وَأَسْحَقَهُ ") . (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ) .(1/2054)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
{صَالِحِينَ} {لِلأَوَّابِينَ}
(25) - رَبُّكُمْ أَيُّها النَّاسُ أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ مِنْ تَعْظِيمِكُمْ أَمْرَ آبَائِكُمْ وَأُمَهَاتِكُمْ، وَالبِرِّ بِهِمْ، وَمِنَ الاسْتِخْفَافِ بِحُقُوقِهِمْ، وَالعُقُوقِ لَهُمْ، وَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَى حَسَنِ ذلِكَ وَسَيِّئِهِ، فَاحْذَرُوا أَنْ تُضْمِروا لَهُمْ سُوءاً، أَوْ تَجْعَلُوا لَهُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عُقُوقاً، فَأَنْتُمْ إِنْ أَصْلَحْتُمْ نِيَّاتِكُمْ فِيهِمْ، وَأَطَعْتُمْ رَبَّكُمْ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ البِرِّ بِهِمْ، بَعْدَ هَفْوَةٍ كَانَتْ مِنْكُمْ، أَوْ زَلَّةٍ فِي وَاجِبٍ لَهُمْ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لَكُمْ مَا فَرَطَ مِنْكُمْ، فَهُوَ غَفَّارٌ لِمَنْ يَتُوبُ مِنْ ذَنْبِهِ، وَيَرْجِعُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ إِلَى طَاعَتِهِ.
لِلأَوَّابِينَ - لِلتَّوَابِينَ عَمَّا فَرَطَ مِنْهُمْ.(1/2055)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
{وَآتِ}
(26) - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى بِرَّ الوَالِدَيْنِ، عَطَفَ عَلَى ذِكْرِ الإِحْسَانِ إِلَى الأَقَارِبِ، وَإلى صِلَةِ الأَرْحَامِ، وَالتَّصَدُّقِ عَلَى الفُقَرَاءِ، وَالمَسَاكِينِ، وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ العَابِرِينَ، الَّذِينَ انْقَطَعَتْ نَفَقَتُهُمْ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " أُمُّكَ وَأَبُوكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ ") .
(وَفِي الحَدِيثِ أَيْضاً: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَجَلِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ") .
وَبَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالإِنْفَاقِ نَهَى عَنِ الإِسْرَافِ فِيهِ، وَحَثَّ عَلَى الاعْتِدَالِ (وَلاَ تُبْذِّرْ تَبْذِيراً) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: التَّبْذِيرُ هُوَ الإِنْفَاقُ فِي غَيْرِ حَقٍّ، فَلَوْ أَنْفَقَ الإِنْسَانُ مَالَهُ كُلَّهُ فِي أَوْجِهِ الحَقِّ لَمْ يَكُنْ مُبَذِراً، وَإِذَا أَنْفَقَ مُدّاً فِي غَيْرِ حَقٍّ كَانَ مُبَذِراً.(1/2056)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
{إِخْوَانَ} {الشياطين} {الشيطان}
(27) - وَالمُبَذِّرُونَ هُمْ قُرَنَاءَ الشَّيَاطِينَ فِي السَّفْهِ وَالتَّبْذِيرِ وَتَرْكِ طَاعَةِ اللهِ، وَارْتِكَابِ مَعْصِيَتِهِ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ كَفُوراً بِنِعْمَةِ رَبِّهِ، جَحُوداً بِهَا، لأَنَّهُ أَنْكَرَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِطَاعَتِهِ.
(وَتَقُولُ العَرَبُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ لاَزَمَ سُنَّةَ قَوْمٍ، وَاتَّبَعَ أَثَرَهُمْ هُوَ أَخُوهُمْ) .(1/2057)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
(28) - فَإِذَا سَأَلَكَ أَقَارِبُكَ، وَمَنْ أَمَرَكَ اللهُ بِإِعْطَائِهِمْ، وَلَيْسَ لَدَيْكَ شَيءٌ تُعْطِيهِم إِيَّاهُ، وَأَعْرَضْتَ عَنْهُمْ لِضِيقِ اليَدِ، وَفُقْدَانِ مَا تُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، فَعِدْهُمْ وَعْداً لَيِّناً جَمِيلاً، تَطِيبُ بِهِ قُلُوبُهُمْ، وَقُلْ لَهُمْ إِذَا جَاءَكَ رِزْقٌ فَسَتَصِلُهُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ.(1/2058)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
(29) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَىعِبَادَهُ بِالاقْتِصَادِ فِي العَيْشِ، وَيَنْهَى عَنِ السَّرَفِ، فَيَقُولُ: لاَ تَكُنْ أَيًّهَا الإِنْسَانُ بَخِيلاً مَنُوعاً لاَ تُعْطِي أَحَداً شَيْئاً، وَلاَ تُسْرِفْ فِي الإِنْفَاقِ فَتُعْطِي فَوْقَ طَاقَتِكَ، فَإِذَا بَخِلْتَ قَعْدَتَ مَلُوماً يَلُومُكَ النَّاسُ عَلَى البُخْلِ وَيَذمُّونَكَ، وَإِذَا بَسَطْتَ يَدَكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ افْتَقَرْتَ وَقَعَدْتَ بِلاَ شَيءٍ تُنْفِقُهُ، فَتَكُونُ كَالحَسِيرِ الكَلِيلِ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بِالبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالفُجُورِ فَفَجَرُوا ") . (أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالحَاكِمُ) .
يَدَكَ مَغْلُولَةً - كِنَايَةٌ عَنِ الشُّحِّ.
تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ - كِنَايَةٌ عَنِ التَّبْذِيرِ وَالإِسْرَافِ.
مَحْسُوراً - نَادِماً، أَوْ مُنْقَطِعاً بِكَ نَدَماً. وَالدَّابَّةُ الحَسِيرُ - التِي تَتَوَقَّفُ عَنِ السَّيْرِ كَلالاَ وَإِعْيَاءً.(1/2059)
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
(30) - إِنَّ رَبَّكَ أَيُّها الرَّسُولُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِ، وَيُقَتِّرُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِ، لِمَا لَهُ مِنَ الحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ خَبِيرٌ بِعِبَادِهِ، فَيَعْرِفُ مَنْ يُصْلِحُهُ الغِنَى فَيُغْنِيهِ، وَمَنْ يُصْلِحُهُ الفَقْرُ. . وَهُوَ بَصِيرٌ بِتَدْبِيرِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " إِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ لاَ يُصْلِحُهُ إِلاَّ الفَقْرُ، وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لأَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دِينَهُ، وَإٍِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ لاَ يُصْلِحُهُ إِلاَّ الغِنَى، وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لأَفْسَدْتُ عَلَيْهِ دِينَهُ ") .
يَقْدِرُ - يُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ لِحِكْمَةٍ.(1/2060)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
{أَوْلادَكُمْ} {إِمْلاقٍ}
(31) - وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَوْفَ أَنْ تَفْتَقِرُوا إِذَا أَنْفَقْتُمْ عَلَيْهِمْ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ بَعْضُ أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ، إِذْ كَانُوا يَئِدُونَ بَنَاتِهِمْ وَهُنَّ أَحْيَاءٌ. فَاللهُ تَعَالَى مُتَكَفِّلٌ بِرِزْقِهِمْ وَرِزْقِكُمْ مَعاً، وَقَتْلُهُمْ فِيهِ ذَنْبٌ عَظِيمٌ، وَخَطِيئَةٌ كَبِيرَةٌ.
خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ - خَوْفَ فَقْرٍ وَفَاقَةٍ.
خِطْئاً كَبِيراً - إِثْماً عَظِيماً.(1/2061)
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
{فَاحِشَةً}
(32) - يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ عَنْ مُقَارَفَةِ الزِّنَى، وَمُبَاشَرَةِ أَسْبَابِهِ وَدَوَاعِيهِ، فَهُوَ فِعْلَةٌ ظَاهِرَةُ القُبْحِ (فَاحِشَةً) ، وَبِئْسَ طَرِيقاً وَمَسْلَكاً (سَاءَ سَبِيلاً) ، لِمَا فِيهِ مِنِ اخْتِلاَطِ الأَنْسَابِ، وَفَسَادِ العَلاَقَةِ بَيْنَ الأَزْوَاجِ، لِضَيَاعِ الثِّقَةِ الوَاجِبِ تَوَفُّرُهَا لاطْمِئْنَانِ الحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " مَا مِنْ ذَنْبٍ بَعْدَ الشِّرْكِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ نُطْفَةٍ يَضَعَهَا رَجُلٌ فِي رَحْمٍ لاَ يَحِلُّ لَهُ ") . (أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيا عَنِ الهَيْثَمْ بْنِ مَالِكٍ الطَّائِيِّ مَرْفُوعاً) .(1/2062)
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
{سُلْطَاناً}
(33) - يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ شَرِعِيٍّ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " لَزَوَالُ الدُّنْيا أَهْوَنُ عِنْدَ اللهِ مِنْ قَتْلِ مُسْلِمٍ ") . (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، وَفِي الحَدِيثِ أَيْضاً " لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلِمٌ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالزَّانِي المُحْصنِ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ، المُفَارِقِ لِلجَمَاعَةِ " (وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ) .
ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ يُوجِبُ قَتْلَهُ، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً وَسَلَّطَهُ عَلَى القَاتِلِ، إِنْ شَاءَ قَتْلَهُ قوَداً، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَأَخَذَ الدِّيةَ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ بِغَيْرِ دِيَةٍ.
ثُمَّ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى وَلِيَّ المَقْتُولِ بِأَلاَّ يَتَجَاوَزَ الحَدَّ المَشْرُوعَ بِأَنْ يَقْتُلَ اثْنَيْنِ مُقَابِلَ وَاحِدٍ، أَوْ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ غَيْرِ القَاتِلِ، كَإِخْوَتِهِ وَأَقْرِبَائِهِ. وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ وَلِيَّ المَقْتُولِ مَنْصُورٌ عَلَى القَاتِلِ، بِأَنْ أَوْجَبَ لَهُ القِصَاصَ أَوِ الدِّيَةَ وَأَمَرَ الحُكَّامَ بِأَنْ يُعِينُوهُ فِي اسْتِيفَائِهِ حَقَّهُ.
سُلْطَاناً - تَسَلُّطاً عَلَى القَاتِلِ بِالقَصَاصِ أَوِ الدِّيَةَ.(1/2063)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
(34) - وَبَعْدَ أَنْ نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْ إِتْلاَفِ الأَنْفُسِ، نَهَى عَنْ إِتْلاَفِ الأَمْوَالِ، وَأَحَقُّ الأَمْوَالِ بِالرِّعَايَةِ مَالُ اليَتِيمِ، فَبَدَأَ اللهُ تَعَالَى بِدَعْوَةِ المُؤْمِنِينَ إِلَى المُحَافَظَةِ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَلاَ تَتَصَرَّفُوا بِمَالِ اليَتِيمِ إِلاَّ بِالطَّرِيقَةِ التِي هِيَ أَحْسَنُ الطُّرُقِ، وَهِيَ طَرِيقَةُ حِفْظِهِ وَتَثْمِيرِهِ لأَنَّهُ ضَعِيفٌ عَنْ تَدْبِيرِ مَالِهِ، عَاجِزٌ عَنِ الذَّوْدِ عَنْهُ، وَالجَمَاعَةُ المُسْلِمَةُ مُكَلَّفَةٌ بِرِعَايَةِ اليَتِيمِ وَمَالِهِ، حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، وَالقُدْرَةُ عَلَى العِنَايَةِ بِمَالِهِ وَتَدْبِيرِهِ. وَبِمَا أَنَّ رِعَايَةَ مَالِ اليَتِيمِ وَشَخْصِهِ عَهْدٌ عَلَى الجَمَاعَةِ المُسْلِمَةِ، لِذَلِكَ أَلْحَقَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الوَفَاءَ بِالعَهْدِ إِطْلاَقاً، وَحَثَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ يَسْأَلُ عَنِ الوَفَاءِ بِالعَهْدِ وَيُحَاسِبُ عَلَيْهِ مَنْ يَنْكُثُ بِهِ وَيَنْقُضُهُ.
يَبْلُغَ أَشُدَّهُ - قُدْرَتَهُ عَلَى حِفْظِ مَالِهِ وَرُشْدِهِ فِيهِ.(1/2064)
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
(35) - وَالوَفَاءُ بِالْكَيْلِ وَالاسْتِقَامَةِ فِي الوَزْنِ هُمَا مِنْ أَمَانَاتِ التَّعَامُلِ، يَسْتَقِيمُ بِهِمَا التَّعَامُلُ فِي الجَمَاعَةِ، وَتَتَوَافَرُ بِهِمَا الثِّقَةُ فِي النُّفُوسِ، وَلِذلِكَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْمُرُ المُؤْمِنِينَ بِإِيفَاءِ الكَيْلِ وَالمِيزَانِ وَإِتْمَامِهِمَا مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ وَلاَ تَطْفِيفٍ، وَبِأَنْ يَزِنُوا بِمِيزَانٍ عَادِلٍ سَلِيمٍ مَضْبُوطٍ (المُسْتَقِيمِ) .
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى إِنَّ الوَفَاءَ بِالعَهْدِ وَإِيفَاءِ الكَيْلِ وَالوَزْنِ خَيْرٌ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّكْثِ بِالعَهْدِ، وَبَخْسِ النَّاسِ حَقَهُمْ فِي المِكْيَالِ وَالمِيزَانِ، وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً وَمُنْقَلَباً فِي الآخِرَةِ.
بِالقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ - بِالمِيزَانِ العَدْلِ المَضْبُوطِ الصَّحِيحِ.
أَحْسَنُ تَأْوِيلاً - أَحْسَنُ مَالاً وَعَاقِبَةً.(1/2065)
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
{أولئك} {مَسْؤُولاً}
(36) - يَنْهَى اللهُ تَعَالَى العِبَادَ عَنِ القَوْلِ بِلاَ عِلْمٍ، وَبُدُونِ تَثَبُّتٍ، فَعَلَى المُؤْمِنِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنِ الحَدِيثِ فِي أَمْرٍ عَلَى الظَّنِّ وَالشُّبْهَةِ وَالتَّوَهُّمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ بِمَا رَأَتْ عَيْنَاكَ، وَسَمِعَتُهُ أُذُنَاكَ، وَوَعَاهُ قَلْبُكَ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ ") . وَيَقُولُ تَعَالَى لِلعِبَادِ إِنَّهُ سَيَسْأَلُهُمْ عَنْ أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأَفْئِدَتِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَعَمَّا اجْتَرَحَتْهُ كُلُّ جَارِحَةٍ مِنْ هَذِهِ الجَوَارِحِ.
لاَ تَقْفُ - لاَ تَتْبَعْ.(1/2066)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
(37) - يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ عَنِ التَّجّبُّرِ، وَالتَّبَخْتُرِ فِي المَشْيَةِ، كَمَا يَفْعَلُ الجَبَّارُونَ، فَيَقُولُ تَعَالَى: وَلاَ تَمْشِ أَيُّها الإِنْسَانُ فِي الأَرْضِ مُتَكَبِّراً مُتَخَايِّلاً مَزْهُوّاً بِقُوَّتِكَ فَأَنْتَ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ التِي تَمْشِي عَلَيْهَا، بِشِدَّةِ وَطْئِكَ عَلَيْهَا بِقَدَمَيْكَ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطَاوِلَ الجِبَالَ، وَلاَ أَنْ تَبْلُغَ طُولَ قِمَمِهَا.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: " مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ، فَهُوَ فِي نَفْسِهِ حَقِيرٌ، وَعِنْدَ النَّاسِ كَبِيرٌ ") .
مَرَحاً - فَرَحاً وَبَطَراً وَاخْتِيَالاً وَافْتِخَاراً.(1/2067)
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
(38) - لَقَدْ نَهَى اللهُ تَعَالَى فِي الآيَاتِ السَّابِقَاتِ عَنْ أُمُورٍ، كَمَا أَمَرَ بِأُمُورٍ، وَجَمِيعِ مَا نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ (وَهُوَ سَيِّئُهُ) : مِنَ الإِشْرَاكِ بِاللهِ تَعَالَى، وَالتَّبْذِيرِ وَالتَّأَفُفِ مِنَ الوَالِدَيْنِ، وَغَلِّ اليَدِ بُخْلاً، وَقَتْلِ الأَبْنَاءِ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ، وَالمَشْيِ مَرَحاً. . . هُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ اللهِ مَمْقُوتٌ.(1/2068)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
{آخَرَ}
(39) - وَهَذا الذِي أَمْرَناَكِ بِهِ مِنَ الأَخْلاَقِ الحَسَنَةِ، وَنَهَيْنَاكَ عَنْهُ مِنَ الصِّفَاتِ الذَمِيمَةِ، هُوَ مِمَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ياَ مُحَمَّدُ مِنْ فِقْهِ الدِّينِ، وَمَعْرِفَةِ أَسْرَارِهِ، وَمِنَ الحِكَمِ فِي تَشْرِيعِهِ لِتَأْمُرَ النَّاسَ بِهِ. وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ عَاقِبَتُكَ نَارَ جَهَنَّمَ، فَتَلُومَ نَفْسِكَ وَيَلُومَكَ اللهُ وَالخَلْقُ (مَلُوماً) وَتَكُونَ مُبْعَداً وَمَطْرُوداً مِنْ كُلِّ خَيْرٍ (مَدْحُوراً) .
(وَالمَقْصُودُ بِهَذا الخِطَابِ الأُمَّةِ الإِسْلاَمِيَّةُ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ، فَهُوَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ مَعْصُومٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ ") .
مَّدْحُوراً - مُبْعَداً مِنْ رَحَمَةِ اللهِ.(1/2069)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
{أَفَأَصْفَاكُمْ} {الملائكة} {إِنَاثاً}
(40) - يَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى المُشْرِكِينَ الذِينَ زَعَمُوا أَنَّ المَلاَئِكَةَ هُمْ إِنَاثٌ، وَأَنَّهُمْ بَنَاتُ اللهِ، ثُمَّ عَبَدُوهُمْ. فَقَالَ تَعَالَى مُنْكِراً عَلَيْهِمْ زَعْمَهُمْ هَذا: أَخَصَّكُمُ اللهُ بِالذُّكُورِ، وَاخْتَارَ لِنَفْسِهِ البَنَاتَ حَسْبَمَا زَعَمْتُمْ، وَأَنْتُمْ لاَ تَرْضَوْنَ الإِنَاثَ لأَنْفُسِكُمْ، فَتَجَعَلُونَ لَهُ مَا لاَ تَرْضَوْنَ لأَنْفُسِكُمْ؟ إِنَّكُمْ أَيُّهَا المُشْرِكُونَ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً فِي بَشَاعَتِهِ فِي نِسْبَةِ الوَلَدِ للهِ، ثُمَّ فِي خَصِّ اللهِ بِالإِنَاثِ.
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ - أَفْضَّلَكُمْ رَبُّكُمْ فَخَصَّكُمْ؟(1/2070)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)
{القرآن}
(41) - وَلَقَدْ بَيَّنَّا فِي هَذا القُرْآنِ الآيَاتِ وَالحُجَجِ، وَضَرَبْنَا لِلنَّاسِ الأَمْثَالَ، وَحَذَّرْنَاهُمْ وَأَنْذَّرْنَاهُمْ، لِيَذَّكَّرُوا، وَيَتَّعِظُوا، فَيَقِفُوا عَلَى بُطْلاَنِ مَا يَقُولُونَ، وَلَكِنَّهُمْ مَعْ ذَلِكَ كُلِّهِ لاَ يَتَّعِظُونَ، وَلاَ يَتَذَكَّرُونَ بِمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الآيَاتِ وَالنَّذُرِ، بَلْ لاَ يَزِيدُهُمُ التَّذْكِيرُ إِلاَّ نُفُوراً وَبُعْداً عَنِ الحَقِّ.
صَرَّفْنَا - كَرَّرْنَا القَوْلَ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ.
نُفُوراً - تَبَاعُداً وَإِعْرَاضاً عَنِ الحَقِّ.(1/2071)
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)
{آلِهَةٌ}
(42) - وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الشُّفَعَاءَ وَالأَنْدَادَ، فَيَقُولُ لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ للهِ شُرَكَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، العَابِدِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ لِيُقَرِّبَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى: لَوْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ، وَأَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى تُعْبَدُ لِتُقَرِّبَ إِلَيْهِ، وَيَبْتَغُونَ إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ وَالقُرْبَةَ، فَاعْبُدُوهُ أَنْتُمْ وَحْدَهُ، كَمَا يَعْبُدُهُ مِنْ دُوْنِهِ، وَلاَ حَاجَةَ لَكُمْ إِلَى مَعْبُودٍ يَكُونُ وَسِيطاً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، فَاللهُ لاَ يُحِبُّ ذَلِكَ.
(وَقِيلَ إِنَّ المَعْنَى هُوَ: لَطَلَبَ هَؤُلاَءِ الآلِهَةُ طَرِيقاً يَصِلُونَ مَعَهُ إِلَى صَاحِبِ المُلْكِ المُطْلَقِ لِيُنَازِعُوهُ عَلَيْهِ) .
لاَّبْتَغَوْاْ - لَطَلَبُوا.
سَبِيلاً - بِالمُطَالَبَةِ وَالمُمَانَعَةِ أَوْ بِالتَّقَرُّبِ.(1/2072)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)
{سُبْحَانَهُ} {وتعالى}
(43) - ثُمَّ نَزَّهَ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ الكَرِيمَةَ، وَقَدَّسَهَا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ، فَقَالَ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُهُ المُشْرِكُونَ الظَّالِمُونَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ مَعَهُ آلِهَةٌ أُخْرَى، بَلْ هُوَ وَاحِدٌ أَحَدٌ صَمَدٌ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْواً أَحَدٌ.(1/2073)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
{السماوات}
(44) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّهُ تُقَدِّسُهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ مِنَ المَخْلُوقَاتِ، وَتُنَزِهُهُ وَتُعَظِّمُهُ وَتُجِلُّهُ عَمَّا يَقُولُهُ المُشْرِكُونَ، وَتَشْهَدُ لَهُ بَالرُّبُوبِيَّةِ وَالوَحْدَانِيَّةِ، وَمَا مِنْ شَيءٍ فِي الوُجُودِ إِلاَّ يُسَبِحُ بِحَمْدِهِ، وَلَكِنَّ النَّاسَ لاَ يَفْهَمُونَ تَسْبِيحَهُمْ، لأَنَّ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ لُغَةً، وَوَسِيلَةً لِلتَّعْبِيرِ عَنْ تَسْبِيحِهِ رَبَّهُ. وَكَانَ اللهُ حَلِيماً لاَ يُعَاجِلُ مَنْ عَصَاهُ بِالعُقُوبَةِ، بَلْ يُؤَجِّلَهُ وَيُنْظِرَهُ، فَإِنْ تَابَ وَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ مُسْتَغْفِراً غَفَرَ لَهُ، وَإِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَغَيِّهِ أَخَذَهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ.(1/2074)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
{القرآن} {بالآخرة}
(45) - وَإِذَا قَرَأْتَ، يَا مُحَمَّدَ، القُرْآنَ عَلَى هَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ، جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ حِجَاباً مَسْتُوراً عَنِ الأَبْصَارِ، يَمْنَعُ وُصُولَ الهُدَى إِلَى قُلُوبِهِمْ، وَذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَاقْتِرَافِهِمِ المُنْكَرِ وَالمَعَاصِي، التِي تَجْعَلُ القُلُوبَ مُظْلِمَةً، وَتَضَعُ عَلَيْهَا أَغْشِيَّةً تَحْجِبُ عَنْهَا الهُدَى.
حِجَاباً مَسْتُوراً - حِجَاباً سَاتِراً، أَوْ مَسْتُوراً عَنِ الحِسِّ.(1/2075)
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
{آذَانِهِمْ} {القرآن} {أَدْبَارِهِمْ}
(46) - وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَغْطِيَّةً (أَكِنَّةً) تَغْشَى عَلَيْهَا فَلاُ يَفْقَهُونَ مِنَ القُرْآنِ الذِي تَقْرَؤُهُ شَيْئاً، وَجَعْلَنَا فِي آذَانِهِمْ صَمَماً ثَقِيلاً يَمْنَعُهُمْ مِنَ السَّمْعِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لاَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَإِذَا تَلَوْتَ مِنَ القُرْآنِ مَا يَتَّحَدَّثُ عَنْ وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى أَدْبَرُوا رَاجِعِينَ نَافِرِينَ مِنْهُ، لأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ سَمَاعَ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ: اللاَّتِ وَالعُزَّى. . .
أَكِنَّةً - أَغْطِيَّةً كَثِيرَةً مَانِعَةً.
وَقْراً - صَمَماً وَثِقَلاً فِي السَّمْعِ عَظِيماً.(1/2076)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
{الظالمون}
(47) - وَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالوَجْهِ الذِي يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِلَى القُرْآنِ، وَهُوَ الهُزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالتَّكْذِيبِ بِهِ حِينَ اسْتِمَاعِهِمْ إِلَيْكَ، وَأَعْلَمُ بِمَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ وَيَتَسَارُّونَ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: مَجْنُونٌ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ، كَاهِنٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: رَجُلٌ مَسْحُورٌ.
هُمْ نَجْوَى - يَتَنَاجَوْنَ فِي أَمْرِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ.
مَسْحُوراً - مُغْلُوباً عَلَى عَقْلِهِ بِالسِّحْرِ، أَوْ سَاحِراً.(1/2077)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
(48) - وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ الكَرِيمِ: انْظُرْ كَيْفَ يَضْرِبُ هَؤُلاَءِ لَكَ الأَمْثَالَ، وَقَدْ ضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى طَرِيقِ الحَقِّ، لِضَلاَلِهِمْ عَنْهُ، وَبُعْدِهِمْ مِنْهُ.(1/2078)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
{أَإِذَا} {عِظَاماً} {وَرُفَاتاً} {أَإِنَّا}
(49) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَمَّا قَالَهُ الكُفَّارُ، وَهُمْ يَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَ الحَشْرِ وَالمِعَادِ، فَيَسْتَفْهِمُونَ اسْتِفْهَامَ مُنْكِرٍ: هَلْ إِذَا صِرْنَا عِظَاماً وَتُرَاباً هَلْ سَنُخْلَقُ مِنْ جَدِيدٍ خَلْقاً آخَرَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ إِنَّ هَذا لَشَيْءٌ لاَ يُصَدِّقُهُ العَقْلُ السَّلِيمُ.
رُفَاتاً - أَجْزَاءً مُفَتَّتَةً أَوْ تُرَاباً أَوْ غُبَاراً.(1/2079)
قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)
(50) - وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ الكَرِيمَ بِأَنْ يَرُدَّ عَلَى هَؤُلاَءِ المُسْتَبْعِدِينَ إِمْكَانَ وُقُوعِ الحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالخَلْقِ الجَدِيدِ بَعْدَ المَوْتِ وَالبَلَى، بِقَوْلِهِ: كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً، وَهُمْ أَشَدُّ امْتِنَاعاً مِنَ العِظَامِ وَالرُّفَاتِ لِقُبُولِ الحَيَاةِ.(1/2080)
أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
{رُؤُوسَهُمْ}
(51) - وَقُلْ لَهُمْ: أَوْ كُونُوا أَيُّ شَيْءٍ، مِمَّا تَعْتَقِدُونَهُ عَظِيماً فِي أَنْفُسِكُمْ كَالجِبَالِ وَالأَرْضِ، فَإِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَبْعَثَكُمْ أَحْيَاءً. وَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا إِذَا كُنَّا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً آخَرَ مِمَّا يُسْتَبْعَدُ قُبُولُهُ لِلحَيَاةِ؟ فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: يُعِيدُكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ أَوًَّلَ مَرَّةٍ (فَطَرَكُمْ) وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئاً مَذْكُوراً، ثُمَّ صِرْتُمْ بَشَراً تَنْتَشِرُونَ، فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِكُمْ، وَلَوْ صِرْتُمْ عَلَى أَيِّ حَالٍ، وَلَنْ يُعْجِزَهُ إِحْيَاؤُكُمْ. وَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ الكَافِرِينَ حِينَمَا يَسْمَعُونَ هَذا الجَوَابَ مِنْ رَسُولِ اللهِ سَيُحَرِّكُونَ رُؤُوسَهُمْ حَرَكَةَ اسْتِهْزَاءٍ، وَيَقُولُونَ: مَتَى يَكُونُ هَذا الحَشْرُ وَالمَعَادُ؟ اسْتِبْعَاداً مِنْهُمْ لِوُقُوعِهِ. وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ الكَرِيمَ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ: إِنَّهُ قَدْ يَكُونُ قَرِيباً فَلْيَحْذَرُوا ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَرِيبٌ إِلَيْهِمْ وَسَيَأْتِيهِمْ لاَ مَحَالَةَ.
يَكْبُرُ - يَعْظُمُ عَنْ قُبُولِ الحَيَاةِ كَالسَّمَاوَاتِ.
فَطَرَكُمْ - أَبْدَعَكُمْ وَأَحْدَثَكُمْ.
فَسَيُنْغِضُونَ - يُحَرِّكُونَ رُؤُوسَهُمْ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلٍ وَمِنْ أَسْفَلٍ إِلَى أَعْلَى حَرَكَةَ اسْتِهْزَاءٍ.(1/2081)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
(52) - وَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ يَدْعُو اللهُ عِبَادَهُ فَيَقُومُونَ كُلُّهُمْ اسْتِجَابَةً لأَمْرِهِ، وَطَاعَةً لإِرَادَتِهِ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا فِي الدُّنْيا إِلاَّ قَلِيلاً مِنَ الوَقْتِ، وَهَذا يُقَلِّلُ مِنْ قِيمَةِ الدُّنْيا، بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا همُ ْمُقْدِمُونَ عَلَيْهِ.
بِحَمْدِهِ - مُنْقَادُونَ انْقِيَادَ الحَامِدِينَ لَهُ.(1/2082)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
{الشيطان} {لِلإِنْسَانِ}
(53) - وَيَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ الكَرِيمَ بِأَنْ يَنْصَحَ المُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَقُولُوا فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ، وَمُحَاوَرَتِهِم الكَلاَمِيَّةِ، العِبَارَاتِ الأَحْسَنِ، وَالكَلِمَاتِ الأَطْيَبِ، فَإِنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ نَزَعَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمْ، وَأَوْقَعَ بَيْنَهُمُ الشَّرَّ وَالمُخَاصَمَةَ، وَالعَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ، فَهُوَ عَدٌّو لِذُرِّيَّةِ آدَمَ، ظَاهِرُ العَدَاوَةِ سَافِرُهَا.
يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ - يُفْسِدُ وَيُهَيِّجُ الشَّرَّ بَيْنَهُمْ.(1/2083)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)
{أَرْسَلْنَاكَ}
(54) - رَبَّكُمْ هُوَ العَلِيمُ بِكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الهِدَايَةَ وَبِمَنْ لاَ يَسْتَحِقُّهَا، فَإِنْ شَاءَ رَحِمَكُمْ بِتَوفِيقِكُمْ إِلَى طَاعَتِهِ، وَالإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَكُمْ بِصَرْفِكُمْ عَنِ الإِيمَانِ وَالهُدَى، فَتَمُوتُونَ عَلَى شِرْكِكُمْ، وَتَصِيرُونَ إِلَى النَّارِ وَعَذَابِهَا. فَعَاقِبَةُ النَّاسِ مَجْهُولَةٌ، وَلاَ يَعْلَمُ الغَيْبَ إِلاَّ اللهُ، وَلَمْ نُرْسِلْكَ يَا مُحَمَّدُ وَكِيلاً عَلَيْهِمْ لِتُجْبِرَهُمْ عَلَى الإِيمَانِ بِاللهِ، وَإِنَّمَا أَرْسَلْنَاكَ مُبَشِراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللهِ، وَحِسَابُ النَّاسِ عَلَى اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ.
وَكِيلاً - مَوْكُولاَ إِلَيْكَ أَمْرُهُمْ.(1/2084)
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
{السماوات} {النبيين} {وَآتَيْنَا}
(55) - وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَرَاتِبِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، فِي الطَّاعَةِ وَالمَعْصِيَّةِ، وَقَدْ فَضَّلَ بَعْضُ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ. . . وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ} ، وَهُوَ تَفْضِيلُ اللهِ أَعْلَمُ بِأَسْبَابِهِ. وَهَذا القَوْلُ لاَ يُنَافِي مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " لاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ "، فَالمَقْصُودُ هُنَا التَّفْضِيلُ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِي وَالعَصَبِيَّةِ، لاَ بِمُقْتَضَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَلَكِنْ إِذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى شِيءٍ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ، وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الرُّسُلَ أَفْضَلُ مِنْ بَاقِي الأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ أَولِي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أَفْضَلُهُمْ.
وَأُوْلُو العَزْمِ هُمْ خَمْسَةٌ: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدُ. وَيَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ أَتَى دَاوُدَ زَبُوراً، وَفَضَّلَهُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَمْ يُفَضِّلَهُ بِالمُلْكِ.
الزَّبُورُ - كِتَابٌ فِيهِ تَحْمِيدٌ وَتَمْجِيدٌ لِلْخَالِقِ وَمَوَاعِظُ.(1/2085)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)
(56) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ الذِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللهِ: ادْعُوا الأَصْنَامَ وَالأَنْدَادَ - الذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ أَرْبَابٌ وَآلِهَةٌ مِنْ دُونِ اللهِ - حِينَ يَنْزِلُ بِكُم الضُّرُّ إِلَى عَوْنِكُمْ، وَلِرَفْعِ الضُّرِّ عَنْكُمْ، فَإِنَّهُمْ لاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ، وَلاَ يَمْلِكُونَ تَحْوِيلَهُ إِلَى غَيْرِكُمْ، وَالذِي يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، لاَ شَرِيكَ لَهُ.
تَحْوِيلاً - نَقْلَهُ إِلَى غَيْرِكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَعْبُدْهُمْ.(1/2086)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
{أولئك}
(57) - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الإِنْسِ كَانُوا يَعْبُدُونَ جَمَاعَةً مِنَ الجِنِّ، فَأَسْلَمَ الجِنِّيُّونَ، وَالإِنْسَ لاَ يَدْرُونَ بِإِسْلاَمِهِمْ، وَبَقُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِهِمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. يَقُولُ تَعَالَى لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ جَمِيعاً: إِنَّ هَؤُلاَءِ الذِينَ تَدْعُونَهُمْ آلِهَةٌ، وَتَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ، هُمْ عِبَادٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ، وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَيَعْمَلُونَ جَاهِدِينَ عَلَى الفَوْزِ بِالقُرْبِ مِنْهُ تَعَالَى، بِالطَّاعَةِ وَالقُرْبَةِ، وَأَكْثَرُ هَؤُلاَءِ المَعْبُودِينَ قُرْباً مِنَ اللهِ يَدْعُو اللهَ، وَيَبْتَغِي إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ وَالقُرْبَةَ مِنْهُ، وَيَخْشَى عَذَابَهُ وَعِقَابَهُ. فَإِذَا كَانَ هَذا هُوَ حَالُ هَؤُلاَءِ الأَرْبَابِ فَكَيْفَ تَعْبُدُونَهُمْ؟ وَمَا أَجْدَرَكُمْ أَنْ تَتَوَجَّهُوا إِلَى اللهِ الوَاحِدِ الأَحَدِ الخَالِقِ القَاهِرِ بِالعِبَادَةِ وَالدُّعَاءِ وَالخَشْيَةِ، كَمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ بِهَا الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ أَنْتُمْ وَتَدْعُونَهُمْ أَرْبَاباً. وَعَذَابُ اللهِ خَلِيقٌ بِأَنْ يُحْذَرَ، وَيُخَافَ مِنْهُ.
الوَسِيلَةَ - القُرْبَةَ بِالطَّاعَةِ وَالعِبَادَةِ.(1/2087)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
{القيامة} {الكتاب}
(58) - وَمَا مِنْ قَرْيَةٍ مِنَ القُرَى التِي ظَلَمَ أَهْلُهَا أَنْفُسَهُمْ بِالكُفْرِ وَالمَعَاصِي، إِلاَّ وَيُهْلِكُهَا اللهُ، وَيُهْلِكُ أَهْلَها، وَيُبِيدَهُمْ بِالاسْتِئْصَالِ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ، أَوْ يُعَذِّبُهُمْ بِابْتِلاَئِهِمْ بِأَصْنَافٍ مِنَ العَذَابِ، بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ، وَخَطَايَاهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ مُثْبَتاً فِي عِلْمِ اللهِ، أَوْ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: " إِنَّ أَوْلَ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ. فَقَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبِ المُقَدَّرَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ") .
(أَخْرََجَهُ التِّرْمِذِيُّ) .(1/2088)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
{بالآيات} {وَآتَيْنَا}
(59) - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَباً، وَأَنْ يُنَحَِّي عَنْهُمْ جِبَالَ مَكَّةَ فَيَزْرَعُوا، عَلَى أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ إِنْ حَقَّقَ لَهُمْ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ: أَوَتَفْعَلُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ رَبَّهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَقُولُ لَكَ: إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَباً، فَمَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَذَّبْتُهُ عَذَاباً لاَ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ العَالَمِينَ. وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ لَهُمْ أَبْوَابَ التَّوْبَةَ وَالرَّحْمَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: بَلْ بَابُ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ.
وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ الكَرِيمِ: إِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ إِلَى قُرَيْشٍ كَمَا سَأَلُوهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ سَهْلٌ عَلَيْهِ يَسِيرٌ، وَلَكِنَّ الذِي مَنَعَهُ مِنْ إِرْسَالِ الآيَاتِ التِي سَأَلُوهَا هُوَ تَكْذِيبُ الأَوَّلِينَ بِمِثْلِهَا، بَعْدَ أَنْ سَأَلُوهَا وَجَائَتْهُمْ. فَإِذَا أَرْسَلَهَا اللهُ إِلَى قُرَيشٍ، وَكَذَّبُوا بِهَا عُوجِلُوا بِالعَذَابِ، وَلَمْ يُمْهَلُوا.
وَقَدْ سَأَلَتْ ثَمُودُ نَبِيَّهَا صَالِحاً أَنْ يُخْرِجَ لَهُمْ نَاقَةَ عُشَرَاءَ، فَدَعَا اللهُ، فَأَخَرَجَهَا لَهُمْ مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ هَذِهِ النَّاقَةَ حُجَّةً وَاضِحَةً، وَدَلاَلَةً عَلَى وَحْدَانِيَّةِ خَالِقِهَا وَقُدْرَتِهِ، وَعَلاَمَةٍ عَلَى صِدْقِ رِسَالَةِ رَسُولِهِ صَالِحٍ، فَكَفَرَتْ ثَمُودُ بِالنَّاقَةِ، وَمَنَعُوهَا شُرْبَهَا، وَقَتَلُوهَا، فَأَبَادَهُمْ اللهُ عَنْ أَخِرِهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى إِنَّهُ يُخَوِّفُ النَّاسَ بِمَا شَاءَ مِنَ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ وَيَرْجِعُونَ إِلَى اللهِ.
مُبْصِرَةً - آيَةً بَيِّنَةً وَاضِحَةً أَوْ ذَاتَ بَصِيرَةٍ لِمَنْ يَتَأَمَّلُهَا.
فَظَلَمُوا بِهَا - فَكَفَرُوا بِهَا ظَالِمِينَ فَأُهْلِكُوا.(1/2089)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
{الرؤيا} {أَرَيْنَاكَ} {القرآن} {طُغْيَاناً}
(60) - يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ الكَرِيمَ عَلَى القِيَامِ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ إِبْلاَغِ الرِّسَالَةِ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القَادِرُ عَلَى عِبَادِهِ، وَهُمْ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَغَلَبَتِهِ، فَلاَ يَقْدِرُونَ عَلَى أَمْرٍ إِلاَّ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَقَدْ عَصَمَكَ اللهُ مِنْ أَعْدَائِكَ، فَلاَ يَقْدِرُونَ عَلَى إِيصَالِ الأَذَى إِلَيْكَ وَمَا جَعَلَ اللهُ الرُّؤْيَا، التِي أَرَاهَا رَسُولَهُ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ، إلاَّ امْتِحَاناً وَاخْتِبَاراً لِلنَّاسِ، فَأَنْكَرَهَا قَوْمٌ، وَكَذَّبُوا بِهَا، وَكَفَرَ بَعْضٌ مَنْ كَانَ أَسْلَمَ وَآمَنَ بِرِسَالَةِ الرَّسُولِ، وَازْدَادَ المُخْلِصُونَ إِيمَاناً.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسَ: إِنَّ الرُّؤْيَا كَانَتْ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيهَا رَسُولُ اللهِ، لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ) .
وَمَا جَعَلَ اللهُ الشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ التِي جَاءَ ذِكْرُهَا فِي القُرْآنِ (وَهِيَ شَجَرَةُ الزَّقُومِ-: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُومِ طَعَامُ الأَثِيمِ-، فَعَجِبَ المُشْرِكُونَ وَاسْتَهْزَؤُوا. . مِنْ وُجُودِ شَجَرَةٍ فِي أَصْلِ الجَحِيمِ. . .) إِلاَّ فِتْنَةًُ لِلنَّاسِ، فَالمُؤْمِنُونَ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً، وَعَلِمُوا أَنَّ الِّذِي جَاءَ هُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا المُجْرِمُونَ المُكَّذِبُونَ فَازْدَادُوا تَشَكُّكاً وَطُغْيَاناً، وَكُفْراً. وَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ يُخَوِّفُ الكُفَّارَ بِالوَعِيدِ، وَالعَذَابِ، وَالنَّكَالِ، فَلاَ يَزِيدُهُمْ ذَلِكَ إِلاَّ طُغْيَاناً، وَتَمَادِياً فِي الكُفْرِ وَالضَّلاَلِ.(1/2090)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)
{للملائكة} {لأَدَمََ} {أَأَسْجُدُ}
(61) - يُذَكِّرُ اللهُ العِبَادَ بِعَدَاوَةِ إِبْلِيسَ لآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ فَيَقُولُ: إِنَّهُ أَمَرَ المَلاَئِكَةَ بِالسُّجُودِ لآدَمَ. فَسَجَدُوا كُلُّهُمْ إِلاَّ إِبْلِيسَ فَإِنَّهُ اسْتَكْبَرَ وَأَبَى السُّجُودَ لآدَمَ اسْتِعْلاَءً عَلَيْهِ، وَاحْتِقَاراً لَهُ، وَقَالَ للهِ العَظِيمِ: كَيْفَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ؟(1/2091)
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
{أَرَأَيْتَكَ} {لَئِنْ} {القيامة}
(62) - وَقَالَ إِبْلِيسُ لِلرَّبِّ الكَرِيمِ مُتَوَاقِحاً: أَلاَ تَرَى إلَى هَذا الَّذِي شَرَّفْتَهُ وَكَرَّمْتَهُ عَلَيَّ فَإِنْ أَخَرْتَنِي وَأَنْظَرْتَنِي إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لأُضِلَّنَّ ذُرِّيَّتَهُ، وَلأُسَيْطِرَنَّ عَلَيْهِمْ، وَلأَحْتَوِيَنَّهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ.
لأَحْتَنِكَنَّ - الاحْتِنَاكُ، لُغَةً، وَضْعُ شَيءٍ فِي حَنَكِ الدَّابَّةِ الأَسْفَلِ لِتُقَادَ بِهِ، أَيْ إِنَّهُ سَيَمْلِكُ نَاصِيَتَهُمْ، وَيُسَيْطِرُ عَلَيْهِمْ. أَوْ لأَسْتَأْصِلَنَّهُمْ بِالإِغْوَاءِ.(1/2092)
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)
(63) - لَمَّا سَأَلَ إِبْلِيسُ النَّظِرَةَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لَهُ: اذْهَبْ لِشَأْنِكَ الذِي اخْتَرْتَهُ، فَقَدْ أَنْظَرْتُكَ. ثُمَّ أَوْعَدَهُ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، نَارَ جَهَنَّمَ، وَأَنَّهَا سَتَكُونُ جَزَاءً لَهُمْ، جَزَاءً وَافِياً كَافِياً لاَ يَنْقُصُ لَهُمْ مِنْهُ شَيءٌ. (جَزَاءً مَوْفُوراً) .(1/2093)
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
{الأموال} {والأولاد} {الشيطان}
(64) - وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لإِبْلِيسَ: وَادْعُ مِنْهُمْ مَنِ اسْتَطَعْتَ إِلَى مَعْصِيَةِ اللهِ، وَاسْتَخِفَّهُ وَأَزْعِجْهُ (اسْتَفْزِزْ) وَاحْمِلْ عَلَيْهِمْ بِجُنُودِكَ: خَيَّالَتِهِمْ وَرَجَّالَتِهِمْ (بِخَيْلِكِ وَرَجِلِكِ) ، وَحَاوِلْ إِغْوَاءَهُمْ بِكُلِّ مَا اسْتَطَعْتَ، وَادْعُهْمِ إِلَى كَسْبِ أَمْوَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ المَشْرُوعِ، وَإِنْفَاقِهَا فِي غَيْرِ الطُّرُقِ التِي أَبَاحَهَا اللهُ، وَاحْمِلُهُمْ عَلَى عِصْيَانِ اللهِ فِي أَوْلاَدِهِمْ بِتَسْمِيَّتِهِمْ بِمَا يَكْرَهُ اللهُ (كَعَبْدِ اللاَّتِ وَعَبْدِ العِزَّى) ، وَبِالزِّنَى بِأُمْهَاتِهِمْ، أَوْ بِإِدْخَالِهِمْ فِي غَيْرِ دِينِ اللهِ، (وَهذَا كُلُّهُ مُشَارَكَةٌ مِنْ إِبْلِيسَ فِي الأَوْلاَدِ) ، وَعِدْهُمْ بِاطِلاً بِالنُّصْرَةِ وَالعَوْنِ. . . فَإِنَّكَ فِي كُلِّ ذَلِكَ لَنْ تُضِلَّ غَيْرَ الضَّالِّينَ، وَهؤُلاَءِ الضَّالُّونَ هُمْ وَحْدَهُمُ الَّذِينَ تَسْتَطِيعُ إِغْوَاءَهُمْ.
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَعِدُ أَوْلِيَاءَهُ إِلاَّ كَذِباً وَبَاطِلاً وَغُرُوراً، لأَنَّهُ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئاً مِنْ عِقَابِ اللهِ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ.
اسْتَفْزِزِ - اسْتَخِفَّ وَاسْتَعْجِلْ أَوْ أَزْعِجْ.
أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ - صِحْ عَلَيْهِمْ وَسُقْهُمْ.
بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ - بِكُلِّ رَاكِبٍ وَمَاشٍ فِي مَعَاصِي اللهِ.
غُرُورواً - بَاطِلاً وَخِدَاعاً.(1/2094)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
{سُلْطَانٌ}
(65) - وَيَقُولُ تَعَالَى لإِبْلِيسَ: أَمَّا عِبَادِي الَّذِينَ أَطَاعُونِي فَاتَّبَعُوا أَمْرِي وَعَصَوْكَ، فَلَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ إِضْلاَلَهُمْ وِلاَ إِغْوَاءَهُمْ، فَهُمْ فِي حِفْظِي، وَحِرَاسَتِي، وَرِعَايَتِي، وَكَفَى بِاللهِ حَافِظاً وَمُؤَيِّداً وَنَصِيراً.
سُلْطَانٌ - تَسَلُّطٌ وَقُدْرَةٌ عَلَى إِغْوَائِهِمْ.(1/2095)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
(66) - وَاللهُ تَعَالَى رَبُّكُمْ هُوَ الذِي سَخَّرَ لَكُمُ السُّفُنَ وَالمَرَاكِبَ، لِتَسِيرَ فِي البَحْرِ، وَتَنْقُلَكُمْ وَأَثْقَالَكُمْ وَأَمْتِعَتَكُمْ وَتِجَارَتَكُمْ، مِنْ مَكَانٍ إِلَىمَكَانٍ، لِتَبْتَغُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَفَضْلِهِ، بِالتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ وَالكَسْبِ، وَتَبَادُلِ الحَاجَاتِ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ.
يُزْجِي - يُجْرِي وَيُسَيِّرُ وَيَسُوقُ بِرِفْقٍ.(1/2096)
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)
{نَجَّاكُمْ} {الإنسان}
(67) - وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ الضُّرُّ فِي البَحْرِ، لَمْ يَجِدُوا غَيْرَ اللهِ تَعَالَى مَنْ يَدْعُونَهُ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، لِيُنْقِذَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ، مِنْ كَرْبٍ وَشِدَّةٍ، وَيَغِيبُ فِي سَاعَةِ الشِّدَّةِ وَالضِّيقِ عَنْ خَوَاطِرِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ وَأَذْهَانِهِمْ كُلُّ مَعْبُودٍ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ غَيْرِ اللهِ، لأَنَّهُمْ يُدْرِكُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ وَحْدَهُ القَادِرُ عَلَى إِنْجَائِهِمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ.
وَلَكِنَّهُمْ حِينَ يُنْجِيهِمُ اللهُ، وَيُعِيدَهُمْ إِلَى البَرِّ سَالِمِينَ، يَنْسَونَ اللهَ الذِي عَبَدُوهُ، وَدَعُوهُ فِي البَحْرِ، وَيَعْرُضُونَ عَنْ دُعَائِهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَمِنْ سَجِيَّةِ الإِنْسَانِ الكُفْرُ، يَنْسَى النِّعَمَ وَيَجْحَدُهَا (وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً) .(1/2097)
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)
(68) - أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّكُمْ بِخُرُوجِكُمْ سَالِمِينَ مِنَ البَحْرِ إِلَى البَرِّ، قَدْ آمِنْتُمْ انْتِقَامَ اللهِ وَعَذَابَهُ؟ فَقَدْ يَخْسِفُ بِكُمْ جَانِبَ البَرِّ بِزِلْزَالٍ أَوْ بُرْكَانٍ. وَقَدْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ رِيحاً شَدِيدَةً تَرْمِيكُمْ بِالحَصْبَاءَ، أَوْ يُهْلِكَكُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَسْبَابِ المُسَخَّرَةِ لِقُدْرَةِ اللهِ، دُونَ أَنْ تَجِدُوا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَكِيلاً يَحْمِيكُمْ وَيَدْفَعُ عَنْكُمْ.
الحَاصِبُ - مَطَرٌ تَسْقُطُ مَعَهُ حَصْبَاءُ، أَوْ رِيحٌ تَحْمِلُ حَصْبَاءَ. وَالحَصْبَاءَ حِجَارَةٌ صَغِيرَةٌ.
أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ - أَنْ يُغَوِّرَ وَيُغَيِّبَ بِكُمْ تَحْتَ الثَّرَى.(1/2098)
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
(69) - أَمْ أَمِنْتُمْ أَيُّها المُعْرِضُونَ عَنْ رَبِّكُمْ فِي البَرِّ، بَعْدَ مَا اعْتَرَفْتُمْ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَأَنْتُمْ فِي البَحْرِ، أَنْ يُعِيدَكُمْ فِي البَحْرِ مَرَّةً أُخْرَى، فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ رِيحاً تَقْصِفُ الصَّوَارِيَ، وَتُغْرِقُ المَركَبَ، بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ، وَإِعْراضِكُمْ عَنِ اللهِ، وَحِينَئِذٍ لاَ تَجِدُونَ لَكُمْ مَنْ يَنْصُرُكُمْ أَوْ يَأْخُذُ بِثَأْرِكُمْ بَعْدَكُمْ.
قَاصِفاً - عَاصِفاً شَدِيداً مُهْلِكاً - أَوْ هُوَ رِيحُ البِحَارِ.
تَبِيعاً - نَصِيراً أَوْ مُطَالِباً بِالثَّأْرِ.(1/2099)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
{ءَادَمَ} {وَحَمَلْنَاهُمْ} {وَرَزَقْنَاهُمْ} {الطيبات} {وَفَضَّلْنَاهُمْ}
(70) يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ تَشْرِيفِهِ لِبَنِي آدَمَ، وَتَكْرِيمِهِ إِيَّاهُمْ بِأَنْ خَلَقَهُمْ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَأَكْمَلِ هَيْئَةٍ، وَبِأَنْ مَيَّزَهُمْ بِالعَقْلِ، وَبِأَنْ حَمَلَهُمْ فِي البَرِّ عَلَى الدَّوَابِ وَغَيْرِهَا، وَفِي البَحْرِ فِي السُّفُنِ وَالمَرَاكِبِ، وَبِأَنْ رَزَقَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ، وَلُحُومٍ وَلِبَاسٍ وَسَكَنٍ، وَمِنْ مَنَاظِرٍ مُبْهِجَةٍ. كَمَا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ تَفْضِيلِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ، بِالعَقْلِ، وَالتَّفْكِيرِ، وَقَدْ فَضَّلَهُمْ بِاسْتِخْلافِهِمْ فِي الأَرْضِ.(1/2100)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
{نَدْعُواْ} {بِإِمَامِهِمْ} {كِتَابَهُ} {كِتَابَهُمْ} {فأولئك} {يَقْرَؤونَ}
(71) - وَيَوْمَ القِيَامَةِ تُدْعَى كُلُّ أُمَّةٍ بِالشِّعَارِ الذِي تُعْرَفُ بِهِ، فَيُقَالُ: يَا أُمَّةَ عِيسَى، وَيَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ. . . . لِيَتَسَلَّمُوا كُتُبَ أَعْمَالِهِمْ، فَالذِينَ يُعْطُونَ كُتُبَ أَعْمَالِهِمْ بِأَيمَانِهِمْ، وَهُمُ السُّعَداءُ، فَهُؤلاَءِ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ مُبْتَهِجِينَ، وَلاَ يُنْقَصُونَ مِنْ أُجُورِ أَعْمَالِهِمْ شَيْئاً.
إِمَامُهُمْ - شِعَارُهُمْ أَوْ نَبِيُّهُمْ أَوْ كِتَابُ أَعْمَالِهِمْ.
فَتِيلاً - خَيْطٌ رَفِيعٌ فِي نَوَاةِ التَّمْرَةِ.(1/2101)
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
{الآخرة}
(72) - وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ أَعْمَى القَلْبِ، لاَ يُبْصِرُ سَبِيلَ الهُدَى وَالرَّشَادِ، وَلاَ يَتَأَمَّلُ حُجَجَ اللهِ وَآيَاتِهِ وَبَيِّنَاتِهِ، فَهُوَ كَذَلِكَ أَعْمَى فِي الآخِرَةِ لاَ يَرَى طَرِيقَ الخَيْرِ وَالنَّجَاةِ، وَيَكُونُ فِي الآخِرَةِ أَشَدَّ ضَلاَلاً مِنْهُ فِي الدُّنْيَا.(1/2102)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)
(73) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ تَأْيِيدِهِ لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ، وَعَنْ تَثْبِيتِهِ إِيَّاهُ، وَعِصْمَتِهِ لَهُ مِنْ شَرِّ الأَشْرَارِ، وَكَيْدِ الفُجَّارِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ المُتَوَلِّي أَمْرَهُ وَنَصْرَهُ، فَقَدْ حَاوَلَ المُشْرِكُونَ فِتْنَتَهُ عَمَّا أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ، لِيَفْتَرِيَ عَلَى اللهِ غَيْرَهُ، وَهُوَ الصَّادِقُ الأَمِينُ، فَقَدْ سَاوَمُوهُ عَلَى أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ رَبَّهُ، مُقَابِلَ أَنْ يَتْرُكَ التَّنْدِيدَ بِآلِهَتِهِمْ، وَمَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ. وَسَاوَمُوهُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ لِبَعْضِ كُبَرَائِهِمْ مَجْلِساً غَيْرَ مَجْلِسِ الفُقَرَاءِ، وَلَوْ أَنَّهُ رَضِيَ مُسَايَرَتِهِمْ فِيمَا أَرَادُوا لاتَّخَذُوهُ خَلِيلاً، وَلَكَفُّوا عَنْ إِيذَائِهِ وَتَكْذِيبِهِ.
لِيَفْتِنُونَكَ - لِيُوقِعُونَكَ فِي الفِتْنَةِ، وَلِيَصْرِفُونَكَ.
لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ - لِتَخْتَلِقَ وَتَتَقَّولَ عَلَيْنَا.(1/2103)
وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)
{ثَبَّتْنَاكَ}
(74) - وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى ثَبَّتَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم، وَعَصَمَهُ عَنِ الانْحِرَافِ عَنِ الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ. وَلَوْلاَ عِصْمَةُ اللهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ لَرَكَنَ إلَى الكُفَّارِ بَعْضَ الشَّيءِ. وَالانْحِرَافُ الطَّفِيفُ فِي أَوَّلِ الطَّرِيقِ يَنْتَهِي إِلَى الانْحِرَافِ الكَامِلِ فِي نِهَايَتِهِ.
تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ - تَمِيلُ إِلَيهِمْ.(1/2104)
إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
{لأذَقْنَاكَ} {الحياة}
(75) - وَلَوْ أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم رَكَنَ إِلى الكُفَّارِ، وَلَوْ قَلِيلاً، لَعَاقَبَهُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ الرُّكُونِ بِإِذَاقَتِهِ عَذَابَ الدُّنْيا، وَعَذَابَ الآخِرَةِ مُضَاعَفَيْنِ، وَبِإِفْقَادِهِ المُعِينَ وَالنَّصِيرَ. وَلأَنَّ الرَّسُولَ العَظِيمَ قُدْوَةٌ لِلمُؤْمِنِينَ يَقْتَدُونَ بِهِ، فَأَيُّ تَصَرُّفٍ مِنْهَ يُتَابِعُهُ المُؤْمِنُونَ عَلَيْهِ، وَيَتَّخِذُونَهُ سُنَّةً.
ضِعْفَ الْحَيَاةِ - عَذَاباً مُضَاعَفاً فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ.(1/2105)
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
{خِلافَكَ}
(76) - وَلَمَّا يَئِسَ الكُفَّارُ مِنْ إِمْكَانِ اسْتِدْرَاجِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الانْحِرَافِ بِالدَّعْوَةِ عَمَّا أَوْحَى اللهُ بِهِ إِلَيْهِ، أَرَادُوا أَنْ يُزْعِجُوهُ، وَيَسْتَخِفُّوهُ (يَسْتَفِزُّونَكَ) ، لِيُخْرِجُوهُ مِنْ مَكَّةَ (مِنَ الأَرْضِ) ، فَضَيَّقُوا عَلَيْهِ، وَعَلَى بَنِي هَاشِمَ، وَأَلْجَؤُهُمْ إِلَى الشُّعَبِ ثَلاَثَ سِنِينَ. وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مُهَاجِراً، لِمَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَنْ يُهْلِكَ قُرَيْشاً بِالإِبَادَةِ. وَلَوْ أَنَّ قُرَيْشاً أَخْرَجَتْ رَسُولَ اللهِ عَنْوَةً وَقَسْراً، لَحَلَّ بِهِمُ الهَلاَكُ (وَإِذَا لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَ قَلِيلاً) .
لِيَسْتَفِزُّونَكَ - لِيَسْتَخِفُّونَكَ وَيُزْعِجُونَكَ.(1/2106)
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
(77) - فَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي تَدْمِيرِ الأُمَمِ التِي تُكَذِّبُ رُسُلَها، وَتُخْرِجُهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ ذَلِكَ سُنَّةً جَارِيَةً، لاَ تَتَحَوَّلُ وَلاَ تَتَبَدَّلُ. وَلَمَّا لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَأْخُذَ قُرَيْشاً بِعَذَابِ الإِبَادَةِ، لَمْ يُقَدِّرْ أَنْ يُخْرِجُوهُ عَنْوَةً، بَلْ أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ بِالهِجْرَةِ، وَهَكَذا مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي طَرِيقِهَا، لاَ تَحْوِيلَ لَهَا وَلاَ تَبْدِيلَ.
تَحْوِيلاً - تَغْيِيراً وَتَبْدِيلاً.(1/2107)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
{الصلاة} {الليل} {قُرْآنَ}
(78) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِإِقَامَةِ الصَّلاَةِ المَفْرُوضَةِ، وَأَدَائِهَا عَلَى الوَجْهِ الصَّحِيحِ الأَكْمَلِ، مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ (عِنْدَ مُنْتَصَفِ النَّهَارِ - دُلُوكَهَا) ، إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ، وَحُلُولِ الظَّلاَمِ، وَبِذَلِكَ تَدْخُلُ الصَّلَواتُ المَفْرُوضَةُ: الظُّهْرُ وَالعَصْرُ وَالمَغْرِبُ وَالعِشَاءُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى صَلاَةَ الفَجْرِ، وَأَثْنَى عَلَيْهَا لِمَا لَهَا مِنَ الفَضْلِ، وَشُهُودِ المَلاَئِكَةَ لَهَا.
(وَمَوَاقِيتُ الصَّلاَةِ حُدِّدَتْ بِفِعْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم) .
دُلُوكُ الشَّمْسِ - زَوَالُها عَنْ دَائِرَةِ نِصْفِ النَّهَارِ.
الغَسَقُ - اشْتِدَادُ الظُّلْمَةِ.
قُرْآنَ الفَجْرِ - صَلاَةَ الصُّبْحِ.(1/2108)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
{الليل}
(79) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِقِيَامِ اللَّيْلِ مُصَلِّياً، زِيَادَةً عَنِ الصَّلاَةِ المَفْرُوضَةِ (نَافِلَةً) . وَقَدْ خُصَّ الرَّسُولُ بِهذا الأَمْرِ. ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِأَنْ يَتْلُوَ القُرآنَ فِي اللَّيْلِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَيْقِظَ مِنَ النَّوْمِ لِلصَّلاَةِ.
التَّهَجُّدُ - الصَّلاةُ بَعْدَ الاسْتِيقَاظِ مِنَ النَّوْمِ.
نَافِلَةً لَّكَ - فَرِيضَةً زَائِدَةً خَاصَّةً بِكَ.
مَقَاماً مَّحْمُوداً - مَقَامَ الشَّفَاعَةِ العُظْمَى.(1/2109)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
{سُلْطَاناً}
(80) - يُعَلِّمُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم دُعَاءً يَدْعُوهُ بِهِ هُوَ وَأُمَّتُهُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: رَبِّ أَدْخِلْنِي فِي كُلِّ مَقَامٍ تُرِيدُ إِدْخَالِي فِيهِ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ مُدْخَلاً صَادِقاً، أَيْ يَسْتَحِقُّ الدَّاخِلُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَنْتَ صَادِقٌ فِي قَوْلِكَ وَفِعْلِكَ، وَأَخْرِجِنِي مِنْ كُلِّ مَا تُخْرِجُنِي مِنْهُ مُخْرَجَ صِدْقٍ، أَيْ يَسْتَحِقُّ الخَارِجُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَنْتَ صَادِقٌ، وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُ سُلْطَاناً وَهَيْبَةً وَقُوَّةَ حُجَّةٍ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، يَسْتَعْلِي بِهَا عَلَى سُلْطَانِ أَهْلِ الأَرْضِ، وَقُوَّةِ المُشْرِكِينَ، وَيَنْصُرُ بِهَا كَلِمَةُ اللهِ، وَكُتبَهُ وَحُدُودَهُ، وَفَرَائِضَهُ.
فَحِينَمَا ائْتَمَرَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي مَكَّةَ، أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ بِالخُرُوجِ إِلَى المَدِينَةِ، وَعَلَّمَ نَبِيَّهُ هذَا الدُّعَاءَ، لِيَدْعُوهُ حِينَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ، وَحِينَ دُخُولِهِ إِلَى المَدِينَةِ.
مُدْخَلَ صِدْقٍ - إِدْخَالاَ مُرْضِياً جَيِّداً فِي أُمُورِي.
سُلْطَاناً نَّصِيراً - قَهْراً وَعِزّاً تَنْصُرُ بِهِ الإِسْلاَمَ.(1/2110)
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
{الباطل} {الباطل}
(81) - وَقُلْ لِلْمُشْرِكِينَ مُهَدِّداً: لَقَدْ جَاءَهُمُ الحَقُّ الذِي لاَ مِرْيَةَ فِيهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ. وَمَتَى جَاءَ الحَقُّ زَهَقَ البَاطِلَ وَاضْمَحَلَ، لأَنَّ مِنْ صِفَةِ البَاطِلِ عَدَمَ الثَّبَاتِ مَعَ الحَقِّ. وَحِينَمَا دَخَلَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ، كَانَ حَوْلَ الكَعْبَةِ (360) ثَلاثُمِئةٍ وَسِتُّونَ نَصْباً، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ يَطْعَنُها بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَتْلُو: {جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً} .
زَهَقَ البَاطِلَ - زَالَ وَاضْمَحَلَّ.(1/2111)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
{القرآن} {الظالمين}
(82) - وَنُنَزِّلُ عَلَيْكَ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنَ القُرْآنِ مَا يُسْتَشَفَي بِهِ مِنَ الجَهْلِ وَالضَّلاَلِ، وَمَا يُذْهِبُ مَا فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ مِنْ أَْمْرَاضِ الشَّكِّ وَالنِّفَاقِ، وَالشِّرْكِ وَالزَّيْغِ، وَيَشْفِي مِنْهَا، وَهُوَ رَحْمَةُ لِمَنْ آمَنَ بِهِ، وَعَمِلَ بَأَوَامِرِهِ، وَاجْتَنَبَ نَوَاهِيهِ. أَمَّا الكَافِرُونَ الظَّالِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يَزِيدُهُمْ سَمَاعُ القُرْآنِ إِلاَّ بُعْداً عَنِ الإِيمَانِ وَكُفْراً، وَعُتُوّاً وَخَسَاراً، لأَنَّهُمْ قَدْ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ.
خَسَاراً - هَلاَكاً بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِهِ.(1/2112)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)
{الإنسان} {نَأَى} {يَئُوساً}
(83) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ نَقْصِ الإِنْسَانِ، إِلاَّ مَنْ عَصَمَةُ اللهُ، فَإِذَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ بِمَالٍ وَعَافِيَةٍ وَرِزْقٍ وَنَصْرٍ. . . وَأَنَالَهُ مَا يُرِيدُ، أَعْرَضَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ، وَنَأَى بِجَانِبِهِ عَنِ اللهِ، وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ وَالضُّرُّ وَالسُّوءُ، وَنَزَلَتْ بِهِ المَصَائِبُ وَالنَّوائِبُ. . . قَنَطَ وَيَئِسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَظَنَّ أَنَّ اللهَ لَنْ يَكْشِفَ عَنْهُ مَا هُوَ فِيهِ.
نَأَى بِجَانِبِهِ - شَدِيدَ اليَأْسِ وَالقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ.(1/2113)
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
(84) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْمُشْرِكِينَ: كُلٌّ مِنّا أَنَا وَأَنْتُمْ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّاكِرِينَ وَالكَافِرِينَ يَعْمَلُ عَلَى طَرِيقَتِهِ وَحَالِهِ فِي الهُدَى وَالضَّلاَلِ (شَاكِلَتِهِ) ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَكْثَرُ هِدَايَةً، وَأَوْضَحُ سَبِيلاً، وَاتِّبَاعاً لِلْحَقِّ، فَيُؤْتِيهِ أَجْرَهُ مَوْفُوراً، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَضَلُّ سَبِيلاً، فَيُعَاقِبُهُ.
شَاكِلَتِهِ - مَذْهَبِهِ الذِي يُشَاكِلُ حَالَهُ.(1/2114)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
{وَيَسْأَلُونَكَ}
(85) - اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ حَوْلَ المُرَادِ بِالرُّوْحِ هُنَا.
- فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اليَهُودَ سَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ رُوحِ البَشَرِ، وَكَيْفَ تُعَذَّبُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ. فَالمَقْصُودُ بِالرُّوحِ هُنَا، رُوحُ الإِنْسَانِ، وَهُوَ القَوْلُ الأَرْجَحُ.
- وَقَالَ مُفَسِّرُونَ آخَرُونَ إِنَّ المُرَادَ بِالرُّوحِ هُنَا جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
- وَقَالَ مُفَسِّرُونَ آخَرُونَ إِنَّ المَقْصُودَ بِالرُّوحِ هُنَا مَلَكٌ عَظِيمٌ.
وَمَعْنَى الآيَةِ إِنَّ الرُوحَ مِنْ شَأْنِ اللهِ تَعَالَى، وَمِمَّا اسْتَأْثَرَ اللهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَمْ يُطْلِعِ الخَلْقَ إِلاَّ عَلَى القَلِيلِ مِنْ عِلْمِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُحِيطُ أَحَدٌ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ.(1/2115)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)
{وَلَئِن}
(86) - لَمّا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْتِ النَّاسَ إِلاَّ قَلِيلاً مِنَ العِلْمِ، بَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ لَوْ شَاءَ أَنْ يَذْهَبَ بِهَذا القَلِيلِ مِنَ العِلْمِ، وَيَأْخُذَهُ مِنْهُمْ لَفَعَلَ، لَوْ شَاءَ أَنْ يَمْحُوَ القُرْآنَ مِنَ الصُّدُورِ وَالمَصَاحِفِ، وَأَنْ لاَ يَتْرُكَ لَهُ أَثَراً لَفَعَلَ، حَتَّى يَعُودَ النَّبِيُّ لاَ يَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإيمَانُ.
وَإِذَا فَعَلَ اللهُ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ لَنْ يَجِدَ لَهُ نَاصِراً يَسْتَطِيعُ نَصْرَهُ، فَيَحُولُ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ فِعْلِ مَا يُرِيدُ.
وَكِيلاً - مَنْ يَتَعَهَّدُ بِإِعَادَتِهِ إِلَيْكَ.(1/2116)
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)
(87) - وَلَكِنْ رَحِمَهُ اللهُ فَتَرَكَهُ وَلَمْ يَذْهَبْ بِهِ. ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى: وَقَدْ كَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً يَا مُحَمَّدَ إِذْ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ، وَأَبْقَاهُ فِي حِفْظِكَ، وَفِي حِفْظِ المُؤْمِنِينَ وَمَصَاحِفِهِمْ.(1/2117)
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
{لَّئِنِ} {القرآن}
(88) - وَقُلْ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ مُتَحَدِّياً لَهُمْ: القُرْآنُ كَلاَمُ اللهِ، وَلاَ يَمْلِكُ البَشَرُ مُحَاكَاتَهُ، وَلاَ يَمْلِكُ الإنْسَ وَالجِنُّ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، وَلَوْ تَظَاهَرُوا وَتَعَاوَنُوا فِي ذَلِكَ. فَالقُرْآنُ لَيْسَ أَلْفَاظاً وَعِبَارَاتٍ يَسْتَطِيعُ المَخْلُوقُونَ مُحَاكَاتَهَا، وَإِنَّمَا هُوَ كَسَائِرِ مَا يُبْدِعُهُ اللهُ، يَعْجَزُ المَخْلُوقُونَ عَنْ صُنْعِهِ، وَمُحَاكَاتِهِ.
ظَهِيراً - مُعِيناً.(1/2118)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
{القرآن}
(89) - وَلَقَدْ رَدَّدْنَا القَوْلَ فِيهِ بِوُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَكَرَّرْنَا الآيَاتِ وَالعِبَرَ، وَالتَّرْغِيبَ وَالتَّرْهِيبَ وَالأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ، وَأَقَاصِيصَ الأَوَّلِينَ لِيَتَدَبَّرُوا آيَاتِهِ، وَلَيَتَّعِضُوا بِهَا، فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفْراً وَجُحُوداً وَإِنْكَاراً لِلْحَقِّ، وَإِعْرَاضاً عَنْهُ.
صَرَّفْنَا - رَدَّدْنَا القَوْلَ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ.
مِن كُلِّ مَثَلٍ - مِنْ كُلِّ مَعْنًى غَرِيبٍ حَسَنٍ بَدِيعٍ.
فَأَبَى - فَلَمْ يَرْضَ.
كُفُوراً - جُحُوداً لِلْحَقِّ.(1/2119)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)
(90) - اجْتَمَعَ قَادَةُ قُرَيْشٍ عِنْدَ الكَعْبَةِ، وَأَرْسَلُوا إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِيَأْتِيَهُمْ لِيُكَلِّمُوهُ، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ لَقَدْ جِئْتَنَا بِشَيءٍ فَرَّقْتَ بِهِ الجَمَاعَةَ، فَإِنْ كُنْتَ جِئْتَ تُرِيدُ الشَّرَفَ فِينَا، سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ مَا يَأْتِيكَ رِئْياً (أَيْ تَابِعاً) مِنَ الجِنِّ، جَعَلْنَا مِنَ المَالِ، وَطَلَبْنَا لَكَ الأَطِبَّاءَ حَتَّى تَشْفَى أَوْ نُعْذَرَ.
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا بِهَذَا جِئْتُكُمْ، إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولاً فَإِنْ تَسْمَعُوا مِنِّي، وَتَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ، فَهُوَ حَظُّكُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنْ تَردُّوهُ أَصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنِي وَبَينَكُمْ. ثُمَّ أَخَذُوا فِي الاقْتِرَاحِ عَلَيهِ تَعْجِيزاً وَتَعَنُّتاً:
- فَاقْتَرَحُوا عَلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ رَبَّهُ لِيُسَيِّرَ عَنْهُم الجِبَالَ التِي ضَيَّقَتْ عَلَيْهِمْ، وَلِيَبْسِطَ لَهُمْ بِلاَدَهُمْ، وَلِيُفَجِّرَ فِيهَا أَنْهَاراً.
- ثُمَّ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ أَنْ يَدْعُو رَبَّهُ لِيَبْعَثَ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ لِيَشْهَدُوا عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ.
- ثُمَّ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَبْعَثَ مَلَكاً يُصَدِّقُهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ لَهُ رَبُّهُ جَنَاتٍ وَبَسَاتِينَ وَكُنُوزاً وَقُصُوراً مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ.
- ثُمَّ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ أَنْ يُسْقِطَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ كِسَفاً (أَيْ قِطَعاً) كَمَا زَعَمَ لَهُمْ أَنَّ رَبَّهُ إِنْ شَاءَ فَعَلَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يُؤْمِنُوا لَهُ إِلاَّ بِفِعْلِ مَا طَلَبُوهُ مِنْهُ.
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ ذلِكَ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ فَعَلَهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ ابْنُ عَمَّتِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ المَخْزُومِي: وَاللهِ، لاَ أُؤْمِنُ بِكَ حَتَّى تَتَّخِذَ إِلَى السَّمَاءِ سُلَّماً ثُمَّ تَرَقَى فِيهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْكَ حَتَّى تَأْتِيَها، وَتَأْتِي مَعَكَ بِصَحِيفَةٍ مَنْشُورَةٍ وَمَعَكَ أَرْبَعَةٌ مِنَ المَلاَئِكَةِ يَشْهَدُونَ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ كَمَا تَقُولُ، وَأَيْمُ اللهِ لَوْ فَعَلْتَ لَظَنَنْتُ أَنِّي لاَ أُصَدِّقُكَ. فَهُمْ أُنَاسٌ مُتَعَنِّتُونَ لاَ يَسْأَلُونَ اسْتِرْشَاداً، وَلَوْ كَانَ سُؤَالُهُمُ اسْتِرْشَاداً لأُجِيبُوا إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُمْ يَسَأْلُونَ كُفْراً وَعِنَاداً، وَهُمْ يَسْتَبْعِدُونَ حُدُوثَ مَا يَطْلُبُونَ.
فَقِيلَ لِرَسُولِ اللهِ: إِنْ شِئْتَ أَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، فَإِنْ كَفَرُوا عَذَّبْتُهُمْ عَذاباً لاَ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ العَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَلْ تَفْتَحُ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ.
تَفْجُرَ مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً - تَجْعَلَ عَيْنَ مَاءٍ تَجْرِي فِي الأَرْضِ لاَ يَنْضُبُ مَاؤُها.(1/2120)
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91)
{الأنهار} {خِلالَهَا}
(91) - أَوْ يَكُونُ لَكَ يَا مُحَمَّدُ بُسْتَانٌ (جَنَّةٌ) ، فِيهِ أَشْجَارُ النَّخِيلِ وَالعِنَبِ، وَتَتَدَّفَقُ الأَنْهَارُ فِي أَرْضِهِ بِالمِيَاهِ.(1/2121)
أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)
{الملائكة}
(92) - أَوْ أَنْ يُسْقِطَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ قِطَعاً قِطَعاً (كِسَفاً) كَمَا زَعَمَ أَنَّ رَبَّهُ إِنْ شَاءَ فَعَلَ ذَلِكَ، أَوْ أَنْ يَأْتِي بِاللهِ وَالمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً يُنَاصِرُونَهُ، وَيَدْفَعُونَ عَنْهُ، كَمَا يَفْعَلُونَ فِي قَبَائِلِهِمْ (وَقِيلَ بَلْ إِنَّ المَعْنَى هُوَ: أَنْ يَأْتِي بِاللهِ وَالمَلاَئِكَةِ لِيُقَابِلُوهُمْ مُعَايَنَةً وَمُوَاجَهَةً) .
قَبِيلاً - جَمَاعَاتٍ يُنَاصِرُونَ الرَّسُولَ - أَوْ يُقَابِلُونَهُمْ مُقَابَلَةً وَعِيَاناً.
كِسَفاً - قِطَعاً.(1/2122)
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
{كِتَاباً}
(93) - أَوْ أَنْ يَكُون لَكَ بَيْتٌ مِنْ ذَهَبٍ (زُخْرُفٍ) ، أَوْ أَنْ تَصْعَدَ فِي السَّمَاءِ، وَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَيْكَ، وَلَنْ نُؤْمِن أَنَّكَ صَعدْتَ إِلَى السَّماءِ حَتَّى تَأْتِيَ مَعَكَ بِصُحُفٍ مَكْتُوبَةٍ مُوَجَّهَةٍ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ المُتَحَدِّثِينَ مَعَ الرَّسُولِ.
فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: سُبْحَانَ رَبِّي إِنْ أَنَا إِلاَّ بَشَرٌ رَسُولٌ مِنَ اللهِ، أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِهِ، وَلاَ أَمْلِكُ شَيْئاً مِمَّا طَلَبْتُمْ، وَالأَمْرُ كُلُّهُ للهِ، إِنْ شَاءَ أَجَابَكُمْ إِلَيْهِ.
زُخْرُفٍ - ذَهَبٍ.
تَرْقَى - تَصْعَدُ.(1/2123)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)
(94) - وَمَا مَنَعَ أَكْثَرَ النَّاسِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ، وَالرِّسَالَةِ التِي جَاءَهُمْ بِهَا رَسُولُهُمْ، إِلاَّ تَعَجُّبُهُمْ مِنْ إِرْسَالِ اللهِ رُسُلاً مِنَ البَشَرِ: وَقَولِهِمْ: {مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} وَقَوْلِهِمْ: {فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} وَقَوْلِهِمْ: {أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} .(1/2124)
قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)
{ملائكة} {مُطْمَئِنِّينَ}
(95) - قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ كَمَا يَمْشِي البَشَرُ، وَيُقِيمُونَ فِيهَا، كَمَا يُقِيمُ البَشَرُ، وَيَسْهُلُ الاجْتِمَاعُ بِهِمْ، وَالحَدِيثُ مَعَهُمْ. . . . لأَرْسَلَ اللهُ إِلَيْهِمْ رُسُلاً مِنَ السَّمَاءِ مِنَ المَلاَئِكَةِ لِهِدَايَتِهِمْ، وَإِرْشَادَهِمْ. وَلَكِنَّ طَبِيعَةَ المَلاَئِكَةِ لاَ تَصْلُحُ لِلاجْتِمَاعِ بِالبَشَرِ، وَلاَ يَسْهُلُ عَلَيْهِمُ التَّخَاطُبُ مَعَهُمْ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يُرْسِلْ رُسُلاً إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ مِنَ المَلاَئِكَةِ، وَإِنَّمَا أَرْسَلَهُمْ مِنَ البَشَرِ، وَقَدِ اخْتَارَهُمْ مِنْ بَيْنِ البَشَرِ.(1/2125)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
(96) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ: إِنَّ اللهَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ القُرْآنَ، وَفِيهِ أَخْبَارُ القُرُونِ الأُولَى كَمَا وَقَعَتْ، وَهِيَ مِمَّا لاَ يَعْرِفُهُ العَرَبُ، وَهَذِهِ شَهَادَةٌ مِنَ اللهِ عَلَى صِدْقِ قَوْلِي، إِنِّي رَسُولُ اللهِ، وَمَنْ شَهِدَ اللهُ تَعَالَى بِصِدْقِهِ، فَهُوَ صَادِقٌ، فَادِّعَاؤُكُمْ أَنَّ الرَّسُولَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المَلاَئِكَةِ، هُوَ تَعَنُّتٌ مِنْكُمْ.
ثُمَّ نَبَّهَ اللهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى إِنْهَاءِ الجَدَلِ مَعَ هَؤُلاَءِ المُتَعَنِّتِينَ، وَإِلَى أَنْ يَكِلَ أَمْرَهُمْ إِلَى اللهِ، فَهُوَ الخَبِيرُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الهِدَايَةَ فَيَهْدِيهِ، وَهُوَ البَصِيرُ بِأَعْمَالِ العِبَادِ، المُحِيطُ بِهَا، فَلاَ يَشذُّ شَيءُ عَنْ عِلْمِهِ.(1/2126)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
{القيامة} {مَّأْوَاهُمْ} {زِدْنَاهُمْ}
(97) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ عَظِيمِ سُلْطَانِهِ فِي خَلْقِهِ، وَنُفُوذِ حُكْمِهِ فِيهِمْ، لاَ مُعَقِّبَ عَلَيْهِ فِيهِ، فَمَنْ هَداهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ أَضَلَّهُ فَلاَ يَمْلِكُ أَحَدٌ هِدَايَتَهُ. وَيَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ يَحْشُرُ الكَافِرِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُمْ يَسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، عُمْياً لاَ يُبْصِرُونَ، وَبُكْماً لاَ يَنْطِقُونَ، وَصُمّاً لاَ يَسْمَعُونَ. وَذَلِكَ جَزَاءٌ لَهُمْ لِمَا كَانُوا عَلَيهِ فِي الدُّنْيا مِنَ العَمَى وَالصَمَّمِ وَالبَكَمِ، لاَ يُبْصِرُونَ الحَقَّ، وَلاَ يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ. وَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ نَارَ جَهَنَّمَ التِي يُعَذَّبُونَ فِيهَا كُلَّمَا سَكَنَتْ وَخَفَّ لَهِيبُهَا (خَبَتْ) ، زَادَ اللهُ فِي تَأَجُّجِهَا وَسَعِيرَهَا عَلَيْهِمْ، لِيَزْدَادَ أَلَمُهُمْ وَعَذَابُهُمْ.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الكُفَّارَ وَقُودُ جَهَنَّمَ، فَإِذَا أَحْرَقْتُهُمْ وَلَمْ يَبْقَ شَيءٌ مِنْهُمْ صَارَتْ جَمْراً تَتَوهَّجُ، فَذلِكَ خُبُوُّها، فَإِذَا بُدِّلُوا خَلْقاً جَدِيداً عَاوَدْتُهُمْ) .
خَبَتْ - سَكَنَ لَهِيبُهَا.
سَعِيراً - لَهَباً وَتَوَقُّداً.(1/2127)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)
{بِآيَاتِنَا} {أَإِذَا} {عِظَاماً} {وَرُفَاتاً} {أَإِنَّا}
(98) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى: أَنَّهُ إِنَّمَا جَازَى الكَافِرِينَ المُكَذِّبِينَ بِبَعْثِهِمْ عُمْياً بُكْماً صُمّاً، لأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَحُجَجِهِ، وَاسْتَبْعَدُوا وُقُوعَ البَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَقَالُوا سَاخِرِينَ: أَبَعْدَ أَنْ صِرْنَا إِلَى مَا صِرْنَا إِلَيْهِ مِنَ البِلَى وَالهَلاَكِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الأَرْضِ. . نُعَادُ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَنُخْلَقُ خَلْقاً جَدِيداً؟
رُفَاتاً - أَجْزَاءً مُفَتَّتَةً، أَوْ تُرَاباً أَوْ غُبَاراً.(1/2128)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
{السماوات} {الظالمون}
(99) - يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى هؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ بِالبَعْثِ وَالنُّشُورِ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَهَذا أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الإِنْسَانِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَهُمْ مَرَّةً أُخْرَى، وَيُنْشِئَهُمْ نَشْأَةً أُخْرَى كَمَا بَدَأَهُمْ. وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لإِعَادَةِ بَعْثِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَجَلاً (مَوْعِداً) مَضْرُوباً، وَمُدَّةً مُوَقَّتَةً مُقَدَّرَةً لاَ بُدَّ مِنْ انْقِضَائِهَا، لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللهُ تَعَالَى، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ تَمَادِياً فِي ضَلاَلِهِمْ، وَكُفْرِهِمْ، مَعَ وُضُوحِ الحُجَّةِ.(1/2129)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
{خَزَآئِنَ} {الإنسان}
(100) - قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: لَوْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ فِي خَزَائِنِ اللهِ كُلِّهَا، لأَمْسَكْتُمْ عَنِ الإِنْفَاقِ خَشْيَةَ الفَقْرِ، وَخَشْيَةَ أَنْ يَنْفَدَ مَا فِيهَا، مَعَ أَنَّ خَزَائِنَ اللهِ لاَ تَفْرَغُ وَلاَ تَنْفَدُ أَبَداً، وَلَكِنَّ مِنْ طِبَاعِ الإِنْسَانِ وَسَجَايَاهُ التَّقْتِيرُ وَالبُخْلُ وَالمَنْعُ. وَلَوْ آتَيْنَا هؤُلاَءِ مَا اقْتَرَحُوهُ لَمَا آمَنوا، وَلَصَرَفُوهُ عَنْ وَجْهِهِ الصَّحِيحِ.
قَتُوراً - مُبَالِغاً فِي البُخْلِ.(1/2130)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
{آتَيْنَا} {آيَاتٍ} {بَيِّنَاتٍ} {فَسْئَلْ} {إِسْرَائِيلَ} {ياموسى}
(101) - لَقَدْ أَعْطَيْنَا مُوسَى تَسْعَ آيَاتٍ وَاضِحَاتِ الدَّلاَلَةِ عَلَى صِحَةِ نُبُوَّتِهِ، وَصِدْقِهِ حِينَ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا. وَقَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى: إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَخْبُولَ العَقْلِ، إِذِ ادَّعَيْتَ أَنَّكَ رُسُولٌ مِنَ اللهِ. فَاسْأَلْ يَا مُحَمَّدُ اليَهُودَ الذِينَ هُمْ فِي زَمَانِكَ، سُؤَالَ اسْتِشَهَادٍ، لِتَزِيدَ طُمَأْنِينَتَكَ وَيَقِينَكَ، وَلِتَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ مُحَقَّقٌ ثَابِتٌ فِي كِتَابِهِمْ.
مَسْحُوراً - مَغْلُوباً عَلَى عَقْلِهِ بِالسِّحْرِ - أَوْ سَاحِراً.(1/2131)
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
{السماوات} {بَصَآئِرَ} {يافرعون}
(102) - فَقَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ: لَقَدْ عَلِمْتَ يَا فِرْعَوْنُ أَنَّ الَّذِي أَنْزَلَ هَذِهِ الآيَاتِ هُوَ اللهُ تَأْيِيداً لِي، وَحُجَّةً عَلَى صِحَّةِ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ، وَدَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ. وَهَذِهِ الآيَاتُ أَنْزَلَهَا اللهُ لِتَكُونَ بَصَائِرَ لِمَنْ اسْتَبْصَرَ، وَهُدَى لِمَنِ اهْتَدَى بِهَا، يَعْرِفُ مَنْ رَآهَا أَنَّ مَنْ جَاءَ صَادِقٌ مُحِقٌّ. ثُمَّ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ يُخَاطِبُ فِرْعَوْنَ: وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَصْروفاً عَنِ الخَيْرِ، مَطْبُوعاً عَلَى الشَّرِّ (مَثْبُوراً - وَقِيلَ إِنَّ مَثْبُوراً تَعْنِي هَالِكاً أَوْ مَلْعُوناً) .
بَصَائِرُ - بَيِّنَاتٍ تُبَصِّرُ مَنْ يَشْهَدُهَا بِصِدْقِي.(1/2132)
فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)
{فَأَغْرَقْنَاهُ}
(103) - فَأَرَادَ فِرْعَوْنُ أَنْ يُخْرِجَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، وَأَنْ لاَ يُبْقِى أَحَداً مِنْهُمْ فِيهَا، فَرَدَّ اللهُ كَيْدَهُ إِلَى نَحْرِهِ، وَأَغْرَقَهُ هُوَ وَجُنُودَهُ جَمِيعاً فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ.
يَسْتَفِزَّهُمْ - يَسْتَخِفَّهُمْ وَيُزْعِجَهُمْ لِلْخُرُوجِ.(1/2133)
وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
{إِسْرَائِيلَ} {الآخرة}
(104) - وَنَجَّيْنَا مُوسَى وَقَوْمَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقُلْنَا لَهُمْ بَعْدَ هَلاَكِ فِرْعَوْنَ: لَقَدْ أَوْرَثْنَاكُمُ الأَرْضَ فَاسْكُنُوهَا وَاسْتَعْمِرُوهَا، فَإِذَا حَانَتِ السَّاعَةُ، وَحُشِرَ النَّاسُ، جِئْنَا بِكُمْ جَمِيعاً (لَفِيفاً) ، أَنْتُمْ وَهُمْ لِيَلْقَى كُلَّ وَاحِدٍ جَزَاءَ عَمَلِهِ.
لَفِيفاً - جَمِيعاً مُخْتَلِطِينَ.(1/2134)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)
{أَنْزَلْنَاهُ} {أَرْسَلْنَاكَ}
(105) - وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ قَائِماً عَلَى الحَقِّ، وَمُتَضَمِّناً لَهُ، فَفِيهِ أَمْرٌ بِالعَدْلِ، وَالإِنْصَافِ وَمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ، وَفِيهِ نَهِيٌّ عَنِ الظُّلْمِ، وَعَنْ ذَمِيمِ الأَخْلاَقِ وَالأَفْعَالِ (وَبِالحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ) ، وَأَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مَحْفُوظاً مَحْرُوساً لَمْ يُزَدْ فِيهِ وَلَمْ يُنْقَصْ مِنْهُ، وَقَدْ أَنْزَلْنَاهُ لِيُقِرَّ الحَقَّ فِي الأَرْضِ (وَبِالحَقِّ نَزَلَ) ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ إِلاَّ مُبَشِراً لِمَنْ أَطَاعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِالخَيْرِ وَالجَنَّةِ وَحُسْنِ العَاقِبَةِ. وَمُنْذِراً لِمَنْ عَصَاكَ، وَكَذَبَّكَ، مِنَ الكَافِرِينَ، بِالعُقُوبَةِ وَالعَذَابِ الأَلِيمِ.(1/2135)
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
{وَقُرْآناً} {فَرَقْنَاهُ} {نَزَّلْنَاهُ}
(106) - وَآتَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ قُرْآناً نَزَّلْنَاهُ عَلَيْكَ مُفَرَّقاً وَمُنَجَّماً لِتَتْلُوَهُ عَلَى النَّاسِ، وَتُبَلِّغَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى مَهْلٍ (عَلَى مُكْثٍ) ، لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ حِفْظِهِ، وَفَهْمِ أَحْكَامِهِ، وَالتَّمَعُّنِ فِيهَا لِتَرْسَخَ فِي عُقُولِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ. وَقَدْ نَزَّلْنَاهُ شَيْئاً فَشَيْئاً بِحَسَبِ الظُّرُوفِ وَالحَوَادِثِ وَالوَقَائِعِ (نَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً) .
وَفَرَّقْنَاهُ بِالتَّشْدِيدِ - كَذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَعْنَاهَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ آيَةً فَآيَةً مُفَسَّراً وَمُبَيَّناً لِتَتْلُوَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مَهَلٍ، وَتُبْلِغَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى مَهَلٍ.
فَرَقْنَاهُ بِالتَّخْفِيفِ - أَنْزَلْنَاهُ مُفَرَّقاً، أَوْ بَيَّنَّاهُ وَفَصَّلْنَاهُ.
عَلَى مُكْثٍ - عَلَى تُؤدَةٍ وَتَأَنٍّ.(1/2136)
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)
{آمِنُواْ}
(107) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ الكَافِرِينَ بِالقُرْآنِ العَظِيمِ، الَّذِي جِئْتَهُمْ بِهِ: سَوَاءٌ آمَنْتُمْ بِهِ أَمْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ، فَهُوَ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ، أَنْزَلَهُ اللهُ، وَنَوَّهَ بِذِكْرِهِ فِي الكُتُبِ السَّابِقَةِ لَهُ، الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى رُسُلِهِ السَّابِقِينَ. وَالصَّالِحِينَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ، وَتَمَسَّكُوا بِكِتَابِهِمْ، وَلَمْ يُبَدِّلُوهُ، وَلَمْ يُحَرِّفُوهُ، إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمُ القُرْآنُ يَخِرُّونَ سَاجِدِينَ للهِ شُكْراً لَهُ عَلَى إِنْجَازِهِ وَعْدَهُ بِإِرْسَالِكَ إِلَى النَّاسِ.(1/2137)
وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)
{سُبْحَانَ}
(108) - وَيَقُولُونَ فِي سُجُودِهِمْ: تَنََّزَهَ رَبُّنَا عَنْ خَلْفِ الوَعْدِ، إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ آتِياً لاَ مَحَالَةَ.(1/2138)
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
(109) - وَيَخِرُّونَ سَاجِدِينَ عَلَى ذُقُونِهِمْ (لِلأَذْقَانِ) وَيَبْكُونَ خُشُوعاً وَخُضُوعاً للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِيمَاناً وَتَصْدِيقاً بِكِتَابِهِ، وَبِرَسُولِهِ، وَيَزِيدُهُمْ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (خُشُوعاً) .(1/2139)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
(110) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ المُنْكِرِينَ صِفَةَ الرَّحْمَن ِللهِ عَزَّ وَجَلَّ، المُعَارِضِينَ تَسْمِيَتَهُ بِالرَّحْمَنِ: لاَ فَرْقَ بَيْنَ دُعَائِكُمْ لَهُ بِاسْمِ اللهِ، أَوْ بِاسْمِ الرَّحْمَنِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى ذُو الأَسْمَاءِ الحُسْنَى.
وَلاَ تَجْهَرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ بِصَلاَتِكَ، وَلاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ بِالقُرْآنِ فَيَسْمَعُكَ المُشْرِكُونَ، فَيَسُبُّوا القُرْآنَ. وَلَا تُخَافِتْ بِهَا عَنْ أَصْحَابِكَ، فَلاَ تُسْمِعَهُمُ القُرآنَ، لِيَأْخُذُوا عَنْكَ، وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً وَسَطاً.
(وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مُتَوارٍ فِي مَكَّةَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالقُرْآنِ، فَلَمَّا سَمِعَ المُشْرِكُونَ ذَلِكَ سَبُّوا القُرْآنَ، وَسَبُّوا مَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ) .
لاَ تُخَافِتْ بِهَا - لاَ تُسِرَّ بِهَا حَتَّى لاَ يَسْمَعَكَ مَنْ خَلْفَكَ.(1/2140)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
(111) - لَمَّا أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ الكَرِيمَةِ الأَسْمَاءَ الحُسْنَى، نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ النَّقَائِصِ، فَقَالَ: الحَمْدُ للهِ الذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ، فَهُوَ تَعَالَى لَيْسَ ذَلِيلاً فَيَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَداً، أَوْ وَلِيٌّ أَوْ حَلِيفٌ، أَوْ وَزِيرٌ، أَوْ مُشِيرٌ، بَلْ هُوَ اللهُ تَعَالَى، خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ، وَمُدَبِّرُهُ وَمُقَدِّرُهُ، وَلاَ شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: احْمَدِ اللهِ، وَعَظِّمْهُ، وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً.(1/2141)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)
{الكتاب}
(1) - يَحْمَدُ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ الكَرِيمَةِ عِنْدَ فَوَاتِحِ الأُمُورِ وَعِنْدَ خَوَاتِيمِهَا، وَهُنَا يَحْمَدُ نَفْسَهُ عَلَى إِنْزَالِهِ القُرْآنَ (الكِتَابَ) عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَهَا عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ، إِذْ أَخْرَجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النَّوْرِ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ كِتَابَهُ مُسْتَقِيماً لاَ عِوَجَ فِيهِ وَلاَ زَيْغَ.
عِوَجَا - اخْتِلاَفاً، أَوْ اخْتِلاَلاً أَوِ انْحِرَافاً عَنِ الحَقِّ.(1/2142)
قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)
{الصالحات}
(2) - وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى كِتَابَهُ مُعْتَدِلاً (قََيِّماً) لاَ إِفْرَاطَ فِيهِ، فِيمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ التَّكَالِيفِ، وَلاَ تَفْرِيطَ فِيهِ بِإِهْمَالِ مَا تَمَسُّ الحَاجَةُ إِلَيْهِ، لِيُنْذِرَ بِهِ مَنْ خَالَفَهُ وَكَذَّبَهُ، وَلَمْ يُؤْمِنُ بِهِ، عُقُوبَةً عَاجِلَةً فِي الدُّنْيَا، وَآجِلَةً فِي الآخِرَةِ، مِنْ عِنْدِ اللهِ (مِنْ لَدُنْهُ) ، وَيُبَشِّرَ، بِهَذا القُرْآنِ، المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَيَّدُوا إِيمَانَهُمْ بِاللهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، بِالعَمَلِ الصَّالِحِ، أَنَّ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ ثَوَاباً حَسَناً جَزِيلاً، هُوَ الجَنَّةُ.
قَيِّماً - مُسْتَقِيماً مُعْتَدِلاً.
بَأْساً - عَذَاباً آجِلاً أَوْ عَاجِلاً.(1/2143)
مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)
{مَّاكِثِينَ}
(3) - وَإِنَّهُمْ يَبْقَوْنَ فِي الجَنَّةِ مُخَلَّدِينَ أَبَداً، لاَ يَحُولُونَ عَنْهَا، وَلاَ يَزُولُونَ.
فِيهِ - يَعْنِي مَاكِثِينَ فِي أَجْرِهِمْ وَثَوَابِهِمْ الحَسنِ.(1/2144)
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)
(4) - وَلِيُنْذِرَ وَيُحَذِّرَ، مُنِبِينَ هَؤُلاَءِ الكُفَّارِ، الَّذِينَ قَالُوا: اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً، وَهُمْ مُشْرِكُو العَرَبِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنَ نَعْبُدُ المَلاَئِكَةَ بَنَاتِ اللهِ، وَهُنَاكَ مِنْ النَّصَارَى مَنْ جَعَلَ المَسِيحَ ابْنَ اللهِ، وَمِنَ اليَهُودِ مَنْ جَعَلَ عُزَيراً ابْنُ اللهِ - فَالإِنْذَارُ يَشْمَلُ جَمِيعَ هؤُلاَءِ، وَيَشْمَلُ كُلَّ مَنْ نَسَبَ إِلَى اللهِ وَلَداً.(1/2145)
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
{لآبَائِهِمْ} {أَفْوَاهِهِمْ}
(5) - وَفِي الحَقِيقَةِ إِنَّهُمْ لاَ بُرْهَانَ لَهُمْ، وَلاَ دَلِيلَ، عَلَى مَا يَفْتَرُونَ، وَمَا يَنْسُبُونَ إِلَى اللهِ مِنَ الوَلَدِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لآبَائِهِمْ عِلْمٌ وَلاَ بُرْهَانٌ عَلَى هَذِهِ الفِرْيَةِ. وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً فِي الكُفْرِ (كَبُرَتْ كَلِمَةً) . وَهَذا القَوْلُ الَّذِي يَقُولُونَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ.
كَبُرَتْ كَلِمَةً - مَا أَكْبَرهَا وَمَا أَعْظَمَها فِي القُبْحِ مِنْ كَلِمَةٍ.(1/2146)
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
{بَاخِعٌ} {آثَارِهِمْ}
(6) - لاَ تُهْلِك يَا مُحَمَّدُ نَفْسَكَ حُزْناً عَلَى هَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ لأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ، وَبِهَذا القُرْآنِ (بِهَذَا الحَدِيثِ) ، بَلْ أَبْلِغْهُمْ أَنْتَ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَادْعُهُمْ إِلَى اللهِ، وَهَذِهِ هِيَ مُهِمَّتُكَ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ، فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا.
بَخَعَ نَفْسَهُ - قَتَلَهَا وَأَهْلَكَهَا.
أَسَفاً - حُزْناً أَوْ غَيْظاً.(1/2147)
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)
(7) - إِنَّ اللهَ جَعَلَ الدُّنْيا حُلْوةً خَضِرَةً، لِيَنْظُرَ مَاذَا يَعْمَلُ النَّاسُ - كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ -، وَجَعَلَ مَا عَلَى هَذِهِ الأَرْضُ مِنْ نَبَاتٍ وَجَمَادٍ وَحَيَوانٍ. . زِينَةً لَهَا وَلأَهْلِهَا لِيَخْتَبِرَهُمْ فِي فَهْمِ مَقَاصِدِ تِلْكَ الزِّينَةِ، التِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى وُجُودِ الخَالِقِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ، وَلِيَبْتَلِيَهُمْ أَيُّهُمْ يُحْسِنُ العَمَلَ فِيهَا، وِفْقاً لِلْمَقَاصِدِ التِي أَرَادَهَا اللهُ.
لِيَبْلُوَهُمْ - لِيَخْتَبِرَهُمْ مَعَ عِلْمِ اللهِ بِحَالِهِمْ.
أَحْسَنُ عَمَلاً - أَزْهَدُ فِيهَا وَأَسْرَعُ فِي طَاعَةِ اللهِ.(1/2148)
وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
{لَجَاعِلُونَ}
(8) - ثُمَّ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْ زَوَالِ الدُّنْيَا وَذَهَابِهَا، وَذَهَابِ مَا عَلَيْهَا، إِذْ يَجْعَلُ اللهُ جَمِيعَ مَا عَلَيْهَا خَرَاباً يَبَاباً، وَبَلْقَعاً لاَ نَبْتَ فِيهِ (صَعِيداً جُرُزاً) ، بَعْدَ أَنْ كَانَ خَضِراً نَضِراً، مُبْهِجاً، تُسَرُّ بِهِ العُيُونُ.
صَعِيداً جُرُزاً - تُرَاباً أَجْرَدَ لاَ نَبَاتَ فِيهِ.(1/2149)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
{أَصْحَابَ} {آيَاتِنَا}
(9) - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي نُزُولِ هذِهِ السُّورَةِ: إِنَّ قُرَيْشاً أَرْسَلَتْ شَخْصَيْنِ إِلَى يَهُودِ المَدِينَةِ يَسَأَلُونَهُمْ رَأَيهُمْ فِي دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ. فَقَالَ اليَهُودُ لِرَسُولَي قُرَيْشٍ: اسْأَلُوهُ عَنْ ثَلاَثَةِ أُمُورٍ، فَإِنْ أَجَابَكُمْ عَلَيهِنَّ فَإِنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِلاَّ فَهُوَ رَجُلٌ مُتَقَوِّلٌ، فَتَرَوْا فِيهِ رَأْيَكُمْ.
- سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الأَوَّلِ، مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ عَجِيبٌ.
- وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوّافٍ بَلَغَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، مَا كَانَ نَبؤه؟
- وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ مَا هُوَ؟
وَلَمَا سَأَلَتْ قُرَيْشٌ النَّبِيَّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) ، اسْتَمْهَلَهُمْ إِلَى الغَدِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ (أَيْ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللهُ) ، فَتَأَخَّرَ الوَحْيُ عَنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً، فَحَزِنَ الرَّسُولُ لِذلِكَ، وَتَقَوَّلَ المُشْرِكُونَ، ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِهذِهِ السُّورَةِ.
وَيَبْدَأُ تَعَالَى بِسَرْدِ قِصَّةِ أَهْلِ الكَهْفِ، وَهُمُ الفِتْيَةُ الَّذِينَ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الأَوَّلِ. وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ أَمْرَهُمْ لَيْسَ عَجِيباً فِي قُدْرَتِنَا وَسُلْطَانِنَا، فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَخَلَقَ كُلَّ ذَلِكَ أَعْجَبُ مِنْ أَخْبَارِ أَهْلِ الكَهْفِ. وَيَقُولُ تَعَالَى مُبْتَدِئاً سَرْدَ قِصَّةِ أَهْلِ الكَهْفِ: لاَ تَحْسَبْ أَنَّ قِصَّةَ أَهْلِ الكَهْفِ وَالرَّقِيمِ، الَّذِينَ نَامُوا أَمَداً طَوِيلاً، هِيَ الآيَةُ العَجِيبَةُ وَحْدَهَا مِنْ بَيْنِ آيَاتِنَا التِي لاَ تُعَدُّ وَلاَ تُحْصَى، وَالتِي تَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِنَا، فَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمَا فِيهِمَا، أَعْجَبُ مِنْ قِصَّةِ أَهْلِ الكَهْفِ.
أَمْ حَسِبْتَ - بَلْ ظَنَنْتَ.
الكَهْفِ - النَّقَبِ المُتَّسِعِ فِي الجَبَلِ.
الرَّقِيمِ - اللَّوْحِ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الكَهْفِ وَقِصَّتُهُمْ.(1/2150)
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
{آتِنَا}
(10) - اذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ قِصَّةَ الفِتْيَةِ الَّذِينَ فَرُّوا بِدِينِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، لِئَلاَّ يَفْتِنُوهُمْ عَنْهُ، فَلَجَؤُوا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ، لِيَخْتَفُوا فِيهِ عَنْ عُيُونِ قَوْمِهِمْ. فَلَمَّا دَخَلُوهُ سَأَلُوا اللهَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ عَاقِبَتَهُمْ رُشْداً وَهُدًى.
أَوَى الفِتْيَةُ - التَجَؤُوا هَرَباً بِدِينِهِمْ.
رَشَداً - اهْتِدَاءً إِلَى طَرِيقِ الحَقِّ.(1/2151)
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
{آذَانِهِمْ}
(11) - فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ حِجَاباً يَمْنَعُهُمْ مِنَ السَّمَاعِ، وَأَنَمْنَاهُمْ فِي الكَهْفِ عَدَداً مِنَ السِّنِينَ.
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ - أَنَمْنَاهُمْ إِنَامَةً ثَقِيلَةً.(1/2152)
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
{بَعَثْنَاهُمْ}
(12) - ثُمَّ أَيْقَظْنَاهُمْ مِنْ رَقْدَتِهِمْ تِلْكَ، لِنَعْلَمَ أَيُّ وَاحِدٍ مِنَ الفَرِيقَيْنِ (الحِزْبَيْنِ) ، وَالمُخْتَلِفَيْنِ فِيهِمْ أَدَق إِحْصَاءً، وَأَعْرَف بِالمُدَّةِ التِي نَامُوهَا فِي الكَهْفِ.
بَعَثْنَاهُمْ - أَيْقَظْنَاهُمْ مِنْ نَوْمِهِمْ.
أَمَداً - مُدَّةً وَعَدَداً مِنَ السِّنِينَ، أَوْ غَايَةً.(1/2153)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)
{آمَنُواْ} {وَزِدْنَاهُمْ}
(13) - نَحْنُ نُخْبِرُكَ بِنَبإِ هَؤُلاَءِ الفِتْيَةِ الَّذِينَ آوَوْا إِلَى الكَهْفِ كَمَا وَقَعَ، وَلاَ مَحَلَّ فِيهِ للرِّيبَةِ أَوِ الشَّكِّ.
إِنَّهُمْ شُبَّانٌ فِي مُقْتَبَلِ العُمْرِ (فِتْيَةٌ) ، اهْتَدُوا إِلَى الإِيمَانِ بِرَبِّهِمْ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ، فَعَبَدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ زَادَهُمْ رَبُّهُمْ هُدًى عَلَى هُدَاهُمْ، بِتَثْبِيتِهِمْ عَلَى الإِيمَانِ، وَتَوْفِيقِهِمْ إِلَى العَمَلِ الصَّالِحِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا.
(وَيَرَى ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ قِصَّةَ أَهْلِ الكَهْفِ كَانَتْ قَبْلَ ظُهُورِ النَّصْرَانِيَّةِ لاَ بَعْدَهَا، لأَنَّ أَحْبَارَ اليَهُودِ كَانُوا يَعْرِفُونَها، وَقَدْ أَرْسَلُوا إِلَى قُرَيْشٍ لِسُؤَالِ النَّبِيِّ عَنْهَا عَلَى وَجْهِ التَّعْجِيزِ) ، (وَاسْتَدَلَّ الفُقَهَاءُ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ عَلَى أَنَّ الإِيمَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَزِيدَ وَيَنْقُصَ) .(1/2154)
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)
{السماوات} {نَّدْعُوَاْ}
(14) - وَيُقَالُ إِنَّ هَؤُلاَءِ الفِتْيَةَ نَظَرُوا إِلَى مَا يَعْبُدُهُ قَوْمُهُمْ مِنْ أَصْنَامٍ وَأَوْثَانٍ فَنَفَرُوا مِنْهَا، فَاتَّخَذُوا لأَنْفُسِهِمْ مَكَاناً يَتَعَبَّدُونَ اللهَ فِيهِ، فَعَلِمَ بِهِمْ قَوْمُهُمْ، فَرَفَعُوا أَمْرَهُمْ إِلَى المَلِكِ، وَكَانَ مَلِكاً جَبَّاراً عَنِيداً، فَاسْتَحْضَرَهُمْ وَسَأَلَهُمْ عَنْ حَالِهِمْ، وَمَا يَعْبُدُونَ، فَأَلْهَمَهُمُ اللهُ قُوَّةَ العَزِيمَةِ، وَشَدَّدَ قُلُوبَهُمْ بِنُورِ الإِيمَانِ، فَقَامُوا بَيْنَ يَدَيِ المَلِكِ، فَاعْتَرَفُوا لَهُ بِنُفُورِهِمْ مِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَالأَوْثَانِ، وَبِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللهَ وَحْدَهُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ. ثُمَّ دَعَوْهُ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ} . وَلَمَّا أَرَادَ المَلِكُ أَنْ يُقْنِعَهُمْ بِالعَوْدَةِ إِلَى دِينِ قَوْمِهِمْ قَالُوا لَهُ: إِنَّ دِينَهُمْ هُوَ الدِّينُ الصَّحِيحُ الحَقُّ، وَلَنْ يَرْجِعُوا إِلَى عِبَادَةِ الأَصْنَامِ أَبَداً، لأَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بُهْتَاناً وَبَاطِلاً (لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً) .
رَبَطْنَا - شَدَدْنَا وَقَوَّيْنَا بِالصَّبْرِ.
شَطَطاً - قَوْلاً مُفْرِطاً فِي البُعْدِ عَنِ الحَقِّ.(1/2155)
هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
{آلِهَةً} {بِسُلْطَانٍ}
(15) - لَقَدِ اتَّخَذَ قَوْمُنَا آلِهَةً مِنْ دُوْنِ اللهِ، هِيَ أَصْنَامٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي عِبَادَتِهَا مِنْ حُجَّةٍ وَلاَ بُرْهَانٍ وَلاَ دَلِيلٍ، فَهَلاَّ جَاؤُوا عَلَى صِدْقِ قَوْلِهِمْ فِي أَنَّهَا آلِهَةً بِدَلِيلٍ مُقْنِعٍ.؟ فَلاَ أَحَدَ أَكْثَرُ ظُلْماً مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ، وَنَسَبَ إِلَيْهِ تَعَالَى قَوْلاً لَمْ يَقُلْهُ، وَأَمراً لَمْ يَأْمُرْ بِهِ {افترى عَلَى الله كَذِباً} .(1/2156)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
{فَأْوُوا}
(16) - وَيُقَالُ: إِنَّ المَلِكَ هَدَّدَهُمْ إِنْ لَمْ يَعُودُوا إِلَى دِينِ قَوْمِهِمْ، وَسَجْنِهِمْ، فَفَرُّوا مِنَ السِّجْنِ، وَالْتَجَؤُوا إِلَى الكَهْفِ. وَلِهَذا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِنَّكُمْ اعْتَزَلْتُمْ قَوْمَكُمْ وَخَالَفْتُمُوهُمْ فِيمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ، فَابْتَعِدُوا عَنْهُمْ، وَفَارِقُوهُمْ وَاذْهَبُوا إِلَى الكَهْفِ، يَبْسُطُ عَلَيْكُمْ رَبُّكُمْ رَحْمَةً يَسْتركُمْ بِهَا مِنْ قَوْمِكُمْ، وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمُ الذِي أَنْتُمْ فِيهِ، أَمْراً تَرْتَفِقُونَ بِهِ وَتَنْتَفِعُونَ (مِرْفَقاً) . فَخَرَجُوا إِلَى الكَهْفِ، وَالْتَجَؤُوا إِلَيْهِ، فَلَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِمْ قَوْمُهُمْ.
مِرْفَقاً - مَا تَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي عَيْشِكُمْ.(1/2157)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
{تَّزَاوَرُ} {آيَاتِ}
(17) - وَكَانَ وَضْعُ الكَهْفِ الذِي آوَى الفِتْيَةُ إِلَيْهِ، أَنَّهُ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ تَمِيلُ عَنْهُ ذَاتَ اليَمِينِ، وَإِذَا مَالَتْ لِلْغُرُوبِ، دَخَلَتْ غَارَهُمْ مِنْ شَمَالِيِّ بَابِهِ (تَقْرِضُهُمْ) ، (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ مَعْنَى تَقْرِضُهُمْ هُوَ: تَتْرُكُهُمْ، وَتَعْدِلُ عَنْهُمْ) ، وَكَانَ الفِتْيَةُ فِي مَكَانٍ مُتَّسِعٍ، دَاخِلَ الكَهْفِ {فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} لاَ تَمَسُّهُمْ فِيهِ الشَّمْسُ. وَمِنْ آيَاتِ اللهِ وَلُطْفِهِ بِهِمْ أَنَّهُ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الإِيمَانِ، وَثَبَّتَهُمْ عَلَيْهِ، حِينَ قَامُوا بَيْنَ يَدَي المَلِكِ الجَبَّارِ، ثُمَّ أَنَّهُ هَدَاهُمْ إِلَى هَذا الكَهْفِ الَّذِي يَدْخُلُهُ النُّورُ وَالهَوَاءُ وَالشَّمْسُ لِتَبْقَى أَبْدَانُهُمْ سَلِيمَةً. وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي هَدَى هَؤُلاَءِ الفِتْيَةِ إِلَى عِبَادَتِهِ، وَالإِيمَانِ بِهِ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِمْ، وَمَنْ هَدَاهُ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِي، وَمَنْ أَضَلَّهُ اللهُ فَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَهْدِيهِ وَيُرْشِدُهُ إِلَى الحَقِّ وَالصَّوَابِ.
قَرَضَتِ المَكَانَ - عَدَلَتْ عَنْهُ.
تَزَاوَرُ - تَتَنَحَّى وَتَمِيلُ.
فَجْوَةٍ - مُتَّسَعٍ مِنَ الكَهْفِ.(1/2158)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
{بَاسِطٌ}
(18) - وَيُقَالُ: إِنَّ الفِتْيَة نَامُوا وَعُيُونُهُمْ مَفْتُوحَةٌ لِكَيْلاَ يُسْرِعَ إِلَيْهَا البِلَى، فَيَحْسَبُ النَّاظِرُ إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَيْقَاظٌ، وَهُمْ فِي الحَقِيقَةِ نِيَامٌ (رُقُودٌ) ، وَيُقَلِّبُهُمْ اللهُ عَلَى جَنْبَيْهِمْ: ذَاتَ اليَمِينِ، وَذَاتَ الشِّمَالِ، لِئَلاَّ تَأْكُلَ الأَرْضُ أَجْسَادَهُمْ، وَيُسْرِعَ إِلَيْهَا البِلَى، وَكَلْبُهُمْ رَابِضٌ فِي فَنَاءِ الكَهْفِ (أَوْ عِنْدَ بَابِهِ) - (بِالوَصِيدِ) عَلَى هَيْئَتِهِ فِي جُلُوسِهِ حَالَ الحِرَاسَةِ، وَكَأَنَّهُ يَحْرُسُهُمْ، وَأَضْفَى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مَهَابَةً، لِكَيْلا يَقْتَرِبَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلِكَيْلاَ تَمَسَّهُمُ الأَيْدِي حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِمْ نَاظِرٌ امْتَلأَتْ نَفْسُهُ مِنْهُمْ مَهَابَةً وَخَوْفاً.
بِالوَصِيدِ - بِفَنَاءِ الكَهْفِ، أَوْ عَتَبَةِ بَابِهِ.
رُعْباً - خَوْفاً وَفَزَعاً.(1/2159)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
{بَعَثْنَاهُمْ} {قَائِلٌ}
(19) - وَكَمَا أَرْقَدَهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي الكَهْفِ وَحَفِظَ أَجْسَادَهُمْ مِنَ البِلَى، بَعَثَهُمْ مِنْ رُقُودِهِمْ، وَأَبْدَانِهِمْ سَلِيمَةٌ، وَشُعُورُهُمْ وَأَبْشَارُهُمْ سَلِيمَةٌ، فَسَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً كَمْ كَانَتْ مُدَّةُ رَقْدَتِكُمْ؟ قَالُوا: لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ (إِذْ يُقَالُ إِنَّهُمْ دَخَلوا الكَهْفَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَاسْتَيْقَظُوا فِي آخِرِهِ) ، فَقَالُوا وَكَأَنَّهُمْ اسْتَكْثَرُوا نَوْمَهُمْ: اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ. وَالمُهِمُّ الآنَ أَنْ تَبْعَثُوا وَاحِداً مِنْكُمْ إِلَى المَدِينَةِ بِمَا مَعَكُمْ مِنْ عِمْلَةٍ مِنَ الفِضَّةِ (وَرَقِكُمْ) ، فَلْيَبْحَثْ لَكُمْ عَنْ أَطْيَبِ طَعَامٍ وَأَطْهَرَهُ، وَلْيَأْتِكُمْ بِشَيءٍ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا الرَّسُولِ أَنْ يُحَاوِلَ قَدْرَ جُهْدِهِ عَدَمَ لَفْتِ الأَنْظَارِ إِلَيْهِ، وَلْيَتَلَطَّفُ فِي ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ، لِكَيْلاَ يَشْعُرَ أَحَداً بِمَكَانِكُمْ.
بَعَثْنَاهُمْ - أَيْقَظْنَاهُمْ مِنْ نَوْمِهِمْ.
بِوَرَقِكُمْ - بِدَرَاهِمِكُمْ المَضْرُوبَةِ مِنَ الفِضَّةِ.
أَزْكَى طَعَاماً - أَكْثَرُ حِلاًّ، أَوْ أَجْوَدُ طَعَاماً.(1/2160)
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
(20) - لأَنَّ قَوْمَكُمْ إِنْ عَلِمُوا بِمَكَانِكُمْ عَذَّبُوكُمْ، وآذَوْكُمْ إِلَى أَنْ يَضْطَرُّوكُمْ إِلَى العَوْدَةِ فِي مِلَّتِهِمْ، أَوْ يَبْلُغُوا بِكُمُ المَوْتَ رَجْماً بِالحِجَارَةِ، وَإِذَا وَافَقْتُمُوهُمْ عَلَى العَوْدَةِ إِلَى دِينِهِمْ فَلاَ فَلاَحَ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلاَ فِي الآخِرَةِ.
يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ - يَطَّلِعُوا عَلَيْكُمْ، أَوْ يَغْلِبُوكُمْ.(1/2161)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
{يَتَنَازَعُونَ} {بُنْيَاناً}
(21) - وَكَمَا أَرْقَدْنَاهُمْ وَأَيْقَظْنَاهُمْ بِهَيْئَاتِهِمْ، أَطْلَعْنَا عَلَيْهِمْ أَهْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ، لِيَعْلَمَ الشَّاكُّونَ بِالبَعْثِ وَالحَشْرِ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ، وَأَنَّ القِيَامَةَ سَتَقُومُ فِي الوَقْتِ الَّذِي حَدَّدَهُ اللهُ لَهَا، بِدُونِ شَكٍّ. وَأَخَذَ النَّاسُ يَتَنَازَعُونَ فِي أَمْرِ هَؤُلاَءِ الفِتْيَةِ فَقَالَ قَوْمٌ: سُدُّوا عَلَيْهِمْ بَابَ الكَهْفِ بِبِنَاءٍ وَاتْرُكُوهُمْ لإِرَادَةِ اللهِ. وَقَالَ آخَرُونَ (وَهُمُ الَّذِينَ كَانَتْ لَهُمُ الغَلَبَةُ فِي الحُكْمِ) ، إِنَّهُمْ سَيُقِيمُونَ عَلَى كَهْفِهِمْ مَعْبَداً يُصَلِّي النَّاسُ فِيهِ {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً} .
أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ - أَطْلَعْنَا النَّاسَ عَلَيْهِمْ.(1/2162)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
{ثَلاثَةٌ} {ظَاهِراً}
(22) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى: أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ هَؤُلاَءِ الفِتْيَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُمْ ثَلاَثَةٌ، وَكَلْبُهُمْ رَابِعُهُمْ. وَقَالَ آخَرُوْنَ: إِنَّهُمْ خَمْسَةٌ وَكَلْبُهُمْ سَادِسُهُمْ. وَضَعَّفَ اللهُ تَعَالَى كُلا القَوْلَيْنِ وَعَدَّهُما مِنْ قَبِيلِ الرَّجْمِ بِالغَيْبِ، وَالقَوْلِ بِلاَ عِلْمٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ إِنَّهُمْ سَبْعَةٌ وَكَلْبُهُمْ ثَامِنُهُمْ، وَلَم يُضَعِّفِ اللهُ هَذا القَوْلَ، وَلَمْ يَقُلْ عَنْهُ إِنَّهُ رَجْمٌ بِالغَيْبِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ، وَإِنَّهُ هُوَ الحَقِيقَةُ - كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ-.
ثُمَّ قَالَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ: إِنَّهُ مِنَ الأَفْضَلِ فِي مِثْلِ هذا المَقَامِ رَدُّ العِلْمِ إِلَى اللهِ، إِذْ لاَ ضَرُورَةَ لِلْخَوْضِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الأُمُورِ بِلاَ عِلْمٍ. فَلاَ يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ فِي الحَقِيقَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ.
وَيُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ، مِنْ خِلاَلِ خِطَابِهِ لِلرَّسُولِ، أَنْ لاَ يَخُوضُوا، وَلاَ يُجَادِلُوا فِي ذَلِكَ الأَمْرِ إِلاَّ خَوْضاً سَهْلاً هَيِّناً، لأَنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ لاَ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فَائِدَةً كَبِيرةً، وَأَنْ لاَ يَسْأَلُوا أَحَداً مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِمَّنْ يَدَّعُونَ العِلْمَ فِي أَمْرِ أَهْلِ الكَهْفِ فَإِنَّهُمْ لاَ عِلْمَ لَهُمْ بِشَيءٍ، وَإِنَّ مَا يَقُولُونَهُ إِنَّمَا هُوَ رَجْمٌ بِالغَيْبِ، وَقَوْلٌ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ لاَ مُسْتَنَدَ لَهُمْ فِيهِ، وَقَدْ جَاءَكُمُ الحَقُّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فِي أَمْرِ هَؤُلاَءِ الفِتْيَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لاَ مِرْيَةَ فِيهِ وَلاَ شَكَّ، وَالمُهِمُّ فِي المَوْضُوعِ لَيْسَ مَعْرِفَةَ العَدَدِ، وَلَكِنِ الاعْتِبَارَ بِالقِصَّةِ.
رَجْماً بِالغَيْبِ - قَذْفاً بِالظَّنِّ مِنْ غَيْرِ يَقِينٍ.
فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ - فَلاَ تُجَادِلْ فِي عدِّتِهِمْ وَشَأْنِهِمْ.
إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً - تِلاَوَةَ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ فِي أَمْرِهِمْ.(1/2163)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23)
{لِشَيْءٍ}
(23) - يُرْشِدُ اللهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ إِذَا عَزَمَ عَلَى فِعْلِ شَيءٍ فِي المُسْتَقْبَلِ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ. أَيْ وَلاَ تَقُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ إِنِّي سَأَفْعَلُ ذَلِكَ الشَّيءَ غَداً إِلاَّ أَنْ تَقُولَ - إِنْ شَاءَ اللهُ - لأَنَّهُ قَدْ يَمْنَعُهُ مَانِعٌ مِنَ الوَفَاءِ بِمَا قَالَ فَيَكُونُ مُخْلِفاً.(1/2164)
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
(24) - حِينَمَا سَأَلَ الكُفَّارُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قِصَّةِ أَهْلِ الكَهْفِ قَالَ لَهُمْ: إِنَّهُ سَيُجِيبُهُمْ غَداً، وَلَمْ يَسْتَثْنِ (أَيْ لَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللهُ) فَتَأَخَّرَ الوَحْيُ عَنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً، فَنَبَّهَ اللهُ رَسُولَهُ إِلَى وُجُوبِ رَدِّ المَشِيئَةِ إِلَى اللهِ، وَأَنَّ عَلَيْهِ إِذَا نَسِيَ أَنْ يَسْتَثْنِي وَيَقُولُ إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلْيَذْكُرِ اللهَ، فَإِنَّ ذِكْرَ اللهِ يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ. وَإِذَا سُئِلَ عَنْ شَيءٍ لاَ يَعْرِفُهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى اللهِ فِيهِ لِيَسْأَلَهُ أَنْ يُوَفِّقَهُ إِلَى الصَّوَابِ.
رَشَداً - هِدَايَةً وَإِرْشَاداً لِلنَّاسِ.(1/2165)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
{ثَلاثَ مِئَةٍ}
(25) - وَكَانَتْ مُدَّةُ رَقْدَتِهِمْ فِي الكَهْفِ، مُنْذُ دُخُولِهِمْ إِلَيْهِ حَتَّى بَعَثْهِمْ، وَتَسَاؤُلِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ: ثَلاَثَمِئَةِ سَنَةٍ شَمْسِيَّةٍ (وَهِيَ السَّنَةُ التِي كَانَ يَتَعَامَلُ بِهَا أَهْلُ الكِتَابِ) ، تُعَادِلُ ثَلاَثَمِئَةٍ وَتِسْعِ سَنَوَاتٍ قَمَرِيَّةٍ، (وَهِيَ السَّنَةُ التِي كَانَ يَتَعَامَلُ بِهَا العَرَبُ) .(1/2166)
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
{السماوات}
(26) - ثُمَّ أَكَّدَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ المُدَّةَ التِي نَامَهَا الفِتْيَةُ فِي الكَهْفِ هِيَ التِي بَيَّنَهَا تَعَالَى فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ، فَقَالَ لِهؤُلاَءِ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي عَدَدِهِمْ، وَفِي مُدَّةِ لَبْثِهِمْ فِي الكَهْفِ، إِنَّ اللهَ أَعْلَمُ مِنْكُمْ بِهِمْ، وَبِعَدَدِهِمْ، وَبِمُدَّةِ لَبْثِهِمْ، وَقَدْ أَخَبْرَ عَنْ مُدَّتِهِمْ، وَقَوْلِهِ الحَقُّ الذِي لاَ مِرْيَةَ فِيهِ وَلاَ شَكَّ. وَللهِ عِلْمُ مَا غَابَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَفِيَ مِنْ أَحْوَالِهِمَا وَأَحْوَالِ أَهْلِهِمَا، لاَ يَغْرُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيءٌ مِنْهُ.؟
وَمَا أَبْصَرَ اللهَ بِكُلِّ مَوْجُودٍ! وَمَا أَسْمَعَهُ بِكُلِّ مَسْمُوعٍ! لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيءٌ، وَهُوَ تَعَالَى الَّذِي يَمْلِكُ الخَلْقَ وَالأَمْرَ، وَلاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ وَلاَ مُشِيرٌ، تَعَالَى اللهُ وَتَقَدَّسَ.
أَبْصِرْ بِهِ - مَا أَبْصَرَ اللهُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ!(1/2167)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
{لِكَلِمَاتِهِ}
(27) - وَاتْلُ الكِتَابَ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْكَ رَبُّكَ، وَالزَمِ العَمَلَ بِهِ، وَاتَّبِعْ مَا فِيهِ مِنْ أَوَامِرَ وَنَوَاهٍ، فَلاَ أَحَدْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا فِيهِ مِنْ وَعِيدٍ لأَهْلِ المَعَاصِي، وَمِنْ وَعْدٍ لأَهْلِ الطَّاعَةِ وَالإِيمَانِ، وَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَتْبَعْهُ نَالَكَ وَعِيدُ اللهِ الَّذِي أَوْعَدَ بِهِ العُصَاةَ، فَلَنْ تَجِدَ مَوْئِلاً مِنْ دُونِهِ، وَلاَ مَلْجَأً تَلْجَأُ إِلَيْهِ.
مُلْتَحَداً - مَلْجَأً وَمَوْئِلاً.(1/2168)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
{بالغداة} {الحياة} {هَوَاهُ}
(28) - وَاجْلِسْ مَعَ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ، وَيَحْمَدُونَهُ وَيُسَبِّحُونَهُ، وَيَسْأَلُونَهُ مِنْ فَضْلِهِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، وَهُمُ المُؤْمِنُونَ مِنْ عِبَادِ اللهِ، سَواءً كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ (وَيُقَالُ إِنَّ هذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ حِينَ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُمْ وَحْدَهُمْ، وَأَنْ لاَ يُجَالِسِ الفُقَرَاءَ وَالضُّعَفَاءَ مِنَ المُسْلِمِينَ) . ثُمَّ يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ الكَرِيمَ بِأَنْ لاَ يُجَاوِزَ هؤُلاَءِ المُؤْمِنِينَ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ الشَّرَفِ وَالثَّرْوَةِ، وَبِأَنْ لاَ يُطِيعَ مَنْ شُغِلَ بِالدُّنْيا عَنِ الدِّينِ، وَعَنْ عِبَادَةِ اللهِ، وَمَنْ تَجَاوَزَ فِي أَعْمَالِهِ حُدُودَ اللهِ، وَتَمَادَى فِي ارْتِكَابِ المَعَاصِي وَالآثَامِ، وَكَانَ مُفْرِطاً سَفِيهاً فِي أَمْرِهِ.
اصْبِرْ نَفْسَكَ - احْبِسْهَا وَثَبِّتْهَا.
لاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ - لاَ تَصْرِفْ عَيْنَاكَ النَّظَرَ إِلَيْهِمْ.
أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ - جَعَلْنَا قَلْبَهُ غَافِلاً سَاهِياً.
فُرُطاً - إِسْرَافاً، أَوْ تَضْيِيقاً وَهَلاَكاً.(1/2169)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
{لِلظَّالِمِينَ}
(29) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ: إِنَّ هَذا الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ رَبِّكُمْ هُوَ الحَقُّ الَّذِي لاَ مِرْيَةَ فِيهِ، وَلاَ شَكَّ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ بِهِ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، فَقَدْ أَعْدَدْنَا وَأَرْصَدْنَا لِلكَافِرِينَ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ، الظَّالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ، نَاراً لَهَا سُورٌ يُحِيطُ بِمَنْ يَدْخُلُونَهَا (أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) . وَإِذَا اسْتَغَاثَ أَهْلُ النَّارِ لِيُطْفِئُوا عَطَشَهُمْ يُغَاثُونَ بِمَاءٍ شَدِيدِ الحَرَارَةِ، فَإِذَا قَرَّبُوهُ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ اشْتَوَتْ وُجُوهَهُمْ مِنْ شِدَّةِ حَرِّهِ، وَبِئْسَ هَذا الشَّرَابُ شَرَاباً، وَسَاءَتِ النَّارُ مَنْزِلاً لِلارْتِفَاقِ، وَالاتِّكَاءِ لِلرَّاحَةِ، وَسَاءَتْ مَقِيلاً.
سُرَادِقُهَا - فُسْطَاطُهَا أَوْ لَهِيبُهَا أَوْ دُخَانُهَا.
كالْمُهْلِ - كَدُرْدِيِّ الزَّيْتِ أَوِ الذَّائِبِ مِنَ المَعَادِنِ.
سَآءَتْ مُرْتَفَقاً - سَاءَتِ النَّارُ مَقَرّاً أَوْ مُتَّكَأً.(1/2170)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)
{آمَنُواْ} {الصالحات}
(30) - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى حَالَ الأَشْقِيَاءِ، ثَنَّى بِذِكْرِ حَالِ السُّعَدَاءِ، مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ، وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لاَ يُضَيِّعُ أَجْرَ مَخْلُوقٍ مِنْ عِبَادِهِ آمَنَ بِالحَقِّ الَّذِي يُوحَى إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، وَعَمِلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ، وَلاَ يَظْلِمُهُ نَقِيراً.(1/2171)
أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
{أولئك} {جَنَّاتُ} {الأنهار} {الأرآئك}
(31) - فَهؤُلاَءِ السُّعَدَاءُ الأَبْرَارُ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ لِيُقِيمُوا فِيهَا أَبَداً، وَتَجْرِي الأَنْهَارُ وَالمِيَاهُ فِي جَنَبَاتِهَا، وَيَلْبِسُونَ فِيهَا حُلِيّاً، هِيَ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤٍ، وَيَلْبَسُونَ فِيهَا ثِيَاباً مِنَ الحَرِيرِ خَضْرَاءَ اللَّوْنِ (كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى) ، مِنْهَا ثِيَابٌ رَقِيقَةٌ كَالقُمْصَانِ، وَمَا مَاثَلَهَا، (مِنْ سُنْدُسٍ) ، وَمِنْهَا ثِيَابٌ غَلِيظَةٌ، كَالدِّيبَاجِ لَهُ بَرِيقٌ (مَنْ إِسْتَبْرَقٍ) ، وَيَجْلِسُونَ عَلَى الأَرَائِكِ وَالأَسِرَّةِ مُسْتَنِدِينَ (مُتَّكِئِينَ) ، لِيَرْتَاحُوا فِي جَلْسَتِهِمْ. وَحَسُنَتِ الجَنَّةُ ثَوَاباً لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَحَسُنَت مَنْزِلاً وَمَقِيلاً.
جَنَّاتُ عَدْنٍ - جَنَّاتُ إِقَامَةٍ وَاسْتِقْرَارٍ.
سُنْدُسٍ - رَقِيقِ الدِّيبَاجِ.
وَإِسْتَبْرَقٍ - غَلِيظِ الدِّيبَاجِ.
الأَرَآئِكِ - السُّرُرِ.(1/2172)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)
{أَعْنَابٍ} {وَحَفَفْنَاهُمَا}
(32) - وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: اضْرِبْ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ بِاللهِ، الَّذِينَ سَأَلُوكَ أَنْ تَطْرُدَ المُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ، مَثَلاً بِرَجُلَيْنِ أَغْنَى اللهُ أَحَدَهُمَا وَآتَاهَ بُسْتَانَيْنِ مِنْ كَرْمِ العِنَبِ، وَأَحَاطَهُمَا بِأَشْجَارِ النَّخِيلِ، وَجَعَلَ وَسَطَ هَذَيْنِ البُسْتَانَيْنِ زَرْعاً يُنْتَفَعُ بِهِ.
جَنَّتَيْنِ - بُسْتَانَيْنش.
حَفَفْنَاهُمَا - أَحَطْنَاهُمَا.(1/2173)
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)
{آتَتْ} {خِلالَهُمَا}
(33) - وَقَدْ أَخْرَجَتْ كُلٌّ مِنَ الجَنَّتَيْنِ ثَمَرَهَا، وَلَمْ تُنْقِصْ مِنْهُ شَيْئاً فِي سَائِرِ الأَعْوَامِ، عَلَى خِلاَفِ مَا يُعْهَدُ فِي الكُرُومِ وَالأَشْجَارِ، مِنْ أَنَّهَا تَكْثُرُ غَلَّتُهَا أَعْوَاماً، وَتَقِلُّ أَعْوَاماً أُخْرَى. وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى وَسَطَ الجَنَّتَيْنِ نَهْراً كَبِيراً تَتَفَرَّعُ مِنْهُ الجَدَاوِلَ، لِيَدُومَ رِيُّ أَشْجَارِهَا وَزَرْعُهَا، فَيَزِيدَ بَهَاؤُهَا، وَتَكْثُرَ غَلَّتُهَا.
أُكُلُهَا - ثَمَرُهَا الَّذِي يُؤْكَلُ.
لَمْ تَظْلِمْ - لَمْ تُنْقِصْ مِنْ أُكُلِهَا.
فَجَّرْنَا خِلاَلَهُمَا - شَقَقْنَا وَأَجْرَيْنَا وَسَطَهُمَا.(1/2174)
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
{لِصَاحِبِهِ}
(34) - وَفِي يَوْمٍ كَانَتْ فِيهِ الثِّمَارُ تَعْلُو الأَشْجَارَ فِي البُسْتَانَيْنِ، فَالْتَقَى صَاحِبُ البُسْتَانَيْنِ بِصَاحِبٍ لَهُ مُؤْمِنٌ، كَانَ يَدعُوهُ إِلَى الإِيمَانِ، وَيُذَكِّرُهُ بِأَنَّ الدُّنْيا فَانِيَةٌ، وَأَنَّ عَلَى العَاقِلِ أَنْ لاَ يَغْتَرَّ بِهَا، وَأَنَّ ثَوَابَ اللهِ وَرِضْوَانَهُ فِي الآخِرَةِ أَعْظَمُ لِلْمُؤْمِنِ المُتَّقِي مِنْ كُلِّ مَا فِي الدُّنْيَا، وَكَانَ يُحَذِّرُهُ مِنْ عِقَابِ اللهِ وَعَذَابِهِ، فَقَالَ صَاحِبُ البُسْتَانَيْنِ لِصَاحِبِهِ المُؤْمِنُ، وَهُوَ يُحَاوِرُهُ، وَيُجَادِلُهُ: أَلاَ تَرَى أَنِّي أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً، فَلَدَيَّ زُرُوعٌ وَبَسَاتِينُ وَأَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنِّي أَعَزُّ مِنْكَ عَشِيرَةً وَرَهْطاً، فَيَنْفُرُ مَعِيَ أَهْلِي وَعَشِيرَتِي، إِذَا اسْتَنْفَرْتُهُمْ لِنُصْرَتِي وَعَوْنِي عِنْدَ الحَاجَةِ.
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ - كَانَتْ لَهُ ثِمَارٌ عَلَى أَشْجَارِهِ وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّ المَعْنَى هُوَ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ أَمْوَالٌ أُخْرَى يُثَمِّرُها، وَيَسْتَفِيدُ مِنْهَا.
َأَعَزُّ نَفَراً - أَقْوَىأَعْوَاناً وَعَشِيرَةً.(1/2175)
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35)
(35) - وَدَخَلَ الغَنِيُّ، المُفَاخِرُ بِمَالِهِ، وَعَشِيرَتِهِ وَنَفَرِهِ، إِلَى بُسْتَانِهِ، وَرَأَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنٍ وَبَهَاءٍ، وَثِمَارٍ، وَخَصْبٍ، فَاغْتَرَّ بِالدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَقَالَ لِصَاحِبِهِ، المُؤْمِنُ: مَا أَظُنُّ أَنْ تَفْنَى هَذِهِ الجَنَّةُ أَبداً، وَلاَ أَنْ تَخْرَبَ.
أَن تَبِيدَ - أَنْ تَهْلِكَ وَتَفْنَى وَتَخْرَبَ.(1/2176)
وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
{قَائِمَةً} {وَلَئِن}
(36) - وَقَادَهُ غُرُورُهُ إِلَى الكُفْرِ بِاللهِ، وَبِالآخِرَةِ وَبِالمِعَادِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لاَ يَظُنُّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حَشْرٌ، وَلاَ مَعَادٌ، وَلاَ حِسَابٌ. وَأَرْدَفَ قَائِلاً: إِنَّهُ إِنْ كَانَ هُنَاكَ سَاعَةٌ وَحَشْرٍ وَمَعَادٍ إِلَى اللهِ، فَإِنَّهُ سَيَجِدُ عِنْدَ اللهِ خَيْراً مِنْ هَذا البُسْتَانِ، لأَنَّهُ لَولاَ كَرَامَتُهُ عَلَى اللهِ لَمَا أَعْطَاهُ هَذا الرِّزْقَ الوَفِيرَ فِي الدُّنْيَا.
مُنْقَلَباً - مَرْجِعاً وَعَاقِبَةً.(1/2177)
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)
{سَوَّاكَ}
(37) - فَأَجَابَهُ صَاحِبُهُ المُؤْمِنُ يَعِظُهُ، وَيَزْجُرُهُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ، وَالغَيِّ، وَالاغْتِرَارِ: أَتَكْفُرُ بِاللهِ الَّذِي خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً قَوِيّاً بَالِغاً؟(1/2178)
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)
(39) - وَلَقَدْ كَانَ الأَوْلَى بِكَ (وَلَوْلاَ) ، إِذْ أَعْجَبَتْكَ جِنَّتُكَ حِينَ دَخَلْتَهَا، وَنَظَرْتَ إِلَيْهَا، أَنْ تَحْمِدَ اللهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكَ، وَأَعْطَاكَ مِنَ المَالِ وَالوَلَدِ، وَأَنْ تَقُولَ: هَذَا مَا شَاءَ اللهُ، وَلاَ قُوَّةَ لِي عَلَى تَحْصِيلِهِ إِلاَّ بِمَعُونَةِ اللهِ. وَإِنَّكَ إِذَا كُنْتَ تَرَانِي أَفْقَرُ مِنْكَ، وَأَقَلُّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً.(1/2179)
فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)
(40) - فَإِنِّي أَرْجُو اللهَ أَنْ يَقْلِبَ الآيَةَ، فَيَجْعَلَكَ فَقِيراً، قَلِيلَ المَالِ، وَالوَلَدِ، وَأَنْ يَرْزُقَنِي رَبِّي الغِنَى وَالوَلَدَ لإِيمَانِي وَإِخْلاَصِي للهِ، وَأَنْ يَرْزُقَنِي جَنَّةً تَكُونُ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ، وَيَسْلُبَكَ بِكُفْرِكَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكَ، وَيُخَرِّبَ جَنَّتَكَ بِأَنْ يُرْسِلَ عَلَيْهَا مَطَراً مِنَ السَّمَاءِ، يُدَمِّرُ زُرُوعَهَا، وَيَقْتَلِعُ أَشْجَارَهَا، فَتُصْبِحُ بَلْقَعاً لاَ تُنْبِتُ شَيْئاً {صَعِيداً زَلَقاً} .
حُسْبَاناً - مَطَراً شَدِيداً أَوْ عَذَاباً كَالصَّوَاعِقِ وَالآفَاتِ.
صَعِيداً زَلَقاً - بَلْقَعاً لاَ تُنْبِتُ شَيْئاً أَوْ رَمْلاً هَائِلاً يَزْلَقُ مَنْ يَسِيرُ عَلَيْهَا.(1/2180)
أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
(41) - أَوْ يَعُوزُ مَاؤُهَا فِي الأَرْضِ وَيَتَوَارَى، فَلاَ تَسْتَطِيعُ العُثُورَ عَلَيْهِ لإِخْرَاجِهِ لِسَقْيِها.
غَوْراً - غَائِراً ذَاهِباً فِي الأَرْضِ.(1/2181)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
{ياليتني}
(42) - وَأَحَاطَتِ الكَوَارِثُ بِثِمَارِ جَنَّتِهِ الَّتِي يَقُولُ إِنَّهُ لاَ يَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ أَبَداً، وَحَلَّ بِهَا مَا كَانَ يُحَذِّرُهُ مِنْهُ صَاحِبُهُ المُؤْمِنُ، مِنْ دَمَارٍ وَغَوْرِ مَاءٍ {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} ، فَأَصْبَحَتِ الجّنَّةُ بَلْقَعاً يَبَاباً خَاوَيَةً عَلَى عُرُوشِهَا، فَأَخَذَ يَضْرِبُ كَفّاً بِكَفٍّ أَسَفاً وَنَدَماً وَحُزْناً عَلَى مَا حَلَّ بِهَا، وَعَلَى مَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ مَالٍ، وَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي ثُبْتُ لِرُشْدِي فَلَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً.
أُحِيطَ بِثَمَرِهِ - أُهْلِكَتْ أَمْوَالُهُ مَعَ جَنَّتَيْهِ.
يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ - كِنَايَةً عَنْ النَّدَمِ وَالتَّحَسُّرِ.
خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا - سَاقِطَةٌ سُقُوفُهَا عَلَى قِيعَانِهَا.(1/2182)
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)
(43) - وَلَمْ تَكُنْ لَهُ جَمَاعَةٌ (فِئَةٌ) مِنْ عَشِيرَةٍ، أَوْ أَهْلٍ، وَوَلَدٍ، مِمَّنْ كَانَ يَفْتَخِرُ بِهِمْ، وَيَغْتَرٌّ، يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُ، وَمَنْعَ مَا أَرَادَهُ اللهُ بِهِ. وَبِجَنَّتَيْهِ مِنْ خَرَابٍ وَدَمَارٍ، وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً بِقُوَّتِهِ عَنِ انْتِقَامِ اللهِ مِنْهُ.(1/2183)
هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
{الولاية}
(44) - وَفِي مِثْلِ هذِهِ الحَالِ مِنَ الشَّدَائِد وَالمِحَنِ، تَكُونُ المُوَالاَةُ، وَتَكُونُ النُّصْرَةُ للهِ وَحْدَهُ. وَفِي الشَّدَائِدِ يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، يُعْلِنُونَ خُضُوعَهُمْ وَاعْتِرَافَهُمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ، فَهُوَ خَيْرُ مَنْ أَثَابَ، وَخَيْرُ مَنْ جَازَى. وَالأَعْمَالُ التِي تَكُونُ خَالِصَةً للهِ عَزَّ وَجَلَّ، تَكُونُ عَاقِبَتُهَا خَيْراً وَرَشَداً لِفَاعِلِيهَا.
الوَلاَيَةُ - النُّصْرَةُ لَهُ تَعَالَى وَحْدَهُ.
خَيْرٌ عُقْباً - خَيْرٌ عَاقِبَةً لأَوْلِيَائِهِ.(1/2184)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
{الحياة} {أَنْزَلْنَاهُ} {الرياح}
(45) - وَاضْرِبْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ مَثَلاً بِالحَيَاةِ الدُّنْيا، فِي نُضْرَتِهَا، ثُمَّ فِي صَيْرُورَتِهَا إِلَى زَوَالٍ، وَانْقِضَائِهَا، بِمَاءٍ أَنْزَلَهُ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ، فَأَصَابَ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ بُذُورٍ وَحَبٍّ، فَنَبَتَ وَحَسُنَ مَنْظَرُهُ، وَعَلاَهُ الزَّهْرُ، وَالنُّورُ، وَالنُّضْرَةُ، ثُمَّ أَصْبَحَ بَعْدَ ذَلِكَ يَابِساً، هَشِيماً، مُتَكَسِّراً. تُبَعْثِرُهُ الرِّيَاحُ، وَتُفَرِّقُهُ وَتَطْرَحُهُ يَمِيناً وَشِمَالاً {تَذَرُوهُ الرِّيَاحُ} ، وَاللهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيءٍ. فَالحَيَاةُ الدُّنْيا مُتْعَةٌ قَلِيلَةٌ ثُمَّ لاَ تَلْبَثُ أَنْ تَفْنَى وَتَنْطَفِىءَ.
هَشِيماً - يَابِساً مُتَفَتِّتاً.
تَذَرُوهُ الرِّيَاحُ - تُفَرِّقُهُ وَتَنْسِفُهُ.(1/2185)
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
{الحياة} {والباقيات} {الصالحات}
(46) - المَالُ وَالبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَبَهْجَتُهَا. وَالإِقْبَالُ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ، وَالتَّفَرُّغُ لِلْعَمَلِ بِمَا يُرْضِي اللهَ، خَيْرٌ مِنَ المَالِ وَمِنَ البَنِينِ، عِنْدَ اللهِ فِي الآخِرَةِ، لأَنَّ العَمْلَ الصَّالِحَ يَنْفَعُ الإِنْسَانَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ، وَالمَالُ وَالبَنُونَ لاَ يَنْفَعُونَهُ فِيهِ شَيْئاً، وَالعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ خَيْرٌ أَمَلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الإِنْسَانُ.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: " لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ ") . (أَخْرَجُهُ أَحْمَدُ فِي مَسْنَدِهِ) .(1/2186)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)
{وَحَشَرْنَاهُمْ}
(47) - وَاذْكُرْ، أَيُّهَا الرَّسُولُ، مَا يَكُونُ فِي يَوْمِ القِيَامَةِ مِنَ الأُمُورِ العِظَامِ، إِذْ يَقْتَلِعُ اللهُ تَعَالَى الجِبَالَ مِنْ أَمَاكِنِهَا، وَيُسَيِّرُهَا فِي الجَوِّ كَالسَّحَابِ، وَيَجْعَلُهَا هَبَاءً مَنْثُوراً، فَتَذْهَبُ الجِبَالُ، وَتَتَسَاوَى المِهَادُ، وَتُصْبِحُ الأَرْضُ قَاعاً صَفْصَفاً، لاَ تَرَى فِيهِ عِوَجاً وَلاَ أَمَتاً، وَلاَ أَدِيماً، وَلاَ جَبَلاً. وَفِي ذَلِكَ اليَوْمِ تَظْهَرُ الأَرْضُ وَلَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ وَاحِدٌ، وَلاَ بِنَاءٌ، وَلاَ شَجَرٌ، وَلاَ مَكَانٌ يُوَارِي أَحَداً، بَلْ يَكُونُ الخَلقُ كُلُّهُمْ ضَاحُونَ لِرَبِّهِمْ، وَلاَ تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ، وَيَحْشُرُ اللهُ تَعَالَى الخَلاَئِقَ كُلَّهُمْ فَيَجْمَعُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَلاَ يَتْرُكُ مِنْهُمْ صَغِيراً وَلاَ كَبِيراً.
بَارِزَةً - ظَاهِرَةً لاَ يَسْتُرُهَا شَيْءٌ.(1/2187)
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
{خَلَقْنَاكُمْ} {أَلَّن}
(48) - وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَحْشُرُ اللهُ الخَلاَئِقَ، فَيَقُومُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ صَفّاً وَاحِداً، وَيُقَرِّعُ اللهُ تَعَالَى الكُفَّارَ المُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ وَالنُّشُورِ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ، وَيَقُولُ لَهُمْ: لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَكُنْتُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ هَذا لَنْ يَكُونَ، وَالآنَ اسْتَبَانَ لَكُمْ أَنَّهُ حَقٌّ.
مَوْعِداً - وَقْتاً لإِنْجَازِ الوَعْدِ بِالبَعْثِ وَالنُّشُورِ.(1/2188)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
{الكتاب} {ياويلتنا} {الكتاب} {أَحْصَاهَا} {مَالِ هذا}
(49) - وَوَضَعَ بَيْنَ يَدَيْ كُلِّ فَرْدٍ كِتَابُ أَعْمَالِهِ، وَفِيهِ جَمِيعُ مَا عَمِلَهُ فِي حَيَاتِهِ، مِنْ حَسَنٍ وَقَبِيحٍ، وَمِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ. وَيَرَى المُجْرِمُونَ أَعْمَالَهُمُ القَبِيحَةُ مُحْصَاةً بِتَمَامِهَا، لَمْ يَنْقُصْ مِنْهَا شَيءٌ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ العَذَابَ وَاقِعٌ بِهِمْ، فَيُشْفِقُونَ مِمَّا سَيَحُلُّ بِهِمْ، وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: يَا وَيْلَتَنَا، وَيَا حَسْرَتَنَا، عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيا، مَا لِهَذا الكِتَابِ لاَ يَتْرُكُ صَغِيراً مِنْ أَعْمَالِنَا وَذُنُوبِنَا، وَلاَ كَبِيراً إِلاَّ أَحْصَاهُ وَوَعَاهُ؟ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ حَاضِراً لِيُحَاسَبُوا عَلَيْهِ، وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ.
وَإِنَّمَا يُحَاسِبُ العِبَادَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بِالعَدْلِ التَّامِّ.
وُضِعَ الكِتَابُ - صُحُفُ الأَعْمَالِ فِي أَيْدِي أَصْحَابِهَا.
مُشْفِقِينَ - خَائِفِينَ وَجِلِينَ.
يَا وَيْلَتَنَا - يَا هَلاَكَنَا.
لاَ يُغَادِرُ - لاَ يَتْرُكُ وَلاَ يُبْقِي.
أَحْصَاهَا - عَدَّهَا وَضَبَطَهَا وَأَثْبَتَهَا.(1/2189)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
{للملائكة} {لأَدَمََ} {لِلظَّالِمِينَ}
(50) - يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى بَنِي آدَمَ إِلَى عَدَاوَةِ إِبْلِيسَ لَهُمْ، وَلأَبِيهِمْ آدَمَ، قَبْلَهُمْ، وَيُقَرِّعُهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ إِبْلِيسَ، وَمُخَالَفَةِ الخَالِقِ. وَيَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ: اذْكُرْ لِقَوْمِكَ إِذْ قَالَ اللهُ لِلْمَلاَئِكَةِ: اسْجُدُوا لآدَمَ، اعْتِرَافاً بِفَضْلِهِ، وَاعْتِذَاراً عَمَّا قَالُوهُ بِحَقِّهِ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء} . فَامْتَثَلُوا جَمِيعاً لأَمْرِ رَبِّهِمِ الكَرِيمِ، إِلاَّ إِبْلِيسَ، الَّذِي كَانَ مِنَ الجِنِّ، فَامْتَنَعَ عَنِ السُّجُودِ، وَخَرَجَ عَنْ أَمْرِ اللهِ (فَسَقَ) ، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ خَلَقَهُ مِنْ نَارٍ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَنْ يَسْجُدَ لِمَخْلُوقٍ خَلَقَهُ اللهُ مِنَ الطِّين، وَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ آدَمَ. فَكَيْفَ تَتَّخِذُونَ، يَا بَنِي آدَمَ، هَذا العَدُوَّ لَكُمْ، هُوَ وَذُرِّيَتَهُ، أَوْليَاءَ لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ، وَتُطِيعُونَ أَوَامِرَهُمْ، وَهُمْ عَلَى مَا عَرَفْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ مِنَ العَدَاوَةِ لآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، فَبِئْسَ مَا فَعَلْتُمْ {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} .
اسْجُدُوا لآدَمَ - سُجُودَ تَحِيَّةٍ وَتَعْظِيمٍ لاَ سُجُودَ عِبَادَةٍ.(1/2190)
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
{السماوات}
(51) - وَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ اتَّخَذْتُمُوهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي (إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتَهُ) ، هُمْ عَبِيدٌ مِثْلُكُمْ، لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً، وَلاَ أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلاَ كَانُوا مَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الحِينِ، وَلاَ أَشْهَدْتُ بَعْضَهُمْ خَلْقَ بَعْضٍ، وَأَنَا وَحْدِي المُسَتَقِل بِخَلْقِ الأَشْيَاءِ كُلِّها وَمُدَبِّرُهَا وَمُقَدِّرُهَا، وَمَا كُنْتُ لأَتَّخِذَ المُضِلِّينَ الَّذِينَ لاَ يَهْدُونَ إِلَى الحَقِّ أَعْوَاناً وَأَنْصَاراً.
عَضُداً - أَعْوَاناً وَأَنْصَاراً.(1/2191)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)
{شُرَكَآئِيَ}
(52) - وَاذْكُرْ، أَيُّهَا الرَّسُولُ، لِقَوْمِكَ أَيْضاً مَا يَقَعُ يَوْمَ الجَمْعِ (يَوْمَ القِيَامَةِ) ، إِذْ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ، تَقْرِيعاً لَهُمْ وَتَوْبِيخاً: ادْعُوا اليَوْمَ مَنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا أَنَّهُمْ شُرَكَائِي فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَفِي خَلْقِ هَذا الكَوْنِ وَتَدْبِيرِهِ، فَيَدْعُونَهُمْ فَلاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ، وَيَجِدُونَ أَنَّهُ لاَ سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى الوُصُولِ إِلَى أَرْبَابِهِمْ، إِذْ جَعَلَ اللهُ، بَيْنَ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ، مَهَالِكَ وَأَهْوَالاً.
مُوْبِقاً - مُهْلِكاً يَشْتَرِكُونَ فِيهِ وَهُوَ النَّارُ.(1/2192)
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
{وَرَأَى}
(53) - وَحِينَمَا يُعَاينُ المُجْرِمُونَ نَارَ جَهَنَّمَ تَتَلَظَّى يَتَحَقَّقُونَ مِنْ أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهَا لاَ مَحَالَةَ (مُوَاقِعُوهَا) ، وَأَنَّهُمْ لاَ مُصْرِفَ لَهُمْ وَلاَ مُحِيدَ عَنْهَا، لأَنَّ اللهَ حَتَّمَ ذَلِكَ، وَلأَنَّهَا أَحَاطَتْ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
(وَرُؤْيَةُ جَهَنَّمَ، وَتَأَكُّدُ المُجْرِمِ مِنْ أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَيْهَا لاَ مُحَالَةَ، هُمَا عَذَابٌ نَاجِزٌ) .
مُوَاقِعُوهَا - وَاقِعُونَ فِيهَا، وَدَاخِلُونَ فِيهَا.
مَصْرِفاً - مَعْدِلاً وَمَكَاناً يَنْصَرِفُونَ إِلَيْهِ.(1/2193)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
{القرآن} {الإنسان}
(54) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ بَيَّنَ لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ كُلَّ مَا هُمْ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ، وَدُنْيَاهُمْ، وَفَصَّلَهُ لِكَيْلاَ يَضِلُّوا عَنِ الحَقِّ، وَيَخْرُجُوا عَنْ طَرِيقِ الهُدَى وَالصَّوَابِ، وَلِيَذْكُرُوا فَيُنِيبُوا إِلَى رَبِّهِمْ وَيَعْتَبِرُوا، وَيَزْدَجِرُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَسُوءِ العَمَلِ. وَمَعَ هَذا البَيَانِ وَالتَّوْضِيحِ فَإِنَّ الكَافِرِينَ طَلَبُوا مُعْجِزَاتٍ أُخْرَى غَيْرِ القُرْآنِ، وَالإِنْسَانُ فِي طَبِيعَتِهِ حُبُّ الجَدَلِ، وَمُعَارَضَةُ الحَقِّ بِالبَاطِلِ، إِلاَّ مَنْ هَدَى اللهُ.
صَرَّفْنَا - كَرَّرْنَا القَوْلَ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةً.
كُلِّ مَثَلٍ - مَعْنًى غَرِيبٍ كَالمَثَلِ فِي غَرَابَتِهِ.(1/2194)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)
(55) - وَمَا مَنَعَ هَؤُلاَءِ الكَافِرِينَ مِنْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ، وَبِرُسُلِهِ، وَكُتُبِهِ، حِينَ جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ، وَعَلِمُوا صِحَّةَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ بِالتَّوْبَةِ عَمَّا فَرَطَ مِنْهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، إِلاَّ تَعَنُّتُهُمْ وَعِنَادُهُمْ، الَّذِي جَعَلَ بَعْضَهُمْ يَطْلُبُ مُشَاهَدَةَ العَذَابِ الَّذِي أَوْعَدَهُمْ بِهِ اللهُ، فَقَالُوا: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ الآخَرُ يَطْلُبُ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بِأَنْوَاعٍ مِنَ العَذَابِ وَالبَلاَءِ يَتْلُو بَعْضُهُ بَعْضاً، وَهُمْ فِي الدُّنْيا، وَهُمْ يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ، وَيَرَوْنَهُ عِيَاناً، أَوْ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ اللهِ فِي الأَوَّلِينَ، وَهِيَ الهَلاَكُ المُسْتَأَصِلُ، الَّذِي أَتَى الأَوَّلِينَ مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ.
سُنَّةُ الأَوَّلِينَ - عَذَابُ الاسْتِئْصَالِ إِذا لَمْ يُؤْمِنُوا.
قُبُلاً - أَنْوَاعاً وَأَلْوَاناً، أَوْ عِيَاناً وَمُقَابَلَةً.(1/2195)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
{وَيُجَادِلُ} {بالباطل} {آيَاتِي}
(56) - وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً: إِنَّهُ لاَ يُرْسِلُ الرُّسُلَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ مِنْ صَدَّقَهُمْ، وَآمَنَ بِدَعْوَتِهِمْ، بِأَنَّ لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم الحُسْنَى؛ وَمُنْذِرِينَ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَخَالَفَهُمْ، عِقَابَ اللهِ وَعَذَابَهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لاَ يُرْسِلُ المُرْسَلِينَ لِيَقْتَرِحَ عَلَيْهِمُ الظَّالِمُونَ مِنْ أَقْوَامِهِمْ، وَيَطْلُبُوا مِنْهُمْ مَا لاَ قِبَلَ لَهُمْ بِهِ. وَالظَّالِمُونَ الكُفَّارُ لاَ يُجَادِلُونَ، وَلا يَقْتَرِحُونَ لِلاسْتِرْشَادِ وَالاهْتِدَاءِ، وَإِنَّمَا يُجَادِلُونَ بِالبَاطِلِ لِيُضْعِفُوا الحَقَّ الذِي جَاءَهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، وَيُبْطِلُوهُ (لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ) ، وَلَنْ يَبْلُغُوا غَايَتَهُمْ. وَقَدِ اتَّخَذُوا جَمِيعَ الحُجَجِ وَالمُعْجِزَاتِ التِي جَاءَهُمْ بِهَا رُسُلُهُمْ، وَالعَذَابِ الَّذِي حَذَّرُوهُمْ مِنْهُ، وَخَوّفُوهُمْ مِنْ نُزُولِهِ بِهِمْ. . . هُزْواً وَسُخْرِيَةً.
لِيُدْحِضُوا - لِيُبْطِلُوا وَيُزِيلُوا
هُزُواً - اسْتِهْزَاءً وَسُخْرِيَةً.(1/2196)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
{بآيات} {آذَانِهِمْ}
(57) - وَلاَ أَحَدَ مِنْ خَلْقِ اللهِ أَكْثَرُ ظُلْماً مِمَّنْ وُعِظَ بِآيَاتِ اللهِ، وَدَلَّ بِهَا عَلَى سَبِيلِ الهُدَى وَالرَّشَادِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَلَمْ يَتَدَبَّرْهَا، وَلَمْ يَكْتَرِثْ بِهَا، وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِي عَوَاقِبِ مَا ارْتَكَبَهُ مِنَ الظُّلْمِ، وَالكُفْرِ، وَالمَعَاصِي (نَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) ، فَلَمْ يُنِبْ إِلَى اللهِ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ تَائِباً مُسْتَغْفِراً.
وَقَدْ كَانَ إِعْرَاضُ الكَافِرِينَ عَمَّا ذَكَرُوا لأَنَّ اللهَ جَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَغْطِيَةً وَأَغْلِفَةً لِكَيْلاَ يَفْقَهُوا مَا يُذَكَّرُونَ بِهِ (أَكْنَّةً) وَلأَنَّهُ جَعَلَ فِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَثِقَلاً لِكَيْلاَ يَسْمَعُوهُ. وَلِذَلِكَ فَإِنَّ دَعْوَتَكَ إِيَّاهُمْ يَا مُحَمَّدُ إِلَى الهُدَى وَالإِيمَانِ بِاللهِ وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِهِ، لَنْ تُؤَثِّرَ فِيهِمْ، وَلَنْ يَسْتَجِيبُوا لَهَا أَبَداً.
أَكِنَّةً - أَغْطِيَةً كَثِيرَةً مَانِعَةً.
وَقْراً - صَمَماً ثَقِيلاً فِي السَّمْعِ.(1/2197)
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)
{مَوْئِلاً}
(58) - وَرَبُّكَ هُوَ اللهُ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، يُمْهِلُ النَّاسَ لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ وَيُؤْمِنُونَ، وَيَسْتَغْفِرُونَ رَبَّهُمْ، فَيَتُوبَ عَلَيْهِمْ، وَيَرْحَمَهُمْ وَيَتَجَاوَزَ عَنْ ذُنُوبِهِمْ، وَلَوْ أَنَّهُ آخَذَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، لَعَجَّلَ لَهُمُ العُقُوبَةَ وَلأَهْلَكَهُمْ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً مُعَيَّناً لاَ مَهْرَبَ لَهُمْ مِنْهُ، وَلاَ مُحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ.
مَوْئِلاً - مَنْجًى أَوْ مَلْجَأً أَوْ مَخْلَصاً.(1/2198)
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
{أَهْلَكْنَاهُمْ}
(59) - لَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ الأُمَمَ السَّالِفَةَ: عَاداً وَثَمُودَ وَقَوْمَ نُوحٍ وَقَوْمَ لُوطٍ وَأَصْحَابَ الأَيْكَةِ. . وَدَمَّرَ قُرَاهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَعِنَادِهِمْ، وَجَعَلَ لِمَهْلِكِهِمْ وَقْتاً مُعَيَّناً (مَوْعِداً) ، لاَ يَزِيدُ وَلاَ يَنْقُصُ، فَاحْذَرُوا، أَيُّهَا المُشْرِكُونَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ إِنْ تَمَادَيْتُمْ فِي تَكْذِيبِ رَسُولِكُمْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
لِمَهْلِكِهِمْ - لِهَلاَكِهِمْ.(1/2199)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
{لِفَتَاهُ لا}
(60) - قِيلَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ: إِنَّ عَبْداً مِنْ عِبَادِ اللهِ مَوْجُوداً فِي مَجْمَعِ البَحْرِينِ، عِنْدَهُ عِلْمٌ لَمْ تُحِطْ بِهِ أَنْتَ، فَأَحَبَّ مُوسَى الرَّحِيلَ إِلَيْهِ لِيَسْمَعَ مِنْهُ. فَقَالَ لِفَتَاهُ (وَقِيلَ إِنَّهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَهُوَ مِنْ نَسْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إِنَّي سَأَسِيرُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ، وَأَلْتَقِي بِالرَّجُلِ، وَلَوْ سِرْتُ أَمَداً طَوِيلاً.
مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ - مُلْتَقَاهُمَا.
أَمْضِيَ حُقُباً - أَسيرَ زَمَناً طَوِيلاً.(1/2200)
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
(61) - وَكَانَ قِيلَ لِمُوسَى أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ حُوتاً مُمَلَّحاً، وَفِي المَكَانِ الَّذِي يَفْقِدُ فِيهِ الحُوتَ فَإِنَّهُ يَلْتَقِي بِذَلِكَ الرَّجُلِ العَالِمِ. فَسَارَ مَعَ فَتَاهُ حَتَّى بَلَغَا مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ، فَسَقَطَ الحُوتُ فِي المَاءِ، فَأَخَذَ يَسْبَحُ فِيهِ، وَكَانَ يَشُقُّهُ شَقّاً، وَيَتْرُكُ وَرَاءَهُ مِثْلَ السَّرَبِ (النَّفَقِ) .
سَرَباً - مَسْلَكاً وَمَنْفَذاً.(1/2201)
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)
{لِفَتَاهُ} {آتِنَا}
(62) - فَلَمَّا جَاوَزَا المَكَانَ الَّذِي أَضَاعَا فِيهِ الحُوتَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: هَاتِ الغَدَاءَ، فَقَدْ أَتْعَبَنَا المَسِيرُ.
نَصَباً - تَعَباً وَشِدَّةً وَإِعْيَاءً.(1/2202)
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)
{أَرَأَيْتَ} {أَنْسَانِيهُ} {الشيطان}
(63) - فَقَالَ الفَتَى لِمُوسَى: لَقَدْ نَسِيتُ الحُوتَ حِينَمَا جَلَسْنَا نَرْتَاحُ إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ (إِذْ أَوَيْنا الصَّخْرَة) ، وَلَمْ أَذْكُرْ ذَلِكَ لَكَ لأَنَّ الشَّيْطَانَ أَنْسَانِيهِ، فَاتَّخَذَ الحُوتُ طَرِيقَهُ فِي البَحْرِ بِصُورَةٍ عَجِيبَةٍ غَيْرِ مَأْلُوفَةٍ، لأَنَّهُ حُوتٌ مَيِّتٌ، وَكَانَ يَشُقُّ المَاءَ، وَهُوَ يَسْبَحُ، فَيَكُونُ المَاءُ فَوْقَهُ كَالنَّفَقِ، أَوِ الشَّقِّ فِي الأَرْضِ (السَّرَبِ) .
أَوَيْنَا - جَلَسْنَا لِلاسْتِرَاحَةِ.
عَجَباً - سَبِيلاً أَوْ اتِّخَاذاً يَتَعَجَّبُ مِنْهُ.(1/2203)
قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
{آثَارِهِمَا}
(64) - فَقَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: ذَلِكَ هُوَ الَّذِي كُنَّا نَبْغِيهِ وَنُرِيدُهُ مِنْ سَفَرِنَا - وَهُوَ فَقْدُ الحُوتِ - لأَنَّنَا وُعِدْنَا بِلِقَاءِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ فِي المَكَانِ الَّّذِي نَفْقِدُ فِيهِ الحُوتَ، فَرَجَعَا يَقُصَّانِ أَثَرَهُمَا فِي السَّيّرِ، حَتَّى انْتَهَيَا إِلى الصَّخْرَةِ.
مَا كُنَّا نَبْغِ - الَّذِي كُنَّا نَطْلُبُهُ وَنَلْتَمِسُهُ.
فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا - رَجَعَا فِي طَرِيقِهِمَا الَّذِي جَاءَا فِيهِ.(1/2204)
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
{آتَيْنَاهُ} {وَعَلَّمْنَاهُ}
(65) - فَوَجَدَ مُوسَى وَفَتَاهُ رَجُلاً عِنْدَ الصَّخْرَةِ مُسَجًّى بِثَوْبٍ أَبْيَضَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ إِنَّ أَهْلَ أَرْضِكَ لاَ يَعْرِفُونَ السَّلاَمَ. وَيَصِفُ اللهُ تَعَالَى الرَّجُلَ بِأَنَّ اللهُ آتَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ، وَعَلَّمَهُ مِنْ عِلْمِهِ.(1/2205)
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
(66) - قَالَ لَهُ مُوسَى: إِنَّهُ مُوسَى نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِنَّهُ جَاءَهُ لِيُعَلِّمَهُ مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ، لِيَسْتَرْشِدَ بِهِ، فَهَلْ يَسْمَحُ لَهُ بِمُرَافَقَتِهِ؟
رُشْداً - صَوَاباً أَوْ إِصَابَةَ خَيْرٍ.(1/2206)
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)
(67) - فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّهُ عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللهِ لاَ يَعْلَمُهُ مُوسَى، وَلاَ يَسْتَطِيعُ مُوسَى أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مُرَافَقَتِهِ حَتَّى يَتَعَلَّمَهُ.(1/2207)
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)
(68) - ثُمَّ قَالَ لَهُ: وَكَيْفَ تَسْتَطِيعُ الصَّبْرَ عَلَى أُمُورٍ لاَ تَعْرِفُ أَنْتَ خَفَايَاهَا، وَالمَصْلَحَةُ البَاطِنَةُ فِيهَا، التِي أَطْلَعَنِي اللهُ عَلَيْهَا؟
خُبْراً - عِلْماً وَمَعْرِفَةً.(1/2208)
قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
(69) - فَقَالَ لَهُ مُوسَى: سَتَجِدُنِي صَابِراً إِنْ شَاءَ اللهُ عَلَى مَا سَأَرَى مِنَ الأُمُورِ مِنْكَ، وَلَنْ أَعْصِي أَمْراً لَكَ، وَلَنْ أُخَالِفَكَ فِي شَيْءٍ.(1/2209)
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
{تَسْأَلْني}
(70) - فَقَالَ الرَّجُلُ لِمُوسَى: إِذَا أَرْدْتَ أَنْ تُرَافِقَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيءٍ يِبْدُو لَكَ غَرِيباً، غَيْرَ مَفْهُومٍ، مِنْ أَفْعَالِي، حَتَّى أَبْدَأَكَ أَنَا بِالحَدِيثِ عَنْهُ، وَأَشْرَحَهُ لَكَ.(1/2210)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
(71) - وَبَعْدَ أَنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُرَافِق مُوسَى الرَّجُلَ الصَّالِحَ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ، رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ فِي البَحْرِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِمْ تَمْخُرُ عَبَابَ البَحْرِ، وَلَمَّا أَوْغَلَتِ السَّفِينَةُ فِي البَحْرِ، قَامَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَخَرَقَ السَّفِينَةَ بِأَنِ اسْتَخْرَجَ لَوْحاً مِنْ أَلْوَاحِهَا، ثُمَّ وَضَعَ مَكَانَهُ لَوْحاً آخَرَ، فَأَصْبَحَتِ السَّفِينَةُ وَكَأَنَّهَا مَرْقُوعَةٌ، فَلَمْ يَتَمَالَكْ مُوسَى نَفْسَهُ، فَقَالَ مُنْكِراً: إِنْ خَرْقَكَ السَّفِينَةَ يُؤَدِّي إِلَى إِغْرَاقِ مَنْ فِيهَا، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً عَجِيباً مُنْكَراَ.
شَيْئاً إِمْراً - شَيْئاً عَظِيماً مُنْكَراً، أَوْ عَجِيباً.(1/2211)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)
(72) - فَقَالَ الرَّجُلُ لِمُوسَى: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: إِنَّكَ لَنْ تَسَتَطِيعَ صَبْراً عَلَى مَا سَتَرَاهُ مِنْ فِعْلِي؟ وَإِنَّمَا أَنَا قُمْتُ بِمَا قُمْتُ بِهِ لِمَصْلَحَةٍ لاَ تَعْرِفُهَا أَنْتَ.(1/2212)
قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
(73) - فَقَالَ لَهُ مُوسَى مُعْتَذِراً: إِنَّهُ نَسِيَ مَا كَانَ مِنِ اتِّفَاقٍ بَيْنَهُمَا، وَرَجَاهُ أَنْ لاَ يَضِيقَ عَلَيْهِ، وَلاَ يُرْهِقَهُ بِالمُؤَاخَذَةِ.
لاَ تُرْهِقْنِي - لاَ تَحْمِلْنِي.
عُسْراً - صُعُوبَةً أَوْ مَشَقَّةً.(1/2213)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
{غُلاَماً}
(74) - وَبَعْدَ أَنْ نَزَلاَ مِنَ السَّفِينَةِ، سَارَا فِي سَبِيلِهِمَا فَوَجَدَا غُلاَماً فِي إِحْدَى القُرَى يَلْعَبُ مَعْ أَتْرَابِهِ، فَأَخَذَهُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ مِنْ بَيْنِهِمْ وَقَتَلَهُ، فَاسْتَنْكَرَ مُوسَى ذَلِكَ. وَقَالَ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ: إِنَّكَ قَدِ ارْتَكَبْتَ أَمْراً تُنْكِرُهُ العُقُولُ (نُكْراً) ، بِقَتْلِكَ نَفْساً زَكِيَّةً طَاهِرَةً، بِدُونِ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا قَتْلٌ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ العُقُوبَةَ.
شَيْئاً نُكْراً - شَيْئاً مُنْكَراً فَظِيعاً تُنْكِرُهُ العُقُولُ.(1/2214)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)
(75) - فَقَالَ الرَّجُلُ مُذَكِّراً بِمَا قَالَهُ فِي بِدْءِ الرِّحْلَةِ، وَهُوَ أَنَّ مُوسَى لَنْ يَسْتَطِيعَ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا يَرَاهُ مِنْهُ، وَأَنَّهُ سَيَعْتَرِضُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ الأَسَبَابَ الخَفِيَّةَ لِلْفِعْلِ؟(1/2215)
قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)
{تُصَاحِبْنِي}
(76) - فَقَالَ لَهُ مُوسَى: إِنِ اعْتَرَضْتُ عَلَيْكَ فِي شَيءٍ بَعْدَ هَذِهِ المَرَّةِ، فَلاَ تُصَاحِبْنِي لأَنَّكَ أَعْذَرْتَ إِلَيَّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.(1/2216)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
{لَتَّخَذْتَ}
(77) - فَسَارَا مُنْطَلِقَيْنِ فِي سَبِيلِهِمَا حَتَّى أَتَيَا قَرْيَةً، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا زَادٌ، فَسَأَلاَ أَهْلَهَا الطَّعَامَ، فَلَمْ يَقْبَلْ أَحَدٌ فِيهَا أَنْ يُطْعِمْهُمَا. وَبَيْنَمَا كَانَا يَسِيرَانِ فِي القَرْيَةِ وَجَدَا جِدَاراً مُتَدَاعِياً لِلسُّقُوطِ، فَقَامَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بِإِقَامَتِهِ وَتَدْعِيمِهِ. فَقَالَ لَهُ مُوسَى: إِنَّ أَهْلَ القَرْيَةِ لَمْ يُطْعِمُوهُمَا، فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَقُومَ لَهُمْ بِعَمَلٍ بِدًونِ أَجْرٍ.
فَأَبَوْا - فَامْتَنَعُوا.
يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ - مُتَدَاعِياً لِلسُّقًُوطِ.(1/2217)
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
(78) - فَقَالَ الرَّجُلُ لِمُوسَى: إِنَّكَ اشْتَرَطْتَ وَقْتَ قَتْلِ الغُلاَمِ أَنْ لاَ أُصَاحِبَكَ إِنْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيءٍ دُونَ أَنْ أُحَدِّثُكَ أَنَا بِأَمْرِهِ، وَلِذَلِكَ فَإِنِّي أُفَارِقُكَ، وَلَكِنَّنِي سَأًُخْبِرُكَ بِتَفْسِيرِ (تَأْوِيلِ) مَا قُمْتُ بِهِ مِنْ أَعْمَالٍ اسْتَنْكَرْتَهَا أَنْتَ، وَاسْتَغْرَبْتَهَا، وَلَمْ تَسْتَطِعْ صَبْراً عَلَيْهَا.
بِتَأْوِيلِ - بِمَآلِ وَعَاقِبَةِ، أَوْ تَفْسِيرِ.(1/2218)
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
{لِمَسَاكِينَ}
(79) - وَبَدَأَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بِشَرْحِ الأَسْبَابِ التِي حَمَلَتْهُ عَلَى خَرْقِ السَّفِينَةِ، فَقَالَ: إِنَّهُ إِنَّمَا قَامَ بِخَرْقِ السَّفِينَةِ لِيُحْدِثَ فِيهَا عَيْباً، لأَنَّهُمْ كَانُوا سَيَمُرُّونَ فِي طَرِيقِهِمْ عَلَى مَلِكٍ ظَالِمٍ، يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ حَسَنَةِ المَنْظَرِ، غَصْباً، وَإِحْدَاثِ العَيْبِ فِي السَّفِينَةِ يُنْقِذُهَا مِنْ شَرِّ هَذَا المَلِكِ الظَّالِمِ، وَالسَّفِينَةُ يَمْلِكُهَا جَمَاعَةٌ مَسَاكِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيءٌ غَيْرَهَا يَرْتَزِقُونَ مِنْهُ.
وَرَاءَهُمْ - أَمَامَهُمْ أَوْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ.
غَصْباً - اسْتِلاَباً بِغَيْرِ حَقٍّ.(1/2219)
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
{الغلام} {طُغْيَاناً}
(80) - أَمَّا الغُلاَمُ الَّذِي قَتَلَهُ، فَإِنَّهُ فِيمَا قَدَّرَ اللهُ، قَدْ طُبِعَ عَلَى الكُفْرِ، وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنِينَ صَالِحَيْنِ، فَخَشِيتُ أَنْ يَحْمِلَهُمَا حُبُّهُمَا لابْنِهِمَا عَلَى مُتَابَعَتِهِ عَلَى كُفْرِهِ، فَيَكُونَ فِي ذَلِكَ هَلاَكُهُمَا.
يُرْهِقُهُمَا - يُكَلِّفُهُمَا أَوْ يُغْشِيهُمَا.(1/2220)
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
{زَكَاةً}
(81) - فَأَرَادَ أَنْ يُبْدِلَهُمَا اللهُ بِهِ وَلَداً أَزْكَى مِنْهُ نَفْساً (خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً) ، وَأَكْثَرَ بِرّاً بِوَالِدَيْهِ.
زَكَاةً - طَهَارَةً مِنَ السُّوءِ، أَوْ دِيناً وَصَلاَحاً.
وَأَقْرَبَ رُحْماً - رَحْمَةً عَلَيْهِمَا وَبِرّاً بِهِمَا.(1/2221)
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
{لِغُلاَمَيْنِ} {صَالِحاً}
(82) - أَمَّا الجِدَارُ الَّذِي أَقَامَهُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، وَدَعَّمَهُ دُونَ أَجْرٍ، فَقَدْ كَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي القَرْيَةِ، وَكَانَ أَبُوهُمَا رَجُلاً صَالِحاً، وَكَانَ تَحْتَ الجِدَارِ المَائِلِ لِلانْهِدَامِ، كَنْزٌ مَدْفُونٌ لاَ يَعْرِفُ مَكَانَهُ أَحَدٌ، فَإِذَا انْهَارَ الجِدَارُ، وَهُمَا صَغِيرَانِ، فَقَدْ يَضِيعُ الكَنْزُ، وَلاَ يَنْتَفِعَانِ بِهِ، لِذَلِكَ أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ الجِدَارَ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الكَنْزِ الَّذِي تَحْتَهُ، حَتَّى يَبْلُغَ الغُلاَمَانِ أَشُدَّهُمَا، وَيَسْتَطِيعَا اسْتِخْرَاجَهُ وَالانْتِفَاعَ بِهِ.
وَأَضَافَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ قَائِلاً: إِنَّ الَّذِي فَعَلَهُ فِي الحَالاَتِ الثَّلاَثِ إِنَّمَا كَانَ رَحْمَةً مِنَ اللهِ بِأَصْحَابِ السَّفِينَةِ، وَبِوَالِدَي الغُلاَمِ الَّذِي قَتَلَهُ، وَباِليَتِمَينِ، وَلَمْ يَفْعَلْهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَقَدْ فَعَلَهُ عَنْ أَمْرِ اللهِ وَوَحْيِهِ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ هُوَ تَفْسِيرٌ لَلأَفْعَالِ التِي لَمْ يَسْتَطِعْ مُوسَى الصَّبْرَ عَلَيْهَا.
بَلَغَا أَشُدَّهُمَا - قُوَّتَهُمَا وَشِدَّتَهُمَا وَكَمَالَ عَقْلِهِمَا.(1/2222)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
{وَيَسْأَلُونَكَ} {سَأَتْلُواْ}
(83) - وَتَسْأَلُكَ قُرَيْشٌ يَا مُحَمَّدُ - بِتَلْقِينٍ مِنَ اليَهُودِ - عَنْ خَبَرِ ذِي القَرْنَيْنِ، فَقُلْ لَهُمْ سَأَقُصُّ عَلَيْكُمْ قِصَّتَهُ كَمَا أَخْبَرَنِي بِهَا رَبِّي.
(وَلا يَعْرِفُ أَحٌَ مَنْ هُوَ ذُو القَرْنَيْنِ هَذا المَقْصُودُ فِي هَذِهِ القِصَّةِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنَّ ذَا القَرْنَيْنِ المُشَارُ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الآيَةِ هُوَ رَجُلٌ مٌؤْمِنٌ، يَعْرِفُ اللهَ وَيَمْتَثِلُ لأَمْرِهِ) .(1/2223)
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
{وَآتَيْنَاهُ}
(84) - إِنَّا أَعْطَيْنَاهُ مُلْكاً عَظِيماً ثَابِتاً مُمَكَّناً لَهُ فِيهِ، وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عِلْماً، وَبَسَطْنَا لَهُ اليَدَ، وَقَدَّرْنَا لَهُ الأَسْبَابَ التِي تُوصِلُهُ إِلَى مَا يُرِيدُ.
سَبَباً - عِلْماً وَطَرِيقاً يُوصِلُهُ إِلَيْهِ.(1/2224)
فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)
(85) - فَأَرَادَ بُلُوغَ المَغْرِبِ، فَأَتْبَعَ طَرِيقاً يُوصِلُهُ إِلَيْهِ، أَيْ سَلَكَ طَرِيقاً يُوصِلُهُ إِلَيْهِ.(1/2225)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
{ياذا القرنين}
(86) - فَسَلَكَ هَذا الطَّرِيقَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ السَّائِرُ، نَحْوَ الغَرْبِ (وَقِيلَ إِنَّهُ وَقَفَ عَلَى سَاحِلِ المُحِيطِ الأَطْلَسِي) ، فَرَأَى الشَّمْسَ وَكَأَنَّهَا تَغْرُبُ، فِي البَحْرِ، فِي عَيْنٍ مِنْ طِينٍ أَسْوَدَ، وَوَجَدَ فِي المَكَانِ الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ فِي سَيْرِهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ كُفَّاراً، وَقَدْ أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ بِطَرِيقِ الإِلْهَامِ: إِمَّا أَنْ يَقْتُلَهُمْ، إِنْ هُمْ لَمْ يُقِرُّوا بِوَحْدَانِيَّةِ اللهِ، وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَ بِتَعْلِيمِهِمْ طَرِيقَ الهُدَى وَالرَّشَادِ، وَيُبَصِّرَهُمْ بِأَحْكَامِ الشَّرَائِعِ وَالقَوَانِينِ.
تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ - بِحَسَبِ رَأْيِ العَيْنِ.
حِمْئَةٍ - ذَاتِ حَمْأَةٍ وَالحَمْأَةُ هِيَ الطِّينُ الأَسْوَدُ وَهُنَاكَ مَنْ قَرَأَهَا فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ أَيِ حَارَّةٍ.
حُسْناً - الدَّعْوَةُ إِلَى الحَقِّ وَالهُدَى بِالمَعْرُوفِ وَالإِحْسَانِ.(1/2226)
قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87)
(87) - فَأَعْلَنَ ذُو القَرْنَيْنِ فِي أَفْرَادِ هَذِهِ الأُمَّةِ أَنَّهُ مَنْ ظَلَمَ مِنْهُمْ نَفْسَهُ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَشِرْكِهِ بِرَبِّهِ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ بِالْقَتْلِ فِي الدُّنْيا، وَحِينَ يَرْجِعُ إِلَى رَبِّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَإِنَّهُ سَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً شَدِيداً مُؤْلِماً.
عَذَاباً نُكْراً - مُنْكَراً فَظِيْعاً.(1/2227)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
{آمَنَ} {صَالِحاً}
(88) - وَأَمَّا مَنْ تَابَعَنَا عَلَى مَا نَدْعُوهُ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، فَلَهُ المَثُوبَةُ الحُسْنَى فِي الدَّارِ الآخِرَةِ، جَزَاءً لَهُ عَلَى إِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِحِ، وَسَنُعَامِلُهُ بِرِفْقٍ فِي الدُّنْيَا، وَسَنُعَلِّمُهُ مَا يَتَيَسَّرُ لَنَا تَعْلِيمُهُ مِمَّا يُقَرِّبُهُ إِلَى رَبِّهِ، وَيَلِينُ لَهُ قَلْبُهُ، وَلاَ يَشُقُّ عَلَيْهِ فِعْلُهُ.(1/2228)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)
(89) - ثُمَّ قَفَلَ رَاجِعاً فَسَلَكَ الطَّرِيقَ مِنْ مَغْرِبِ الشَّمْسِ إِلَى مَشْرِقِهَا.(1/2229)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)
(90) - فَلَمَّا بَلَغَ أَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ الإِنْسَانُ فِي سَيْرِهِ بَاتِّجَاهِ الشَّرْقِ مِنَ الأَرْضِ (مَطْلِعَ الشَّمْسِ) وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ لَيْسَ لَهُمْ بِنَاءٌ يُكِنُّهُمْ، وَلاَ أَشْجَارٌ تُظِلُّهُمْ وَتَسْتُرُهُمْ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ وَلَفْحِهَا، فَهُمْ يَغِيْبُونَ فِي سَرَادِيبَ فِي النَّهَارِ، تَقِيْهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ وَلَفْحِهَا، وَيَخْرُجُونَ مِنْ هَذِهِ السَّرَادِيبِ لَيْلاً لِكَسْبِ عَيْشِهِمْ.
سِتْراً - سَاتِراً مِنَ اللِّبَاسِ أَوِ البِنَاءِ.(1/2230)
كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
(91) - لَقَدْ كَانَ حَالُ ذِي القَرْنَيْنِ كَمَا وَصَفْنَا مِنْ قَبْلُ: مَكَّنَا لَهُ فِي الأَرْضِ، وَبَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَمَغْرِبَهَا، وَنَحْنُ عَلَى عِلْمٍ وَاطِّلاَعٍ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَحْوَالِ جَيْشِهِ، لاَ يَخْفَى عَلَيْنَا مِنْهُ شَيءٌ.
خُبْراً - عِلْماً شَامِلاً.(1/2231)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)
(92) - ثُمَّ أَتْبَعَ طَرِيقاً ثَالِثاً مُعْتَرِضاً مِنْ مَشَارِقِ الأَرْضِ إِلَى الشِّمَالِ.(1/2232)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
(93) - حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ، وَجَدَ، دُوْنَ السَّدَّيْنِ، قَوْماً لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً، لاَسْتِعْجَامِ كَلاَمِهِمْ، وَبُعْدِ لُغَتِهِمْ عَنْ لُغَاتِ النَّاسِ، مَعَ قِلَّةِ فِطْنَتِهِمْ، إِذْ لَوْ كَانَتْ لَهُمْ فِطْنَةٌ لَفَهِمُوا مَا يُرَادُ مِنَ القَوْلِ بِالْقَرَائِنِ، وَمُقْتَضَيَاتِ الحَالِ.
السَّدَّيْنِ - جَبَلَيْنِ مُتَنَاوِحَيْنِ بَيْنَهُمَا ثَغْرَةٌ يَخْرُجُ مِنْهَا قَوْمُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ عَلَى بِلاَدِ التُّرْكِ، فَيَعِيثُونَ فِيهَا فَسَاداً، وَيُهْلِكُونَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ.(1/2233)
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
{ياذا القرنين}
(94) - فَقَالُوا: يَا ذَا القَرْنَيْنِ إِنَّ قَوْمَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ هُمْ قَوْمٌ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ، وَيَعِيثُونَ فِي أَرْضِنَا فَسَاداً، فَيَقْتُلُونَ وَيُخَرِّبُونَ. فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ جُعْلاً مِنْ أَمْوَالِنَا لِتَبْنِيَ لَنَا سَدّاً يَحُولُ دُونَ وُصُولِهِمْ إِلَيْنَا؟
يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ - قَبِيلَتَانِ.
خَرْجاً - جُعْلاً مِنَ المَالِ تَسْتَعِينُ بِهِ فِي البِنَاءِ.(1/2234)
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
(95) - فَقَالَ لَهُمْ ذُو الْقَرْنَينِ: إِنَّ الَّذِي أَعْطَانِي اللهُ رَبِّي مِنَ المَالِ وَالقُوَّةِ وَالتَّمْكِينِ فِي الأَرْضِ هُوَ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي تَبْذُلُونَهُ لِي، فَلاَ حَاجَةَ لِي بِهِ، وَلَكِنْ سَاعِدُونِي بِعَمَلِكُمْ، وَبِآلاَتِ البِنَاءِ (بِقُوَّةٍ) ، أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ سَدّاً مَنِيعاً، وَحَاجِزاً حَصِيناً مَتِيناً (رَدْماً) .(1/2235)
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
{آتُونِي}
(96) - قَالَ ائْتُونِي بِقِطَعِ الحَدِيدِ، فَأَتَوْهُ بِهَا، فَأَخَذَ يُنَضِّدُهَا بَعْضَها فَوْقَ بَعْضٍ مِنْ الأَسَاسِ، حَتَّى إِذَا حَاذَى بِهَا رُؤُوسَ الجِبَالِ طَوْلاً وَعَرْضاً، أَضْرَمَ النَّارَ، حَتَّى إِذَا صَارَ الحَدِيدُ كُلُّهُ نَاراً، قَالَ: اتُونِي بِالنُّحَاسِ الذَّائِبِ لِيَصُبَّهُ عَلَى الحَدِيدِ المُحَمَّي. فَصَارَ السَدُّ كُلُّهُ كُتْلَةً وَاحِدَةً.
زُبَرَ الْحَدِيدِ - وَاحِدُها زُبْرةٌ أَيْ قِطْعَةٌ ضَخْمَةٌ.
قِطْراً - النٌّحَاسُ الذَّائِبُ.
الصَّدَفَيْنِ - جَانِبَيِ الجَبَلَيْنِ - أَوْ رَأْسَ الجَبَلَيْنِ.(1/2236)
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
{اسطاعوا} {استطاعوا}
(97) - فَمَا اسْتَطَاعَ قَوْمُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَنْ يَصْعَدُوا فَوْقَ السَّدِّ لارْتِفَاعِهِ وَمَلاَسَتِهِ، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا نَقْبَهُ لَصَلاَبَتِهِ وَسَمَاكَتِهِ.
أَنْ يَظْهَرُوهُ - أَنْ يَعْلُوا ظَهْرَهُ لارْتِفَاعِهِ.
نَقْباً - خَرْقاً وَثُقْباً لِصَلاَبَتِهِ وَثَخَانَتِهِ.(1/2237)
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
(98) - وَلَمَّا انْتَهَى ذُو القَرْنَيْنِ مِنْ إِقَامَةِ السَّدِّ قَالَ: هَذا السَّدُّ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ بِالنَّاسِ، إِذْ حَالَ دُونَ يَأْجُوجٍ وَمَأْجُوجٍ وَالْعَيْثِ وَالفَسَادِ فِي الأَرْضِ، فَإِذا اقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ، وَحَانَ مَوْعِدُ خُرُوجِهِمْ مِنْ وَرَاءِ السَّدِّ، دَكَّهُ اللهُ، وَسَوَّاهُ بِالأَرْضِ، وَكَانَ وَعْدُ اللهِ حَقّاً مَفْعُولاً لاَ مَحَالَةَ.
جَعَلَهُ دَكَّآءَ - مَدْكُوكاً مِنْ أَسَاسِهِ وَمُسَوَّى بِالأَرْضِ. وَتَقُولُ العَرَبُ نَاقَةٌ دَكَّاءُ أَيْ لاَ سَنَامَ لَهَا.(1/2238)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
{يَوْمَئِذٍ} {فَجَمَعْنَاهُمْ}
(99) - وَيَوْمَ يَدُكُّ اللهُ هَذَا السَّدَّ يَخْرُجُ هؤُلاَءِ فَيَمُوجُونَ فِي النَّاسِ، وَيُفْسِدُونَ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيُتْلِفُونَ أَشْيَاءَهُمْ. وَحِينَ يَحِينُ مَوْعِدُ قِيَامِ السَّاعَةِ يَنْفُخُ المَلَكُ فِي الصُّورِ، وَيَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ جَمِيعاً إِلَيْهِ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.
يَمُوجُ - يَخْتَلِطُ وَيَضْطَرِبُ.
نُفِخَ فِي الصُّورِ - نُفِخَ فِي القَرْنِ نَفْخَةُ البَعْثِ؛ وَالصُّورُ قَرْنٌ إِذَا نُفِخَ فِيهِ أَحْدَثَ صَوْتاً.(1/2239)
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)
{يَوْمَئِذٍ} {لِّلْكَافِرِينَ}
(100) - وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ يَعْرِضُ اللهُ تَعَالَى جَهَنَّمَ عَلَى الكَافِرِينَ، وَيُبْرِزُهَا لَهُمْ لِيَرَوْا مَا فِيهَا مِنَ الهَوْلِ وَالنَّكَالِ، قَبْلَ أَنْ يَقْذِفَهُمْ فِيهَا، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي تَعْجِيلِ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ وَالأَلَمِ لَهُمْ.(1/2240)
الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
(101) - وَهَؤُلاَءِ الكَافِرُونَ، الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا هَذا العِقَابَ، هُمُ الَّذِينَ تَغَافَلُوا عَنْ قَبُولِ الهُدَى، وَاتِّبَاعِ الحَقِّ، وَكَانُوا لاَ يَعْقِلُونَ عَنِ اللِه أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ.
غِطَاءٍ - غِشَاءٍ غَلِيظٍ، وَسِتْرٍ كَثِيفٍ.(1/2241)
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
{لِلْكَافِرِينَ}
(102) - أَفَظَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِي، وَاتَّخَذُوا عِبَادِي، الَّذِينَ هُمْ فِي قَبْضَتِي، وَتَحْتَ سُلْطَانِي، كَالمَلاَئِكَةِ وَعِيسَى وَعُزَيْرٍ. . . مَعْبُودَاتٍ مِنْ دُونِي أَنَّ هَؤُلاَءَ المَعْبُودِينَ سَيَنْفَعُونَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ إِنَّ ذَلِكَ لَنْ يُجْدِيهِمْ نَفْعاً، وَلَنْ يُنَجِّيهِمْ مِمَّا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ النَّكَالِ وَالوَبَالِ، وَلَنْ يُنْجِيَهُمْ مِنَ العَذَابِ، فَقَدْ هَيَّأْنَا جَهَنَّمَ وَأَعْدَدْنَاهَا لِهَؤُلاَءِ الكَافِرِينَ لِتَكُونَ لَهُمْ مَقَرّاً وَمُسْتَقَرّاً (نُزُلاً) .
نُزُلاً - مَنْزِلاً أَوْ شَيْئاً يَمْتَنِعُونَ بِهِ.(1/2242)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)
{أَعْمَالاً}
(103) - قُلْ، أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَكَ بِالبَاطِلِ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ: هَلْ تُرِيدُونَ أَنْ أُخْبِرَكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً؟ إِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ عَبَدُوا اللهَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَةٍ يَرْضَاهَا تَعَالَى، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُصِيبُونَ فِيهَا، وَأَنَّ عَمَلَهُمْ مَقْبُولٌ. وَهُمْ فِي الحَقِيقَةِ مُخْطِئُونَ وَاهِمُونَ، وَعَمَلُهُمْ مَرْدُودٌ.(1/2243)
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)
{الحياة}
(104) - يُفَسِّرُ اللهُ تَعَالَى هُنَا مَعْنَى (الأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً) ، وَيَدُلٌّ عَلَيْهِمْ، فَيَقُولُ: إِنَّهُمُ الَّذِينَ عَمِلُوا أَعْمَالاً بَاطِلَةً عَلَى غَيْرِ شَرِيعَتِهِ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيءٍ مِنَ الهُدَى وَالصَّوَابِ، وَأَنَّهُمْ مَقْبُولُونَ وَمَحْبُوبُونَ، وَأَنَّ أَعْمَالَهُمْ حَسَنَةٌ يَقْبَلُهَا اللهُ تَعَالَى.(1/2244)
أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)
{أولئك} {بِآيَاتِ} {وَلِقَائِهِ} {أَعْمَالُهُمْ} {القيامة}
(105) - وَهَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ، وَكَفَرُوا بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَكَفَرُوا بِحُجَجِ رَبِّهِمْ وَبَرَاهِينِهِ وَدَلاَئِلِهِ التِي أَقَامَهَا عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ، وَكَذَّبُوا بِالآخِرَةِ وَالحِسَابِ، فَهَلَكَتْ أَعْمَالُهُمْ وَبَطَلَتْ (حَبِطَتْ) ، فَلاَ تَزِنُ أَعْمَالُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ شَيْئاً، وَلاَ يَكُونُ فِي كَفَّةِ أَعْمَالِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَمَلٌ صَالِحٌ يُرَجِّحُهَا، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ خَالِيَةٌ مِنْ عَمَلِ خَيْرٍ، وَالمَوَازِينُ لاَ تَرْجَحُ وَلاَ تَثْقُلُ إِلاَّ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " يُؤْتَى يَوْمَ القِيَامَةِ بِرَجُلٍ عَظِيمٍ طَوِيلٍ فَلاَ يَزِنُ عِنْدَ اللهِ جُنَاحَ بَعُوضَةٍ ") . (رَوَاهُ البُخَارِيُّ) .
وَزْناً - مِقْدَاراً وَاعْتِبَاراً لِحُبُوطِ أَعْمَالِهِمْ وَتَلاَشِيهَا.(1/2245)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
{آيَاتِي}
(106) - وَيَكُونُ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ اللهِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، العَذَابَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَقَدْ جَازَاهُمُ اللهُ بِهَذا الجَزَاءِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَاتِّخَاذِهِمْ، آيَاتِ اللهِ وَرُسُلِهِ وَنُذُرِهِ هُزْواً، فَاسْتَهْزَؤُوا وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ أَشَدَّ التَّكْذِيبِ.(1/2246)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)
{آمَنُواْ} {الصالحات} {جَنَّاتُ}
(107) - أَمَّا السُّعَدَاءُ فَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ فِيمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ التِي تُرْضِي اللهَ، وَهَؤُلاَءِ يَكُونُ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ اللهِ جَنَّاتٍ تَجْرِي فِيهَا الأَنْهَارِ، وَتَكُونُ مَنْزِلاً لَهُمْ.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ - " الفِرْدَوْسُ مِنْ رَبْوَةِ الجَنَّةِ هِيَ أَوْسَطُهَا وَأَحْسَنُهَا ") .(1/2247)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
{خَالِدِينَ}
(108) - وَيُقِيمُونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً، لاَ يَنْتَقِلُونَ مِنْهَا وَلاَ يَخْتَارُونَ عَنْهَا بَدِيلاً، وَلاَ يَرْضَوْنَ بِسِوَاهَا مَنْزِلاً وَمُتَحَوَّلاً.
حِوَلاً - تَحَوُّلاً وَانْتِقَالاً.(1/2248)
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
{لِّكَلِمَاتِ} {كَلِمَاتُ}
(109) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ: لَوْ كَانَ مَاءُ البَحْرِ كُلُّهُ حِبْراً (مِدَاداً) لِلْقَلَمِ الَّذِي تُكْتَبُ بِهِ كَلِمَاتُ اللهِ، وَحِكَمُهُ وَآيَاتُهُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ، لَنَفِدَ مَاءُ البَحْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِي كِتَابَةُ ذَلِكَ وَتُسْتَنْفَدُ، وَلَوْ كَانَ وَرَاءَ البَحْرِ بُحُورٌ أُخْرَى تَمُدُّهُ.
المِدَادُ - المَادَّةُ التِي يُكْتَبُ بِهَا - الحِبْرُ.(1/2249)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
{وَاحِدٌ} {صَالِحاً} {يَرْجُواْ}
(110) - وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ المُكَذِّبِينَ بِرِسَالَتِكَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، فَمَنْ زَعَمَ أَنِّي كَاذِبٌ فَلْيَأْتِ بِمِثْلِ مَا جِئْتُ بِهِ، فَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ فِيمَا أُخْبِرُكُمْ بِهِ، مِنَ المَاضِي، عَمَّا سَأَلْتُمْ مِنْ قِصَصِ أَهْلِ الكَهْفِ، وَخَبَرِ ذِي القَرْنَيْنِ، مِمَّا هُوَ مُطَابِقٌ لِلْحَقِيقَةِ وَوَاقِعُ الحَالِ، وَلَوْ لَمْ يُطْلِعْنِي عَلَيْهِ اللهُ رَبِّي لِمَا عَلِمْتُهُ.
وَأَنَا أُخَبِرُكُمْ أَنَّ إِلهَكُمُ الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ لاَ شَرِيكَ لَهُ. فَمَنْ كَانَ يَرْجُو ثَوَابَ اللهِ (لِقَاءَ رَبِّهِ) ، وَجَزَاءَهُ الحَسَنَ فِي الآخِرَةِ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً خَيِّراً مُوَافِقَاً لِلْشَّرْعِ، وَلاَ يُرِدْ بِهِ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى.
(وَمُوَافَقَةُ العَمَلِ لِلْشَرْعِ، وَابْتِغَاءِ وَجْهِ اللهِ بِهِ هُمَا الرُّكْنَانِ الأَسَاسِيَّانِ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يَتَقَبَّلُهُ اللهُ) .(1/2250)
كهيعص (1)
(1) - كَافْ. هَا. يَا. عَيْن. صَادْ. اللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.(1/2251)
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)
{رَحْمَةِ}
(2) - هذَا ذِكْرُ رَحْمَةِ اللهِ لِعَبْدِهِ زَكَرِيَّا نَقُصُّهُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ. (وَزَكَرِيَّا نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ) .(1/2252)
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)
(3) - حِينَ دَعَا رَبَّهُ خفْيَةً عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ (لأَنَّ الدُّعَاءَ الخَفِيَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ لِدَلاَلَتِهِ عَلَى الإِخْلاَصِ، وَالْبُعْد عَنِ الرِّياءِ) .(1/2253)
قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
{بِدُعَآئِكَ}
(4) - فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ، وَخَارَتْ قُوَايَ (وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي) ، وَشَابَ رَأْسِي وَلَمْ أَعْهَدْ مِنْكَ إِلاَّ الإِجَابَةَ لِدُعَائِي، وَلَمْ تَرُدَّنِي قَطُّ خَائِباً فِيمَا سَأَلْتُكَ.
وَهَنَ الْعَظْمُ - ضَعُفَ وَرَقَّ.
شَقِيّاً - خَائِباً فِي وَقْتٍ مَا.(1/2254)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)
{الموالي} {وَرَآئِي}
(5) - وَإِنِّي خِفْتُ إِذَا مِتُّ بِلا خَلَفٍ وَلاَ وَلَدٍ أَنْ تَتَصَرَّفَ عُصْبَتِي بِالنَّاسِ تَصَرُّفاً سَيِّئاً، وَأَنْ تَخْرُجَ بِهِمْ عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ وَالْهُدَى، وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ لاَ تَلِدُ، فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلَداً (وَلِيّاً) ، يَكُونُ نَبِيّاً فَيَخْلُفُنِي فِي قَوْمِي، وَيَسُوسُهُمْ بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ.
(وَاسْتَبْعَدَ المُفَسِّرُونَ أَنْ يَكُونَ المَقْصُودُ بِالآيَةِ أَنَّ زَكَرِيَّا خَافَ أَنْ يَرِثَهُ أَحَدٌ مِنْ مَوَالِيهِ فِي مَالِهِ، لأَنَّ الأَنْبِيَاءَ لاَ يُورَثُونَ) .
خِفْتُ المَوَالِي - أَقَارِبي العَصَبَةُ وَالمَوَالِي عَصَبَةُ الإِنْسَانِ.
وَلِيّاً - ابْناً يَلِي الأَمْرَ بَعْدِي.(1/2255)
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
{آلِ}
(6) - فَيَرِثُ هَذا الوَلَدُ مِنِّي الْعِلْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَالحِكْمَةَ، وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ المُلْكَ، وَاجْعَلْهُ يَا رَبِّ مَرْضِيّاً عِنْدَكَ، وَعِنْدَ خَلْقِكَ، تُحِبُّهُ أَنْتَ، وَتُحَبِّبُهُ إِلَى الخَلْقِ فِي دِينِهِ وَخُلُقِهِ.
رَضِيّاً - مَرْضِيّاً عِنْدَكَ قَوْلاً وَفِعْلاً.(1/2256)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
{يازكريآ} {بِغُلاَمٍ}
(7) - فَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى لِدُعَاءِ زَكَرِيّا، وَقَالَ لَهُ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ: إِنَّنَا نُبَشِّرُكَ بِوَلَدٍ يُولَدُ لَكَ، وَيَكُونُ اسْمُهُ يَحْيَى، يَكُونُ نَبِيّاً وَصَالِحَاً وَمُصَدِّقاً بِالمَسِيحِ (كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى) ، وَلَمْ نَجْعَلْ لاسْمِهِ مُمَاثِلاً مِنْ قَبْلُ.(1/2257)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
{غُلاَمٌ}
(8) - فَتَعَجَّبَ زَكَرِيَّا حِينَ بُشِّرَ بِالْوَلَدِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ يُوْلَدُ لِي وَلَدٌ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ، وَأَنَا قَدْ تَقَدَّمَتْ بِيَ السِّنُّ كَثِيراً وَكَبِرْتُ، وَقَحِلَ عَظْمِي، وَلَمْ تَبْقَ فِيَّ قُوَّةٌ؟
أَنَّى يَكُونُ - كَيْفَ يَكُونُ.
العَاقِرُ - العَقِيمُ الَّذِي لاَ يُوْلَدُ لَهُ وَلَدٌ.
عِتِيّاً - أَيْ كَبِرَ وَيَبِسَتْ مَفَاصِلُهُ.(1/2258)
قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
(9) - فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِ قَائِلاً (أَوْ رَدَّ عَلَيْهِ المَلَكُ الَّذِي أَبْلَغَهُ البُشْرَى بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى) إِنَّ جَعْلَكَ وَزَوْجَكَ تُنْجِبَانِ وَلَداً وَأَنْتَ هَرِمٌ، وَامْرَأَتُكَ عَاقِرٌ هُوَ أَمْرٌ هَيِّنٌ يَسِيرٌ عَلَيَّ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ أَنْتَ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ تَكُنْ شَيْئاً، وَالْخَلْقُ أَصْعَبُ مِنْ تَبْدِيلِ الصِّفَاتِ، كَجَعْلِ العَاقِرِ وَلُوداً.(1/2259)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
{آيَةً} {آيَتُكَ} {ثَلاَثَ}
(10) - قَالَ زَكَرِيَّا: يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي عَلاَمَةً وَدَلاَلَةً (آيَةً) عَلَى وُجُودِ مَا وَعَدْتَنِي بِهِ مِنْ حَمْلِ زَوْجَتِي، لِتَسْتَقَرَّ نَفْسِي، وَيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِمَا وَعَدْتَنِي؟
قَالَ الرَبُّ: العَلاَمَةُ هِيَ أَنْ يَنْحَبِسَ لِسَانُكَ ثَلاَثَ لَيَالٍ وَأَنْتَ صَحِيحٌ مُعَافَى (سَوِيّاً) ، وَلَيْسَ بِكَ عِلَّةٌ، وَلاَ أَنْتَ تَشْكُو مَرَضاً، فَلاَ تَسْتَطِيعَ تَكْلِيمَ النَّاسِ وَمُحَاوَرَتَهُمْ. وَخِلاَلَ هَذِهِ اللَّيَالِي تَسْتَطِيعُ القِيَامَ بِعِبَادَاتِكَ، وَتَسْبِيحَ رَبِّكَ.
آيَةً - عَلاَمَةً عَلَى تَحَقُّقِ المَسْؤُولِ.
سَوِيَّاً - سَلِيماً لاَ خَرَسَ بِكَ وَلاَ عِلَّةٍ.(1/2260)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
(11) - وَبَعْدَ أَنْ أَعْلَمَ اللهُ تَعَالَى زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِهَذِهِ العَلاَمَةِ، خَرَجَ زَكَرِيَّا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ مُصَلاَّهُ، أَوْ مَحَلِّ عِبَادَتِهِ (المِحْرَابِ) ، وَهُوَ لاَ يَسْتَطِيعُ الكَلاَمَ، وَقَدِ انْطَلَقَ لِسَانُهُ بِتَسْبِيحِ اللهِ، فَسَأَلُوهُ عَمَّا بِهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ لِيُسَبِّحُوا رَبَّهُمْ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، وَلِيُشَارِكُوهُ الشُّكْرَ للهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، إِذْ جَعَلَ فِيهِمْ نَبِيّاً يَخْلُفُهُ مِنْ بَعْدِهِ.
المِحْرَابِ - المُصَلَّى أَوْ مَكَانَ العِبَادَةِ.
بُكْرَةً وَعَشِيّاً - طَرَفَيِ النَّهَارِ.(1/2261)
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
{يايحيى} {الكتاب} {وَآتَيْنَاهُ}
(12) - وَوُلِدَ لِزَكَرِيّا ابْنَهُ يَحْيَى، وَأَصْبَحَ صَبِيّاً، فَنَادَاهُ الرَّبُّ قَائِلاً: يَا يَحْيَى تَعْلَّمِ التَّوْرَاةَ (خُذِ الكِتَابَ) وَاعْمَلْ بِمَا فِيهَا بِجِدِّ وَاجْتِهَادٍ. وَآتَاهُ اللهُ الفَهْمَ وَالعِلْمَ وَالْجِدَّ وَالعَزْمَ، وَالإِقْبَالَ عَلَى الخَيْرِ، وَالاجْتِهَادِ فِيهِ وَهُوَ حَدَثٌ صَغِيرُ السِّنِّ.
الحُكْمَ - فَهْم التَّوْرَاةِ وَالعِلْمِ.(1/2262)
وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)
{وَزَكَاةً}
(13) - وَجَعَلْنَاهُ ذَا حَنَانٍ وَشَفَقَةٍ عَلَى النَّاسِ، مُحِبّاً لِلطَّهَارَةِ مِنَ الدَّنَسِ وَالآثَامِ وَالذُّنُوبِ (وَزَكَاةً) ، وَكَانَ تَقِيّاً طَاهِراً لاَ يَرْتَكِبُ الذُّنُوبَ وَالمُحَرَّمَاتِ.
حَنَاناً - رَحْمَةً وَعَطْفاً عَلَى النَّاسِ.
زَكَاةً - بَرَكَةً أَوْ طَهَارَةً مِنَ الذُّنُوبِ.
تَقِيّاً - مُطِيعاً وَمُجْتَنِباً لِلْمَعَاصِي.(1/2263)
وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)
{بِوَالِدَيْهِ}
(14) - وَجَعَلْنَاهُ كَثِيرَ البِرِّ بِوَالِدَيْهِ، مُطِيعاً لَهُمَا، مُجَانِباً لِعُقُوقِهِمَا قَوْلاً وَفِعْلاً، وَلَمْ يَكُنْ مُتَكَبِّراً مُتَجَبِّراً عَلَى النَّاسِ (جَبَّاراً) ، بَلْ كَانَ لَيِّنَ الجَانِبِ، وَلَمْ يَكُنْ عَاصِيّاً لِمَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ.
بِرّاً بِوَالِدَيْهِ - كَثِيرَ البِرِّ وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا.
جَبَّاراً عَصِيّاً - طَاغِيَةً مُخَالِفاً أَمْرَ رَبِّهِ.(1/2264)
وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
{وَسَلاَمٌ}
(15) - وَلَهُ التَّحِيَّةُ مِنَ اللهِ، وَلَهُ الأَمَانُ يَوْمَ وُلِدَ، وَيَوْمَ يَمُوتُ، وَيَوْمُ يَبْعَثُهُ اللهُ فِي الآخِرَةِ حَيّاً مَعَ الخَلاَئِقِ يَوْمَ الحَشْرِ.(1/2265)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)
{الكتاب}
(16) - وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى قِصَّةَ زَكَرِيَّا فِي إِيْجَادِ وَلَدٍ لَهُ بَعْدَ أَنْ كَبِرَ وَشَاخَ، وَامْرَأَتُهُ عَاقِرٌ لاَ تَلِدُ، أَتَى عَلَى ذِكْرِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ، وَوِلاَدَةِ وَلَدٍ لَهَا مِنْ غَيْرِ أَبٍ. وَفِي كِلاَ الأَمْرَيْنِ دَلاَلَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى عَظَمَةِ الخَالِقِ وَقُدْرَتِهِ.
وَمَرْيَمُ هِيَ بِنْتُ عِمْرَانَ مِنْ سُلاَلَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَكَانَتْ مَرْيَمُ مِنْ بَيْتٍ طَيبٍ طَاهِرٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَذَكَرَ اللهُ تَعَالَى نَشْأَتَها فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، فَكَانَتْ إِحْدَى العَابِدَاتِ النَّاسِكَاتِ، وَكَانَتْ فِي كَفَالَةِ زَوْجِ خَالَتِهَا زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلاَمُ. فَلَمَّا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى - وَلَهُ الحِكْمَةُ البَالِغَةُ - أَنْ يُوجِدَ مِنْهَا وَلَداً مِنْ غَيْرِ أَبٍ، انْتَحَتْ (انْتَبَذَتْ) عَنْ أَمَاكِنِ أَهْلِهَا، وَاتَّخَذَتْ لَهَا مَكَاناً يَقَعْ شَرْقِيَّ أَمَاكِنِهِمْ (مَكَاناً شَرْقِيّاً) .
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ النَّصَارَى اتَّخَذُوا المَشْرِقَ قِبْلَةً لَهُمْ لأنَّ المَشْرِقَ كَانَ مَكَانَ مِيلاَدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ) .
انْتَبَذَتْ - اعْتَزَلَتْ وَانْفَرَدَتْ.(1/2266)
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)
(17) - فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِ أَهْلِهَا سِتْراً يَسْتُرهَا عَنْ أَعْيُنِهِمْ وَعَنِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ اللهُ إِلَيْهَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَجَاءَهَا مُتَمَثِّلاً فِي صُورَةِ رَجُلٍ تَامِّ الخَلْقِ.
حِجَاباً - سِتْراً.
رُوحَنَا - جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
بَشَرَاً سَوِيّاً - إِنْسَاناً تَامَّ الخَلْقِ مُسْتَوِيَةُ.(1/2267)
قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)
(18) - وَلَمَّا تَبَدَّى لَهَا المَلَكُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ دَاخِلَ الحِجَابِ الَّذِي اتَّخَذَتْهُ لِنَفْسِهَا، خَافَتْهُ وَظَنَّتُهُ رَجُلاً يُرِيدُ بِهَا سُوءاً، فَقَالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِاللهِ وَأَسْتَجِيرُ بِهِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً تَخَافُ اللهَ، وَتَرْعَوي إِذَا ذُكِّرَتْ بِهِ.(1/2268)
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)
{غُلاَماً}
(19) - فَقَالَ لَهَا المَلَكُ مُطَمْئِناً: إِنَّنِي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكِ، بَعَثَنِي لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً طَاهِراً صَالِحاً، وَلَنْ يَنَالَكِ مِنِّي أَذًى.
غُلاَماً زَكِيّاً - مُزَكَّى مُطَهَّراً بِالخِلْقَةِ.(1/2269)
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
{غُلاَمٌ}
(20) - فَتَعَجَّبَتْ مَرْيَمُ مِنْ قَوْلِ المَلَكِ، وَقَالَتْ لَهُ: كَيْفَ يَكُونُ لِي وَلَدٌ دُونَ أَنْ يَمَسَّنِي رَجُلٌ، وَأَنَا لَسْتُ بِذَاتِ زَوْجٍ، وَلَسْتُ بَغِيّاً: فَاجِرَةً؟
بَغِيّاً - فَاجِرَةً تَبْغِي الرِّجَالَ.(1/2270)
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
{آيَةً}
(21) - فَقَالَ لَهَا المَلَكُ مُجِيباً: إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: إِنَّهُ سَيُوجِدُ مِنْكِ وَلَداً، وَإِنْ لَمْ يَمْسَسِكِ بَشَرٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُونِي ذَاتَ بَعْلٍ، وَلَمْ تَفْحُشِي، فَإِنَّ ذَلِكَ سَهْلٌ هَيِّنٌ عَلَى اللهِ، وَإِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌعَلَى فِعْلِ مَا يَشَاءُ، وَسَتَكُونُ وِلاَدَةُ هَذَا الوَلَدِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ دَلاَلَةً لِلنَّاسِ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ بَارِئِهِمْ وَخَالِقِهِمْ، وَسَيَكُونُ هَذا الوَلَدُ رَحْمَةً لِلنَّاسِ مِنَ اللهِ، يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَطَاعَتِهِ، وَإِنَّهُ أَمَرٌ مَقْضِيٌّ مِنَ اللهِ كَائِنٌ لاَ مَحَالَةَ، وَلاَ رَادَّ لِمَا قَضَى.(1/2271)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
(22) - وَحِينَمَا نَفَخَ فِيهَا المَلَكُ مِنْ رُوحِ اللهِ، وَحَمَلَتْ بِابْنِهَا عِيسَى عَلَيهِمَا السَّلاَمُ، ضَاقَتْ بِهِ ذَرْعاً، وَلَمْ تَدْرِ مَا تَقُولُ لِلنَّاسِ، فَابْتَعَدَتْ عَنِ أَهْلِهَا، وَذَهَبَتْ إِلَى مَكَانٍ قَاصٍ لاَ تَرَاهُمْ فِيهِ وَلاَ يَرَوْنَهَا.
مَكَاناً قَصِيّاً - بَعِيداً عَنْ أَهْلِهَا.(1/2272)
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
{ياليتني}
(23) - فَاضْطَرَّهَا أَلَمُ المَخَاضِ، وَأَلْجَأَهَا إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ تَسْتَنِدُ إِلَيْهِ فِي المَكَانِ الَّذِي لَجَأَتْ إِلَيْهِ، وَانْتَحَتْ فِيهِ عَنْ أَهْلِهَا، وَفَكَّرَتْ فِيمَا سَيَقُولُهُ قَوْمُهَا عَنْهَا، إِذَا عَادَتْ بِالْوَلِيدِ، وَهِيَ تَحْمِلُهُ، فَتَمَنَّتِ المَوْتَ، وَقَالَتْ: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذا الحَمْلِ، وَلَمْ أَكُنْ شَيْئاً يُذْكَرُ فَيُعْرَفُ، وَلَمْ يَعْرِفِ النَّاسُ مَنْ أَنًا.
النَّسِيُّ - الشَّيِءُ التَّافِهُ الحَقِيرُ الَّذِي لاَ يُعْتَدُّ بِهِ فَيُنْسَى.
أَجَاءَهَا المَخَاضُ - أَلْجَأَهَا وَجَعُ الطَّلْقِ وَالوِلاَدَةِ.
المَخَاضُ - آلامُ الطَّلْقِ.(1/2273)
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
{فَنَادَاهَا}
(24) - فَنُودِيَتْ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلاَمُ مِنْ تَحْتِهَا (وَاخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ حَوْلَ مَنْ نَادَاهَا: أَهُوَ جِبْرِيلُ أَمْ هُوَ الوَلِيدُ) ، وَقَالَ لَهَا مَنْ نَادَاهَا: لاَ تَحْزَنِي لِمَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ الشِّدَّةِ، وَقَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَ قَدَمَيْكِ جَدْوَلَ مَاءٍ تَشْرَبِينَ مِنْهُ.
سَرِيّاً - جَدْوَلَ مَاءٍ.(1/2274)
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)
{تُسَاقِطْ}
(25) - وَهُزِّي جِذْعَ هَذِهِ النَّخْلَةِ، الَّتِي فَوْقَكِ، فَتُسْقِط عَلَيْكِ ثَمَراً طَازِجاً طَرِياً حَانَ قِطَافُهُ.
رُطَباً - ثَمَراً طَازِجاً.
جَنِيّاً - حَانَ جَنْيُهُ وَقِطَافُهُ.(1/2275)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
(26) - وَهَكَذا أَصْبَحَ لَدَيْكِ مَاءٌ تَشْرَبِينَ مِنْهُ وَطَعَامٌ، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَطِيبِي نَفْساً، وَأَبْعِدِي عَنْكِ الهُمُومَ وَالأَحْزَانَ، فَإِذَا رَأَيْتِ أَحَداً مِنَ البَشَرِ فَلاُ تُكَلِّمِيهِ، وَأَشِيرِي إِلَيْهِ أَنَّكِ نَذَرْتِ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً عَنِ الكَلاَمِ، وَأَنَّكِ لاَ تُكَلِّمِينَ أَحَداً مِنَ البَشَرِ هذا اليَوْمَ.
قَرِّي عَيْناً - طِيبِي نَفْساً وَلاَ تَحْزَنِي.(1/2276)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)
{يامريم}
(27) - وَحِينَمَا صَدَرَ الأَمْرُ مِنَ اللهِ تَعَالَى إِلَى مَرْيَمَ بِأَنْ تَصُومَ ذَلِكَ اليَوْمَ عَنِ الكَلاَمِ، وَأَنْ لاَ تُكَلِّمَ أَحَداً مِنَ البَشَرِ، فَعَلَتْ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَاسْتَسْلَمَتْ لِقَضَاءِ اللهِ، فَأَخَذَتْ وَلِيدَها، وَجَاءَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ، فَلَمَّا رَأَوْهَا وَبَيْنَ يَدَيْهَا الوَلِيدُ، أَعْظَمُوا الأَمْرَ وَاسْتَنْكَرُوهُ، وَقَالُوا لَهَا: لَقَدْ جِئْتِ يَا مَرْيَمُ أَمْراً عَظِيماً مُنْكَراً.
شَيْئاً فَرِيّاً - شَيْئاً عَظِيماً مُنْكَراً.(1/2277)
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
{ياأخت} {هَارُونَ}
(28) - ثُمَّ تَابَعُوا خِطَابَهُمْ إِلَيْهَا قَائِلِينَ لَهَا: يَا شِبْهَ هَارُونَ فِي التُّقَى وَالوَرَعِ وَالعِبَادَةِ، أَنْتِ مِنْ بَيْتٍ طَيِّبٍ طَاهِرٍ، مَعْرُوفٍ بِالصَّلاَحِ وَالعِبَادَةِ، فَكَيْفَ صَدَرَ مِنْكِ هَذا؟ إِنَّ أَبَاكِ رَجُلٌ صَالِحٌ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ شَيءٌ مِنَ السُّوءِ، وَكَانَتْ أُمُّكِ صَالِحَةً مِثْلَ أَبِيكَ وَلَمْ تَكُنْ مُتَهَتِّكَةً بَغِيّاً.
(وَقَدْ أَلِفَ النَّاسُ أَنْ يُنَادِي بَعْضَهُمْ بَعْضاً بِيَا أَخَا تَمِيمٍ، وَيَا أَخَا مُضَرَ، وَيَا أَخَا هَارُونَ. . وَهَارُونُ هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ كَانَ مَعْرُوفاً بِالزُّهْدِ وَالتُّقَى فِي قَوْمِهِ، وَكَانَ مُعَاصِراً لِوِلاَدَةِ السَّيِّدِ المَسِيحِ) .(1/2278)
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
(29) - وَكَانَتْ مَرْيَمُ صَائِمَةً ذَلِكَ اليَوْمَ، فَأَشَارَتْ إِلَى وَلِيدِهَا لِيَسْأَلُوهُ، فَقَالُوا لَهَا مُتَهَكِّمِينَ سَاخِرِينَ، كَيْفَ نُكَلِّمُ طِفْلاً مَا زَالَ فِي المَهْدِ رَضِيعاً؟(1/2279)
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)
{آتَانِيَ} {الكتاب}
(30) - فَقَالَ لَهُمْ عِيسَى: إِنَّهُ عَبْدُ اللهِ تَعَالَى، فَنَزَّهَ اللهُ تَعَالَى عَنِ الوَلَدِ، وَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ العُبُودِيَّةَ لِرَبِّهِ. ثُمَّ بَرَأَ أُمَّهُ مِمَّا اتَّهَمَهَا بِهِ قَوْمَهَا. فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ اللهَ جَعَلَهُ نَبِيّاً وَآتَاهُ كِتَاباً.(1/2280)
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)
{وَأَوْصَانِي} {بالصلاة} {والزكاة}
(31) - وَجَعَلَنِي مُعَلِّماً لِلْخَيْرِ، نَافِعاً لِلنَّاسِ (مُبَارَكاً) ، حَيْثُمَا حَلَلْتُ، وَأَيْنَمَا كُنْتُ، وَأَوْصَانِي رَبِّي بِالمُوَاظَبَةِ عَلَى الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً.(1/2281)
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)
{بِوَالِدَتِي}
(32) - وَأَمَرَنِي رَبِّي بِبِرِّ وَالِدَتِي، وَبِإِطَاعَتِهَا وَالإِحْسَانَ إِلَيْهَا وَلَمْ يَجْعَلْنِي رَبِّي جَبَّاراً مُسْتَكْبِراً عَنْ عِبَادَةِ اللهِ وَطَاعَتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْنِي عَدِيمَ البِرِّ بِوَالِدَتِي فَأَشْقَى بِذَلِكَ.
بِرّاً بِوَالِدَتِي - بَارّاً بِهَا مُحْسِناً مُكْرِماً.(1/2282)
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
{والسلام}
(33) - ثُمَّ عَادَ لِيُثْبِتَ عُبُودِيَّتَهُ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِيُؤَكِّدَ أَنَّهُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ، يُوْلَدُ وَيَحْيَا وَيَمُوتُ وَيُبْعَثُ كَسَائِرِ البَشَرِ، وَلَكِنَّهُ سَتَكُونُ لَهَ السَّلاَمَةُ فِي هَذِهِ الأَحْوَالِ التِي هِيَ أَشَقُّ مَا تَكُونُ عَلَى العِبَادِ (السَّلاَمُ عَلَيَّ) .(1/2283)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)
(34) - ذَلِكَ الَّذِي قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، مِنْ خَبَرِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، هُوَ القَوْلُ الحَقُّ الَّذِي يَخْتَلِفُ فِيهِ المُبْطِلُونَ، الَّذِينَ كَفَرُوا بِعِيسَى، وَتَقَوَّلُوا عَلَى أُمِّهِ، وَشَكُّوا فِي وِلاَدَتِهِ، وَالَّذِينَ غَالُوا فِيهِ فَادَّعُوا أَنَّهُ اللهُ أَوْ أَنَّهُ ابْنُ اللهِ.
قَوْلَ الحَقِّ - كَلِمَةَ اللهِ لِخَلْقِهِ كُنْ.
يَمْتَرُونَ - يَشُكُّونَ أَوْ يُجَادِلُونَ بِالبَاطِلِ.(1/2284)
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)
{سُبْحَانَهُ}
(35) - لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُ لِيَكُونَ عَبْداً نَبِيّاً، نَزَّهَ نَفْسَهُ المُقَدَّسَةَ عَمَّا يَقُولُهُ الجَّاهِلُونَ الظَّالِمُونَ، فَقَالَ: إِنَّهُ لاَ يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللهِ، وَكَمَالِ أُلُوهِيَّتِهِ أَنْ يَتَّخِذَ الوَلَدَ، لأَنَّهُ لَوْ أَرَادَهُ لَخَلَقَهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ (كُنْ) فَيَكُونُ بِلاَ حَمْلٍ وَلاَ وِلاَدَةٍ، وَلأَنَّ الوَلَدَ إِنَّمَا يَرْغَبُ فِيهِ البَشَرُ لِيَكُونَ حَافِظاً لأَبِيهِ يَعُولُهُ وَهُوَ حَيٌّ، وَلِيَكُونَ ذِكْراً لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَاللهُ تَعَالَى لاَ يَحْتَاجُ إِلَى شَيءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَكُلُّ شَيْءٍ فِي الوُجُودِ مُلْكٌ لَهُ، وَهُوَ حَيٌّ أَبَداً لاَ يَمُوتُ.
إِذَا قَضَى أَمْراً - إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْدِثَهُ.(1/2285)
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)
{صِرَاطٌ}
(36) - وَكَانَ مِمَّا قَالَهُ عِيسَى لِقَوْمِهِ حِينَما كَلَّمَهُمْ وَهُوَ فِي المَهْدِ: إِنَّ اللهَ رَبُّهُ وَرَبُّهُمْ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ، وَقَالَ لَهُمْ إِنَّ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، وَالطَّرِيقُ القَوِيمُ مَنِ اتَّبَعَهُ رَشَدَ، وَمَنْ خَالَفَهُ ضَلَّ وَغَوَى.(1/2286)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
(37) - فَاخْتَلَفَتِ الأَقْوَالُ فِي عِيسَى:
- فَقَالَ اليَهُودُ إِنَّهُ وُلِدَ مِنْ أَبٍ مَعْرُوفٍ، وَقَالُوا عَنْ كَلاَمِهِ فِي المَهْدِ إِنَّهُ سِحْرٌ.
وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ النَّصَارَى فِي عِيسَى عَلَى وُجُوهٍ شَتَّى:
- فَقَالَ اليَعَاقِبَةُ - إِنَّ اللهَ هَبَطَ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ صَعَدَ إِلَى السَّمَاءِ.
- وَقَالَ النَّسْطُورِيُّونَ - هُوَ ابْنُ اللهِ أَظْهَرَهُ مَا شَاءَ ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَيْهِ.
- وَقَالَ الآرْيُوسِيُّونَ - إِنَّهُ عَبْدٌ كَسَائِرِ خَلْقِ اللهِ، وَإِنَّهُ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ، وَهَذا القَوْلُ هُوَ القَوْلُ الحَقُّ الَّذِي أَرْشَدَ اللهُ إِلَيْهِ المُؤْمِنِينَ. ثُمَّ هَدَّدَ اللهُ تَعَالَى الَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى اللهِ الكَذِبَ، وَزَعَمُوا أَنَّ لَهُ وَلَداً، بِأَنَّهُمْ سَيَلْقَوْنَ جَزَاءَهُمْ فِي الآخِرَةِ، وَالوَيْلُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ مَشَهَدِ ذَلِكَ اليَوْمِ العَظِيمِ.(1/2287)
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
{الظالمون} {ضَلاَلٍ}
(38) - لَئِنْ كَانَ هؤُلاَءِ الكَافِرُونَ الَّذِينَ جَعَلَوا للهِ أَنْدَاداً، وَزَعَمُوا أَنَّ لَهُ وَلَداً، عُمْياً فِي الدُّنْيا عَنْ إِبْصَارِ الحَقِّ، وَعَنْ إِدْرَاكِ حُجَجِ اللهِ التِي أَوْدَعَها فِي الكَوْنِ، وَكُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَبَدِيعِ حِكْمَتِهِ، وَإِذَا كَانَ هَؤُلاَءِ اليَوْمَ صُمّاً فِي الدُّنْيَا عَنْ سَمَاعِ آيَاتِ اللهِ التِي جَاءَهُمْ بِهَا رُسُلُهُمْ. . . فَمَا أَسْمَعَهُمْ يَوْمَ القِيَامَِةِ، يَوْمَ يَقْدُمُونَ عَلَى رَبِّهِمْ، وَمَا أَصْبَرَهُمْ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ، حِينَ لاَ يُجْدِي السَّمَاعُ، وَلا الإِبْصَارُ، وَلاَ يَنْفَعَانِ شَيْئاً. وَفِي ذَلِكَ اليَوْمِ يَعَضُّونَ الأَنَامِلَ مِنَ الأَسَفِ وَالنَّدَمِ وَالحَسْرَةِ، وَيَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى الدُّنْيَا لِيَعْمَلُوا غَيْرَ مَا عَمِلُوا، وَلَكِنْ لاَ يُجَابُ لَهُمْ طَلَبٌ.
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ - مَا أَشَدَّ سَمْعُهُمْ وََمَا أَحَدَّ بَصَرَهُمْ! .(1/2288)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)
(39) - وَأَنْذِرِ النَّاسَ جَمِيعاً، وَحَذِّرْهُمْ يَوْمَ الحِسَابِ، وَهُوَ يَوْمٌ يَتَحَسَّرُ الظَّالِمُونَ فِيهِ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ اللهِ، حِينَ يُفْرَغُ مِنَ الحِسَابِ، وَيَذْهَبُ أَهْلُ الجَنَّةِ إَلَى الجَنَّةِ، وَيَذْهَبُ أَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، وَيُقَالُ لِكُلِّ فَرِيقٍ: إِنَّهُ الخُلُودُ حَيْثُ هُمْ، فَلاَ مَوْتَ وَلاَ زَوَالَ. وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ فِي غَفْلَةٍ عَنْ ذَلِكَ اليَوْمِ، وَعَنْ حَسَرَاتِهِ، وَأَهْوَالِهِ، وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَلاَ يُصَدِّقُونَ بِالقِيَامَةِ وَالبَعْثِ وَالحِسَابِ، وَالمُجَازَاةِ عَلَى الأَعْمَالِ.
{يَوْمَ الحسرة} - يَوْمَ الحِسَابِ وَالجَزَاءِ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ يَوْمُ النَّدَامَةِ عَلَى مَا فَاتَ.(1/2289)
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
(40) - لاَ يُحْزِنُكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ تَكْذِيبَ الْمُكَذِّبِينَ لَكَ فِيمَا أَتَيْتَهُمْ بِهِ مِنَ الحَقِّ، فَإِنَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ وَمَصِيرُهُمْ، وَمَصِيرُ الخَلْقِ أَجْمَعِينَ، فَالخَلاَئِقُ كُلُّهَا تَهْلِكُ، وَيَبْقَى اللهُ تَعَالَى وَحْدَهُ وَارِثاً لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، وَتَرْجِعُ إِلَيْهِ الخَلاَئِقُ كُلُّهَا يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَيَقْضِي بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَلاَ يَظْلِمُ اللهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ.(1/2290)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)
{الكتاب} {إِبْرَاهِيمَ}
(41) - وَاتْلُ عَلَى قَوْمِكَ، الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ، خَبَرَ أَبْيهِمْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، الَّذِي يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّتِهِ، وَقَدْ كَانَ نَبِيّاً مُرْسَلاً مُصَدِّقاً بِكَلِمَاتِ رَبِّهِ.(1/2291)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)
{ياأبت}
(42) - حِينَمَا قَالَ لأَبِيهِ وَهُوَ يَنْهَاهُ عَنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ، وَيَدْعُوهُ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى: يَا أَبَتِ لِمَاذَا تَعْبُدُ حِجَارَةً أَصْنَاماً، لاَ تَسْمَعُ وَلاَ تُبْصِرُ، وَلاَ تَنْفَعُ وَلاَ تَضُرُّ.(1/2292)
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)
{ياأبت} {صِرَاطاً}
(43) - يَا أَبَتِ إِنِّي وَإِنْ كُنْتُ ابْنَكَ، وَإِنْ كُنْتُ أَصْغَرُ مِنْكَ سِنّاً، إِلاَّ أَنَّنِي قَدِ اطَّلَعْتُ عَلَى شَيءٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ، لَمْ تَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَنْتَ وَلَمْ تَعْلَمْهُ، فَاتَّبِعْنِي فِيمَا أَدْعُوكَ إِلَيْهِ أَوْصِلْكَ إِلَى طَرِيقِ اللهِ المُسْتَقِيمِ، الَّذِي يُوصِلُكَ إِلَى الجَنَّةِ، وَإِلَى النَّجَاةِ فِي الآخِرَةِ.
صِرَاطاً سَوِيّاً - طَرِيقاً مُسْتَقِيماً مُنَجِّياً مِنَ الضَّلاَلِ.(1/2293)
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)
{ياأبت} {الشيطان}
(44) - يَا أَبَتِ لاَ تُطِعِ الشَّيْطَانَ فِي عِبَادَتِكَ هَذِهِ الأَصْنَامَ، فَإِنَّهُ هُوَ الدَّاعِي إِلَى عِبَادَتِهَا، وَقَدْ عَصَى الشَّيْطَانُ اللهَ رَبَّهُ، وَقَدْ خَلَقَهُ وَخَلَقَ لَكَ شّيءٍ، وَاسْتَكْبَرَ عَنْ إِطَاعَةِ أَمْرِ رَبِّهِ فَطَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ، فَلاَ تَتْبَعْهُ يَا أَبَتِ لأَنَّهُ يُوصِلُ مَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى الهَلاَكِ وَإِلَى نَارِ جَهَنَّمَ.
عَصِيّاً - كَثِيرَ العِصْيَانِ.(1/2294)
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
{ياأبت} {لِلشَّيْطَانِ}
(45) - وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ يَا أَبَتِ أَنْ تَسْتَمِرَّ فِي شِرْكِكَ وَفِي تَعَنُّتِكَ، وَاسْتِكْبَارِكَ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ، فَتَكُونَ قَرِيناً وَتَابِعاً لِلشَّيْطَانِ فِي النَّارِ.
وَلِيّاً - قَرِيناً تَلِيهِ وَيَلِيكَ فِي النَّارِ.(1/2295)
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
{آلِهَتِي} {ياإبراهيم} {لَئِن}
(46) - فَأَجَابَهُ أَبُوهُ قَائِلاً: أَتَرْفُضُ عِبَادَةَ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَمَّا أَنْتَ فِيهِ مِنْ مُطَالَبَتِي بِالاقْلاَعِ عَنْ عِبَادَتِهَا، وَعِبَادَةِ إِلهِكَ وَحْدَهُ، لَأْرُجَمَنَّكَ بِالْحِجَارَةِ، فَاحْذَرْنِي، وَابْتَعِدْ عَنِّي وَفَارِقْنِي دَهْراً طَويلاً، حَتَّى تَهْدَأَ ثَائِرَتِي.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ (مَلِيّاً) أَيْ اهْجُرْنِي وَأَنْتَ سَوِّيٌّ سَالِمٌ، قَبْلَ أَنْ تَنَالَكَ عُقُوبَتِي) .
وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً - فَارِقْنِي وَقْتاً طَوِيلاً.(1/2296)
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)
{سَلاَمٌ}
(47) - فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ: أَمَّا أَنَا فَلَنْ يَصِلَكَ مِنِّي أَذًى أَوْ مَكْرُوهُ احْتِرَاماً مِنِّي لِمَقَامِ الأُبُوَّةِ، وَسَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لَكَ، وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَهْدِيَكَ، وَيَغْفِرَ لَكَ ذُنُوبَكَ، فَقَدْ كَانَ رَبِّي دَائِمَ الإِكْرَامِ لِي، وَالاهْتِمَامِ بِحَالِي، وَالإِجَابَةِ لِدَعْوَتِي.
حَفِيّاً - بِرّاً لَطِيفاً أَوْ رَحِيماً مُكَرِّماً.(1/2297)
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
{وَأَدْعُو}
(48) - وَسَأَجْتَنِبُكُمْ وَأَتَبَرّأُ مِنْكُمْ وَمِنْ آلِهَتِكُمُ التِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللهِ، وَسَأَعْبُدُ رَبِّي وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ رَاجِيّاً أَنْ يُكْرِمَنِي رَبِّي بِسَبَبِ هَذِهِ العِبَادَةِ، وَهَذَا الدُّعَاءِ، وَأَلاَّ يَجْعَلَنِي شَقِيّاً، كَمَا شَقِيتُمْ أَنْتُمْ بِعِبَادَةِ تِلْكَ الأَصْنَامِ.
شَقِيّاً - خَائِباً ضَائِعَ السَّعْيِ.(1/2298)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)
{إِسْحَاقَ}
(49) - فَلَمَّا اعْتَزَلَ إِبْرَاهِيمَ أَبَاهُ وَقَوْمَهُ، وَهَاجَرَ مِنْ أَرْضِهِمْ أَبْدَلَهُ اللهُ خَيْراً مِنْهُمْ، وَجَعَلَ لَهُ نَسْلاً مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَوَهَبَ لَهُ ابْنَهُ إِسْحَاقَ، وَوَهَبَ لإِسْحَاقَ ابْنَهُ يَعْقُوبَ فِي حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ، وَكُلاًّ مِنْهُمْ قَدْ جَعَلَهُ اللهُ نَبِيّاً مُبَارَكاً، وَجَعَلَ لَهُمْ نَسْلاً مِنَ الأَنْبِيَاءِ الكِرَامِ.(1/2299)
وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
(50) - وَوَهَبَ اللهُ لإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَنَسْلَهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ تَعَالَى فَآتَاهُمُ النَّسْلَ الطَّاهِرَ، وَالذُّرِّيَّةَ المُبَارَكَةَ وَإِجَابَةَ الدُّعَاءِ، وَالبَرَكَةِ فِي المَالِ وَالأَوْلاَدِ، وَجَعَلَ لَهُمْ ثَنَاءً جَمِيلاً وَذِكْراً طَيِّباً عَلَى مَدَى الدَّهْرِ، وَجَعَلَهُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَتِهِمْ، مَسْمُوعِي الكَلِمَةِ فِي قَوْمِهِمْ، يُؤْخَذُ قَوْلُهُمْ بِالطَّاعَةِ وَالتَّبْجِيلِ وَالاحْتِرَامِ.
لِسَانَ صِدْقٍ - ثَنَاءً جَمِيلاً فِي أَهْلِ كُلِّ دِينٍ.(1/2300)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)
{الكتاب}
(51) - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ ثَنَّى بِذِكْرِ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ، فَقَالَ: إِنَّ مُوسَى كَانَ مُخْلِصاً فِي عِبَادَتِهِ (بِكَسْرِ اللامِ) ، وَقَرَأَهَا آخَرُونَ بِفَتْحِ الّلامِ (أَيْ مُصْطَفَى) فَقَدْ جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى - {إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس} فَكَانَ رَسُولاً مِنْ أُوْلِي العَزْمِ، وَكَانَ نَبِيّاً دَاعِياً إِلَى الخَيْرِ، وَمُبَشِراً وَنَذِيراً لِلْخَلْقِ.
مُخْلِصاً - بِكَسْرِ الَّلامِ - يَعْنِي صَادِقاً فِي عِبَادَتِهِ.
مُخْلَصاً - بِفَتْحِ الَّلامِ - يَعْنِي أَخْلَصَهُ اللهُ وَاصْطَفَاهُ.(1/2301)
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
{وَنَادَيْنَاهُ} {وَقَرَّبْنَاهُ}
(52) - وَحِينَمَا كَانَ مُوسَى سَائِراً بِأَهْلِهِ مِنْ مَدْيَنَ إِلَى مِصْرَ، وَصَلَ إِلَى وَادِي الطُّورِ، فَلَمَحَ نَاراً عَنْ بُعْدٍ، وَهُوَ فِي الَّليْلِ، فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا لَعَلِّي آتِيكُمْ بِقَبَسٍ مِنَ النَّارِ، أَوْ أَسْأَلُ مَنْ هُنَاكَ عِنْدَ النَّارِ لِيَهْدُونِي إِلَى الطَّرِيقِ، فَوَجَدَ النَّارَ عَنْ يَمِينِهِ، فَنَادَاهُ اللهُ تَعَالَى وَقَرَّبَهُ وَنَاجَاهُ، وَأَنْبَأَهُ بِأَنَّهُ اخْتَارَهُ لِيَكُونَ رَسُولَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ.
قَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً - مُنَاجِياً لَنَا.(1/2302)
وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
{هَارُونَ}
(53) - حِينَمَا كَلَّفَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ، وَلإِنْقَاذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ مُوسَى لِرَبِّهِ: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِيَ رِدْءاً} . وَقَالَ فِي مَكَانٍ آخَرَ: {اشدد بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي} فَاسْتَجَابَ اللهُ لِدُعَائِهِ، وَشَفَاعَتِهِ فِي أَخِيْهِ هَارُونَ فَجَعَلَهُ نَبِيّاً.(1/2303)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)
{الكتاب} {إِسْمَاعِيلَ}
(54) - وَاتْلُ يَا مُحَمَّدُ عَلَى قَوْمِكَ صِفَاتِ أَبِيهِمْ إِسْمَاعِيلَ عَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ، وَيَتَخَلَّقُونَ بِأَخْلاَقِهِ. وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَيَصِفُهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ، مِا الْتَزَمَ بِعِبَادَةٍ قَطُّ إِلاَّ قَامَ بِهَا. ثُمَّ وَصَفَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ كَانَ رَسُولاً، وَكَانَ نَبِيّاً، بَيْنَمَا وَصَفَ إِسْحَاقَ بِأَنَّهُ كَانَ نَبِيّاً.(1/2304)
وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
{بالصلاة} {والزكاة}
(55) - وَأَثْنَى اللهُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَانَ صَابِراً عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ، آمِراً أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، وَكَانَ مَرَضِيّاً عِنْدَ رَبِّهِ.(1/2305)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)
{الكتاب}
(56) - ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ كَانَ صَدِيقاً نَبِيّاً. (وَيُقَالُ إِنَّ إِدْرِيسَ كَانَ قَبْلَ نُوْحٍ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ) .(1/2306)
وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
{وَرَفَعْنَاهُ}
(57) - وَقَالَ تَعَالَى إِنَّهُ رَفَعَهُ فِي الجَنَّة مَكَاناً عَلِيّاً. وَيُرْوَى أَنَّهُ كَانَ خَيَّاطاً، فَكَانَ لاَ يَغْرِزُ إِبْرَةً إِلاَّ قَالَ سُبْحَانَ اللهِ، فَكَانَ يُمْسِي حِينَ يُمْسِي وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ عِنْدَ اللهِ عَمَلاً.(1/2307)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
{أولئك} {النبيين} {ءَادَمَ} {إِبْرَاهِيمَ} {وَإِسْرَائِيلَ} {آيَاتُ}
(58) - وَهَؤُلاَءِ النَّبِيُّونَ الَّذِينَ قَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم قَصَصَهُمْ، هُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذُرِيَّةِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ، وَمَنْ هَدَاهُمْ وَقَرَّبَهُمْ، وَكَانُوا إِذَا سَمِعُوا كَلاَمَ اللهِ المُتَضَمِّنَ حُجَجَهُ وَدَلاَئِلَهُ وَبَرَاهينَهُ، سَجَدُوا لِرَبِّهِمْ خُضُوعاً وَخُشُوعاً وَحَمْداً وَشُكْراً عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ النَّعَمِ العَظِيمَةِ وَهُمْ يَبْكُونَ.
اجْتَبَيْنَا - اصْطَفَيْنَا وَاخْتَرْنَا لِلنُّبُوَّةِ.
بُكِيّاً - بَاكِينَ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ.(1/2308)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
{الصلاة} {الشهوات}
(59) - ثُمَّ جَاءَ مِنْ بَعْدِ هَؤُلاَءِ الأَنْبِيَاءُ الصَّالِحِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ، القَائِمِينَ بِحُدُودِ اللهِ وَأَوَامِرِهِ المُؤَدِّينَ فَرَائِضَهُ، خَلْفُ سُوءٍ، تَرَكُوا الصَّلاَةَ وَإِقَامَتِهَا، وَأَقْبَلُوا عَلَى شَهَواتِ الدُّنْيا، فَهَؤُلاَءِ سَوْفَ يَلْقَوْنَ خَسَارةً وَشَرّاً يَوْمَ القِيَامَةِ.
(وَلِذَلِكَ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ إِلَى تَكْفِيرِ تَارِكِ الصَّلاَةِ) .
خَلْفٌ - عَقِبُ سُوءٍ.
يَلْقَوْنَ غَيّاً - يَلْقَوْنَ جَزَاءَ الغَيِّ وَالضَّلاَلِ.(1/2309)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
{وَآمَنَ} {صَالِحاً} {فأولئك}
(60) - إِلاَّ مَنْ تَدَارَكَ نَفْسَهُ بِالتَّوْبَةِ، وَصِدْقِ الإِيمَانِ، وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَرَجَعَ عَنْ تَرْكِ الصَّلاَةِ، وَعَنِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، وَيُحْسِنُ عَاقِبَتَهُ، وَخِتَامَهُ، وَيُدْخِلُهُ الجَنَّةَ، لأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا، وَلاَ يُنْقِصُهُ اللهُ شَيْئاً مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ ") . (أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه) .(1/2310)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)
{جَنَّاتِ}
(61) - وَالجَنَّاتُ التِي يُدْخِلُهَا اللهُ تَعَالَى التَّائِبِينَ، هِيَ جَنَّاتُ الإِقَامَةِ الدَّائِمَةِ (جَنَّاتُ عَدْنٍ) ، التِي وَعَدَ اللهُ عِبَادَهُ المُتَّقِينَ بِهَا، وَهِيَ مِنَ الغَيْبِ الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ، وَلَمْ يَرَوْهُ، وَإِنَّمَا آمَنُوا بِهِ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ بِاللهِ، وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ بِمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، وَاللهُ تَعَالَى لاَ يُخْلِفُ وَعْدَهُ أَبَداً، فَإِنَّ مَا يَعِدُهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ سَيَحْصُلُ، وَسَيَصِلُ إِلَى العِبَادِ (أَوْ سَيَأْتِيهِ العِبَادُ - وَالعَرَبُ تَقُولُ كُلُّ مَا أَتَاكَ فَقَدْ أَتَيْتَهُ، أَيْ إِنَّ مَأْتِيّاً وَآتِيَاً بِمَعْنَى وَاحِدٍ) .
مَأْتِيّاً - آتِياً أَوْ مُنْجَزاً.(1/2311)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
{سَلاَماً}
(62) - وَفِي هَذِهِ الجَنَّاتِ لاَ يَسْمَعُ نُزَلاَؤُهَا كَلاَماً لَغْواً تَافِهاً لاَ مَعْنَى لَهُ، وَلاَ فَائِدَةَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَسْمَعُونَ المَلاَئِكَةَ يُحَيُّونَهُمْ بِالسَّلاَمِ، مِمَّا يُشْعِرُهُمْ بِالاطْمِئْنَانِ وَالسَّعَادَةِ وَالرِّضَا، وَيَأْتِيهِمْ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ (بُكْرَةً وَعَشِيّاً) كَمَا كَانَ حَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا.
لَغْواً - كَلاَماً قَبِيحاً أَوْ كَلاَماً فُضُولاً لا خَيْرَ فِيهِ.(1/2312)
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
(63) - وَالجَنَّةُ الَّتِي بَيَّنَ اللهُ أَوْصَافَهَا العَظِيمَةُ فِيمَا تَقَدَّمَ، هِيَ الَّتِي يُورِثُهَا عِبَادَهُ المُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُطِيعُونَ رَبَّهُمْ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَيَكْظِمُونَ الغَيْظَ، وَيَعْفُونَ عَنِ النَّاسِ.(1/2313)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
(64) - رَوَى ابْنُ عَبَّاسَ فَقَالَ: قَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لِجِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورَنَا؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ. فَالمَلاَئِكَةُ الكِرَامُ لاَ تَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِإِذْنِ رَبِّهِم الَّذِي لَهُ أَمْرُ الدُّنْيَا (مَا بَيْنَ أَيْدِينَا) ، وَلَهُ أَمْرُ الآخِرَةِ (وَمَا خَلْفَنَا) ، وَمَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَلاَ يَنْسَى اللهُ شَيْئاً، وَلاَ تَطْرَأُ عَلَيْهِ غَفْلَةٌ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّهُ تَعَالَى جَدُّهُ إِنْ كَانَ قَدْ أَخَّرَ الوَحْيَ عَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ يَعْرِفُهَا هُوَ.(1/2314)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
{السماوات} {لِعِبَادَتِهِ}
(65) - وَرَبُّكَ هُوَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَمُدَبِّرَهُ، وَهُوَ الحَاكِمُ المُتَصَرِّفُ فِي هَذا الوُجُودِ، وَلاَ مُعَقِبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ المُسْتَحِقُ وَحْدَهُ لِلْعِبَادَةِ، لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ وَلاَ شَبِيهٌ وَلاَ مُمَاثِلٌ، فَاعْبُدْهُ يَا مُحَمَّدُ، وَثَابِرْ عَلَى عِبَادَتِهِ صَابِراً مُطْمَئِنّاً، وَلَيْسَ لِرَبِّكَ مُمَاثِلٌ يُسَمَّى بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ.
سَمِيّاً - مُمَاثِلاً فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ.(1/2315)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)
{الإنسان} {أَإِذَا}
(66) - وَيَقُولُ الكَافِرُ مُتَعَجِّباً مِنْ وُقُوعِ البَعْثِ: كَيْفَ أُبْعَثُ حَيّاً بَعَدَ المَوْتِ وَالفَنَاءِ، وَتَنَاثُرِ ذَرَّاتِ الأَجْسَادِ.(1/2316)
أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)
{الإنسان} {خَلَقْنَاهُ}
(67) - وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى، عَلَى هَؤُلاَءِ المُتَشَكِّكِينَ فِي أَمْرِ البَعْثِ، فَيَلْفِتُ نَظَرَهُمْ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ الْخَلْقَ، وَخَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ لاَ شَيءٍ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَبْلَهُ إِنْسَانٌ. وَيَسْتَدِلُّ اللهُ تَعَالَى بِإِشَارَتِهِ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَدَأَ الخَلْقَ، عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌعَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِمْ مِنْ جَدِيدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ، لأَنَّ الإِعَادَةَ أَسْهَلُ مِنَ الابْتِدَاءِ، {وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}(1/2317)
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)
{والشياطين}
(68) - يُقْسِمُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِذَاتِهِ الكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَحْشُرَهُمْ جَمِيعاً، وَشَيَاطِيْنَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ، ثُمَّ يُحْضِرُهُمْ جَمِيعاً حَوْلَ جَهَنَّمَ قُعُوداً عَلَى رُكَبِهِمْ، تَعْبِيراً عَنِ الإِهَانَةِ وَالتَّحْقِيرِ لَهُمْ.
جِثِيّاً - جَاثِينَ عَلَى رُكَبِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الهُوْلِ.(1/2318)
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)
(69) - وَيُتَابِعُ تَعَالَى قَسَمَهُ بِنَفْسِهِ الكَرِيمَةِ فَيَقُولُ: إِنَّهُ سَيَنْزِعُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ أَهْلِ دِينٍ (شِيْعَةٍ) قَادَتَهُمْ وَكُبَرَاءَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا أَشَدَّ جَمَاعَتِهِمْ تَكَبُّراً، وَعُتُوّاً عَلَى الَّذِي خَلَقَهُمْ، وَغَمَرَهُمْ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَكْثَرَهُمْ تَجَاوُزاً لِلْحُدُودِ الَّتِي شَرَّعَهَا اللهُ، ثُمَّ يَدْفَعُ بِهِمْ إَلَى أَشَدِّ العَذَابِ.
عِتِيّاً - عِصْيَاناً. جَرَاءَةً وَفُجُوراً.(1/2319)
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
(70) - وَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقٌّ مِنْ عِبَادِهِ بِأَنْ يَصْلَى بِنَارِ جَهَنَّمَ، وَيَخْلُدَ فِيهَا، وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ مُضَاعَفَةَ العَذَابِ فَيُدْخِلُهُمْ أَوْلاً فِي نَارِ جَهَنَّمَ لِيَصْلَوْهَا ثُمَّ يُدْخِلُ الآخَرِينَ إِلَيْهَا بِحَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ فِي العُتُوِّ وَالتَّكَبُّرِ.(1/2320)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)
(71) - وَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ إِلاَّ يَدْنُوا مِنْ نَارِ جََهَنَّمَ، وَيَصِيرُ حَوْلَها (أَوْ يَدْخُلُهَا فِعْلاً) ، وَقَدْ قَضَى اللهُ رَبُّكَ بِذَلِكَ، وَجَعَلَهُ أَمْراً مَحْتُوماً، مَفْرُوغاً مِنْهُ.
وَفِي الحَدِيثِ: " يَرِدُ النَّاسُ كُلُّهُمُ النَّارَ ثُمَّ يَصْدُرُونَ بِأَعْمَالِهِمْ "
(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتَّرْمَذِي) .
(وَقَالَ جَابِرٌ بْنُ عَبْدِ اللهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لاَ يَبْقَى بَرٌّ وَلاَ فَاجِرٌ إِلاَّ دَخَلَها - أَيْ النَّارَ - فَتَكُونُ عَلَى المُؤْمِنُ بَرْداً وَسَلاَماً، كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، حَتَّى إِنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجاً مِنْ بَرْدِهِمْ، ثُمَّ يُنَجِّى اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوا، وَيَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ") .(1/2321)
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
{الظالمين}
(72) - وَبَعْدَ أَنْ يَرِدَ النَّاسُ جَمِيعاً النَّارَ، يَدْخُلُونَهَا أَوْ يَكُونُونَ حَوْلَها - يُنَجِّي اللهُ تَعَالَى بِمِنِّهِ وَفَضْلِهِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنْهَا، وَيَتْرُكُ الظَّالِمِينَ جَاثِينَ فِيهَا عَلَى رُكَبِهِمْ.(1/2322)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
{آيَاتُنَا} {بينات} {آمنوا}
(73) - وَحِيْنَ تُتْلَى آيَاتُ اللهِ تَعَالَى عَلَى المُشْرِكِينَ، وَهِيَ ظَاهِرَةُ الدَّلاَلَةِ وَاضِحَةُ البُرْهَانِ، يَصُدُّونَ عَنْهَا، وَيُعْرِضُونَ، وَيَقُولُونَ مُفْتَخِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ بِالبَاطِلِ: إِنَّهُمْ أَحْسَنُ مِنَ المُؤْمِنِينَ مَنْزِلاً، وَأَرْفَعُ دَوْراً (خَيْرٌ مَقَاماً) ، وَإِنَّ نَادِيهُمْ أَعْمَرُ وَأَكْثَرُ رُوَّاداً وَطَارِقاً (أَحْسَنُ نَدِيّاً) ، مِنْ دَارِالأَرْقَمِ، الَّتِي كَانَ المُسْلِمُونَ يَجْتَمِعُونَ فِيهَا مُسْتَخْفِينَ. وَفِي ظَنِّ هَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ أَنَّ الأَمْرَ مَا دَامَ كَذَلِكَ فِي الدُّنْيا، فَإِنَّهُم سَيَكُونُونَ أَحْسَنُ حَالاً مِنْهُمْ فِي الآخِرَةِ، إِذْ كَيْفَ يَكُونُونَ هُمْ عَلَى بَاطِلٍ وَضِلاَلٍ، وَفُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ المُسْتَخْفِينَ فِي دَارِ الأَرْقَمِ المُتَوَاضِعَةِ عَلَى حَقٍّ.
خَيْرٌ مَقَاماً - مَنْزِلاً وَسَكَناً.
أَحْسَنُ نَدِيّاً - مَجْلِساً وَمُجْتَمَعاً (نَادِياً) .(1/2323)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
{أَثَاثاً} {وَرِءْياً}
(74) - وَكَمْ مِنْ أُمَّةٍ مِنَ المُكَذِّبِينَ قَدْ أَهْلَكَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ، وَكَانُوا أَحْسَنَ مِنْ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ أَمْوَالاً وَأَمْتِعَةً وَهَيْئَاتٍ وَمَنَاظِرَ. . . فَعَلَى هَؤُلاَءِ أَنْ يَتَّعِظُوا بِمَا حَلَّ بِمَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الكَفَرَةِ المُكَذِّبِينَ، فَمَا كَانُوا أَحْسَنَ حَالاً، وَلاَ أَكْثَرَ قُوَّةً وَمَالاً.
الرِّئْيُ - المَنْظَرُ وَالهَيْئَةُ.
الأَثَاثُ - المَتَاعُ وّالثِّيَابُ.
قَرْنٍ - أُمَّةٍ.(1/2324)
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
{الضلالة}
(75) - وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى المُشْرِكِينَ المُتَفَاخِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ أَحْسَنُ مَتَاعاً وَمَنْظَراً وَنَادِياً، فَيَقُولُ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ بِرَبِّهِمْ، وَالمُدَّعِينَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقًٍّ، وَأَنَّكُمٍ عَلَى بَاطِلٍ: إِنَّ مَا افْتَخَرْتُمْ بِهِ مِنْ زُخْرِفِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا لاَ يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الحَالِ فِي الآخِرَةِ، فَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ بِأَنَّ مَنْ كَانُوا مُنْهَمِكِينَ فِي الضَّلاَلَةِ، مُسْتَرْسِلِينَ فِي ارْتِكَابِ المَعَاصِي، فَإِنَّهُ يَبْسُطُ لَهُمْ نَعِيمُ الدُّنْيَا، وَيُطَيِّبُ عَيْشَهُمْ فِيهَا، وَلاَ يَزَالُ يُمْهِلُهُمْ اسْتِدْارَجاً لَهُمْ إِلَى أَنْ يُشَاهِدُوا مَا وَعَدُوا بِهِ رَأْيَ العَيْنِ: إِمَّا عَذَاباً فِي الدُّنْيا، كَمَا حَصَلَ لَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَإِمَّا قَيَامُ السَّاعَةِ، وَهُمْ مُكَذِّبُونَ بِهَا. وَإِذْ ذًَاكَ يَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرُّ الفَرِيقَيْنِ مَكَاناً، وَمَنْ هُوَ الأَضْعَفُ نَاصِراً وَجُنْداً. إِنَّهُمْ بِلاَ شَكٍّ سَيَجِدُونَ الأَمْرَ عَلَى عَكْسِ مَا كَانُو يُقَدِّرُونَ.
فَلْيَمْدُدْ لَهُ - يُمْهِلُهُ اسْتِدْراجاً.
أَضْعَفُ جُنْداً - أَقَلُّ أَعْوَاناً وَأَنْصَاراً.(1/2325)
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
{والباقيات} {الصالحات}
(76) - أَمَّا المُهْتَدُونَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَزِيدُهُمْ هُدًى، عَلَى هُدَاهُمْ، بِمَا يُنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنَ الآيَاتِ، وَالطَّاعَاتِ الَّتِي تَنْشَرِحُ لَهَا الصُّدُورُ وَتَسْتَنِيرُ بِهَا القُلُوب، وَتُوصِلُ إِلَى القُرْبِ مِنَ اللهِ، وَنَيْلِ رِضْوَانِهِ. . وَهَذِهِ كُلُّها خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ جَزَاءً وَعَاقِبَةً مِمَّا مُتِّعَ بِهِ أُوْلَئِكَ الكَافِرُونَ مِنَ النَّعَمِ الفَانِيَةِ، الَّتِي يَفْخَرُ بِهَا هَؤُلاَءِ مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ وَجَاهٍ. . . . إِلَخ.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ - وَتَسْبِيحُ اللهِ وَذِكْرُهُ - " سُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ للهِ وَلاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ ") . (أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مَسْنَدِهِ) .
َخَيْرٌ مَّرَدّاً - خَيْرٌ مَرْجِعاً وَعَاقِبَةً.(1/2326)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)
{أَفَرَأَيْتَ} {بِآيَاتِنَا}
(77) - كَانَ لِخَبَابِ بْنِ الأَرْتِ دَيْنٌ عِنْدَ العَاصِ بِنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ فَأَتَاهُ يَطْلُبُ مِنْهُ دَيْنَهُ، فَقَالَ لَهُ العَاصِ: وَاللهِ لاَ أَدْفَعُ إِلَيْكَ دَيْنَكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ. فَقَالَ لَهُ خَبَابُ: لاَ وَاللهَ لاَ أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ. فَقَالَ لَهُ العَاصِ: فَإِنَّي إِنْ مِتُّ ثُمَّ بُعِثْتُ جِئْتَنِي وَلِيَ مَالُ وَوَلَدٌ فَأُعْطِيكَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةُ. وَيَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: انظُرْ إِلَى هَذَا الكَافِرِ، وَاعْجَبْ مِنْ مَقَالَتِهِ، وَجُرْأَتِهِ عَلَى اللهِ، إِذْ قَالَ سَأُعْطَي فِي الآخِرَةِ مَالاً وَوَلَداً.
أَفَرَأَيْتَ - أَخْبِرْنِي.(1/2327)
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)
(78) - وَهَذا الكَافِرِ الَّذِي يَقُولُ أَنَّهُ سَيُؤْتَى فِي الآخِرَةِ المَالَ وَالوَلَدَ، هَلِ اطَّلَعَ عَلَى الغَيْبِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ سَيَتِمُّ لَهُ ذَلِكَ، أَمْ أَنَّ لَهُ عَهْداً عِنْدَ اللهِ عَلَى أَنَّهُ سَيُؤْتِيهِ ذَلِكَ، وَاللهُ لاَ يُخْلِفُ عَهْدَهُ أَبَداً؟
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ - أَعَلِمَ الغَيْبَ.(1/2328)
كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)
(79) - كَلاَّ لَيْسَ الأَمْرُ كَمَا يَقُولُ (وَكَلاَّ حَرْفُ رَدْعٍ لِمَا قَبْلَهَا، وَتَأْكِيدٌ لِمَا بَعْدَهَا) ، وَسَيَكْتُبُ اللهُ مَا قَالَهُ هَذا المُشْرِكُ فِي صَحِيفَةِ أَعْمَالِهِ، كَمَا أَثْبَتَ فِيهَا شِرْكَهُ وَكُفْرَهُ بِاللهِ، وَسَيَمُدُّ لَهُ مِنَ العَذَابِ فِي الآخِرَةِ مَدّاً، وَيَزِيدُهُ مِنْهُ لِتَقَوُّلِهِ الكَذِبَ وَالْبَاطِلَ فِي الدُّنْيَا، زِيَادَةً عَلَى كُفْرِهِ وَشِرْكِهِ وَتَكْذِيبِ رَسُولِ اللهِ.
نَمُدُّ لَهُ - نُطَوِّلُ لَهُ أَوْ نَزِيدُهُ.(1/2329)
وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
(80) - وَيَقُولُ هَذا المُشْرِكُ: إِنَّهُ سَيُؤْتَى فِي الآخِرَةِ مَالاً وَوَلَداً، زِيَادَةً عَلَى مَالِهِ وَوَلَدِهِ فِي الدُّنْيَا. وَفِي الحَقِيقَةِ إِنَّهُ سَيَمُوتُ وَسَيَتْرُكُ مَالَهُ وَوَلَدَهُ فِي الدُّنْيَا. وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَأْتِي رَبَّهُ فَرْداً وَحِيداً لاَ مَالَ لَهُ، وَلاَ وَلَدَ، وَلاَ نَاصِرَ. وَبِمَا أَنَّ جَمِيعَ الخَلاَئِقِ سَتَهْلِكُ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِنَّ الأَرْضَ وَمَا عَلَيْهَا تَبْقَى وَكَأَنَّهَا المِيرَاثُ الآيِلُ إِلَى اللهِ مِنْ خَلْقِهِ، فَهُوَ وَارِثُهُمْ جَمِيعاً، وَمِمَّا يَرِثُهُ تَعَالَى مَالُ هَذَالكَافِرِ.(1/2330)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)
{آلِهَةً}
(81) - وَاتَّخَذَ المُشْرِكُونَ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللهِ لِتَكُونَ لَهُمْ عِزّاً يَعْتَزُّونَ بِهَا، وَيَسْتَنْصِرُونَها، وَيَجْعَلُونَهَا شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
عِزّاً - أَنْصَاراً وَشُفَعَاءَ يَتَعَزَّزُونَ بِهِمْ.(1/2331)
كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
(82) - وَلَيْسَ الأَمْرُ كَمَا ظَنَّوُا بِأَنَّ الآلِهَةَ التِي عَبَدُوهَا سَتَنْصُرُهُمْ فِي الآخِرَةِ، وَسَتُكُونُ لَهُمْ عِزّاً، فَهَذِهِ الآلِهَةُ سَتَكْفُرُ بِعِبَادَةِ هؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ لَهَا - أَوْ سَيَكْفُرُ المُشْرِكُونَ بِعِبَادَةِ هَذِهِ الأَصْنَامِ، وَسَيَكُونُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّاً يَوْمَ القِيَامَةِ.(1/2332)
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
{الشياطين} {الكافرين}
(83) - أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ سَلَّطَ الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ وَالمُشْرِكِينَ، لِيَغْوُوهُمْ، وَيُغْرُوهُمْ بِارْتِكَابِ المَعَاصِي، وَيَهِيجُوهُمْ لِلْوُقُوعِ فِيهَا؟
تَؤُزُّهُمْ - تُغْرِيهِمْ بِالمَعَاصِي إِغْرَاءً.(1/2333)
فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
(84) - وَلاَ تَسْتَعْجِلْ يَا مُحَمَّدُ إِهْلاَكَ هَؤُلاَءِ الكُفَّارِ، وَاسْتِئْصَالِهِمْ بِعَذَابِ اللهِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ إِلاَّ أَيَّامٌ مَعْدُودَاتٍ، وَاللهُ تَعَالَى يُحْصِي عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ وَأَنْفَاسَهُمْ وَأَيَّامَهُمْ فِي الحَيَاةِ، ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى المَوْتِ ثُمَّ إِلَى عَذَابِ اللهِ.(1/2334)
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)
(85) - وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَحْشُرُ اللهُ تَعَالَى المُتَّقِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةِ، وَصَدَّقُوا رُسُلَ رَبِّهِمْ، إِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ، كَمَا يُكْرَمُ الوُفُودُ القَادِمُونَ عَلَى أَبْوَابِ المُلُوكِ.
الوَفْدُ - القَادِمُونَ رَاكِبِينَ.(1/2335)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)
(86) - أَمَّا المُجْرِمُونَ الكَافِرُونَ بِاللهِ، المُكَذِّبُونَ بِآيَاتِهِ وَرُسُلِهِ، فَإِنَّهُمْ يُسَاقُونَ بِالعُنْفِ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، وَهُمْ عِطَاشٌ لِيَرِدُوهَا.
وِرْداً - عِطَاشاً أَوْ كَالْدَّوَابِّ التِي تَرِدُ المَاءَ.(1/2336)
لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
{الشفاعة}
(87) - لاَ يَمْلِكُ العِبَادُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَ اللهِ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عَهْداً عِنْدَ اللهِ، بِأَنْ أَعَدَّ لَهَا عُدَّتَهَا، فَكَانَ فِي الدُّنْيَا مُصْلِحاً وَهَادِياً، فَيَكُونُ فِي الآخِرَةِ شَافِعاً وَمُشفَّعاً. وَالشَفَاعَةُ لاَ تَكُونُ إِلاَّ لَلأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالشُّهَدَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: العَهْدُ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنْ يَبْرَأَ مِنَ الحَوْلِ وَالقُوَّةِ، وَلاَ يَرْجُو إِلاَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.(1/2337)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88)
(88) - لَمَّا قَرَّرَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّوْرَةِ عُبُودِيَّةِ عِيسَى للهِ، وَذَكَرَ خَلْقَهُ مِنْ مَرْيَمَ بِدُونِ أَبٍ، شَرَعَ فِي اسْتِنْكَارِ أَقْوَالِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ للهِ وَلَداً، فَقَالَ: إِنَّهُمْ قَالُوا: اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ أَوْ مِنَ النَّاسِ.(1/2338)
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)
(89) - ثُمَّ يَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً: لَقَدْ جِئْتُمْ، بِقَوْلِكُمْ هَذا، شَيْئاً مُنْكَراً عَظِيماً يَدُلُّ عَلَى الجُرْأَةِ المُتَنَاهِيَةِ.
شَيْئاً إِدّاً - مُنْكَراً فَظِيعاً.(1/2339)
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)
{السماوات}
(90) - وَلَوْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الفَاجِرَ، الَّذِي يَقُولُهُ هَؤُلاَءِ، سَمِعَتْهُ السَّمَاوَاتُ لاَنْشَقَّتْ وَتَفَطَّرَتْ مِنْهُ، وَلَوْ أَنَّ الأَرْضَ سَمِعَتْهُ لَتَشَقَّقَتْ، وَلَوْ أَنَّ الْجِبَالَ سَمِعَتْهُ لانْهَدَّتْ، وَتَهَدَّمَتْ، إِعْظَاماً لِلرَّبِّ وَإِجْلاَلاً، فَكُلُّ شَيْءٍ فِي الوُجُودِ يَعْرِفُ أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ، لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ - يَتَشَقَّقْنَ وَيَتَفَتَّتْنَ مِنْ شَنَاعَتِهِ.
تَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً - تَسْقُطُ مَهْدُودَةً عَلَيْهِمْ.(1/2340)
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)
(91) - وَتَكَادُ الجِبَالُ تَنْهَدُّ، وَالأَرْضُ تَنْشَقُّ، وَالسَّمَاءُ تَنْفَطِرُ بِسَبَبِ مَا نَسَبَهُ هَؤُلاَءِ الكَافِرُونَ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ اتِّخَاذِ الوَلَدِ.(1/2341)
وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)
(92) - وَلاَ يَلِيقُ بِجَلاَلِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، وَلاَ يَسْتَقِيمُ فِي العَقْلِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لأَنَّ إِثْبَاتَ الوَلَدِ لَهُ يَقْتَضِي حُدُوثَهُ وَحَاجَتَهُ. تَنَزَّهَ اللهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ وَتَعَالَى.(1/2342)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)
{السماوات} {آتِي}
(93) - لأَنَّ جَمِيعَ الخَلاَئِقِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ هُمْ عَبِيدٌ للهِ وَلأَنَّهُ لاَ كِفَاءَ لَهُ، وَلاَ مِثَالَ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ.(1/2343)
لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)
{أَحْصَاهُمْ}
(94) - وَلَقْدَ أَحْصَى اللهُ تَعَالَى عَدَدَ جَمِيعِ المَخْلُوقَاتِ، مُنْذُ بِدْءِ الخَلِيقَةِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَعَرَفَ ذُكُورَهُمْ وَإِنَاثَهُمْ، وَصِغَارَهُمْ وَكِبَارَهُمْ، وَأَحْصَى أَعْمَالَهُمْ وَأَنْفَاسَهُمْ وَأَقْوَالَهُمْ، وَهُمْ جَمِيعاً تَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ.(1/2344)
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
{آتِيهِ} {القيامة}
(95) - وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الخَلاَئِقِ سَيَأْتِي اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَحْدَهُ، لاَ نَاصِرَ وَلاَ مُجِيرَ لَهُ، فَيَحْكُمُ اللهُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَهُوَ العَادِلُ الَّذِي لاَ يَظْلِمُ أَحَداً مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.(1/2345)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
{آمَنُواْ} {الصالحات}
(96) - إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُلْقِي مَحَبَّةَ المُؤْمِنِينَ المُخْلِصِينَ الصَّالِحِينَ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ.
وَفِي الحَدِيثِ: " إِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْداً نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّيِ قَدْ أَحْبَبْتُ فُلاَناً، فَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ ثُمَّ يُنْزِلُ لَهُ المَحَبَّةَ فِي أَهْلِ الأَرْضِ " (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ) .
وُدّاً - مَحَبَّةً وَوُدّاً فِي القُلُوبِ.(1/2346)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)
{يَسَّرْنَاهُ}
(97) - وَإِنَّمَا أَنْزَلْنَا القُرْآنَ بِلِسَانِكَ يَا مُحَمَّدُ، وَهُوَ الْلِسَانُ العَرَبِيُّ، لِتَسْتَطِيعَ قِرَاءَتَهُ عَلَى النَّاسِ، وَإِبْلاَغَهُ إِلَيْهِمْ، فَتُبَشِّرَ بِهِ المُسْتَجِيبِينَ لِرَبِّهِمْ، وَالمُصَدِّقِينَ رُسُلَهُ، وَلِتُنْذِرَ بِهِ الفُجَّارَ الشَّدِيدِي الخُصُومَةِ وَالجَدَلِ.
لُّدّاً - شَدِيدِي الخُصُومَةِ.(1/2347)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
(98) - وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أُمَمٍ وَأَجْيَالٍ (قَرْنٍ) كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ. وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، فَبَادُوا وَانْقَرَضُوا، وَلَمْ تَبْقَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ بَاقَةٌ. فَهَلْ تَرَى مِنْهُمْ أَحَداً، أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ صَوْتاً؟
هَلْ تُحِسُّ - هَلْ تَرَى أَوْ تَعْلَمُ.
الرِكْز لُغَةً - الصَّوْتُ الْخَفِيُّ.(1/2348)
طه (1)
(1) طَا. هَا. اللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.(1/2349)
مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)
{القرآن}
(2) - مَا جَعَلَ اللهُ شَقَاءً لَكَ يَا مُحَمَّدُ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ هُدًى وَرَحْمَةً وَدَلِيلاً عَلَى الجَنَّةِ، تُذَكِّرُ بِهِ قَوْمَكَ، وَتَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ، فَمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ وَأَصْلَحَ فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاَغُ، وَعَلَيْنَا الحِسَابُ.
لِتَشْقَى - لِتُكَابِدَ الشَّدَائِدَ.(1/2350)
إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)
(3) - إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ كِتَابَهُ وَبَعَثَ رَسُولَهُ رَحْمَةً رَحِمَ بِهَا عِبَادَهُ، لِيُذَكِّرَ مَنْ يَخْشَى اللهَ، وَيَخْشَعُ قَلْبَهُ لَهُ، وَيَتَأَثَّرُ بِالإِنْذَارِ، وَلِيَنْتَفِعَ بِهِ مَنْ حَسُنَ اسْتِعْدَادُهُ لِلْهُدَى.(1/2351)
تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)
{والسماوات}
(4) - وَهَذا القُرْآنُ نَزَلَ عَلَيْكَ تَنْزِيلاً مِنْ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ العُلاَ فِي ارْتِفَاعِهَا وَلَطَافَتِهَا.(1/2352)
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)
(5) - وَالَّذِي نَزَّلَ القُرْآنَ مِنَ المَلأِ الأَعْلَى، وَخَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ العُلاَ، هُوَ الرَّحْمَنُ الَّذِي اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ اسْتَوَاءً يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ، وَهُوَ المُهَيْمِنُ عَلَى الكَوْنِ كُلِّهِ، فَأَمَرَ النَّاسَ إِلَيْهِ.(1/2353)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)
{السماوات}
(6) - وَللهِ مَا فِي الوُجُودِ كُلِّهِ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ، وَمَا فِي الأَرْضِ، وَمَا فِي جَوْفِ الأَرْضِ.
وَمَا تَحْتَ الثَّرَى - مَا فِي جَوْفِ الأَرْضِ.(1/2354)
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
(7) - وَإِنْ تَجْهَرْ بِدُعَاءِ اللهِ وَذِكْرِهِ، فَاعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ ذَلِكَ، لأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا أَسْرَرْتَهُ إِلَى غَيْرِكَ دُونَ أَنْ تَرْفَعَ بِهِ صَوْتَكَ، وَيَعْلَمُ مَا هُوَ أَخْفَى مِنْهُ مِمَّا يَخْطُرُ فِي بَالِكَ دُونَ أَنْ تَتَفَوَّهَ بِهِ.
وَأَخْفَى - حَدِيثَ النَّفْسِ وَخَوَاطِرَهَا.(1/2355)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
(8) - وَالَّذِي نَزَّلَ عَلَيْكَ القُرْآنَ هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ، وَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُنْعَتَ بِصِفَاتِ الكَمَالِ المُتَقَدِّمَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى التَّقْدِيسِ وَالتَّمْجِيدِ (لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى) .(1/2356)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)
{أَتَاكَ}
(9) - يَقُصُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَكَيْفَ كَانَ ابْتِدَاءَ الوَحْيِ إِلَيْهِ.(1/2357)
إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
{رَأَى} {آنَسْتُ} {آتِيكُمْ}
(10) - بَعْدَ أَنْ قَضَى مُوسَى مُدَّةَ عَقْدِهِ مَعَ شُعَيْبٍ، عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ، عَلَى رِعَايَةِ الغَنَمِ لِقَاءَ تَزْوِيجِهِ بِابْنَتِهِ، سَارَ مُوسَى بِأَهْلِهِ قَاصِداً بِلادَ مِصْرَ، بَعْدَ أَنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ عَنْهَا أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، فَظَلَّ الطَّرِيقَ، وَكَانَتِ اللَّيْلَةُ شَاتِيَةً مُمْطِرَةً، وَالبَرْدُ قَارِساً، فَحَاوَلَ إِشْعَالَ النَّارِ لِيَتَدَفَّأَ، وَقَدَحَ زَنْدَهُ لِيُشْعِلَ بِشَرَارَتِهِ نَاراً كَمَا جَرَتْ لَهُ العَادَةُ، فَلَمْ يُفْلِحْ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ زِنْدِهِ شَرَرٌ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ ظَهَرَتْ لَهُ نَارٌ مِنْ جَانِبِ الجَبَلِ الَّذِي كَانَ عَنْ يَمِينِهِ، فَقَالَ لأَهْلِهِ يُبَشِّرُهُمْ: إِنَّهُ رَأَى نَاراً، وَطَلَبَ إِلَى زَوْجَتِهِ البَقَاءَ حَيْثُ هِيَ لِيَذْهَبَ إِلَى النَّارِ، فَيَرَى مَنْ حَوْلَهَا، وَيَطْلُبَ مِنْهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ شِهَاباً مِنْ نَارٍ (قَبَساً) يُوقِدُ بِهِ نَاراً لَهُمْ، وَيَسْأَلُهُمْ عَنِ الطَّرِيقِ.(1/2358)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11)
{أَتَاهَا} {ياموسى}
(11) - فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى النَّارَ الَّتِي رَأَهَا، وَجَدَهَا تَشْتَعِلُ فِي شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ، وَكُلَّمَا ازْدَادَتِ النَّارُ تَوَهُّجاً، ازْدَادَتِ الشَّجَرَةُ اخْضِرَاراً، فَوَقَفَ تَعَجُّباً، مِمَّا يَرَى. فَنُودِيَ: يَا مُوسَى وَصَدَرَ إِلَيْهِ النِّدَاءُ مِنَ الجِهَةِ اليُمْنَى مِنَ الوَادِي، فِي البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ، كَمَا فِي آيَةٍ أُخْرَى. فَرَدَّ مُوسَى عَلَى الصَّوْتِ الَّذِي نَادَاهُ قَائِلاً: مَنِ المُتَكِلِّمُ؟(1/2359)
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
(12) - فَرَدَّ عَلَيْهِ الصَّوْتُ قَائِلاً: إِنَّ الَّذِي يُكَلِّمُكَ هُوَ اللهُ رَبُّكَ، فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ مِنْ رِجْلَيْكَ.
(وَقِيلَ إِنَّ نَعْلَيْهِ كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ غَيْرِ ذَكِيٍّ أَيْ غَيْرِ مَذْبُوحٍ، وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّهُ أَمَرَ بِخَلْعِهِمَا تَعْظِيماً لِلْبُقْعَةِ، وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ لِيَطَأَ الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ بِقَدَمَيْهِ فَيَمَسَّ تُرَابُهَا جِلْدَهُ) .
طُوَى - هُوَ اسْمُ الوَادِي الَّذِي كَانَ فِيهِ مُوسَى كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ.(1/2360)
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)
(13) - وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: إِنَّهُ اخْتَارَهُ وَاصْطَفَاهُ عَلَى جِمِيعِ المَوْجُودِينَ فِي زَمَانِهِ لِيَكُونَ رَسُولَهُ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ الاسْتِمَاعَ لِمَا سَيُوحِيِهِ إِلَيْهِ، وَمَا يَقُولُهُ لَهُ.(1/2361)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
{الصلاة}
(14) - إِنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ لِلْمُكَلَّفِ هُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَاحِدٌ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ رَبُّ المَخْلُوقَاتِ وَخَالِقُهَا، وَالمُتَصَرِّفُ فِيهَا، فَقُمْ يَا مُوسَى بِعِبَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ شَرِيكٍ، وَأَدِّ الصَّلاَةَ عَلَى الوَجْهِ الأَكْمَلِ الَّذِي أَمَرَكَ بِهِ رَبُّكَ، بِكَامِلِ شُرُوطِهَا لِتَذْكُرَ بِهَا رَبَّكَ. وَتَدْعُوهُ دُعاءً خَالِصاً لاَ يَشُوبُهُ إِشْرَاكٌ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لاَ كَفَّارَةَ لَهَا إِلاَّ ذَلِكَ ") . (رَوَاهُ البُخَارِي وَمُسْلِمْ.(1/2362)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
{آتِيَةٌ}
(15) - إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ مَحَالَةَ وَلاَ شَكَّ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّهُ تَعَالَى لاَ يُطْلِعُ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ عَلَى مَوْعِدِهَا، حَتَّى إِنَّهُ لَيَكَادُ يُخْفِيهَا عَنْ نَّفْسِهِ الكَرِيمَةِ (أَكَادُ أُخْفِيهَا) ، فَهِيَ مِمَّا اسْتَأَثَّرَ اللهُ بِعِلْمِهِ وَحْدَهُ، لِيَبْقَى النَّاسُ عَلَى حَذَرٍ بِاسْتِمْرَارٍ، وَإِنَّهُ تَعَالَى سَيُقِيمُ السَّاعَةَ، وَيَحْشُرُ النَّاسَ لِلْحِسَابِ، لِيَجْزِيَ كُلَّ نَفْسٍ بِمَا عَمِلَتْ وِكَسَبَتْ.
السَّاعَةَ - القِيَامَةَ.(1/2363)
فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
{هَوَاهُ}
(16) - وَيُخَاطِبُ اللهُ تَعَالَى المُكَلَّفِينَ فِي تَوْجِيهِهِ الخِطَابَ لِرَسُولِهِ مُوسَى (وَقِيلَ إِنَّ هَذَا الخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) فَيَقُولُ تَعَالَى: لاَ تَتَّبِعُوا سَبِيلَ مَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ، وَأَنْكَرَ البَعْثَ وَالحِسَابَ، وَأَقْبَلَ عَلَى المَلَذَّاتِ فِي دُنْيَاهُ، وَعَصَى رَبَّهُ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، لأَنَّ اتِّبَاعَ المَلَذَّاتِ، وَعِصْيَانِ اللهِ، يُوصِلاَنِ الإِنْسَانَ إِلَى الهَلاَكِ، وَالعَطَبِ، وَسُوءِ المُنْقَلَبِ.
فَتَرْدَى - فَتَهْلَكُ.(1/2364)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
{ياموسى}
(17) - ثُمَّ سَأَلَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى عَنِ العَصَا الَّتِي يَحْمِلُهَا بِيَمِينِهِ فَقَالَ لَهُ: وَمَا ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي تَحْمِلُهُ بِيَدِكَ اليُمْنَى؟(1/2365)
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
{أَتَوَكَّأُ} {مَآرِبُ}
(18) - فَقَالَ مُوسَى: إِنَّهَا عَصَا يَعتَمِدُ عَلَيْهَا فِي مَشْيِهِ (أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا) وَيُحَرِّكُ بِهَا أَغْصَانَ الشَّجَرِ لِيَتَسَاقَطَ وَرَقُهَا، وَثَمَرُهَا، فَتَأْكُلَهُ الغَنَمُ، دُونَ ضَرْبٍ أَوْ خَبْطٍ (أَهُشُّ بِهَا) ، وَإِنَّ لَهُ فِيهَا مَنَافِعُ أُخْرَى، وَحَاجَاتٍ غَيْرَ مَا ذَكَرَ.
أَهُشُّ بِهَا - أُحَرِّكُ بِهَا أَغْصَانَ الشَّجَرِ لِيَتَسَاقَطَ وَرَقُهَا.
مَآرِبُ أُخْرَى - مَنَافِعُ وَاسْتِعْمَالاَتٌ أُخْرَى.(1/2366)
قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19)
{ياموسى}
(19) - قَالَ اللهُ تَعَالَى لِمُوسَى: أَلْقِ العَصَا الَّتِي تُمْسِكُهَا بِيَمِينِكَ لِتَرَى لَهَا شَأْناً آخَرَ.(1/2367)
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)
{فَأَلْقَاهَا}
(20) - فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ، فَانْقَلَبَتْ حَيَّةٌ تَمْشِي (تَسْعَى) . وَفِي آيَةٍ أُخْرَى قَالَ إِنَّ العَصَا كَانَتْ تَهْتَزُّ بِسُرْعَةٍ وَكَأَنَّهَا جَانٌّ، (وَالجَانُّ نَوْعٌ سَرِيعُ الحَرَكَةِ مِنَ الحَيَّاتِ) .
حَيٌَّ تَسْعَى - تَمْشِي بِسُرْعَةٍ وَخِفَّةٍ.(1/2368)
قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
(21) - فَلَمَّا رَأَى مُوسَى الحَيَّةَ تَتَحَرَّكُ بِسُرْعَةٍ خَافَ وَوَلّى مُدَبِّراً، لاَ يَلْوِي عَلَى شَيءٍ (كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى) ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِالرُّجُوعِ فَرَجَعَ إِلَى حَيْثُ كَانَ يَقِفُ، وَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: خُذِ العَصَا فَإِنَّهُ سَيُعِيدُهَا، عَصاً كَمَا كَانَتْ قَبْلاً.
سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا - إِلَى حَالَتِهَا التِي كَانَتْ عَلَيْهَا قَبْلاً.(1/2369)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)
{آيَةً}
(22) - ثُمَّ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى بِأَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ تَحْتَ إِبْطِهِ (جَنَاحِهِ) (وَفِي آيَةٍ أُخْرَى جَاءَ: {اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} فَأَدْخَلَ مُوسَى يَدَهُ تَحْتَ إِبْطِهِ، مِنْ فَتْحَةٍ ثَوْبِهِ (جَيْبِهِ) ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ تَتَلأَلأُ دُونَ أَنْ يَكُونَ بِهَا أَذًى أَوْ مَرَضٌ أَوْ بَرَصٌ. . . فَإِذَا أَعَادَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ مَرَّةً أُخْرَى عَادَتْ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَهَذا بُرْهَانٌ ثَانٍ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
إِلَى جَنَاحِكَ - إِلَى جَنْبِكَ تَحْتَ العَضُدِ أَوْ تَحْتَ الإِبْطِ.
مِنْ غَيْرِ سُوءٍ - مِنْ غَيْرِ دَاءٍ أَوْ مَرَضٍ.(1/2370)
لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
{آيَاتِنَا}
(23) - وَهَاتَانِ الآيَتَانِ اللَّتَانِ أُرِيْتَهُمَا، السَّاعَةَ، هُمَا مِنء آيَاتِ اللهِ الكُبْرَى، وَقَعَتَا تَحْتَ حِسِّكَ وَبَصَرِكَ، لِتَطْمَئِنَّ إِلَى أَنَّكَ لَقِيتَ رَبَّكَ فِعْلاً، تَمْهِيداً لِلنُّهُوضِ بِأَمَانَةِ الرِّسَالَةِ الكُبْرَى الَّتِي سَيَعْهَدُ بِهَا إِلَيْكَ رَبُّكَ.(1/2371)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
(24) - اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ، الَّذِي خَرَجْتَ هَارِباً مِنْ بَطْشِهِ، فَادْعُهُ إِلَى عِبَادِهِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأْمُرْهُ فَلْيُحْسِنْ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلاَ يُعَذِّبْهُمُ، فَإِنَّهُ قَدْ طَغَى وَبَغَى، وَآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَنَسِيَ الرَّبَّ الأَعْلَى.
طَغَى - جَاوَزَ الحَدَّ فِي العُتُوِّ وَالتَّجَبُّرِ.(1/2372)
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)
(25) - فَسَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ أَنْ يَشْرَحَ لَهُ صَدْرَهُ (وَشَرْحُ الصَّدْرِ يَعْنِي اطْمِئْنَانَ النَّفْسِ إِلَى مَا يَقُومُ بِهِ الإِنْسَانُ مِنْ عَمَلٍ، وَإِذَا اطْمَأَنَّتِ النَّفْسُ إِلَى مَا تَقُومُ بِهِ تَحَوَّلَتْ مَشَقَّةُ التَّكْلِيفِ إِلَى مُتْعَةٍ) .(1/2373)
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)
(26) - ثُمَّ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُيَسِّرَ لَهُ أَمْرَهُ، وَأَنْ يَضْمَنَ لَهُ نَجَاحَ مَهَمَّتِهِ، وَإِذَا لَمْ يُيَسِّرِ اللهُ الأَمْرَ لِعَبْدِهِ فَإِنَّ العَبْدَ بِقُواهُ المَحْدُودَةِ لاَ يَمْلِكُ ضَمَانَ النَّجَاحِ.(1/2374)
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)
(27) - وَكَانَ فِي لِسَانِ مُوسَى حَبْسَةٌ فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَزُولَ مِنْهَا شَيءٌ بِقَدْرِ مَا يُمْكِّنُهُ مِنَ الإِفْصَاحِ، وَالتَّعْبِيرِ عَنِ المَهَمَّةِ الَّتِي أَرْسَلَهُ بِهَا إِلَى فِرْعَوْنَ.(1/2375)
يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
(28) - لِيَفْهَمَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مَا يُرِيدُ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ حِينَمَا يُبَلِّغُهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ.(1/2376)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29)
(29) - ثُمَّ سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ أَنْ يُعِينَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِهِ لِيَكُونَ لَهُ رِدْءاً، وَعَوْناً، عَلَى أَدَاءِ مَهَمَّتِهِ الشَّاقَّةِ.
الوَزِيرِ - المُعِينُ.(1/2377)
هَارُونَ أَخِي (30)
{هَارُونَ}
(30) - ثُمَّ خَصَّصَ طَلَبَهُ، فَطَلَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الذِي يُرِيدُهُ مُعِيناً فِي أَدَاءِ مَهَمَّتِهِ أَخَاهُ هَارُونَ، فَهُوَ أَفْصَحُ مِنْهُ لِسَاناً كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى.(1/2378)
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
(31) - تَشُدُّ بِهِ أَزْرِي وَتُقَوِّينِي بِهِ.
أَزْرِي - ظَهْرِي وَقُوَِّتِي.(1/2379)
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)
(32) - وَتَجْعَلُهُ حَامِلاً مَعِي أَمَانَةَ التَّكْلِيفِ فِي هَذِهِ المُهِمَّةِ الكُبْرَى الَّتِي أَمَرْتَنِي بِالقِيَامِ بِهَا.(1/2380)
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33)
(33) - وَالأَمْرُ الجَلِيلُ الَّذِي كَلَّفَ اللهُ بِهِ مُوسَى يَحْتَاجُ إِلَى الكَثِيرِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَذِكْرِ اللهِ، لِتَقْوَى النَّفْسِ وَتَطْمَئِنَّ وَتَهْدَأَ.(1/2381)
وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)
(34) - كَمَا يَحْتَاجُ إِلَى الكَثِيرِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ، لِتَطْمَئِنَّ النَّفْسُ وَتَهْدَأُ فَتَتَمَكَّنُ مِنَ القِيَامِ بِمَا كُلِّفَتْ بِهِ بِرَوِيَّةٍ وَهُدُوءِ بَالٍ.(1/2382)
إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
(35) - لَقَدْ كُنْتَ يَا رَبِّ بَصِيراً بِنَا إِذْ اصْطَفَيْتََنا، وَآتَيْتَنَا النُّبُوَّةَ وَأَمَرْتَنَا بِالتَّوَجُّهِ إِلَى عَدِوِّكَ فِرْعَوْنَ، فَلَكَ الحَمْدُ عَلَى ذَلِكَ.(1/2383)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)
{ياموسى}
(36) - فَأَجَابَ الرَّبُ قَائِلاً: إِنَّ دَعْوَتَهُ قَدِ اسْتُجِيبَتْ جَمِيعُهَا فِيمَا سَأَلَهُ مِنْ شَرْحِ صَدْرِهِ، وَتَيْسِيرِ أَمْرِهِ، وَشَدِّ أَزْرِهِ بِأَخِيهِ هَارُونَ وَجَعَلَهُ وَزِيراً وَنَبِيّاً.
أُوتِيتَ سُؤلَكَ - أُعْطِيتَ مَا سَأَلْتَ.(1/2384)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)
(37) - ثُمَّ قَالَ لَهُ تَعَالَى: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ لَهُ أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ، مَرَّةً أُخْرَى، إِذْ تَوَلاَّهُ بِعِنَايَتِهِ، وَأَكْرَمَهُ وَحِفَظَهُ وَرَعَاهُ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَنْ يَضَنَّ عَلَيْهِ بِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ فِيمَا سَأَلَ.(1/2385)
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38)
(38) - وَكَانَ فِرْعَوْنُ يَقْتُلُ الذُّكُورَ مِنْ مَوَالِيدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِرُؤْيَا رَآهَا فَأَزْعَجَتْهُ، فَلَمَّا وُلِدَ مُوسَى خَافَتْ أُمُّهُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ فِرْعَونُ، فَأَلْهَمَ اللهُ أُمَّ مُوسَى إِلْهَاماً طَمْأَنَ قَلْبَها.(1/2386)
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
(39) - وَهذا الإِلْهَامُ الَّذِي أَلْهَمَهَا اللهُ هُوَ أَنْ تَضَعَ مُوسَى فِي تَابُوتٍ صَغِيرٍ، فَتَقْذِفَهُ فِي المَاءِ (اليَمِّ) ، فَيَحْمِلَهُ اليَمُّ إِلَى شَاطِئِ النَّهْرِ فِي المَكَانِ المُواجِهِ لِقَصْرِ فِرْعَوْنَ، فَيَأْخُذُهُ فِرْعَوْنُ - وَهُوَ عَدُوٌّ للهِ وَلِمُوسَى - فَيُرَبِّيِهِ وَزَوْجَهُ، وَيَقْذِفُ اللهُ حُبَّهُ فِي قَلْبِ فِرْعَوْنَ وَزَوْجِهِ، وَهَكَذا يُرَبَّى مُوسَى بِعَيْنِ اللهِ وَرِعَايَتِهِ، وَيُنْشَّأَ أَحْسَنَ تَنْشِئَةٍ، فَفَعَلَتْ أُمُّ مُوسَى مَا أُلْقِيَ فِي رَوْعِهَا، فَأَخَذَهُ آلُ فِرْعَوْنَ، وَفِرَحَتْ بِهِ زَوْجُهُ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِ المَرَاضِعَ، فَلَمْ يَكُنْ يَقْبَلُ الرَّضَاعَ مِنْ ثَدِيِ امْرَأَةٍ أُخْرَى، وَذَلِكَ لِيُيَسِّرَ اللهُ عَوْدَتَهُ إِلَى أُمِّهِ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبُهَا وَلاَ تَحْزَنَ لِفِرَاقِهِ.
اقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ - اطْرَحِيهِ فِي مَاءِ النَّهْرِ.
لِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي - لِتُرَبَّى بِمُرَاقَبَتِي وَرِعَايَتِي(1/2387)
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
{فَرَجَعْنَاكَ} {فَنَجَّيْنَاكَ} {وَفَتَنَّاكَ} {ياموسى}
(40) - فَلَمَّا اسْتَقَرَّ مُوسَى عِنْدَ آلِ فِرْعَوْنَ، وَعَرَضُوا عَلَيْهِ المَرَاضِعَ فَأَبَاهَا، جَاءَتْ أُخْتُ مُوسَى، وَقَالَتْ لآلِ فِرْعَوْنَ: هَلْ تُرِيدُونَ أَنْ أَدُلَّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ، وَيُرْضِعُونَهُ؟ فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى أُمِّهَا فَعَرَضَتْ ثَدْيَهَا عَلَى مُوسَى فَأَخَذَهُ، فَفَرِحَ جَمَاعَةُ فِرْعَوْنَ فَرَحاً شَدِيداً، وَاسْتَأْجَرُوهَا لإِرْضَاعِهِ، وَبِذَلِكَ قَرَّتْ عَيْنُهَا، وَاطْمَأَنَّتْ عَلَى سَلاَمَةِ ابْنِهَا، إِذْ أَصْبَحَ مَشْمُولاً بِرِعَايَةِ فِرْعَوْنَ وَزَوْجِهِ.
وَلَمَّا كَبُرَ مُوسَى، وَجَدَ قِبْطِيّاً يَتَخَاصَمُ مَعَ إِسْرَائِيلِيٍّ، فَضَرَبَ مُوسَى القِبْطِيَّ بِجُمْعِ يَدِهِ فَقَتَلَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ بِمَقْتَلِهِ، ثُمَّ وُجَدَ ذَلِكَ الإِسْرَائِيلِيَّ يَتَخَاصَمُ مَعَ قِبْطِيٍّ آخَرَ فَاسْتَغَاثَ الإِسْرَائِيلِيُّ بِمُوسَى، فَوَبَّخَهُ مُوسَى عَلَى شُرُورِهِ، فَخَافَ الإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مُوسَى، وَقَالَ لَهُ لَعَلَّكَ تُرِيدُ قَتْلِي كَمَا قَتَلْتَ القِبْطِيَّ يَوْمَ أَمْسِ. وَعَلِمَ فِرْعَوْنُ بِأَنَّ مُوسَى هُوَ قَاتِلُ القِبْطِيِّ فَهَرَبَ إِلَى مَدْيَنَ. وَلِبِثَ فِيهَا عَشْرَ سِنِينَ يَرْعَى الغَنَمَ فِيهَا لِشُعَيْبٍ.
ثُمَّ لَمَّا انْتَهَى الأَجَلُ سَارَ مُوسَى بِأَهْلِهِ، وَفِي الطَّرِيقِ أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ رِسَالَتَهُ فِي الوَقْتِ المُقَدَّرِ.
حَدِيثُ الفُتُونِ:
وَسَأَلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍِ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الفُتُونِ الوَارِدِ فِي هَذِهِ الآيَةِ فَقَالَ لَهُ:
- أَمَرَ فِرْعَوْنُ بِذَبْحِ الذُّكُورِ مِنَ المَوْلُودِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانَ رِجَالُهُ يَطُوفُونَ، فَلاَ يَتْرُكُونَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ المَوْجُودِينَ فِي مِصْرَ وَلِيداً ذَكَراً إِلاَّ ذَبُحُوهُ، وَلَمَّا خَافَ الأَقْبَاطُ أَنْ يَفْنَى بَنُو إِسْرَائِيلَ وَلاَ يَبْقَى لِلأَقْبَاطِ مَنْ يَخْدِمَهُمْ، وَيَقُومُ بِالأَعْمَالِ الشَّاقَةِ لَدَيْهِمْ، اسْتَقَرَّ رَأْيُ فِرْعَوْنَ عَلَى أَنْ يَذْبَحَ ذُكُورَ الأَطْفَالِ سَنَةً، وَيَتْرُكَهُمْ سَنَةً. وَحَمَلَتْ أُمّ مُوسَى بِهِ فِي عَامٍ يَذْبَحُ فِيهِ الذَّكُورُ، فَخَافَتْ عَلَيْهِ، فَمَا دَخَلَ عَلَى مُوسَى وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، أَوْ مِمَّا يُرَادُ بِهِ هُوَ مِنَ الفُتُونِ.
- ثُمَّ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَخَافَتْ عَلَيْهِ فَقَذَفَتْهُ فِي اليَمِّ بِوَحْيٍّ مِنَ اللهِ، فَلَمَّا اخْتَفَى عَنْهَا ابْنُهَا وَسْوَسَ لَهَا الشَّيْطَانُ، فَقَالَتْ فِي نَفْسِهَا: مَا صَنَعْتُ بِابْنِي، لَوْ أَنَّهُ بَقِيَ عِنْدِي وَذُبِحَ فِي حِجْرِي لَوَارَيْتُهُ التُّرَابَ، فَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَأْكُلُهُ دَوَابُّ البَحْرِ.
- وَلَمَّا التَقَطَهُ جَوَارِي امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ وَهُوَ فِي التَّابُوتِ حَمَلْنَهُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا فَتَحَتْهُ وَنَظَرَتْ إِلَيْهِ أَحَبَّتْهُ، بِوَحْيٍّ مِنَ اللهِ، مَحَبَّةٍ كَبِيرَةٍ، وَجَاءَهَا الذَّبَّاحُونَ لِيَذْبَحُوا مُوسَى، وَذَلِكَ مِنَ الفُتُونِ.
- فَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ اتْرُكُوهُ حَتَّى آتِي فِرْعَوْنَ فَأَسْتَوْهِبُهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّ هَذا الوَاحِدُ لاَ يَزِيدُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِنْ وَهَبَهُ لِي كُنْتُمْ قَدْ أَحْسَنْتُمْ، وَإِنْ أَمَرَ بِذَبْحِهِ لَمْ أَلُمْكُمْ، فَأَتَتْ فِرْعَوْنَ فَقَالَتْ: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكْ. فَقَالَ فِرْعَوْنُ: قُرَّةُ عَيْنٍ لَكِ، أَمَّا أَنَا فَلاَ حَاجَةَ لِي بِهِ.
- ثُمَّ عَرَضَتْهُ عَلَى المَرَاضِعِ فَأَبَاهَا، وَأَصْبَحَتْ أُمُّ مُوسَى وَالِهاً فَقَالَتْ لابْنَتِهَا قُصِّي أَثَرَهُ فَبَصُرَتْ بِهِ أُخْتُهُ فَعَرَفَتْهُ، وَلَمَّا عَرَفَتْ أَنَّهُ رَفَضَ الرَّضَاعَ مِنَ المُرْضِعَاتِ، تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِمْ، فَقَالَتْ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ؟ فَقَالُوا وَمَا يُدْرِيكَ مَا نُصْحُهُمْ لَهُ؟ هَلْ تَعْرِفِينَهُ؟ حَتَّى شَكُّوا فِي أَمْرِهَا، وَذَلِكَ مِنَ الفُتُونِ.(1/2388)
- ثُمَّ وَجَدَ مُوسَى رَجُلاً إِسْرَائِيلِيّاً يَتَخَاصَمُ مَعَ قَبْطِيٍّ فَاسْتَغَاثَ الإِسْرَائِيلِيُّ بِمُوسَى فَقَتَلَ القَبْطِيَّ، وَلَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ مَنْ قَتَلَهُ، فَخَافَ مُوسَى عَلَى نَفْسِهِ. ثُمَّ وَجَدَ مُوسَى ذَلِكَ الإِسْرَائِيلِيُّ يَتَخَاصَمُ مَعَ قِبْطِيٍّ آخَرَ، فَاسْتَاءَ مُوسَى مِنْ فِعْلِ الإِسْرَائِيلِيِّ، فَقَالَ لَهُ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ. فَخَافَ الإِسْرَائِيلِيُّ أَنْ يَقْتُلَهُ مُوسَى، فَقَالَ لَهُ: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ؟ فَعَرَفَ القِبْطِيُّ أَنَّ مُوسَى هُوَ الَّذِي قَتَلَ القِبْطِيُّ الآخَرَ، فَذَهَبَ إِلَى فِرْعَوْنٍ يُعْلِمُهُ بِمَا سَمِعَ، فَأَمَرَ فِرْعَوْنُ بِذَبْحِ مُوسَى، وَأَرْسَلَ الذَّبَّاحِينَ يَبْحَثُونَ عَنْهُ، وَسَمِعَ رَجُلٌ مِنْ شِيعَةِ مُوسَى بِمَا أَمَرَ بِهِ فِرْعَوْنُ، فَأَسْرَعَ إِلَى مُوسَى يُخْبِرُهُ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ فِرْعَوْنُ، فَهَرَبَ مُوسَى إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ، وَهَذا مِنَ الفُتُونِ أَيْضاً.
وَبَقِيَ مُوسَى عَدداً مِنَ السِّنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ يَرْعَى الغَنَمَ لِصِهْرِهِ، حَتَّى انْقَضَتْ المُدَّةُ التِي اتَّفَقَا عَلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فِي الوَقْتِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ وَأَرَادَتْهُ مَشِيئَتُهُ تَعَالَى، مِنْ غَيْرِ مِيعَادٍ، لِيَجْعَلَهُ رَسُولاً.
مِنْ يَكْفُلُهُ - مَنْ يَضُمُّهُ إِلَيْهِ وَيُرَبِّيهِ.
تَقَرَّ عَيْنُها - تُسَرَّ بِلِقَائِكَ.
فَتَنَّاكَ فُتُوناً - خَلَّصْنَاكَ مِنَ المِحَنِ تَخْلِيصاً.
جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ - عَلَى وَفْقِ الوَقْتِ المُقَدَّرِ لِرِسَالَتِكَ.(1/2389)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
(41) - وَاخْتَرْتُكَ لإِقََامَةِ حُجَّتِي، وَاصْطَفَيْتُكَ بِرِسَالَتِي وَبِكَلاَمِي، فَصِرْتَ أَشْبَهُ بِمَنْ يَرَاهُ المَلِكُ أَهْلاً لِكَرَامَتِهِ، فَيُقَرِّبُهُ وَيَجْعَلُهُ مِنْ خَوَاصِّهِ.(1/2390)
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
{بِآيَاتِي}
(42) - اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ هَارُونَ مُؤَيَّدَيْنِ بِمُعْجِزَاتِي، وَحُجَجِي، وَبَرَاهِينِي الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِكُمَا، إِلَى فِرْعَوْنَ، وَلاَ تَفْتُرا عَنْ ذِكْرِي عِنْدَ لِقَائِكُمَا إِيَّاهُ، لِيَكُونَ ذَلِكَ عَوْناً لَكُمَا، وَقُوَّةً وَسُلْطَاناً كَاسِراً لَهُ، وَلاَ تَتَهَاوَنَا فِي دَعْوَتِهِ وَتَبْلِيغِهِ مَا أَرْسَلْتُكُمَا بِهِ إِلَيْهِ.
لاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي - لاَ تَفْتُرَا عَنْ ذِكْرِي حِينَ تَبْلِيغِ رِسَالَتِي إِلَيْهِ.(1/2391)
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)
(43) - اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَإِنَّهُ عَتَا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، وَتَمَرَّدَ وَتَجَبَّرَ عَلَى اللهِ وَعَصَاهُ.(1/2392)
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
(44) - وَادْعُوَاهُ بِرِفْقٍ وَلِينٍ وَحُسْنَى إِلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَتَرْكِ العُتُوِّ، وَالتَّجَبُّرِ وَالاسْتِعْلاَءِ عَلَى خَلْقِ اللهِ، لَعَلَّ الكَلاَمَ الرَّقِيقَ اللَّيِّنِ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ فَيَرْجِعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الضَّلاَلِ، وَيَتَذَكَّرُ آيَاتِ اللهِ وَيَخْشَى لِقَاءَهُ وَعَذَابَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَرْتَدِعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الغَيِّ وَالضَّلاَلِ.(1/2393)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)
(45) - فَقَالَ هَارُونَ وَمُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ: يَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَبْطِشَ بِنَا فِرْعَوْنُ إِنْ نَحْنُ دَعَوْنَاهُ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ، وَالكَفِّ عَنِ العُتُوِّ وَالطُّغْيَانِ، وَنَخْشَى أَنْ يُعَجِّلَ لَنَا بِالعُقُوبَةِ، أَوْ أَنْ يَعْتَدِي عَلَيْنَا.
يَفْرُطَ عَلَيْنَا - يُعَجِّلَ عَلَيْنَا بِالعُقُوبَةِ.
يَطْغَى - يَدْادُ طُغْيَاناً وَعُتُوّاً.(1/2394)
قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)
(46) - قَالَ اللهُ تَعَالَى: لاَ تَخَافَا فَإِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ كَلاَمَكُمَا وَكَلاَمَهُ، وَأَرَى مَكَانَكُمَا وَمَكَانَهُ، وَلاَ يَخْفَى عَلَيِّ مِنْ أَمْرِكُمْ شَيءٌ، وَاعْلَمَا أَنَّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِي، فَلاَ يَتَكَلَّمُ، وَلاَ يَتَنَفَّسُ، وَلاَ يَبْطِشُ إِلاَّ بِإِذْنِي، وَأَنْتُمَا فِي حِفْظِي وَرِعَايَتِي.
إِنَّنِي مَعَكُمَا - إِنِّي حَافِظُكُمَا وَنَاصِرُكُمَا.(1/2395)
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)
{إِسْرَائِيلَ} {جِئْنَاكَ} {بِآيَةٍ} {والسلام}
(47) - اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَقُولاَ لَهُ: إِنَّنَا رَسُولاَ اللهِ رَبِّكَ، وَرَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، أُرْسِلْنَا إِلَيْكَ لِنَدْعُوَكَ إِلَى عِبَادَتِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَإِلَى الكَفِّ عَنِ البَغْيِ، وَالطُّغْيَانِ، وَالضَّلاَلِ، وَلِنَدْعُوَكَ إِلَى الكَفِّ عَنْ تَعْذِيبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالإِسَاءَةِ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ جِئْنَاكَ بِحُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ مِنَ اللهِ (آيَةٍ) ، عَلَى صِدْقِ قَوْلِنَا إِنَّنَا رَسُولاَنِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ إِلَيْكَ، وَالسَّلاَمَةُ وَالأَمْنُ مِنَ العَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ رُسُلَ رَبِّهِ، وَاهْتَدَى بِهُدَاهُ.(1/2396)
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
(48) - وَلَقَدْ أَخْبَرَنا اللهُ فِيمَا أَوْحَاهُ أَنَّ عَذَابَهُ الأَلِيمُ سَيَنْزِلُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ بِمَنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِهِ وَرُسُلِهِ، وَبِمَا نَدْعُوهُ إِلَيْهِ مِنَ الإِيمَانِ، وَيَتَوَلَّى عَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ وَالاسْتِجَابَةِ إِلَى دَعْوَةِ الحَقِّ وَالهُدَى.(1/2397)
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
(50) - قَالَ مُوسَى: رَبَّنَا هُوَ الَّذِي وَهَبَ الوُجُودَ لِكُلِّ مَوْجُودٍ، فِي الصُّورَةِ الَّتِي أَوْجَدَهُ فِيهَا، وَفَطَرَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ هَدَى كُلَّ شَيءٍ إِلَى وَظِيفَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ لَهَا، وَأَمَدَّهُ بِمَا يُنَاسِبُ هَذِهِ الوَظِيفَةِ، وَبِمَا يُعِينُهُ عَلَيْهَا. فَكُلُّ شَيءٍ مَخْلُوقٌ وَمَعَهُ الاهْتِدَاءُ الطَّبِيعِيُّ الفِطْرِيُّ لِلوَظِيفَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ لَهَا.
أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ - صُورَتَهُ الَّلائِقَةُ بِخَاصَّتِهِ.
هَدَى - أَرْشَدَهُ إِلَى مَا يَصْلُحُ لَهُ.(1/2398)
قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)
(50) - قَالَ مُوسَى: رَبَّنَا هُوَ الَّذِي وَهَبَ الوُجُودَ لِكُلِّ مَوْجُودٍ، فِي الصُّورَةِ الَّتِي أَوْجَدَهُ فِيهَا، وَفَطَرَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ هَدَى كُلَّ شَيءٍ إِلَى وَظِيفَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ لَهَا، وَأَمَدَّهُ بِمَا يُنَاسِبُ هَذِهِ الوَظِيفَةِ، وَبِمَا يُعِينُهُ عَلَيْهَا. فَكُلُّ شَيءٍ مَخْلُوقٌ وَمَعَهُ الاهْتِدَاءُ الطَّبِيعِيُّ الفِطْرِيُّ لِلوَظِيفَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ لَهَا.
أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ - صُورَتَهُ الَّلائِقَةُ بِخَاصَّتِهِ.
هَدَى - أَرْشَدَهُ إِلَى مَا يَصْلُحُ لَهُ.(1/2399)
(51) - قَالَ فِرْعَوْنُ: فَمَا هُوَ حَالُ الأُمَمِ الخَالِيَّةِ (القُرُونِ الأُوْلَى) ، كَعَادٍ وَثَمُودٍ وَقَوْمِ نُوْحٍ. . . أَيْنَ ذَهَبَتْ، وَمَنْ كَانَ رَبُّهَا، وَمَا يَكُونُ شَأْنُهَا، وَقَدْ هَلَكَتْ هَذِهِ الأُمَمُ مِنْ قَبْلُ، وَلَمْ تَعْرِفِ اللهَ، وَقَدْ عَبَدَتْ سِوَاهُ؟
فَمَا بَالُ - فَمَا حَالُ؟
القُرُونِ - الأُمَمِ.(1/2400)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)
{أَزْوَاجاً}
(53) - وَتَابَعَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، قَائِلاً لِفِرْعَوْنَ: إِنَّ رَبَّنَا هُوَ الَّذِي جَعَلَ الأَرْضَ لِلنَّاسِ قَرَاراً يَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهَا، وَيَقُومُونَ وَيَنَامُونَ عَلَيْهَا، وَيُسَافِرُونَ عَلَى ظَهْرِهَا، وَجَعَلَ لَهُمْ فِيهَا طُرُقاً يَمْشُونَ فِيهَا، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَطَراً فَأَخْرَجَ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً مُخْتَلِفاً، وَزُرُوعاً وَثِمَاراً مُخْتَلِفَةً فِي أَصْنَافِهَا وَأَلْوَانِهَا وَطُعُومِهَا.
الأَزْوَاجُ - الأَنْوَاعُ.
مَهْداً - مُمَهَّدَةً كَالفِرَاشِ.(1/2401)
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
{خَلَقْنَاكُمْ}
(55) - مِنَ الأَرْضِ مَبْدَؤُكُمْ، فَأَبُوكُمْ آدَمُ مَخْلُوقٌ مِنْهَا، وَنُطَفُكُمْ تَتَخَلَّقُ مِمَّا تَتَغَذَّوْنَ بِهِ مِمَّا تُخْرِجُهُ الأَرْضُ، وَإِلَيْهَا تَصِيرُونَ إِذَا مِتُّمْ، وَبَلِيَتْ أَجْسَادُكُمْ، وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ يَوْمَ الحَشْرِ مَرَّةً أُخْرَى.(1/2402)
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)
{ياموسى}
(57) - وَلَمَّا رَأَى فِرْعَوْنُ الآيَةَ الكُبْرَى، وَهِيَ تَحَوُّلُ العَصَا إِلَى حَيَّةٍ، وَخُرُوجُ يَدِ مُوسَى بَيْضَاءَ تَتَلأْلأُ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ بِهَا، حِينَمَا نَزَعَهَا مُوسَى مِنْ تَحْتِ إِبْطِهِ، قَالَ لِمُوسَى: هَذَا سِحْرٌ جِئْتَنَا بِهِ مِنَ المَكَانِ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ، بَعْدَ غَيْبَتِكَ الطَّوَيلَةِ، لِتَسْحَرَنَا، وَتَسْتَوْلِي عَلَى عُقُولِ النَّاسِ لِكَيْ يَتْبَعُوكَ، وَتُكَاثِرَنَا بِهِمْ، وَتُسَيْطِرَ عَلَى أَرْضِ مِصْرَ، وَتُخْرِجَ القِبْطَ مِنْهَا. وَغَايَةُ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا القَوْلِ أَنْ يُثِيرَ فِي نُفُوسِ القِبْطِ التَّعَصُّبَ العُنْصُرِيَّ، فَلاَ يَتَّبِعُوا مُوسَى، وَلاَ يَهْتَمُّوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ(1/2403)
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
(59) - فَقَالَ لَهُمْ مُوْسَى: إِنَّ المَوْعِدَ هُوَ يَوْمُ الزِّينَةِ، (وَيَبْدُو أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ عِيدٍ مِنْ أَعْيَادِهِمْ) فَيَكُونُ النَّاسُ مُتَفَرِّغِينَ مِنْ مَشَاغِلِهِمْ، فَيَجْتَمِعُونَ لِيُشَاهِدُو قُدْرَةَ اللهِ وَمُعْجِزَاتِهِ، وَبُطْلاَنِ السِّحْرِ، وَخَيْبَةَ السَّاحِرِينَ. وَاقْتَرَحَ مُوسَى أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ جَمِيعاً، وَأَنْ يَجْتَمِعُوا ضُحَى ذَلِكَ اليَوْمِ، لِيَكُونَ مَا يَقَعُ مِنَ المُبَارَزَةِ بَيْنَ مُوسَى وَالسَّحَرَةِ، أَوْضَحَ لِلنَّاسِ، وَأَظْهَرَ.
يَوْمُ الزِّينَةِ - يَوْمُ عِيدٍ مَشْهُودٌ عِنْدَهُمْ.(1/2404)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
(61) - فِقَالَ مُوسَى لِلسَّحَرَةِ: لاَ تُحَاوِلُوا خِدَاعَ النَّاسِ بِسِحْرِكُمْ، فَتُظْهِرُوا لَهُمْ وَكَأَنَّ أَشْيَاءَ مَوْجُودَةٌ وَهِيَ لَيْسَتْ مَوْجُودَةٌ، فَتَكُونُوا قَدْ كَذَّبْتُمْ عَلَى اللهِ فَيُهْلِكَكُمُ اللهُ (يُسْحِتَكُمْ) بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ، عِقَاباً لَكُمْ عَلَى كَذِبِكُمْ وَافْتِرَائِكُمْ، وَلاَ يَبْقَى لَكُمْ أَثَراً، وَالَّذِي يَفْتَرِي الكَذِبَ عَلَى اللهِ فَاشِلٌ مَغْلُوبٌ لاَ مَحَالَةَ.
وَيْلَكُمْ - دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِالْهَلاَكِ.
فَيُسْحِتَكُمْ - فَيُهْلِكَكُمْ وَيَسْتَأْصِلَكُمْ وَيُبِيدَكُمْ.(1/2405)
قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)
{هذان} {لَسَاحِرَانِ}
(63) - ثُمَّ اسْتَقَرَّ رَأْيُ الأَغْلَبِيَّةِ عَلَى القَوْلِ إِنَّ هذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ سَاحِرَانِ، عَالِمَانِ بِصِنَاعَةِ السِّحْرِ وَفُنُونِهَا، وَهُمَا يُرِيدَانِ أَنْ يَغْلِبَاكُمْ وَقَوْمَكُمْ بِسِحْرِهِمَا، وَيَسْتَوْلِيَا عَلَى النَّاسِ، وَأَنْ تَتْبَعَهُمَا العَامَّةُ، ثُمَّ يُقَاتِلاَنِ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ، وَيَنْتَصِرَانِ عَلَيْهِ وَيُخْرِجَانِكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ، وَيَسْتَأْثِرَانِ بِالسِّحْرِ، وَهُوَ طَرِيقَةُ عَيْشِكُمُ الفُضْلَى (المُثْلَى) ، وَمَوْرِدُ رِزْقِكُمْ، وَمَصْدَرُ جَاهِكُمْ.
بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى - بِسُنَّتِكُمْ وَشَرِيعَتِكُمْ الفُضْلَى.(1/2406)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65)
{ياموسى}
(65) - فَقَالَ السَّحَرَةُ لِمُوسَى إِمَّا أَنْ تَبْدَأَ بِإِظْهَارِ مَا عِنْدَكَ مِنْ فُنُونِ السِّحْرِ، وَتُلْقِيهِ أَمَامَ النَّاسِ وَالمَلِكِ، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ البَادِئِينَ.(1/2407)
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)
(67) - فَشَعَرَ مُوسَى بِشَيءٍ مِنَ الخَوْفِ. وَقَالَ مُفَسِّرُونَ إِنَّهُ إِنَّمَا خَافَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَفْتِنَهُمُ السَّحَرَةُ، وَيَغْتَرُّوا بِهِمْ، قَبْلَ أَنْ يُلْقِي هُوَ عَصَاهُ، وَيُبْطِلَ عَمَلَ السَّحَرَةِ.
أَوْجَسَ - اسْتَشْعَرَ فِي نَفْسِهِ.(1/2408)
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)
{سَاحِرٍ}
(69) - وَأَلْقِ عَصَاكَ فَإِنَّهَا تَتَحَوَّلُ إِلَى ثُعْبَانٍ ضَخْمٍ يَبْتَلِعُ جَمِيعَ مَا أَلْقُوهُ مِنَ الحِبَالِ وَالعِصِيِّ، وَيُبْطِلَ جَمِيعَ مَا صَنَعُوهُ مِنَ السِّحْرِ، لأَنَّ مَا صَنَعُوهُ سِحْرٌ وَتَمْوِيهٌ، لاَ حَقِيقَةَ لَهُ، وَاللهُ لاَ يَهْدِي كَيْدَ السَّاحِرِينَ، وَلاَ مَا يَصْنَعُونَ.
وَقَدْ تَحَوَّلَتِ العَصَا إِلَى ثُعْبَانٍ أَخَذَ يَبْتَلِعُ جَمِيعَ مَا أَلْقَاهُ السَّحَرَةُ حَتَّى لَمْ يَتْرُكَ مِنْهُ شَيْئاً، وَفِرْعَوْنُ وَالسَّحَرَةُ وَالنَّاسُ يَرَوْنَ كَلَّ ذَلِكَ. فَوَقَعَ الحَقُّ، وَزَهَقَ البَّاطِلُ.
تَلْقَفُ - تَبْتَلِعُ وَتَلْتَقِمُ بِسُرْعَةٍ.(1/2409)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
{آمَنَّا} {هَارُونَ}
(70) - وَلَمَّا عَايَنَ السَّحَرَةُ ذَلِكَ وَشَاهَدُوهُ، وَهُمْ أَصْحَابُ الخِبْرَةِ بِفُنُونِ السِّحْرِ، وَطُرُقِهِ، عَلِمُوا عِلْمَ اليَقِينِ أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ وَالحِيَلِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ لاَ مِرْيَةَ فِيهِ، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُ اللهِ وَحْدَهُ، وَحِينَئِذٍ وَقَعُوا سَاجِدِينَ للهِ، وَقَالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ، رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ.(1/2410)
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)
{البينات} {الحياة}
(72) - وَلَمَّا صَالَ عَلَيْهِمْ فِرْعَوْنُ وَتَوَعَّدَهُمْ، هَانَتْ عَلَيْهِمْ نُفُوسُهُمْ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالُوا لَهُ: لَنْ نَخْتَارَكَ عَلَى رَبِّنَا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَخَالِقُنَا وَخَالِقُ كُلِّ شَيءٍ مِنْ عَدَمٍ، فَهُوَ المُسْتَحِقُّ وَحْدَهُ العِبَادَةَ لاَ أَنْتَ، فَافْعَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَفْعَلَ شَيْئاً إِلاَّ فِي هَذِهِ الدَّارُ الدُّنْيَا، وَهِيَ دَارٌ زَائِلَةٌ فَانِيَةٌ، وَنَحْنُ قَدْ رَغْبِنَا فِي دَارِ القَرَارِ، الدَّارِ الأخِرَةِ.
الَّذِي فَطَرَنَا - الَّذِي أَبَدَعَنَا وَأَوْجَدَنَا وَهُوَ اللهُ تَعَالَى.(1/2411)
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)
(74) - وَتَابَعَ السَّحَرَةُ وَعْظَهُمْ لِفِرْعَوْنَ وَهُمْ يُحَذِّرُونَهُ مِنْ نَقْمَةِ اللهِ، وَعَذَابِهِ الدَّائِمِ، وَيُرَغِّبُونَهُ فِي ثَوَابِهِ الأَبَدِيِّ المُخَلَّدِ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِي رَبَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَعَدَّ لَهُ نَارُ جَهَنَّمَ جَزَاءً لَهُ، وَكَانَ مُخَلَّداً فِيهَا، وَلاَ يَمُوتُ فِيهَا مِيتَةً مُرِيحَةً فَيَرْتَاحُ "، وَلاَ يَحْيَا حَيَاةً مُمْتِعَةً يُسَرُّ بِهَا.(1/2412)
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
{جَنَّاتُ} {الأنهار} {خَالِدِينَ}
(76) - وَهَذِهِ الدَّرَجَاتُ العُلاَ، هِيَ جَنَّاتُ إِقَامَةٍ (عَدْنٍ) ، تَنْسَابُ فِيهَا الأَنْهَارُ، وَيَبْقَوْنَ فِيهَا مَاكِثِينَ أَبَداً، وَهَذا جَزَاءُ مَنْ طَهَّرَ نَفْسَهُ مِنَ الدَّنَسِ وَالخُبْثِ وَالشِّرْكِ، وَعَبَدَ اللهَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَاتَّبَعَ المُرْسَلِينَ فِيمَا جَاؤُوا بِهِ.
تَزَكَّى - تَطَهَّرَ مِنْ دَنَسِ الشِّرْكِ.(1/2413)
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)
(78) - وَتَبِعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ، وَسَارُوا حَيْثُ سَارَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَيْنَ فِرْقَتَيِ البَحْرِ، فَأَطْبَقَ عَلَيْهِمُ المَاءُ، وَغَشِيَهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِأَهْوَالِهِ، فَأَهْلَكَهُمْ جَمِيعاً.
غَشِيَهُمْ مَا غَشِيَهُمْ - أَحَاطَ بِهِمْ مَا لاَ سَبِيلَ إِلَى إِدْرَاكِ كُنْهِهِ.(1/2414)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)
{يابني إِسْرَائِيلَ} {أَنجَيْنَاكُمْ} {وَوَاعَدْنَاكُمْ}
(80) - يُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ إِذَا أَنْجَاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ فِرْعَوْنَ، وَأَقَرَّ عُيُونَهُمْ بِإِهْلاَكِهِ، وَإِهْلاَكِ جُنُودِهِ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَوَاعَدَ مُوسَى لِيَأْتِيَ إِلَى جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً صَامَهَا، لِيَتَهَيَأَ لِلِقَاءِ رَبِّهِ، لِيَسْمَعَ مَا سَيُوحِيهِ رَبُّهُ إِلَيْهِ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ أُمُورِ العَقِيدَةِ وَالشَّرِيعَةِ، وَأَرْسَلَ المَنَّ وَالسَّلْوَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِيَأْكُلُوا مِنْهُمَا فِي صَحْرَاءِ سِينَاءَ.
المَنَّ - مَادَّةً صَمْغِيَّةً حُلْوَةً كَالعَسَلِ.
السَّلْوَى - طَيْرُ السُّمَانَي - أَوْ طَيْرٌ يُشْبِهُ طَائِرَ السُّمَانَي.(1/2415)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
{وَآمَنَ} {صَالِحَاً}
(82) - وَكُلُّ مَنْ تَابَ إِلَى اللهِ، وَرَجَعَ عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالمَعْصِيَّةِ وَالنِّفَاقِ. . . وَآمَنَ بِقَلْبِهِ، وَعَمِلَ صَالِحاً بِجَوَارِحِهِ، وَاسْتَقَامَ عَلَى السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَلَمْ يُشَكِّكَ، فَإِنَّ اللهَ يَغْفِرُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَيَتُوبُ عَلَيْهِ.(1/2416)
قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)
(84) - فَأَجَابَ مُوسَى رَبَّهُ مُعْتَذِراً: هُمْ آتُونَ خَلْفِي، وَعَلَى أَثَرِي، وَمَا تَقَدَّمْتُهُمْ إِلاَّ بِخُطُوَاتٍ قَلِيلَةٍ، وَعَجَّلْتُ إِلَيْكَ رَبِّي لِتَزْدَادَ عَنِّي رِضاً، وَقَدْ ظَنَنْتُ أَنَّ تَقَدُّمِي عَلَيْهِمْ لَيْسَ فِيهِ مَا يُؤْخَذُ عَلَيَّ.(1/2417)
فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
{غَضْبَانَ} {ياقوم}
(86) - وَبَعْدَ أَنْ أَخَبَرَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى، بِمَا أَحْدَثَهُ قَوْمُهُ بَعْدَ أَنْ تَرَكَهُمْ وَهُوَ مُتَوَّجِهٌ إِلَى مِيقَاتِ رَبِّهِ، غَضِبَ غَضَباً شَدِيداً وَعَادَ إِلَى قَوْمِهِ، وَهُوَ مَغِيظٌ مُحْنَقٌ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدُكُمْ رَبُّكُمْ عَلَى لِسَانِي بِكُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيا، وَبِحُسْنِ العَاقِبَةِ فِي الآخِرَةِ، وَقَدْ شَاهَدْتُمْ نَصْرَهُ إِيَّاكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ، وَإِظْهَارِكُمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَطُلِ العَهْدُ عَلَيْكُمْ حَتَّى تَنْسُوا وَعَدْ اللهِ لَكُمْ، بَلْ أَرَدْتُمْ بِسُوءِ صَنِيعِكُمْ هَذَا أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَخْلَفْتُمْ مَا عَاهَدْتُمُونِي عَلَيْهِ مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى الإِيمَانِ.
أَسِفاً - حَزِيناً أَوْ شَدِيدَ الغَضَبِ.
مَوْعِدِي - وَعْدَكُمْ لِي بِالثَّبَاتِ عَلَى دِينِي.(1/2418)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)
(88) - وَقَدْ صَنَعَ السَّامِرِيُّ لَهُمْ مِنْ هَذِهِ الحِلِيِّ تِمْثَالاً عَلَى هَيْئَةِ عِجْلٍ مُجَسَّدٍ، وَكَانَ إَذَا هَبَّتِ الرِّيْحُ، وَدَخَلَتْ فِي جَوْفِهِ أَحْدَثَتْ صَوْتاً يُشْبِهُ خُوَارَ العِجْلِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ، فَكَانَ الضَّالُّونَ يَسْجُدُونَ لَهُ إِذَا خَارَ، وَيَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ إِذَا خَارَ. وَأَحَبَّهُ الضَّالُّونَ وَافْتُتِنُوا بِهِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ هَذَا العِجْلَ هُوَ إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسَى، وَقَدْ نَسِيَ مُوسَى قَبْلَ ذَهَابِهِ إِلَى مَوْعِدِهِ مَعَ رَبِّهِ أَنْ يَذْكُرَ لَكُمْ أَنَّ هَذَا العِجْلَ هُوَ إِلهُهُ (وَقَالَ مُفَسِّرُونَ آخَرُونَ إِنَّ المَعْنَى هُوَ: إِنَّ مُوسَى ذَهَبَ يَطْلُبُ رَبَّهُ فَوْقَ الجَبَلِ، وَنَسِيَ أَنَّ رَبَّهُ حَاضِرٌ هُنَا) .
عِجْلاً جَسَداً - مُجَسَّداً أَيْ أَحْمَرُ مِنْ ذَهَبٍ.
لَهُ خُوَارٌ - لَهُ صَوْتٌ كَصَوْتِ البَقَرِ.(1/2419)
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)
{هَارُونُ} {ياقوم}
(90) - وَقَدْ نَهَاهُمْ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ مُوسَى، عَنْ عِبَادَةِ العِجْلِ، وَأَخَبْرَهُمْ أَنَّ العِجْلَ فِتْنَةٌ وَاخْتِبَارٌ لَهُمْ مِنَ اللهِ، وَأَنَّ اللهَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمِ هُوَ رَبُّهُمْ، فَهُوَ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ وَقَدَّرَهُ. ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى إِطَاعَةِ أَمْرِهِ، وَالانْتِهَاءِ عَنْ عِبَادَةِ العِجْلِ.(1/2420)
قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92)
{يَا هَارُونُ}
(92) - وَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً، وَأَلْقَى مَا كَانَ فِي يَدَيْهِ مِنَ الأَلْوَاحِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَيْهِ رَبُّهُ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخْيهِ يَجُرُّه إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: مَا الَّذِي مَنَعَكَ مِنْ أَنْ تَكُفَّهُمْ عَنْ هَذِهِ الضَّلاَلَةِ، حِينَمَا رَأَيْتَهُمْ وَقَعُوا فِيهَا؟
مَا مَنَعَكَ - مَا حَمَلَكَ.(1/2421)
قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
{يَبْنَؤُمَّ} {إِسْرَآئِيلَ}
(94) - فَقَالَ هَارُونُ مُعْتَذِراً وَمُتَرَفِّقاً: يَا أَخِي، وَيَا ابْنَ أُمِّي لاَ تُعَاجِلُنِي بِغَضَبِكَ، وَلاَ تَمْسِكْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي، إِنِّي خَشِيتُ إِنِ اتَّبَعْتُكَ وَأَخْبَرْتُكَ بِهَذا أَنْ تَقُولَ: لِمَ تَرَكْتَهُمْ وَحْدَهُمْ، كَمَا خَشِيتُ إِنْ شَدَّدْتُ عَلَيْهِمْ فَتَفَرَّقُوا شِيَعاً، أَنْ تَقُولَ لِي لِمَ فَرَّقْتَ بَيْنَ القَوْمِ، وَلَمْ تَتَقَيَّدُ بِمَا أَمَرْتُكَ بِهِ حِينَ اسْتَخْلَفْتُكَ عَلَيْهِمْ؟(1/2422)
قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
(96) - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ السَّامِرِيَّ كَانَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ بَاجِرِ وَكَانَ قَوْمُهُ يَعْبُدُونَ البَقَرَ، وَكَانَ حُبُّ البَقَرِ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ لِمُوسَى: إِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ جَاءَ لِهَلاَكِ فِرْعَوْنَ، فَقَبَضَ بِكَفِّهِ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ مِنْ تَحْتِ حَافِرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ، ثُمَّ أَلْقَى مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ تُرَابٍ فَوْقَ الحِلِيَِّ الَّتِي أُضْرِمَتْ فِيهَا النَّارُ مِنْ قِبَلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ أَنْ قَذَفُوهَا فِي الحُفْرَةِ، ثُمَّ دَعَا أَنْ يَكُونَ عِجْلاً فَكَانَ. وَهَكَذا حَسَّنَتْ لَهُ نَفْسُهُ هَذَا العَمَلِ (وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) .
(وَقَالَ مُفَسِّرُونَ آخَرُونَ إِنَّ المَعْنَى هُوَ أَنَّ السَّامِرِيُّ قَالَ لِمُوسَى: إِنَّهُ كَانَ آمَنَ بِهِ رَسُولاً، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ، وَتَبِعَ دِينَهُ، ثُمَّ اسْتَبَانَ أَنَّ ذَلِكَ ضَلاَلٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ، فَطَرِحَهُ وَرَاءَهُ ظِهْرِيّاً، وَسَارَ عَلَى نَهْجِ الَّذِي رَأَى، وَلَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى فِعْلَ مَا فَعَلَ إِلاَّ هَوَى النَّفْسِ) .
بَصُرْتُ - عَلِمْتُ بِالبَصِيرَةِ.
فَنَبَذْتُهَا - فَأَلْقَيْتُهَا فِي الحِلِيِّ الذَّائِبِ.
سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي - زَيَّنَتْ وَحَسَّنَتْ.(1/2423)
إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
(98) - وَبَعْدَ أَنْ أَحْرَقَ مُوسَى العِجْلَ، وَذَرَاهُ فِي البَحْرِ، قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ هَذا العِجْلَ لَيْسَ إِلَهُكُمْ وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ إِلهُكُمْ وَهُوَ الَّذِي لاَ تَنْبَغِي العِبَادَةُ إَِلاَّ لَهُ، فَهُوَ اللهُ تَعَالَى، وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَمُحِيطٌ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَقَدْ أَحَصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً، فَلاَ يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ.(1/2424)
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100)
{القيامة}
(100) - مَنْ كَذَّبَ بِهِ وَأَعْرَضَ عَنِ اتِّبَاعِهِ، وَابْتَغَى الهُدَى مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يُضِلُّهُ، وَيَأْتِي بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُوَ يَحْمِلُ حِمْلاً ثَقِيلاً (وِزْراً) ، مِنَ الكُفْرِ، وَظُلْمِ النَّفْسِ، وَالذُّنُوبِ، فَيَهْوِي فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ.
وِزْراً - عُقُوبَةً ثَقِيلَةً عَلَى إِعْرَاضِهِ.(1/2425)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)
{يَوْمِئِذٍ}
(102) - حِينَ يَحِينُ قِيَامُ السَّاعَةِ، يَقُومُ المَلَكُ المُكَلَّفُ بِالنَّفْخِ فِي الصُّوْرِ، بِالنَّفْخِ فِيهِ، فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ مَرَّةً أُخْرَى، فَيَحْشُرُ اللهُ النِسَاءَ جَمِيعاً، وَيَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ سِرَاعاً يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ، وَيَكُونُ المُجْرِمُونَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ زُرْقَ الوُجُوهِ، مِنْ شِدَّةِ مَا يَرَوْنَهُ مِنَ الأَهْوَالِ وَالشَّدَائِدِ.
(وَقِيلَ بَلْ يُحْشَرُونَ زُرْقَ العُيُونِ مِنَ الهَوْلِ وَالفَزَعِ) .
وَالصُّورُ - قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ فَيُحْدِثُ صَوْتاً.
وَالنَّفْخَةِ الأُوْلَى فِي الصُّورِ - إِيذَانٌ بِإِهْلاَكِ الخَلاَئِقِ جَمِيعاً إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ.
- وَالنَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ إِيذَانٌ بِالبَعْثِ وَالنُّشُورِ.
زُرْقاً - زُرْقَ العُيُونِ أَوْ زُرْقَ الوُجُوهِ مِنَ الهَوْلِ، أَوْ عُمْياً.(1/2426)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
(104) - وَيَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَتَحَدَّثُونَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ حَوْلَ مُدِّةِ لَبْثِهِمْ فِي الدُّنْيا، فَالعَاقِلُ الكَامِلُ بَيْنَهُم (أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) يَقُولُ: إِنَّكُمْ لَمْ تَلْبَثُوا إِلَى يَوْماً وَاحِداً - وَذَلِكَ لِقِصَرِ مُدَّةِ الدُّنْيَا فِي أَنْفُسِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ - وَغَايَتِهِمْ مِنَ التَّذَرُّعِ بِهَذا القَوْلِ هِيَ دَرْءُ قِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ الدُّنْيَا كَانَتْ مُدَّتُهَا قَصِيرَةٌ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ وَقْتٌ لِلتَّفْكِيرِ فِي أَمْرِهِمْ، وَالإِيمَانِ بِرَبِّهِمْ.
أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً - أَعْدَلُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ رَأْياًَ.(1/2427)
فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106)
(106) - فَيَذَرُهَا بِسَاطاً وَاحِداً مُسْتَوِياً.
القَاعُ - المُسْتَوِي مِنَ الأَرْضِ.
الصَّفْصَفُ - تَعْبِيرٌ عَنِ اسْتِوَاءِ الأَرْضِ، أَوْ هُوَ الأَرْضُ التِي لاَ نَبَاتَ فِيهَا.(1/2428)
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
{يَوْمَئِذٍ}
(108) - وَيَوْمَ يَرَوْنَ كُلَّ ذلِكَ يَتْبَعُونَ الدَّاعِيَ مُسَارِعِينَ إِلَيْهِ حَيْثُمَا أَمَرَهُمْ، وَلاَ يَمِيلُونَ عَنْهُ، وَتَسْكُنُ الأَصْوَاتُ خُشُوعاً للهِ، فَلاَ يُسْمَعُ لِهَذِهِ الخَلاَئِقُ صَوْتٌ مُرْتَفِعٌ، وَلاَ يُسْمَعُ غَيْرَ وَطْءِ أَقْدَامِهِمْ وَهُمْ مُسْرِعُونَ وَرَاءَ الدَّاعِي إِلَى المَحْشَرِ، وَيَتَكَلَّمُونَ هَمْساً فِي إِسْرَارٍ وَصَوْتٍ خَفِيٍّ.
لاَ عِوَجَ لَهُ - لاَ يَعْوَجُّ لَهُ مَدْعُوٌ، وَلاَ يَزِيغُ عَنْهُ.
هَمْساً - صَوْتاً خَفِيّاً خَافِتاً.(1/2429)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)
(110) - وَاللهُ تَعَالَى يُحِيطُ عِلْماً بِالْخَلاَئِقِ كُلِّهِمْ، وَيَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِي العِبَادِ مِنْ شُؤُونِ الدُّنْيا، وَمَا خَلْفَهُمْ مِنْ شُؤُونِ الآخِرَةِ، وَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً مِنْ تَدْبِيرِهِ وَحِكْمَتِهِ.(1/2430)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
{الصالحات}
(112) - أَمَّا الَّذِي آمَنَ بِاللهِ، وَبِكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ جَمِيعاً، وَعَمِلَ الأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ، عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، فَلاَ يَخَافُ مِنْ أَنْ يَحْمِلَ اللهُ عَلَيْهِ ذَنْبَ غَيْرِهِ، وَلاَ يَخَافُ مِنْ أَنْ يَنْقُصَهُ شَيْئاً مِنْ حَسَنَاتِهِ.
الظُّلْمُ - حَمْلُ ذَنْبٍ عَلَى امْرِىءٍ وَهُوَ لَمْ يَرْتَكِبْهُ.
الهَضْمُ - النَّقْصُ وَغَمْطُ المَرْءِ شَيْئاً مِنْ حَقِّهِ.(1/2431)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
{فتعالى} {بالقرآن}
(114) - تَنَزَّهَ اللهُ المَلِكُ الحَقُّ، وَتَقَدَّسَ سُبْحَانَهُ، فَوَعْدُهُ حَقٌّ، وَوَعِيدُهُ حَقٌّ. وَمِنْ عَدْلِهِ تَعَالَى أَنَّهُ لاَ يُعَذِّبُ أَحَداً قَبْلَ الإِنْذَارِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، لِكَيْلاَ يَبْقَى لأَحَدٍ حُجٌَّ وَلاَ شُبْهَةٌ.
وَكَانَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم - كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - يُعَانِي مِنَ الوَّحِي شِدَّةً، فَكَانَ يُحَرِّكُ لِسَانَهُ بِهِ، وَيُكَرِّرُ مَا تَلاَهُ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، مِنْ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى حِفْظِ مَا يُوحَي إِلَيْهِ، فَأَرْشَدَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى مَا هُوَ أَسْهَلُ وَأَخَفُّ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: فَإِذَا قَرَأَ عَلَيْكَ المَلَكُ القُرْآنَ فَأَنْصِتْ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ فَاقْرَأْهُ بَعْدَهُ، وَقُلْ: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً.
(وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَزِدْنِي عِلْماً وَالحَمْدُ للهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ") . (أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ) .
قَبْلِ إَن يُقْضَى - قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ وَيَتِمَّ.(1/2432)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116)
{لِلْمَلاَئِكَةِ}
(116) - واذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ مَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ الحِينِ مِنَّا وَمِنْ آدَمَ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَكَ كَيْفَ نَسِيَ وَفَقَدَ العَزِيمَةَ، وَضَعُفَ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَباً لإِخْرَاجِهِ مِنَ الجَنَّةِ.
لَقَدْ فَضَّلَ اللهُ آدَمَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَمَرَ المَلاَئِكَةَ بِأَنْ يَسْجُدُوا لَهُ، فَسَجَدُوا جَمِيعَهُمْ إِلاَّ إِبْلِيسَ فَإِنَّهُ امْتَنَعَ وَاسْتَكْبَرَ (أَبَى) .(1/2433)
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)
(118) فَإِنَّكَ هُنَا فِي عَيْشٍ بِلاَ كُلْفَةٍ، وَلاَ مَشَقَّةٍ، وَقَدْ ضَمِنَّا لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِي هَذِهِ الجَنِّةِ، وَلاَ تَعْرَى، فَلاَ تَشْعُرَ بِذُلِّ الجُوْعِ وَلاَ بِذُلِّ العُرْيِ مِنَ الثِّيَابِ.(1/2434)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)
{الشيطان} {ياآدم}
(120) - فَجَاءَهُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ نَاصِحٍ مُشْفِقٍ، وَحَاوَلَ إِغْرَاءَهُ وَإِضْلاَلَهُ لِيُخَالِفَ مَا عَهِدَ إِلَيْهِ رَبُّهُ، وَقَالَ لَهُ إِنَّ الشَّجَرَةَ الَّتِي نَهَاكُمَا اللهُ عَنِ الأَكْلِ مِنْهَا هِيَ شَجَرَةُ الخُلُودِ، مَنْ أَكَلَ مِنْهَا أَصْبَحَ مِنَ الخَالِدِينَ، وَأَصْبَحَ ذَا سُلْطَانٍ، وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى وَلاَ يَنْتَهِي، فَضَعُفَ آدَمُ وَزَوْجُهُ تِجَاهَ هَذا الإِغْرَاءِ بِالمُلْكِ، وَالعُمْرِ المَدِيدِ، وَنَسِيَا مَا عَهَدَ اللهُ بِهِ إِلَيْهِمَا، فَأَكَلاَ مِنَ الشَّجَرَةِ.
لاَّ يَبْلَى - لاَ يَزُولُ وَلاَ يَفْنَى.(1/2435)
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
{اجتباه}
(122) - ثُمَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَتَابَ عَلَيْهِ، وَهَدَاهُ وَاصْطَفَاهُ وَاجْتَبَاهُ بَعْدَ أَنْ أَلْهَمَهُ اللهُ عِبَارَاتِ اسْتِغْفَارٍ، وَاعْتِذَارٍ قَالَهَا فَعَفَا اللهُ عَنْهُ، وَغَفَرَ لَهُ.
اجْتَبَاهُ - اصْطَفَاهُ لِلنُّبُوَّةِ وَقَرَّبَهُ.(1/2436)
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)
{القيامة}
(124) - وَمَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَكَفَرَ بِمَا أَنْزَلْتُ عَلَى رُسُلِي، وَأَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي وَتَنَاسَاهُ فَسَتَكُونُ مَعِيشَتُهُ فِي الدُّنْيَا ضَنْكاً لاَ طُمَأنِينَةَ لَهُ فِيهَا، وَلاَ يَنْشَرِحُ فِيهَا صَدْرُهُ، بَلْ يَبْقَى صَدْرُهُ ضَيِّقاً حَرِجاً، بِسَبَبِ ضَلاَلِهِ. وَمَا لَمْ يَخْلُصِ الهُدَى وَاليَقِينُ إِلَى قَلْبِهِ، فَإِنَّهُ سَيَبْقَى فِي قَلَقٍ وَحِيرَةٍ وَشَكٍّ، وَيَحْشُرُهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى البَصَرِ وَالبَصِيرَةِ، قَدْ عَمِيَ عَلَيْهِ كُلُّ شَيءٍ إِلاَّ جَهَنَّمَ، لأَنَّ الجَهَالَةَ التِي كَانَ فِيهَا فِي الدُّنْيا تَبْقَى مُلاَزِمَةً لَهُ فِي الآخِرَةِ.
مَعِيشَةً ضَنْكاً - ضَيِّقَةً شَدِيدَةً.(1/2437)
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)
{آيَاتُنَا}
(126) - فَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا المُتَسَائِلِ مُبَيِّناً: لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَيْكَ رُسُلَنَا بِآيَاتِنَا فَأَعْرَضْتَ عَنْهَا، وَتَنَاسَيْتَهَا، فَكَذَلِكَ نُعَامِلُكَ اليَوْمَ مُعَامَلَةَ المَنْسِيِّ، فَتُتْرَكَ فِي النَّارِ.(1/2438)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)
{مَسَاكِنِهِمْ} {لآيَاتٍ}
(128) - مَا لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ لاَ يَهْتَدُونَ، وَلاَ يَتَّعِظُونَ، مَعَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الأُمَمِ التِي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ قَبْلَهُمْ، فَبَادُوا وَلَيْسَ لَهُمْ مِنْ بَاقِيَّةٍ، وَلاَ عَيْنٍ وَلاَ أَثَرٍ، كَمَا يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ مِنْ دِيَارِهِمُ الخَالِيَةِ، الَّتِي خَلَفُوهُمْ فِيهَا، وَهُمُ الآنَ يَمْشُونَ فِيهَا أَفَلَمْ يُرْشِدْهُمْ (يَهْدِ لَهُمْ) مَا فَعَلْنَاهُ بِالأُمَمِ الخَالِيَةِ مِنَ الإِهْلاَكِ وَالإِبَادَةِ، وَيَحْمِلْهُمْ عَلَى الاعْتِبَارِ وَالاتِّعَاظِ؟ إِنَّ فِي ذَلِكَ بَرَاهِينَ وَحُجَجاً وَدَلاَلاَتٍ لأَصْحَابِ العُقُولِ السَّلِيمَةِ المُدْرِكَةِ.
أَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ - أَلَمْ يُرْشِدْهُمْ، وَيُوَضِّحُ لَهُمْ.
كَمْ أَهْلَكْنَا - كَثِيراً مَا أَهْلَكْنَا مِنَ الأُمَمِ المَاضِيَّةِ(1/2439)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
{آنَآءِ} {الليل}
(130) - يُسَلِّي اللهُ تَعَالَى رَسُولَه صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ لَهُ: اصْبِرْ عَلَى تَكْذِيبِ هَؤَلاَء ِالمُكَذِّبِينَ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بَعْدَ صَلاَةِ الفِجْرِ، وَبَعْدَ صَلاَةِ العَصْرِ (قَبْلَ غُرُوبِهَا) ، وَفِي فَتَرَاتِ اللَّيْلِ، فَالتَّسْبِيحُ اتِّصَالٌ بِاللهِ تَعَالَى، وَالنَّفْسُ الَّتِي تَتَّصِلُ بِاللهِ تَطْمَئِنُّ وَتَرْضَى. فَالرِّضَا ثَمَرَةُ التَّسْبِيحِ وَالعِبَادَةِ، وَهُوَ وَحْدَهُ جَزَاءٌ حَاضِرٌ يَنْبُعُ مِنْ دَاخِلِ النَّفْسِ.
آنَاءِ اللَّيْلِ - سَاعَاتِ اللَّيْلِ.(1/2440)
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
{بالصلاة} {نَسْأَلُكَ} {العاقبة}
(132) - وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِإِقَامَةِ الصَّلاَةِ فِي أَوْقَاتِهَا، لِتُنْقِذَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَاصْبِرْ أَنْتَ عَلَيْهَا وَأَدِّهَا كَامِلَةً حَقَّ أَدَائِهَا، فَالوَعْظُ بِالفِعْلِ أَشَدُّ أَثَراً مِنْهُ بِالقَوْلِ. وَإِذَا أَقَمْتَ الصَّلاَةَ أَتَاكَ الرِّزْقُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَحْتَسِبْ، وَلَمْ تُكَلَّفُ أَنْتَ رِزْقَ نَفْسِكَ. وَكَانَ الأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ أَمْرٌ فَزِعُوا إِلَى الصَّلاَةِ. وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ: " يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمَلأْ صَدْرَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ. وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَلأْتُ صَدْرَكَ شُغْلاً، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .
وِإْنَّ حُسْنَ العَاقِبَةِ - وَهِيَ هُنَا الجَنَّةُ - سَتَكُونُ جَزَاءً لِمَنِ اتَّقَى رَبَّهُ وَأَطَاعَهُ.(1/2441)
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)
{أَهْلَكْنَاهُمْ} {آيَاتِكَ}
(134) - وَلَوْ أَنَّنَا أَهْلَكْنَا هَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ قَبْلَ أَنْ نُرْسِلَ إِلَيْهِمْ هَذَا الرَّسُولِ الكَرِيمِ، وَقَبْلَ أَنْ نُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ هَذا القُرْآنِ العَظِيمِ، لَقَالُوا: هَلاَّ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا يَا رَبِّ رَسُولاً قَبْلَ أَنْ تُهْلِكَنَا حَتَّى نُؤْمِنَ بِهِ وَنَتْبَعَهُ، قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ بِنَا العَذَابُ وَالدَّمَارُ، وَقَبْلَ أَنْ يَلْحَقَ بِنَا الذُّلُّ وَالخِزْيُ، وَلَكِنَّ هَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ مُتَعَنِّتُونَ مُعَانِدُونَ، لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَهُمُ الرَّسُولُ بِكُلِّ آيَةٍ.
مِنْ قَبْلِهِ - مِنْ قَبْلِ الإِثْبَاتِ بِالبَيِّنَةِ.
نُخْزَى - نَفْتَضِحَ فِي الآخِرَةِ بِالعَذَابِ.(1/2442)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
(1) - يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ إِلى اقْتِرَابِ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَدُنُوِّ مَوْعِدِهَا.
ومَتَى قَامَتِ السَّاعةُ حَشَرَ اللهُ الخلائِقَ إِليهِ لِحَاسِبُهم عَلًَى مَا عَمِلُوهُ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، ولِيْجزِيَ كُلَّ وَاحِدٍ بِما عَمِلَ. وَلكنَّ النَاسَ غَافِلونَ عَنْ أمْرِ السَّاعَةِ وأَمْرِ الحِسَابِ، وإِذا نُبِّهُوا مِنْ غَفْلَتِهِمْ بِمَا يُتْلَى عَلَيْهِم مِن الآيَاتِ والنُُّّذرِ أَعْرَضُوا واسْتَكْبَرُوا، ورَفَضُوا الاسْتِماعَ إِلى مَا يُقَالُ لَهُمْ.
اقْتَرَبَ - قَرُبَ وَدَنا.(1/2443)
لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
(3) - ويَسْتَمِعُونَ إِلى آيَاتِ اللهِ المنزَّلةِ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَقُلُوبُهُمْ لاهِيَةٌ مُسْتَهزِئةٌ، وقد أَخَذُوا يَتَناجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَيَتَحَدَّثُ بَعْضُهم إِلى بَعْضٍ سِرّاً، فَقَالَ الكُفَّارُ (الذينَ ظَلَمُوا) : هلِ الرَّسُولُ إِلاَّ بَشَرٌ يَأْكُلُ كَمَا يَأْكلُ الناسُ، ويشْرَبُ كَمَا يَشْرَبُونَ، فَكَيفَ اخْتَصَّهُ اللهُ بِالوحْيِ منْ دُونِهِمِ؟ (وهْمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ اسْتِبْعَاداً لأَنْ يَكُونَ نَبْياً حقّاً لأَنَّهُ مِنَ البَشَرِ) . وإِنَّ مَا جَاءَهُم بِهِ مُحَمَّدٌ إِنْ هُوَ إِلاَّ سِحْرلإ، لا حَقِيقةَ لَخُ، فَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَتَّبِعُونَه، وَيَسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَتِهِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ .(1/2444)
بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
{أَضْغَاثُ} {أَحْلاَمٍ} {افتراه} {بِآيَةٍ}
(5) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ تَعَنُّتِ الكُفَّارِ، وإلْحَادِهِمْ، واختِلاَفِهِمْ فِيمَا يَصِفُونَ بِهِ القُرْآنَ، وحَيرَتِهِمْ وَضَلاَلِهِمْ عَنْهُ، فَتَارَةً يَجْعَلُونَهُُ سِحْراً، وتَارَةً يَجْعَلُونَه أَضْغَاثَ أَحْلاَمٍ، أَيْ أَحْلاَماً مُخْتَلَطَةً يَرَاهَا مُحَمَّدٌ وَيَرْوِيهَا، وتَارَةً يَجْعَلُونَه مُفْتَرَى، اخْتَلَقَهُ مُحَمَّدٌ وَنَسَبَهُ إِلى اللهِ تَعَالَى، وَتَارَةً يَقُولُونَ إِنَّهُ شِعْرٌ. . . ثُمَّ يُحَاوِلُونَ التَخَلُّصَ مِنْ هَذَا الحَرَجِ بِأَنْ يَطْلُبُوا بَدَلَ هَذَا القُرْآنِ خَارِقَةً مِنَ الخَوَارِقِ التِي جَاءَ بِها الأَنْبِياءُ الأَوَّلُونَ: كَنَاقَةِ صَالِحٍ، وَمُعْجِزَاتِ مُوسَى وَعِيسَى، التِي تُثْبِتُ نُبُوَّةَ الأَنْبِيَاءِ، وَلاَ تَتْرُكُ مَجَالاً لأَحَدٍ لِيُنَازِعَ فِيها، وكَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ الرَسُولَ إِذَا جَاءَهُم بِمُعْجِزَةٍ خَارِقَةٍ آمَنُوا بِهِ.
أَضْغَاثُ أَحْلاَمِ - تَخَالِيطُ أَحْلاَمٍ رآهَا فِي نَوْمِهِ.(1/2445)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)
{فاسئلوا}
(7) - وَيَرُدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ أَنْكَرَ بِعْثَةَ الرُّسُلِ مِنَ البَشَرِ قَائِلاً : إِنَّ جَمِيعَ الذِينَ أُرْسلُوا قَبَلَكَ يَا مُحَمَّدٌ كَانُوا مِنَ البَشَرِ، ولَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ من المَلائِكَةِ، فَاسْأَلُوا أَهْلَ العِلْمِ (الذِّكْر) مِنَ الأُمَمِ المُتَقدِّمَةِ (اليهُودِ والنَّصَارَى) هَلْ كَانَ الرَّسُلُ الذِينَ جَاؤُوهُمْ مِنَ البَشَرِ أَمْ مِنَ المَلائكةِ؟(1/2446)
ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
{صَدَقْنَاهُمُ} {فَأَنجَيْنَاهُمْ}
(9) - وَقَدْ وَعَدَ اللهُ رُسَُلَهُ، فِيمَا أَوْحَاهُ إلَيْهِم، أَنَّهُ سَيُهْلِكَ الظَّالمِيِنَ المُكَذِّبِينَ (المُسْرِفِينَ) ، وأَنَّهُ سَيُنْجِي رُسُلَهُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُمْ، فَصَدَقَهُمُ اللهُ وَعْدَهُ، وأَنْجَاهُمْ والذِينَ آمَنُوا مَعَهُم، وأَهْلَكَ المُسْرِفِينَ المُتَجَاوِزِينَ الحَدَّ فِي تَكْذِيبِهِمْ، وَدَمَّرَ عَلَيْهِم.(1/2447)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)
{آخَرِينَ}
(11) - لَقَدْ أهْلَكْنَا قُرىً وأُمَماً كَثِيرَةً كَانَتْ ظَالِمةً بِكُفْرِها وَفَسَادِها، وَتَكْذِيبِهَا الرُّسُلَ، وأَنْشَأنَا بَعْدَهُم أَقْوَاماً آخَرِينَ، خَلَفُوهُم فِي الأرْضِ.
كَمْ قَصَمْنَا - كَثيرا ً ما أَهْلَكْنَا.(1/2448)
لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)
{وَمَسَاكِنِكُمْ} {تُسْأَلُونَ}
(13) - وَيَتَهَكَّمُ اللهُ تَعَالَى عَلَيهِم لِفِرارِهِمْ هَرَباً مِنَ العَذَابِ، ويَأْمُرُ بِأَنْ يُنَادَى عَلَيْهِمْ: ارْجِعُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ والسُّرُورِ، والعَيْشِ الرَّغِيدِ، والمَسَاكِنِ الطَّيِّبَةِ، لِتُسْأَلُوا عَمَّا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، وَهَلْ أدَّيْتُمُ الشُّكْرَ عَلَيْهِ للهِ تَعَالَى.
أُترِفْتٌُمْ فِيهِ - نُعِّمْتُمْ فِيهِ وَبَطِرتُمْ.(1/2449)
فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
{جَعَلْنَاهُمْ} {خَامِدِينَ}
(15) - وَمَا زَالُوا يُرَدِّدُونَ تِلْكَ المَقَالَةَ، وَهِيَ الاعْتِرَافُ بالظُّلْمِ والكُفْرِ، حَتَّى حَصَدَهُمُ اللهُ حَصْداً، وأَهْلَكَهُم وأَخْمَدَا أنْفَاسَهُم، فَلَمْ يَعُدْ يُسْمَعُ لَهُم حِسٌ.
حَصِيداً - كالنَّبَاتِ المَحْصُودِ بِالمَنَاجِلِ.
خَامِدِينِ - مَيِّتِينَ كَالنَّارِ التِي سَكَنَ لَهِيبُهَا.(1/2450)
لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
{لاَّتَّخَذْنَاهُ} {فَاعِلِينَ}
(17) - إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ وَلاَ الجنَّةَ والنَّارَ. . لِلَّهْوِ والتَّسْلِيَةِ والعَبَثِ، وإِنَّما خًَلَقَهَا لِحِكْمَةٍ قَدَّرَها، وَصَوَّرَ المَخْلُوقَاتِ لِغَايَةٍ رَمَى إِلَيْهَا، وَجَعَلَ لَهُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والعُقُولَ لِمَنَافِعَ اعْتَبَرَها، وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كُلَّه لِلَّهْوِ وَالعَبَثِ، وَمِنْ ثَمَّ فإِنَّهُ لَنْ يَتْرُكَهُمْ سُدًى بَلْ إِنَّهُ سَيُحَاسِبُهُمْ وَيُؤَاخِذُهُمْ عَلَى مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِم فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا.
وَيُنَزِّهُ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ الكَرِيمَةَ عَنِ اللَّهُوِ والعَبَثِ والبَاطِلِ، وَعَنِ الصَاحِبَةِ وَالْوَلَدِ، أَي وَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ.
(ولوْ حَرْفُ امْتِنَاعٍ لامْتِنَاعٍ، تُفِيدُ امْتِنَاعَ وُقُوعِ فِعْلِ الْجَوابِ لامِتْنَاعِ وُقُوعِ فِعْلِ الشَّرْطِ. فَالله سُبحَانَه لَمْ يُرِدْ أَنْ يَتَّخِذَ لَهْواً فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَهْوٌ لاَ مِنْ لَدُنْهُ، وَلاَ مِنْ شَيء خارِِجٍ عَنْهُ) .
(وقَالَ مُجَاهِدٌ كُلُّ شيءٍ فِي القُرْآنِ (إنْ) فَهُوَ إنْكَارٌ أَي مَا كُنَّا فَاعِلِينَ) نَتَّخِذَ لَهْواً - مَا يُتَلَهَّى بِهِ مِنْ صَاحِبَةٍ أَوْ وَلَدٍ.(1/2451)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)
{السماوات}
(19) - وللهِ جَمِيعُ المَخْلوقاتِ فِي السِّمَاوَاتِ والأرْضِ، خَلْقاً وَمُلْكاًَ وتَدْبِيراً وَتَصَرُّفاً، وإحياءً وحِسَاباً. . . دُونَ أَنْ يَكُونَ لأحَدٍ في ذَلِكَ شَيءٌ مِنْ سُلْطَانٍ.
ثَمَّ يَقُولُ تَعَالى: إِنَّ الملاَئِكَةَ، الذينَ شَرُفَتْ مَنْزِلُتُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم، لاَ يَسْتَعْظِمُونَ عِبَادَتَهُ، ولاَ يَكِلُّونَ عَنْهَا، وَلاَ يَتْعَبُونَ، وَلاَ يَتَوقَّفًونَ.
لاَ يَسْتَحْسِرُونَ - لا يَكِلُّونَ ولا يَعْيَوْنَ.
والحُسُورَ - تَوَقُّفُ الدَّابَةِ عَنِ السِيْرِ كَلاَلاً وَتَعَباً.(1/2452)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
{آلِهَةً}
(21) - يُنكِرُ اللهُ تَعَالى عَلَى الكَافِرِينَ عِبَادَتَهُم آلهةً مِن دُونِ اللهِ، فقالَ تَعَالى: إِنَّ هَذِه الآلِهَةَ التي جَعَلَهَا الظَّالِمُونَ آلهَةً مِن دُونِ اللهِ، فقالَ تَعَالى: إِنَّ هَذِه الآلِهَةَ التي جَعَلَهَا الظَّالِمُونَ آلهَةً وأَنْدَاداً للهِ، لا يَسْتَطِيعونَ شَيْئاً مِنْ خَلْق وَنَشْرٍ وَحَشْرٍ، ورِزْقٍ للعبادِ، فَكَيْفَ جَعَلُوها أنْدَاداً للهِ وأمْثَالاً، وَعَبَدُوها مَعَهُ، وهُوَ وَحْدَهُ الَخالِقُ الرازِقُ المُهَيْمِنُ؟
يُنْشِرُون - يُحْيونَ المَوْتَىويًخْرِجُونَهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ.(1/2453)
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
{يُسْأَلُ} {يُسْأَلُونَْ}
(23) - وَهُوَ الخَالِقُ البَارئُ، وهُوَ الحَاكِمُ المُطْلَقُ المُتَصَرِّفُ بالكَوْنِ كُلِّهِ، ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلاَ يَعْتَرِضُ عَلِيهِ أَحَدٌ لِعَظَمَتِهِ وَجَلاَلِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَهُوَ الذي يَسْأَلُ خَلْقَهُ عَمَّا يَفْعَلونَ.(1/2454)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
(25) - فالتَّوْحِيدُ قَاعِدَةُ العَقِيدَةِ مُنْذُ أَنْ بَعَثَ اللهُ الرُّسُلَ إلى النَّاسِ، لا تَبْدِيلَ فيها، وَلاَ تَحْوِيلَ، فَلاَ انْفِصَالَ بينَ الأُلُوهِيَّةِ والرُّبُوبِيَّةِ، ولا مَجَالَ للشِّرِكِ في الأُلُوهِيَّةِ ولا في العِبَادَةِ. وكُلُ نًَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ كانَ يَدْعُو إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، والفِطْرَةُ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ، والمُشْرِكُونَ لَهم بُرْهَانَ لَهُمْ عَلَى مَا يَدَّعُونَ.(1/2455)
لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)
(27) - لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَ بِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ تَأَدُّباً وَطَاعَةً، وَلاَ يُخَالِفُونَه فِيما أَمَرَهُمْ، بِهِ، بَلْ يُبَادِرُونَ إِلى فِعْلِه دُونَ تَرَدُّدٍ.(1/2456)
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
{الظالمين}
(29) - والمَلاَئِكَةُ الأَطْهَارُ يَعْرِفُونَ حُدُودَهُمْ، فَلاَ يَدَّعُونَ الأُلُوهِيَّةَ، وإذا ادَّعى أَحَدٌ مِنْهُمْ الأُلُوهِيَّة مَعَ اللهِ، كَانَ جَزَاءُهُ الخُلودَ فِي جَهَنَّمَ، وَجَهَنَّمُ جَزاءُ الظَّالِمِينَ، الذين يَدَّعُونَ هَذه الدَّعْوى الظَّالِمَةَ.(1/2457)
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)
{رَوَاسِيَ}
(31) - وَمِنْ دَلاَئِلِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ فِي الأَرْضِ جِبَالاً أَرْسَاهَا بِهَا، وَثَقَّلَها لِكَيْلاَ تَمِيدَ بِالنَّاسِ، وَتَضْطَرِبِ، فَلاَ يَبْقَى لَهُمْ عَلَيْهَا قَرَارٌ، وأَنَّه جَعَلَ فِي الجِبَالِ ثَغَراتٍ وَفَجَواتٍ (فِجَاجاً) لِيَسْلُكَ النَّاسُ فِيهَا طُرُقاً فِي انْتِقَالِهِمْ مِنْ قُطْرٍ إِلى قُطْرٍ، وَلِيَهْتَدُوا بِهَا فِي أَسْفَارِهِم.
رَوَاسِيَ - جِبَالاً ثَوَابِتَ.
أَنْ تَمِيدَ بِهِم - لِكَيْلاَ تَضْطَرِبَ بِمَنْ عَلَيْهَا فَلاَ تَسْتَقِرَّ.
فِجَاجَاً سُبُلاً - طُرُقاً وَاسِعَةً مَسْلُوكَةً.(1/2458)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
{الليل}
(33) - واللهُ تَعَالَى هُوَ الذي خَلَقَ اللَّيْلَ بِظَلاَمِهِ وَسُكُونِهِ، والنَّهَارَ بِضِيَائِهِ وأُنْسِهِ، يَطُولُ هَذَا ثُمَّ يَقْصُرُ، وَيَتَنَاوَبَانِ ذَلِكَ، وَخَلَق الشَّمْسَ والقَمَرَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ مسَارٌ، وَفَلَكٌ يَخْتَصُّ بِهِ، وَيَسْبَحُ فِيهِ وَيَتَحَرَّكُ، وتَدُورُ الكَوَاكِبُ فِي مَدَارَاتِها كَمَا يَدُورُ المِغْزَلُ فِي الفُلْكَةِ.
كُلٌّ فِي فَلَكٍ - أي الشَّمْسُ والقَمَرُ.
يَسْبحُونَ - يَجْرُون في السَّمَاءِ.(1/2459)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
{ذَآئِقَةُ}
(35) - كُلُّ النَّاسِ سَيَمُوتُونَ لاَ مَحَالَةَ، وَلَنْ يَخْلُدَ أَحَدٌ مِنَ الخَلْقٍ. وَيَخْتَبِرُ اللهُ النَّاسَ بِالمَصَائِبِ تَارَةً، وبِالنِّعمِ تَارَةً أُخْرَى، فَيَنْظُرُ مَنْ يَشْكُرُ مِنْهُم وَمَنْ يَكْفُرُ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلى اللهِ فَيُجَازِيهِم عَلَى أعْمَالِهِمْ.
نَبْلُوكُمْ - نَخْتَبِرُكُمْ مَعَ عِلْمِنَا بِحَالِكُمْ.(1/2460)
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
{الإنسان} {سَأُوْرِيكُمْ} {آيَاتِي}
(37) - لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى المُسْتَهْزِئِينَ بالرًّسُولِ عَلَيْهِ السَلاَمُ، وَقَعَ فِي بَعْضِ النُفُوسِ سُرْعَةُ الانْتِقَامِ مِنَ المُسْتَهْزِئِينَ، وَاسْتَعْجَلَتْ ذَلِكَ. واللهُ تَعَالَى يُمْلِي للظَّالِمِينَ، وَيُمْهِلُهُمْ وَيَمُدُّ لَهُمْ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُمْ لَمْ يُفْلِتْهُمْ، إِنَّهُ تَعَالَى يُؤَجِّلُ ثُمَّ يُعَجِّلُ، وَيُنْظِرُ ثُمَّ لا يُؤَخِّرُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سُأُرِيكُمْ نِقَمِي وَحِكَمِي وقُدْرَتِي عَلَى مَنْ عَصَانِي (آياتي) ، فَلاَ تَسْتَعْجِلُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ.(1/2461)
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)
(39) - لَوْ يَعْلَمُ هَؤُلاَء الكُفَّارُ المُسْتَعْجِلُونَ بِالعَذَابِ مَاذَا أَعَدَّ لَهُمْ رَبُّهُم مِنْ أَلِيم العَذَابِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ حَالُهُمْ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ لَمَا قَالُوا هَذَا القَوْلَ، وَلَمَا أَقَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَلَمَا اسْتَعْجَلُوا لأَنْفُسِهِم النّكَالَ والوَبَالَ، فَنَارُ جَهَنَّمَ سَتُحِيطُ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، تَلْفَحُ وُجُوهَهُم، وَتَكْوِي ظُهُورَهُمْ، فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا، وَلاَ دَفْعَها عَنْ أَنْفُسِهِم، وَلاَ يَجِِدُون نَاصِراً لَهُمْ يَنْصُرُهُم مِن عَذَابِ اللهِ.
لاَ يَكُفُّونَ - لاَ يَمْنَعُونَ وَلاَ يَدْفَعُونَ.(1/2462)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
{يَسْتَهْزِئُونَ}
(41) - وَيَقُولَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مُسَلِّياً عَمَّا يُلاَقِيهِ مِنَ المُشْرِكِينَ مِنَ الاسْتِهْزَاءِ وَالتَّكْذِيبِ: لَقَدْ اسْتَهزَأَتِ الأُمَمُ السَّابِقَةُ بالرُّسُلِ الذِينَ جَاؤُوهُم، فَنَزَلَ بِالذِّينَ سَخِرُوا مِنْهُمُ العَذَابُ الذِي كَانُوا يَسْتَبْعِدُون وُقُوعَهُ، وَلَنْ يَكُونَ حَالُ المُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ بِأَفْضَلَ مِنْ حَالِ الكُفَّارِ السَّابِقِينَ، الذِينَ كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنَ الرُّسُلِ حِينَما كَانُوا يُحَذِّرُونَهُمْ سَوءَ العَذَابِ.
حَاقَ - أَحَاطَ وَنَزَلَ.(1/2463)
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
{آلِهَةٌ}
(43) - وَيُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِم إِعْرَاضَهُمْ عَنْ ذِكْرِ آيَاتِهِ، وَيَقُولُ لَهُمْ مَقُرِّعاً وَمُوبِّخاً: ألَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ وَتَكْلَؤهُمْ غَيْرُ اللهِ؟ فِي الحَقِيقَةِ إِنَّ الأَمْرَ لَيْسَ كَمَا تَوَهَّمُوا، وَلاَ كَمَا زَعَمُوا، فَالآلِهَةُ التِي اسْتَنَدُوا إِلَيْهَا غَيْرُ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفِسِهِم مِنَ اللهِ، وَلاَ دَفْعَ مَا يَنْزِلُ مِنَ البَلاَءِ، وَلاَ يَجِدُونَ مَنْ يَنْصُرُهُمْ أَوْ يُجِيرُهُمْ مِنَ اللهِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ غَيْرِهِم.
يُصْحَبُونَ - يُجَارُونَ وَيُنْصَرُونَ.(1/2464)
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)
(45) - وَقُلْ لَهُم يَا مُحَمَّدُ: إِنَّمَا أَنَا مُبَلِّغٌ عَنِ اللهِ تَعَالَى مَا أَنْذَرْتُكُمْ بِهِ مِن العَذَابِ والنَّكَالِ، وإِنَّ ذَلِكَ مِمّا أَوْحَاهُ اللهُ إِليَّ، وَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَلَكِنَّ الإِنْذَارَ لأمثَالِ هَؤُلاَءِ لاَ يَنْفَعُ، فَحَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ أَعْمَى اللهُ بَصِيرَتَهُ، وَخَتَمَ عَلَى قَلْبِهِ وَسَمْعِهِ.(1/2465)
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
{الموازين} {القيامة} {حَاسِبِينَ}
(47) - وَيَضَعُ اللهُ تَعَالَى المَوَازِينَ العَادِلَةَ، يَوْمَ القِيَامَةِ، لِوَزْنِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَإِنَّهَا تُوزَنُ لًَهُ أَو عَلَيْهِ. وَكَفَى باللهِ حَاسِباً لِأَعْمَالِ الخَلاَئِقِ، فلا يُغَادِرُ مِنْهَا صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا.
القِسْطَ - العَدْلَ أَوْ ذواتَ العَدْلِ.
مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ - وَهِيَ أَقَلُّ شَيءٍ وَزْناً.(1/2466)
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)
(49) وَهَوُلاءِ المُتَّقُونَ، الذِينَ تَعِظُهُمْ كُتُبُ اللهِ، وَتُذَكِّرُهُمْ، وَتُنِيرُ قُلُوبَهُمْ، هُمُ الذينَ تَسْتَشْعِرُ قُلُوبُهُم خَشْيَةَ اللهِ، وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُم وَهُمْ لَمْ يَرُوْهُ، وَهُمْ يَخَافُونَ قِيامَ السَّاعَةِ، وَيُشْفِقُونَ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القِيَامَةِ، فَعْمَلُون لِذَلِكَ اليَوْمِ وَيَسْتَعِدُّونَ.
مُشْفِقُونَ - خَائِفُونَ حَذِرُونَ.(1/2467)
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)
{آتَيْنَآ} {إِبْرَاهِيمَ} {عَالِمِينَ}
(51) - وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ مَا فِيهِ صَلاَحُهُ وَهُدَاهُ مِنْ قَبْلِ هَارُونَ وَمُوسَى، وَوَفَّقْنَاهُ لِلْحَقِّ، وَأَضَأْنَا لَهُ سَبِيلَ الرَّشَادِ، وَكُنَّا عَالِمِينَ بِأَنَّهُ ذُو يَقِينٍ وَإِيْمَانٍ باللهِ وَتَوْحِيدٍ لَهُ، وأَنَّهُ أَهْلٌ لِحَمْلِ الرِّسَالَةِ.
(وقِيلَ بَلِ المَعْنَى هُو: وَفَّقْنَاهُ إِلَى هُدَاهُ مِنْ قَبْلِ النُّبُوَّةِ والْبُلُوغِ، وَوَفَّقْنَاهُ للنَّظَرِ والاسْتِدْلاَلِ، لَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، فَرَأَى النَّجْمَ والْقَمَرَ ثُمَّ رَأَى الشَّمْسَ) .(1/2468)
قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)
{آبَآءَنَا} {عَابِدِينَ}
(53) - فَلَمْ يَجِدُوا مَا يَرُدُّونَ بِهِ عَلَى سُؤَالِهِ لَهُمْ إِلاَّ قَوْلَهُمْ لَهُ: إِنَّهُمْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ يَعْبُدُونَها، فَهُمْ يَقْتَفُونَ آثَارَهُمْ فِي عِبَادَتِها.(1/2469)
قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)
{اللاعبين}
(55) - فَقَالُوا لَهُ، وَهُمْ يَسْتَبْعِدُونَ أَنْ يَكُونُوا عَلَى ضَلاَلٍ: إِنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا بِمِثْلِ هَذَا الكَلاَمِ مِنْ قَبْلُ. وَسَأَلُوهُ إِنْ كَانَ جَادّاً فِي قَوْلِهِ هَذَا أَوْ هَازِلاً؟(1/2470)
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
{أَصْنَامَكُمْ}
(57) ثُمَّ أَقْسَمَ إِبْرَاهِيمُ فِي نَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ سَيَكِيدُ لأَصْنَامِ قَوِمِهِ، وَسَيُحَرِّضُ عَلَى تَحْطِيمِهَا بَعْدَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ إِلى الاحْتِفَالاَتِ بِعِيدِهِمْ، لِيُظْهِرَ لَهُمْ ضَلاَلَ مَا هُمْ عَلَيْهِ فِي عِبَادَتِها.
(وَيُرَوَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ دَعَاهُ أَبُوهُ إِلى الخُرُوجِ مَعَهُمْ لِيَرى الاحْتِفَالَ بِعِيد قَوْمِهِ، وَقَالَ لَهُ إِنّهُ لَوْ رَأى هَذَا الاحْتِفَالَ لأَعْجَبَهُ دِينُهُمْ. فَخَرَجَ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَرِيق أَلْقَى بِنَفْسِهِ عَلَى الأًَرْضِ، وَقَالَ لأبِيهِ إِنَّهُ سَقِيمٌ، فَلَمَّا أَقْسَمَ عَلَى أَنَّهُ سَيَكِيدُ لِأَصْنَامِ قَوْمِهِ سَمِعَهُ بَعْضُ مَنْ تأَخَرَّ عَنْ الذَّهابِ مِنْ قَوْمِهِ إِلى الاحْتِفَالِ) .(1/2471)
قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)
{بِآلِهَتِنَآ} {الظالمين}
(59) - وَحِينَما رَجَعَ القَوْمُ مِن الاحْتِفَالِ، وشَاهَدُوا الأَصْنَامَ مُحَطَّمَةً قَالُوا مُتَسَائِلِينَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتنَا وَحَطَّمَهَا؟ إِنَّهُ بِلا شَكٍ ظَالِمٌ فِي صَنِيعِهِ.(1/2472)
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
(61) - فَقَالُوا: ائْتُوا بِهِ أمامَ الجَمْعِ المُحْتَشِدِ لِيُسْأَلَ عَنْ فِعْلَتِهِ أَمَامَ الأَشْهَادِ، لِتَكُونَ شَهَادَتُهُمْ حُجَّةً عَلَيْهِ.
عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ - ظَاهِراً بِمَرْأى مِنَ النَّاسِ.(1/2473)
قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
{فَاسْأَلُوهُمْ}
(63) - قَالَ لَهُمْ إِبْرِاهِيمُ مُتَهَكِّماً: إِنَّ الذي حَطَّمَ الأصنامَ هُوَ الصَّنَمُ الأكبرُ، وَطَلَبَ إِلَيْهِم أَنْ يَسْأَلُوا هَذِهِ الأَصْنَامَ الآلِهَةَ لِتَدُلَّهم عَلَى مَنْ فَعَلَ هَذَا بِهَا وَحَطَّمَهَا، هَذَا إِنْ كَانَ لَهُمْ لِسَانٌ يَنْطِقُ.
(وَكَانَتْ غايَةُ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَعْتَرِفَ النَّاسُ أَمَامَ الحَفْلِ العَظِيمِ أَنَّ الأصنَامَ حِجَارَةٌ لاَ تَنْطِقُ، وَأَنَّهَا لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَمْنَعَ مَنِ اعْتَدَى عَلَيْهَا مِنَ القِيَامِ بِفعْلَتِهِ) .(1/2474)
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)
(65) - فَأَدْرَكَتِ القومَ حَيْرَةٌ مِنْ مَقَالَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَنَكَّسُوا رُؤوسَهُم إِلَى الأرضٍِِ، ثُمَّ قَالُوا لإِبْراهِيمَ: إِنَّكَ تَعْلَمُ أنَّهُم حِِجَارَةٌ لاَ تَنْطِقُ، فَكَيْفَ نَسْأَلُهُمْ؟
نُكِسُوا عَلَى رٌؤوسِهِم - رَجَعُوا إِلَى البَاطِلِ والعِنَادِ.(1/2475)
أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
(67) - أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَتُدْرِكُونَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الكُفْرِ والضَّلاَلِ الذِي لاَ يَرُوجُ إِلاَّ عَلَى جَاهِلٍ لاَ عَقْلَ لَهُ؟ فَتَبّاً لَكُمْ وَلِمَعْبُودَاتِكُم التِي اتَّخَذْتُموهَا مِنْ دُونِ اللهِ، وبِذَلِكَ أَقَامَ الحُجَّةَ عَلَيْهِم، وَهِيَ الحُجَّةُ التِي أشارَ إِلَيْهَا تَعَالَى فِي آيةٍ أُخرى {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ} أُفٍّ - كِلمَةُ تَضَجُّرٍ وَتَبَرُّمٍ.(1/2476)
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
{يانار} {وسلاما} {اإِبْرَاهِيمَ}
(69) - فَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى النَّارَ بِأَلاَّ تُحْرقَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلامُ، وبِأَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ بَرْداً وَسَلاماً فَكَانَتْ. وَنَجَّى اللهُ إِبْرَاهِيمَ مِن المَصِيرِ الذِي أَرَادَهُ لَهُ الظَّالِمُونَ.(1/2477)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
{وَنَجَّيْنَاهُ} {بَارَكْنَا} {لِلْعَالَمِينَ}
(71) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ نَجَّى إِبْرَاهِيمَ مِنْ نَارِ قَوْمِهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ مُهَاجِراً إِلى الأرْضِ المُقَدَّسَةِ، التِي بَارَكَ اللهُ فِيهَا، وَخَرَجَ مَعَهُ مُهَاجِراً ابنُ أخِيهِ لُوطٌ عَلَيْهِمَا السَّلامُ.
(الأَرْضُ المُبَارَكَةُ المقْصُودَةُ هُنَا هِيَ أرضُ الشَّامِ أوْ فِلَسْطِينُ. وفلسطينُ جَزْءٌ مِنَ أرضِ الشَّامِ)(1/2478)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
{وَجَعَلْنَاهُمْ} {أَئِمَّةً} {الخيرات} {الصلاة} {الزكاة} {عَابِدِينَ}
(73) - وَجَعَلَهُمَ اللهُ أَئِمَّةً بِهِمُ النَّاسُ، وَيَدْعُونَ إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ (يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) ، وَأَلْهَمَهُم اللهُ فِعْلَ الأَعْمَالِ الخَيِّرَةِ، وإِقَامَةَ الصَّلاَةِ، وتَأْدِيَةَ الزَّكَاةِ؛ وكَانُوا يَعْبُدُونَ اللهَ، وَيَقُومُونَ بِمَا يَأْمُرُونَ بِهِ النَّاسَ، وَلاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ طَاعَتِهِ (وَكَانُوا لَنَا عَابِدِين) .(1/2479)
وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
{وَأَدْخَلْنَاهُ} {الصالحين}
(75) - وَجَعَلَ اللهُ لُوطاً فِي جُمْلَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّونَ رَحْمَتَهُ وَلُطْفَهُ فَنَجَّاهُ مِنْ القَوْم الفَاسِقِينَ. وَوَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ كَانَ مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ الذِين سَبَقَتْ لَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الحُسْنَى.(1/2480)
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
{وَنَصَرْنَاهُ} {بِآيَاتِنَا} {فَأَغْرَقْنَاهُمْ}
(77) - وَنَصَرَهُ اللهُ عَلَى قَوْمِهِ الذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِم فَأَغْرَقَهُم اللهُ جَمِيعاً بالطُّوفَانِ، لأَنَّهُم كَانُوا قَوْماً يُسِيئُونَ الأَعْمَالَ فَيَعْصُونَ اللهِ، وَيُخَالِفُونَ أوَامِرَهُ، وَيُكَذِّبُونَ رَسُولَهُ وَيُؤْذُونَهُ.(1/2481)
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
{فَفَهَّمْنَاهَا} {سُلَيْمَانَ} {آتَيْنَا} {دَاوُودَ} {فَاعِلِينَ}
(79) - ولًَقَدْ أَوحَى اللهُ تعالى إلى سليمان بالقَوْل الفَصْلِ في هذا النِّزَاعِ، ويقولُ تَعالى إنَّه آتَى كُلاًّ مِنْ دَاوُجَ وسُلَيْمَانَ وعِلْماً، وإنَّه سَخَّرَ الجبالَ والطَّيرَ يُسَبِّحْنَ مَعَ دَاودَ، وذَلِكَ لِطيبِ صَوْتِهِ بتِلاوةِ الزَّبُورِ، فكَانَ إذا تَرَنَّمَ بِه رَدَّدَتْ تَسْبِيحَهُ الجِبَالُ والطَّيرُ تَأويباً، وكانَ الله فاعِلاً ذلكَ بِقُدْرَتِه التي لا يُعْجِزُها شيءٌ.(1/2482)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)
{وَلِسُلَيْمَانَ} {بَارَكْنَا} {عَالِمِينَ}
(81) - وسَخَّرَ اللهُ تَعالى الرِّيحَ تَجْري بأَمْرِ سُلَيمَان حَيثُ يَشَاءُ عَاصِفَةً تَارَةً، ورُخَاءً لَيِّنةً تَارَةً أُخْرى. وهُنا يَقُولُ تعالى إنَّها تَجْرِي إلى الأرضِ المُقَدَّسَةِ التي بَارَكَ اللهُ فيها. ثمَّ يَقُولُ تعالى إنَّه عَالِمٌ بِكُلِّ شيءٍ، فَقَدْ آتَى سُليمانَ مَا آتاهُ لِما يَعْلَمُهُ في ذلكَ مِنَ المصْلَحَةِ والحِكْمَةِ.
عَاصِفَةً - شَدِيدَةَ الهُبُوبِ.(1/2483)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)
{الراحمين}
(83) - يذْكُرُ اللهُ تَعالى مَا أَصابَ عَبْدَهُ أَيُّوبَ عَليْه السلامُ، مِنَ البَلاءِ في مَالِهِ وولَدِهِ وجَسَدِهِ، ولِبثَ فِي ذلِكَ البلاءِ مُدَّةً طَويلةً فَنادَى رَبَّه: يَا رَبِّ لَقَدْ مَسَّنِي الضُّرُّ فَارْحَمْنِي، وأفِضْ عَليَّ مِنْ جُودِكَ وَرَحْمَتِكَ مَا يُسْعِفُنِي، ويَدْفَعُ الضُّرُّ عَنِّي، وأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.(1/2484)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
{وَإِسْمَاعِيلَ} {الصابرين}
(85) - وإِنَّ إسْمَاعيلَ وإدريسَ وذا الكفْلِ، كلَّهُم مِنَ الرُّسُل الكِرَامِ، الذين صَبَروا على ما ابْتَلاهُمْ بِهِ اللهُ، وأَخْبتُوا لِرَبِّهم، فَنَالُوا رِضَاهُ.
ذُو الكِفْلِ - نَبِيٌّ وقِيلَ إنَّهُ إلياسُ عليهِ السلامُ.(1/2485)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
{مُغَاضِباً} {الظلمات} {سُبْحَانَكَ} {الظالمين}
(87) - يَذْكُرُ اللهُ تَعالى قِصَّةَ يونُسَ عليهِ السلامُ (وهوَ ذو النُّونِ أيْ صاحبُ الحُوت) ، وكانَ اللهُ قَدْ بَعَثَهُ نَبِياً إلى أَهْل نينَوَى فَدَعَاهُمْ إلى عِبَادةِ اللهِ وَحدَهُ فَأَبَوْا، وَتَمَادَوْا في كُفْرِهم، فَخَرَجَ يُونُسُ مِنْ بَيْنِهِم مُغَاضِباً لَهُمْ، وأَتْذَرَهُمْ بأنَّ العَذَابَ وَاقِعٌُ بِهِمْ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّام، فَلما تَحَقَّقُوا مِنْ ذَلِكَ، وَعِلمُوا أنَّ النبيَّ لا يَكْذِبُ، خًَرَجُوا مِنَ البلدِ بأطْفَالِهم وأنْعامِهم ومَوَاشِيهِم، ثُمَّ تَضَرَّعُوا إلى اللهِ تَعَالى، وَجأَرُوا إليهِ بالدُّعَاءِ، فَرَفَعَ اللهُ عَنْهُمْ العَذابَ، وصَرَفَهُ عَنْهُم، كَمَا جَاءَ في آيةٍ أُخْرى.
أمَّا يونسُ فإنَّه تَرَكَ قَوْمَه مُغَاضِباً لَهُم، وذَهَبَ فَرَكِبَ في سَفِينَةٍ فَاضْطَرَبَتْ وَخافَ مَنْ فِيها مِنْ غَرَقِها، فاقْتَرعُوا على رَجُل يُلقُونهُ مِنْ بينِهم في الماءِ يَتَخفَّفُونَ مِنهُ، فوقَعَتِ القُرْعَةُ على يُونُسَ، فَأَبَوْا أنْ يُلْقُوهُ، ثُمَّ أعادُوا القُرْعَةَ فَوَقَعَتْ علَيْهِ، فَأَبَوْا، ثمَّ أعَادُوا للمرةِ الثّالثةِ فَوَقَعَتْ عليه، فَتَجَرَّدَ يُونُسُ مِنْ ثِيَابِهِ، وأَلْقَى بِنَفْسِهِ في المَاءِ، فالْتَقَمَهُ الحُوتُ، ولِذَلِكَ سُمِّيَ بصَاحِبِ الحُوتِ (ذُو النُّونِ) .
وكانَ يُونسُ يَظُنُّ أنَّ الله لَنْ يُضَيِّقَ عليْهِ في بَطْنِ الحُوتِ، (أو أنهُ تَعالى لنْ يَقْدِرَ عليه أَنْ يَكُونَ فِي بَطْن الحُوتِ) فَكَانَ في بَطْنِ الحوتِ في ظُلْمَةٍ، وفي أعْمَاقِ البَحْرِ في ظُلمَةٍ، وفي ظَلاَمِ الليلِ في ظُلْمَةٍ، ولذلك قَالَ تَعالى: {فنادى فِي الظلمات} ودَعاَ رَبَّهُ قائلاً: لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَك إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.
ذُو النُّونِ - هُوَ نَبِيُّ اللهِ يُونُسُ عَليهِ السَّلاَمُ، والنُّونُ هُوَ الحُوتُ.
مُغَاضِباً - غَضْبَانَ عَلى قَوْمِهِ لِكُفْرِهِمْ.
لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ - لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ بِحُبْسٍ أَوْ نَحْوِهِ.(1/2486)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)
{الوارثين}
(89) - يُخْبِرُ اللهُ تعالى عَنْ زَكَريَّا عَليهِ السَّلامُ حينما تَقَدَّمَتْ بِهِ السِّنُ، وطَلبَ مِنَ اللهِ أَنْ يَهَبَهُ وَلَداً يَرثُ النُبُوَّةَ من بَعْدِهِ، فَنَادَى رَبَّه نِدَاءً خَفِيّاً عَنْ قَوْمِهِ، وقَالَ: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً بِلا وَلَدٍ، وَلاَ وَارِثٍ، يَقُومُ بَعْدِي في النَّاسِ، وأَنْتَ يَا رَبِّ خَيْرُ مَنْ وَرِثَ العِبَادَ (وفي هذا الدُّعَاءِ إشَارَةٌ إِلى قِيَامِ السَّاعةِ، وهَلاَكِ البشَرِ جَمِيعاً، وَبَقَاءِ اللهِ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ.(1/2487)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
{وَجَعَلْنَاهَا} {آيَةً} {لِّلْعَالَمِينَ}
(91) - يَذْكُرُ تعالى قِصَّةَ مَرْيَمَ عَليها السَّلامُ، ويَصِفًها بِالعِفَّةِ والطَّهَارَةِ وإحْصَانِ النَّفْسِ، فَنَفَخَ اللهُ فِيه مِنْ رُوحِهِ، فَحَمَلَتْ بابْنِها عِيسَى، وقد جَعَلَها الله وابْنَها عِيسَى عَليهما السَّلامُ، دَلالةً مِنَ اللهِ عَلى أنَّهُ وَاحِدٌ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وأَنَّه يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وأنَّ أَمْرَهُ يَصْدُرُ مَرَّةً واحِدَةً، لا يَتَكَرَّرُ فَيَكُونُ ما أَرَادَ في لَمْحَةِ بَصَرٍ.
أَحْصَنَتْ فَرْجَها - حَفِظَتْهُ.
مِنْ رَوحِنَا - مِنْ جِهَةِ رُوحِنَا! والرُّوحُ جِبْرِيلُ عليهِ السَّلامُ.(1/2488)
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)
{رَاجِعُونَ}
(93) - ثُمَّ اخْتَلَفَتِ الأُمَمُ عَلى رُسُلِها، فَصَارُوا فِرَقاً كَثِيرَةً فَمِنْ بَينِ مُكَذِّبٍ وَمُصَدٍّقٍ لَهُمْ. وَيَوْمَ الْقَيَامَةِ يَرْجِعُونَ إلى اللهِ تَعَالَى جَمِيعاً، فَيُجَازِي كُلاً بِحَسَبِ عَمَلِهِ في الدُّنْيَا.
(وقَالَ مُفَسِّرُونَ: إِنَّ الذينَ تَفَرَّقُوا شِيَعاً واخْتَلَفُوا هُمُ المُسْلِمُونَ، فَقَدْ تَفَرَّقُوا فِرَقاً كَثِيرَةً، كُلُّ فِرْقَةٍ تَنْعِى عَلَى ما سِوَاها، وقَدْ كَانَ لَهُمْ مِنْ عِبَر الماضِي مَا يَمْنَعُهُم مِنَ الوُقُوعِ فِي مِثْلِ هَذا التَّفَرُّقِ) .
تَقَطَّعُوا أمْرَهُم - تَفَرَّقُوا في دِينِهِم فِرَقاً وأَحْزَاباً.(1/2489)
وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)
{وَحَرَامٌ} {أَهْلَكْنَاهَآ}
(95) - وَقَدْ قَضَى اللهُ وَقَدَّرَ أَنَّ كُلَّ قَرْيَةٍ أَهْلَكَ اللهُ أَهْلَهَا بِظُلْمِهِم، فَإِنَّهُم لاَ يَرْجِعُوْنَ إِلى الحَيَاةَِ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ. وَهَذا تَأْكِيدٌ لِلْرَّجْعَةِ إِلى اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ.
حَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ - مُمْتَنِعٌ البَتَّةَ عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ.
أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ - إِلى الحَيَاةِ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ.(1/2490)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
{شَاخِصَةٌ} {أَبْصَارُ} {ياويلنا} {ظَالِمِينَ}
(97) - فَإِذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الأَهْوَالُ والزَّلاَزِلُ، وَحَدَثَتِ الفَوْضَى بِخُرُوْجِ قَوْمِ يَأجُوجَ وَمأجُوجَ، فَذَلِكَ دَلاَلَةٌ عَلَى اقْتِرَابِ الوَعْدِ الحَقِّ (قِيَامِ السَّاعَةِ) . فَإِذَا قَامَتْ السَّاعَةُ يُفَاجَأُ الكَافِرُونَ بِهَا، وَيَقُومُون مِنْ قُبُورِهِم مَشْدُوهِينَ مَبْهُوتِينَ، فَيَقُولُ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ، وَأَبْصَارُهُم شَاخِصَةٌ مِنْ هَوْلِ مَا يَرَوْنَ: لَقَدْ كُنَّا غَافِلِينَ فِي الدُّنْيَا عَنْ هَذَا اليَوْمِ. وَيَعْاَرِفُونَ بَأَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ، فَيَنْدَمُونَ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ الله، وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا، ولاَتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ.
الْوَعْدُ الحَقُّ - قِيامُ السَّاعَةِ وَالبَعْثُ وَالحِسَابُ.
شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ - مُرْتَفِعَةٌ أَبْصَارُهُمْ لاَ تَكَادُ تَطْرَفُ مِنْ شِدَّةِ الهَوْلِ.(1/2491)
لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)
{اء آلِهَةً} {خَالِدُونَ}
(99) - لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الأَصْنَامُ وَالأَنْدَادُ آلِهَةً حَقِيْقَةً لَمَا دَخَلُوْا نَارَ جَهَنَّمَ، وَلَمَا بَقُوْا خَالِدِيْنَ فِيهَا مَعَ مَنْ عَبَدُوهَا.(1/2492)
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)
{أولئك}
(101) - أمَّا الذينَ قَضَى اللهُ لَهُمْ بالرَّحْمَةِ والسَّعَادَةِ بِسَبَبِ إِيْمَانِهِمْ وَعَمَلِهِم الصَّالِحِ فِي الدُّنْيا، فَأُولئِكَ يُبْعَدُونَ عَنْ جَهَنَّم جَزَاءً لَهُمْ، وَثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللهِ.(1/2493)
لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
{وَتَتَلَقَّاهُمُ} {الملائكة}
(103) - وَفِي ذَلِكَ اليَوْمِ - يَوْمِ القِيَامَةِ - يَسْتَوْلِى عَلَى النَّاس الفَزَعُ الأَكْبَرُ لِهَوْلِ مَا يَرَوْنَِهُ، وَلِهَوْلِ المُفَاجَأةِ، وَلِِهَوْلِ مَا يَنْتَظِرُهُم مِنْ حِسَابٍ كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ، وَلَكِنَّ الَّذِيْنَ سَبَقَتْ لَهُمُ الحُسْنَى مِنْ رَبِهِّمْ، فَإِنَّهُمْ يُخِيفُهُمْ ذَلِكَ الفَزَعُ، وَلاَ يَحْزُنُهُمْ، فَقَدْ جَنَبَّهَمُ اللهُ تَعَالَى النَّارَ، وَجَنَّبَهُمْ سَمَاعَ حَسِيِسِها، وَرُؤْيَةَ مَا فِيهَا، وَأَدْخَلَهٌمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ، وَأَدْخَلَهُمْ الجَنَّةَ، فَتَلَقَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِمْ، وَيُهَنِّئُونَهُمْ بالسَّلامَةِ فِي هَذَا اليَوْمِ الَّذِي وَعَدَهُمْ اللهُ بِهِ.(1/2494)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
{الصالحون}
(105) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ حَتْمِهِ وَقَضَائِهِ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ بالسَّعَادَةِ، فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وَوِرَاثَةِ الأَرْضِ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ قَضَى فِي الكُتُبِ التِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِه (الزَّبُورِ) كَمَا قَضَى فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ وَهُوَ أُمُّ الكِتَابِ (الذِّكْرِ) أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها الصَّالِحُونَ مِنْ
عِبَادِه؛ وَقَدْ جَعَلَ سُنَّةً وَمِنْهَاجاً.
(والصَّالِحُونَ الذين عَنَاهُم اللهُ تَعَالَى هُمُ الَّذينَ جَمَعُوْا الإِيْمَانَ والعَمَلَ الصَّالِحَ، فإِذَا اجْتَمَعَ إِيْمَانُ القَلْبِ، وَنشاطُ العَمَلِ في أُمَّةٍ فَهِيَ الوَارِثَةُ للأَرْضِ. وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ، وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ أبداً) .
الزَّبُوْرُ - الكُتُبُ المُنَزَّلَةُ، والزَّبُورُ قِسْمٌ مِنْ كِتَابٍ أََوْ هُوَ الكِتَابُ المُنَزَّلُ عَلَى دَاوُد عَلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ.
الذّكْرُ - اللَّوْحُ المَحْفُوظُ - وَهُوَ أُمُّ الكِتَابِ.(1/2495)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
{أَرْسَلْنَاكَ} {لِّلْعَالَمِينَ}
(107) - وَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ بِهَذَا وأَمْثَالِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ والأَحْكَامِ إِلاَّ لِرَحْمَةِ النَّاسِ، وَهِدَايَاِهِمْ فِي شُؤُونِ دِينِهِمْ وَدُونْيَاهُمْ، وَلاَ يَهْتَدِي بِهِ إٍِلاَّ المُتَهَيِّئُوْنَ لِتَقَبُّلِ الهُدَى.(1/2496)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)
{آذَنتُكُمْ}
(109) - فَإِنْ رَفَضُوْا الاسْتِجَابَةَ إِلَى مَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ، وأَعْرَضُوْا عَنْهُ فَقُلْ لَهُمْ: إِنِّي بَرِء مِنْكُمْ كَمَا أَنَّكُمْ بُرَآءُ مِنِّي وَقَدْ أَعْلَمْتُكُمْ جَمِيعاً بِمَا أَمَرَنِي بِهِ رَبِّي، وَبِذَلِكَ اسْتَوَيْنَا فِي العِلْمِ أَنَا وَأَنْتُمْ. وَقُلْ لَهُم: إِنَّ مَا يُوعَدُونَ بِهِ وَاقِعٌ لاَ مَحَالَةَ، وَلَكَنَّكَ لاَ تَدْرِي مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ، قَرِيباً أَمْ بَعِيداً، لأًَنَّ الله لَمْ يُطْلِعْكَ عَلَيْهِ.
عَلَى سَواءٍ - مُسْتَوِينَ جَمِيعاً فِي الإِعْلامِ.
وَإِنْ أَدْرِي - وَمَا أَدْرِي.(1/2497)
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)
{وَمَتَاعٌ}
(111) - وَمَا أَدْرِي سَبَبَ تَأخِيرِ وُقُوعِ الجَزَاءِ بِكُمْ؛ لَعَلَّ فِي ذَلِكَ زِيَادَةً فِي فِتْنَتِكُمْ وامْتِحَانِكُمْ لِيَنْظُرَ رَبُّكُمْ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؛ أَوْ لَعَلَّهُ يُؤَهِّرُمُنْ إلى حِينٍ كي تَتَمَتَّعُوا بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا مَع اسْتِمْرَارِ إِعْرَاضِكُم عَنِ الإِيْمَانِ، فَيَكُونَ ذَلِكَ سَبَباً لاِسْتِحْقَاقِكُمْ العَذَابَ.
فِتْنَةٌ لَكُمْ - امْتِحانٌ وَاخْتِبَارٌ.(1/2498)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
{ياأيها}
(1) - يَأُمُرُ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ بِتَقْوَاهُ، وَإِطَاعَةِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ أَهْوالِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ أُمُورٍ عِظَامٍ، وَزَلْزَلَةٍ يَشِيبُ لِهَولِها الوِلْدَانُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ المُفَسِّرُون: هَلْ تَكُونُ زَلْزَلَةُ السَّاعَةِ قَبْلَ قِيَامِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، أَوْ تَكُونُ بَعْدَ قِيَامِهٍِمْ وَنُشَوِرِهِمْ:
1 - فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ زَلْزَلَة السَّاعَةِ تَكُونُ فِي آخِرِ عُمْرِ الدُّنيا، وَأَوَّلِ أَحْوالِ السَّاعَةِ. وَفِي حَدِيثٍ رواه ابنُ جرير عن أبي هُرَيْرة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " يَنْفُخُ إِسْرَفِيلُ في الصُّورِ ثلاثَ نَفَخَاتٍ:
نَفْخَةَ الفَزَعِ - فَيَفْزَعُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُِ، فَتَسِيرُ الجِبَالُ فَتَكُونُ تُراباً، وَتُرجُّ الأَرْضُ بِأَهْلِها رَجّاً، وَهِيَ التِي يَقُولُ فِيها اللهُ سُبْحَانَه {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة تَتْبَعُهَا الرادفة} فَيَتَمَدَّدُ النَّاسُ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ، وَتَذْهَلُ المَراضِعُ عَنْ رُضَعَائِها، وَتَضَعُ الحَوَامِلُ حَمْلَها، وَيشِيبُ الولدَانُ، وَيُولّي النَّاسُ مُدْبِرِينَ يُنادِي بَعْضُهُمْ بَعْضاً، فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد} ، فَبَيْنَما هُمْ عَلَى ذلِكَ انْصَدَعَتِ الأَرْضُ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، وَرَأَوْا أَمْراً عَظِيماً، فَأَخَذَهُمْ مِنَ ذَلِكَ الكَرْبُ، ثُمَّ نَظَرُوا إِِلى السَّماء فإِذا هيَ كَالمُهْلِ، ثُمَّ خُسِفَ شَمْسُها وَقَمَرُهَا، وَانْتَثَرَتْ نُجُومُهَا، ثُمَّ كُشِطَتْ عَنْهُمْ، وَالأَمواتُ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً مِنْ ذلِكَ كُلِّهِ.
ب - نَفْخَةَ الصَّعْق - وَبِها يُصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ.
ج - نَفْخَةَ القِيَامِ لِرَبِّ العَالَمِينَ - وَبِها يَخْرُجُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ وَيَقُومُونَ لِرَبِّ العِبادِ "
2 - وَقَالَ مُفَسِّرُونَ آخَرُونَ بَلْ ذلِكَ هَوْلٌ وَفَزَعٌ وزِلْزَالٌ كائِنٌ يَومَ القِيَامَةِ فِي العَرصَاتِ بَعْدَ قِيَامِ الأَمْوَاتِ مِنْ قُبُورِهِمْ. وَسَاقُوا عَلى ذَلِكَ بَعْضَ الأَحَادِيثِ.
الزِّلْزَالُ - الهَزَّةُ الشَّدِيدَةُ التيِ تَحْدُثُ فِي الأَرْضِ.
وَزَلْزَالَةَ السَّاعةِ - أَهْوَالَ القِيَامَةِ وَشَدَائِدَهَا وَمَا يَحْدُثُ لِلنُّفُوسِ مِنَ الرُّعْبِ وَالفَزَعِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ.(1/2499)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)
{يُجَادِلُ} {شَيْطَانٍ}
(3) - بَعْدَ أَنْ شَرَحَ الله تَعَالَى حَالَ النَّاسِ يَوْمَ الحَشْرِ، وَبَعْدَ أَنْ أَكَّدَ أَنَّ الحَشْرَ وَالفَزَعَ وَاقِعَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ لا مَحَالَةً، قَالَ تَعَالَى: وَمَعَ ذَلِكَ فإِنَّ هُنَاكَ بَعْضَ النَّاسِ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ: فِي وُجُودِ اللهِ، وَفِي وحْدَانِيَّتِهِ، وفِي قُدْرَتِهِ عَلَى إِحيَاءِ المَوْتَى. . وَفِي عِلْمِهِ. وَجِدَالُهُمْ هذا بِغَير عِلْمٍ صَحِيحٍ، وَبِدُونِ دَليلٍ وَاضِحٍ، وَهُوَ جِدالٌ نَاتِجٌ عنِ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ المُتَمَرِّدِ عَلَى رَبِّهِ.
المَرِيدُ - العَاتي المُتَجَرِّدُ لِلْفَسَادِ، المُخَالِفُ لِلْحَقِّ.(1/2500)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
{ياأيها} {خَلَقْنَاكُمْ}
(5) - لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى حَالَ المُنْكِرِ للبَعْثِ وَالمَعَادِ، ذَكر هُنا الدَّليلَ عَلَى قُدْرَتِهِ بِمَا يُشَاهَدُ مِنْ بدْئِهِ الخَلْقَ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتُمْ يَا أَيُّها النَّاسُ تَشُكُّونَ فِي قُدْرَتِنَا عَلَى بَعْثِ الأَمْوَاتِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَخَلْقِهِمْ خَلْقاً جَدِيداً، فَانْظُرُوا إِلى مَبْدَإِ خَلْقِكُمْ لِيَزُولَ شَكُّكُمْ، وَلِتَعْلَمُوا أَنَّ القَادِرَ عَلَى خَلْقِكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنْ عَدَمٍ، هُوَ أَقْدَرُ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِكُمْ ثَانِيةً، لأَنَّ الإِعَادَةَ أَسْهَلُ مِنَ الاْبِتدَاءِ، فَقَدْ خَلَقْنَا أَبَاكُمْ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ جَعَلْنَا نَسْلَهُ يُخْلَقُ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ - أَيْ مِنْ نُطْفَةٍ - ثُمَّ تُصْبِحُ النُّطْفَةُ عَلَقَةً حَمرَاءَ، ثُمَّ تُصْبِحُ العَلَقَةُ مُضْغَةً، ثُمَّ تَبْدأُ المُضْغَةُ فِي التّشَكّلِ، وَتْبْدُو مَلامِحُ الرَّأسِ والأطْرَافِ. وَيَقُولُ تَعَالَى إِنَّ المُضْغَةَ قَدْ تُسْقِطُهَا المَرْأَةُ قَبْلَ اكْتِمَالِ مُدَّةِ الحَمْلِ - أَيْ قبْلَ اكْتِمَالِ خَلْقِها - وَقَدْ تَبْقَى هَذِه المضْغَةُ قَدْ تُسْقِطُها المَرْأَةُ قَبْلَ اكْتِمَالِ مُدَّةِ الحَمْلِ - أَيْ قبْلَ اكْتِمَالِ خَلْقِها - وَقَدْ تَبْقَى هَذِه المُضْغَةُ حَتَّى اكْتِمَالِ خَلْقِها، فَتَخْرَجُ طِفْلاً ضَعِيفاً فِي بَدَنِهِ، وَفِي سَمْعِهِ، وَبَصَرِه، وَحَوَاسِّه، ثُمَّ يُعْطِيهِ اللهُ القُوَّةَ شَيئاً فَشيئاً، فَيَبْلُغُ أشُدَّهُ وَيَتَكَامَلُ فِي قُوَّتِهِ، ثُمَّ يَتَزَايَدُ فَيَصِلُ إِلى عُنْفُوَانِ الشَّبَابِ. وَمِنَ النَّاسِ مَن يُتَوفَّى فِي حَالِ شَبَابِهِ وَقُوَّتِهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَصِلُ إِلَى الشَّيْخُوخَةِ والهَرَمِ والضَعْفِ فِي القُوَّةِ والعَقْلِ والفَهْمِ، وَيُصِيبُهُ الخَرَفُ، وَضَعْفُ الذَّاكِرَةِ، فَإِذَا هُوَ بَعْدَ القُوَّةِ والعَقْلِ والفَهْمِ، وَيُصِيبُهُ الخَرَفُ، وَضَعْفُ الذَّاكِرَةِ، فَإِذَا هُوَ بَعْدَ القُوَّةِ والاكْتِمَالِ يَرْتًَدُّ طِفْلاً وَعْيِهِ وَمَدَارِكِهِ وَتَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَيَنْسَى عِلْمَهُ فَلاَ يَعُودُ يَذْكُرُ مِنْهُ شَيئاً (لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) .
وَيَسُوقُ اللهُ تَعَالَى دَليلاً آخَرَ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى إِحْيَاءِ المَوْتَى، وَهُوَ إِحْيَاءُ الأرْضِ المَيِّتَةِ الهَامِدَةِ التي لاَ نَبْتَ فِيهَا، فَإِذَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهَا المَاءَ مِنَ السَّمَاءِ تَحَرَّكَتْ بالنَّبَاتِ، وَحَيِيَتْ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَرَبَتْ وارْتَفَعَ التُّرَابُ الذي عَلَى سَطْحِهَا مِنْ حَرَكَةِ النَّبَاتِ تَحْتَهُ ثُمَّ أَنْبَتَت الأَرْضُ نَبَاتاً حَسَنَ المَنْظَرِ، طَيِّبَ الرَّائِحَةِ، يُبْهِجُ العُيونَ النَّاظِرَةَ إِلَيْهِ.
هَامِدَةً - سَاكِنَةً أَوْ مَيِّتَةً يَابِسَةً.
بَهِيجٍ - يُبْهِجُ النَّفْسَ بِمَرْآهُ.
عَلَقَةً - قِطْعَةَ دَمٍ جَامِدةِ.
مُضْغَةً - قِطْعَةَ لَحْمٍ بَقَدْرِ مَا يُمْضَغُ.
مُخَلَّقةٍ - مُسْتَبِينَةِ الخَلْقِ مُصَوَّرَةٍ.
رَبَتْ - ارْتَفَعَ فَوْقَهَا التُّرَابُ.(1/2501)
وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
{آتِيَةٌ}
(7) - وَلِيَعْلَمَ النَّاسُ أنَّ السَاعَةَ سَتَأْتِي فِي الوَقْتِ المُحَدَّدِ لَهَا، لاَ شَكَّ فِي ذَلِكَ وَلاَ رَيْبَ. وحِينَ يَحِيْنُ مَوْعِدُ قِيامِ السَّاعَةِ فَإِنَّ الله يَبْعَثُ المَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ، وَيُعِيدُ خَلْقَهُم مِنْ جَديدٍ بَعْدَ أَنْ صَارُوا رَميماً.(1/2502)
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)
{القيامة}
(9) - وَهُوَ يُجَادِلُ مُسْتَكْبِراً عِنِ الحَقِّ إِذَا دُعِيَ إِلَيْه. وَقَدْ لَوى رَقَبَتَهُ (ثَانِي عِطْفِهِ) إِعْرَاضاً عَنِ الحَقِّ، وَغَايَتُهُ مِنْ ذَلِكَ إِضْلاَلُ النَّاسِ وَصَرْفُهُمْ عَن سَبِيلِ اللهِ المُسْتًَقِيمِ. وَهَذا المُضِلُّ المُسْتَكْبِرُ المُتَجَبِّرُ، لَهُ فِي الدُّنْيَا ذُلٌّ وَمَهَانَةٌ (خِزْيٌ) مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، جَزَاءً لَهُ عَلَى اسْتِكْبَارِه، وَيْجْزِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ بِإِخْضَاعِهِ إِلَى عَذَابٍ مُحْرِقٍ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
ثَانِيَ عِطْفِهِ - لاَوِياً رَقَبَتَهُ أَوْ جَانِبَهُ تَكَبُّراً وَتَجَبُّراً وإِبَاءً.
خِزْيٌ - ذُلٌّ وَهَوَانٌ.(1/2503)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)
(11) - وَمِنَ النَّاسِ صِنْفٌ لَمْ يَتَمَكَّنِ الإِيْمَانُ مِنْ فَلْبِهِ، بَلْ هُوَ مُتَزَعْزِعُ العَقِيدَةِ، تَتَحَكَّمُ مَصَالِحُهُ فِي إِيْمَانِهِ، فًَإِنْ أَصَابِهُ رَخَاءٌ وَسَعَةُ عَيْشٍ، رَضِيَ وَاطْمَأَنَّ وَاسْتَبْشَرَ بالدِّينِ فَعَبَدَ الله، وَإِنْ أَصَابَهُ شَرٌّ وَبَلاَءٌ، وَضِيقُ عَيْشٍ، ارْتَدَّ وَرَجََعَ إِلى الكُفْرِ فَخَسِرَ فِي الدُّنْيَا رَاحَةَ الاطْمِئْنَانِ إِلى قَضَاءِ اللهِ وَنَصَرِهِ، كَمَا خَسِرَ فِي الآخِرَةِ النَّعِيمَ.
(وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي بَعضِ الأَعْرَابِ الذينَ كَانُوا يَأتُونَ إِلى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيُسْلِمُونَ، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى بِلاَدِهِم فإِنْ وَجَدُوا عَامَ غَيْثٍ وَخِِصْبٍ، وَعَامَ وِلادٍ حَسَنٍ قَالُوا: إِنَّ دِينَنَا هَذًَا لَصَالِحٌ فَتَمسَّكُوا بِهِ، وإِنْ وَجَدُوا عَامَ جَدْبٍ، وَعَامَ وِلادِ سُوءٍ، قَالُوا: مَا فِي دِيننَا هَذَا خَيْرٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ) .
وَهَذِهِ الآيَةُ تَنْطَبِقُ عَلَى المُنَافِقٍِ الذي إِنْ صَلَحَتْ لَهُ دُنْيَاهُ أَقَامَ عَلَى العِبًَادَةِ، وإِنْ فَسَدَتْ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَتَغَيَّرَت انْقَلَبَ كَافِراً فَلاَ يُقِيمُ عَلَى العِبَادَةٍ إِلاَّ لِمَا صَلَحَ مِنْ دُنْيَاهُ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ أَوْ شِدَّةٌ أَوْ ضِيْقٌ تَرَكَ دِيْنَهُ، وَرَجَعَ إِلى الكُفْرِ، وَارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ {انقلب على وَجْهِهِ} ، فَلاَ يَحْصُلُ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى شَيءٍ. وَأَمَّا الآخِرَةُ فَقَدْ كَفَرَ بالله العَظِيم، فَهو فِيهَا فِي غَايَةِ الشَّقَاءِ والإٍِهَانَةِ، وَلِهذا قَالَ تَعَالَى: {ذلك هُوَ الخسران المبين} أي الخَسَارَةُ العظِيمةُ والصَفْقَةُ الخَاسِرَةُ
عَلَى حَرْفِ - علَى شَكٍّ وَقَلَقٍ وَتَزَلْزُلٍ فِي الدِّينِ.(1/2504)
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
{يَدْعُو}
(13) - وَيَدْعُو هَذَا العابِدُ عَلَى حَرْفٍ مَنْ ضَرُّهُ فِي الدُّنْيَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ نَفْعِهِ؛ وأمَّا ضَرَرُهُ فِي الآخِرَةِ فَهُوَ مُحَقَّقٌ مُؤكَّدٌ، وَبِئْسَ الوَثَنْ الذي دَعَاهُ ذَلِكَ الضَّالُّ مَولَّى لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ، وَاتَّخَذَهُ وَلِيّاً وَنَاصِراً، وَبْئْسَ المُخَالِطُ والمُعَاشِرُ.
بِئِسَ المَوْلَى - بِئْسَ النَّاصِرُ.
العَشْيرُ - المُصَاحِبُ المُعَاشِرُ.(1/2505)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
{الآخرة}
(15) - مَنْ كَانَ يَظُنُّ مِنَ الكُفَّارِ أَنَّ اللهَ لَنْ يَنْصُرَ مُحَمَّداً، وَدِينَهُ، وَكِتَابَهُ، فَلْيَذْهَبْ فَلْيَقْتُلْ نَفْسَهُ بِرَبْطِ حَبْلٍ فِي سَقْفِ بَيْتِهِ، ثُمَّ لِيَخْنُقْ نَفْسَهُ بِهِ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ غَائِظَهُ، فَإِنَّ اللهَ نَاصِرُهُ لاَ مَحَالَةَ. فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي آيةٍ أُخْرَى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا.} ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرْ هَذَا المَغِيظُ هَلْ يَشْفِي فِعْلُهُ هَذَا - أيْ خَنْقَ نَفْسِهِ بِحَبْلٍ فِي سَقْفِ بَيْتِهِ - صَدْرَه مِنَ الغَيْظِ، وَهَلْ يُحَقِّقُ فِعْلُهُ هَذَا رَغْبَةَ نَفْسِهِ فِي أَنْ لاَ يَنْصًرَ اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم؟ كَلاَّ إِنَّ ذَلِكَ لَنْ يُوِصِلَهُ إِلَى غَايَتِهِ.
يَنْصُرُهُ اللهُ - أي يَنْصُرُ اللهُ رَسُولَهُ مُحَمَّداً.
بِسَبَبٍ إلَى السَّمَاءِ - بِحَبْلٍ إِلى سَقْفِ بَيْتِهِ.
ثُمَّ ليَقْطَعْ - ثُمَّ لِخْنُقْ بِهِ نَفْسَهُ حَتَّى يَمُوتَ.
كَيْدُهُ - صَنِيعُهُ بِنَفْسِهِ.(1/2506)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
{آمَنُواْ} {والصابئين} {والنصارى} {القيامة}
(17) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ سَيَفْصِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ بَيْنَ أَهْلِ الأَدْيَانِ المُخْتَلِفَةِ: مِنَ المُؤْمِنِينَ واليَهُودِ والنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ عَدَّدَهُمْ، وأَنَّهُ سَيَحْكُمْ بَيْنَهُمْ بالعَدْلِ، فَيُدْخِلُ مَنْ آمَنَ مِنهم بِهِ الجَنَّةَ، وَيَدْخِلُ مَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ بِهِ النَّارَ، وأنَّهُ تَعَالَى عَلَى أَفْعَالِهِمْ جَمِيعِهَا، حَفِيظٌ لِأَقْوَالِهِم، عَلِيمٌ بِسَرَائِرِهِم وَضَمَائِرِهِمْ.
الصَّاؤِئِينَ - عَبَدَةَ الكَوَاكِبِ أَوْ عَبَدَةَ المَلاَئِكَةِ.(1/2507)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
{رُءُوسِهِمُ}
(19) - تَجَادَلَ أهْلُ الأَدْيَانِ فِي دِينِ اللهِ فَكُلُّ فَرِيقٍ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَا هُوَ عَلَيهِ هُوَ الحَقُّ، وأَنَّ مَا عَليهِ خَصْمُهُ هُوَ البَاطِلُ، وَبَنَى عَلى ذلِكَ جَميعَ أَقْوَالِهِ وَأَفْغَالِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ نَوعاًَ مِنَ الخُصُومَةِ، واللهُ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَومَ القِيَامَةِ، وَيَجْزِيهِمْ عَلى إِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بِما يَسْتَحِقُّونَ، وَلا يَظْلِمُ أحَداً مِنْهُمْ شَيئاً، فَأَمَّا الكَافِرُونَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أُعِدَّتْ لهُمْ نِيرانٌ تُحيطُ بِهِمْ وَكَأَنَّها مُقَطَّعَاتٌ مِنَ الثِّيَابِ قُدَّتْ عَلَى قَدْرِ أَجْسَادِهِمْ، وَيُصَبُّ المَاءُ الشَّدِيدُ الحَرَارَةِ فَوْقَ رُؤُسِهِمْ فَيَشْوِي وُجُوهَهُمْ وَأَجْسَادَهُمْ، وَيُذِيبُ أَمْعَاءَهُم خَصْمَانِ - المُؤْمِنُونَ وَالكَفِرُونَ عَامَّةً.
الحَمِيمُ - المَاءُ الشَّدِيدُ الحَرَارَةِ وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّهُ النُّحَاسُ المُذَابُ.(1/2508)
وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)
{مَّقَامِعُ}
(21) - وَيُضْرَبُ هؤلاءِ الكَافِرُونَ بالسِّياطِ وَالمَطَارِقِ (مَقَامِعُ) مِنَ الحَدِيدِ المُحَمَّى فَتَتَنَاثَرُ أَعْضَاؤُهُمْ.
المَقَامِعُ - المَطَارِقُ أَوِ السِّيَاطُ.(1/2509)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)
{آمَنُواْ} {الصالحات} {جَنَّاتٍ} {الأنهار}
(23) - لَمَّا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ، وَمَا يُلاقُونَهُ مِنَ العَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالحَرِيقِ وَالأًَغْلالِ، وَمَا أُعدَّ لَهُمْ منْ ثِيابٍ مِنْ نَارٍ، ذَكَرَ حالَ أَهْلِ الجَنَّةِ فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ يُدْخِلُ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي الأَنْهَارُ في أَرْجَائِها، وَيُلْبِسُهُمْ رَبُّهُمْ فِيها حُلِيّاً: مِنْها أَسَاوِرُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمِنْها لُؤْلُؤْ (وَجَاءَ في الحَدِيثِ: تَبْلُغُ الحِلْيَةُ مِنَ المُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الوُضُوءُ) (رَوَاهُ الإِمَامَانِ) وَيَكُونُ لِباسُهُمْ مِن الحَرِيرِ في الجَنَّةِ.
(وجاءَ فِي الصَّحيحِ: لاَ تَلْبَسوا الحَرِيرَ وَلا الدِّيبَاجَ فِي الدُّنيا فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ في الدُّنْيا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ.(1/2510)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
{جَعَلْنَاهُ} {العاكف}
(25) - إِنَّ الذِينَ كَفَرُوا بالله وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ، وَأَنْكَرُوا مًَا جَاءَهُم بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَيَمْنَعُونًَ النَّاسَ مِنْ أَنْ يَدْخُلُوا فِي دِينِ اللهِ {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} وَيَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنْ الوُصُولِ إِلى المَسْجِدِ الحَرَامِ، الذي جَعَلَه اللهُ لِلَّذِين آمنُوا بهِ، كَافّةً، سَوَاءً مِنْهُمُ المُقِيمُ فِيهِ، وَالبَعِيدُ الدَّارِ عَنْهُ، فَإِنَّ الله يَتَوَعَّدُهُمْ بِالعَذابِ الأَليمِ فِي الآخِرَةِ، كَمَا يَتَهَدَّدُ اللهُ بِالعَذَابِ الأليمِ يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ يُريدُ أَنْ يَميلَ إِلى الظُّلْمِ في المَسْجِدِ الحَرَامِ فَيْعْصِيَ الله فيه، أَوْ يُخَالِفَ أَمْرَهُ، مُتَعَمِّداً غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ عِقَابَهُ الشَّديدَ بِأَهْلِ الضَّلاَلِ لَمَّا هَمُّوا بِتَخْريبِ البَيْتِ، فَأَرْسَلِ عَلَيْهِم الطَيرَ الأَنَابِيلَ فًَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً وَنَكَالاً لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ بِبَيْتِ الله سُوءاً.
المُسْجِد الحَرَام - الحَرَمُ أَيْ مَكَّةُ أَوْ هُوَ الكَعْبَةُ.
العَاكِفُ - المُقِيمُ فِيهِ، المُلاَزِمُ لَهُ.
البَادِ - الطَّارئُ غَيْرُ المُقِيمِ.
إِلحَادٍ بِظُلْمٍ - يَمِيلُ عَنٍ الحَقِّ إِلى البَاطِلِ.(1/2511)
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
(27) - وَقَلْنَا لإِبْرَاهِيمَ: نَادِ النَّاسَ دَاعِياً إِيَّاهُم إِلى الحَجِّ إِلَى هَذا البَيْتِ الذي أَمَرْنَاكَ بِبِنَائِهِ، يَأْتُوكَ مُشَاةً عَلَى أَرْجُلِهِمْ (رِجَالاً) ، مِنْ أَطْرَافِ الأَرْضِ، وَيَأْتُوكَ رَاكِينَ (رُكْبَاناً) عَلَى الخَيْلِ والجِمَالِ المُضَمَّرَةِ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ بَعِيدٍ.
(وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أَبَلِّغُ النَّاسَ وَصَوْتِي لاَ يَنْفُذُهُم؟ فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: نَادِ وَعَلَيْنَا البَلاَغُ، فَقَامَ فَنَادَى، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَبَّكُم اتَّخَذَ بَيْتً فَحُجُّوهُ. وَلِهَذَا يَرُدُّ مَنْ يَحُجُّ البَيْتَ عَلَى نِدَاءِ اللهِ قَائِلاً: (لَبِّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ) .
أَذَّنْ فِي النَّاسِ - نَادِ فِيهمِ وَأَعْلِمُهُمْ.
رِجَالاً - مُشَاةً عَلَى أَرْجُلِهِمْ.
ضَامِرٍ - بَعِير أَوْ فَرَسٍ مَهْزُولٍ مِنْ بُعْدِ الشُّقَّةِ.
فَجٍّ عَمِيقٍ - طَرِيقٍ بَعِيدٍ.(1/2512)
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
(29) - ثُمَّ لِيُزِيلُوا مَا عَلِقَ بِهِمْ مَنَ الأوْسَاخِ أَثْنَاءَ السَّفَرِ والإٍِحْرَامِ فَيْحْلِقُوا الشَّعْرَ، وَيُقَلِّمُوا الأظَافِرَ، وَيُخَفِّفُوا شَعَرَ الوَجْهِ والرَّأسِ (لِيَقْضُوا تَفَثَهُم) ، وَلْيَتَحَلَّلُوا مِنْ إِحْرَامِهِمْ وَلْيُوفُوا مَا نَذَرُوهُ مِنَ أَعْمَالِ البرِّ، وَلْيَطُوفُوا طَوافَ الوَدَاعٍِ بالبَيْتِ الحَرَامِ (البَيْتِ العَتِيقِ) ، الذي هُوَ أَقْدَمُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ.
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُم - ثُمَّ لْيُزِيلُوا بِالتَّحَلُّلِ مَا عَلِقَ بِهِمْ مِنْ أَوْسَاخٍ، أو ثُمَّ لُيؤدُّوا مَنَاسِكَهُمْ.(1/2513)
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
(31) - وَتَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الأُمُورِ عَلَى وَجْهِ الإِخْلاَصِ والعِبَادَةِ للهِ، وحْدَهُ مُخْلٍصِينَ لَهُ الدِّينَ دُونَ شُرَكَاء، لأنَّ مَنْ أَشْرَكَ مَعَ سِوَاهُ فَقَدْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ، وَكَانَ حَالُهُ كَحُالِ مَنْ سَقَطَ مِنَ السَّمَاءِ، فَتَخَطَّفَتْهُ الطَّيْرُ، فَفَرَّقَتْ أجْزَاءَهُ فِي حَوَاصِلَها، أو كَمَنْ عَصَفَتْ بِه الرِّيحُ فَهَوتءْ بِهِ فِي المَهَاوِي العَمِيقَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ البَرَاءِ: أنَّ الكَافِرَ إِذَا تَوَفَّتْهُ مَلاَئِكَةُ المَوْتِ وَصَعِدُوا بِرُوحِهِ إِلى السَّمَاءِ فَلا تُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ السَّماءِ بَلْ تُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحاً مِنْ هُنَاكَ ثُمَّ قَرَأَ هَذَهِ الآيَةَ.
حُنَفَاءَ - مَائِلِينًَ عَنِ البَاطِلِ إِلى الدِّينِ الحقِّ.
تَهْوِي بهِ الرِّيحُ - تُسْقِطُهُ وتَقْذِفُهُ.
مَكانٍ سَحيقٍ - مَوضِعٍ بعيدٍ مُهلِكٍ.(1/2514)
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
(33) - وَالأَنْعَامُ التي يَتَخِذُها الحُجَّاجُ هَدَايَا لِتُنْحَرَ فِي نِهَايَةِ أيَّامِ الإِحْرَامِ، يَجُوزُ لِصَاحِبِها الانْتِفَاعُ بِهَا فَيَرْكَبُهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ أَلْبَانِها وَيَسْتِفيدُ مِنْ أوْبَارِهَا وأصْوَافِها. حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ حِلَّهَا (مَحِلَّهَا) وَهو البَيْتُ الحَرَامُ، ثُمَّ تُنْحَرُ هُنَاكَ لِيَأكُلَ مِنْهَا أصْحَابُها؛ وليُطعِمُوا البُؤسَاءَ والفُقَرَاءَ.
مَحٍِلُّهَا - وُجُوبُ نَحْرِها.
إلَى البَيْتِ العَتِيقِ - مُنْتَهِيَةً إلى أرضِ الحَرَمِ كُلِّهِ.(1/2515)
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
{والصابرين} {الصلاة} {رَزَقْنَاهُمْ}
(35) - وَيُعَرِّفُ اللهُ تَعَالَى المُخْبِتينَ بِأَنَّهُمْ هُمُ الذين إِذَا ذُكِرَ اللهُ خَشَعَتْ قُلُوبُهمْ وَخَافَتْ (وَجِلَتْ) ، والذين يَصْبِرُونَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ فِي الشَّدَائِدِ والمَصَائِبِ اسْتِسْلاماً لِقَضَائِهِ، والذين يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ، ويُؤَدُّونَها حَقَّ أَدَائِها، والذِين يُنْفِقُونَ مِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ طَيِّبَاتِ الرِّزْقِ عَلَى أَهْلِهِم وأقارِبِهِم والمُحْتَاجِينَ، ويُحْسِنُونَ إِلى خَلْقِ اللهِ، مَعَ المُحَافَظَةِ عَلَى حُدُودِ اللهِ.
وَجِلَتْ قُلُوبُهم - خَافَتْ هَيْبَةً وَإِجْلالاً.(1/2516)
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
(37) - إِِنَّمَا شَرَعَ اللهُ لَكُمْ نَحْرَ هَذهِ الضَّحَايَا لِتَذْكُروا اسْمَ اللهِ عِنْدَ ذَبْحِها، فَهُوَ الخَالِقُ الرَّازِقُ؛ وَهُوَ تَعَالَى لاَ يَنَالُه شيءٌ مِنْ لُحًُومِها، ولا مِنْ دِمائِها، فَهُوَ الغَنِيُّ عَمَّنْ سِواهُ، يَتَقَبَّلُ الذَبِيحَةً، وَيْجْزِي عَلَيْها.
(وَكَانَ المُشْرِكُونَ فِي الجَاهِلِيَّةِ إِذَا ذَبُحوا لآلِهَتِهِمْ، وَضَعُوا شَيْئاًَ مِنْ لُحُومِ قَرابِينِهِمِ ودِمَائِها عَلَى أَصْنَامِهِمْ) .
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سَخَّرَ اللهُ لَكُمْ البُدْنَ لِتُعَظِّمُوهُ عَلَى مَا هَدَاكُمْ لِدِينِهِ وَشَرْعِهِ، وَفِعْلِ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَنَهَاكُم عَنْ فِعْلِ المُنْكَر، وَعَنْ فِعْلِ مَا يَكْرَهُ. وَبَشِّرْ يَا مُحَمَّدُ المُحْسِنِينَ فِي عَمَلِهِمِ، القَائِمِينَ بِحُدُودِ اللهِ، بِأنَّ الله سَيَجْزيهِمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.(1/2517)
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
{يُقَاتَلُونَ}
(39) - هَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الجِهَادِ، وَقَدْ نَزلَتْ بَعْدَ خُروجِ النًَّبِيِّ عليهِ السَّلاَمُ وَأَصْحَابِهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ. يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ المُشْرِكِينَ قَدْ ظَلَمُوا المُسْلِمينَ فِي مَكَّةَ، وأَخْرَجُوهُم مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرٍ حَقٍّ، وَلاَ ذَنْبَ لَهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ آمَنُوا بالله، وَقَالُوا: رَبُّنَا اللهُ. وَلِذَلِكَ أَذِنَ اللهُ تَعَالَى للمُسْلِمِينَ فِي قِتَالِ المُشْرِكِينَ، دَفْعً لأَذَاهُم، وإِضْعَافاً لِشَوْكَتِهِم، وتَشْجِيعاً لِمَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الإِسْلاَمِ عَلَى الالْتِحَاقِ بِالمُسْلِمِينَ لِيَكُونُوا قُوَّةً تُدَافِعُ عَنْ نَفْسِها، وَتُرِهِبُ أعْدَاءَهَا الكفَّارَ، وإِنَّ اللهَ قَادِرٌ وَحْدَهُ عَلَى نَصْرِ المُسْلِمِينَ دُونَ عَوْنٍ مِنْهَمْ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يُريدُ مِنَ المُؤْمِنيِنَ أَنْ يَبْذُلُوا جُهْدَهُم فِي طَاعَةِ رَبِّهِم، وأَن يَقُومُوا بِواجِبِهِم فِي الدِّفَاعِ عَنْ أًَنْفِسِهِم وَدِينِهِِ.(1/2518)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
{مَّكَّنَّاهُمْ} {الصلاة} {وَآتَوُاْ} {الزكاة} {عَاقِبَةُ}
(41) - وَيُتَابِعُ اللهُ تَعَالَى وَصْفَ المُءْمِنينَ المَظْلُومِينَ فَيَقُولُ: إِنَّهُمُ الذِينَ إِذَا مَكَنَّ اللهُ لَهُمْ فِي الأَرْضِ، وَحَقَّقَ لَهُمُ النَّصْرَ والغَلَبَةَ، وَجَعَلَ لَهُمُ العَاقِبَة، عَمِلُوا بِأمْرِ اللهِ، وَاجْتَنُبوا مَا نَهَاهُم عَنْهُ، فَأَقَامُوا الصَّلاَةَ، وأَدَّوهَا حَقَّ أَدَائِها، وَدَفَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، وَأَمَرُوا بالمعْرُوفِ، وَحَثُّوا النَّاسَ عَلَى فِعْلِ الخَيْرِ وَمَا يُرْضِي الله، وَنَهَوْا المُتَجَاوِزِينَ عَلَى حُدُودِ اللهِ عَنْ فِعْلِ المُنْكَرِ. وَعِنْدَ اللهِ حِسَابُ النَّاسِ جَميعاً فِي نِهَايَةِ المَطَافِ، وَلَهُ عَاقِبَةُ الأُمُورِ، فَيجْزِي كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى عَمَلِهِ.(1/2519)
وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43)
{إِبْرَاهِيمَ}
(43) - وَكَذَلِكَ كَذَّبَ إِبْرَاهِيمَ قَوْمُه، وَكَذَّبَ قَوْمٌ لوطِ لُوطاً عَلَيْهِما السَّلامِ.(1/2520)
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
{أَهْلَكْنَاهَا}
(45) - إِنًَّ القُرَى التي أَهْلَكَهَا اللهُ بِظُلْمِها وَكُفْرِها وَتَكْذِيبِها رُسُلَ اللهِ، هِيَ كَثِيرَةٌ (فَكَأين) فَأَصْبَحَتْ مُهَدَّمَةَ البُنْيَانِ، قَدْ سَقَطَتْ سُقُوفُها عَلى قِيعَانِها، وأَقْفَرَت الأَبْنِيةُ مِنْ سَاكِنيها، فَأَصْبَحَتْ مُوحِشَةً كَئِيبَةً، وَأَصْبَحَتِ الآبَارُ مُعَطَّلَةً مَهْجُورَةً لَمْ يَبْقَ أحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَأتِي إِلَيْهَا لِيَحْمِلَ مِنها الماءَ، وأَصْبَحَتِ القُصُورُ، المَبْنِيَّةُ لِتَكُونَ حُصُوناً وَمَعَاقِلَ يَحَتَمِي أَصْحَابُها بِها، مَهْجُورَةً خَالِيةً مِنْ سَاكِنيها.(1/2521)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
(47) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّ الكُفَّارَ المُكَذِّبِينَ يَرَوْنَ آيَاتِ الله، وَيَرونَ ما حَلَّ بِمَنْ سَبَقَهم مِن المُكَذِّبِينَ، مِنْ دَمَارِ وَهَلاَكٍ، وَلَكِنَّهُمْ لاَ يُدْرِكُونَ حَلَّ بِمَنْ سَبَقَهم مِن المُكَذِّبِينَ، مِنْ دَمَارٍ وَهَلاكٍ، وَلَكِنَّهُمْ لاَ يُدْرِكُونَ وَلا يَتَّعِظُونَ، وَيَسْخَرونَ مِمَّنْ يَدْعُونَهم إِلى اللهِ، ومِمَّنْ يُحَذِّرُونَهُمْ عَقُوبَتَهُ وَعذَابَهُ، وَهُمْ يَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَ العَذَابِ بِهِمْ، وَيَدْفَعُ بِهِمْ غُرُورُهُمْ إِلى حَدِّ اسْتِعْجَالِ وقوعِ العَذَابُ آتٍ فِي الوَقْتِ الذي حَدًَّدَهُ اللهُ، وَقَدَّرَهُ وَفْقَ حِكْمَتِهِ، وَلاَ يُعْجٍِّلُه اسْتِعْجَالُ النَّاسِ. وَتَقْدِيرُ الزَمَنِ في حِسَابِ اللهِ غَيْرُهُ فِي حِسَابِ البَشَرِ وإِنَّ يَوْماً عِنْدَ اللهِ كألفِ سَنَةٍ مِمَّا يَعُدُّهُ البَشَرُ مِن سِنِّي أَرْضِهٍِمْ.(1/2522)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
(48) - وَكَمْ مِنْ قَرْيَةِ ظَالِمَةٍ أَخَّرَ اللهُ إِهْلاَكَ مَعَ اسْتِمْرَارٍِهِم عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَاغْتَرُّوا بِذَلَكَ التَأْخِيرِ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى بَأْسَهُ وعِقابَهُ بِهِمْ، وَسَيَلْقَوْنَ يَومَ القِيَامَةِ حِسَاباً شَدِيداً عَسِيراً حِينَمَا يَرْجِعُ النَّاسُ إِلى اللهِ. وَيَومُ القِيَامَةِ يَوْمٌ لاَ يَنْفَعُ النَّاسَ فِيهِ مَالٌ وَلا بَنُونَ. فَمَا بَالُ هَؤلاءِ المُشْرِكِينَ يَسْتَعِجِلُونَ بِالْعَذَابِ، وَيَسْتَهْزِئُونَ بِالوَعِيدِ؟(1/2523)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49)
{ياأيها}
(49) - وَحِينَما اسْتَعْجَلَ الكُفَّارُ وَقُوعَ العَذَابِ بِهٍِمْ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: قُلْ لَهُمْ: إِنَّمًَا أَنَا رَسُولٌ مِنْ رَبِّي أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ نَذِيراً بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، وَلَيْسَ عَلَيَّ مِنْ حِسَابِكُمْ مِنْ شَيءٍ، وَإِنَّمَا أَمْرُكُمْ إِلَى الله إِنْ عَجَّلَ لَكُمُ العَذَابَ، وإِنْ شَاءَ أَخَّرَهُ عَنْكُم، وَإِنْ شَاءَ تَابَ عَلَى مَنْ يَتُوبُ إِلَيْهِ.(1/2524)
فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)
{آمَنُواْ} {الصالحات}
(50) - والذينَ آمَنَتْ قُلُوبُهم، وَصَدَّقُوا إِيَمَانَهُمْ بِأَعْمَالِهِم، فَإِنَّ الله تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُمْ مَا سَلَفَ من سَيِّئَاتِهِمْ، وَتَقْصِيرِهِم، وَيُجَازِيهِم بالحُسْنَى عَلَى حَسَنَاتِهِمْ، وَيُدْخِلُهُم الجَنَّةَ، وَلَهُمْ فِيهَا رِزْقٌ كَرِيمٌ.(1/2525)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
{اآيَاتِنَا} {مُعَاجِزِينَ} {أولئك} {أَصْحَابُ}
(51) - أَمَّا الذينَ بَذَلُوا جُهْدَهُم فِي ررَدِّ دَعْوَةِ اللهِ، والتَكْذِيبِ بِها، وَسَعَوْا فِي صَدِّ النَّاسِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الإِسْلاَمِ، وَسَعَوْا فِي تَعْطِيلِ آيَاتِ اللهِ، وَمَنْعِها مِنْ أَنْ تَفْعَلَ مَفْعُولَها فِي القُلُوبِ، فَأُولَئِكَ أَهْلُ الجَحِيمِ، وإِنْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَ الله وَيَفوتُونَه هَرَباً.(1/2526)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
{الشيطان} {آيَاتِهِ}
(52) - أَوْرَدَتْ بَعْضُ كُتًُب التَّفْسِير فِي أًَسْبَاب نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ قِصَّةً غَريبَةً تُعْرَفُ بِقَصَّةِ الغَرَانِيق. والفُرْنُوقُ طَائرٌ أَبْيْضُ. . وَتَقُولُ القِصَّةُ إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ في مَكَّةَ سُورَةَ النَّجْمِ في حُضُور جَمْعٍ مِنَ المُسْلِمينَ والمُشْرِكِينَ فَلَمّا بَلَغَ في قِراءَتِهِ {أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى} أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ (تِلْكَ الغَرَانِيْقُ العُلَى وإنّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى) فَقَالَ المُشْرِكُونَ مَا ذَكَرَ آلِهَتَنَا بخَيْر قَبْلَ اليَوْم. فَلَمَّا خَتَمَ السّورَة سَجَدَ وَسَجَدُوا. فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وسلم) فَنَزَلَ تَسْلِيَةً لَهُ {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ. . الآيَةَ} .
وَلَكِنَّ عْلَمَاءَ المُسْلِمِينَ الثِّقاتَ (مِثْلَ القَاضِي عِيَاضٍ والفَخْر الرِّازيَّ والقْسْطَلاَّني وابن إٍِسْحَاقٍ والأمام محمد عبده. . الخ يَقُولُونَ إِنَّه لاَ يَجُوزُ عَلَى النَّبيِّ تَعْظِيمُ الأوْثَانِ. وَلَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لارْتفَعَ الأَمَانُ عَن شَرْعهِ، وَجَوَّزْنَا في كُلِّ واحِدٍ مِنَ الأحْكَامِ والشَّرَائع أَنْ يَكُونَ كَذَلِك أي مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ. وَيَقُولُونَ إِنَّ هَذِهِ القِصَّةَ مِنْ وَضْع الزَّنَادِقَِ.
وأفْرَدَ عَالِمُ حَلَب الجَليلُ الشَّيْخُ عَبْدُ الله سِرَاجُ الدِّين فَصْلاً مُطَوَّلاً في كِتَابِه (هَدْي القُرْآن الكريم إلى الحجة والبرهان) لِنَفِي هَذِهِ القِصَّةِ، وَتَأْكِيدِ عَدَم جَوَاز وُقُوعِها.
وَيَتَلَخَّصُ رَأْيُ القَائِلين بِنَفْي القِصَّة في الآتي:
1) - يَمْتَنِعُ في حَقِّ النَّبيَّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَتَمِنَّى أَنْ يَنْزلَ عَلَيْهِ شَيءٌ مِنَ القُرْآنٍِ في مَدْح آلِهةٍ غَيْر الله لأنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ. كَمَا يَمْتَنعُ في حَقِّه أَنْ يتَسَوَّدَ الشَّيْطَانُ عَلَيْه، وَيُشَبِّهَ عَلَيْهِ القُرْآنَ حَتَّى يَجْعَلَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَيَعْتَقِد النَّبيّ أنّ مِنَ القُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْهُ حَتَّى يُفْهمَهُ جِبْرِيلُ ذَلِكَ.
2) - يَمْتَنِعُ بِحَقِّ النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَقُول ذَلِكَ مِنْ قِبَل نَفْسِهِ عَمْداً أَو سَهْواً، فَالنَّبيَّ مَعْصًوُمٌ مِنْ جَرَيَانِ الكُفْر عَلَى لِسَانِهِ أوْ قَلْبهِ عَمْداً أََو سَهْواً، أوْ أَنْ يًَشْتَبِهَ عَلَيْهِ المَلَكُ وَمَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ، أَوْ أَنْ يَكُونَ للشَّيْطَانِ عَلَيْه سَبيلٌ.
3) - وَيَقُولُ العَالِمُ الهنْدِيّ مُحَمَّد عَلي إن قِراءةَ الآيَاتِ مُتَسَلْسِلَةً تُظْهِرَ أنْ لَيْسَ مِنَ المَعْقُولِ أَنْ تُحْشَرَ بَيْنَها آيَاتٌ مُناقِضَةٌ لَها في أَصْلِ العَقِيدَةِ الاسْلاَميَّةِ. وَصُلْب دَعْوَة مُحَمَّد، دَعْوَة التَّوْحِيدِ.
4) - وَيَرى الامَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْدُه أنَّهُ يُمْكِنُ تَفْسِيرُ الآيَةِ بِمَا يَلي:
لَمْ يُرْسِل الله رَسُولاً نَبيّاً إلى قَوْمٍ إلاَّ وتَمنَّى أَنْ يَتَّبعهُ قَوْمُهُ وأنْ يَسْتَجيبُوا لِمَا يَدْعُوهُم إلَيْهِ. وَلَكِنَّ مَا تَمَنَّى نَبَيّ وَلاَ رَسُولٌ هَذِهِ الأمْنِيَة السَّامِيَة إلاّ ألْقَى الشَّيْطَانُ في سَبيلِهِ العَوائِق وأثار الشكوك وَوَسْوسَ في صُدُور النَّاس، لَسْلِبَهُم القُدْرَةَ عَلَى الانْتِفَاع بما وُهِبُوهُ مِنْ قُوَّةِ العَقْل، وسَلاَمَة الفِكرِ، فَثَاروا في وَجْهِ النَّبيِّ وصَدّوهُ عَنْ غَايَتِهِ. فإذَا ظَهَروُوا في بادِئ الأمر ظَنّوا أنَّهُمْ عَلَى الحَقْ، وَلَكِنَّ كَلِمَةَ الله سَتَكُون دَائماً هِي العُلْيا، وَكَلِمِةُ الشَيْطَانُ وأعوانِهِ هِيَ السُفْلى دائماً.(1/2527)
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)
{الشيطان} {الظالمين}
(53) - فَأَمَّا الذينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَشَكٌّ وِنَفَاقٌ، أَوْ انْحِرافٌ (مِنْ المُنافِقِينَ) ، والقاسِيةُ قُلُوبُهُمْ مِنَ اليَهُود والكُفَّارِ والمعانِدِينَ فَيَجِدُونَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الحَالِ مَادَّةً للجَدَلِ واللَّجَاجِ والشِّقَاقِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ.(1/2528)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
{آمنوا} {صِرَاطٍ}
(54) - وَأَمَّا الذينَ أُوتُوا العِلْمَ والمَعْرِفَةَ فَتَطَمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إِلَى بَيَانِ اللهِ، وَحُكْمِهِ الفَاصِلِِ، لأَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بالعِلْمِ الذي أُوتُوهُ بَيْنَ الحَقِّ والبَّاطِلِ، فَيُؤمِنُونَ بالحَقِّ وَيُصَدّقُونَه، وَيَنْقَادُونَ إِلَيْهِ، وَتَخْضَعُ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَتَذِلُّ فَتُخْبِتُ، واللهُ يَهدي الذين آمنوا في الدُّنيا والآخِرَةِ إِلى الطَّريقِ القَوِيمِ.
أمَّا فِي الدُّنْيا فَيُرْشِدُهُمُ إِلَى الحَقِّ وإِلَى اتِّبَاعِهِ، وَيُوفِّقُهم إِلى مُخَالَفَةِ البَّاطِلِ وإِلَى اجْتِنَابِهِ، وفِي الآخِرَةِ يَهْدِيهِم إِلَى الطَّرِيقِ المُوْصِلِ إِلَى الجَنَّةٍ، ويُجَنِّبُهم نَارَ جَهَنَّمَ.(1/2529)
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
(55) - أَمَّا الكُفَّارُ فَيَبْقَونَ فِي شَكٍّ وَتَرَدُّدٍ (مِرْيَةٍ) ، مِنْ هَذَا القُرْآنِ (أو مِمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ) ، وَيَغْتَرُّونَ باللهِ، وَيَبْقَوْنَ كَذِلِكَ إِلى أَنْ يَبْغَتُهْم عَذَابُ يَومِ القِيَامَةِ، وَهُمْ فِي لَهُوِهِم واغْتِرَارِهِمْ.
يَوْمٌ عَقِيمٌ - هُوَ يَوْمُ القِيَامَةِ وسُمِّيَ عَقِيماً لأَنَّه نَهَارٌ كُلُّّهُ لاَ لَيْلَ لَهُ مِرْيَةٍ - شَكَّ وَقَلَقٍ مِنَ القُرْآنِ.(1/2530)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)
{يَوْمَئِذٍ} {آمَنُواْ} {
1649;لصَّالِحَاتِ} {جَنَّاتِ}
(56) - وَفِي ذَلِكَ اليَوْمِ يَكُونَ السُّلْطَانُ القَاهِرُ، والتَّصَرُّفُ المُطْلَقُ للهِ فَيَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ بِعْدْلِهِ، فَلاَ يَظْلِمُ أَحَداً شَيْئاً، وَيَجْزي الذين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِجِنَّاتٍ يَكُونُ لَهُمْ فِيْهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ دَائِمٌ.(1/2531)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
{بِآياتِنَا} {فأولئك}
(57) - أَمَّا الذينَ كَفَرُوا بالحَقِّ، وَجَحَدُوهُ، وَكَذَّبُوا بِهِ، وَخَالَفُوا الرُّسُلَ، وَاسْتَكْبَروا عَنْ اتِّبَاعِهِمْ، فَيَجْزِيهِم اللهُ عَلَى اسْتِكْبَارِهِم وَجُحُودِهِمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ مُخْزٍ فِي نَارِ جَهَّنَّم يُذِلُّهُم وَيُخْزِيهِم.(1/2532)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)
{الرازقين}
(58) - والذينَ هَاجَرُوا فِي سَبيلِ اللهِ تَعَالَى، ابْتَغَاءَ مَْرْضَاتِهِ، وَطَلَباً لِمَا عِنْدَهُ مِنْ أَجْرٍ وَثَوَابٍ، وَتَرَكُوا الأَهْلَ والأوْطَانَ، ثُمَّ قُتِلُوا وَهُمْ يُجَاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللهِ، أَوْ مَاتُوا في مَهْجَرِهِم حَتْفَ أَنْفِهِم، فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُمْ عَلَى اللهِ، وَسَيَجْزِيهِمْ رَبُّهُم الجَزَاءَ الأَوْفَى، وَسَيُجْرِي عَلَيْهِم مِنْ فَضْلِهِ وَرِزْقِهِ فِي الجَنَّةِ لِتَقَرَّ عُيُونُهُمْ، واللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، فَهُوَ تَعَالَى يَرْزُقُ بِغَيْر حِسَابٍ.(1/2533)
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
(59) - وَسَيُدْخِلُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ المُهَاجِرينَ الذينَ عَمِلوا الصَّالِحَاتِ الجَنَّةَ (وهي المُدْخَلُ الذي يَرْضَوْنَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ) ، واللهُ عَلِيم بِمَنْ هَاجَرَ وجَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ الجَزَاءَ الحَسَنَ، وَهُوَ حَلِيمٌ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ، وَيَصْفَحُ عَنِ السَّيِئَاتِ.
مُدْخَلاً - الجَنَّةَ، أو دَرَجَاتٍ رَفِيعَةِ فِيهَا.(1/2534)
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
(60) - وَكَمَا يَعِدُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ المُهَاجِرِينَ بأَنْ يُدْخِلَهم مُدْخلاً كَرِيماً، يَعِدُهم أيْضاً بالنَّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، إِذَا هُمْ قَاتَلُوهُم وَبَغَوْا عَلَيْهمِ. وأَخْرَجُوهُم مِنْ دِيَارِهِمْ.
فالذينَ يَقَعُ عَلَيْهِم العُدْوَانُ مِنَ البَشَرِ قَدْ لاَ يَحْلُمُونَ وَلاَ يَصْبِرُونَ فَيَردُّونَ العُدْوَانَ، وَيُعاقِبُونَ بِمِثْلِ مَا وَقَعَ عَلَيهم مِنْ الأذى، فَإِنْ لَمْ يَكٌفَّ المُعْتَدُونَ عَنْ عُدْوَانِهِم، وَعَادُوا إٍِلَى البَغْي عَلى المَظْْلُومِينَ، تَكَفَّلَ اللهُ عَِنْدَئِذٍ بِنَصْرِ المَظْلُومِينَ عَلَى المُعْتَدِينَ. فَشَرءطُ هَذَا النَّصْرِ أَنْ يَكُونَ العِقَابُ قِصَاصَاً عَلَى اعْتِدَاءٍ، لاَ عُدْوَاناً وَتَبَطُّراً، وَأًَلاَّ يُجَاوِزَ العِقَابُ العدَوانَ الواقِعَ دونَ مُغَالالةٍ. وَمَنْ قَامَ بِرَدِّ الاعْتِدَاءِ الوَاقِعِ عَليهِ، وَلَمْ يَغْفِرْ فَإِنَّ اللهَ يَعْفُو عَنْه، وَيَغْفِرُ لَهُ لأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ العَفُوُّ الغَفُورُ.
(نَزَلَتْ هذِهِ الآيَةُ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَقِيَتْ جَمَاعَةً مِنَ المُشْرِِكِينَ فِي شًَهْرِ محَرَّمٍ، فَنَاشَدَهُمُ المُسْلِمُون لَئِلا يُقَاتِلُوا في الشَّهْرِ الحَرَامِ فَأَبَى المُشْرِكُون إِلاَّ قِتَالَهُمْ، فَقَاتَلُهُمُ المُسْلِمُونَ ونَصَرَهُمُ اللهُ عَلَيهم) .(1/2535)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
{الليل} {الليل}
(61) - يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى النَّاسُ إِلَى أَنَّهُ الخَالِقُ المُتَصَرِّفُ في خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، فَهُو القَادِرُ عَلَى نَصْرِ المَظْلُوم الذِي بُغِيَ عَلَيْهِ، وَنَصْرُهُ هَيِّنٌ عَلَيهِ، كَمَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى جَعْلِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ مُتَدَاخِلَيْنِ مُتَتَالِيَيْنِ، يَتَنَاوَبَانِ الطُّولَ والقِصَرَ، وَفِي ذلِكَ آيةٌ وَدَلاَلَةٌ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى. وَلكِنَّ النَّاسَ يَمُرُّونَ عَلَى هذِهِ الآياتِ غَافِلِينَ. واللهُ سَمِيعٌ لأَقْوَالِ. العِبَادِ بَصِيرٌ بِأَحْوَالِهِمْ.
يولج - يُدخِل.(1/2536)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
{الباطل}
(62) - وَذلكَ الاتِّصَافُ بكَمَالِ القُدْرَةِ، وَكَمَالِ العِلْمِ، إِنَّمَا كَانَ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الإِلهُ الحَقُّ الذِي لا تَنْبَغِي العِبَادَةُ إِلاَّ لَهُ لأَنَّهُ ذُو السُّلْطَانِ، فَمَا شَاءَ كَانَ. وَكُلُّ شَيءٍ فَقِيرٌ إِليهِ ذَليلٌ لَدَيهِ، وَإِنَّ الأَصْنَامَ التِي يَدْعُونَها، والأًَوْثَانَ التِي يَعْبُدُونها مِنْ دُونِ اللهِ هيَ بَاطِلٌ لأَنَّها لاَ تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا ضَرّاً وَلا نَفْعاً، واللهُ تَعَالى هُوَ العَليُّ الكَبيرُ، وَكُلُّ شَيءٍ تَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلطَانِهِ وَعَظَمَتِهِ، لاَ شَيءِ أَكْبَرُ منهُ وَلا شَيءَ أَعْلَى مِنْهُ.(1/2537)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)
(63) - وَمِنْ دَلائِلِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى، وَعَظِيمِ شَأْنِهِ أَنَّهُ يُنْزِلُ المَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْضَرُّ الأَرْضُ، وَتُنْبِتُ بِالنَّبَاتِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مِيِّتَةً. وَمِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى أَنْ تَتَحَرَّكَ النَّبَاتَاتُ في بَاطِنِ الأَرْضِ ثُمَّ تَشُقُّها وَتَخْرُجُ مِنْهَا. وَهُوَ عَلِيمٌ بِجِميعِ مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ، لاَ تَخْفَى عَلَيهِ خَافِيةٌ، وَهُوَ تَعَالَى لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، خَبِيرٌ بِمَصَالِحِ خَلْقِهِ فَيُدَبِّرُها وَيَتَوَلاّهَا بِعِنَايِتِهِ.(1/2538)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
{السماوات}
(64) - وَجَميعُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ للهِ: خَلَقَهُ وَدَبَّرَهُ وَنَظِّمَهُ وَأَمَّنَ زِرْقَهُ، وَهُوَ غَنيٌّ عَنْ جَميعِ مَخْلُوقَاتِهِ، مَحْمودٌ في جَميعَ أَحْوَالِهِ وأَفْعَالِهِ وَقَضَائِهِ.(1/2539)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)
{لَرَءُوفٌ}
(65) - وَمِنْ إِحْسَانِه تَعَالَى وَفَشْلِهِ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُ سَخَّرَ لَهُمْ جَمِيعَ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ وَنَبَاتٍ لِيَنْتَفِعُوا بهِ، وَسَخَّرَ لَهُمُ المَرَاكِبَ التِي تَسيرُ في البَحْرِ، وَتَنْقُلُ النَّاسَ وَمَتَاعَهُمْ وَدَوابَّهُمْ مِنْ مَكَانٍ إِلى آخَرَ وَرَفَعَ السَّمَاءَ بِقُدْرَتِهِ وَأَمْسَكَهَا وَمَنَعَها بِلُطْفِهِ مِنْ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ، وَلَوْ شَاءَ لأَذِنَ لَهَا فَسَقَطَتْ عَلَى الأَرْضِ فَدَمَّرَتْها وَأَهْلَكَتْ مَنْ فِيها، وَلَكِنَّ الله رَؤُوفٌ بالنَّاسِ رَحيمٌ يَحْلُمُ عَلَيْهِمْ، وَيَرْأَفُ بِحَالِهِم، مَعَ ظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَاسْتِكْبَارِهِمْ.(1/2540)
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
{الإنسان}
(66) - فَكَيفَ يَجْعَلُونَ للهِ أَنْدَاداً، وَتَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَهُوَ المُسْتَقِلُّ بالخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالتَّصَرُّفِ، وَقَدْ أَوْجَدَكُمْ الحَيَاة، وَلَمْ تَكُونَوا شَيئاً، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ مِيتَةَ الحَقِّ الاتِي فَرَضَها عَلَى جَميعِ خَلْقِهِ، ثُمّ يُعِيدُ خَلْقَكُمْ مِنْ جَديدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُجَازِيَ كُلَّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبتَ، وَلكِنَّ الإِنْسَانَ يَرَى كُلَّ ذَلِكَ وَيُدْرِكُهَ، إِلاَّ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِرَبِّهِ، وَيَجْحَدُ بِآلائِهِ لأَنَّهُ كَثيرُ الكُفْرِ، شَدِيدُ الجُحُودِ.(1/2541)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
{فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ}
(67) - وَلَقَدْ جَعَلْنَا لِكُلِّ أُمَّةٍ، مِنَ الأُمَمِ ذَاتِ الشَّرائعِ السَّابِقَةِ، شَرْعاً وَمِنْهاجاً (مَنْسَكاً) ، يَسِيرونَ عَليه، وَيَعْمَلُونَ بِهٍِ وَيَعْبُدُونَ الله وَفْقَهُ إِلى أَنْ يَنْسَخَهُ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ، فَقَدْ جَعَل اللهُ التَّورَاة شَرِيعةً لِلْيَهُودِ حَتَّى مَبْعَثِ عِيسَى عَلَيِهِ السَّلامُ، وَجَعَلَ الإِنْجِيلَ شِرْعَةً للنَّصَارَى حَتَّى مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ، وَجَعَلَ القُرآنَ شِرْعَةً لِلْمُسْلِمينَ لأنَّه نَسَخَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الشَّرائِع، فَلا تَتْرُكْ يَا مُحمَّدُ هؤُلاءِ المُتَمَسِّكِينَ بِالشَّرائِعِ المَنْسُوخَةِ يَصْرِفُوكَ، بِمُنَازَعَتِهِمْ لَكَ، عَنِ الحَقِّ الذِي أَنْتَ عَلَيْهِ، وَتَابعْ طَرِيقَكَ، وَأدِّ مَهَمَّتَكَ فِي إِبلاغِ الدَّعْوةِ للنَّاسِ فَإِنَّكَ عَلَى طَرِيقِ الهُدَى المُسْتَقِيمِ الوَاضِحِ.
مَنْسَكاً - شَرِيعَةً خَاصَّةً أَوْ نُسْكاً وِعِبَادَةً.(1/2542)
وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68)
{جَادَلُوكَ}
(68) - فَإِذا جَادَلَكَ هؤلاءِ الضَّالونَ فَاخْتَصِرِ الجَدَلَ مَعهُمْ، لأَنَّهُمْ لا يَسْعَوْنَ إلى الاسْتِيضَاحِ وَالتَّعَلُّم، وَإِنَّما يُجَادِلونَكَ تَعَنُّتاً، وَقلْ لَهُمْ: اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَبِمَا تَرْمُونَ إِليهِ مِنْ جَدَلِكُمْ، وَهُوَ تَعَالَى يُحْصِي عَلَيْكُمْ أَعْمَالَكُمْ، وَيُحَاسِبُكُم عَليها جَميعاً.(1/2543)
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
{القيامة}
(69) - وَاللهُ يَجْمعُ النَّاسَ جمِيعاً يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَحْكُمُ بِعَدْلِهِ بَيْنَهُمْ وَسَيَحْكُمُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ هؤلاءِ الضَّالينَ فِيما اخْتَلَفْتُمْ فِيه مِنْ أَمورِ الدِّينِ، فَيَتَبَيَّنُ المُحِقُّ مِنَ المُبطِل.(1/2544)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
{كِتَابٍ}
(70) - يَلْفِتُ اللهُ تَعَالَى نَظَرَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَظَرَ النَّاسِ، إِلَى أَنَّهُ هُوَ الذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ، وَخَلَقَ جَمِيعَ مَا فِيهِما مِنْ مَخْلُوقَاتٍ، وَهُوَ عَالِمٌ بِحَالِ كُلِّ مَخْلُوقٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، وَقَدْ سَطَّرَ كُلَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ لَدَيْهِ (اللوح المَحْفُوطِ أو أُمِّ الكِتَابِ) ولَيْسَ ذَلِكَ صَعْباً عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى، وهِيَ قُدْرَةٌ لاَ حُدُودَ لَهَا.(1/2545)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
{سُلْطَاناً} {لِلظَّالِمِينَ}
(71) - وَيَعْبُدُ هؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ أَصْنَاماً وأَوْثَاناً وَأَنْدَاداً مِنْ دُونِ اللهِ، لَيْسَ لَهُمْ فِي عَِبَادَتِها حُجَّةٌ وَلاَ بُرْهَانٌ، وَلاَ عِلْمَ لَهُمْ فِيمَا اخْتَلَقُوهُ، وَفِيمَا ادَّعَوْهُ، وإِنَّمَا نَقَلُوه عَِنْ أَسْلاَفِهِمْ، فَسَارُوا عَلَيْهِ بِدُونِ تَمْحِيصٍ، وَلاَ إِعْمَالِ عَقْلٍ فِيهِ، وَيَتَوَعَّدُهٌمْ اللهُ تَعَالَى عَلَى كُفْرِهِمْ هَذَا بِأَنَّ الظَّالِمِينَ لَنْ يَجِدْوا لَهُمْ مِنْ يَنْصُرُهُم مِنَ اللهِ فِيمَا يَحٍِلُّ بِهِمْ مِنَ العَذَابِ والنَّكَالِ يضوْمَ القِيَامَةِ.
سُلْطَاناً - حُجَّةً وَبُرْهاناً.(1/2546)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
{آيَاتُنَا} {بَيِّنَاتٍ}
(72) - وَإِذَا قُرِئَتْ عَلَى هَؤُلاَءِ المًُشْرِكِينَ، العَابِدِينَ غَيْرَ اللهِ، آيَاتُ القرآنِ البَيِّنَاتُ، وَذُكِّرُوا بِمَا فِيهَا مِنْ حُجَج وَبَرَاهِينَ، وَدَلاَئلِ عَلَى وُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيتِهِ، وَعَظَمَتِهِ، تَتَبَدَّلُ مَلاَمِحُ وُجُوهِهِمْ، وَتَثُورُ نُفُوسُهم وَيَهُمُّونَ بِالبَطْشِ بالذين يَقْرَؤُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللهِ، وَيَذُكِّرونَهُمْ بِهَا، وَيَكَادُونَ يُبَادِرُونَهم بالضَّرْبِ والشَّتْمِ (يَسْطُونَ بِهِمْ) .
فَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ: إِنَّ النَّارَ التِي أَعَدَّها اللهُ للكَافِرِينَ لِيُذِّبَهُمْ فِيهَا هِيَ أَشَدَّ وَأَقْسَى وَأَعْظَمُ مِمَّا تُخَوِّفُونَ بِهِ أولِياءَ اللهِ المُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا؛ وَبِئْسَ النَّارُ مَنْزِلاً وَمُقَاماً وَمَصِيراً، يَوْمَ القِيَامَةِ، للذين كَفَرُوا.
المُنْكَر - الأًَمْرُ المُسْتَقْبَحُ.
يَسْطُونَ - يَثُبِوهَ وَيَبِطشُونَ غَيْظَاً وَغَضَباً.(1/2547)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
{ياأيها}
(73) - يُنَبِّهعُ الللهُ تَعَالَى إِلَى تَفَاهَةِ الأَصْنَامِ، وَسَخَافَةِ عُقُولِ عَادِيِههَا، فَيَقُوللُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ جَعَلَ المُشْرِكُونَ لِي أَششْبَاهاً وَأَنْدَاداً مِنَ الأَصْنَامِ والأأَوْثَانِ التي يَعبُدُونَهَا ممَعِي، فَأَنْصِتُوا وَتَفَهَّمُوا حَالَ هََؤلاَءِ المَعْبُودِينَ: لَوْ اجْتتَمَعَ جَمِيعُ مَنْ يَعْبُدُهُم البَشَرُ مِنْ دُون اللهِ عَلَى أَنْْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً لَمَا اسْتَطَاعُوا، وَلََعَجُزُوا عَنْ ذَلِكَ، وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مُقُاوَمَةِ الذُّبَابِ إِذَا سَلَبُهُمْ شَيئاً مِمَّا عًَلَيْهِمْ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ أَرَادُوا اسْتِنْقَاذَهُ مِنْهُ لِمَا قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ، فَإِذًَا عَجَزَ هَؤُلاءِ عَنْ خَلْقِ الذُّبَابِ، وَعَنْ مُقَاوَمَتِهِ، وَهُوَ من أَضْعَفِ مَا خَلَقَ اللهُ، فَهُمْ أَعْجَزُ عَنِ الإِتْيَانِ بِشيءٍ آخَرَ، فَكَيْفَ يَعْبُدُهم عَاقِلٌ؟ ضَعُفَ الصَّنَمُ الطَّالِبُ، وَضَعُفَ الذُّبَابُ المَطْلُوبُ.(1/2548)
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
(74) - مَا عَرَفَ هَؤُلاءِ المُشْرِكُونَ قَدْرَ الله وَعَظَمَتَهُ حِينَ أَشْرَكُوا مَعَهُ فِي العِبَادَةِ سِوَاهُ مِنَ الأَصْنَامِ التِي لاَ تَسْتْطيعُ مُقَاوَمَةَ الذُّبَابِ لِضَعْفِهَا وَعَجْزِها. واللهُ هُوَ القَادِرُ الذِي خَلَقَ الكَوْنَ وَكُلَّ مَا فِيهِ، وَلاَ يُعْجِزُه خَلْقٌ وَلاَ مَخْلُوقٌ، وَهُوَ العَزِيزُ الذي لا يَضام وَلاَ يُرَامُ.
مَا قَدَرُوا الله - مَا عَظَّمُوه، أَوْ مَا عَرَفُوه.(1/2549)
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)
{الملائكة}
(75) - اقْتَضَتْ مَشِيئَةُُ اللهِ تَعَالَى أَنْ يَخْتَارَ رُسُلاً مِنَ مَلاَئِكَتِهٍِ الكِرَامِ، فِيمَا يَشَاءُ إِبْلاَغَههُ إِلى رُسُُلِهِ مِنَ البَشَرِ، وَأَنْ يَخْتَارًَ رُسُلاً مَنَ البَشَرِ لإِبْلاَغِ رسَالاَتِه إِلَى النَّاسِ، فَكَيْفَ تَقْتَرِحُونَ عَلَى مَنْ اخْتَارَهُ اللهُ رَسُولاً إِلَيْكُمْ؟ وَاللهُ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ العِبَادِ، بَصِيرٌ بِأَحْوَالِهِمْ. عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْهُم أَنْ يَخْتَارَ رُسُلاً مَنَ البَشَرٍ لإِبْلاَغِ رسًَالاَتِه إِلى النَّاسِ، فَكَيْفَ تَقْتَرِحُونَ عَلَى مَنْ اخْتَارَهُ اللهُ رَسُولاً إِلَيْكُمْ؟ وَاللهُ سَمِيعٌ لأَقْوَالِ العِبَادِ، بَصِيرٌ بِأْحْوَالِهِمْ. عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْهُم أَنْ يَخْتَارَهُ اللهُ لِحَمْلِ رِسَالَتِهِ.(1/2550)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
(76) - يَعْلَمُ اللهُ تَعَالَى مَا يَفْعَلُهُ رُسُلُه وَمَلاَئِكَتُهُ فِيمَا أَرْسَلَهُم بِهِ، فَلاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ مِنْ أُمُورِهِمْ، فَهُوَ سُبْحَانَه رَقِيبٌ عَلَيْهِم، شَهِيدٌ عَلَى مَا يُقَالُ لَهُمْ، حَافِظٌ لًَهُمْ وَنَاصِرٌ. وَإِلَيهِ تَعَالَى يَرْجِعُ أَمْرُ الخَلْقِ كُلِّهِم يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُحَاسِبُهُم ويَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ.(1/2551)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
{ياأيها} {آمَنُواْ}
(77) - يأمُر اللهُ المؤمِنِينَ بِعِبََادَتِهِ، وَبِإِقَامَةِ الصَّلاةِ، وَبِالرُّكُوع والسجُودٍِِِ له، وَبِفِعْلِِ الخَيْرِ، لَعَلَّ ذَلِكَ يُوصِلُُهُمْ إلَى الخَيْرِ، لَعَلََّ ذَلِكَ يُوصِلُهُمْْ إِلَى الخَيْرِ واللفَلاََحِ فيِ الدُّنْيَا والآخِرَةِِ.(1/2552)
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
{وَجَاهِدُوا} {اجتباكم} {إِبْرَاهِيمَ} {سَمَّاكُمُ} {الصلاة} {وَآتُواْ} {الزكاة} {مَوْلاَكُمْ}
(78) - يَأَمُرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بٍِالجِهَادِ وأَخْلَصَهُُ: بِالأَمْوَالِ والأَنْفْسِ والألْسِنَةِ، فَقَدْ اصْطفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، واخْتَارَهُمْ عَلَى مَنْ سَِِوامهُم، وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ مَا لاَ يُطِيقُونَ، وَلَمْْ يُضَيِّقِ اللهُ عَلَيْهِمِ فِي شَيْءٍٍ مِنْ أُمورِ دِينِِهمِ، بَلْ وَسَّع عَلَيهم، فِي شَيْءِ مِنْ أُمورِ دِيِنهِم، بَلْْ وَسَّعَ عََلَيْهِمِ، كَمَا وَسَّعَ فِي مِلّةِ إبْرِاهيِمَ عَلَيْهِم فِي شَيْءٍ مِنْ أُمورِ دِيِنِهم، بَلْ وَسَّعَ عَلَيْهم، كَمَا وَسَّعَ فِي مِلَّةِ إِبْرِاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامَمُ (وَنَصَبَ مِلَّةِ) عَلَى تَقْدِيرِ الزَمُوا مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ) ، وَقَدْ سَمَّاهُم اللهُ تَعَالَى بِالمُسْلِمين فِي شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ وَفِي الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ، وَفي هَذَا القُرْآنِ (مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا) . وَقَدْ جَعَلَ اللهُ المُسْلِمِينَ أُمَّةً وَسَطاً عُدُولاً لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمِ القِيَامَةِ، لأَنَّ النَّاسَ جَمِيعاً يَعْتَرِفُونَ بِفَضْلِ المُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ، فَلِهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهِمِ، فِي أَنَّ الرُّسُلَ أَبْلَغَتَهُم رِسَالَةَ أَبْلَغَتْهُم رِسَالَةَ رَبِّهِمْ، والرَّسُولُ يَشْهَدُ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ أَنَّهُ أَبْلَغَهَا مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيهِ، فَلْيُقَابِلِ المُسْلِمُونَ هَذِهِ النِعْمَةَ العَظِيمَةَ بالقِيَامِ بِشُكْرِ اللهِ عَلَيهَا، وَأداءِ حَقِّ اللهِ فِيمَا فَرَضَهُ عَلَيْهِم، ومِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ إقَامَةُ الصَّلاَةِ وأداؤها حَقَّ أَدَائِها، وَدفْعُ الزَّكَاةِ، والاعْتِصَامُ بِاللهِ، وَالاسْتِعَانَهُ بِهِ، والاتِّكَالُ عَلَيْهِ، فَهُوَ مَوْلاَهُمْ وَحَافِظُهُمْ وَنَاصِرُهُمْ، وَهُوَ نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّاصِر عَلَى الاَعْداءِ.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ - " بُعِثْتُ بالحَنِيفيَّةِ السَّمْحَةِ ") . " وَأَوْصَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُعَاذَ بنَ جبَلٍ وَأَبَا مُوسَى حِينَما بَعَثَهُمَا أمِيرَيْنَ عَلَى اليَمَنِ فَقَالَ لَهُمَا:
بَشِّرِا وَلاَ تُنَفَّرَا، وَيَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرا ".
الجِهَادُ - بَذْلُ الجُهْدِ فِي مُدَافَعَةِ العَدُوِّ.
هو اجْتَبَاكُم - اخْتَارَكُم لِدِينِهِ وعِبَادَتِهِ ونُصْرَتِهِ.
حَرَجٌ - ضِيقٌ بِتَكْلِيفٍ يَشُقُّ وَيَعْسُرُ.
هُوَ مَوْلاَكُم - مَالِكُكُمْ وَنَاصِرُكُمْ ومُتَولِّي أُمْرِكُمْ.(1/2553)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
(1) - لَقَدْ فَازَ المُؤْمِنُونَ المُصَدِّقُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ، وسَعِدُوا وَأَفْلَحُوا الإِفْلاَحُ - الفَوْزُ بِالبُغْيَةِ بَعْدَ سَعْيٍ واجْتِهَادٍ.(1/2554)
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
{خَاشِعُونَ} (2) - الذين خَشَعَتْ قُلُوبُهم وَخَافَتْ مِنَ اللهِ، وَسَكَنَتْ. والخُشُوعُ فِي الصَّلاَةِ إِنَّمَا يَحْصلُ لِمَنْ فَرَغَ قَلْبُه لَهَا، وَاشْتَغَلَ بِها عَمَّا سِوَاهَا، وَآثَرَهَا عَلَى غَيْرِها، وَحِينَئذٍ تَكُونُ رَاحةً لَهُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ.
خَاشِعُونَ - مُتَذَلِّلُونَ خَائِفُونَ سَاكِنُون.(1/2555)
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
(3) - والذِينَ يَنْصِرِفُونَ إِلَى الجِدِّ، وَيُعْرِضُونَ عَمَّا لاَ فَائِدَةَ مِنْهُ مِنَ الأَفْعَالِ والأَقْوالِ (اللَّغْوِ) . وَقَدْ وَصفَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: {والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} أَيْ إِنَّهُمْ لاَ يَتَوقَّفُونَ وَلاَ يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ.
اللَّغْوِ - مَا لاَ يَجْمُل ِنَ القَوْلِ والفِعْلِ.
{لِلزَّكَاةِ} {فَاعِلُونَ}(1/2556)
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)
(4) - وَالذينَ يُطَهِّرًُونَ أَنْفُسَهُم بِتَأْدِيَةِ زَكَاةِ أَمْوالِهِمْ. وَهَذِهِ الآيَةُ مَكَّيَّةٌ، وَزَكَاةُ المَالِ فُرِضَتْ فِي المَدِينَةِ، لِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُم: إِنَّ المَقْصُودَ بالزَّكَاةِ هُنَا زَكَاةُ النفْسِ مِنَ الشِّرْكِ والدَّنَسِ. (وَيَرَى ابنُ كَثِيرٍ: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ المَقْصُودُ بِهَا كِلاَ الأَمَريْنِ، زَكَاةَ النفْسِ وطَهَارَتَهَا، وزكَاةً الأَمْوَالِ لأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ زَكَاةِ النَّفْسِ) .(1/2557)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)
{حَافِظُونَ}
(5) - والذينَ يَحْفَظُونَ فُرُوجَهُم فَلاَ يُقَارِفُونَ مُحَرَّماً، وَلاَ يَقَعُونَ فِيمَا نَهَاهُم اللهُ عَنْهُ مِنْ زَنىً وَغَيْرِهِ.(1/2558)
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)
{أَزْوَاجِهِمْ} {أَيْمَانُهُمْ}
(6) - وَلاَ يَقْرَبُونَ سِوَى مَا أَحَلَّ اللهُ لَهُمْ مِنْ أَزْوَاجٍِههِمْ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْْمَانُهم مِنْ إِمَاءٍ، وَمَنْ بَاشَرَ مَا أَحَلَّّ اللهُ لَهُ فَهُوَ غَيْرُ مَلُومٍ فِي ذَلِكَ.(1/2559)
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)
{فأولئك}
(7) - فَمَنْ تَجَاوَزَ مَا أَحَلَّ اللهُ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الحَرَامِ، فَهْوَ مِنَ المُعْتَدِينَ، المُتَجَاوِزِينَ حُدُودَ مَا شَرَعَ اللهُ.
العادُونَ - المُعْتَدُونَ المُتَجَاوِزُونَ الحَلاَلَ إِلَى الحَرَامِ.(1/2560)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)
{لأَمَانَاتِهِمْ} {رَاعُونَ}
(8) - وَالذينَ إِذَا ائْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا أَمَانَاتِهم، بَلْ يُؤَدُّونَها إِلى أَهْلِهَا، وإِذَا عَاهَدُوا أو عَاقَدُوا أَوْفُوا بِذَلِكَ، وَلَمْ يَخُونُوا وَلَمْ يَغْدُرُوا، وَبقوا مُحَافِظِينَ عَلَى عُهُودِهِمْ وأَمَانَاتِهِمْ وعُقُودِهِمْ.(1/2561)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)
{صَلَوَاتِهِمْ}
(9) - والذينَ يُداوِمُونَ عَلَى أَدَاءِ صَلَوَاتِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ، يُؤَدُّونَها فِي مَوَاقِيتِهَا، ويَتِمُّونَها بِخُشُوعِها، وسُجُودِها، حَتَّى تُؤدِّي المَقْصُودَ مِنْهَا، وَهُوَ خَشْيَةُ اللهِ، والانْتِهَاءُ عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ.(1/2562)
أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)
{أولئك} {الوارثون}
(10) - وَبَعْدَ أَنْ عَدَّدَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أوصَافَ المُؤْمِنِينَ الحَمِيدَةَ قَالَ إِنَّ الذينَ اتَّصَفُوا بهذِهِ الصِّفَاتِ الرَّفِيعَةِ يَرِثُونَ الجَنَّةَ، وَيَتَبَوَّءُونَ أَعْلَى مَرَاتِبها، جَزاءً لَهُمْ عَلَى مَا زَيَّنُوا بِهِ أَنْفُسَهُم مِنَ الصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ، والآدَابِ العَاليَةِ، وَيَبْقَونَ فِيها خَالِدِينَ أَبَداً.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَ وَلَهُ مَنْزِلانِ: مَنْزِلٌ فِي الجَنَّةِ، وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ. فَإِنْ مَاتَ وَدَخَلَ النَّارَ وَرِثَ أَهْلُ الجَنَّةِ مَنْزِلَهُ، فَذَلِكَ قَوْلَه تَعَالَى: {أولئك هُمُ الوارثون} " (أَخْرَجَه ابنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبي هُرَيْرَة) .(1/2563)
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
{خَالِدُونَ}
(11) - فَهَؤُلاءِ المُؤْمِنُونَ هُمُ الذينَ يَرِثُونَ مَنَازِلَ الكُفَّارِ فِي الجَنَّةِ، وَيْبْقَونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً. وَجَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ " إِذَا سَأَلْتُم الله الجَنَّةَ فَاسْألوهُ الفِرْدَوْسَ فَإِنَّه أَعْلَى الجَنَّةِ وأَوْسَطُ الجَنَّةِ، وَمِنْهُ تُفَجِّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ "(1/2564)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)
{الإنسان} {سُلاَلَةٍ}
(12) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ بَدْءِ خَلْقِ الإِنْسَانِ فَيَقُولُ: إِنَّهُ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ، أَيْ إِنَّ الله تَعَالَى اسْتَلَّهُ مِنَ الطِّينِ، وفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى المُوجِبَةِ لِلإِيْمَانِ بِهِ.
السُلاَلَةُ - مَا اسْتُلًَّ مِنَ الشيء واسْتُخْرِجَ مِنْهُ أو خُلاَصَتُهُ.(1/2565)
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)
{جَعَلْنَاهُ}
(13) - ثُمَّ جَعَلَ اللهُ نَسْلَ آدَمَ مُتَحَدِّراً مِنْ نُطْفَةٍ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ضَعِيفٍ (مَهِينَ) ، فَتَخْرُجُ النُطْفَةُ مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَسْتَقِرُّ فِي رَحِمِ الأُنْثَى، وَتَكُونُ النُطْفَةٌُ فِي حِرْزٍ حَصِينٍ فِي وَقْتِ الحَمْلِ، إِلى حِينِ الوِلاَدَةِ.
والرَّحِمُ مَحْفُوظٌ بِعِظَامِ الحَوْضِ.
قَرَارٍ مَكِينٍ - مُسْتَقِرٍّ مُتَمَكِّنٍ وَهُوَ الرَّحِمُ.(1/2566)
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
{عِظَاماً} {العظام} {أَنشَأْنَاهُ} {آخَرَ} {الخالقين}
(14) - ثُمَّ صَيَّرَ النُطْفَةَ عَلَقَةً مِنْ دَمٍ؟ ثُمَّ صَيَّرَ العَلَقَةَ مُضْغَةً - أَيْ قِطْعَةً مِنْ لَحْمٍ بِقَدَرِ مَا يُمْضَغُ - ثُمَّ أَعْطَى هَذِهِ المُضْغَةَ شَكْلَ المَخْلُوقِ، فَإَخَذَ فِي إِظْهَارِ الرأسِ واليَدَيْنِ والرِّجْلَيْنِ وَمَلاَمِحِ الوَجْهِ. وَخلَقَ العِظَامَ وَكَسَاهَا لَحْماً، ثُمَّ جَعَلَ هذَا الجَنْينَ خَلْقَاً آخر بَعْدَ وِلاَدَتِهِ. ذَا سَمْعٍ وَبَصَرٍ وَصَوْتٍ وَحَرَكَةٍ وَإِدْرَاكٍ، مَغايِراً لِمَا كَانَ عَلَيْهِ فِي بَدْءِ تَكَوِينِهِ، ثُمَّ يَتَطَّورُ فِي النُمُوِّ. فَتَبَارَكَ اللهُ، وَتَنَزَّهَ عَلَى هَذِهِ القُدْرَةِ، وَعَلَى هَذَا الخَلْقِ.
عَلَقَةً - دَماً مُتَجَمِّداً.
مَضْغَةً - قِطْعَةَ لَحْمٍ قَدْرَ مَا يُمْضَغُ.
خَلْقاً آخَرَ - مُبَايِناً للأَوَّلِ بِنَفْخِ الرُّوحِ فيهِ.
أَحْسَنُ الخَالِقِينَ - أَتْقَنُ الصَّانِعِينَ والمُصَوِّرِينَ.(1/2567)
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)
(15) - وَبَعْدَ هَذِهِ النشْأةِ الأُوْلى مِنَ العَدَمِ، تَصِيرُونَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِلى المَوْتِ لاَ مَحَالَةَ.(1/2568)
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
{القيامة}
(16) - ثُمَّ يُعِيدُ اللهُ إِنْشَاءَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَبْعَثُكُم مِنْ قُبُورِكُم لِيُحَاسِبَ كُلَّ مَخْلُوقٍ عَلَى عَمَلِهِ.(1/2569)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
{طَرَآئِقَ} {غَافِلِينَ}
(17) - وَبَعْدَ أَنْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى خَلْق الإِنْسَانِ وَمَوْتِهِ وَبَعْثِهِ، أَشَارَ إِلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، وَمَا أَبْدَعَ فِيهِنَّ. فَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ خَلَقَ سَبْعَ طَرَائِقَ؛ وَهذِهِ الطَّرَائِقُ تَعني السماوات السَبْعَ - وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ} وَهَذِهِ الطرَائِقُ السَبْعُ كَائِنَةٌ فَوْقَ الأَرْضِ، أَوْ تُحِيطُ بِالأَرْضِ، بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، أَوْ خَلْفَ بَعْضٍ، وَقَدْ خَلَقَهَا الله بِحِكْمَةٍ وَتَدْبِيرٍ، وَحَفِظَها بِنَامُوسٍ مَحْفُوظٍ فَهِيَ مُتَنَاسِقَةٌ فِي وَظَائِفِهَا وَفِي اتِّجَاهِهَا، وَحَكَمَها بِنَامُوس وَاحِدٍ، وَكُلُّهَا تَتَعَاوَنُ فِي أَدَاءِ وَظَائِفِهَا، وَلَمْ يَكُن اللهُ تَعَالَى غَافِلاً عَمَّا خَلَقَ فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ، ولَوْ أَهْمَلَ الخَلْقَ لاخْتَلَّ تَوازُنُهُ واضْطَرَبَ فِي سَيْرِهِ.(1/2570)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
{فَأَسْكَنَّاهُ} {لَقَادِرُونَ}
(18) - يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَطَراً (مَاءً) ، بِحَسَبِ الحَاجَةِ إِلَيْهِ، لاَ كَثِيراً فَيُفْسِدُ الأَرْضَ والعُمْرَانَ، وَلاَ قَلِيلاً فَلاَ يَكْفِي الزُّرُوعَ والثِّمَارَ (بِقَدَرٍ) ، وَيَسْتَقِرُّ هَذَا الماءُ فِي الأَرْضِ. . وَجَعَلَ فِي الأَرْضِ اسْتِعْدَاداً للانْتِفَاعِ بِهِ لإِخْرَاجِ النَّبَاتِ والثِّمَارِ والزُّرُوعِ. وَلَوْ شَاءَ اللهُ أَنْ لا تُمْطِرَ السَّمَاءُ لَفَعَلَ، وَلَوْ شَاءَ اللهُ صَرْفَ المَطَرِ عَنِ النَّاسِ إِلَى الأََرَاضِي السَّبخَةِ التي لاَ تُنْبِتُ لَفَعَلَ، وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ مِلْحاً يُضِرُّ بالأرْضِ والنَّبَاتِ ولا يُنْتَفعُ بِهِ لَفَعَلْ. وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ يَغُورُ فِي الأَرْضِ فَلاَ يُوصَلُ إِلَيْهِ لَفَعَلَ ذَلِكَ أيضاً. وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بِلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمُ المَطَرَ عَذْباً فَيُسْكِنُهُ فِي الأَرْضِ وَيَسْلكُهُ يَنَابِيعَ فِيها فَيَفْتَحُ العُيُونَ والأَنْهَارَ، وَتُسْقَى بِهِ الزُّرُوعُ والثِّمَارُ، تَشْرَبُونَ مِنْهُ أَنْتُم وَدَوَابُّكُم وأَنْعَامُكُمْ وَتَسْتَعمِلُونَه فِي طُهُورِكُم وَنَظَافَتِكُم فِللَّهِ الْحَمْدُ والمِنَّةُ
بِقَدَرٍ - بِمقْدَارِ الحَاجَةِ والمَصْلَحَةِ.(1/2571)
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)
{جَنَّاتٍ} {وَأَعْنَابٍ} {فَوَاكِهُ}
(19) - فَأَخْرَجَ اللهُ بِهَذَا المَاءِ الذي أَنْزَلَهُ مِنَ السمَاءِ بَسَاتِينَ وَحَدَائِقَ (جِنَّاتٍ) ، فِيهَا النَّخِيلُ والأَعْنَابُ والزَّيْتُونُ مِنَ الفَوَاكِهِ الكَثِيرَةِ التِي يَأْكُلُهَا النَّاسُ، وَيَتَمتَّعُونَ بِهَا.
{لِّلآكِلِيِنَ}(1/2572)
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
(20) - وَيُخْرِجُ اللهُ تَعَالَى بِهَذَا الماءِ أيضاً شَجَرَةَ الزَّيْتُونِ، وَهِيَ شَجَرَةٌ تَنْبُتُ فِي جَبَلِ طُورِ سينَاءَ، الذي كَلَّمَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ. وَشَجَرَةُ الزَيْتُونِ المُبَارَكَةُ يُسْتَخْرَجُ مِنْ ثَمَرِهَا الزَّيْتُ (تَنْبُتُ بالدُّهْنِ) ، وَيَكُونُ زَيْتُها إِدْماً يُؤْتَدَمُ بِهِ فِي الطَّعَامِ (وَصِبغٍ لِلآكِلِينَ) .
(وَفِي الحَدِيثِ: " كُلوا الزَّيْتَ وادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ ") .
(أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ) .
شَجَرَةً تَنْبُتُ بالدُّهْنِ -شَجَرَةَ الزَّيْتُونِ التي يَلْتَبِسُ ثَمَرُهَا بالزَّيْتِ.
صِبْغٍ لِلآكِلِينَ - إِدَامٍ لَهُمْ يُغْمَسُ فِيهِ الخُبْزُ.(1/2573)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)
{الأنعام} {مَنَافِعُ}
(21) - يَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى مَا جَعَلَ فِي الأَنْعَامِ - وَهِيَ الإِبلُ والبَقَرُ والغَنَمُ والمَاعِزُ - مِنْ مَنافِعَ لِخَلْقِهِ، فَهُمْ يَشْرَبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا، وَيَأَكُلُونَ مِنْ لُحُومِهَا، وَيَلْبَسُونَ مِنْ أَصُوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وأَشْعَارِهَا، وَيَرْكَبُونَ عَلَى الإِبْلِ وَيَحْمِلُونَ أَثْقَالَهُمْ. وَقَدْ جَعَلَ اللهُ فِي خَلْقِ هَذِِهِ الأَنْعَامِ عِبْرَةً لِلنَّاسِ، وَدَلاَلَةً عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ، فَالدَّمُ الذي يَتَوَلَّدُ مِنَ الأَغْذَيَةِ يَتَحَوَّلُ فِي غُدَدِ الضْرعِ إِلى لَبَنٍ طَيِّبِ المَذَاقِ، لَذِيذِ الطَّعْمِ، صَالِحٍ لِلتَغْذِيَةِ.
الأَنْعَامُ - الإِبْلُ والبَقَرُ والغَنَمُ والمَاعِزُ.
لِعِبَرَةً - لَعِظَةً وَآيَةً عَلَى القُدْرَةِ والرَّحْمَةِ.(1/2574)
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
(22) - وَيَرْكَبُ النَّاسُ عَلَى ظُهُورِ الأَنْعَامِ وَفِي السُّفُنِ والمَرَاكِبِ (الفُلْكِ) ، وَيَحْمِلُونَ أَثْقَالَهُمْ وَيَنْتَقِلُونَ مِنْ قُطْر إِلى قُطْرٍ.(1/2575)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)
{ياقوم}
(23) - لَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى نُوحاً عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِلَى قَوْمِهِ لِيَدْعُوَهُم إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، وَيُحَذِّرَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَبَأْسِهِ الشَّدِيدِ، وَانْتِقَامِهِ مِمَّنْ أَشْرَكَ بِهِ، وخَالَفَ أَمْرَهُ، وَكَذَّبَ رُسُلَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَلَيْسَ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، أَفَلا تَخَافُونَ عِقَابَهُ فَتَحْذَرُوا أَنْ تَعْبُدُوا مَعَهُ سِوَاهُ؟(1/2576)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)
{الملأ} {مَلاَئِكَةً} {اآبَآئِنَا}
(24) - فَقَالَ السَّادَةُ الكُبَرَاءُ مِنْ قَوْمِهِ (الملأُ) : لَيْسَ نُوحٌ إِلاَ بَشَراً مِثْلَكُمْ وَهُوَ يُريدُ أَنْ يَتَرَفَّعُ عَلَيْكُمْ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ فَكَيْفَ أُوْحِيَ إِلَيْهِ مِنْ دُونِكُمْ وَهُوَ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لاَ يَفْضُلكُمْ بِشيء؟ وَلَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ نَبِيَّاً لَبَعَثَ مَلَكاً مِنْ عِنْدَهِ لاَ بَشَراً، وَنَحْنُ لَمْ يَأتِنا عَنْ أَسْلاَفِنَا وآبَائِنا الأَوَّلينَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ يَبْعَثُ رُسُلاً مِنَ البَشَرِ، ولاَ سَمِعْنَا بِمِثْلِ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ نُوحٌ مِنْ عِبَادَةِ إِلَهٍ وَاحِدٍ.
المَلأُ - وُجوهُ القَوْمِ والسَّادَةُ.
يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ - يَتَرَأَّسَ وَيَشرُفَ عَلَيْكُمْ(1/2577)
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
(25) - وَهُوَ رَجُلٌ بِهِ جُنُونٌ (جِنَّةٌ) ، فِيمَا يَزْعُمُهُ مِنْ أَنَّ الله أَرْسَلَهُ إِلَيْكُم، وَاخْتَصَّهُ بِالوَحْيِ مِنْ بَيْنِكُمْ، فَانْتَظِرُوا حَتَّى يُوَافِيَهُ أَجَلُهُ، وَاصْبِروا عَلَيْهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ فَتَرْتَاحُوا مِنْهُ.
(وَقِيلَ بَلِ المَعْنَى هُوَ: اصْبِروا عَلَيْهِ فَلَعَلَّهُ يَضِيقُ بِمَا هُوَ فِيهِ فَيَرْجِعُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلى دِينِ الآباءِ والأَجْدَادِ) .
بِهِ جِنَّةٌ - بِهِ جُنُونٌ، أَوْ جِنٌّ يَخْبُلونَهُ.
فَتَرَبَّصُوا بِهِ - انْتَظِرُوا واصْبِرُوا عَلَيْه.(1/2578)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)
(26) - وَبَعْدَ أَنْ دَعَاهُمْ نُوحٌ مُدَّةً طَوِيلَةً سِرّاً وَجَهْراً، لَيْلاً وَنَهَاراً، وَلَمْ يَرَ مِنهُمْ إِلا عِنَاداً وَإِصْراراً عَلَى الكُفْرِ والتَّكَذِيب، أَدْرَكَ أَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ رَجَاء فِيهِمْ، فَدَعَا رَبَّهُ مُسْتَنصِراً بِهِ عَلَيْهِم {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر} ، وَهُنَا يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ نُوحاً دَعَا رَبَّهُ لِيَنْصُرَهُ عَلَى قَوْمِهِ المُكَذِّبِينَ.(1/2579)
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
{تُخَاطِبْنِي}
(27) - فَأَوْحِيْنَا إِلَى نُوحٍ حِينَ اسْتَنْصَرنَا عَلَى قَوْمِهِ الكَفَرَةِ، أن اصْنَعِ السَّفِينَةَ بِأَعْيُنِنَا وَتَحْتَ حِفْظِنا وَرِعَايَتِنَا لَكَ مِنَ التَّعَدِّي عَلَيْكَ، وَتَعْلِيمِنا إِيَّاكَ طَرِيقَةَ صُنْعِها، فَإِذَا جَاءَ قَضَاؤُنا بِإهْلاَكِ قَوْمِكَ وَعَذَابِهِمْ، وَأَخَذَ الماءُ يَنْبَعُ مِن وَجْهِ الأَرْضِ حَتَّى وَصَلَ فِي ارْتِفَاعِهِ إِلَى التَّنُّورِ - وَهُوَ مَوْضِعُ النَّارِ - فَفَارَ، فَأَدْخِلَ فِي السَّفِينَةِ أَهْلَكَ - أَوْلاَدَكَ وَنِسَاءَهم إِلاَّ مَنْ سَبَقَتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ اللهِ أَنَّهُ هَالِكَ ضِمْنَ مَنْ سَيَهْلِكُ، فَلاَ تَحْمِلْهُ مَعَكَ -، وَأَدْخِلُ فِي السَّفِينَةِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ زَوْجَيْنِ ذَكَراً وأُنْثَى لِتَبْقَى بُذُورُ الحَيَاةِ، بَعْدَ أَنْ تَهْلِكَ الخَلاَئِقُ بالطُّوفَانِ. وأَمَرَ اللهُ تَعالَى نُوحاً بألا تَأْخُذَهُ الرأْفَةُ فِيمَنْ كَفَرَ مِنْ أًَهْلِهِ وَقَوْمِهِ وَقَضَى اللهُ بِإِهْلاَكِهِ. وَأَعْلَمَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَضَى بِأنَّهُمْ مُغْرَقُون لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ والعُتُوِّ، فَعَلَيْهِ أَنْ لاَ يَرجُوَ مِنْ رَبِّهِ إِنْجَاءَهَم.
بأَعْيِنُنا - بِرِعَايَتِنَا وَحِفْظِنَا.
فَارَ التَّنُّورُ - نَبَعَ الماءُ مِنْ التَّنُّورِ المَعْرُوفِ
فَاسْلُكْ فِيهَا - فَأَدْخِلْ فِي السَّفِينَةِ(1/2580)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)
{نَجَّانَا} {الظالمين}
(28) - فَلإِذَا رَكَبْتَ فِي السَّفِينَةِ، وَاطْمأَْنَْتَ أَنْتَ وَمَنْ حَمَلْتَهُم مَعَكَ فِيها، فَقُلْ: الحَمْدُ لله الذِي نَجَّانَا مِنْ هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ.(1/2581)
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)
(29) - وَقُلْ إِذَا سَلِمْتَ مِنَ الغَرَقِ، وَخَرَجْتَ مِنَ السَّفِينَةِ: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزِلاً مُبَاركاً، تَطِيبُ الإِقَامَةُ فِيهِ عِنْدَ النُّزُولِ إِلَى الأَرْضِ، وَهَبْ لِي الأَمْنَ فِيهِ، وَأَنْتَ يَا رَبِّ خَيْرُ مَنْ أَنْزَلَ عِبَادَهُ المَنََازِلَ.
مُنْزِلاً - إِنْزَالاً أَوْ مَكَانَ إِنْزَالٍ.
{لآيَاتٍ}(1/2582)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
(30) - وَإِنَّ فِيمَا فَعَلْنَاهُ بِقَوْمِ نُوحٍ، مِنْ إِهْلاَكِهِمْ إِذْ كَذَّبُوا رَسُولَنَا، وَجَحَدُوا بِآيَاتِنَا، وَكَفَرُوا بِوَحْدَانِيَّتِنَا وَعَبَدُوْا الأَصْنَامَ، لَعِبْرَةً لِقَوْمِكَ المُشْرِكِينَ يَا مُحَمَّدُ، وَحُجَّةً لَنَا عَلَيْهِم يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى سُنَّتِنا فِي أَمْثَالِهِمْ. . لَعَلَّهُم يَزْدَجِرُونَ عَنْ كُفْرِهِمْ وَغَيِّهِم، وَيَكُفُّونَ عَنْ تَكْذِيبِهِم، وَعِنَادِهِمْ. وَقَدْ كُنَّا مُخْتَبِريهمْ بِالتَّذْكِيرِ بِهَذِهِ الآيَاتِ لَنَنْظُرَ مَاذَا يَفْعَلُونَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِم العُقُوبَةُ (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلين) .
لَمُبْتَلِينَ - لَمُخْتَبِرينَ عِبَادَنَا بِهِذِه الآيَاتِ.(1/2583)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31)
{آخَرِينَ}
(31) - ثُمَّ أَوْجَدَ اللهُ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أَقْوَاماً آخَرِينَ (قَرْناً) ، يَخْلفُونَهم فِي الأَرْضِ - وَقِيلَ إِنَّهُمْ قَوْمُ عَادٍ لأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَخْلَفِينَ بَعْدَهُم - وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ الأَعْرَافِ مَا قَالَهُ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلاَمِ لِقَوْمِهِ وَهُوَ يُحَذِّرُهم وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ.} قَرْناً آخَرِينَ - أُمَماً آخَرِينَ. أُمَماً أُخْرَى وَهُمْ عَادٌ الأُولى قَوْمُ هُودٍ.(1/2584)
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)
(32) - وَإِنَّهُ تَعَالَى أًرْسَلَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُم، هُوَ هُودٌ عَلَيْه السلامُ، فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَقَالَ لَهُمْ: يَا قَوْم اعْبُدُوا اللهَ، وأَطِيعُوهُ، دُونَ الأَوْثَانِ والأَصْنَامِ، فَإِنَّ العِبَادَةَ لاَ تَنْبَغِي إِلاَ للهِ وحْدَهُ، أَفَلاَ تَخَافُونَ عِقَابَهُ أَنْ يَحِلّ بِكُمْ إِذَا عَبَدْتُمُ الأَصْنَامَ، وَتَرَكْتُمْ عِبَادَتهُ وَحْدَهُ بِلاَ شَرِيكٍ.(1/2585)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)
{الآخرة} {وَأَتْرَفْنَاهُمْ} {الحياة}
(33) - وَقَالَ الكُبَرَاءُ المُتْرَفُونَ مِنَ قَوْمِ هَذَا النَّبِيِّ، وَهُمُ الذِينَ كَفُرُوا بِرَبِّهِم، وَكَذَّبُوا بِيَوْمِ القِيَامَةٍ، لِمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ مِنْ قَوْمِهِمْ: إِنَّ هَذَا المُدَّعِيَ بِأَنَّ الله أَرْسَلَهُ إِلَيْكُم رَسُولاً، إِنْ هُوَ إِلاَّ بَشَرٌ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ كَمَا تَفْعَلُونَ أَنْتُمْ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بشَرٌ رَسُولاً مِنَ اللهِ؟
أَتْرَفَنَاهُمْ - نَعَّمْناُم وَوَسَّعْنَا عَلَيْهِم فَبَطِرُوا.(1/2586)
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)
{وَلَئِنْ} {لَّخَاسِرُونَ}
(34) - وإِنَّكُمْ إِذَا آمَنْتُم لِبَشَرٍ مِثلِكُمْ، وَصَدَّقْتُم بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ، وَعَبَدْتُم الإِلَهَ الذي يَدْعُوكُم لِعِبَادَتِهِ. . فَإِنَّكُم تَكُونَونَ مِنَ الخَاسِرِينَ، لأَنَّكُم لَنْ تَنْتَفِعُوا بِطَاعَتِهِ.(1/2587)
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)
{وَعِظاماً}
(35) - ثُمَّ قَالَ الكُبَرَاءُ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ سَاخِرِينَ: أَيَعِدُكُمْ هَذَا المُدَّعِي أَنَّكُمْ سَتُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ عِظَامُكُم وأَجْسَادُكُمْ قَدْ بَلِيَتْ وَأَصْبَحَتْ تُرَاباً، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ.(1/2588)
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)
(36) - إِنَّ مَا يَعِدُكُمْ بِهِ مِنْ بَعْثٍ وَحَشْرٍ وَنَشْرٍ، بَعِيدٌ جِدّاً وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ.
هَيْهَاتَ - بَعْدَ وُقُوعُ ذَلِكَ المَوْعُودِ.(1/2589)
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)
(37) - فَهِيَ حَيَاةٌ نَعِيشُها فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَمُوتُ بَعْدَهَا، وَتَأْتِي بَعْدَنا أجْيَالٌ أُخْرَى لِلْحِيَاةِ، وَهَكَذَا دَوَالَيْكَ وَبالمَوْتِ يَنْتَهِي كُلُّ شَيءٍ، فَلاَ بَعْثَ مَرَّةً أُخْرَى، وَلاَ نُشُورَ وَلاَ حسَابَ.(1/2590)
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)
(38) - وَقَالَ هَؤُلاءِ المُكَذِّبُونَ عَنْ رَسُولِهم: إِنَّهُ يَخْتَلِقُ الأَكَاذِيبَ عَلَى اللهِ، وَيَدَّعِي أَنَّ الله أَوْحَى إِلَيْهِ، وَهَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ، وَنَحْنُ لاَ نُصَدِّقُ شَيْئاً مِمَّا عَنْ رِسَالَتِهِ، وَعَنِ البَعْثِ والنُّشُورِ، وَالحَيَاةِ بَعْدَ المَوْتِ. . وَلَنْ نُؤْمِنَ لَهُ، وَلَنْ نَتَّبِعَهُ.(1/2591)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39)
(39) - وَلَمَّا يَئِسَ الرَّسُولُ مِنْ إِيْمَانِهِمْ بَعْدَ قَوْلِهم (وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤمِنِينَ) ، دَعَا رَبَّهُ مُسْتَنْصِراً بِهِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَنْصُرَهُ إِلَى هَؤُلاءِ المُكَذِّبِينَ، وَأَنْ يَنْتَقِمَ مِنْهُم.(1/2592)
قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)
{نَادِمِينَ}
(40) - فَأَجَابَ اللهُ تَعَالَى دُعَاءَهُ، وَقَالَ لَهُ، إِنَّ قَوْمَهُ سَيُصْبِحُونَ، خِلاَلَ وَقْتٍ قَصِيرٍ، نَادِمِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَتَكْذِيبِهِم رَسُولَ رَبِّهِم، حِيْنَما يَحِلُّ بِهِم العَذَابُ.(1/2593)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
{فَجَعَلْنَاهُمْ} {الظالمين} (41) - فَأَخَذَتْهُمُ صَيْحَةُ العَذَابِ، وَقَدْ كَانُوا لِمِثْلِهَا مُسْتَحِقِّينَ، بِسَبَب كُفْرِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ (بالحَقِّ) ، فَأَصْبَحُوا هَلْكَى لاَ غَنَاءَ فِيهِمْ، وَلاَ فَائِدَةَ تُرْجَى مِنْهُم، كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَظَلَمُوا أَنْفَسَهم. وَفِي هَذَا مِنَ المَذَلَّةِ والمَهَانَةِ والاسْتِخْفَافَ بِهِمْ مَا لاَ يَخْفَى، وَإِنَّ الذي يَنْزِلُ بِهِمْ فِي الآخِرَةِ مِنَ العِقَابِ والمَهَانَةِ لأَعْظَمُ مِمَّا حَلَّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَفِيهِ عَظِيمُ العِبْرَةِ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ.
الغُثُاءُ - الشيءُ الحَقِيرُ الذي لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ الذي يَحْمِلُهُ السَّيْلُ مَعَهُ، أيْ إِنَّى هَؤُلاَءِ الكُّفَارَ أصْبَحُوا هَالِكِينَ لاَ قِيمَةَ لَهُمْ.
الصَّيْحَةُ - العَذًَابُ الشَّدِيدُ - أَوْ هِيَ صَوْتُ الزِّلْزَالِ.
فَبُعْداً - فَهَلاكاً، أو بُعْداً مِنَ الرَّحْمَةِ.(1/2594)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)
{آخَرِينَ}
(42) - ثُمَّ أَنْشَأَ اللهُ أُمَماً وَأَجْيَالاً آخَرِينَ بَعْدَ إِهْلاَكِهِ عَاداً، مِنْهُم ثَمُودُ قَوْمُ صَالِحٍ، وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ قَوْمُ شُعَيْبٍ، وَقَوْمُ لُوطٍ.
قُرُوناً آخرِين - أُمَماً أُخْرَى.(1/2595)
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)
{يَسْتَأْخِرُونَ}
(43) - وَلاَ تَتقَدَّمُ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ المُهْلَكَةِ الوَقْتَ الذي قَدَّرَهُ اللهُ تَعَالى لِهَلاَكِهَا، وَلاَ تَسْتَأَخِرُ عَنْهُ، فَلِكُلِّ شَيء مِيقَاتٌ يَتِمُّ فِيهِ، وَلاَ يَتَعَدَّاهُ.(1/2596)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
{تَتْرَى} {وَجَعَلْنَاهُمْ} {كُلَّ مَا}
(44) - ثُمَّ أًَوْجَدَ اللهُ بَعْدَ هَؤُلاءِ المُهْلَكِينَ أُمَماً (قُرُوناً) أُخْرَى، وأَرْسَلَ إٍِلَى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً يَدْعُوهُم إِلى اللهِ، وَيُبَلِّغُهُمْ رِسَالاَتِهِ، وأَتْبَعَ الله الرُّسُلَ بَعْضَهُمْ بَعْضاً (تَتْرَى) ، وَكُلَّمَا جَاءَ رَسُولٌ إِلَى القَوْمِ الذينَ أَُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، كَذَّبَهُ جُمْهُورُ الكُبَرَاءِ والقَادَةِ، فَأَهْلَكَهُم اللهُ، وألْحَقَهُمْ بِمَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنَ المُهْلَكينَ، وَجَعَلَهُمْ أَخْبَاراً وأًَحَادِيثَ يَتَحَدَّثُ بِهَا النَّاسُ، فَأبْعَدَ اللهُ مِنْ رَحْمَتِهِ القَوْمَ الذينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالله، وَلاَ يُصَدِّقُونَ رُسُلَهُ.
تَتْرَى - مُتَتَابِعِينَ عَلَى فَتَرَاتٍ.
جَعَلْنَاهُم أحادِيثَ - مُجَرِّدَ أَخْبَارٍ للتَّعَجُبِ والتَّلَهِّي.(1/2597)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)
{هَارُونَ} {بِآيَاتِنَا} {وَسُلْطَانٍ}
(45) - ثُمَّ بَعَثَ اللهُ تَعَالَى، بَعْدَ الرُّسُلِ الذينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، مُوسَى وَهَارُونَ بالآيَاتِ، والحُجَجِ الدَّامِغَاتِ، والبَرَاهِينِ القَاطِعَاتِ.
سُلْطَانٍ مُبِينٍٍ - بُرْهَانٍ مُبِينٍ مُظْهرٍ لِلْحَقِّ.(1/2598)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)
{وَمَلَئِهِ}
(46) - أَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَنْ حَوْلَهُ مِنَ القَادَةِ والكُبَراءِ (مَلَئِهِ) ، فَاسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِها والإِيْمَانِ بِهَا، وَبِمَا جَاءَهُم بِهِ رَسُولاً رَبِّهِمْ، من الإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ، وَتَرْكِ تَعْذِيبِ بَني إِسْرِائِيلَ (كَما جَاءَ فِي آيةٍ أُخْرَى) ، وَكَانُوا قَوْماً مُتَعَالِينَ، دَأْبُهُم العُتُوُّ وَالبَغْيُ عَلَى الناسِ.
قَوْماً عَالِينَ - مُتَكَبِّرِينَ، أو مُتَطَاوِلِينَ بالظُّلْمِ.
{عَابِدُونَ}(1/2599)
فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)
(47) - وَقَالَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ: كَيْفَ نُؤْمِنُ لِرَجُلَيْنِ مِنِ البَشَر مِثْلِنَا، وَقَوْمُهُمَا، بَنُو إِسْرَائِيلَ المَوْجُودُونَ فِي مِصْرَ، مُسَخَّرُونَ مُسْتَذَلُّونَ، يَخْضَعُونَ لَنَا وَيَعْبُدُونَ فِرعَونَ؟
(وَهَذَا فِي رَأيَ فِرْعَوْنَ أدْعَى إِلَى الاسْتِهَانَةِ بِمُوسَى وَهَارُونَ، وإِلَى عَدَمِ التَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَا بِهِ)(1/2600)
فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)
(48) - فَكَذَّبَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، مُوسَى وَهَارُونَ، فَأَهْلَكَهُمْ اللهُ تَعَالَى أَجْمَعِينَ وَأُغْرَقَهُمْ فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَخَذًَهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدرٍ.(1/2601)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
{آتَيْنَا} {الكتاب}
(49) - وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى التَّوْرَاةََ عَلَى مُوسَى (الكِتَابَ) ، وَفِيهَا أَحْكَامٌ، وَأَوَامِرُ، وَنَواهٍ مِنَ اللهِ، لِيَسْتَهْدِيَ بَنُو إِسْرِائِيلَ بِمَا جَاءَ فِيهَا مِنَ الحَقِّ، وَيَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا مِنَ الشَّرائِعِ.(1/2602)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
{آيَةً} {وَآوَيْنَاهُمَآ}
(50) - يَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ جَعَلَ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمرَان عَلَيْهِمَا السَّلامُ، آيةً للنَّاسِ، وَبُرْهَاناً قَاطِعاً عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى مَا يَشَاءُ، فَقَدْ أَوْجَدَ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أب، خِلافاً لِمَا جَرَتْ بِهِ العَادَةُ، وَأَنْطَقَهُ وَهُوَ فِي المَهْدِ، وَأَبْرأَ عَلَى يَدَيْهِ الأًَكْمَه والأَبْرَصَ، وَأَحْيَا المَوْتَى بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَجَعَلَهُ وأُمَّهُ يَنْزِلاَنِ فِي مَكَانٍ مِنَ الأَرْضِ (رَبْوَةٍ) تَطِيبُ فِيهِ الإِقَامَةُ وَيَحْستُ فِيهِ النَّبَاتُ، فِيهِ المَاءُ والخُضْرَةُ.
المَعِين - المَاءُ الجَاري.
ذًَاتِ قَرَار - ذَاتِ خِصْب.
آوَيْنَاهَما - صَيَّرْنَاهُمَا وَأًَوْصَلْنَاهُمَا.(1/2603)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
{ياأيها} {الطيبات} {صَالِحاً}
(51) - يَأْمُرُ اللهُ عِبَادَهُ المُرْسَلِينَ بالأًَكْلِ مِنَ الحَلالِ الطَّيِّبِ، والقِيَامِ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ شُكْراً للهِ عَلَى نِعَمِهٍ عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الحَلاَلَ عَوْنٌ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ، والرُّسلُ كَانُوا يَأْكُلُونَ مِن كَسْبِ أَيْدِيِهِمْ، وَقَالَ لَهُم اللهُ تَعَالَى: إِنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَعْمَلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ وَقَدْ قَامَ الرُّسُلُ عَلَيْهِم السَّلامُ بِأَمْرِ اللهِ أًَتَمَّ قِيَامٍ وَجَمَعُوا بَيْنَ كُلِّ خَيْرٍ قَوْلاً وَعَمَلاً وَدَلاَلَةً وَنُصْحاً.(1/2604)
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
(52) - إِنَّ دِينَكُم، يَا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ، دِينٌ وَاحِدٌ، وَمِلَّتَكُمْ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَدِينَكُمْ هُوَ الدَّعْوَةُ إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُم اللهُ تَعَالَى إِنَّهُ رَبُّهُمْ فَعَلَيْهِم أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. وَيَتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ.
أُمَّتُكُمْ - مِلَّتُكُمْ وَشَرِيعَتُكُم.(1/2605)
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
(53) - لَقَدْ مَضَى الرُّسُلُ عَلَيْهِم السَّلامُ أُمَّةً وَاحِدَةً، أَصْحَابَ عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا بالنَّاسِ مِنْ بَعْدِهِمْ أحْزَابٌ وَفِرَقٌ وجَمَاعَاتٌ مُتَنَازِعَةٌ لاَ تَلْتَقِي عَلَى مَنْهِجٍ وَلاَ طَرِيقٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُم يَحْسِبُ نَفْسَهُ مِنَ المُهْتَدِينَ فَيَفْرَحُ بِذَلِكَ، وَيُعْجَبُ بِهِ.
(والمَعْنَى أَنَّهُمْ تَنَازَعُوا الأََمْرَ وَتَجَاذَبُوهُ حَتَّى مَزَّقُوهُ بَيْنَهُمْ مِزَقاً، وَقَطَّعُوهُ فِي أَيْدِيهِمْ قِطعاً، ثُمَّ مَضَى كُلُّ حِزْبٍ بِالمزْقَةِ التي خَرَجَتْ بِيَدِهِ فَرِحاً وَهُوَ لاَ يُفَكِّرُ فِي شَيْءٍ آخَرَ) .
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ - تَفَرَّقُوا فِي أَمْرِ دِينِهِمْ.
زُبُراً - قِطَعاً ومِزَقاً وَأَحْزَاباً مُخْتَلِفَةً.(1/2606)
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
(54) - وَبَعْدَ أَنْ أَدَّيْتَ يَا مَحَمَّدُ الرِّسَالَةَ، وأَبْلَغْتَها إِلَى النَّاسِ، دَعِ الكَافِرينَ فِي جَهَالَتِهِمْ وَضَلاَلِِهم (غَمْرَتِهِمْ) ، فَرِحِينَ مَشْغُولِينَ، حَتى يَفْجأهُمْ المَصِيرُ حِينَ يَحِينُ مَوْعِدُهُ.
الغَمْرَةُ - أصْلاً هِيَ المَاءُ الذي يَغْمُرُ القَامَةَ وَيَسْتُرُهَا وَيُرَادُ بِهَا هُنَا الجَهَالَةُ والضَلالَةُ.(1/2607)
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55)
(55) - أَيَظُنُّ هَؤُلاَءِ المَغْرُورُونَ أَنْ مَا نُعْطِيهِمْ مِنَ الأَمْوَالِ، والأَوْلاَدِ هُوَ كَرَامَةٌ لَهُمْ عَلَيْنَا، وَإِجْلاَلٌ لأَقْدَارِهِمْ لَدَيِنَا، كَلاَّ. إِنَّ مَا نُعْطِيهِمْ هُوَ إِمْهَالٌ وَاسْتِدْرَاجٌ لَهُمْ فِي المَعَاصِي لِيَزْدادُوا إثْماً وَطُغْيَاناً.
مَا نُمِدَّهُم بِهِ - مَا نَجْعَلُهُ مَدَداً لَهُمْ.(1/2608)
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
{الخيرات}
(56) - هَلْ يَظُنُّ هَؤُلاَءِ أَنَّنَا نُعْطِيهِمْ ذَلِكَ لِكَرَامَتِهِمْ عَلَيْنَا، وَلِمَنْزِلَتِهِم عِنْدَنَا، وَأَنَّ هَذَا الإِمْدَادَ بالأَمْوَالِ والأََوْلاَدِ مَقْصُودٌ بِهِ المُسَارَعَةُ لَهُمْ بِالخَيْرَاتِ، وَإِيثَارُهُمْ بِالنعْمَةِ والعَطَاءِ؟
إِنَّ الأَمَْ لَيْسَ كَمَا يَتَوَهَّمُونَ، إِنَّنَا فِي الحَقِيقَةِ نَبْتَلِهِم وَنَفْتِنُهم، وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ بِمَا يَنْتَظِرُهُمْ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ سوءِ المَصِيرِ، وَمِنْ شَرٍّ مُسْتَطِير.
(وَفِي الحَدِيثِ: " إِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَكُم أَخْلاَقَكُم كَمَا قَسَمَ بَيْنَكم أَرْزَاقَكُمْ، وإِنَّ الله يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لاَ يُحِبُّ، وَلاَ يُعْطِي الدِّينَ إِلاَ لِمَنْ أَحَبَّهُ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ، والذي نَفْسُ مُحَمَّدِ بِيَدِهِ لاَ يُسْلِمُ عَبْدُ حَتَّى يُسْلِمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ، وَلاَ يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ") . (أَخْرَجَهُ أحْمَدُ) .(1/2609)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)
(57) - إٍِِنَّ الذينَ هُمْ، مَعَ حَسَنَاتِهِمْ، وَإِيْمَانِهِمْ، وَعَمَلِهم الصَّالِحِ، مُشْفِقُونَ خَائِفُونَ مِنَ اللهِ، وَجِلُونَ مِنْ مَكْرِهِ بِهِمْ.
مُشْفِقُونَ - خَائِفُونَ حَذِرُونَ.(1/2610)
وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58)
{بِآيَاتِ}
(58) - وَههُمْ يُؤْمِنُونَ بِآيَات رَبِّهمْ التِي نَصَبَها فِي الكَوْنِ، فِي الأَنْفُسِ وَالآفَاقِ، وَبِآيَاتِهِ التِي نَزَّلَهَا عَلَى رُسُلِهِ، وَيُوقِنُونَ بِهَا، لاَ يَعْتِرِيهِم شَكَ فِيهَا، كَمَا يُوقِنُونَ بِأنَّ مَا كَانَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ قَدَرِ اللهِ وَقَضَائِهِ.(1/2611)
وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)
(59) - وَهُمْ يَعْبَدُونَ رَبَّهُمْ وَحْدَهُ، وَلاَ يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئاً، وَيُنَزِّهُونَه عَنِ الشِّرْكِ وَعَنِ الصَّاحِبَةِ والوَلَدِ.
{آتَواْ} {رَاجِعُونَ}(1/2612)
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
{آتَواْ} {رَاجِعُونَ}
(60) - وَهُمْ يَنْهَضُونَ بِالتَّكَالِيفِ والوَاجِبَاتِ المَفْرُوضَةِ عَلَيْهِمْ، وَيُؤَدُّونَ الطَّاعَاتِ والنَّوَافِلَ، وَيَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ مُقَصِّرُونَ فِي جَانِبِ اللهِ تَعَالَى وَيَسْتَقِلَّونَ كُلَّ طَاعَةٍ إِلى جَانِبِ آلاَءِ اللهِ وَنِعَمِهِ، وَيَخَافُونَ أَنْ لاَ تُقْبَلَ طَاعَاتُهُم لِخَوْفِهِمْ مِنَ أَنْ يَكُونُوا قَصَّرُوا فِي شُرُوطِ أَدَائِها، لأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أنَّهُم رَاجِعُونَ إِِلَى رَبِهِّم، وَسَيُحَاسِبُهُمْ وَسَيُحَاسِبُ جَمِيعَ الخَلْقِ عَلَى جَميعِ أًعْمَالِهمْ.
يُؤْتُونَ ما آتَوْا - يُعْطُونَ مَا أَعْطًَوْا مِنَ الصَّدَقَاتِ.
قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ - خَائِفَةٌ أَلاَّ تُقْبَلَ أَعْمَالُهُمْ.(1/2613)
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
{أولئك} {يُسَارِعُونَ} {الخيرات} {سَابِقُونَ}
(61) - وَهَؤُلاءِ الذينَ جَمَعُوا هَذِهِ المَحَاسِنَ، يَرْغَبُونَ فِي الطَّاعَاتِ أَشَدَّ الرَّغْبَةِ، فَيُبَادرُونَهَا لِئلاَّ تَفُوتَهم إِذَا هُمْ مَاتُوا، وَيَتَعَجَّلُونَ فِي الدَّنْيَا وُجُوهَ الخَيْرَاتِ العَاجِلَةِ التي وُعِدُوا بِهَا عَلَى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهُمْ يَرْغَبُونَ فِي الطَّاعَاتِ، وَهُمْ لأَجْلِهَا سَابِقُونَ النَّاسَ إِلى الثَّوَابِ(1/2614)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
{كِتَابٌ}
(62) - يَفْرِضُ الإِسْلاَمُ عَلَى قَلْبِ المُؤْمِنِ يَقْظَةً هِيَ فِي طَوْقِهِ واسْتِطَاعَتِهِ، وَلَيْسَتْ فَوْقَ طَاقِتِهِ، لأَنَّ الله تَعَالَى لاَ يُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ مَا هُوَ فِي مَقْدُورِها، وأَنَّهُ تَعَالَى يُحَاسِبُ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَعْمَالِهِم التِي سُجِّلَتْ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابٍ مَسْطُورٍ، لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاها، وَهُمْ لاَ يُبْخَسُونَ شَيئاً مِنْ أَعْمَالِهِم الخَيِّرَةِ، وَلاَ يُنْقَصُونَ مِنْها وَلا يُزَادُ شَيءٌ فِي سَيِّئَاتِهِمْ.
وُسَعَها - قَدَرَ طَاقَتِها مِنَ الأَعْمَالِ.
لاَ يُظْلَمُونَ - لاَ يُزَادُ شَيءٌ فِي سَيِّئَاتِهِمْ مِمَّا لَمْ يَفْعَلُوه.(1/2615)
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
{أَعْمَالٌ} {عَامِلُونَ}
(63) - إِنَّ قُلُوبِ المُشْرِكِينَ فِي غَفْلَةٍ عَنْ هُدَى القُرْآنِ، وَعَنْ الاسْتِرْشَادِ بمَا جَاءَ فِيهِ، مِمَّا فِيهِ سَعَادَةُ الدُّنْيَا والآخِرَةِ، فَلَوْ أَنَّهُم قَرَؤُوا القُرْآنَ وَاَدَبَّرُوا لَرَأوْا أَنَّهُ كِتابٌ يَنْطِقُ بِالحَقِّ والصِّدْقِ، وَأَنَّهُ يَقْضِي بِأَنَّ أَعْمَالَ اللمَرْيِ، مَهْمَا دَقَّتْ، فَهُوَ مُحَاسَبٌ عَلَيْهَا، وَأَنَّ رَبَّكَ لاَ يَظْلِمُ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ. وَلِهَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ أَعْمَالٌ سَيِّئَةٌ أُخْرَى، فَقَدْ أَغَرَقُوا فِي الشِّرْكِ والمَعَاصِي، واتَّخَذُوا القُرْآنَ هُزْواً، وَقَالُوا عَنْهُ إِنَّهُ سِحْرٌ مُفْتَرىً، وَكَذَّبُوا رَسُولَ اللهِ، وقَالُوا إِِنَّهُ مَجْنُونٌ، وإِنَّهُ قَدْ يَعَلَّمَ القُرْآنَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الكِتابِ.
(وَجَاء فِي الحَدِيثِ: " فَوالذِي لاَ إٍِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُها) (رَوَاهُ ابْنُ مَسُعُودٍ ") .
غَمْرَةٍ - جَهَالَةٍ وَغَفْلَةٍ.(1/2616)
حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)
{يَجْأَرُون}
(64) - حَتَّى إِذَا جَاءَ المُتْرَفِينَ مِنْهُمْ، المُنَعَّمِينَ فِي الدُّنْيَا، عَذَابُ اللهِ وَبَأَسُهُ وَنِقْمَتَهُ، إِذَا هُمْ يَسْتَغِيثُونَ، وَيَصْرُخُونَ وَاغوثَاهُ (يَجْأَرُونَ) ، لِشدَةِ مَا يُعَانُونَ مِنَ الكُرَبِ والآلامِ.
مُتْرفِيهمِ - مُنَعَّمِيهِم الذين أَبْطَرَتْهُمْ النِعَمَةُ.
يَجْأرُونَ - يَصْرُخُونَ مُسْتَغِيِثينَ بِرَبِّهِم.(1/2617)
لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)
{تَجْأَرُواْ}
(65) - وَيُجِيبُهُم الرَّبُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَائِلاً: لاَ تَسْتَغِيثُوا فَلَنْ يُجِيرَكُم اليَوْمَ أَحَدٌ مِمَّا حَلَّ بِكُمْ مِنْ سُوءِ العَذَابِ، سَوَاءٌ اسْتَغَثْتُم وَصَرَخْتُمْ، أو سَكَتُّم، وَلَنْ يَنْصُرَكُم أَحَدٌ مِنْ اللهِ، فَقَدْ قُضِيَ الأَمْرُ، وَوَجَبَ العَذَابُ.(1/2618)
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)
{آيَاتِي} {أَعْقَابِكُمْ}
(66) - لَقَدْ كَانَتْ آيَاتُ اللهِ تُتْلَى عَلَيْكُم بالحَقِّ، فَكُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ عَنْ سَمَاعِها، وَتَسْخَرُونَ مِنْهَا، وَتُعْر ِضُونَ عَنْهَا، وَتُدِيرُونَ ظُهُورَكُمْ إِلَيْهَا وَلِذَلِكَ فًَلاَ عُذْرَ لَكُم اليَوْمَ.
تَنْكِصُونَ - تَرْجِعُونَ مُعْرِضينَ عَنْ سَمَاعِها.(1/2619)
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
{سَامِراً}
(67) - وَقَدْ كُنْتُم تُعْرِضُونَ عَن الإِيْمَانِ وَأَنْتًمْ تَسْتَكْبِرُونَ بالبَيْتِ الحَرَامِ، وَتَقُولُونَ: نَحْنَ أَهْلُ حَرَمِ اللهِ، وَخُدَّامُ بَيْتِهِ، فَلاَ يُظْهِرُ عَلَيْنَا أَحَداً، وَلاَ نَخَافُ أَحَداً، وَكُنْتُم تَسْمرُونَ حَوْلَ البَيْتِ، وَتَتَنَاوَلُونَ القُرْآنَ بالُجِرِ مِنَ القَوْلِ (سَامِراً تَهْجُرُونَ) .
(وَقِيلَ بَلِ المَقْصُودُ بالهُجْرِ مِنَ القَوْلِ والتَّكْذِيبِ رَسُولُ اللهِ والأَوَّلُ أَظْهَرُ) .
مُسْتَكْبِرينَ بِهِ - مُسْتَعْظِمِينَ بالبَيْتِ الحَرَامِ.
سَامِراً - سُمَّاراً حَوْلَهُ بِاللَّيْلِ.
تَهْجُرُونَ - تَتَكَلَّمُونَ هُجْراً أي طَعْناً بالقُرآنِ أو بِمُحَمَّدٍ.(1/2620)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)
{الأولين}
(68) - وَيُؤَنِّبُ اللهُ تَعَالَى المُشْرِكِينَ، وَيُنْكِرُ عَلَيْهِم عَدَمَ تَفَهُّمِهِمْ، وَعَدَمَ تَدَبُّرِهِمْ هَذَا القُرْآنَ العَظِيمَ، وَمَا خُصَّ بِهِ مِنَ فَصَاحَةٍ وَبَلاَغَةٍ، وَقَدْ كَانَ لَدَيْهِمْ فُسْحَةٌ مِنَ الوَقْتِ تُمَكِّنُهُمْ مِنَ التَّدَبُّرِ فِيهِ، وَمَعْرَفَةِ مَا جَاءَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ مِنْ رَبِّهِم، وَأَنَّهُ مُبَرَّأٌ مِنَ التَّنَاقُضِ، وَأَنَّ فِيهِ الأَخْلاَقَ، وَالتَّشْرِيعِ، وَالحِكَمَ الَبالِغَةَ. أًَمِ اعْتَقَدُوا أَنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ أَمْرٌ لَمْ تَسْبِقْ بِهِ السُّنَنُ مِنْ قَبْلِهِمْ فَاسْتَبْعَدُوا وُقُوعَهُ؟ لَكِنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّ الرُّسُلَ كَانَتْ تَتَتَابَعُ، وَتَظْهَرُ عَلَى أَيْدِيهِم المُعْجِزَاتُ، فَهَلاَّ كَانَ ذَلِكَ دَاعِياً لَهُمْ إِلَى التَّصْدِيقِ بِهَذَا الرَسُولِ الكَرِيمِ الذِي جَاءَهُم بِقُرْآنٍ لاَ ريبَ فِي أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ.(1/2621)
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)
(69) - أمْ إِنَّهُمْ لَمْ يَعْرفُوا رَسُولَهُمْ مُحَمَّداً قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ إِلَيْهِم، وَلَمْ يَعْرِفُوا أَخْلاَقَهُ وَصِدْقَهُ وأَمَانَتَهُ، فَتَشَكَّكُوا فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ وَفِي الحَقِيقةِ إِنَّهُمْ عَرَفُوه قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ بِكُلِّ فَضَيلَةٍ، واشْتَهَرَ بَيْنَهم بالأَمِين، وَشَهِد له أًبُوا سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَهُوَ مُشْرِكٌ، بالصِّدْقِ والأَمَانَةِ عِنْدَ هِرْقْلَ مَلِكِ الرُّومِ، فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ رِسَالَتَه؟(1/2622)
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
{كَارِهُونَ}
(70) - أَمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدَاً رَجُلٌ بِهِ مَسٌّ مِنْ جُنُونٍ فَلاَ يَدْرِي مَا يَقُولُ؟ مَعَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أرْجَحُ النَّاسِ عَقْلاً، وَأَكْثَرُهُمْ رَزَانَةً، وَأَثْقَبُهُمْ ذِهِناً، وَفِي الحَقِيقَةِ إِنَّ الأَمْرَ لَيْسَ كَمَا تَقَوَّلُوا وَافْتَرَوا، فالذي جَاءَهُم بِهِ مُحَمَّدٌ هُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِ، فِيهِ دَعْوَةٌ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ، وَبَيَانٌ لِمَا شَرَعَهُ اللهُ لِعِبَادِهِ، مِمَّا فِيهِ سَعَادَةُ البَشَرِ، لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ جُبِلُوا عَلَى الزَّيْغِ والانْحِرَافِ عَنِ الحَقِّ لِمَا رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الشَّكِّ والشِّرْكِ، والإِسْرَافِ فِي المَعَاصِي، وَلَذَلِكَ فَإِنَّهُم لاَ يَفْقَهُونَ الحَقَّ، وَلاَ يَسْتَسِيغُونَهُ فَهُمْ لَهُ كَارِهُون.
بِهِ جِنَّةٌ -بِهِ جُنُونٌ.(1/2623)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
{أَتَيْنَاهُمْ}
(71) - وَلَوْ سَلَكَ القُرْآنُ طَرِيقَهُمْ بِأَنْ جَاءَ مُؤَيِّداً الشرْكَ باللهِ، وَاتِّخَاذَ الوَلَدِ، وَتَزْيِينَ الآثامِ، وَالحَثَّ عَلَى اجْتِرَاحِ السِّيِّئَاتِ. . لاخْتَلَّ نِظَامُ الكَوْنِ، ولَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ والأَرْضُ، وَمَنْ فِيهِنَّ لِفَسَادِ أَهْوَائِهِمْ:
- فَلَوْ أَنَّهُ أَبَاحَ الظُّلْمَ، وَتَرْكَ العَدْلِ لَفَسَدَ أَمْرُ الجَمَاعَاتِ.
- وَلَوْ أَبَاحَ لِلْقَوِيِّ الاعْتَدَاءَ عَلَى الضَّعِيفِ لَمَا اسْتَتَبَّ الأَمْنُ وَلاَ سَادَ النِّظَامُ.
- وَلَوْ أَبَاحَ الزِّنى لَفَسَدَتِ الأَنْسَابُ، وَلَمَا عَرَفَ وَلَدُ وَالِدَهُ فَيَكُونُ الأَوْلاَدُ فِي الطُّرُقَاتِ كَالبَهَائِمِ السَّارِحَةِ وَلاَ يَقُومُ عَلَى أُمُورِهِمْ أَحَدٌ.
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ جَاءَهُمْ بالقُرْآنِ الذي فِيهِ فَخْرُهُمْ وَشَرَفُهُم فَأَعْرَضُوا عَنْهُ، وَكَذَّبُوا بِهِ وَجَعَلُوهُ هُزْواً.
بِذَكْرِهِمْ - بِفَخْرِهِمْ وَشَرفِهِمْ - وَهُوَ القُرْآنُ.(1/2624)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
{تَسْأَلُهُمْ} {الرازقين}
(72) - أَمْ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ طَلَبْتَ مِنْهُمْ أَجْراً عَلَى تَبْلِيغِ، الرِّسَالَةِ، فَلأَجْلِ ذَلِكَ لاَ يُؤمِنُونَ. وَفِي الحَقِيقَةِ إِنَّكَ لَمْ تَسْأَلْهُمْ أجْرَاً، وَلا خَرجاً، فَإِنَّ مَا رَزَقَكَ اللهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَا وَعَدَكَ بِهِ مِنْ حُسْنِ العَاقِبَةِ فِي الآخِرَةِ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ ذَلِكَ، وَلأَنَّكَ تَحْتَسِبُ أَجْرَ مَا تَقُومُ بِهِ، مِنْ إِبْلاَغِ الرِّسَالَةِ، عِنْدَ اللهِ لاَ عِنْدَهُمْ.
خَرَجاً - جُعْلاً أَوْ أَجْراً مِنَ المَالِ.(1/2625)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)
{صِرَاطٍ}
(73) - وَإِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّمَا تَدْعُوهُمْ إِلَى دِينِ الخَيْرِ والهُدَى، وَإِلَى السَّبِيلِ القَوِيمِ المُسْتَقِيمِ، الذي يُوصِلُهُمْ إِلى جَنَّةِ رَبِّهِمْ(1/2626)
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
{بالآخرة} {الصراط} {لَنَاكِبُونَ}
(74) - أَمَّا الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ وَكَفَرُوا بِالآخِرَةِ، وَالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، فَهُمْ مُتَنَكِّبُونَ وَتَارِكُونَ عَمْداً الطَّرِيقَ القَوِيمَ المُوصِلَ إِلى جَنَّةِ اللهِ تَعَالَى.
لَنَاكِبُونَ - لَعَادِلُونَ عَنِ الحَقِّ زَائِغُونَ.(1/2627)
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
{رَحِمْنَاهُمْ} {طُغْيَانِهِمْ}
(75) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ غِلْظَةِ المُشْرِكِينَ فِي كُفْرِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ فِيهِ فَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَوْ أَزَاحَ عَنْهُم، الضُّرَّ، وَأَفْهَمَهُم القُرْآنَ لمَا انْقَاذُوا لَهُ، وَلاسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَطُغَيْانِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ.} (وَقيلَ بَلِ المَعْنَى هُوَ: وَلَوْ أَنَّهُمْ رُدُّوا في الآخِرَةِ إِلى الدُّنيا لَعَادُوا لِما نُهُوا عنهُ) .
وقال ابنُ عَبَاسٍ (إِنَّ كُلَّ ما فيهِ (لَوْ) ممَّا لا يكونُ أبداً) .
لَلَجُّوا في طغيانِهِمْ - لَتَمَادَوا في ضَلالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ.
يَعْمَهُونَ - يَعْمونَ عَنِ الرّشدِ، أو يتحيَّرونَ.(1/2628)
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)
{أَخَذْنَاهُمْ}
(76) - ويَقُولُ تعالى إِنَّه ابْتَلاهُم بالمَصَائِب والشَّدَائِدِ، (كَقَتْلِ سَرَاتِهم يَوْمَ بَدْرٍ. . والشَّدائِد الأُخْرَى التي حَلَّتْ بِهم) فَمَا ردَّهُم ذلكَ عَمَّا هُمْ فيهِ مِنَ الكُفْرِ والعُتُوِّبَلِ اسْتَمَرُّوا على غَيِّهِم وضَلاَلِهِم، ولَمْ يَخْشَعُوا للهِ (مَا اسْتَكَانُوا) ، ولم يَتَضَرَّعُوا إليهِ داعِينَ مُسْتَجِيرِينَ لَيْكِشفَ عَنْهُم ذلكَ البلاءَ.
وقد جَاء في الصحيحينِ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَعا على قُريْشٍ حينَ اسْتَعْصَوْا عليهِ فَقَالَ " اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِم بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ " أيْ بِسَبْعِ سِنِينَ شِدَادٍ. وقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ إِنَّ أبَا سُفْيَانَ جَاءَ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حينما اشْتَدًَ الأمرُ فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ انْشُدُكَ الله والرَّحِمَ فَقَدْ} أكَلْنَا العِلْهِ (أي الوَبَرَ والدَّمَ) . فَأَنْزَلَ اللهُ تَعالى هذهِ الآيَه.
فما اسْتَكَانُوا - فَمَا خَضَعُوا وأَظْهُروا المَسْكَنَةَ.
ومَا يَتَضَرَّعُونَ - ولا يَتَذَلَّلُونَ إليهِ تَعَالى بالدُّعَاءِ.(1/2629)
حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
(77) - حتى إذا جَاءَهُم أَمْرُ اللهِ تَعالى، وجَاءَتْهُم السَّاعَةُ بَغْتَةً، فَأَخَذَهُم مِنْ عَذَابِ اللهِ مَا لَمْ يكُونُوا يَحْتَسِبُونَ، يَئِسُوا (أُبْلِسُوا) مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وانْقَطَعَتْ آمَالُهُم، وخَابَ رَجَاؤُهُم.
مُبْلِسونَ - يَائِسونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ أو مُتَحَيِّرُونَ.(1/2630)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)
{الأبصار}
(78) - واللهُ تَعالى هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمُ السَّمْعَ، لِتَسْمَعُوا بِهِ الأَصْوَاتَ، والأبْصَارَ، لتُبْصِرُوا بها الأشْيَاءَ والمَحْسُوسَاتِ، والعُقُولَ، لِتَفْقَهُوا بِها وتُدْرِكُوا آياتِ اللهِ وحُجَجَهُ في الأَنْفُسِ والآفَاقِ، الدَّالَّةَ على وَحْدَانِيتهِ وقُدْرَتِهِ.
وَبَعْدَ أنْ عَدَّدَ اللهُ سُبْحَانَه وتعالى هذِهِ النِّعَمَ التي أَنْعَم بِها على البَشَرِ، أشَارَ إلى كُفْرَانِهِم إيَّاها فَقَالَ: ما أَقَلَّ شُكْرَكُم للهِ على هذهِ النِّعَمِ الوَفِيرَةِ (قليلاً ما تَشْكُرُونَ) .(1/2631)
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
(79) - واللهُ تعالى هُو الذي خَلَقَ النَّاسَ في الأَرْضِ، وبَثَّهُم فِيها (ذَرَأَهُم) ، واسْتَخَلَفَهُم فِيها، ثُمَّ يَحْشُرُهُم جَمِيعاً لِميقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ لِيُحَاسِبَهُم على جَمِيع ما عَمِلُوه في الدنيا مِنْ أعْمالٍ.
ذَرَأَكُمْ -خَلَقَكُم وَبَثَّكُمْ بالتَّنَاسُلِ.(1/2632)
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
{اختلاف} {الليل} {يُحْيِي}
(80) - وهو الذي وَهَبَ الخَلْقَ الحَيَاةَ بِنَفْخٍ الرُّوح فِيهِم، ثُمَّ يُمِيتُهُم بَعْدَ أنْ كانَ أحْيَاهُم، ثم يُعِيدُ خَلْقَهُم مَرَّةً أُخْرَى يَوْمَ البَعْثِ والنُّشُورِ، وَيجْمَعُهم إليه لِلْحِسَابِ، كمَا سَبَقَ أنْ بَدَأ خَلْقَهُم. وهو الذي سَخَّرَ اللَّيْلَ والنَّهَارَ وَجَعَلَهُما مُتَعاقِبَيْنِ لا يَفْترِقَانِ، وكأنَّما يَطْلُبُ الوَاحِدُ مِنْهُمَا الآخَرَ وجَعَلَهُما مُخْتَلِفَيْنِ طُولاً وقِصراً، يَقْصُرُ هذا تَارَةً ويَطُولُ الآخَرُ، ثم يطُولُ فَيَقْصُرُ الآخَرُ.
وأنْتُمْ يا أيُّها النَّاسُ تَرَونَ كُلَّ ذلِكَ في كُلِّ حِينٍ، أَفَلَيْسَتْ لَكُم عُقُولٌ لِتَتَفَكُّرُوا بِها أنَّ ذلك كُلَّهُ لَمْ يُخْلَقْ عَبَثاً ولا مُصَادَفَةً؟ وإنَّما خَلَقَهُ اللهُ بِقَدْرَتِه، وقَدَّرَهُ وضَبَطَهُ، وجَعَلَه خَاضِعاً لَهُ، لِيَسْتَدِلَّ بهِ النَّاسُ على وُجُودِ خَالِقِه القَدِير الوَاحِدِ الأَحَدِ، الذي لا شَرِيكَ لَهُ.(1/2633)
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81)
(81) - ولكِنَّ هَؤلاءِ المُشْرِكينَ مِنَ العَرَبِ لم يَعْتَبِرُوا بآياتِ اللهِ، ولَمْ يَتَدَبَّرُوا حُجَجَهُ الدَّالَةَ على قُدْرَتِه على فِعْلِ كُلِّ ما يُريدُ: كإِعَادَةِ خَلْقِ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وبَعْثِهم مِنْ قُبُورِهم، وجَمْعِهم يَوْمَ القِيَامَةِ لِلْحِسَاب. . بَلْ قَالُوا مِثْلَمَا قَالَهُ أسْلاَفُهُم مِنْ مُكَذِّبِي الأُمَمِ الأُخْرَى الذين كَذَّبُوا رُسُلَ اللهِ، وجَحَدُوا بآيَاتِهِ.(1/2634)
قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)
{أَإِذَا} {وَعِظَاماً} {أَإِنَّا}
(82) - وقد كَانَ مُكَذِّبُوا الأُمُمِ السَّابِقَةِ مُنْكِرينَ: هَلْ سَنُبْعَثُ مِنْ قُبُورِنا، ونَعُودُ أحياءً كَما كُنَّا، بَعْدَ أنْ نَمُوتَ وتَبْلى عِظَامُنَا؟(1/2635)
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
{وَآبَآؤُنَا} {أَسَاطِيرُ}
(83) - وَقالُوا إنَّ آبَاءَهم وُعِدُوا بِمِثْلِ هذا البَعْثِ والنُّشُورِ يَوْمَ القِيَامَةِ وهُمْ يُوعَدُون بِهِ أيضاً، ولكنَّهُ لم يَقَعْ بَعْدُ. ثُمَّ قَالُوا: إِنَّ هَذَا مِنْ قَبيلِ القصَصِ الخَيالِيَّةِ، والأسَاطِيرِ التي تُرْوى عَنِ الأَوَّلينَ.
أسَاطِيرُ الأَوَّلين - أكَاذِيبُهُم وقصَصُهُم الخُرَافِيةُ المَسْطُورَة في كُتُبِهِم.(1/2636)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)
(84) - كانَ مُشْرِكُوا العَرَبِ مُضِطَرِبِي العَقِيدَة، لا يُنكِرُون وُجُودَ اللهِ، ولا يُنْكِرُون أنَّه مَالِكُ السَّمَاواتِ والأرْضِ ومُدَبِّرُهما، ولكِنَّهم كانوا مَعَ ذلك يُشْرِكُونَ مَعَهُ في العِبَادَةِ آلِهَةً أُخْرَة، ويَقُولُونَ: إِنَّهم إنَّما يَعْبُدونَ هذهِ الآلِهَة ليُقَرِّبُوهم إلى اللهِ زُلْفَى. ويَجْعَلُون المَلائِكَةَ بَنَاتِ اللهِ، وهُنا يَأخُذُ اللهُ سُبْحَانَه بالمُسَلِّماتِ التِي يُقِرُّونَ بِها، فَيَقُولُ لِنَبيِّه الكَرِيمِ: اسْأَلْهُم لِمَنِ الأًَرْضُ ومَنْ فيها إِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟(1/2637)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)
(85) - إنَّهُمْ سَيَقُولُون إنَّ مَالِكَها، وخَالِقَها، ومُدَبِّرَها هو اللهُ تَعالى، ولكِنَّهم مَعَ ذلِكَ لا يَذْكُرُونَ هذهِ الحَقِيقَةَ حينما يَتَوَجَّهُونَ بالعِبَادَةِ لِغَيْرِهِ.(1/2638)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)
{السماوات}
(86) - وقُلْ لَهُم: مَنْ خَلَقَ السَّمَاواتِ السَّبْعَ ومَنْ فِيهِنَّ، ومَنْ هو رَبُّ العَرْشِ العَظِيم؟ وقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: العَرْشُ لا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ أَحَدٌ إلاَّ اللهُ تَعالى.(1/2639)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)
(87) - إنَّهُم سَيقُولُون: إِنَّ كُلَّ شيء في الوُجُودِ هو للهِ، وهو رَبُّهُ، ولَيْسَ لَهُم جَوابٌ غير هذا. فَقُلْ لَهُم: إذا كُنْتُم تَعْتَرِفُون بأنَّه رَبُّ السَّمَواتِ، وَربُّ العَرْشِ العَظِيم، أَفَلا تَخَافُون عِقَابَه، وتَحْذَرُونَ عَذَابَه في عِبَادَتِكُم مَعَهُ غَيْرَه، وإشْرَكِكُم بِه، وإنْكَاركُم قُدْرَتَه على إِعَادَةِ خَلْقِكُمْ ونَشْرِكُم، وحِسَابِكُم، في الآخِرَةِ؟(1/2640)
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
(88) - قُلْ لَهْم: مَنْ يَمْلكُ كُلَّ شَيْءٍ في الوُجُودِ ومَنْ هو المُسَيْطِرُ المُسْتَعْلي عَلًيْهِ، ومَنْ الذي يَسْتَطِيعُ بِقُوَّتِه، وسُلْطَانِه أنْ يَبْسُطَ حِمَايَتَهُ (يُجِيرُ) على مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِه، فلا يَصِلُ إليهِ أَحَدٌ بِسُوءٍ، ولا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ خَلَقِهِ أنْ يُجِيرَ عَلَيْه، وأَنْ يَمْنَعَ أَمْرَ اللهِ مِنْ أَنْ يَصِلَ إِلى مَنْ يَشَاءُ اللهُ وصولَ أمْرِهِ إِليهِ، فإنْ كَانَ لَكُمْ عِلْمٌ بِذَلِكَ فَأَجْيبُونِي؟
أَجَارَهُ - جَعَلَه في جِوَارِه، وشَمَلَهُ بِحِمَايَتِهِ.
المَلَكُوتُ - المُلْكُ الوَاسِعُ العَظِيمُ.
هَوَ يُجِيرُ - يُغَيثُ ويَحْمِي مَنْ يَشَاءُ ويَمْنَعُهُ.
لا يُجَارُ عَلَيْه - لا يُغَاثُ أَحَدٌ مِنْهُ ولا يُمْنَعُ.(1/2641)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
(89) - فَسَيَعْتَرِفُونَ أنَّ السَّيِّدَ العَظِيمَ، الذي يُجِيرُ ولاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُجِيرَ عَلَيْهِ، هو اللهُ وَحْدَه، لا شَرِيكَ لَهُ في ذَلِكَ، فَقُلْ لَهُمْ: كَيْفَ تَذَهَبُ عُقُولُكُم، وتُخَدَعُون وتُصْرِفُونَ عَنِ الحَقِّ إلى البَاطلِ، فَتَعْبُدُونَ تَذْهَبُ اللهِ غَيْرَهُ، مَعَ اعْتِرَافِكُم أنَّه لا رَبَّ سِواهُ فَتَكُونُون كَمَنْ سُحِرَتْ عُقُولُهم وَغَابَتْ عَنْ رُشْدِها.
فأنَّى تُسْحَرُون - فَكَيْفَ تُخْدَعُونَ عَنْ تَوْحِيدِهِ.(1/2642)
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
{أَتَيْنَاهُمْ} {لَكَاذِبُونَ}
(90) - لَيْسَ الأَمْرُ كما يَقُولُ هَؤُلاءِ المُشْرِكُونَ (بَلْ) ، ولا كَما يَزْعُمونَ مِنْ أنَّ ما جَاءَهُم بِهِ رَسُولُهم هو مِنْ قَصَصِ الأوَّلِين وأحَادِيِثِهم، ولَيْسَ مُنَزَّلاً مِنْ عِنْدَ اللهِ، والحَقِيقَةُ هِيَ أنَّ مُحَمَّداً صَادِقٌ وَأَنَّ الله هُوَ الذي أَمَرَهُ بِإِبْلاَغِهِ إلى النَّاسِ، ودَعْوتِهِمْ إلى الأخْذِ بِهِ، وإنَّهُم لَكاذِبُونَ فيما يَقُولُونَه وَيَزعُمُونَهُ، وفيما يَعْبُدونَهُ مِنْ أَصْنَامٍ وأَوْثَانٍ.(1/2643)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
{سُبْحَانَ}
(91) - يُنَزِّهُ اللهُ تَعالى نَفْسَهَ الكَرِيمَةَ عَنْ أَنْ يَكونَ لَهُ وَلَدٌ أو شَرِيكٌ في المُلْكِ والتَّصَرُّفِ والعِبَادَةِ، ويَقُولُ: إنَّه لَوْ كَانَ هناكَ أَكْثَرُ مِنْ إِلهٍ لَطَلَبَ كُلٌّ مِنْهُم قَهْرَ الآخرِينَ، وَخِلافَهُم، ولَحَاوَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُم أنْ يُثْبِتَ سُلطَانَهُ، والاسْتِعَلاءَ على غَيرِهِ، فَتَعَالى اللهُ عُلُوّاً كَبِيراً، وتَنَزَّهَ عَمَّا يَقُولُه الظَّالِمُونَ المُعْتَدونَ في دَعْوَاهُم الوَلَدَ، والشَّرِيكَ لَهُ.(1/2644)
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
{عَالِمِ} {والشهادة} {فتعالى}
(92) - وَإِنَّه يَعْلَمُ ما يَغِيبُ عَنِ المَخْلُوقَاتِ، وما يُشَاهِدُونَه، فَتَقَدَّسَ وَتَنزَّهَ وَتعالى عَمَّا يَقُولُه الظَّالِمُون الجَاحِدُون، وعَمَّا يُنْسبُونَه إليهِ مِنْ وُجُودِ الشَّرِيكِ والنِّدِّ والوَلَدِ.(1/2645)
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93)
(93) - يَأْمُرُ اللهُ تعالى رَسُولَه الكريمَ بأنْ يَدْعُوَ بهذا الدُّعاءِ عِنْدَ حُلُولِ النِّقَمِ: فإذا عَاقَبْتَهُم يا ربّ وأنا شَاهِدٌ ذَلِكَ.(1/2646)
رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)
{الظالمين}
(94) - فإنِّي أَتَوَسَّلُ إليكَ يَا رَبِّ أنْ لا تَجْعَلَنِي فِيهِم، وأنْ لا تُهْلِكَنِي بِمَا تُهْلِكُهُم بِهِ.
(وكانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُوا فَيَقُول: " وإذا أَرَدْتَ بِقَومٍ فِتنَةً فَتَوَفَّني غَيْرَ مَفْتُونٍ ") . (أخرجَهُ أحمدُ والتِّرمَذي) .(1/2647)
وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)
{لَقَادِرُونَ}
(95) - وَلَوْ شِئْنَا لأَرَيْنَاكَ ما نُنْزِلَ بِهِم مِنَ العَذَابِ والبَلاَءِ، فإنَّنا قَادِرُونَ على ذَلِكَ، ولكِنَّنا نُؤخِّرُه حَتَّى يبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ.
(وقد أَرى اللهُ تَعالى رَسُولَه الكَرِيمَ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ في مَعْرَكَةِ بَدْرٍ) .(1/2648)
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
(96) - ادْفَع الأَذَى عَنْكَ بِالطَّرِيقَةِ والخَصْلَةِ التي هيَ أَحْسَنُ: بِالإِغْضَاءِ والصَّفْحِ عَنْ جَهْلِهِم، والصَّبْرِ على أَذَاهُم وَتَكْذِيبِهم بِمَا جِئْتَهُم بِهِ رَبِّهم، وَنَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَنَا بِه، ويَنْخِلُونَنا إِيَّاهُ مِنَ الاخْتِلاقِ والأكاذيبِ، وبِمَا يَقُولُونَ فِيكَ، وسَنَجْزِيهِم على مَا يَقُولُونَ فلا يَحْزُنْكَ ذَلِكَ.(1/2649)
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)
{هَمَزَاتِ} {الشياطين}
(97) - وَاسْتَعِذْ باللهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، ومِنْ هَمَزَاتِهِم، ودَفَعَاتِهِم، ونَفْثِهِم، ونَفْخِهم، لأَنَّهُمْ لاَ تَنْفَعُ مَعَهُم الحِيَلُ، ولا يَنْقَادُونَ بالمَعْرُوف، والنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعْصُومٌ مِنْها، ولكنَّ ذلك زِيَادَةٌ في التَّوَقِّي، وتَعْلِيمٌ لأُمَّتِه أَنْ يَتَحَصَّنُوا باللهِ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ في كُلِّ حِينٍ.
أَعُوذُ بِكَ - أعْتَصِمُ وأَمْتَنِعُ.(1/2650)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
(98) - وقُلْ أَعوذُ بِكَ رَبِّي أَنْ تَحْضُرَنِي الشَّياطِينُ في شَيْءٍ مِنْ أمْرِي، وأَغُوذُ بِكَ مِنْ غَمْزَاتِهِم ونَخْسَاتِهم. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الاسْتِعَاذَةُ هُنَا مِنْ حُضُورِهم إيَّاه سَاعَةَ الوَفَاةِ. وكَانَ الرَّسُولُ يَسْتِعِيذُ بِاللهِ مِنْ أنْ تَحْضُرَهُ، الشَّياطِينُ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ، ولا سِيَّما حِينَ الصَّلاةِ، وقِرَاءَةِ القُرْآنِ، وحُلُولِ الأَجَلِ.(1/2651)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)
(99) - ولا يَزَالُ الكَافِرُ يَجْتَرحُ السَّيِّئَاتِ، ولا يُبَالي بِمَا يَأتِي وَما يَذَرُ مِنْ الآثامِ والأَوْزَارِ، حَتَّى إذا جَاءَهُ المَوتُ، وعَايَنَ ما هو مُقْدِمُ عَلَيْهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ نَدِمَ على مَا فَاتَ، وأَسِفَ على مَا فَرَّطَ في جَنْبِ اللهِ، وقَالَ: رَبِّ ارجِعُونِ لأَعْمَلَ صَالِحاً فِيمَا قَصَّرْتُ مِنْ عِبَادَتِكَ، وحُقُوقِ عِبَادِكَ.(1/2652)
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
{صَالِحاً} {قَآئِلُهَا} {وَرَآئِهِمْ}
(100) - إِنًَّ الكَافِرَ يَسْأَلُ رَبَّهُ الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا لِيَعْمَل صَالِحاً، وَيَتَدَارَكَ مَا فَرَطَ مِنْهُ، وَلِيُصْلِحَ فِيمَا تَرَكَ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍِ. وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ رَادِعاً وَزَاجِراً: إِنَّهُ لاَ يُجِيبُهُ إِلَى طَلَبِهِ هَذَا (كَلاَّ) . فَهِيَ كَلِمَةٌ مَقُولَةٌ لاَ مَعْنَى لَهَا، يَقُولُهَا كُلُّ ظَالِمٍ وَقْتَ الضِّيقِ والشِّدَّةِ، وَلَوْ رُدَّ لَعَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَقَدْ كَانَ فِي الحَيَاةِ، وجَاءَتْهُ الآيَاتُ فَلَمْ يَتَّعِظُ بِهَا، وَلَمْ يَعْمَلُ صَالِحاً، وَيَقُومُ وَرَاءَهم حَاجِزٌ (بَرْزَخٌ) ، يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ إِلى الدُّنْيَا، وَيَبْقَوْنَ كَذَلِكَ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وَيُنْشَرُونَ.
(وَقَالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ إِنَّ البَرْزَخَ المَقْصُودَ هُنَا هُوَ الفَتْرَةُ التي يَقْضِيها الأَمْوَاتُ فِي قُبُورِهِمْ، مِنْ يَوْمِ مَمَاتِهِمْ إِِلى يَوْمِ الحَشْرِ) .
مِنْ وَرَائِهِمْ - أَمَامَهُمْ.
بَرْزَخٌ - حَاجِز دونَ الرَّجْعَةِ.(1/2653)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
{يَوْمَئِذٍ}
(101) - فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةُ النُّشُورِ، قَامَ النَّاسُ مِنَ القُبُورِ، فَلاَ تَنْفَعُ الإِنْسِانَ فِي ذَلِكَ اليَومِ قَرَابَةٌ، وَلاَ يسْأَلُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، فَلِكُلّ امْريءٍ يَوْمِئذٍ شَأنٌ يُغْنِيهِ.
الصُّورُ - قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ فَيُحْدِثُ صَوْتاً.(1/2654)
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)
{مَوَازِينُهُ} {فأولئك}
(102) - والعَمَلُ هَوَ مِيزَانُ عِنْدَ اللهِ، فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ كَانَ مِنَ المُفْلِحِينَ الذين فَازُوا بِمَا سَعَوا إِلَيْهِ، فَنَجَوْا مِنَ النَّارِ، وأُدْخِلُوا الجَنَّةَ.(1/2655)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)
{مَوَازِينُهُ} {فأولئك} {خَالِدُونَ}
(103) - وَمَنْ ثَقُلَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فَأُوْلَئِكَ الذين خَابُوا وَهَلُكُوا، وَبَاؤُوا بالصِّفَقَةِ الخَاسِرَةِ وَخَلَدُوا فِي نَارِ جَهَنَّمَ.(1/2656)
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
{كَالِحُونَ}
(104) - تَلْفَحُ النَّارُ وُجُوهَهُم فَتَشْوِيها، وَتَتَقَلَّصُ شِفَاهُهُمْ، وَتَتَغَيَّرُ مَلاَمِحُهُمْ.
كالِحُونَ - عَابِسُونَ، أو مُتَقَلِّصُو الشِّفَاهِ عَنِ الأَسْنَانِ مِنْ أَثَرِ اللَّفْحِ.
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ - تُحُرِقُ.(1/2657)
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)
{آيَاتِي}
(105) - وَيُقَالُ لأَهْلِ النَّارِ تَوْبِيخاً وَتَقْرِيعاً لَهُمْ عَلَى مَا ارْتَكَبُوا مِنْ كُفْرِ وَآثَامٍ فِي الدُّنْيَا فَأَوْصَلَهُمْ ذَلِكَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ: لَقَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمُ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلْتُ إِلَيْكُمُ الكُتُبَ، وَأَزَلْتُ شُبَهَكُمْ، فَلَمْ تَبْقَ لَكُمْ حُجَّةٌ، وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِآيَاتِي.(1/2658)
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)
(106) - وَيَرُدُّونَ قَائِلِينَ: يَا رَبِّ لَقد كَثُرَتْ مَعَاصِينَا التي أَوْرَثَتْنَا الشَّقَاءَ وَقَدْ قَامَتْ عَلَيْنَا الحُجَّةُ وَلِكِنَّنَا كُنَّا أَشْقَى مِنْ أَنْ نَنْقَادَ لَهَا، وَكُنَّا بِذَلِكَ ضَالِّينَ عَنْ طَرِيقِ الثَّوَابِ.
غَلَبَتْ عَلَيْنَا - اسْتَوْلَتْ عَلَيْنَا وَمَلَكتْنَا.
شِقْوَتُنَا - شَقَاوَتُنَا، أَو لَذَّتُنَا وَشَهَوَاتُنَا.(1/2659)
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)
{ظَالِمُونَ}
(107) - ثُمَّ يَقُولُونَ لِرَبِهِّمْ: رَبَّنَا أَخْرَجْنَا مِنَ النَّارِ، وَرُدَّنَا إِلَى الدُّنْيَا، فَإِنْ عُدْنَا إِلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ وارْتِكَابِ الآثامِ، فَنَحْنُ ظَالِمُونَ لأَنْفُسِنَا مُسْتَحِقُّونَ للْعُقُوبَةِ.(1/2660)
قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
(108) - وَيَرُّدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى الكُفَّارِ إِذَا سَأَلُوا الخُرُوجَ مِنَ النَّارِ، والرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا، وَيَقُولُ لَهُمْ: امْكُثُوا فِيها صَاغِرِينَ مُهَانِينَ أَذِلاَّءَ واسْكُتُوا (اخْسَؤُوا) وَلاَ تَعُودُوا إِلَى سُؤَالِكُم، هَذَا، فَإِنَّهُ لاَ رَجْعَةَ لَكُمْ إِلَى الدُّنْيَا.
اخْسَؤُوا فِيهَا - اسْكُتُوا سُكُوتَ ذِلَّةٍ وَهَوَانٍ كَالْكِلاَبِ.(1/2661)
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)
{آمَنَّا} {الراحمين}
(109) - ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى مُذَكِّراً لِهَؤُلاَءِ بِذُنُوِبِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَبِاسْتِهْزَائِهِمْ بِعِبَادِه المُؤْمِنِينَ وَأَوْلِيَائِه: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي آمنُوا بِي وَبِرُسُلِي، وَكَانُوا يَقُولُون: رَبَّنَا آمَنَّا بِكَ، وَبِرُسُلِكَ، فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، وَأَنْتَ خَيْرٌ الرَّاحِمِينَ.(1/2662)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
(110) - فَتَشَاغَلْتُم بِهِمْ سَاخِرِينَ مِنْهُمْ، وَدَأَبْتُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى نَسِيتُم ذِكْرِي، وَلَمْ تَخَافُوا عِقَابِي، وَكُنْتُم تَضْحَكُونَ مِنْهُم اسْتِهْزَاءً بِهِم.
سِخْريّاً - مَوْضِعاً لِلْهُزْءِ والسُّخْرِيَةِ.(1/2663)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
{الفآئزون}
(111) - وَإِنِّي جَزَيْتُهُمْ عَلَى إِيْمَانِهِمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَكَافَأْتُهم عَلَى صَبْرِهِمْ عَلَى أَذَكُمْ لَهُمْ، وَاسْتِهْزَائِكُم بِهِمْ، وَجَعَلْتُهُم الفَائِزِينَ بالسَّعَادَةِ والسَّلاَمَةِ والجَنَّةِ والنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ.(1/2664)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)
{قَالَ}
(112) - يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى مَا أَضَاعُوهُ، فِي عُمْرِهِم القصِيرِ فِي الدُّنْيَا، مِنْ طًَاعَةِ اللهِ، وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَلَوْ صَبَرُوا مُدَّةَ حَيَاتِهِم الدُّنْيا القَصِيرَةِ لَفَازُوا كَمَا فَازَ أَوْلِيَاءُ اللهِ المُتَّقُونَ.
وَيَقُولُ لَهُمْ تَعَالَى: كَمْ كَانَتْ مُدَّةُ لَبْثِكُمْ وإِقَامَتِكُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ السِّنِينَ؟(1/2665)
قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)
{فَسْئَلِ}
(113) - فَيَقُولُونَ: إِنَّهُمْ لَبِثُوا فِي الأًَرْضِ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ يَا رَبَّنَا الحَفَظَةَ العَارِفِينَ بِأَعْمَالِ العِبَادِ، المُحْصِينَ لَهَا (العادِّينَ) .(1/2666)
قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
{قَالَ}
(114) - وَيَقُولُ لَهُمْ تَعَالَى: إِنَّكُمْ لَبِثْتُمْ مُدَّةً يَسِيرَةً عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَلَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تُدْرِكُونَ لَمَا آثَرْتُم الزَّائِلَ الفَانِي، عَلَى الدَّائِم البَاقي، وَلَمَا تَصَرَّفْتُم هَذًَا التَّصَرُّفَ السَّيِّئ الذي اسْتَوْجَبَ سَخَطَ اللهِ عَلَيْكُم فِي تِلْكَ المُدَّةِ اليَسِيرَةِ، وَلَوْ أَنَّكُم صَبَرْتُم عَلَى عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ، كَمَا فَعَلَ المُؤْمِنُونَ لَفزْتُم كَمَا فَازُوا.
{خَلَقْنَاكُمْ}(1/2667)
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)
(115) - هَلْ ظَنَنْتُمْ أَيُّهَا الأَشْقِيَاءُ أَنَّنا خَلَقْنَاكُمْ لَعِباً وَبَاطِلاً (عَبَثاً) ، وَأَنَّنا لاَ حِكْمَةَ لَنَا فِي خَلْقِكُمْ؟ إِنَّنا لَمْ نَخْلُقْكُم عَبَثاً وَلاَ بَاطِلاً لِلَّعِبِ والتَّسْلِيَةِ، وإِنَّمَا خَلَقْنَاكُمَ لِتَعْبُدوا اللهَ، وَتُقِيمُوا أَوَامِرَهُ، فَهْلْ حَسَبْتُمْ أَنَّكُمْ لاَ تَرْجِعُونَ إِلَيْنَا فِي الآخِرَةِ لِنُحَاسِبَكُم عَلَى أَعْمَالِكُمْ؟
(وَقِيلَ بَلْ مَعْنَى الآيَةِ هُوَ: هَلْ تَظُنُّونَ أَنَّكُمْ خُلِقْتُمْ لِتَعْبَثُوا وَتَلْعَبُوا كَمَا خُلِقَتِ البَهَائِمُ، لاَ ثَوابَ وَلاَ عِقَابَ؟)(1/2668)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
{فَتَعَالَى}
(116) - فَتَعَالَى اللهُ وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ أَنْ يَخْلِقُ شَيئْاً عَبَثاً، فَإِنَّهُ المَلِكُ الحَقُّ المُنَزِّهُ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ، لاَ إِلَه إِلاَّ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَرَبُّ العَرْشِ، (والعَرْشَ هُوَ سَقْفُ جَمِيعِ المَخْلُوقَاتِ) فَهُوَ تَعَالَى المُهَيْمِنُ المُسَيْطِرُ عَلَى جَمِيعِ مَا فِي الوُجَودِ، وَهُوَ الكَرِيمُ.
(وَقِيلَ إِنَّ الكَرِِيمَ هُنَا صِفَةٌ لِلْعَرْشِ، وَتَعْنِي أَنَّهُ البَديعُ الحَسَنُ البَهِيُّ المَنْظَرِ) .
فَتَعَالَى اللهُ - ارْتَفَعَ بِعَظَمَتِهِ، وَتَنَزَّهَ عَنِ العَبَثِ.(1/2669)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)
{آخَرَ} {بُرْهَانَ} {الكافرون}
(117) - يَتَوَعَّدُ اللهُ تَعَالَى مَنْ أَشْرَكَ بِعِبَادَتِهِ أَحَدَاً سِوَاهُ فَيَقُولُ: إِنَّ مَنْ أَشْرَكَ باللهِ سِوَاهُ، وَعَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَلاَ بُرْهَانَ لَهُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ، وَلاَ دَلِيلَ فَإِنَّ الله يُحَاسِبُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُوَفِّيهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ جَزَاءٍ، وَلاَ يُفْلِحُ الكُفَّارُ، وَلاَ يَنْجُونَ مِنَ العِقَابِ.(1/2670)
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
{الراحمين}
(118) - ثُمَّ أَرْشَدَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم والمُؤْمِنِينَ إِلَى هَذَا الدُّعَاءِ، فَقُلْ يَا أَيُّهَا الرَّسْولُ: يَا رَبِّ اغْفِرْ (أَي امْحُ ذَنْبِي واسْتُرْهُ عن النَّاسِ) ، وارْحَمْ (أي سَدِّدُ خُطَايِ وَوَفِّقْنِي فِي الأَقْوَالِ والأفْعَالِ) ، وأَنْتَ يَا رَبّ خَيْرُ مَنْ رَحِمَ ذا ذَنْبٍ، فَقَبِلَ تَوْبَتَهُ، وَتَجَاوَزَ عَنْ عِقَابِهِ.(1/2671)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
{أَنزَلْنَاهَا} {وَفَرَضْنَاهَا} {آيَاتٍ} {بَيِّنَاتٍ}
(1) - يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَه إِلى الاْعِتنَاءِ بِهَذِهِ السُّورَةِ التي أَنْزَلَهَا عَلَى رَسُولِهِ الكَرِيم، وَقَدَّرَ فِيهَا الحُدُودََ والأًَحكام عَلَى أَتَمَّ وَجَهِ، وَبَيِّنَ فِيها أَجدِلَة وَبَيِّناتِه الوَاضِحَةَ لِيُعدَّهُم بِذَلِكَ إِلى الهُدَى والاتِّعَاظِ، والعَمَلَِ بِمَا جَاءَ فِيها مِنَ أَوَامِر، والانْتِهَاءِ عَمَّا جَاءَ فِيهَا مِنْ نَوَاهٍ وَزَوَاجِرَ، لِتَتَحَقَّقَ لَهُم السَعَادَةُ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ.
فَرَضْنَاها - أَوْجَبْنَا أَحْكَامَهَا عَلَيْكُم، أَوْ قَدَّرْنَاها.(1/2672)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
{وَاحِدٍ} {الآخر} {طَآئِفَةٌ}
(2) - فَهَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ فِيهَا حُكْمُ الزَّانِي فِي الحَدِّ فَالزَّانِي إِذَا كَانَ بكْراً - ذَكَراً كَانَ أَوْ أُنْثَى - وَهُوَ حُرٌّ بَالِغٌ عَاقِلٌ فَحَدُّهُ مِئَةُ جَلْدَةٍ كَمَا فِي الآيَة وَيَرَى جُمْهُورُ الفَقَهَاءِ أَنْ يُغَرَّبَ سَنَةً عَنْ مَوْطِنِهِ، إِنْ شَاءَ الإِمَامُ تَغْرِيبَهُ (أَي نَفْيَهُ مِنْ مَوْطِنِهِ) . أَمَّا إِذَا كانَ الزَّانِي مُحْصَناً، وَهُوَ الذي سَبَقَ لَهُ الوَطْءُ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ يُرْجَمُ بالحِجَارَةِ حَتَّى المَوْتِ.
وَحُكْمُ الزَّانِي المُحْصَنِ مَأْخُوذٌ مِنَ السُنَّةِ، فَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِرَجْمِ امْرَأَةٍ مُحْصَنَةٍ زَنَتْ.
وَيَثْبُتُ الزِّنَى بِالإِقْرَارِ، أَوْ بِحَبَلِ المَرْأَةِ بِلاَ زَوْجٍ مَعْرُوفٍ لَهَا، أو بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ مِنَ الشُّهُودِ العُدُولِ يَرَوْنَها فِي حَالَةِ الفِعْلِ.
(وَقَالَ بَعْضُ الأَئِمَّةِ: إِنَّهُ يَجِبُ الجَلْدُ مَعَ الرَّجٍمِ عَمَلاً بالنَّصِّ. وَلَكنَّ أَكْثَرَ الأَئِمَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى عَدَم وُجُوبِ الجَلْدِ مَعَ الرَّجْمِ لأَنَّ عُقُوبةَ الرَّجْمِ أَشَدُّ مِنْ عُقُوبَةِ الجَلْدِ) .
وَيُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ إِلى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِم أَلاَّ تَأْخُذَهُمْ رَأْفَةٌ بِالزُّنَاةِ فِي تَطْبِيقِ حُكْمِ اللهِ وَشَرْعِهِ، لأَنَّ مِنْ مُقْتَضَى الإِيْمَانِ إِيثَارَ مَرْضَاةِ اللهِ عَلَى مَرْضَاةِ النَّاسِِ، فَإِذَا رُفِعَتِ الحُدُودُ إِلى السُّلْطَانِ فَتُقَامُ وَلا تُعَطَّلُ.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: تَعَافوا الحُدُود بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَد وَجَبَ) .
فَإِذَا كُنْتُم تُؤْمِنُونَ بِاللهِ، واليَوْمِ الآخِرِ، فَافْعَلُوا مَا أَمَرَكٌمْ بِهِ اللهُ مِنْ إِقَامَةِ الحَدِّ عَلَى الزُنَاةِ، وشَدِّدُوا عَلًيْهِم الضَّرْبَ عَلَى أَنْ لاَ يَكُونَ الضَّرْبُ مُبرِّحاًَ، لِيَرْتَدِعَ مَنْ يَصْنَعُ مِثْلَهُمْ.
ثُمَّ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِأَنْ يَكُونَ تَنْفِيذُ الحُدُودِ عَلاَنِيَةً، وَأَنْ يَشْهَدَهُ طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ لأَنَّهُ يَكُونُ أَبْلَغَ فِي زَجْرِ النَّاسِ، وَأَنْجَعَ فِي رَدْعِهِمْ، وَيَكُونُ تَقْرِيعاً وَتَوْبِيخاً وَفَضِيحَةً إِذَا كَانَ النَّاسُ حُضُوراً.
الطائِفَةُ - تَشْمَلُ الوَاحِدَ فَمَا فَوقَ، وَقَالَ ابنُ عَبَّاسِ إِنَّهَا تَشْمَلُ الأَرْبَعَةَ فَصَاعِداً.(1/2673)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
(3) - الزَّانِي لا يَطَأَُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، وَلاَ يُطَاوِعُهُ فِي فِعْلِ الزِّنَى إِلاَّ زَانِيَةٌ عَاصِيَةٌ، أًَوْ مُشْرِكَةٌ لاَ تَعْتَقِدُ حُرْمَةَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الزَّانِيَةُ لاَ يَطَؤُهَا وَلاَ يَنْكِحُهَا إِلاَّ عَاصٍ بِزِنَاهُ، أَو مُشْرِكٌ لا يَعْتَقِدُ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى.
(وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ هَذَا بالنِّكَاحِ إِنَّمَا هُوَ الجمَاعِ، لاَ يَزْنِِي بِها إِلاَّ زانٍ أو مُشْرِكٌ) . وَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ بالفُجَّارِ الزُّنَاةِ مِنَ الرِّجَالِ، إِلاَّ إِذَا حَدَثَتْ تَوْبَةٌ. فَإِنَّهُ يُسْمَحُ لِلتَّائِب مِنَ الزِّنى بالزَّوَاج مِنَ الحَرَائِرِ العَفِيفَاتِ.(1/2674)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
{المحصنات} {ثَمَانِينَ} {شَهَادَةً} {الفاسقون}
(4) - فِي هَذِهِ الآيَةِ يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى حُكْمَ الذينَ يَتَّهِمُونَ المُحَصَنَاتِ العَفِيفَاتِ بالزِّنَا (وَهُنَّ الحَرَائِرُ البَالِغَاتُ العَفِيفَاتُ) . وإِذَا كَانَ المَقْذُوفَ رَجُلاً يُجحْلَدُوا قَاذِفُه أيضاً. فَإِذَا أَقَامَ القَاذِفُ البَيِّنَةَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ، دَرَأ ذَلِكَ الحَدَّ عَنْهُ. فَإِذَا لَمْ يَأتِ القَاذِفُ بِأَرْبَعَةِ رِجَالٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ، وَيُثْبِتُونَ صِحَّةَ دَعْوَاهُ، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيهِ بِثَلاثِ عُقُوبَاتٍ:
- يُجْلَدُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً.
- تُرَدُّ شَهَادَتُهُ
- يُعَدُّ فَاسِقاً لَيْسَ بِعَدْلٍ لاَ عِنْدَ اللهِ وَلاَ عِنْدَ النَّاسِ.
يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ - يَقْذِفُونَ العَفِيفَاتِ بِالزِّنَى.(1/2675)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
(5) - واسْتَثْنَى اللهُ تَعَالى مِنَ العُقُوبَتَيْنِ الأَخِيرَتَيْنِ الذين تَابُوا، وَرَجَعُوا عَمَّا قَالُوا، وَنَدِمُوا عَلَى مَا تَكَلَّمُوا بِهِ، وأَصْلَحُوا أَحْوَالَهُمْ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى سَتَّارٌ لِذُنُوبِهِمْ، رَحِيمٌ بِهِمْ، فَيُزِيلُ عَنْهُمْ ذَلِكَ العَارَ الذي لَحِقَ بِهِمْ بِعَدَمِ قَبُولِ شَهَادَتَهِمْ، وَوَسْمِهِمْ بِمِيْسَمِ الفُسُوقِ.
وَاخْتَلَفَ الأَئِمَةُ حَوْلَ مَدَى أثرِ التَوْبَةِ: هَلْ تَشْمَلُ الفِسْقَ وَرَدَّ الشَهَادَةِ معاً، أم الفِسْقَ فَقَط؟
- فَقَالَ الأَئِمَةُ: مَالِكٌ وَأَحْمِدُ والشَّافِعِيُّ: إِنَّ القَاذِفَ إٍِذا تَابَ ارْتَفَعَ عَنْهُ حُكْمُ الفِسْقِ، وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ.
- وَقَالَ أبو حَنِيفَة: إنَّ الاسْتِثْنَاءَ الوَارِدَ فِي الآيَةِ يَعُودُ لِلجُمْلَةِ الأخيرَةِ فَقَطْ، فَيَرْتَفِعُ الفِسْقُ بالتَّوْبَةِ وَيَبْقَى مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ.
- وَقَالَ الشَّعْبِيُّ والضَّحَّاكُ: لاَ تُقْبَل شَهَادَتُه وإِنْ تَابَ إِلاَّ أَنْ يَعْتَرِفَ عَلَى نَفْسِه أَنَّهُ قَدْ قَالَ البُهْتَانَ فَحِينَئذٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ.(1/2676)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)
{أَزْوَاجَهُمْ} {فَشَهَادَةُ} {شَهَادَاتٍ} {الصادقين}
(6) - هَذِهِ الآيَةُ وَمَا بَعْدَها تَتَعَلَّقُ بِاللِّعَانِ، وَفِيهَا مَخْرَجٌ لأَزْوَاجِ إِذَا اتَّهَمُوا زَوْجَاتِهِم بالزِّنَى، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا إِقَامَةَ البَيِّنَةِ عَلَى زِنَاهُنَّ كَمَا أَمَرَ اللهُ، فَيُحْضِرُ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ إِلَى الإِمَامِ، فَيَدَّعِي عَلَيْهَا بِمَا رَمَاهَا بِهِ، فَيُحَلِّفُهُ الحَاكِمُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لِمَنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزِّنَى. وَهَذِهِ الشَّهَادَاتُ الأَرْبَعُ تُقَابِل شَهَادَةَ الشُهَداءِ الأََربعَةِ الذينَ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى شَهَادَتَهم كَافِيَةً لإِثْبَاتِ الزِّنَى.(1/2677)
وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)
{والخامسة} {لَعْنَةَ} {الكاذبين}
(7) - وَيُحَلِّفُهُ فِي المَرَّةِ الخَامِسَةِ: أَنَّ لَعَنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الكَاذِبِينَ. فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ بَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ، وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ أَبَداً. وَيُعْطِيها مَهْرَها، وَيَتَوَجَّبُ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنى إِنْ سَكَتَتْ عَلَى مَا رَمَاهَا بِهِ زَوْجُها.(1/2678)
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)
{وَيَدْرَؤُاْ} {شَهَادَاتٍ} {الكاذبين}
(8) - وَلاَ يَدْرَأُ عَنْهَا إِقَامَةَ حَدِّ الزِّنى عَلَيْهَا (وَهُوَ الرَّجْمُ) إِلاَّ أَنْ تُلاَعِنَ، فَتَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ باللهِ عَلَى أَنَّ زَوْجَها مِنَ الكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِن الزِّنَى.
يَدْرأُ عَنْهَا العَذَابَ - يَدْفَعُ عَنْهَا عُقُوبَةَ الرَّجْمِ.(1/2679)
وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
{والخامسة} {الصادقين}
(9) - وَتحْلِفُ فِي المَرَّةِ الخَامِسَةِ أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ زَوْجُها مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزِّنى. والمَغْضُوبُ عَلَيْهِ هُوَ الذي يَعْلَمُ الحَقَّ ثُمَّ يَحِيدُ عَنْهُ لِذَلِكَ خَصَّهَا اللهُ تَعَالى بِالغَضَبِ لأَنَّ الغَالِبَ أَنَّ الرَّجُلَ لا يَتَجَشَّمُ فَضِيحَةَ أَهْلِهِ وَرَمْيَها بالزِّنَى إِلاَّ وَهُوَ صَادِقٌ مَعْذَورٌ، وَهِيَ تَعْلَمُ صِدْقَهُ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ.(1/2680)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
(10) - وَلَوْلاَ تَفَضُّلُ اللهِ تَعَالَى، وَلَوْلاَ رَحْمَتُهُ بِكُمْ يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ فِي قَبُولَ تَوْبَتِكُم فِي كُلِّ آنٍ، وَأَنَّهُ حَكِيمٌ فِي شَرْعِهِ، وَفِعْلِهِ، وَحُكْمِهِ، وَمِنْهَا مَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنَ اللِّعَانِ، لَفَضَحَكُمْ، وَلَعَاجَلَكُمْ بالعُقُوبَةِ. وَلَكِنَّهُ سَتَرَ عَلَيْكُمْ، وَدَفَعَ عَنْكُم الحَدَّ باللِّعَانِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَشْرَعْ ذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ حَدُّ القَذْفِ، مَعَ أَنَّ قَرَائِنَ الأَحْوَالِ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، لأَنَّهُ لاَ يَفْتَرِي عَلَى زَوْجَتِهِ، لأَنَّهُمَا مُشْتَرِكانِ فِي الفَضِيحَةِ.
وَلَوْ جَعَلَ شَهَادَةَ الرَّجُلِ مُوجِبَةً مُوجِبَةً لِحَدِّ الزِّنى وَحْدَهَا، لَكَثُرَ افْتِراءُ الأَزْوَاجِ عَلى زَوْجَاتِهِمْ لِضَغِينَةٍ قَدْ تَكُونُ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَمِنْ ثُمَّ جَعَلَ شَهَادَاتِ كُلِّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ مَعَ الجَزْمِ بِكَذِبِ الآخَرِ تَدْرَأَ عَنْهُ العُقُوبَةَ الدُّنْيَويَّةَ.
(وَرُوي أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ آيَةِ اللِّعَانِ، هُوَ أَنَّهُ لَمَا نَزَلَتْ آيَةُ القَذْفِ (والذينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأَتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَهُ إِنَّهُ عَادَ إِلى بَيْتِهِ فَوَجَدَ رَجُلاً عِنَدَ امْرَأَتِهِ، فَسَمِعَ بِأَذِنِهِ، وَرَأَى بِعَيْنِهِ، فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، وَجَاءَ إٍِلى الرَّسُولِ فأَعْلَمَهُ بِمَا رَأى وَسَمِعَ، فاعْتَبَرَ الرَّسُولُ ذَلِكَ القَوْلَ قَذْفاً مِنْهُ بِحَقِّ زَوْجَتِهِ، وَطَالَبَهُ بِإِقَامَةِ البَيِّنَةِ أوأَنَّ الرَّسُولَ سَيَأْمُرُ بِحَدِّهِ حَدَّ القَذْفِ. فَقَالَ الرَّجُلُ؟ يَا رَسُولَ اللهِ إِذَا رَأى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلاً يَنْطِلِقُ يَلْتَمِسُ البَيِّنَةَ؟ فَجَعَلَ النَبِيُّ يَقُولُ لَهُ: البَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ إِنِي لَصَادِقٌ، وَلِيُنْزلَنَّ اللهُ مَا يُبْرِيءُ ظَهْرِي مِنَ الحَدِّ. فَنَزَلَ جِبْريلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِهَذِهِ الآيَاتِ. فَأَرْسَلَ الرَّسُول إِلى الرَّجُلِ وَزَوْجِهِ فَشَهِدَ الرَّجُلُ، والنَّبِيُّ يَقُولُ لَهُ: إِنْ اللهَ لَيَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا لَكَاذِبٌ، ثُمَّ قَامِتِ المَرْأَةُ فَشَهدَتْ، فَلَمَّا كَانَتِ الخَامِسَةُ وَقُفُوهَا، وَقَالُوا لَهَا: إِنَّهَا مُوجَبَةٌ، تُوجِبُ العَذَابَ عَلَيْكِ، فَتَلَكَّأَتْ، حَتَّى ظُنَّ أَنَّها تَرْجِعُ، ثُمَّ قَالَتْ: لاَ أَفَضَحُ قَوْمِي سَائِرَ اليومِ، فَمَضَتْ وَحَلَفَتْ) .(1/2681)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
{جَآءُوا} {امرىء}
(11) - هَذِهِ الآيَةُ أشَارَتْ إِلَى حَدِيثِ الإِفْكِ الذي أَطْلَقَهُ بَعْضُ المُنَافِقِينَ بِحَقِّ عَائِشَةَ أَمَّ المُؤْمِنِينَ، رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْها. وَتَتَلَّخَصُ هَذِهِ القِصَّةُ فِي الآتي:
(كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا غَزَا أَجْرَى القُرْعَةَ بَينَ نِسَائِهِ فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهَا مِنْهُنَّ صَحِبَها فِي غَزَوَتِهِ، وَفِي إِحْدَى الغَزَوَاتِ خَرَجَ سَهْمُ عَائِشَة رِضْوَانُ اللهِ عَليها، وَذَلِكَ بَعْدَما أُنْزِلَتْ آيَةُ الحِجَابِ، فَلَمَّا فَرَغَ الرَّسُولُ مِنَ الغَزْوَةِ قَفَلَ عَائِداً بِالجَيْشِ، وَلَمَّا دَنَوْا مِنَ المَدِينَةِ آذَنَ النَّاسَ لَيْلَةً بالرَّحِيلِ، فَلَمَا آذَنَهُمْ بِالرَّحِيلِ خَرَجَتْ عَائِشَةُ لِقَضَاءِ بَعْضِ حَاجَتِهَا، حَتَّى جَاوَزَت الجَيشَ. ثُمَّ عَادَتْ فالتمَسَتْ عِقْداً لَهَا فَوَجَدَتْهُ قَدِ انْفَرَطَ، فَرَجَعَتْ تَلْتَمِسُهُ، فَتَأَخَّرَتْ فِي البَحْثِ عَنْهُ. وَجَاءَ الرِّجَالُ الذينَ كَانُوا يَحْمِلُونَهَا، فاحْتَمِلُوا هَوْدجَها فَرَحَّلُوهُ عَلَى بَعِيرِهَا الذي كَانَتْ تَركَبُهُ، وهُمْ يحسَبُونَ أَنَّها فيهِ (وَكَانَ النِّسَاءُ في ذَلِكَ الحِينِ خِفَاقاً لَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ) فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الرِّجَالُ خِفَّةَ الهَوْدَجَ حِينَمَا رَفَعُوهُ وَحَمَلُوهُ عَلَى البَعِيرِ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ إِذْ ذَاكَ صَغِيرَةَ السِّنِّ، خَفِيفَةَ الوَزْنِ، فَبَعَثُوا الجَمَلَ وَسَارُوا.
أَمَّا عَائِشَةُ فَإِنَّهَا وَجَدَتْ عِقْدَهَا بَعْدَ أَنْ سَارَ الجَيْشُ، فَلَمَّا جَاءَتْ مَنَازِلَ الجَيْشِ وَجَدَتْهُ قَدْ ارْتَحَلَ، فَاتَّجَهَتْ إِلى المَكَانِ. الذي كَانَتْ تَنْزِلُ فِيهِ، وَفِي ظَنِّهَا أَنَّ القَوْمَ سَيَفْتَقِدُونَهَا فَيَرْجِعُونَ للبحْثِ عَنْهَا. وَبَيْنَمَا كَانَتْ جَالِسَةً غَلَبَتْهَا عَيْنَاهَا فَنَامَتْ.
وَكَانَ صفْوَانُ بنُ مُعَطِّل السّلَمِي - وَهُوَ مِنْ جَنْدِ المُسْلِمِينَ - قَدْ عَرَّسَ غَازِياً مِنْ وَرَاءِ الجَيْشِ فَأَدْلَجَ (سَارَ لَيْلاً) فَأَصْبَحَ عِنْدَ المَنْزِلِ الذي كَانَتْ عَائِشَةُ فِيهِ، فَرَأى سَوَادَ إِنْسَانٍ فَاقْتَرَبٍ فَعَرفِ عَائِشَةَ حِينَ رآهَا، وَكَانَ قَدْ رآهَا قَبْلَ الحِجَابِ، فاسْتَرْجَعَ حَتَّى اسْتَيْقَظَتْ عَائِشَةُ، فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَرَكِبَتَ، وَقَادَ الرَّاحِلَةَ وَسَارَ بِهَا حَتَّى أَتَى الجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا عِنْدَ الظَهِيرَةِ.
وَتَقُولُ عَائِشَةُ: واللهِ مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً وَاحِدَةً.
فَانْطَلَقَ المُنَافِقُونَ - وَعَلَى رَأْسِهِمْ رَأْسُ الكُفِرِ والنِّفَاقِ عَبْدُ اللهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ - يَتَقَوَّلُونَ وَيُلَمِّحُونَ بِمَا يُثِيرُ الشُّبُهَاتِ فِي نُفوسِ ضِعَافِ الإِيْمَانِ والذِّمَمِ، فَخَاضَ فِيهِ مَنْ خَاضَ. وَهَلَكَ فِيهِ مَنْ هَلَكَ.
ثُمَّ مَرِضَتْ عَائِشَةُ بَعْدَ عَوْدَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى المَدِينَةِ، وَهِيَ لاَ تَعْلَمُ شَيئاً مِمَّا يَتَقَوَّلُهُ المُنافِقُونَ، وَقَدْ رَابَهَا مَا لاَحَظَتْهُ مِنْ أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُظْهِرْ لَهَا مِن اللُّطْفِ فِي المُعَامِلَةِ مِثْلَمَا كَانَتْ تَراهُ مِنْهُ حِينَ تَشْتَكِي عِلَّةً. وَحِينَما بَدَأَتْ تَسْتَرِدُّ صِحَّتَهَا، خَرَجَتْ مَعَهَا أُمُّ رَجُلٍ مِنْ بَنِي المُطَّلِبِ اسْمُهُ مِسْطَحٌ، وَهُوَ ابنُ خَالَةِ أَبي بَكْر الصِّدِّيقِ، وَكَانَ أبُو بَكْرٍ يُنْفِقُ عَلَيْهِ لأَنَّهُ كَانَ مُقِلاًّ مِنَ المَالِ. فَعَثَرتْ أُمَّ مِسْطِحٍ بِمُرْطِها فَقَالَتْ تَعْسَ مِسْطَحٌ.
فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: بِئْسَما قُلْتِ تَسُبِّينَ رَجُلاً شَهِدَ بَدْراً! فَأَدْرَكَتْ أُمُّ مِسْطحٍ أَنَّ عَائِشَةَ لاَ تَدْرِي مِمَّا يُقَالُ عَنْهَا شَيئاً، فَأَخبَرتها بِحَدِيثِ الإِفْكِ فازْدَادَ مَرَضُها.(1/2682)
وَاسْتَأْذَنَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي أَنْ تَمْرَضَ فِي بَيْتِ أَبَويْها، فَأَذِنَ لَهَا. وَأَخَذَتْ تَبْكِي لَيْلَ نَهَارَ، وَلاَ تَجِدُ أُمُّهَا مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْهَا. وَأَرْسَلَ الرَّسُولُ إِلَى عَليّ بْنِ أبِي طَالِب وإِلَى أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ يَسْتَشِيرُهُمَا فِي أَمْرِ عَائِشَةَ. أَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَى النَّبِيِّ بالذي يَعْلَمُهُ مِنْ بَراءَةِ أَهْلِهِ، وبِالذي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ مِنَ الوِدِّ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَهْلُكَ، وَلاَ نَعْلَمُ إِلاَّ خَيْراً، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ يُضَيِّقِ اللهُ عَلَيْكَ، والنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرَاتٌ. وَسَأَلَ النَّبِيُّ جَارِيَتَها بَرِيرَةَ إِنْ كَانَتْ رَأَتْ مِنْ عَائِشَةَ مَا يُرِيبُهَا، فَقَالَتْ والَّّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ إِنْ رَأَيْتًَ مِنْهَا أَمْراً قَطُّ أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّوَاجِنُ فَتَأْكُلُهُ.
فَقَامَ الرَّسُولُ مِنْ يَوْمِهِ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بن أُبَيِّ بنِ سَلُول، فَقَالَ وَهُوَ عَلَى المِنْبَر: (يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي، فَواللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ خَيْراً، وَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْراً، ومَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ مَعِي.)
فَقَامَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ سَيِّدُ الأًَوْسِ، فَقَالَ: أَنَا أَعْذُرُكَ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنْ الخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ.
فَقَامَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ، وَهُوَ سَيِّدُ الخَزْرَجِ، وَكَانَ رَجُلاً صَالِحاً، وَلَكِنَّ الحَمِيَّةَ قَد احْتَمَلَتْهُ، فَقَالَ لِسَعْدِ بنِ مُعَاذٍ: كَذَبْت لَعَمْرُ اللهِ لا تَقْتُلُهُ ولا تَقْدِرُ عَلى قَتْلِهِ وَلَوْ كَانَ مِنْ رَهْطِكَ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ يُقْتَلَ، فَقَامَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ، وَهُوَ ابنُ عَمِّ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ لِسَعْدِ بنِ عُبَادَةَ، كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللهِ لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّكَ مُنافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ المُنافِقِ.
فَثَارَ الأَوْسُ والخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا بِالاقْتِتَالِ وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى المِنْبَرِ فَلَمْ يَزَلِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا، وَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ. ثُمَّ ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بِيتِ أًَبي بَكْرٍ، وَأَبُو بَكْرِ وَزَوْجَتُهُ وَعَائِشَةُ فِيهِ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ. وَقَدْ لَبِثَ شَهْراً لاَ يَجْلِسُ عِنْدَهُمَا، وَلاَ يُوحَى إِلَيْهِ شَيءٌ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ. وَبَعْدَ أَنْ جَلَسَ تَشَهَّدَ رَسُولُ اللهِ، وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا، وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللهُ، وَإِنْ كُنْتِ ألْمَمْتِ بِذَنْبٍِ فَاسْتَغْفِري الله وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ وَتَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ.
فَقَالَتْ عَائِشَةُ لأَبِيهَا أَجِبْ رَسُولَ اللهِ عَنِّي، فَقَالَ واللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم: واللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُم بِهَذَا الحَدِيثِ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفِسِكُمْ، وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةُ، واللهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونَنِي، وَلَئِنْ اعْتَرَفَتُ بِأَمْرِ، وَاللهُ يَعْلَمُ أَنِي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُونَنِي، فَوَاللهِ مَا أَجِدُ لِي وَلكُمْ مَثَلاً إِلاَّ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} وَتَحَوَّلَتْ عَنْهُمْ إِلَى فِرَاشِها فَاضْطَجَعَتْ.(1/2683)
فَبْيَنَمَا هُمْ جُلُوسٌ أَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَاتِ المَبِّرئةَ لِعَائِشَةَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْها، فَسُرِّيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَضَحِكَ، وَقَالَ لَهَا: (أَبْشِري يَا عَائِشَةُ أَمَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ بَرَّأكِ) .
وَبَعْدَ أَنْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَاتِ أَقْسَمَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لاَ يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ أبداً، فَأَنْزَلَ اللهُ قَوْلَهُ: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى} إلى قَوْلِهِ تَعَالَى {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} . فَقَالَ أَبُو بَكْرِ واللهِ إِتِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي، فَرَجَعَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ.
وَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَاتِ أقامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّ القَذْفِ عَلَى رَجُلَيْنِ هُمَا حَسّانُ بنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ وَمِسْطَح، وَعَلَى امْرأةٍ هِيَ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ لأُخْتُ زَوْجَتِهِ زَيْنَبَ بِنتِ جَحْشٍ، فَضَرَبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُم ثَمَانِينَ جَلْدَةً) .
وَمَعْنَى الآيَةِ: إِنًَّ الذينَ جَاؤوا بِحَديثِ الإِفْكِ، وَهُوَ الكَذِبُ والبُهْتَانُ وَالافْتِرَاءُ، هُمْ جَمَاعَةٌ مِنْكُم (عُصْبَةٌ) فَلا تَحْسَبوا أَنَّ فِي ذَلِكَ شَرّاً لَكُمْ وَفِتْنَةُ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَهُوَ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الدُّنْيَا، وَرَفْعَةُ مَنَازِلَ فِي الآخِرَةِ، وَإِظْهَارُ شَرَفٍ لَكُمْ بِاعْتِنَاءِ اللهِ تَعَالَى بِعَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنينَ، إِذْ أَنْزَلَ اللهُ بَرَاءَتَهَا فِي القُرْآنِِ. وَلِكُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا الأَمْرِ وَخَاضَ فِيهِ، وَرَمَى أَمَّ المُؤْمِنِينَ بَشَيءٍ مِنَ الفاحِشَةِ، جَزَاءُ مَا اجْتَرَحَ مِنَ الإِثْمِ، بِقَدَرِ مَا خَاضَ فِيهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ تَكَلَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَمِعَ وَضِحِكَ سُرُوراً بِمَا سَمِعَ، وَمِنْهُم مَنْ كَانَ ذَنْبُهُ أَقَلَّ، وَبَعْضُهم مَنْ كَانَ ذَنْبُهُ أَكْبَرَ. والذِي تَوَلَّى مُعْظَمَ الإِثْمِ مِنْهُمْ (كِبْرَهُ) - وَهُوَ عَذَابٌ عَظِيمٌ عَلَى ذَلِكَ الإِفْكُ - أَقْبَحُ الكَذِبِ وأَفْحَشُهُ.
عُصْبَةٌ مِنْكُم - جَمَاعَةٌ مِنْكُم.
تَوَلَّى كِبْرَهُ - تَوَلَّى مُعْظَمُهُ.(1/2684)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
{المؤمنون}
(12) - يُؤَدِّبُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ المُؤْمِنِينَ فِي قِصَّةِ عَائشَةَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا، حَينَ أَفاضَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ الإِفِكِ، فَقَالَ تَعَالَى: هَلاَّ إِذْ سَمِعْتُمْ هَذَا القَوْلَ الذي رُمِيَتْ بِهِ أمُّ المُؤْمِنِينَ، فَقِسْتُمْ ذَلِكَ الكَلاَمَ عَلَى أَنْفُسكُم، فَإِذَا كَانَ لاَ يَلِيقُ بِكُمْ، فَأُمُّ المُؤْمِنِينَ أَوْلَى بالبَرَاءَةِ مِنْهُ، بِالأَحْرَى وَالأَوْلَى.
وَقَالَ تَعَالَى: هَلاَّ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ الخَيْرَ، فَأُمُّ المُؤْمِنِينَ أَهْلُهُ وَأَوْلَى بِهِ، وَهَلاَّ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ هَذَا كَذِبٌ ظًاهِرٌ عَلَى أُمِّ المُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ الذي وَقَعَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يُريبُ، وَذَلِكَ أَنَّ عَائِشَةَ جَاءَتْ رَاكِبَةً جَهْرَةً عَلَى رَاحِلَةِ صِفْوَانِ بنِ المُعَِّطلِ السلمِي، فِي وَقْتِ الظَهِيرَةِ، والجَيْشُ بِكَامِلِهِ يُشَاهِدُ ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللهِ مَعَهُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفِي كُلَّ شُبْهَةٍ وَشَكٍّ، وَلَوْ كَانَ فِي الأَمْرٍ مَا يُرْتَابُ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا جَهْرَةً.
(وَرَوْيَ أَنَّ أَبَا أَيُّوب الأَنْصَارِيَّ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ أَيُّوبٍ: يَا أَبَا أَيُّوبٍ أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ؟ قال: نَعَمْ وَذَلِكَ الكَذِبُ. أَكُنْتِ فَاعِلَةً ذَلِكَ يَا أَُمَّ أَيُّوبٍ؟ قَالَتْ: لاَ واللهِ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَهُ، فَقَالَ: فَعَائِشَةُ واللهِ خَيْرٌ مِنْكِ) .
(وَقِيلَ إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي أبي أَيُّوبٍ حَينَ قَالَ مَا قَالَ لَزَوْجَتِهِ أُمِّ أَيُّوبٍ) .(1/2685)
لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
{جَآءُوا} {فأولئك} {الكاذبون}
(13) - هَلاَّ جَاءَ الخَائِضُونَ فِي الإِفْكِ بِأَرْبَعَةَ شُهُودٍ عَلَى ثُبُوتِ مَا قَالُوا، وَمَا رَمَوْها بِهِ، فَإِذا لَمْ يَأْتِ هَؤُلاءِ المُفْسِدُونَ بالشُّهَدَاءِ لإِثَْبَاتِ مَا قَالُوا فَهُمْ كَاذِبُونَ فِي حُكْمِ اللهِ تَعَالَى وَشَرْعِهِ.(1/2686)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)
{الآخرة}
(14) - وَلَوْلاَ تَفَضُّلُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْكُم بِبَيَانِ الأَحْكَامِ، وَلَوْلاَ رَحْمَتُهُ بِكُمْ فِي الدُّنْيَا بِعَدَمِ التَّعْجِيلِ بِالعُقُوَبَةِ، وَفِي الآخِرَةِ بِالمَغْفِرَةِ، لَنَزَلَ بِكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ بِسَبَبَ الخَوْضِ فِي هَذِهِ التُّهْمَةِ أَفَضْتُمِ فِيهِ - خُضْتُمْ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ الإِفْكِ.(1/2687)
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
(15) - فَقَدْ تَنَاقَلْتُمْ الخَبَرَ بِأَلْسِنَتِكُمْ، وَأَشَعْتُمُوه بَيْنَكُمْ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَكُمْ عِلْمٌ بِصِحَّتِهِ، وَتَظُنَّونَ أَنَّ هَذَا العَمَلَ هَيِّنٌ، لاَ يُعَاقِبُ اللهُ عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّ عِقَابَه يَسِيرٌ، مَعَ أَنَّه خَطِيرٌ يُعاقِبُ اللهُ عَلَيْهِ عِقَاباً شَدِيداً.
(وَفِي الحَدِيثِ: " إِنَّ الرَّجُلَ لِيَتَكَلَّمُ بِالكَلِِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لاَ يَدْرِي مَا تَبْلُغُ يَهْوِي بِهََا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بِيْنَ السَّماءِ والأَرْضِ ") ، (رواهُ مسلمٌ والبخاري) .
تَحْسَبُونهُُ هَيِّناً - تَظُنُّونَهُ سَهْلاً لاَ تَبِعَةَ فِيهِ.(1/2688)
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
{سُبْحَانَكَ} {بُهْتَانٌ}
(16) - وَكَانَ يَنْبَغِي عَلَيْكُمْ عِنْدَ سَمَاعِ مَا أَشَاعَهُ المُنَافِقُونَ مِنْ حَدِيثِ الإِفْكِ والكَذِب والافْتِرَاءِ عَلَى أَمِّ المُؤْمِنِينَ الطَاهِرَةِ، أَنْ تَنْصحُوا بِعَدَمِ الخَوْضِ فِيهِ لأَنَّهُ غَيْرُ لاَئِق بِكُمْ، وأَنْ تَتَعَجَّبُوا مِنْ اخْتِرَاعِ هَذَا النَّوْعِ، مِنْ الكَذِبِ والبُهْتَانِ، وأَنْ تَقُولُوا: لاَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَفَوَّهَ بِهَذًَا الكَلاَمِ، وَلاَ أَنْ نَذْكُرَهُ لأَحَدٍِ تَنَزَّهَ اللهُ رَبُّنَا أَنْ يَقَالَ هَذَا الكَلامَُ، عَلَى ابنةِ الصِّدِّيقِ زَوْجَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا هُوَ إِلاَّ كَذِبٌ وَبُهَتَانٌ، وَإِنَّنا لَنَبْرَأُ إِلَى اللهِ رَبِّنَا مِنْهُ، وَمِنْ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُه أَنْ يَكُونَ الوَسِيلةَ فِي انْتِشَارِ هَذَا القَوْلِ الكَاذِبِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ.
سُبْحَانَكَ - تَعَجُّبٌ مِن شَنَاعَةِ هَذَا الإِفْكِ.
بُهَتَانٌ - كَذِبٌ يُحَيِّرُ سَامِعَهُ لِفَظَاعَتِهِ.(1/2689)
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)
(17) - وَيَنْهَاكُمُ اللهُ تَعَالَى، وَيَعْظُمُ بِهَذِهِ المَوَاعِظِ التي تَغْرِفُونَ بِهَا عظَمَ الذَّنِبِ، كَيْلاَ يَقَعَ مِثْلُ هَذَا مِنْكُمْ فِيمَا يَسْتَقْبَلُ مِنْ الزَّمَانِ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ باللهِ وشَرْعِهِ، وَمِمَّنْ يُعَظِّمُونَ رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ صِفَةَ الإِيْمَانِ تَتَنَافَى مَعَ مِثلِ هَذِهِ المَعْصِيَةِ.(1/2690)
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
{الآيات}
(18) - وَيُنَزِّلُ اللهُ تَعَالَى لَكُمُ الآيَاتِ الدَّالَةَ عَلَى الأَحْكَامِ وَاضِحَةً جَلِيَّةَ، واللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُ عِبَادَه، حَكِيمٌ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ.(1/2691)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
{الفاحشة} {آمَنُواْ} {والآخرة}
(19) - إِنَّ الذين يَرْمُونَ المُحْصنَاتِ، وَبِخَاصَّةِ أُوْلَئِكَ الذين يَتَجِرَّؤوُنَ عَلَى رَمِي بَيْتِ النُّبُوَّةِ الكَرِيمِ، إِنَّمَا يَعْمَلُونَ عَلَى زَعْزَعَةِ ثِقَةِ الجَمَاعَةِ المُسْلِمَةِ بالخَيْرِ والعِفَّةِ، وَعَلَى إِزَالَةِ التَّحَرُّجِ مِنْ ارْتِكَابِ الفَاحِشَةِ، وَذَلِكَ، عَنْ طَرِيقِ الإِيْحَاءِ بأَنَّ الفَاحِشَةَ شَائِعَةٌ فِيهَا، وَبِذَلِكَ تَشِيعٌ الفَاحِشَةُ فِي النُّفُوسِ، ثُمَّ تَشِيعُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الوَاقِعِ، فَهَؤُلاءِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ عَنْدَ اللهِ: فِي الدُّنْيَا بِإِقَامَةِ الحَدِّ عَلَيْهِم، واللَّعْنِ والذَّمِّ مِنَ النَّاسِ، وَفِي الآخِرَةِ بِعَذَابِ النَّارِ. وَمَنْ ذا الذي يَرَى الظَّاهِرَ والبَاطِنَ، وَلاَ يَخْفَى عَلَيْه شَيءٌ غَيْرُ اللهِ تَعَالَى العَلِيمِ الخَبِيرِ؟ فَرُدُّوا الأُمُورَ إِلَى الله تَرْشُدُوا، وَلا َ تَْروُوا مَا لاَ علْمَ لَكُمْ بِهِ.(1/2692)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
(20) - فَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُم، وَلَوْلاَ رَحْمَتُهُ بِكُمْ بَعْدَ الذي قِيلَ، لأَهْلَكَكُم، وَلِكنَّهُ تَعَالَى رَؤُوف بِعِبَادِهِ، رَحِيمٌ بِهِمْ، فَتَابَ عَلَى مَنْ تَابَ إِلَيهِ مِنْ هَذِهِ القَضِيَّةِ، وَطَهَّرَ بِالحدِّ الذِي أُقِيمَ عَلَيْهِ.(1/2693)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
{ياأيها الذين} {آمَنُواْ} {خُطُوَاتِ} {الشيطان}
(21) - يَأْمُرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِأَلاَّ يَتَّبعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَسَالِكَهِ، وَمَا يَأْمُرُ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ، والشَّيْطَانُ إِنَّمَا يَأْمُرُ أَوْلِيَاءَهُ بِفِعْلِ الفَاحِشَةِ وإِشَاعَتِهَا وارْتِكَابِ المُنْكَرَاتِ، فَمَنْ اتَّبَعَ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ جَرَّهُ إِلى ارْتِكَابِ هَذِهِ المُوبقَاتِ. وَلَوْلاَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَرْزقُ مَنْ يَشَاءُ التَّوْبَةَ، والرُّجُوعَ إِلَيْهِ، وَيُزَكِّي بِهَا النُّفُوسَ وَيُطَهِّرُهَا مِنْ شِرْكِهَا وَفُجُورِهَا وَدَنسِها، لَمَ تَطَهَّر مِنْكُم أَحَدٌ مِنْ ذَنْبِهِ، وَلَكَانَتْ عَاقِبَتُهُ النَّكَالَ والوَبَالَ، وَلَعَاجَلَكُم بالعُقُوبَةِ، وَلَكِنَّ الله تَعَالَى يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ، واللهُ سَمِيعٌ لأَقْوَالِ العِبَادِ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْهُم الهِدَايَةَ فَيَهْدِيِهِ.
خُطُوَات الشَّيْطَانِ - طُرُقهُ وَمَذَاهِبُهُ وَآثَارُهُ.
الفَحْشَاءُ - ما عَظُمَ قُبْحُهُ مِنَ الذُّنُوبِ.
المُنْكَرُ - مَا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ.
مَا زَكَى - مَا تَطَهَّرَ مِنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ.(1/2694)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
{أُوْلُواْ} {والمساكين} {المهاجرين}
(22) - وَلاَ يَحْلِفِ القَادِرُونَ مِنْكُم عَلَى الإِنْفَاقِ والإِحْسَانِ (أُولُوا الفَضْلِ) ، والذينَ يَجِدُونَ سَعَةً فِي الرِّزْقِ، عَلَى أَنْ لاَ يَصِلُوا أَقْرَبَاءَهُمْ المَسَاكِينَ والمَهَاجِرِينَ، وَلَيَصْفَحُوا عَنْهُم، وَلْيَعْفُوا عَمَّا تَقَدَّمَ مِنْهُمْ مِنْ الإِسَاءَةِ والأَذَى، فَاللهُ تَعَالَى يَجْزِيهِمْ بِصَفْحِهِمْ عَنْ أَذَى ذَوِي قُرْبَاهُمْ المَسَاكِينَ، وَعَلَى إِحْسَانِهِمْ إِلَيْهِمْ، بالعَفُوِ والمَغْفِرَةِ. فَإِذَا كُنْتُمْ تُحِبُّونَ أَنْ يَعَفُو رَبُّكُم عَنْ سَيِّئَاتِكُم، فَافْعَلُوا مَعَ المُسِيءِ إِلَيْكُم مِثْلَمَا تُحِبُّونَ أَنْ يَفْعَلَ بِكُمْ رَبُّكُم، وَتَأَدَّبُوا بِأَدَبِهِ تَعَالَى، فَهُوَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ.
(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَمَا أَقْسَمَ عَلَى أَنْ لاَ يُنْفِقَ عَلَى ابنِ خَالَتِهِ مِسْطَحِ بنِ أُثَاثَةَ، وَهُوَ مِنْ فُقَرَاءِ المُهاجِرِينَ لِمَا خَاضَ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ الإِفْكِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: (بَلَى وَاللهِ إِنَّا نُحِبُّ أًَنْ تَغْفِرَ لَنَا يَا رَبّ) . ثُمَّ عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِنْفَاقِ عَلَى مِسْطَحٍ) .
أوْلُوا الفَضْلِ - أَصْحَابُ الزِّيَادَةِ فِي الدِّينِ.
السعَةِ - الغَنِى.(1/2695)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)
{المحصنات} {الغافلات} {المؤمنات} {والآخرة}
(23) - يَتَوَعَّدُ اللهُ تَعَالَى الذينَ يَتَّهِمُونَ بِالفَاحِشَةِ النِّسَاءَ العَفِيفَاتِ (المُحْصَنَاتِ) الغَافِلاتِ عَنْهَا، المُؤْمِنَاتِ (وَمِنْ بَابِ أوْلَى أُمَهَاتِ المُؤْمِنِينَ) ، وَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّهُمْ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وَإِنَّهُ تَعَالَى أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً عَظِيماً يَوْمَ القِيَامَةِ إِذَا لَمْ يَتُوبُوا فَإِذَا تَابُوا قُبِلَتْ تَوْبَتُهمْ.
المُحْصَناتُ - العَفِيفَاتُ.(1/2696)
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
(24) - وَيُنْزِلُ اللهُ تَعَالَى بالفَاسِقِينَ، الذينَ يَقْذِفُونَ المُحْصَناتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ، العَذَابَ الأَلِيمَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُوَ يَوْمٌ لاَ سَبِيلَ فِيهِ للإِنْكَارِ، لأَنَّهُمْ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ بِمَا نَطَقَتْ، كَمَا تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُم بِجَمِيعِ ما ارْتَكَبُوهُ مِنْ آثامٍ إِذْ يُنْطِقُها اللهُ تَعَالى الذي أَنْطَقَ كُلَّ شَيءٍ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ فِي تَفَسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: إِنَّ المُشْرِكِينَ حِينَ يَرَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلاَّ أَهْلُ الإِيْمَانِ والصَّلاَةِ، يَقُولُونَ: تَعَالوا نَجْحَدْ، وَنُنْكِرْ مَا كَانَ مِنَّا، فَيْجْحَدُونَ، فَيَخْتِمُ اللهُ عَلَى أَفْوَاهِهِم وَتَشْهِدُ عَلَيْهِمْ أَيْدِيهم وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَجْتَرِحُونَ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً.(1/2697)
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
{يَوْمَئِذٍ}
(25) - وَفِي ذَلِكَ اليَوْمٍ يُوَفِّيهمُ اللهُ تَعَالَى جَزَاءَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بالتَّمَامِ والكَمَالِ (دِينَهُمُ الحَقَّ) ، وَحِينَئذٍ يَعْلَمُونَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ، وَوَعِيدَهُ حَقٌّ، وَحِسَابَه هُوَ العَدْلُ الذي لاَ جَوْرَ فِيهِ، وَيَزُولُ عَنْهُمْ كُلُّ شَكٍّ وَرَيْبٍ أَلَمَّ بِهِمْ فِي الدًارِ الدُّنْيَا.
دينَهُمُ الحَقَّ - جَزَاءَهُمُ الثَّابِتَ لَهُمْ بالعَدْلِ.(1/2698)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
{الخبيثات} {والطيبات} {أولئك}
(26) - النِّسَاءُ الخَبِيثَاتُ يَكُنَّ للرِّجَالِ الخَبِيِثِينَ، والخَبِيثُونَ مِنَ الرِّجَالِ يَكُونُونُ لِلخَبِيثَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، والطَّيِّبُونَ مِنَ الرِّجَالِ يَكُونُونَ للطِّيِّبَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، والطَّيِّبَاتُ مِنَ النِّسَاءِ يَكُنَّ للطِّيِّبِينَ مِنَ الرِّجَالِ، لأَنَّ المُجَانِسَةَ مِنْ دَوَاعِي الالْفَةِ، فَمَا كَانَ اللهُ تَعَالَى لِيَجْعَلَ عَائِشَةَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا، إِلاَّ وَهِيَ طَيِّبَةٌ، لأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَطْيَبُ خَلْقِ اللهِ، وَلَوْ كَانَتْ خَبِيثَةً لمَا صَلَحَتْ لَهُ شَرْعاً وَلاَ قَدَراً.
والطَّيِّبُونَ والطَّيِّبَاتُ بِعِيدُونَ عَمَّا يَقُولُه أَهْلُ الإِفْكِ، مُبَرَّؤونَ مِنَ التُّهَمِ التي يَصِفُهُمْ بِهَا الخَبِيثُونَ، وَلَهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ بِسَبَبِ مَا قِيلَ فِيهِمْ مِنَ الكَذِبِ، وَلَهُمْ عِنْدَ اللهِ جَنَّاتُ النَّعِيمِ، والرِّزْقُ الكَرِيمُ.
(وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الخَبِيثَاتِ مِنَ الكَلِمَاتِ والأًقْوَالِ لاَئِقَاتٌ بالخَبِيثينَ مِنَ الرِّجَالِ الذينَ يَتَفَوَّهُونَ بِهَا) .(1/2699)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
{ياأيها} {آمَنُواْ}
(27) - يُؤَدِّبُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ فَيَأْمُرُهُم بِأَلاَّ يَدْخُلُوا بُيوتاً غَيْرَ بُيُوتِهِمْ حَتَّى يَسْتَأْذِنُوا قَبْلَ الدُّخُولِ (يَسْتَأنِسُوا) ، وَيُسَلِّمُوا بَعْدَ الاسْتِئْذَانِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَأَذِنُوا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَإِذَا أُذِنَ لَهُمْ دَخُلُوا وَإِلاَّ انْصَرَفُوا، فَالاسْتِئْذَانُ خَيْرٌ لِلمُسْتَأذِنِ وَلأَهْلِ البَيْتِ، فالبيْتُ سَكَنٌ يَفِيُْ إِلَيْهِ النَّاسُ فَتَسْكُنُ أَرْوَاحُهُمْ، وَيَطْمَئِنُّونَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ وَحُرَمَاتِهِم، وَيُلْقُونَ عَنْهُمْ أَعْبَاءَ الحِرْصِ والحَذَرِ المُرْهِقَةِ للنُّفُوسِ والأَعْصَابِ، والبُيُوتُ لاَ تَكُونُ كَذَلِكَ إِلاَّ تَكُونُ حَرَمَاً آمِناً لاَ يَسْتَبِيحُهُ أَحَدٌ إِلاَّ بِعِلمِ أَهْلِهِ وإِذْنِهِمْ فِي الوَقتِ الذي يُرِيدُونَ هُمْ.
(وَكَانُوا فِي الجَاهِليَّةِ يَدْخُلُونَ بِدُونِ اسْتِئْذَان) ثُمَّ يَقُولُونَ لَقَدْ دَخَلْنَا) .(1/2700)
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
(28) - فَإِذَا لَمْ يَجِدُوا فِي هَذَهِ البُيُوتِ أَحَداً يَأْذَنُ لَهُمْ بِالدُّخُولِ إِلَيْهَا، كَانَ عَلَيْهِمْ أَلاَّ يَدْخُلُوهَا، وَإِذَا كَانَ أَهْلُ البَيْتِ فِيهِ، وَلَمْ يَأْذَنُوا بالدُّخُولِ، كَانَ عَلَى الزَّائِرِ الانْصِرَافُ، وَلَيْسَ لَهُ الدُّخُولُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَغَضبَ، أو يَسْتَشْعِرَ مِنْ أَهْلِ البَيْتِ الإِسَاءَةَ إِلَيْهِ، أو النُّفْرَةَ مِنْهُ، فَلِلنَّاسِ، أسْرَارُهم وَأَعْذَارُهُم وَيَجِبُ أَنْ يُتْرَكَ لَهُمْ وَحْدَهُمْ حَقُّ تَقْدِيرِ ظُرُوفِهِمْ. وَاللهُ هُوَ المُطَّلِعُ عَلَى خَفَايَا القُلُوبِ، وهُوَ العَلِيمُ بالدَّوافِعِ.
أزْكَى لَكُمْ - أطْهَرُ لَكُمْ مِنْ دَنَسِ الرِّيبَةِ والدَّنَاءَةِ.(1/2701)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
{مَتَاعٌ}
(29) - وَلاَ بَأسَ عَلَيْكُم أَيَّها المُؤْمِنُونَ فِي أَنْ تَدْخُلوا بُيوتاً غَيْرَ مُعَدَّةٍ لِسُكْنَى قَوْمٍ مُعَيِّنِينَ، وَلَكُمْ فِيها مَتَاعٌ، كالحَمَّامَاتِ، والفَنَادِقِ، والخَانَاتِ المُعَدَّةِ لاْسْتِِقْبَالِ العَامَّةِ، فَإِذَا أُذِنَ لِلزَّائِرِ أَوَّلَ مَرَّةٍ كَفَى، وَرَقَابَتهُ عَلَى سَرَائِرِكُم وَعَلاَنِيتِكم، وَفِي هَذِهِ الرَّقَابَةِ ضَمَانَةٌ لِطَاعَةِ القُلُوبِ وامْتِثَالِهَا للأَدَبِ الذي يُؤْدِّبُها بِهِ الله.
جُنَاحٌ - جُرْمٌ أَوْ إِثْمٌ أو حَرَجٌ.
مَتَاعٌ لَكُمْ - مَنْفَعَةٌ لَكُمْ وَمَصْلَحَةٌ.(1/2702)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
{أَبْصَارِهِمْ}
(30) - يَأْمُرُ اللهُ عِبَادَه المُؤْمِنِيِنَ بِأَنْ يَغُضُوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ عَنِ النَّظَرِ إِلَى مَا حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِم، فَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ وَقَعَ البَصَرُ عَلَى مُحَرِّم عَلَيْهِمْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَعَلى المُؤْمِن أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ بَصَرَهُ سَرِيعاً، كَمَا يَأَمُرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِحِفْظِ فُرُوجِهم عَنِ الزِّنَى، وبِحِفْظِها مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا، فَذَلِكَ أَطْهَرُ لِقُلُوبِهِمْ وَأَزَكَى لِدِيِنهِم.
(وَفِي الحَدِيثِ، " احْفَظْ عَوْرَتَكَ إٍِلاَّ مِنْ زَوْجِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ") .
(أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ) .
يَغْضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ -يَكُفُّوا نَظَرَهُمْ عِنِ المُحَرَّمَاتِ.(1/2703)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
{لِّلْمُؤْمِنَاتِ} {أَبْصَارِهِنَّ} {آبَآئِهِنَّ} {آبَآءِ} {أَبْنَآئِهِنَّ} {إِخْوَانِهِنَّ} {أَخَوَاتِهِنَّ} {نِسَآئِهِنَّ} {أَيْمَانُهُنَّ} {التابعين} {عَوْرَاتِ} {أَيُّهَ}
(31) - وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلمُؤْمِنَاتِ أَنْ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبَصَارِهِنَّ عَنِ النَّظَرِ إِلَى مَا لاَ يَحِلُّ لَهُنَّ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْ عَوْرَاتِ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ، وأَنْ يَغْضُضْنَ بَصَرَهُنَّ عَنِ النَّظَرِ إِلى الرِّجَالِ الأَجَانِبِ عَنْهُنَّ، لأَنَّهُ أَوَلى بِهِنَّ وَأَلْيَقُ، وَأَنْ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ عَنْ الفَوَاحِشِ، وَعَمَّا لاَ يَحِلُّ لَهُنَّ، وَعَنْ أن، ْ يَراهُنَّ، أَحَدٌ، وَأَنْ لاَ يُظْهِرْنَ شَيئْاً مِنَ الزِّينَةِ للأَجَانِبِ إِلاَّ مَا لاَ يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ كالرِّدَاءِ والثِّيَابِ والخلخَالِ (وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: الوَجْهِ والكَفَّيْنِ والخَاتَمِ) ، وأَنْ يُلْقِينَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى فَتْحَاتِ ثِيَابِهِنَّ عِنْدَ الصُّدُورِ (جُيُوبِهِنَّ) لِيَسْتُرْنَ بِذَلِكَ شُعُورَهُنَّ وَأَعْنَاقُهُنَّ وَصُدُورَهُنَّ حَتَّى لاَ يُرى مِنْهَا شَيءٌ، وَأَنْ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ (كالسِّوارِ والخَاتَمِ والكُحْلِ والخِصَابِ. . .) إِلاَّ للأَزْوَاجِ وآبَاءِ الأَزْوَاجِ والإخْوَةِ وأَبْنَائِهِمْ، وَأبْنَاءِ الأَخَوَاتِ، وأَبْنَاءِ الأَزْوَاجِ، وَبَقِيةِ المَحَارِمِ الذينَ عَدَّدهُمْ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ، أو لِلنِّسَاءِ المُسْلِمَاتِ (نِسَائِهِنَّ - وَقِيلَ إِنَّ نِسَاءَهُنَّ تَعْنِي النِّسَاءَ المَخْتَصَّاتِ بِصُحْبَتِهِنَّ وخِدْمَتِهِنَّ) ، أو لِمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ مِنْ عَبِيدَ مُسْلِمِينَ (وَقِيلَ حَتَّى لِغَيْرِ المُسْلِمِينَ) ، أو الأتْبَاعِ المُغَفَّلِينَ وَفِي عُقُولِهِمْ وَلَهٌ، وَلاَ يَشْتَهُونَ النِّسَاءَ (وَهُمْ التَّابِعُونَ غَيْرُ أوْلِي الإِرْبَةِ مِن الرِّجَالِ) ، أو لِلأَطْفَالِ الصِّغَارِ الذين لاَ يَفْهَمُونَ أَحْوَالَ النِّسَاءِ وَعَوْرَاتِهِنَّ، أَمَّا إذَا كانَ الطِّفْلُ مُرَاهِقاً أَوْ قَرِيباً مِنْهُ، يَعْرِفُ ذَلِكَ وَيَدْرِيهِ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّوْهَاءِ والحَسْنَاءِ فَلاَ يُسْمَحُ لَهُ بالدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ) .
كَمَا أَمَرَهُنَّ بِأَنْ لاَ يَمْشِينَ فِي الطُّرُقَاتِ وَفِي أَرْجُلِهِنَّ الخَلاَخِيلُ فَيَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ الأَرْضَ ليُسمَعَ صَوْتُ مِشْيَتِهِنَّ، وَلِتَلْتَفِتَ الأَنْظَارُ إِلَيْهِنَّ، كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ نِسَاءُ الجَاهِلِيَّةِ.
(وَفِي الحَدِيثِ " الرَّافِلَةُ فِي الزَّيِنَةِ فِي غَيْرِ أَهْلِهَا كَمِثْلِ ظُلْمَةِ يَوْمِ القِيَامَةِ ") . (أَخْرَجَهُ الترْمَذِي) .
وارْجِعُوا تَائِبينَ إِلَى طَاعَةِ اللهِ يا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ، وافْعَلُوا مَا أَمَرَكُمْ بِهِ ربُّكُم مِنَ التَّخَلُّقِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الجَمِيلَةِ والأَخْلاقِ الحَمِيدَةِ، واتْرُكُوا مَا كَانَ عَلَيْهِ أهلُ الجَاهِلِيَّةِ مِنَ الصِّفَاتِ والأْخْلاقِ الذَّمِيمَةِ، فإِنَّ الفَلاَحَ فِي فِعْلِ ما أَمَرَ اللهَ وَرَسُولُه بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَيا عَنْهُ.
زِينَتَهُنَّ - مَوَاضِعَ زِينَتِهِنَّ مِنَ الجَسَدِ.
ظَهَرَ مِنْهَا - الوَجْهُ والكفَّانِ والقَدَمَانِ.
ولْيَضْرِبْنَ - وَلْيُلْقِينَ وَيُسْدِلْنَ.
بِخُمُرْهِنَّ - أَغْطِيَةِ رُؤُوسِهِنَّ والمَقَانِعِ.
جُيُوبِهِنَّ - فَتَحَاتِ ثِيَابِهِنَّ عِنْدَ الصُّدُورِ.
نِسَائِهِنَّ - المُخْتَصَّاتِ بِخَدْمَتِهِنَّ وَصُحْبَتِهِنَّ.
أُولِي الإرْبَةِ - أصْحَابِ الحَاجَةِ إِلَى النِّسَاءِ.
لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ - لَمْ يَبْلُغوا حَدَّ الشَّهْوَةِ.(1/2704)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
{الأيامى} {الصالحين} {إِمائِكُمْ} {وَاسِعٌ}
(32) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى بِمَدِّ يَدِ المُسَاعَدَةِ، بِكُلِّ الوَسَائِلِ، لِمَنْ أَرَادَ التَّزَوُّجَ، وَلاَ زَوْجَ لَهُ مِنَ الأَحْرَارِ والحَرَائِرِ (الأَيَامَى مِنْكُم - والأَيِّمُ هُوَ مَنْ لاَ زَوْجَ لَهُ ذَكَراً أَوْ أَنْثَى) القَادِرِ عَلَى النِّكاحِ، والقِيَامِ بِحُقُوقِ الزَّوْجيَّةِ، مِنَ الصَّحَّةِ والمَالِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: رَغَّبَهُم اللهُ فِي التَّزَوُّجِ وأَمَرَ بِهِ الأَحْرَارَ والعَبيدَ، وَوَعَدَهُم عَلَيْهِ الغَنِى (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهم اللهُ) واللهُ واسِعُ الفَضْلِ، عَلِيمٌ بِمَصَالِحِ العِبَادِ.
أَنْكَحُوا الأَيَامَى - زَوَّجُوا مَنْ لاَ زَوْجَ لَهَا، وَمَنْ لاَ زَوْجَةَ لَهُ.(1/2705)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
{الْكِتَابَ} {أَيْمَانُكُمْ} {وَآتُوهُمْ} {آتَاكُمْ} {فَتَيَاتِكُمْ} {الحياة} {إِكْرَاهِهِنَّ}
(33) - وَمَنْ لَمْ يَجِدْ سَبيلاً إِلى التَّزَوُّجِ، فإِنَّ الله يَأْمُرُهُ بالتَّعَفُّفِ عَن الحَرَامِ، إِلى أَنْ يَمُنَّ اللهُ عَلَيْهِ بِمَا يُمْكِّنُهُ مِنَ الزَّوَاجِ. وإِذَا طَلَبَ العَبْدُ مِنْ سِيِّدِهِ أَنْ يَكَاتِبَهُ عَلَى مَالٍ يُؤدِّيهِ إِليْهِ مِنْ كَسْبِهِ مُقَسَّطاً وَمْنجَّماً، فَإِنَّ اللهَ يَأْمُرُ سَيِّدَهُ بِأَنْ يُكَتِبَهُ. إِذَا قَدَّرَ أَنَّ لِلْعَبْدِ حِيلَةً، وَقُدْرَةً عَلَى الكَسْبِ، وأَمَانَةً وَصِدقاً.
(وَقِيلَ إِنَّ هَذَا الأَمْرَ أَمْرُ إِرْشَادٍ واسْتِحْبَابٍ لاَ أَمْرَ إِيْجَابٍ، فَإِنْ شَاءَ كَاتَبَهُ، وإِنْ شَاءَ لَمْ يُكَاتِبْهُ) .
وَاخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الذِي آتاكُم} . والأَكْثَرُونَ مُتِّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: اطْرَحُوا لَهُمْ مِنَ الكِتَابَةِ بَعْضَها.
وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ المَقْصُودُ هُوَ النَّصِيبُ الذي فَرَضَ اللهُ لَهُمْ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ. وَعَلى كُلٍّ فَإِنَّ الله تَعَالَى قَدْ حَثَّ جَمِيعَ المُؤْمِنِينَ عَلَى عَتْقِ الرِّقَابِ، والإِعَانَةِ فِي تَحْرِيرِهَا.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: " ثَلاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللهِ عَوْنُهُمْ: المُكَاتبُ الذي يُريِدجُ الأَداءَ، والنَّاكِحُ يُرِيدُ العَفَافَ، والمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ ") . (رَوَاهُ أحْمَد والتِّرمذِيُّ) .
وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَ لأَحَدِهِمْ أَمَةٌ أَرْسَلَهَا تَزنِي، وَجَعَلَ عَلَيْهَا ضَرِيبَةً َأْخُذُهَا مِنْهَا كُلَّ وَقْت، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلامُ نَهَى اللهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ ذَلِكَ.
وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ لَهُ إِمَاءُ يُكْرِهُهُنَّ عَلَى البِغَاءِ طَلَباً لِِخَرَاجِهِنَّ، وَرَغْبَةً في أَوْلاَدِهنَّ، وَكَانَ بَعْضُ هَؤُلاءِ الإِمَاءِ يَأْبَيْنَ ذَلِكَ، وَشَكَوْنَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ فِيهِ. فَهُنَّ يُرِدْنَ التَّعَفُّفَ، وَهُوَ يُريدُ إِكْرَاهَهُنَّ لِيُحَصِّلَ خَرَاجَهُنَّ وَمَهُورَهُنَّ وَأَوْلاَدَهُنَّ.
وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِذَا أَكْرَهَهُنَّ سَادَتهُنَّ عَلَى البِغَاءِ فإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ يَغْفِرُ لَهُنَّ إِثْمَهُنَّ، وَيَكُونُ الإِثْمُ عَلَى مَنْ أَكْرَهَهُنَّ.
وَيَقُولُ تَعَالَى: لاَ تُكْرِهُوا إِمَاءِكُمْ عَلى البِغَاءِ التِمَاساً لَعَرَضِ الدُّنْيَا، فَالزِّنَى عَمَلٌ قَبِيحٌ شَنِيعٌ، فَإِنَّ ذَا المُرُوءَةِ لاَ يَرْضَى بِفُجُورِ مَنْ يَحْوِيهِ بَيْتُهُ، فَكَيْفَ يَرْضَى شَهْمٌ عَاقِلٌ أَنْ يُكْرِهَ أَمَتَهُ عَلَى الزِّنَى وَهِيَ تُرِيدُ التَّعَفُّفَ والتَّحَصُّنَ؟
يَبْتَغُونَ الكِتَابَ - يَطْلُبُونَ عَقْدَ المُكَاتَبةِ المَعْرُوفَ.
فَتَيَاتِكُم - إِمَاءَكُمْ.
البِغَاءُ - الزِّنَى.
تَحًصُّّناً - تَعَفُّفاً وَتَصَوُّناً عَنِ الزِّنى.(1/2706)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
{آيَاتٍ} {مُّبَيِّنَاتٍ}
(34) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى إِنَّهُ أَنْزَلَ القُرآنَ وَفِيهِ آياتٌ مُبَيِّنَاتٌ لِمَا أَنْتُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ مِنَ الأَحْكَامِ والشَّرْعِ، كَمَا أَنْزَلَ فِيهِ قصَصاً تَحْوِي أَخْبَارَ الأُمَمِ الغَابِرَةِ، وَفِيهِ عِظَةٌ لِمَنِ اتَّقَى اللهَ وَخَافَهُ.(1/2707)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
{السماوات} {كَمِشْكَاةٍ} {مُّبَارَكَةٍ} {الأمثال}
(35) - اللهُ تَعَالَى هَادٍ أََهْلِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ بِمَا نَصَبَ مِنَ الأَدِلَّةِ فِي الأَنْفُسِ والآفَاقِ، وَبِمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ مِنَ البَيِّنَاتِ، فَهُمْ يَهْتَدُونَ إِلى الحَقِّ بِنُورِهِ، وَبِهِ يَنْجونَ مِنْ حيرَةِ الشَّكَّ والضَّلالِ. وَمَثَلُ الأَدِلَّةِ التي بَثَّهَا اللهُ فِي الآفَاقِ، والتي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ، فَهَدَى مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، كَمَثَلِ النُّورِ الثَّاقِبِ المُنْبَعِثِ مِنْ سِرَاجٍ ضَخْمٍ (مِصْبَاح) مَوْضُوعٍ فِي كُوَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ مِنْ جِدَارٍ (مِشْكَاةٍ) ، والمِصْبَاحُ يَقُومُ فِي قِنْدِيلٍ مِنْ زُجَاجٍ أَزْهَرَ صَافٍ (زُجَاجَةٍ) ، وَهَذِهِ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ ضَخْمٌ مَضِيءٌ مِنْ دَرَارِي النُجُومِ ذَاتِ اللَّمَعَانِ الشَّدِيدِ، وَقَدْ رُوِّيَتْ فَتِيلَةُ هَذَا المِصْبَاحِ بِزَيْتٍ صَافٍ جِداً يُسْتَخْرَجُ مِنْ ثَمَرِ شَجَرَةِ زَيْتُونٍ كَثِيرَةِ الخَيْرِ والمَنَافِعِ (مُبَارَكَةٍ) ، زُرِعَتْ عَلَى جَبَلٍ عَالٍ، أَوْ فِي صَحْرَاءَ وَاسِعَةٍ، فَهِيَ مُعَرَّضَةٌ للشَّمْسِ، لاَ يُظِلُّها جَبَلٌ، وَلاَ يَحْجُبُ نُورَ الشَّمْسِ عَنْهَا شَيءٌ، مِنْ طَلُوعِ الشَّمُسِ، حَتَّى غُرُوبِهَا (وَمِثْلُ هَذِهِ الزَّيْتُونَة يَكُونُ زيْتُها أَشَّدَّ مَا يَكُونُ الزَّيْت صَفَاءً) .
(وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبيَّةٍ، إِنَهَا لاَ شَرْقِيَّةٌ فَحَسْبُ، فَتَقَعُ عَلَيْهَا الشَّمْسُ مِنْ جِهَتِها الشَّرْقِيَةِ فَحَسْبُ، وَلاَ تُصِيبُها مِنْ طَرَفِهَا الغَرْبِيِّ، كَذَلِكَ لَيْسَتْ هِيَ غَرْبِيَّةً فَحَسْبُ، وَإِنَّمَا تُصِيبُها الشَّمْسُ طُولَ النَّهَارِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ حَتَّى مَغِيبها، وَمِنْ جِمِيعِ جِهَاتِهَا) .
وَهَذَا الزِّيْتُ يَكَادُ يُضِيءُ بِنَفْسِهِ لِشِدَّةِ صَفَائِهِ، وَلَوْ لَمْ تَمْسَسهُ نارٌ، فَإِذَا أُشْعِلَ اجْتَمَعَ نُورُ الزَّيْتِ، وَنُورُ النَّارِ فِيهِ وَأَضَاءَا مَعاً (نورٌ عَلَى نُورٍ) .
وَكَذَلِكَ قَلْبُ المُؤْمِنِ يَعْمَلُ بالهُدَى قَبْلَ أَنْ يَأْتِيهِ العِلْمُ، فَإِذَا جَاءَهُ العِلْمُ ازْدَادَ نُوراً على نُورٍ، وَهُدى عَلَى هُدىً، وَاللهُ يُرْشِدُ مَنْ يَشَاءُ إِلى الصَّوَابِ بالنَّظَرِ والتَّدَبُّرٍ، وَلِيدرِكُوا بِهَا مَعَانِي مَا أَرَادَ اللهُ. واللهُ تَعَالَى عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الهِدَايَةَ فَيَهْدِيهِ، وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ الضَلاَلَ فَيُضِلُّهُ.
اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ والأًَرْضِ 0 مُنَوِّرُهَمَا َأَوْ هَادِي أًَهْلِهمَا.
المِشْكَاةُ - الكُوَّةُ غَيْرُ النَّافِذَةِ فِي الجِدَارِ.
مِصْبَاحٌ - سِرَاجٌ ضَخْمٌ ثَاقِبٌ.
زُجَاجَةٌ - قِنْدِيلٌ مِنَ الزُّجَاجِ صَافٍ أَزْهَرُ.
كَوْكَبٌ دُرِّيٌ - مُتلألِئٌ صَافٍ.(1/2708)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)
(36) - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى مَثَلَ نُورِهِ لِعِبَادِهِ، وَهِدَايَتَهُ إِيَّاهُمْ، أَرَادَ هُنَا بَيَانَ حَالِ مَنْ اهْتَدَوا بِذَلِكَ النُّورِ، وَصِفَاتِهِمْ، فَقَالَ: إِنَّ حَالَ هَؤُلاءِ المُهْتَدِينَ فِي الطَّهَارَةِ مِنَ النَّجَاسَاتِ الحِسِّيَّةِ والمَعْنَوِيَّةِ (كاللَّغْو والرَّفثِ فِي الحَدِيثِ) كَمَثَلِ القَنْدِيلِ فِي المِصْبَاحِ المُضِيءِ، الدُّرِي المُقَام فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ التي أُقِيمَتْ لِعِبَادَة اللهِ تَعَالَى فِيهَا، وَهِيَ مُطَهَّرَةٌ مُنَزَّهَةٌ، يَقُومُ فِيهَا بِعِبَادَتِهِ تَعَالَى رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ يُنَزِّهُونَ الله تَعَالَى فِيهَا وَيُقَدِّسُونَه فِي أَوائِلِ النَّهَارِ (الغُدُوِّ) وَفِي آخِرِهِ (الآصَالِ) .
في بُيُوتٍ - المَسَاجِدِ كُلِّها.
أَنْ تُرْفَعَ - أَنْ تُعَظَّمَ وَتَطَهَّر أو تُشَادَ.
بالغُدُوِّ والآصَالِ - أَولِ النَّهَارِ وآخِرِهِ.(1/2709)
رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)
{تِجَارَةٌ} {الصلاة} {الزكاة} {الأبصار}
(37) - وَهَؤُلاءِ الرِّجَالُ، الذينَ يَعْمُرُونَ بُيُوتَ اللهِ، هُمُ رِجَالٌ أَصْحَابُ هِمَمٍ وَعَزَائِمَ لاَ يُلْهِيهِمْ شَيءٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وإِقَامِ الصَّلاَةِ: لاَ تِجَارَةٌ، وَلاَ بَيْعٌ، وَلاَ تَشْغَلُهُم الدُّنْيا وَزُخْرُفُهَا، وَزِينَتُها، وَمَلاذُّهَا، وَلاَ بَيْعُها، ولاَ رِبْحُها. . عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ لأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الذي عَنْدَ اللهِ خَيْرٌ لَهُمْ وأَنْفَعُ مِمَا بِأَيْدِيهِمْ، وَهُمْ يُقَدِّمُونَ طَاعَةَ رَبِّهِمْ وَمَحَبَّتَه عَلَى مُرَادِهِم وَمَحَبَّتِهِمْ، فَلاَ شَيءَ يُلْهِيهِم عَنْ أَنْ يُؤدُّوا الصَّلاَةَ فِي وَقْتِهَا، لأَنَّهُمْ يَخَافُونَ يَومَ القِيَامَةِ الذي تتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ والأَبْصَارُ مِنْ شِدَّةِ الفَزَعِ، وَعِظَمِ الهَوْلِ.(1/2710)
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
(38) - وَهَؤُلاَءِ هُمُ الذينُ يَتَقَبَّلُ اللهُ تَعَالَى حَسَنَاتِهِمْ، وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ، فَيُضَاعِفُ لَهُمُ الحَسَنَاتِ (وَيَزِيدُهُم مِنْ فَضْلِهِ) ، وَهُوَ تَعَالَى يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَبِدُونَ تَحْدِيدٍ فَهُوَ الكَرِيمُ الجَوَادُ.
بِغَيْرِ حِسَابٍ - بَلاَ نِهَايِةٍ لِمَا يُعْطِي، أَو بِتَوَسُّعٍ.(1/2711)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
{أَعْمَالُهُمْ} {الظمآن} {فَوَفَّاهُ}
(39) - وَيَضْرِبُ اللهُ تَعَالَى مَثَلاً للأَعْمِالِ الصَّالِحَةِ التِي يَعْمَلُها الذينَ كَفَرُوا بِاللهِ، وَكَذَّبُوا رُسُلَه، وَجَحَدُوا كُتَبَه، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنْ أَعْمَالَهم تَنْفَعُهم يَوْمَ القِيَامَة، وَتًنْجِيهِم مِنْ عَذَابِ اللهِ، ثُمَّ تَخِيبُ فِي النَّتِيِجَةِ آمَالُهْم، وَيَجْدونَ خَلافَ ما قَدَّرُوا. فَيُشَبِّهُ اللهُ تَعَالَى تِلْكَ الأَعْمَالَ بالسَّرَابِ الذي يَرَاهُ الظَّمْآنُ فِي القِيعَانِ مِنَ الأَرْضِ وَكَأنَّهُ بَحْرٌ طَام، مُعَلَّقٌ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ، فَإِذَا رَأى السَّرَابَ مَنْ هُوَ مُحْتَاج إِلى المَاءِ حسِبَهُ مَاءً فَقَصَدَهُ لِيَشرَبَ مِنْهُ فَإِذا جَاءَهُ لَمْ يَجدْهُ شَيئاً. فَكَذَلِكَ الكَافِرُ يَحْسَبُ أَنَّهُ قَدْ عَمِلَ عَمَلاً يَنْفَعُهُ، وأَنَّهُ قَدْ حَصَّل شَيئاً فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْفَعَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ. فَإِذَا جَاءَ اللهَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَحَاسَبَهُ رَبُّهُ، وَنَاقَشَهُ فِي أَعْمَالِهِ لَمنْ يَجدْ لَهُ شَيْئاً مِنَ العَمَلِ مَقْبُولاً يَنْتَفِعُ بِهِ عِنْدَ اللهِ فَيُوفِّيِه اللهُ حِسَابَه، وَهُوَ العِقَابُ الذِي تَوَّعَدَ اللهُ بِهِ الكَافِرِينَ. واللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ لاَ يُبْطِى وَلاَ يُخْطِئُ.
السَّرَابُ - شُعَاعٌ يُرَى ظُهْراً فِي البِرِّ عَنْدَ اشْتِدَادِ الحَرِّ كَالمَاءِ السَّارِبِ.
القِيعَةِ - الأًَرْضِ المُنْبَسِطَةِ وَفِيهَا يَظْهَرُ السَّرَابُ.(1/2712)
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
{كَظُلُمَاتٍ} {يَغْشَاهُ} {ظُلُمَاتٌ} {يَرَاهَا}
(40) - وَيَضْرِبُ اللهُ تَعَالَى مَثَلاً آخَرَ يُشَبِّهُ بِهِ أَعْمَالَ الكَافِرِينَ الصَّالِحَةِ، فَيَقُولُ إِنَّهَا تُشْبِهُ ظُلُمَاتِ البَحْرِ العِمِيقِ الوَاسِعِ، الذي تَتَلاَطَمُ أَمْوَاجُهُ عِنْدَ هِيَاجِهِ، وَيَعْلُو بَعْضَها فَوْقَ بَعْض، وَيُغَطِّيهَا سَحَابٌ كَثِيفٌ قَاتِمٌ يَحْجُبُ النُّورَ عَنْهَا فَهِذِهِ ظُلُمَاتٌ مُتَرَاكِمَةٌ لاَ يِسْتَطِيعُ رَاكِبُ البَحْرِ مَعَهَا أَنْ يَرَى يَدَهُ إِذَا أَخْرَجَهَا لِشِدَّةِ الظُّلْمَةِ. وَهُوَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ هَذِه الحَيْرَةِ مِنْ غَيْرِ نُورٍ يَهْدِيهِ فِي مَسِيرَتِهِ.
كَذِلِكَ الكَافِرُونَ لاَ يُفِيدُونَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلاَ يَخْرُجُونَ مِنْ عمَايَتِهِمْ وَضَلاَلِهِمْ، إِلاَّ بِنُورِ الإِيْمَانِ، وَمَنْ لَمْ يَهْدِهِ اللهُ إِلى الإِيْمَانِ، وَإِلى الخَيْرِ فَلَيْسَ مَنْ يَهِدْيِهِ. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَلَيْسَ لَهُ مِنْ تُورٍ.
(وَقِيلَ بَلْ إِنَّ المَقْصَودَ هُنَا بالظُّلُمَاتِ أَعْمَالُ الْكَافِرِينَ، وَبَالبَحْرِ اللُّجِّيِّ قُلُوبُهم التي غَمَرَهَا الجَهْلُ، وَتَغَشَّهْا الحَيْرَةُ والضَّلاَلَةُ، فَهِي لاَ تَعْقِلُ مَا فِي الكَوْنِ مِنْ آيَاتٍ وَحُجَجٍ وَعِظَاتٍ فَتِلْكَ ظُلُمَاتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) .
بَحْرٌ لُجِّيٌّ - عَمِيقٌ كَثِيرُ المَاءِ.
يَغْشَاهُ - يَعْلُوه وَيُغَطِّيهِ.
سَحَابٌ - غَيْمٌ يَحْجُبُ نُورَ السَّمَاءِ.(1/2713)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
{السماوات} {صَآفَّاتٍ}
(41) - أَلَمْ تَعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ (وَهُمُ المَلاَئِكَةُ) ، وَمَنْ فِي الأَرْضِ مَنَ البَشَرِ والدَّوَابِّ والجَمَادِ والنَّبَاتِ، وَتُسَبِّحُ لَهُ الطِّيْرُ فِي حَالِ طَيَرَانِهَا فِي أَجْوَاءِ الفَضَاءِ (صَافَّاتِ) ، وَتَعْبُدُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُهُ، وَقَدْ أَرْشَدَ اللهُ كُلَّ مَخْلَوقٍ إِلى طرِيقَتِهِ وَمَسْلَكِهِ فِي عِبَادَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاللهُ عَالِمٌ بِكُلِّ ذَلِكَ، لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ مِنْهُ، فَكَيْفَ يَكْفُرُ بِهِ هَؤُلاءِ الجَاحِدُون؟
صَافَّاتٍ - بَاسِطَاتٍ أَجْنِحَتَها فِي الهَوَاءِ.(1/2714)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
{السماوات}
(42) - واللهُ تَعَالَى هُوَ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، فَهُوَ الحَاكِمُ وَالإِلهُ المَعْبُودُ، الذي لاَ تَنْبَغِي العِبَادَةُ إِلاَّ لَهُ، وَلاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَإِلَيْهِ يَصِيرُ النَّاسُ جَمِيعاً يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُحَاسِبَهم عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَيَجْزِيَهُمْ عَلَيْهَا.(1/2715)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
{خِلاَلِهِ} {بالأبصار}
(43) - أَلَمْ تَرَ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ كَيفَ يَسُوقُ اللهُ تَعَالى بِقُدْرَتِهِ السَّحَابَ بِالرِّيحِ أَوَّلَ مَا يُنْشِئُهُ (وَهُوَ الإِزْجَاءُ) ، ثُمَّ يَجْمَعُهُ وَيَضُمُّ بَعْضَه إِلَى بَعْضٍ بَعْدَ تَفَرُّقِهِ (وَهُوَ التَّأَلِيفُ) ، ثُمَّ يَجْعَلُهُ مُتَرَاكِماً يَرْكَبُ بَعْضُه بَعْضاً، فإِذَا أَثْقَلَ خَرَجَ المَطَرُ (الوَدْقُ) مِنْ خِلاَلِهِ، وَيَكُونُ السَّحَابُ فِي هَيْئَةِ الجِبَالِ الضَّخْمَةِ الكَثِيفَةِ فِيها قِطَعُ البَرَدَ والثَّلْجِ الصَّغِيرَةِ، ثُمَّ وَفْقَ نِظَامٍ قَدَّرَه اللهُ تَعَالَى، يُوَجِّهُ اللهُ السَّحَابَ إِلَى الأَمَاكِن التي يُرِيدُ لِيُفْرِغَ مَا فِيهِ مِنْ مَاءٍ وَبَرَدٍ وَثَلْجٍ، فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ، وَيَصْرِفُهُ عَمَّنْ يَشاءُ مِنْ خَلْقِهِ، وَيَخْرُجُ مِنْ خِلالِ السَّحَابِ البَرْقِ الذي تَكَادُ قُوَّةُ بَرِيقِهِ تَخْطَفٌ الأبْصَارَ، وَتَذْهَبُ بِهَا. وَهَذِهِ الظَّوَاهِرُ دَلاَلَةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ المُوجِبَةِ للإِيْمَانِ بِهِ.
الوَدْقُ - مَاءُ المَطَرِ.
يُزْجِي سَحَاباً - يَسُوقُه بِرْفْقٍ إِلى حَيْثُ يُرِيدُ
يَجْعَلُهُ رُكاماً - مَجْتَمِعاً يَرْكَبُ بَعْضُه بَعْضاً.
سَنَا بَرْقِهِ - ضَوْءُ بَرْقِهِ وَلَمَعَانُهُ.(1/2716)
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
{الليل} {الأبصار}
(44) - وَاللهُ تَعَالَى يَتَصَّرفُ بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ، فَيأخذُ مِنْ طُولِ هَذَا لِيُضِيفَ فِي قِصَرِ هَذَا حَتَّى يَعْتَدِلاَ، ثُمَّ يَتَتَابَعُ هَذَا التَّنَاوُبُ، فَهُوَ تَعَالَى المُتَصَرِّفُ بِذَلِكَ بِأَمْرِهِ وَقَهْرِهِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى عَظَمَةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ تَجْعَلُ ذَوِي الأَبْصَارِ والعُقُولِ المُدْرِكَة يُؤمِنُونَ بِاللهِ تَعَالَى.(1/2717)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
(45) - يُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِقُدْرَتِهِ التَّامَّة، وسُلْطَانِهِ العَظِيمِ فِي خَلْقِهِ المَخْلُوقَاتِ، عَلَى اخْتِلاَفِ أَشْكَالِهَا وأَلْوَانِهَا، وَحَرَكَاتِهَا وَسَكَنَاتِها، مِنْ مَاءٍ جَعَلَهُ أسَاساً فِي تَرْكِيبِ أَجْسَامِ المَخْلُوقَاتِ ثُمَّ خَالَفَ بَيْنَها في الأشْكَالِ والألْوَانِ والاسْتِعْدادَاتِ فَمِنْ هَذِهِ المَخْلُوقَاتِ، مَنْ يَمْشِي زَحْفاً عَلَى بِطْنِهِ كالحَيَّاتِ، وَمِنْهَمْ مَنْ يَمْشِيِ عَلَى رِجْلَيْنِ كالإِنْسَانِ والطُّيُورِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ كالأَنْعَامِ. واللهُ تَعَالَى يَخْلُق بقُدْرَتِهِ مَا يَشَاءُ، لِيَكُونَ خَلْقهُ دَلِيلاً عَلَى قُدْرَتِهِ. وَهُوَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، وَلاَ يُعْجِزُهُ شيءٌ أبداً.(1/2718)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
{آيَاتٍ} {مُّبَيِّنَاتٍ} {صِرَاطٍ}
(46) - وَلَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى آيَاتٍ وَاضِحَاتٍ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى طَرِيقِ الحَقِّ والرَّشَادِ، ولَكِنْ لاَ يَتَوصَّلُ إِلَى فَهْمِهَا إِلاَّ أُوتِي فَهْماً سَلِيماً وَبَصِيرَةً نَيِّرَةً، وَاللهُ يُرْشِدُ مَنْ يَشاءُ إِلى الطَّرِيقِ القَويمِ الذي لاَ عِوَجَ فِيهِ، طَرِيقِ الهُدَى والرَّشَادِ.(1/2719)
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)
{آمَنَّا} {أولئك}
(47) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ حَالِ المُنَافِقِينَ الذين يُظْهِرُونَ خِلافَ مَا يُبْطِنُونَ، فَيَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ: آمَنَّا بِاللهِ وبِالرَّسُولِ، وأَطْعَنَا أمْرَهُمَا، ثُمَّ تُخَالِفُ أَعْمَالُهُمْ أَقْوَالَهُمْ فَيَفْعَلُونَ خِلافَ مَا يَقُولُونَ، لِذَلِكَ يَقُولُ تَعَالَى عَنْهُمْ: إِنَّ أولَئِكَ لَيْسُوا بالمُؤْمِنِينَ المُخْلِصينَ الثَّابِتِينَ عَلَى الإِيْمَانِ الصَّحِيحِ.(1/2720)
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)
(48) - وَإِذَا دُعِيَ هَؤُلاَءِ المُنَافِقُونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، بِمُقْتَضى مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ شَرْعٍ، طَهَرَ نِفَاقُهم، وأَعْرَضُوا عَنْ قَبُولِ الحَقِّ، واسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ عَنْ اتِّبَاعِهِ، فَإِذَا كَانَتْ الحُكُومَةُ عَلَيْهِمْ أَعْرَضَوا وَدَعَوا إِلى غَيرِ الحَقِّ، وأحَبُّوا أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَاطِلُهُمْ، لأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ لاَ يَحْكُمُ إِلاَّ بالحَقِّ.(1/2721)
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
(49) - وَإذَا كَانَتِ الحُكُومَةُ لَهُمْ، لاَ عَلَيْهِمْ، جَاؤوا سَامِعِينَ مُطِيعِينَ (مُذْعِنِينَ) ، وَلَكِنَّ إِذْعَانَهُمْ هَذَا لَمْ يَكُنْ عَنِ اعْتِقَادٍ مِنْهُمْ أَنَّ حُكْمَهُ هُوَ الحَقُّ بَلْ لأَنَّهُ مُوَافِقٌ لأَهْوَائِهِمْ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ إذَا خَالَفَ الحَقّ قَصْدهُمْ عَدَلُوا عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ.
مُذْعِنِينَ - مُنَقَادِينَ مُطِيعِينَ.(1/2722)
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
{أولئك} {الظالمون}
(50) - وَلاَ يَخْرُجُ سَبَبُ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الاحْتِكَامِ إِلى كِتَابِ اللهِ، وَإِلَى رَسُولِ الله مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاحِداً مِنْ ثَلاثَةٍ.
- إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضُ الكُفْرِ والنِّفَاقِ.
- وَإِمَّ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ أَنَّهُم ارْتَابُوا أَوْ شَكُّوا فِي نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السلامُ.
- وإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ أَنَّهُمْ خَافُوا أَنْ يَجُورَ عَلَيهم اللهُ وَرَسُولَهُ فِي الحُكْمِ.
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى: وَلَكِنَّ الحَقِيقَةِ هِي أَنَّهُمْ لَمْ يَعْدِلُوا عَنْ الاحْتِكَامِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ إِلاَّ لأَنَّهُمْ مَرْضَى القُلُوبِ بِالْكُفْرِ والنِّفَاقِ، وَلأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ لأَنْفُسِهِمْ بِمُخالَفَتِهِمْ أَمْرَ رَبِّهِم الذي يَقْضِي عَلَى المُؤْمِنِينَ بالرِّضَا بِحُكْمِ اللهِ، وَحُكْمِ رَسُولِهِ فِيمَا أَحَبُّوا، وَفِيمَا كَرِهُوا، والتَّسْلِيمِ لِقَضَائِهِ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ.} أَنْ يَحِيفَ - أَنْ يَجُورَ.(1/2723)
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
{أولئك}
(51) - أَمَّا المُؤْمِنُونَ المُخْلِصُونَ فَإِنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلى اللهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: سَمْعاً وَطَاعَةً للهِ وَلِرَسُولِهِ، وَهَؤُلاءِ الذينَ يَقُولُونَ هَذَا القَوْلَ، هُمُ المُفْلِحُونَ، لأَنَّهُمْ يَنَالُونَ مَا يَطْلبُونَ، وَيَسْلَمُونَ مِمَّا يَرْهَبُونَ.(1/2724)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
{فأولئك} {الفآئزون}
(52) - وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَا بِهِ، وَيَنْتَهِ عَمَّا نَهَيَا عَنْهُ، وَمَنْ يَخْشَ اللهَ فِيمَا صَدَرَ عَنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَيَتَقَّهِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ والأَعْمَالِ، فَهَؤُلاءِ هُمُ الفَائِزُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ، وَالآمِنُونَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ.(1/2725)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
{أَيْمَانِهِمْ} {لَئِنْ}
(53) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ النِّفَاقِ، الذينَ كَانُوا يَحْلِفُونَ للرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّهُ إِذَا أََمَرَهُمْ بالخُرُوجِ مَعَهُ إِلَى الغَزَاةِ لَيَخْرُجُنَّ مَعَهُ مُطِيِعينَ مُمْتْثِلِينَ. وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ قُلْ لَهُمْ: لاَ تُقْسِمُوا، وَلاَ تَحْلِفُوا فَطَاعَتُكُمْ مَعْرُوفَةٌ، فَهِيَ قَوْلٌ لاَ فِعْلٌ، وَكُلَّمَا حَلَفْتُمْ كَذَبْتُم، وَاللهُ خَبِيرٌ بِكُمْ، وَبِمَنْ يُطِيعُ، وَبِمَنْ يَعْصِي، فالحَلْفُ وإِظْهَارُ الطَّاعَةِ إِذَا رَاجَا عَلَى المَخْلُوقِ، فَلاَ يَرُوجَانِ عَلَى الخَالِقِ، لأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي الضَّمَائِرِ، وَإِنْ أَظْهَرَ العِبَادُ خِلاَفَ مَا يُضْمِرُونَ.
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ - مُجْتَهِدِينَ فِي الحَلْفِ بأَغْلَظِ الأَيْمَانِ.
طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ - طَاعَتُكُمْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ باللِّسَانِ.(1/2726)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
{البلاغ}
(54) - قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: أطِيعُوا الله، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ طَاعَةً صَادِقَةً، واتَّبِعُوا كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ رَسُوِلِهِ، فَفِي اتِّبَاعِهِمَا الهِدَايَةُ والرَّسَادُ، أَمَّا إِذَا تَوَلَّيْتُمْ وأَعْرَضْتُم وَتَرَكْتُم مَا جَاءَكُم بِهِ رَسُولُ اللهِ، فَعَلَى الرُّسُولِ إِبْلاَغُ الرِّسَالَةِ، وأَدَاءُ الأَمَانَةِ (عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ) ، فَهِيَ مَا حَمَّلَهُ اللهُ، أَمَّا أَنْتُمْ فَقَدْ حُمِّلْتُمْ قَبُولَ ذَلِكَ، والإِيْمَانَ بِهِ وتَعْظِيمَهُ، والقِيَامَ بِمُقْتَضَاهُ، وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَبْلُغُوا الهِدَايَةَ لأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى صِرَاطِ اللهِ المُسْتَقِيمِ، والرَّسُولُ مُكَلَّفٌ بِدَعْوَتِكُمْ وَإِبْلاَغِكُمْ.
مَا حُمِّلَ - مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ.
مَا حُمِّلْتُمْ - مًَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ والانْقِيَادِ.(1/2727)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
{آمَنُواْ} {الصالحات} {فأولئك} {الفاسقون}
(55) - هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ سَيَجْعَلُ مِنْ أُمَّتِهِ خُلَفَاءَ فِي الأَرْضِ، وَأَئِمَّةً لِلنَّاسِ، وَأَنَّهُ سَيُبَدِّلُهُمْ بَعْدَ خَوْفِهِمْ مِنَ النَّاسَ أَمْناً وَحُكْماً فِيهِمْ. وَقَدْ أَمْضَى المُسْلِمُونَ عَشْرَ سِنِينَ فِي مَكَّةَ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الإِسْلاَمِ سِرّاً، وَهُمْ خَائِفُونَ لاَ يُؤْمَرونَ بِالقِتَالِ، حَتَّى أُمِرُوا بالهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ، وَأُمِرُوا بِالقِتَالِ، فَكَانُوا خَائِفِينَ يُمْسُونَ بالسِّلاَحِ، وَيُصْبِحُونَ بالسَّلاحِ، فَصَبُروا عَلَى ذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ. ثُمَّ إِنَّ رَجُلاً مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَبَدَ الدَّهْرِ نَحْنُ خَائِفُونَ هَكَذَا؟ مَا يَأتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأَمَنُ فِيهِ، وَنَضَعُ السِّلاَحَ؟ فَقَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم: لَنْ تَصْبِروا إِلاَّ يَسِيراً حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُم فِي المَلأ العَظِيمِ مُحْتَبياً لَيْسَتْ فِيهِ حَدِيدَةٌ) .
وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ.
وَفِي هَذِهِ الآيَةِ يَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ سَيَسْتَخْلِفُ المُؤْمِنِينَ فِي الأَرْضِ، كَمَا اسْتَخَلَفَ المُؤْمِنِينَ مِنْ قَبْلِهِم، وَسَيَكُونُ لَهُم الأَمْرُ. وَحَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَمَنْ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، وَجَحَدَ نِعَمَهُ عَلَيْهِ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَكَفَى بِذَلِكَ ذَنْباً عَظِيماً.(1/2728)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
{الصلاة} {الزكاة}
(56) - يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَه المُؤْمِنِينَ بِإِقَامَةِ الصَّلاَةِ، وَإِتْمَامِهَا بِخُشُوعٍ وَحُضَورِ قَلْبٍ، وَبِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَبِإِيتاءِ الزَّكَاةِ (وَهِيَ الإِحْسَانُ إِلى الضُعَفَاءِ والفُقَرَاءِ) كَمَا يَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يُطِيعُوا فِي ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ فِيمَا أَمَرَهُمْ، بِهِ، وَأَنْ يَتْرُكُوا مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ لَعَلَّ الله يَرْحَمُهُمْ بِذَلِكَ.(1/2729)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
{مَأْوَاهُمُ}
(57) - وَلاَ تَظُنَّ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ الذينَ كَفَرُوا، وَخَالفُوكَ، وَكَذَّبُوكَ، أَنَّهُمْ سَيُعْجِزُونَ اللهَ عَنِ الوُصُولِ إِلَيْهِمْ فِي الأَرْضِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ، وَسَيُعَذِّبُهُم عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ العَذَابِ، وَسَيَجْعَلُ جَهَنَّمَ مَأْوَاهُمْ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ، وَسَاءَتِ النَّارُ مُسْتَقَرّاً وَمَصِيراً.
مُعْجِزِينَ - فَائِتِينَ مِنْ عَذَابِنَا بِالهَرَبِ.(1/2730)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
{ياأيها} {ءَامَنُواْ} {لِيَسْتَأْذِنكُمُ} {أيمانكم} {ثَلاَثَ} {مَرَّاتٍ} {صلاة} {صلاة} {عَوْرَاتٍ} {طوافون} {الايات} (58) - هَذِهِ الآيَةُ تَشْمَلُ آدَابَ الاسْتِئْذَانِ بَيْنَ الأَقَارِبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم والمُؤْمِنِينَ، بِأَنْ يَسْتَأْذِنَهُمْ خَدَمُهُمْ (الذين مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) وَأَطْفَالُهُم الذينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُم فِي ثَلاَثَةِ أَحْوَالٍ.
- قَبْلَ صَلاَةِ الفَجْرِ إِذْ يَكُونُ النَّاسُ نِيَاماً فِي فُرشِهِمْ.
- وَوَقْتَ القَيْلُولَةِ بَعْدَ الظَّهِيرَةِ، لأَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَضَعُ ثِيَابَهُ وَيَكُونَ فِي تِلْكَ الحَالِ مَعْ أَهْلِهِ.
- وَوَقْتَ النَّوْمِ (بَعْدَ صَلاَةِ العِشَاءِ) .
فَيُؤْمَرُ الخَدَمُ والأطْفَالُ بِأَلاَّ يَهْجُمُوا عَلَى أَهْلِ البَيْتِ فِي هَذِهِ الأَحْوَالِ. وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ هَذِهِ الأَوْقَاتِ هِيَ عَوْرَاتٌ للنَّاسِ. أَمَّا فِي غَيْرِ هَذِهٍ الأَوْقَاتِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمْ إِذَا دَخَلثوا لأَنَّهُمْ فِي خِدْمَةِ البَيْتِ يَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى إِنَّهُ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ آياتِهِ وَأَحْكَامَهُ، وَهُوَ عَلِيمٌ بِمَا فِيهِ المَصْلَحَةُ، حَكِيمٌ فِيمَا يَشْرَعُ.
جُنَاحٌ - حَرَجٌ فِي الدُّخُولِ بِلا اسْتِئْذَانٍ.(1/2731)
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
{الأطفال} {فَلْيَسْتَأْذِنُواْ} {استأذن} {آيَاتِهِ}
(59) - فَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ الذينَ كَانُوا يَسْتَأْذِنُونَ فِي العَوْرَاتِ الثَلاَثِ مَبْلَغَ الرِّجَالِ (الحُلُمَ) ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الأَحْوَالِ الثَّلاثَةِ كَمَا يَسْتَأْذِنُ مَنْ سَبَقُوهُم فِي البُلُوغِ، مِنْ وَلَدِ الرَّجُلِ وأَقَارِبِهِ، وَكَمَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ مَا ذَكَرَ غَايَةَ البيانِ، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ لَكُمْ مَا فِيهِ سَعَادَتُكُم فِي دُنْيَاكُم وَآخِرَتِكُم، وَاللهُ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِ خَلْقِهِ، حَكِيِمٌ فِي شَرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَقَدَرِهِ.(1/2732)
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
{القواعد} {اللاتي} {مُتَبَرِّجَاتِ}
(60) - والنِّسَاءُ الطَاعِنَاتُ فِي السِنِّ اللاَّتِي يَِئِسْنَ مِنَ الوَلَدِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُنَّ تَطَلُّعٌ إِلَى التَّزَوُّجِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ مَا عَلَى غَيْرِهنَّ مِنَ النِّسَاءِ فِي الحَجِرِ والتَّسَتُّرِ، وَلا حَرَجَ عَلَيْهِنَّ فِي أَنْ يَخْلَعْنَ ثِيَابَهُنَّ الخَارِجِيَّةَ عَلَى أًَنْ لاَ تَنْكَشِفَ عَوْرَاتُهُنَّ، وَلا يَنْكِشِفْنَ عَنْ زِينَةٍ، وَخَيْرٌ لَهُنَّ أَنْ يَبْقَيْنَ كَاسِياتٍ بِثِيَابِهِنَّ الخَارِجِيَّةِ الفَضْفَاضَةِ، وَسَمَّى تَعَالَى مِنْهُنَّ ذَلِكَ اسْتِعَفَافاً، أَيْ يَفْعَلْنَهُ طَلَباً لِلعِفَّةِ، وإِيثَاراً لَهَا لِمَا بَيْنَ التَّبُّرجِ والفِتْنَةِ مِنْ صِلَةٍ، وَبَيْنَ التَّحَجُّبِ والتَّسَتُّرِ وَالعِفَّةِ مِنْ صِلَةٍ، وَخَيْرُ سَبِيلٍ إِلى العِفَّةِ تَقْلِيلُ فُرَصِ الغَوَايَةِ، والحَيْلُولَةِ بَيْنَ اللِّسَانُ، وَيَطِّلِعُ بَيْنَ أَسْبَابِ الإٍثَارَةِ وَبَيْنَ النُّفُوسِ. واللهُ تَعَالَى يَسْمَعُ مَا يَقُولُهُ اللِّسَانُ، وَيَطِّلِ'ُ عَلَى مَا يُوَسْوِسُ فِي الجَنَانِ ويُجَازِي عَلَى ذَلِكَ. وَالأَمْرُ كُلُّهُ أَمْرُ نِيَّةٍ وَحَسَاسِيَّةٍ فِي الضَّمِيرِ.
القَوَاعِدَ مِنَ النِّسَاءِ - العَجَائِزُ اللَّوَاتي قَعَدْنَ عَنِ الحَيْضِ.
مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينةٍ - مُظْهِرَاتٍ لِلزِّينَةِ الخَفِيَّةِ.(1/2733)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
{آبَآئِكُمْ} {أُمَّهَاتِكُمْ} {إِخْوَانِكُمْ} {أَخَوَاتِكُمْ} {أَعْمَامِكُمْ} {عَمَّاتِكُمْ} {أَخْوَالِكُمْ} {خَالاَتِكُمْ} {مُبَارَكَةً} {الآيات}
(61) - اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ حَوْلَ مَوْضَوعِ الحَرَجِ الذي رُفِعَ فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ عَنْ الأَعْمَى والأَعْرَجِ والمَرِيضِ:
- فَقِيلَ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الجِهَادِ، وَإِنَّهُ لاَ حَرَجَ عَلَى هَؤُلاَءِ فِي تَرْكِهِ لِضَعْفِهِمْ وَعَجْزِهِمْ.
- وَقِيلَ أيضاً: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الأَكْلِ مَعَ الأَعْمَى لأَنَّهُ لاَ يَرَى الطَّعَامَ، وَمَا فِيهِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، فَرُبَّمَا سَبَقَه غَيْرُهُ إِلى ذَلِكَ، كَمَا كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مَعَ الأَعْرَجِ لأَنَّهُ لاَ يَتَمَكَّنُ مِنَ الجُلُوسِ فَيَفْتَاتُ عَلَيْهِ جَلِيسُهُ. كَمَا قِيلَ إِنَّ الأَمْرَ يَتَعَلَّقُ بالمَرِيضِ لأَنَّه لاَ يَسْتَوفِي مِنَ الطَّعَامِ كَغَيْرِهِ، فَكَرِهُوا أَنْ يُؤَاكِلُوهُمْ لِئلاَّ يَظْلِمُوهُمْ.
- وَقِيلَ أَيْضَاً: إِنَّ النَّاسَ كانُوا قَبْلَ مَبْعَثِ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الأَكْلِ مَعَ هَؤُلاَءِ تَقَذُراً وَتَعَزُّزاً، لِئلاَّ يَتَفَضَّلُوا عَلَيْهِمِ.
- وَقِيلَ أَيْضَاً إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَدْخُلُ بَيتَ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ فَتُتحِفُهُ المرأةُ بِشَيءٍ مِنَ الطَّعَامِ فَلاَ يَأْكُلُ لأَنَّ رَبَّ البَيْتِ غَيْرُ حَاضِرٍ.
وَلَمْ يَذْكُرِ اللهُ تَعَالَى الأَبْنَاءَ لأَنَّ بَيْتَ الابْنِ بِمَنْزِلَةِ بَيْتِ الأَبِ نَفْسِهِ وَمَالُ الابْنِ فِي مَنْزِلَةِ مَالِ الأَبِ.
- وَقِيلَ إِنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْ هَذِهِ البيوتٍ دُونَ استئذَانٍ، وَيَسْتَصْحِبُونَ العُمْيِ وَالعُرْجَ والمَرْضَى مِنَ الفُقَرَاءِ لِيُطْعِمُوهُمْ، وَبَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ الآيَةُ: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} تَحَرَّجَ النَّاسُ أَنْ يَطْعَمُوا وَتحَرَّجَ العُمْيُ والمَرْضَى أَنْ يَصْحَبُوهُم دُونَ دَعْوَةٍ مِنْ أَصْحَابِ البُيوتِ أو إِذْنٍ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ لِيَرْفَعَ الحَرَجَ عَنِ الأَعْمَى والأَعْرَجِ والقَرِيبِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ بِيتِ قَرِيبهِ، وَأَنْ يَصْحَبَ هَؤُلاَءِ المُحَتَاجِينَ تَأْسِيساً عَلَى أَنَّ صَاحِبَ البيتِ لاَ يَكْرَهُ هَذَا، وَلاَ يَتَضَرَّرُ بِهِ.
وَكَانَ مِنْ عَادَةِ بَعْضِ العَرَبِ فِي الجَاهِلِيَّةِ لا يَأْكُلَ الطَّعَامَ عَلَى انْفِرَادِهِ فَكَانَ إِذَا لَمْ يَجدْ مَنْ يُؤْاكِلُهُ عَافَ الطَّعَامَ، فَرَفَعَ الله هَذَ الحَرَجَ المُتَكَلَّفَ وَرَدَّ الأَمْرَ إِلى بَسَاطَتِهِ، دُونَ تَعْقِيدٍ. وَقَالَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلْوا أفْرَاداً أو جَمَاعَاتٍ (جَمِيعاً أو أشْتَاتاً) .
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى آدَابَ دُخُولِ البُيُوتِ التي يُؤْكَلُ فِيهَا، فَيُسَلِّمُ الإِنْسَانُ عَلَى قَرِيبه أو صَدِيقِهِ، وَهُوَ كَأَنَّمَا يَسَلِّمُ عَلَى نَفْسِهِ {فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} ، والتَّحِيَّةُ التي يُلْقِيهَا عَلَيْهِمْ هِيَ تَحِيَّةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وكَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ للنَّاسِ آيَاتِهِ وحِكَمَهُ لَعَلَّهُمْ يُدْرِكُونَ المَنْهَجَ الإِلَهيَّ، وَلَعَلَّهُم يَعْقِلُونَ مَا فِي هَذِهِ الآيَاتِ والحُجَجِ.(1/2734)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
{آمَنُواْ} {يَسْتَأْذِنُوهُ} {يَسْتَأْذِنُونَكَ} {أولئك} {استأذنوك}
(62) - وَهُنَا يُؤَدِّبُ اللهُ النَّاسَ، فَكَمَا أَمَرَهُمْ بالاسْتِئْذَانِ عِنْدَ الدُّخُولِ، كَذَلِكَ أَمَرَهُمْ اللهُ تَعَالَى بِأَلاَّ يَتَفَرَّقُوا عَنِ النَّبِيِّ إِلاَّ بعدَ اسْتِئْذَانِهِ ومُشَاوَرَتِهِ، ولِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْذَنَ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ.
وَرَوَى ابنُ إِسْحَاقَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ: لَمّا اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ وَالأَحْزَابُ عَلَى حَرْبِ المُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ الخَنْدَقِ، أَمَرَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِحَفْرِ خَنْدقِ المَدِينَةِ، وَأَخَذَ يَعْمَلُ بِنَفْسِهِ تَرْغِيباً للمُسْلِمِينَ فِي الأَجْرِ، فَعَمِلَ المُسْلِمُونَ، وَأَبْطَأَ رِجَالٌ مِنَ المُنَافِقِينَ، وَأَخَذُوا يَقُومُونَ بالضَّعِيفِ مِنَ العَمَلِ وَيَتَسَلَّلُونَ بِغَيْرِ إِذْنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. وَكَانَ المُسْلِمُونَ يَسْتَأْذِنُونَ الرَّسُولَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِم، فَإِذَا قَضَى أَحَدُهُمْ حَاجَتَهُ رَجَعَ إِلى مَا كَانَ فِيهِ مِنْ عَمَلٍ، رَغْبَةً فِي الخَيْرِ والأًجْرِ، واحْتِسَاباً لَهُ، وَيَقُولُ تَعَالَى إِنَّ هَؤُلاءِ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقّاً.
أَمْرٍ جَامِعٍ - أَمْرٍ مُهِمٍّ يَجِبُ اجْتِمَاعُهُمْ لَهُ.(1/2735)
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
(63) - كَانَ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ المُؤْمِنِيِنَ يُنَادِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَا مُحَمَّدُ، أو بِيَا أََبَا القَاسِمِ. . . فَنَهَاهُمُ اللهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ تَعْظِيماً لِقَدْرِ الرَّسُولِ وَتَبْجِيلاً، فَقَالَ قُولُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَيَا رَسُولَ اللهِ. وَيُحَذِّرُ اللهُ تَعَالَى المُنَافِقِينَ الذين يَتَسَلَّلُونَ وَيَذْهِبُونَ بِدُونَ إِذْنٍ. يَلُوذُ بَعْضُهُمْ بِبِعْضٍ، وَيَتَدَارَى بَعْضُهم بِبَعْضٍ لِكَيْلاَ يَرَاهُم الرَّسُولُ، فَعَيْنُ اللهِ تَرَاهُمْ وَإِنْ لَمْ تَرَهُمْ عَيْنُ الرَّسُولِ. وَيَُوِّرُ اللهُ تَعَالَى حَالَ هَؤُلاءِ وَهُمْ يَتَسَلَّلُونَ بِحَذَرٍ مِنْ مَجْلِسِ الرَّسُولِ، مِمَّا يُمَثِّلُ جُبْنَهُمْ عَنَ المُوَاجَهَةِ وَطَلَبِ الإِذْنِ. وَيُهَدِّدُ اللهُ تَعَالًَى هَؤُلاءِ المُنَافِقِينَ الذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِ اللهِ، وَيَتَّبِعُونَ نَهْجاً غَيْرَ نَهْجِهِ، وَيَتَسَلَّلُونَ مِن الصَّفِّ ابْتَغِاءَ مَنْفَعَةٍ، أو اتِّقَاءَ ضَرَرٍ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ أَنْ تُصِيبَهُم فِتْنَةٌ تَخْتَلُّ فِيهَا المَوَازِينُ، وَيَضَطَرِبُ فِيهَا النَّظَامُ، فَيَخْتَلِطُ الحَقُّ بالبَاطِل، وَتَفْسُدُ أُمُورُ الجَمَاعَةِ وَحَيَاتُها، أَو يُصِيبُهم عَذَابٌ أليمٌ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ.
دُعَاءَ الرَّسُول - دَعْوَتَه لَكُمْ للاجْتِمَاعِ، أو نِدَاءَكُم لَهُ.
يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُم - يَخْرُجُونَ مِنهُ تَدْرِيجاً فِي خِفْيَةٍ.
لِواذاً - يَسْتَتِرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فِي الخُرُوجِ.
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ - يُعْرِضُونَ أَوْ يَصَدُّونَ عَنْهُ.
فِتْنَةٌ - بَلاَءٌ وَمِحْنَةٌ فِي الدُّنْيَا.(1/2736)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
{السماوات}
(64) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، وأَنَّهُ عَالِمُ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ، وأنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَعْمَلُهُ العِبَادُ، فِي سِرِّهِمْ وَجَهْرِهِمْ، وَهُوَ عَالِمٌ بِمَا هُمْ عَلَيءه، وَمِشَاهِدٌ لَهُ، لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاءِ وَلاَ فِي الأَرْضِ، وَيَوْمَ يَرْجِعُ الخَلْقُ إِلى اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يُخْبِرُهُم بِجَمِيعِ مَا فَعَلُوهُ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا.(1/2737)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
{لِلْعَالَمِينَ}
(1) - يَحْمَدُ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ الكَرِيمَةَ، وَيَبُارِكُهَا عَلَى إِنْزَالِهِ القُرْآنَ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ نَزَّلَ القُرآنَ فَرُقَاناً، يَفْرِقُ بَين الحَقِّ والبَاطِلِ، وَأَنْزَلَهُ تَعَالَى مُنَجَّماً شَيْئاً فَشَيْئاً، حَسَبَ مُقْتَضَيَاتِ الحَاجَةِ والضرورَاتِ لِيَكُونَ نَذِيراً للإِنْسِ والجِنِّ (العَالَمِينَ) مِنْ عَذَابٍ أليمٍ إِذَا استَمَرُّوا فِي كُفْرِهِمْ وَطُغَيَانِهِمْ.
تَبَارَكَ - تَعَالَى وَتَمَجَّدَ، أو تَكَاثَرَ خَيْرُهُ.
الفُرْقَانَ - القرآنَ الفاصلَ بين الحَقِّ والباطلِِ.(1/2738)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
{السماوات}
(2) - وَاللهُ تَعَالَى الذِي أَنْزَلَ الكِتَابَ عَلَى عَبْدِهِ محمَّدٍ، لِيَكُونَ نَذِيراً لِلعَالَمِينَ، لَهُ وَحْدَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، وَلاَ شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ صَاحِبَةٌ وَلاَ وَلَدٌ، تَعَالَى وَتَنَزَّهَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يَقُولُه المُشْرِكُونَ، وَهُوَ خَالِقُ كُلَّ شَيء فِي الوُجُودِ وَبَارِئُهُ، وَهُوَ مَلِكُهُ وَإِلَهُهُ، وَكُلُّ شيء فِي الوُجُودِ تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَسْخِيرِهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَقَدْ أَوْجَدَ كُلَّ شَيءٍ بِحَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ إِرَادَتُهُ المَبْنِيَّةُ عَلَى الحِكَمِ البالِغَةِ، وَهَيَّأَهُ لِمَا أرادَهُ لَهُ مِنْ الخَصَائِصِ والأَفْعَالِ اللائِقَةِ بِهِ.(1/2739)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
{آلِهَةً} {حَيَاةً}
(3) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ جَهْلِ المُشْرِكِينَ فِي اتَّخَاذِ آلِهَةٍ عبدوهَا مِنْ دُونِ اللهِ الخَالِقِ لِكُلِّ شيءٍ، المَالِكِ لأَزَمَّةِ الأمورِ، الذي ما شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ المُشْرِكِينَ عَبَدُوا مَعهُ أصناماً لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَخْلُقَ بَعُوضَةً، وَلاَ تَمْلِكُ لِنَفْسِها نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً، فَكيْفَ تَمْلكُ مِثْلَ ذَلِكَ لِمَنْ يَعْبُدُونَها؟ وَلاَ تَمِلْكُ هَذِهِ الأَصْنَامُ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً، وَلاَ تَمْلِكُ نُشُوراً. والذي يَمْلِكُ كُلَّهُ، وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ، هُوَ اللهُ الخَالِقُ البارِئُ، الذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَيَبْعَثُ الخَلاَئِقَ وَيَنْشُرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ. وَمَنْ مَلَكَ ذَلِكَ كَانَ هُوَ الأَحَقَّ بالعِبَادَةِ.
نُشُوراً - بَعْثاً بعدَ المَوتِ فِي الآخِرَةِ.(1/2740)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)
{افتراه} {آخَرُونَ} {جَآءُوا}
(4) -وَيَقُولُ الكَافِرونَ الجَهَلَةُ اسْتِكْبَاراً وعِنَاداً، إِنَّ هَذَا القُرْآنَ الذي جاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، إِنْ هُوَ إِلاَّ كَذِبٌ تَقَوَلَّهُ مُحَمَّدٌ وَنَسَبه إِلَى رَبِّهِ (إِفْكٌ افْتَرَاهُ) ، واسْتَعانَ عَلَى جَمْعِهِ وَوَضْعِهِ بِآخَرِينَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ (والذي قَالَ هَذَا القولَ هُوَ أَبُو جَهْلٍ) ، وَهَؤُلاَءِ الكُفَّارُ الذينَ يَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا القَوْلِ هُمُ الذينَ يَفْتَرُونَ الكَذِبَ، وَهُمْ يَعْمَلُونَ أَنَّ مَا يَقُولُونَهُ بَاطِلٌ، وَيَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِيمَا زَعَمُوهُ.
إِفْكٌ - كَذِبٌ.
الافْتِرَاءُ - الاخْتِلاَقُ والاخْتِرَاعُ.
الزُورُ - الكَذِبُ العَظِيمُ الذي لاَ تُبْلغُ غَايَتُهُ.(1/2741)
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)
{أَسَاطِيرُ}
(5) - وَقَالَ هَؤُلاَءِ الكُفَّارُ أيضاً: إِنَّ القُرْآنَ الذي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، إِنْ هُوَ إِلاَّ قِصَصُ الأوَّلِينَ (أساطِيرُ الأوَّلِينَ) وَكُتُبُهمْ اسْتَنْسَخَا مُحَمَّدٌ (اكْتَتَبَهَا) ، فَهِيَ تُقْرَأُ عَلَيْهِ صَبَاحاً وَمَسَاءً (تُمْلَى عَلَيْهِ) خفْيَةً، لِيَحْفَظَهَا غُدْوَةً وَعَشيَّةً، فَلا يَقِفُ النَّاسُ عَلَى حَقِيقَةِ الحَالِ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى سُخْفِ عُقُولِهِمْ، فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُحَمَّداً لاَ يَقْرَأُ وَلاَ يَكْتُبُ، وَكَانَ بينَهُمْ طَوَالَ حَيَاتِهِ حَتَّى بَعَثَهُ اللهُ إِلَيْهِمْ، وَهُمْ يَعْرِفُونَ صِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ، فَمَا كَانَ لِيكْذِبَ عَلَى اللهِ وَيَدَعَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ - كَمَا قَالَ هِرقلُ لأَبي سُفْيَانَ بنِ حَرْبٍ.
أساطيرُ الأَوَّليِنَ - قصَصُ الأوَّلينَ المَسْطُورَةُ فِي كُتُبِهِمْ
بُكْرَةً وأصِيلاً - أَوَّلَ النَّهَارِ وآخِرَهُ - أَيْ دَائِماً.(1/2742)
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
{السماوات}
(6) - قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّ الذِي نَزَّلَ القرآنَ هُوَ اللهُ، الذي يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، وَيَعْلَمُ السَّرَائِرَ، كما يَعْلَمُ الظَواهِرَ، وَهُوَ غَفُورٌ لِمَنِ اسْتَغْفَرَهُ وَتَابَ إِلَيْهِ، وَهُوَ تَعَالَى يَدْعُوهُمْ إِلى التَّوْبَةِ والإِقْلاَعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ، وَيَعِدُهُمْ بِالمَغْفِرَةِ إِنْ تَابُوا وأَخْلَصُوا فِي تَوْبَتِهِمْ.
يَعْلَمُ السِّرَّ - يَعْلَمُ كُلَّ مَا يَغِيبُ وَيَخْفَى.(1/2743)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)
{مَالِ هذا}
(7) - وَقَالَ هَؤُلاَءِ الكُفَّارُ، إِمْعاناً فِي عِنَادِهِمْ وَتَكْذِيِبِهِمْ: إِنَّ هَذَا الرَّسُولَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ مِثْلَمَا نَأْكُلُ، وَيَشْرَبُ كَمَا نَشْرَبُ، وَيَتَجَوَّلُ فِي الأََسْوَاقِ طَلَباً لِلتَّكَسُّبِ والتِجَارَةِ، فَكَيْفَ يُرِيدُنَا أَنْ نَصَدِّقَهُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ؟ وَهَلاَّ أَنْزلَ اللهُ مَلَكاً مِنْ عِنْدِهِ، فَيَكُونَ شَاهِداً لَهُ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ؟(1/2744)
أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
{الظالمون}
(8) - وَهَلاَّ أُنْزِلَ عَلَيْهِ عِلْمٌ عَنْ مَكَانِ كَنْزٍ يُنْفِقُ مِنْهُ، أو يَكُونُ لَهُ بُسْتَانٌ (جَنَّةُ) يَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهِ، وَقَالَ الكَافِرُونَ، الظالِمُونَ أنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمُ: إِنَّ مُحَمَّداً رَجُلٌّ مَسْحُورٌ قَدْ أَثَّرَ فِيهِ السِّحْرُ فَهُوَ يَهْذِي وَيَخْلِطُ.
وَاللهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحَقِّقَ لِرَسُولِهِ جَمِيعَ مَا سَأَلُوهُ، وَقَالُوا لَهَ عَنْهُ، وَلَكِنْ، لَهُ الحِكْمَةُ فِي تَرْكِ ذَلِكَ، وَلَهُ الحُجَّةُ البالِِغَةُ، لأَنَّهُ إِنْ أجَابَهُمْ إِلَى مَا سَألُوا ثُمَّ استمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَإِنْكَارِهِمْ، دَمَّرَهُمُ اللهُ كَمَا دَمَّرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ.
جَنَّةٌ يَأَكُلُ مِنْهَا - بُسْتَانٌ مُثْمِرٌ يَتَعَيَّشُ مِنْهُ.
رَجُلاً مَسْحُوراً - رَجُلاً غَلَبَ السِّحْرُ عَلَى عَقْلِهِ.(1/2745)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
{الأمثال}
(9) - فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيفَ عَلَيْكَ، وَكَيْفَ جَاؤُوا بِمَا يَقْذِفُونَكَ بِهِ، وَيَكْذِبُونَ بِهِ عَلَيْكَ، فاخْتَرَعُوا لَكَ صِفَاتٍ وَأَحْوَالاً بَعِيدَةً كُلَّ البُعْدِ عَنْ صِفَاتِكَ التي أنت عليها (وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ ساحِرٌ وَمَجْنُونٌ وَشَاعِرٌ وَمُغفْتَرٍ. . .) وَكُلَّهُا بَاطِلَةٌ، فَضَلُّوا عَنْ طَرِيقِ الحقِّ والهَدَى، وَصَارُوا حَائِرينَ مُتَرَدِّدينَ لاَ يَهْتَدُونَ إِلى سَبِيلِ الرِّشَادِ، وَلاَ يَدرُونَ ما يَقُولُونَ فِيكَ.(1/2746)
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
{جَنَّاتٍ} {الأنهار}
(10) - يُبَارِكُ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ الكَرِيمَةَ، وَيُنَزِّهُهَا، عَنْ شِرْكِهِمْ، وَيَقُولُ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: إشنَّهُ إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ فِي الدُّنْيَا خيراً مِمَّا يَسْأَلُونَ: جَنَاتٍ تَجْرِي فِي جَنَبَاتِها الأَنْهَارُ، وَقُصُوراً (وَكُلُّ بَيْتٍ مَبْنِي بِالحِجَارَةِ تُسَمِّيهِ قُرَيْشٌ قَصْراً) ، وَلَكِنَِّه تَعَالَى لَمْ يَشَأ ذَلِكَ، لأَنَّهُ أَرَادَ إِعْطَاءَكَ ذَلِِكَ فِي الدارِ الآخِرَةِ.
(وَيُرْوَى أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ: إٍِنْ شِئْتَ أَنْ نُعْطِيَكَ خَزَائِنَ الأَرْضِ، وَمَفَاتِيحَهَا مَا لَمْ نُعْطِ نَبِيّاً قَبْلَكَ، وَلاَ نُعْطِي أَحَداً بَعْدَكَ، وَلاَ يُنْقِصُ ذَلِكَ مِمَّا لَكَ عِنْدَ اللهِ، فَقَالَ اجْمَعُوهَا لي فِي الآخِرَةِ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ الكَرِيمَةَ) .(1/2747)
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)
(11) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ كُفَارَ قُرَيْشٍ لَمْ يُنْكِرُوا مَا جِئْتَهُمْ بِهِ من الحَقِّ، وَلَمْ يَتَقَوَّلُوا عَلَيْكَ إِلاَ لأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بالبَعْثِ وَالنُشُورِ والحِسَابِ، وَلاَ يُصَدِّقُونَ بِأَمْرِ الثوابِ والعِقَابِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَتَعَلَّلُونَ بِهَذِهِ المَطَالِبِ لِيَصْرِفُوا النَّاسَ عَنٍِ الهُدَى والحَقِّ، وَقَدْ أَعَدَّ اللهُ تَعَالَى لِمَنْ يُكَذِّبُ بالسَّاعَةِ، والقِيَامَةِ، والحَشْرِ، والحِسَابِ، والثَوَابِ، ناراً أليمةً شديدَةَ الاشْتِعَالِ.
السعِيرُ - النَّارُ العظِيمَةُ الشديدةُ الاشْتِعَالِ.(1/2748)
إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)
(12) - وإذَا أصْبَحَتْ جَهَنَّمُ مِنْهُمْ عَلَى مَرَأى النَّظَرِ، وَهُمْ فِي المحشَرِ، بَعِيدُونَ عَنْهَا، سَمِعُوا لَهَا صَوْتاً يُشْبِهُ صَوْتَ المَغِيظِ المُحْنَقِ، لِشِدَّةِ تَوقُّدِهَا، وَيُشْبِهُ صَوْتَ الزَّفِيرِ الذي يَخْرُجحُ مِنْ فَمِ الحزِينِ المَكْرُوبِ المُتَحَسِّرِ.
تَغَيُّظاً - صَوْتَ غليانٍ كصوتِ المُتَغِيِّظِ.
زَفِيراً - صَوتاً شَدِيداً كَصَوْتِ الزَّافِرِ.(1/2749)
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)
(13) - وَإِذَا أُلُقوا فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ مِنْهَا، وَأَيْدِيهِم مَجْمُوعَةٌ إِلى أَعْنَاقِهِمْ بالقُيُودِ والأَغْلاَلِ، نَادُوْا هُنَالِكَ طَالِبِينَ تَعْجِيلَ هَلاَكِهِمْ لِيَسْتِريحُوا مِنْ هَوْلِ العَذَابِ.
(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: " إِنَّ المُجْرِمِينَ لَيُسْتَكْرَهُونَ فِي النَّارِ كَمَا ُسْتَكْرَهُ الوَتَدُ فِي الحَائِطِ ") .
مقَرَّنِينَ - مَقْرُونَةً أَيْدِيهِمْ إِلى أَعْنَاقِهِمْ بِالأَغْلاَلِ.
ثُبُوراً - وَيْلاً وَهَلاَكاً فَقَالُوا واثُبُورَاهُ.(1/2750)
لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
(14) - فَيُقَالَ لَهُمْ تَوْبِيخاً وَتَقْرِيعاً: لاَ تَطْلبُوا اليومَ هَلاَكاً وَاحِداً بَلِ اطْلبُوهُ مِرَاراً، فَلَنْ تَجِدُوا لَكُمْ خَلاَصاً مِمّا أَنْتُمْ فِيهِ.
(وَقَالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " أَوَّلُ مَنْ يُكسَى حُلَّةً مِنَ النَّارِ هُوَ إِبْلِيسُ فَيَضَعُهَا عَلَى حَاجِبِه، وَيَسْحَبُها مِنْ خَلْفِهِ؛ وَذُرِّيَتهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ يُنَادِي واثُبُوراه. وَيَقُولُونَ يَاثُبُورَهُمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ: لا تَدْعُوا اليوم ثُبُوراً وَاحِداً وادعُوا ثُبُوراً كثيراً ") . (رواهُ أحْمَدُ عَنْ أَنَسِ بنِ مالكٍ) .(1/2751)
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)
(15) - قُلْ يَا مُحَمَّد لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينْ: أَهَذَا الَّذِي وَصَفْنَاهُ لَكَ مِنْ حَالِ الأَشْقِيَاءِ، الّذِينَ يُحْشَرونَ عَلَى وُجُوهِهِم إلى جَهَنَّمَ، فَتَتَلَقَّاهُمْ بِوجِهٍ عَبُوسٍ وَتَغَيُّظٍ وَزَفِير، وَيُلْقُونَ في أَمَاكِنَ ضَيِّقَةٍ مِنْها مُقْرَّنِين، لا يَسْتِطِيعُونَ حَرَاكاً وَلاَ اسْتنصَاراً مِمَّا هُم فِيهِ. . . أَذِلِكَ خَيرٌ أمْ جنَّة الخُلدِ الَّّتِي وَعَدَ اللهُ بِها عِبَادَه المُتَّقِين، وَأَعَدَّها لَهُم لِتَِكُونَ لَهُم جَزاءً وَمصِيراً عَلى مَا أَطَاعُوا رَبَّهم فِي الدُّنيا؟(1/2752)
لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
{يَشَآءُونَ} {خَالِدِينَ} {مَّسْئُولاً}
(16) - وَلَهُم فِي الجَنَّةِ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ المآكِلِ، وَالْمَشَارِبِ، وَالمَلاَبِسِ، وَالمَسَاكِنِ، وَالمَنَاظِرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ عَيْنٌ رَأتْ وَلاَ أُذنٌ سَمِعَتْ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ خَالِدُونَ أَبَداً سَرمَداً، وَلاَ يَبْغُونَ عَمَّا هُمْ فِيهِ تَحَوُّلاً وَلاَ زَوَالاً، وَهَذَا كُلُّه مِن فَضْلِ الله، تَفَضَّل بِهِ عَلَيْهِمِ، وَأَحْسَن بِهِ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ وَعْدٌ مِنْ اللهِ وَاجِبٌ الوُقُوعِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَقَعَ.
وَعْداً مَسؤُولاً - وَعْداً حَقِيقاً بِأنْ يُسأَلَ وَيُطْلَب.(1/2753)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)
{أَأَنتُمْ}
(17) - يُخْبِرُ الله تَعَالَى عَمَّا يَقَعُ يَومَ القِيَامَةِ مِنْ تَقْرِيعٍ للكُفَّارِ عَلى عِبَادَتِهم الأَصْنَامَ، وَالأَوْثَانَ، وَالمَلائِكَةَ، وَعِيسَى، وَعُزَيْراً، وَغيرَهم، فَيَحْشُرُ اللهُ العَابِدِينَ والمَعْبُودِينِ إِلَيهِ، وَيَسْأْلُ المَعْبُودِين فَيقُولُ لَهُم: أَأَنْتُم دَعَوْتُم هَؤُلاءِ إِلى عِبَادَتِكم مِن دُوني، أَمْ هُم الَّذِينَ ضَلُّوا سَبِيلَ الهُدَى باخْتِيَارِهم، فَعَبَدُوكم مِن تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مِن غَيرِ دَعوةٍ مِنْكُم لَهُم؟(1/2754)
قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
{سُبْحَانَكَ} {نَسُواْ}
(18) - فَيُجِيب المعْبُودُون قَائِلين: سُبْحَانَك وَتَنزَّه اسْمُكَ يَا رَبَّنا، ليس لِلخَلائِق جَمِيعاً أَنْ يعبُدوا أَحَداً سِوَاك، لا نَحنُ وَلا هُم، وَنَحنُ لَم نَدْعُهمْ إِلى ذَلك، بَلْ هُم فَعَلُوهُ مِنْ تِلقَاءِ أَنْفُسِهمْ مِنْ غيرِ أَمرِنا وَلارضَانَا، وَنحنُ بَراءٌ مِنْهُم، ومِنْ عِبَادِتهمْ، وَلكِنَّ السَّببَ فِي كُفْرِهِم هُو أَنَّك يا ربَّنا أكثرتَ عَليهِم وَعَلى آبائِهم نِعمكَ، لِيَعرفُوا حَقَّها وَيَشْكُروكَ عَليها، فَاسْتَغرقُوا في الشَّهَواتِ، وَانهمكوا فِي المَلَذَّاتِ، وغَفَلُوا عَنْ ذِكْرِكَ فَكَانُوا مِن الهَالِكِينَ.
قَوْماً بُوراً - هالِكِينَ بائِرينَ.
نسوْا الذِّكر - غَفَلُوا عن دَلاَئِل الوَحْدَانِيَّة.(1/2755)
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
(19) فَيُقَال لِهَؤُلاءِ المُشْرِكِين الَّذين عَبَدُوا مَعَ اللهِ غَيْرَهُ حِينئذٍ: لَقَدْ رَأَيتُم أَنّ الَّذِين عَبَدْتُموهُم مِن دُونِ الله، وَزَعمْتُم أَنَّهم أَوْلِياؤُكُم يُقَرِّبُونَكم إِلى اللهِ زُلْفَى يَوْمَ القِيَامَةِ، قَدْ كَذَّبُوكُمْ فِيما تَقُولُونَ، وَها أَنْتُمْ فُرَادَى ضِعَافٌ أَمَامَ الخَالِقِ القَوِيِّ الدَّيَّانِ، لاَ تَسْتَطِيعُونَ صَرِفَ العَذَابِ عَنْ أًنْفُسِكُمْ، وَلا الانْتِصَارَ لَها، وَلا تَجِدُونَ نَصْراً مِنْ أَحَدٍ يَصْرِفُ العَذابَ عَنْكُمْ، فَأَنْتُمْ مُعَذَّبُونَ لا مَحَالَةَ. وَلْيَعْلَمِ العِبَادُ جَمِيعاً أَنًَّ مَنْ يَظْلِمْ نفسَهُ بِالكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ كَمَا فَعَل أُولِئكَ، فَإِنَّنا سَنُعَذِّبُه عَذَاباً أَلِيماً.
صَرْفاً - دَفْعاً لِلْعَذَابِ عَنْ أَنْفُسِكُمْ.(1/2756)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
(20) - وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالى عَلَى هَؤُلاءِ، وَهُوَ يُخَاطِبُ رَسُولَه صلى الله عليه وسلم قَائِلاً: إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرْسِلِ الرُّسُلَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ إِلاَّ مِنَ البَشَرِ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَتَزَوَّجُونَ، وَيَتَكَسَّبُونَ بِالعَمَلِ، وَلَيسَ فِي ذَلِكَ غَرَابةٌ، وَلا مُنَافَاةٌ لِحَالِ النُّبُوَّةِ. وَجَعَل اللهُ للأَنْبِيَاءِ مِنْ حًسْنِ القَوْلِ، وَمِمّا أَجْرَاهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنَ الآيَاتِ، دَلاَئِلَ وَحُجَجاً عَلَى صِحَّةِ دَعْوَتِهِمْ، وَصِدْقِ ما جَاؤُوا بهِ أَقْوَامَهُم، وَجَعَلَ اللهُ بَعْضَ النَّاسِ ابْتِلاءً لِبَعْضٍ، وَالمُفْسِدُونَ يُحَاوِلُونَ سَدَّ الطَّرِيقِ إِلى الهِدَايةِ وَالحَقِّ، بَشَتَّى الأًسَالِيب، فَهَلْ تَصْبِرُونَ يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ عَلَى هذا الابتِلاءِ، وَتَتَمسَّكُونَ بِدِينِكُمْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِنَصِرِهِ؟ فَإنّ الله تَعَالَى بَصِيرٌ مُطَّلِعٌ عَلى أًَحْوَالِ العِبَادِ، وَسَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى عَمَلِهِ.
فِتْنَةً - ابْتِلاءً وَمِحْنَةً.(1/2757)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)
{الملائكة} {وَعَتَوْا}
(21) - وَقَالَ الذِينَ كَفَرُوا وَأَنْكَرُوا البَعْثَ، وَالنُّشُورَ، وَالجَزَاءَ، وَكَذَّبُوا رَسُولَ اللهِ فِيما جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهم: هلاَّ أُنْزِلَ عَلَينا المَلاَئِكَةُ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَنَرَاهُمْ عِيَاناً لِيُخْبِرُونا أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ حَقاً، فَإِنَّا فِي شَكٍّ وَمِرْيةٍ مِنْ أمْرِهِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذا فَلْنَرَ رَبَّنا فَيُخْبِرَنا أَنَّهُ أَرْسَل إِلينا رَسُولاً، وَيَدْعُونا إِلى طَاعَتِه وَتَصْدِيقِهِ. وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلى اقْتِرِحَاتِ هَؤُلاءِ المُقْتَرِحِينَ قَائِلاً: لَقَدِ اسْتَكْبَرَ هَؤُلاءِ المُشْرِكُونَ فِي شَأنِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَجَاوَزُوا الحَدَّ في العُتُوِّ والظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ.
لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنا - لاَ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُمْ سَيُلاَقُونَ رَبَّهُمْ فِي الآخِرَةِ.
عُتُوّاً - تَجَاوُزَ الحَدِّ فِي الظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ وَالتَّكَبُّرِ.(1/2758)
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)
{الملائكة} {يَوْمَئِذ}
(22) - وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِهؤلاءِ المُكَذِّبينَ: إِنَّهُمْ حِينَ يَرَوْنَ المَلاَئِكَةًَ في سَاعَةِ احْتِضَارِهِمْ، وَدُنُوِّ أَجَلِهم فَتُبِشِّرُهُم المَلائِكَةُ بِعَذَابٍ أليمٍ مِنَ اللهِ وَيَضْرِبونَ وَجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ لإِخْرَاجِ أَرْوَاحِهِمْ، فَيَكُونَ ذَلِكَ اليَومُ يَوْماً عَسِيراً عَلَى الكَافِرِينَ، لاَ يَومَ بِشَارَةٍ لَهُمْ بِالكَرَامَةِ وَالجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ. وَتَقُولُ الملاَئِكَةُ لِهَؤُلاَءِ المُجْرِمِينَ: حَرَامٌ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُم الفلاَحُ اليومَ، وَحَرَامٌ عَلَيْكُمْ البُشْرَى - أَيْ جَعَلَ اللهُ البُشْرَى والجَنَّةَ عَلَيْكُمْ حَرَاماً مُحَرَّماً، (وَقِيلَ إِنَّ هَذَا يَكُونُ يَوْمَ القِيَامَةِ لاَ عِنْدَ الموتِ، وَلاَ مُنَافَاةَ بَينَ القولَيْنِ، فَيَوْمَ المَمَاتِ وَيومَ الحشرِ تَظْْهَرُ المَلاَئِكَةُ للخَلائِقِ فَيُبَشِّرُونَ المُؤْمِنِينَ بِالخَيرِ والرَّحْمَةِ، وَيُبشِّرُونَ الظَّالمِينَ بالوَيْلِ والثُّبورِ) .
حِجْراً مَحْجُوراً - حَرَاماً مُحَرَّماً.(1/2759)
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
{فَجَعَلْنَاهُ}
(23) - وَهَؤُلاءِ المُجْرِمُونَ عَمِلُوا فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا أَعْمَالاً ظَنُّوهَا حَسَنَةً مُفِيدَةً: كَصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَإِغَاثَةِ المَلْهُوفِ، والمَنِّ عَلَى الأًَسِيرِ. . مِمَّا لَوْ كَانُوا عَملُوهُ مَعَ الإِيْمَانِ لَنَالُوا ثَوَابَهُ، فَعَمَدَ اللهُ تَعَالَى إٍِلى مَحَاسِنِ أَعْمَالِهِمْ هَذِهِ فًَجَلَهَا كَالهَبَاءِ المَنْثُورِ الذي لاَ يُفْيدُ ولا يَجْمَعُ.
(وَقَدْ مَثَّلَ اللهُ حَالَهُمْ بِحَالِ قَوْمٍ خَالَفُوا سُلْطَانَهُمْ، واسْتَعْصَوا عَلَيْهِ، فَقَصَدَ إِلى مَا بينَ أيديهِمْ فأفْسَدَهُ وَبَعْثَرَهُ وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُ أَثَراً) .
الهَبَاءُ - الرَّمَادُ أو ما تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ.
المَنْثُورُ - المُفَرَّقُ المُبَعْثَرُ.(1/2760)
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
{أَصْحَابُ} {يَوْمَئِذٍ}
(24) - وَيَوْمَ القيامَةِ يَصِيرُ المُؤْمِنُونَ الصَّالِحُونَ فِي الجَنَّاتِ العَالِيَاتِ والغَرَفِ الآمِنَاتِ، فَهُمْ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ حَسَنِ المَنْظَرِ، طَيِّب المُقَامِ، والكُفَارُ يَكُونُونَ فِي دَرَكَاتِ النارِ السَّافِلاَتِ، فَأصْحَابُ الجَنَةِ خَيْرٌ مَنْزِلاً وَمْسْتقرّاً مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ الذينَ كَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِأَمْوَالِهِمْ ومَنَازِلِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
مَقِيلاً - مَكَانَ اسْتِرْوَاحٍ وَتَمَتُّعٍ وَقْتَ الظَّهِيرَةِ.(1/2761)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)
{بالغمام} {الملائكة}
(25) - وَاذكُرْ أَيَّهَا الرَّسُولُ لِقَوْمِكَ أهوالَ يومِ القِيَامَةِ، ومَا يَقَعُ فيهِ مِنَ الأُمُورِ العِظَامِ، إِذْ تَتَفَتَّتُ الشُّمُوسُ والكَوَاكِبُ، وَتَنْتَشِرُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ كَالغَمَامِ المُتَشَقِّقِ، وَتَنْزِلُ المَلاَئِكَةُ نُزُولاً مُؤَكَّداً بِصَحَائِفِ أعمَالِ العِبَادِ، لِتُقَدَّمَ لدى العَرْضِ والحِسَابِ، وَتَكُونَ شاهِدَةً عَلَيْهِمْ لدَى الفَصْلِ والقَضَاءِ، وتُحِيطُ بِالخَلاَئِقِ فِي مَقَامِ المَحْشَرِ.
نُزِّلَ المَلاَئِكَةُ تَنْزِيلاً - نُزِّلَتِ المَلاَئِكَةُ نُزُولاً مُؤَكَّداً.
تَتَشَّقَق السَّمَاءُ بالغَمَامِ - تَتَفَتَّحُ السَّمَاوَاتُ بالسَّحَابِ الأَبْيَضِ الرَّقِيقِ.(1/2762)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)
{يَوْمَئِذٍ} {الكافرين}
(26) -وَيَكُونُ المالِكُ الحقُّ فِي ذَلِكَ اليومِ هُوَ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، ولاَ مَلِكَ غَيْرُهُ. وَهُوَ يَوْمٌ صَعْبٌ شَدِيدُ الهَوْلِ عَلَى الكَافِرِينَ، لأَنَّهُ يَوْمُ عدلٍ، وَقَضَاءٍ، وَفَصْلٍ، وَيَعْلَمُونِ فِي ذَلِكَ اليومِ مَا قَدَّمُوا مِنْ سَيِّئِ العَمَلِ، وَمَا أَسْلَفُوا مِنْ كُفْرٍ بِرَبِّ العِبَادِ، وَتَكْذِيبٍ لأَنْبِيائِهِ، وَمِنْ عَمَلٍ أَثِيمٍ.(1/2763)
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)
{ياليتني}
(27) - وَيَنْدَمُ فِي ذَلِكَ اليومِ الظَّالِمُونَ الكَافِرُونَ، الذين تَرَكُوا طَريقَ الرَّسُولِ، وَكَفُرُوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى مِنَ الحَقِّ المُبِينِ، وَيَعَضُّونَ عَلَى أَيْدِيهِمْ نَدَماً عَلَى مَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ اللهِ، وَيَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا اتَّبَعْنَا طَرِيقَ الرَّسُولِ المُوصِلِ إِلى الجَنَّةِ، وَلَكِنَّ النَّدَمَ لاَ يَنْفَعُهُمْ حِيْنَئِذٍ.
(وَيُرَوَى أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي عُقْبَةَ بن أَبِي مُعَيْطٍ، إِذْ كَانَ يَزْجُرُ أُبَيَّ بْنَ خَلَفَ لِحَضُورِهِ مَجْلِسَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) .(1/2764)
يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)
{ياويلتى}
(28) - وَيَقُولَ الظَالِمُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ مُتَحَسِّراً: يَا خَسَارَهُ وَيَا هَلاَكَهُ، وَيَا لَيْتَهُ لَمْ يَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً وَصَدِيقاً (وَيَذْكُرُ اسمَ من أَضَلَّهُ وَصَرَفَهُ عَنِ الحَقِّ والهُدَى) ، وَيَتَمَّنى لَوْ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَمِعْ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَسْتَجِبْ لِدَعْوَتِهِ.(1/2765)
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
{الشيطان} {لِلإِنْسَانِ}
(29) - لَقَدْ أَضْلَّنِي هَذَا الصَّدِيقُ عَنِ الإِيْمَانِ بالقُرْآنِ بَعْدَ بُلُوغِهِ إِلَيَّ، وَمَنَّانِي بالنَّصْرِ والفَلاَحِ، وَمِنْ عَادَةِ الشَّيْطَانِ أَنْ يُمَنِّي وَيَعِدَ، وَيُمَنِّي كَذِباً وَغُرُوراً، وَأَنْ يَخْذُلَ الإِنْسَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَتْرِكَهُ لِمَصِيرِهِ، وَيَقُولَ لأَوْلِيَائِهِ: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ.} (وَقِيلَ بَلْ إِنَّ المَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ: أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَذِّلُ الإِنْسَانَ عَنِ الحَقِّ، وَيَصْرِفُهُ عَنْهُ، وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي البَاطِل وَيَدْعُوهُ إٍِلَيْهِ) .
خَذُولاً - كَثِيرَ الخِذْلاَن لِمَنْ يُوَالِيهِ.(1/2766)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
{يارب} {القرآن}
(30) - وَقَالَ الرَّسُولُ مُشْتَكِياً إِلَى رَبِّهِ: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمي اتَّخُذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً، أَيْ أَنَّ قَوْمِي الّذِينَ بَعَثْتَني إِلَيْهِمْ لأَدْعُوَهُمْ إِلى تَوْحِيدِكَ، وَأَمَرْتَني بِإِبْلاَغِ القُرْآنِ إِلَيْهِم، قَدْ هَجرُوا كِتَابَكَ، وَتَرَكُوا الإِيمانَ بِكَ، وَلَمْ يَأَبَهُوا بِوَعِيدِكَ، بل أعْرَضُوا عنِ استماعِهِ واتِّبَاعِهِ.
مَهْجُوراً - مَتْرُوكاً مُهْمَلاً.(1/2767)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
(31) - وكَمَا جَعَلْنَا لَكَ أعْدَاءً من المُشْرِكينَ يَتَقَوَّلُونَ عليكَ الترّهَاتِ والأبَاطِيلَ، كذلكَ جعَلْنَا لكلِّ نَبيٍّ من الأنبياءِ السَّابِقِينَ أعداءً لهُمْ من شَياطينِ الإِنسِ والجنِّ، يُقَاوِمُون دعْوَتَهم، ويُزْعِجُونَهم، وَيُكَذِّبُونَهُمْ، فلا تَحْوَنْ يَا مُحَمَّدُ عَلَيهِمْ، فَهَذا دَأْبُ الأنبياءِ قَبْلَكَ، فاصبِرْ كما صَبَرُوا. وحَسْبُكَ بِرَبِّكَ هادِياً لَكَ إلى مَصَالِح الدين والدُّنْيَا، وسينصُرُك على أعدائِكَ، ويُبَلِّغُكَ غايةَ ما تَطْلُبُ، ولا يَهُولَنَّكَ كَثْرَةُ عَدَدِهِم فإِنَّه تعالى جَاعلٌ كلمَتَه هي العُلْيا لا مَحَالَة.(1/2768)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)
{القرآن} {وَاحِدَةً} {وَرَتَّلْنَاهُ}
(32) - وقالً اليَهُودُ: هَلاَّ أُنْزِلَ القرآنُ على مُحَمدٍ دُفَعةً واحِدةُ كما أُنْزِلت الكُتبُ السابقةُ على الأنبيَاءِ. وَيُرُدُّ اللهُ تَعالى عَلى قَوْلِهِمْ هذا، قائلاً: إنهُ إنما أُنزلَ القُرآنُ مُنَجًَّماً في ثَلاثٍ وعِشرينَ سَنةً بحَسَبِ الوَقَائِعِ، وما يُحْتَاجَ إليه منَ الأَحكَامِ لِيُثَبِّتَ قُلوبَ المُؤمنينَ بهِ، ويُثَبِّتَ قَلْبَ الرّسولِ صلى الله عليه وسلم، وقد أنزَلَهُ اللهُ على مَهْلٍ هكَذا على رَسُوله، وقَرَأَهُ عليهِ، بلِسانِ جِبريلَ عليهِ السَّلامُ، شَيئاً فَشَيئاً لِيتَمَكنَّ مِنْ حِفْظَهِ واسْتِيعابِهِ.
رتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً - فَرَقْنَاه آيةً بعدَ آيةٍ، أَو بَيَّنَّاهُ.(1/2769)
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)
{جِئْنَاكَ}
(33) - ويَقُولُ اللهُ تَعَالى لنبيهِ: إِنَّ هؤلاءِ الكُفَّارَ لا يَأْتُونَ بِحُجَّةٍ وشُبْهَةٍ (مَثَلٍ) ، ولا يقُولُونَ قَوْلاً يُعارِضُونَ بهِ الحَقَّ، إلا آتَى اللهُ نَبيَّهُ من الحَقِّ ما يَدْحَضُ بِه شُبَهَهُمْ، ويدْفَعُ بِهِ حُجَجَهُمْ وتَعَنُّتُهمْ، ويكُونُ ذلكَ أوْضَحَ وأفْصَحَ مِنْ مَقَالَتِهِمْ.
(وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ: ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ يَلْتَمسُونَ بِهِ عَيْبَ القُرآنِ والرَّسُولِ إِلاَّ أَنْزَلَ جِبْرِيلَ بِجَوَارِيِهِمْ) .
أحْسَنَ تَفْسيراً - أصدقَ بيَاناً وَتْفْصِيلاً.(1/2770)
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
{أولئك} (34) - وإنِّي لا أقولُُ لَكُمْ كما تَقُولونَ، ولا أصِفُكُمْ بمِثْلِ ما تَصِفُونَنِي بهِ، بلْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الذينَ يُسْحَبُون إِلى جَهنَّمَ، ويُجَرُّونَ فيها بالسَلاسِلِ والأغْلاَلِ على وُجُوهِهمْ، هُمْ شَرُّ مَكَاناً، وأضلُّ سَبيلاً. فَفَكِّرُوا وقُولوا قَوْلَ مُنِصِفٍ: مَنْ هُوَ الأَوْلَى مِنَّا ومِنْكُم بهذهِ الأوصَافِ.(1/2771)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35)
{آتَيْنَا} {الكتاب} {هَارُونَ}
(35) - ولقَدْ أنْزَلنا التوراةَ على مُوسَى، كما أنزلْنَا عليكَ القرآنَ يا مُحمدُ، وجعلنا مَعَهُ أخَاهُ هارونَ وزيراً وظَهِيراً ومُعِيناً.(1/2772)
فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
{بِآيَاتِنَا} {فَدَمَّرْنَاهُمْ}
(36) - وأرْسَلَهُمَا اللهُ تَعالى إلى فِرعَونَ وقَوْمِهِ، فَكَذَّبُوا بآياتِ اللهِ، فَدَمَّرَهُمُ اللهُ تَدْمِيراً، وأغْرَقَهُمْ في صَبيحةٍ واحدةٍ.
التَّدْمِيرُ - كَسْرُ الشَّيءِ كَسْراً لا جَبْرَ لَهُ.(1/2773)
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)
{أَغْرَقْنَاهُمْ} {وَجَعَلْنَاهُمْ} {آيَةً} {لِلظَّالِمِينَ}
(37) - وَاذْكُرْ قَوْمَ نُوحٍ حِينَ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ نُوحاً عليهِ السَّلامُ، وقَدْ لَبِثَ فيهمْ أمَداً طَويلاً يَدْعُوهُم إلى اللهِ، ويُحَذِّرُهُمْ نِقَمَهُ، فلَم يُؤْمِنْ لَهُ إلا قليلٌ منهمْ (كما جَاءَ في آيةٍ أُخْرى) ، فأغْرَقَهُمُ اللهُ جَمِيعاً بالطُّوفان، ولمْ يُبْقِ مِنْهُم إلا مَنْ كَانَ في السَّفينةِ مَعَ نُوحٍ، وَجَعَلُهُمُ اللهُ عِبْرَةً للنَّاسِ، وقَدْ أعَدَّ اللهُ للكَافرينَ الظَّالمينَ عَذَاباً أليماً في الدُّنيا والآخِرَةِ.
(وفي هذا تَحْذيرٌ لقُرَيِشٍ بأَنَّهُمْ سَيَحِلُّ بهِمْ ما حَلَّ بالأُمَمِ السَّالِفَةِ) .(1/2774)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)
{وَثَمُودَاْ} {وَأَصْحَابَ}
(38) - وقَدْ كَذَّبَ قومُ عَادٍ رَسُولَهُمْ هُوداً عليهِ السَّلامُ، وكَذَّبَ قومُ ثَمُودَ نَبيَّهمْ صَالحاً، وكذَّبَ أصحابُ الرَّسِّ رسولَهُم، وقد كَذَّبَتْ جميعُ هذه الأقوامِ رسُلَهَا فأهْلَكَها الله، كما أهْلَكَ أُمَماً وأقْواماً آخَرينَ (قُروناً) غيرَ هؤلاءِ لَمَّا كَذَّبُوا رسُلَهُمْ.
الرَّسذُ - البِئْرُ غيرُ المَطْوِيَّةِ أي غَيْرُ المَبْنِيَّةِ.
وقِيل الرَّسُّ وادٍ - مِنْ قَوْلِهِمْ " فَعُنَّ ووادي الرَّسِ كاليَدِ للْفَمِ "؟
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: الرَّسُّ قَرْيَةٌ مِنْ قُرى ثَمودَ.(1/2775)
وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
{ضَرَبْنَا}
(39) - وقد بَيَّنَ اللهُ تعالى لهؤلاءِ الأقْوَامِ جميعاً الآياتِ والحُجَجَ والبراهينِ الدَّالةَ عَلى صِدْقِ مما جَاءَتْهُم بهِ النُّبُّواتُ، فلَمْ يَتَّعِظُوا ولم يُؤْمنوا، فأَهْلَكَهُمُ اللهُ إهْلاكاً عَجِيباً.
التَّتْبِيرُ - التَفْتِيتُ والتَّكْسِيرُ والإِهْلاَكُ.(1/2776)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
(40) - ويقولُ اللهُ تَعالى لرَسُولِه الكريم: إِنَّ قَوْمَكَ يا مُحَمدُ مَرُّوا بقُرَى قومِ لوطٍ، ورَأَوْا كيفَ أَهْلَكَها اللهُ ودمَّرَها، وأَمْطَرَ عليها حِجَارَةً من سِجِّيْلٍ (قِرْمِيدٍ مَشْوِيٍّ) بسََبَبِ ظُلمِ أهْلِها، وكُفْرِهِمْ، وفَسَادِهِمْ، فَهَلاَّ اعتَبَرُوا بما حَلَّ بِهؤلاءِ مِنَ العَذَابِ والنَّكَالِ؟ إِنَّ الذين مرُّوا بها رَأَوْا بأعْيُنِهِمْ ما حَلَّ بها ولكنَّهُمْ لم يَعْتَبِرُوا لأنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ والمَعَادِ يومَ القيامةِ، ولاَ يَعتقِدُون أنهُمْ سيُنْشَرُون، وأنّ الله تَعالى سَيُعيدُ خَلْقَهُم ليحاسِبَهُم على أعمالِهمْ في الحياةِ الدُّنْيا، ولذِلكَ فإِنَّهُمْ لا يُوقِنِون بأنهُ سَيكونُ هناكَ ثوابٌ وعقابٌ وحسابٌ فَيَرْدَعُهُمْ عن كفْرِهِمْ ومعاصِيهِمْ.
مَطَرَ السَّوْءِ - حجارةً مُهْلِكَةً من السَّماءِ.
لا يَرْجُونَ نُشُوراً - يُنْكِرُون البَعْثَ ولا يَتَوقَّعُونَهُ.(1/2777)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)
(41) - وإذا رآك هَؤلاءِ المُشْرِكُونَ الذينَ قَصَصْتُ عليكَ قِصَّتَهُمْ اتَّخَذُوكَ مَوْضِعَ هُزْءٍ وَسُخْرِيَةٍ، وقالوا مستهزئين: أهذا الذي بعثَهُ اللهُ إلينا رسُولاً لِنَتَّبِعَهُ ونُؤمِنَ برسالَتِهِ؟
هُزُواً - مَهْزَوءاً بِه.(1/2778)
إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)
{آلِهَتِنَا}
(42) - ويَقُولُ بعضُهُم لِبَعضٍ: إِنَّ هذا الرَّسولَ كادَ أَن يَثْنِيَهُمْ عن عبادةِ أصْنَامِهِم، بقوَّةِ حُجَّتِهِ، وحُسْنِ بَيَانِهِ، لَولا أنَّهُمْ صَبَرُوا وتَجَلَّدُوا واستَمَرَّوا على عبادَتِها.
ويردُّ اللهُ تعالى على قولِهِمْ هذا مُتَوَعِّداً: إنَّهُم يُكذِّبُون الآنَ بما جَاءَهُمْ بهِ الرَّسُولُ من دَعْوَةٍ إلى الإيمانِ باللهِ وكُتُبِه ورُسُلِهِ، ولكنَّهُم حِين يَرَوْنَ العَذَابَ الأليمَ في نارِ جهنَم، يُدْرِكون أنَّ الرّسولَ صَدَقَهُمُ القَوْلَ، والدَّعوةَ والتَّحذيرَ، وأنهُ كَانَ عَلى هُدىً وحَقٍّ، وأَنَّهم كَانُوا عَلى ضَلالٍ بِرَفْضِهِمُ الاستجَابةَ إليهِ، واتباعَ رسَالَتِه.(1/2779)
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)
{أَرَأَيْتَ} {هَوَاهُ}
(43) - انْظُرْ إلى حَالِ الذي جَعَلَ هَوَاهُ إلهَهُ، بأَنْ أطَاعَهُ وبَنَى عليهِ أمرَ دِينهِ، وأعْرَضَ عن استماع الحَقِّ، والحُجَجِ، والبَراهِينِ الواضِحَةِ الدَّالَّةِ على وَحْدَانِيَّةِ اللهِ، وعظيمِ قُدْرَتِه، واعْجَبْ منْهُ، ولا تَعْبَأْ بِهِ فإِنَّكَ لستَ حَفيظاً عليهِ، وليسَ عَلَيْكَ هُدَاهُ، وإِنّما عَليكَ إبلاغُهُ الرِّسَالَةَ، ثُمّ إِنْ شَاءَ اللهُ هَدَاه، وإِنْ شَاءَ أضَلَّهُ.
(وقالَ ابنُ عَباسٍ: كانَ الرجلُ في الجَاهليةِ يَعْبُدُ الحَجَرَ الأَبْيَضَ، فإِذَا مَا رَأَى أحْسَنَ منهُ عبدَ الثانيَ، وتَرَكَ الأَوَّلَ، فأنزَلَ اللهُ تَعالى هذهِ الآيةَ) .
وَكِيلاً - حَفيظاً تَمْنَعُهُ مِنْ عِبَادَةِ ما يَهْوَاهُ.
أَرَأَيْتَ - أخْبِرِنِي.(1/2780)
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
{كالأنعام}
(44) - هَلْ تَطُنُّ يا محمدُ أنَّ هؤلاءِ المُشرِكينَ يَسمَعُون أو يَعْقِلونَ؟ إنهم في الحَقيقَةِ لا يَسْمعُونَ حقَّ السَّماعِ، ولا يُدْرِكُون حقَّ الإِدْرَاكِ ولا يفْهَمُونَ فَهْما صَحِيحاً ما تَتْلُوه عليْهِمْ مِنَ الآياتِ والمواعظِ الداعِيَةِ إلى الإيمانِ وإلى الخَيْرِ، حَتَّى تَجْتَهِدَ في دَعْوَتِهِمْ، وتَحْفِلَ بِإرشَادِهِمْ، وتذكيرِهِمْ، وتَطْمَعَ في إيمَانِهِمْ، فَهُمْ أَسْوَأُ من الأنْعَامِ السَّارِحَةِ، وأضَلُّ سَبيلاً، لأنَّ الأنْعَامَ السَّارِحَةَ تنقَادُ لصَاحِبِها الذي يَتَعَهَّدُهَا، وتعرفُ مَنْ يُحْسِنُ إليها ومن يُسيءُ، وتطلبُ ما يَنفَعُها، وتَجتنبُ ما يَضرُّها، وتَهتدِي لمَرْعَاها ومَشْرَبِها.
أما هؤلاءِ المُشركونَ فإنهمْ لا يَنْقادُونَ لَخَالِقِهِمْ وبارِئِهم، ولا يَعْرِفُونَ إحْسَانَهُ إليهم، ولا يعْرِفُونَ إساءَةَ الشيطانِ وعَدَاوتَهُ لَهُم، وهوَ الذي يزيِّنُ لهمُ الكُفْرَ واتِّباعَ الشَّهَواتِ.(1/2781)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)
(45) - يبينُ اللهُ تعالى الأدلةَ على وجُودِه، وعلى قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ على خَلْقِ الأشياءِ المُتضَادَّةِ فقالَ: أَلا تَرى يا أيُّها الرسُولُ كيفَ جعَلَ ربُّكَ لِكلِّ شيءٍ مُظِلٍّ مُنْذُ طُلوعِ الشَّمسِ حتَّى مَغيبها، فاستَخْدَمَهُ الإِنسانُ للوقايَة من لَفْحِ الشّمسِ وَحرِّهَا، ولو شَاءَ اللهُ لجعلَهُ ثابِتاً على حَالٍ واحدةٍ، ولكنُّهُ جعلَهُ مُتَغَيِّراً في ساعاتِ النهارِ المخْتَلِفَةِ، لذلك اتُّخِذَ دليلاً على قياس الزَّمان. ثمَّ جَعَلَ طلوعَ الشَّمسِ دلِيلاً على ظُهورِ الظِّلِّ ومُشَاهَدَتِهِ بِالحِسِّ والمُعَايَنَةِ، فَلولا الشَّمسُ لما عُرِفَ الظِّلُّ.
(وقالَ ابنُ عباسٍ ومُجَاهِدٌ: الظِّلُّ ما بينَ طلوعِ الفجرِ إلى طُلوعِ الشَّمسِ) وهَذا هُو الشَّفَقُ.(1/2782)
ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
{قَبَضْنَاهُ}
(46) - ثمَّ يَقْبِضُ اللهُ تَعالى الظِّلَّ قَبْضَاً سَهْلاً خَفِيفاً، ويجعَلُهُ مُنْكَمِشاً بِحَسَبِ سَيْرِ الشَّمْسِ، حَتَّى لا يَبْقَى في الأرضِ ظِّلٌّ إلا تَحْتَ سَقْفٍ أو شجرةٍ.(1/2783)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)
{الليل}
(47) - ومِنْ آثارِ قُدرتِه تَعالى، ورَوائعِ رَحْمَتِه الفائِضَةِ على خَلْقِه، أنه جَعَلَ الليلَ يلْبَسُ الوجودَ ويَغْشَاهُ، ويسْتُرُهُ بِظَلاَمِه، كما يَسْتُرُ اللبَاسُ جَسَد الإِنْسَانِ، وجَعَلَ النَّوْمَ كالمَوتِ قَاطِعاً للحَرَكَةِ لِتَرْتَاحَ الأَبْدَانُ (سُبَاتاً) ، فإن الأجْسَادَ تَكِلُّ مِنْ كَثْرَةِ الحَرَكَةِ، فإذا جَاءَ الليلُ سَكَنَتْ الحَرَكَاتُ فاسْتراحَت الأجْسَادُ ونَامَتْ، وفي النَّومِ راحةٌ، وهو الذي جعَل الناسَ يَنْبَعِثُونَ في النَّهَارِ، ويْنْتَشِرُون لكَسْبِ مَعَايِشِهِمْ، وتَأْمِينِ رِزْقِهِمْ ولِبَاسِهِمْ.
الليل لِباساً - ساتِراً لكُمْ بظَلامهِ كاللبَّاسِ.
السُّبَاتُ - قَطْعُ الحَرَكَةِ لترْتاحَ الأبْدانُ.
نُشُوراً - انْبعاثاً منَ النَّومِ للسَعيِ والعَمَلِ.(1/2784)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)
{الرياح}
(48) - ومِنْ دلائلِ قُدرتِه تَعالى أَنَّهُ يُرسِلُ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ بمَجيءِ، السَّحابِ بَعدَها (بين يديْ رحمتِهِ) ، ومن الرياحِ ما يُثير السَّحابَ، ومنها ما يَحْمِلُه، ومنها ما يَسُوقُه، ومنها ما يَلْقَحُ السَّحابَ ليُمْطِرَ، ويُنزلُ اللهُ تعالى مَطراً من السَّماءِ يَتَطَهَّرُ بهِ الناسُ.
بُشْراً - مُبَشِّرات بالرَّحمةِ وهيَ المَطرُ.
طَهُوراً - طَاهِراً بنفسِهِ مُطَهِّراً لِغَيِرِهِ.(1/2785)
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
{أَنْعَاماً}
(49) - فيُحْيِي اللهُ بالمَطرِ أرضاً طَالَ انتِظَارُها لِلغيثِ، فهيَ هَامدَةٌ لا نبَاتَ فيها (مَيْتاً) ، فلما جَاءَها المَطرُ عاشَتْ، وأنْبَتَتْ، واكْتَسَتْ رُبَاهَا بالخُضرةِ، والأزَاهيرِ. ويِشْرَبُ من هذا الماء المُنْزَلِ من السماءِ، الحيوانُ، من أَنعَامٍ وبَشَرٍ مُحْتَاجينَ إليهِ لشُرْبِهِمْ، ولِرَيِّ أرْضِهِم وزُرُوعِهِمْ.(1/2786)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
{صَرَّفْنَاهُ}
(50) - ولَقَد صَرَّفْنَا المَطَر بينَ النَّاسِ عَلى أوضَاعٍ شَتَّى، فَخَصَّصْنَا بهِ أَرْضاً دُونَ غيرها، وسُقْنَا السَّحَابَ فيمُرُّ فوقَ الأرضِ، ويتعَدَّاها ويَتَجَاوزُها إلى الأرضِ الأُخْرى فيُمْطِرُها اللهُ، ويَكْفِيها، ويجعلُهَا غَدَقاً، والتي وَرَاءَها لم يَنزِلْ فيها قطْرةُ مطرٍ واحدةٍ، ولقد أرادَ اللهُ تعالى ذلكَ لعلَّ الناسَ يَتَذَكَّرُون، وهُمْ يَرَوْنَ إحْياءَ الأَرضِ المَيْتَةِ، أنَّ اللهَ قادرٌ عَلَى إحياءِ الأمواتِ والعِظَامِ والرُّفَاتِ، وَليَذْكُر مَنْ مَنَعَهُ اللهُ المَطَرَ أَنَّ ما أصابَهُ إِنَّمَا كَان بِذَنْبِهِ، فَيُقْلِعَ عَمَّا هوَ فيهِ. وحينَ تُمطِرُ السَّماءُ يقولُ المؤمنونَ: أُمْطِرْنا بفضِلِ اللهِ ورَحْمَتِهِ. ويقولُ الكافرون: أُمُطِرْنا بِنَوْءِ كَذا. وذلك مَعنى قولِهِ تَعَالى (فأبى أكثرُ الناسِ إلا كُفُوراً) .
(وقِيل إنَّ المَقْصُودَ بقولِه تَعالى (صَرَّفْنَاهُ) هُنا هُو القُرآنُ، أيْ إنَّ اللهَ بَيّنَ آياتِهِ ووضَّحَها للناسِ، والأولُ أظهرُ لأنه يَتَّفِقُ مع السِّيَاقِ) .(1/2787)
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51)
(51) - ولو شاءَ اللهُ لَبَعَثَ في كلِّ قَرْيَةٍ رَسُولاً، يَدْعُوهُمْ إلى اللهِ تعالى، ولكنَّهُ خَصَّ رَسولَهُ مُحمداً بِالْبِعْثَةِ إلى جميعِ أَهْلِ الأرضِ، وأمَرَهُ بأنْ يُبْلِّغَهُمْ هذا القُرآنَ.(1/2788)
فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
{الكافرين} {َجَاهِدْهُمْ}
(52) - ثم يدعُو اللهُ تَعالى رَسُولَه صلى الله عليه وسلم إلى مُجاهَدةِ الكَافرينَ بالقُرآنِ دُونَ هَوَادَةٍ، وإلى عَدمِ إطاعَتِهم فيما يَدْعُونه إليهِ مِنْ مُوافَقَتِهم على مَذَاهِبِهم وَآرَائِهِمْ.(1/2789)
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
(53) - واللهُ تَعالى هَو الذي خَلَقَ المِياهَ في الأَنْهَارِ، والينَابِيعِ والعُيونِ، والآبارِ، لِيَشْرَبَ منها الإِنسانُ والحَيوانُ والنَّباتُ، وَتَنتفِعَ بها المَخلُوقَاتُ، وهوَ الذي خَلَق المِياهَ المَلِحةَ في البِحَار، ومَنَعَهَا منْ أَنْ يَخْتَلِطَ بعضُها ببعضٍ، وجَعَلَ بينها حَواجِزَ من الأرضِ الياَبِسَةِ، ومَانعاً أنْ يَصِلَ ماءُ أحدِهِمِا إلى الآخَرِ.
مَرَجَ البحرين - مَنَعَهُما من الاخْتِلاطِ - أو أرْسَلَهُما في مَجَارِيهِما.
عَذْبٌ فُرَاتٌ - عَذْبٌ شَديدٌ العُذُوبَةِ.
مِلْحٌ أُجَاجٌ - شَديدُ المُلُوحَةِ.
حِجْراً مَحْجُوراً - حَرامٌ ومُحَرَّمٌ تَغييرُ صِفَاتِهِما أو اخْتِلاَطُهُما.(1/2790)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
(54) - واللهُ تَعالى خلقَ الإِنسانَ مِنْ نُطْفَةِ ضَعِيفةٍ (ماءٍ مَهينٍ) فَسَوَّاهُ وَعَدَّلَهُ، وَجَعَلَهُ كَامِلَ الخِلْقَةِ، ذَكَراً وأُنثى كَما يشاءُ، فالذُّكور هُم ذَوُو النَّسَبِ، والنِّساءُ هنَّ ذواتُ الصِّهْرِ يُصَاهَرُ بِهِنَّ، وكُلُّ ذلكَ مِنْ ماءٍ مَهينٍ، واللهُ قادرٌ على كُلِّ شيءٍ.
(وقَال مُفسِّرونَ: إِن المَعْنى هوَ أنَّ الله جَعَلَ الماءَ جُزْءاً منَ المَادَّةِ المُكَوِّنة لِجسْمِ الإِنسانِ) .
نَسَباً - ذَوِي نَسَبٍ - أي ذُكوراً يُنْتَسَبُ إِليهمْ.
صِهْراً - ذَواتِ أَصْهارٍ - أَيْ إنَاثاً يصَاهَرُ بِهِنَّ.(1/2791)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
(55) - لقَدْ قَدَّمَ اللهُ تعالى الأَدِلَّة علَى وُجودِه، ووحْدَانِيِّتِه، وقُدْرَتِهِ على خَلْقِ العبادِ، واستحَقَاقِهِ وَحدَهُ العِبادةَ منَ الخَلْقِ ومعَ ذلك فإنَّ هؤلاءِ المُشْرِكينَ يعبُدُونَ أصْناماً لا تَضُرُّ ولا تَنفَعُ، ولَيسَ لَهُمْ على عِبادَتِها دليلٌ ولا حُجَّةٌ، وإنَّما عَبَدُوها بِمُجَرَّدِ الرَّأيِ والهَوَى، فَهُمْ يُوالُون الأصنامَ ويقاتِلونَ في سبيلِها، ويُعَادُونَ الله ورسولَهُ والمُؤمنينَ فيها، وكَانَ الكافرُ عَوْناً للشَّيطانِ، ومُظَاهِراً له في مَعْصِيَةِ الخَالِقِ تَعالى وتَباركَ.
عَلى رَبِّهِ ظَهيراً - مُعِيناً للشيطانِ على رَبِّه بالشِّرْكِ.(1/2792)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56)
(56) - وكَيفَ يَطْلُبونَ العَوْنَ على اللهِ ورسُولِهِ، واللهُ قَدْ أَرْسَلَ رسُولَهُ لِنَفْعهِمْ، إذْ قَدْ بعثَهُ لِيُبَشِّرَهُم ويَحُثَّهُم على فِعلِ الطَّاعَاتِ، ويُنذِرَهُم ويُحَذِّرَهُم مِن ارْتِكاب المَعاصِيْ التي تستَوْجِبُ عقَابَ فاعِليها.(1/2793)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
{أَسْأَلُكُمْ}
(57) - وقُلْ يا مُحمدُ لِمَنْ أُرْسِلَتْ إليهِم: أنَا لا أسْأَلُكُم أجْراً على مَا جِئْتُكُمْ بِهِ عندِ رَبِّي، لتقُولوا إنَّما يَدْعُونا لأَخْذِ أموالِنا، ومِنْ ثَمَّ لا نَتَّبِعُهُ حَتَّى لا يكونَ لَهُ في أمْوالِنا مَطْمَعٌ. ولكنْ مَنْ شاءَ أنْ يَتقربَ إلى اللهِ تَعالى بالإِنْفاقِ في وُجوهِ الخيرِ والبِرِّ، ويَتَّخِذَ ذلكَ سَبيلاً إلى رحمةِ اللهِ، ونَيْلِ ثَوَابهِ فَلْيَفْعَلْ.(1/2794)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)
(58) - وَتَوَكَّلْ عَلى ربَّكَ الدائِمِ البَاقي، رَبِّ كلِّ شيءٍ ومَلِيكِهِ واجعَلْهُ مَلْجَأكَ وذُخْرَكَ، وفَوِّضْ إليهِ أَمْرَكَ، واسْتَسْلِمْ إليهِ، واصْبِرْ على ما أصابَكَ، فإنَّهُ وناصِرُكَ ومُبَلِّغُكَ ما تُريد، وَنَزِّهْهُ عَمَّا يَقُولُ المشركونَ من الصَّاحِبَةِ والوَلَدِ، وحَسْبُكَ نَاصِراً وسَنَداً باللهِ الحَيِّ البَاقِي، الذيْ لا يَمُوتُ، وحَسْبُكَ بِهِ خَبيراً بذنُوبِ خَلْقِه، فهوَ مُحْصِيْها عَلَيْهِم، ولا يَخْفَى عليهِ من أفْعَالِهِمْ شَيءٌ، وسَيُحاسِبُهم عليها جميعاً يومَ القيامةِ، ويَجْزِيهِمْ بما يَستَحِقُّونَ.
سبِّحْ - نَزِّهِ اللهَ تَعالى عنْ جَميعِ النَّقائِصِ.
بِحَمْدِهِ - مُثْنِياً عليهِ بأَوصَافِ الكَمَالِ.(1/2795)
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
{السماوات} {فَسْئَلْ}
(59) - واللهُ تَعَالى خَالقُ كلِّ شيءٍ، ورَبُّهُ ومَلِيكُهُ، وقدْ خَلَقَ، بقُدْرَتِه وسُلطانِه، السَّماواتِ في ارتفاعِهَا واتّساعِها، والأرضَ، خلالَ ستةِ أيام ثم استوَى عَلَى العَرشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ، ويقْضِي بالحقِّ، وهوَ خيرُ الحَاكمين، وهوَ تَعالى عَظيمُ الرَّحمةِ بِكُمْ فلا تَعْبُدو إلا إيَّاه، فاسْتَعْلِمْ عنهُ سُبحانه وتعالى مِمَّنْ له خِبْرَةٌ وعِلْمٌ به، واقْتَدِ بهِ واتَّبِعْهُ.
(ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم عليه، بمَا أعْطَاهُ اللهُ مِن عِلْمٍ، هوَ أكثرُ النَّاسِ عِلْماً ومَعرفةً باللهِ تَعالى.(1/2796)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
(60) - يُنكرُ اللهُ تَعالى على المشركينَ الذينَ يَسْجُدُونَ لغيرِ الله مِنَ الأصْنامِ والأنْدَادِ، فيقولُ تَعالى: إنَّ هَؤلاءِ المشركينَ إذا قِيلَ لَهُم اسْجُدُوا للهِ الرَّحْمَن، واخْضَعُوا له قَالُوا: وَمَا الرَّحْمنُ؟ إنَّنا لا نَعرفُهُ لِنْسجُدَ لَهُ.
(وَكَانُوا يُنْكِرون أن يُسَمّى اللهُ بِاسْمِ الرِّحْمنِ، كَمَا أنْكَروا ذلكَ يَومَ الحُدَيِبيَة) ، ثُمَّ يقُولُونَ أَنَسْجُدُ لِمُجَرَّدِ قَولِكَ؟ وَزادَهُم هذا الأَمرُ نفُوراً مِنَ السُّجُودِ، وبُعْداً عنِ اللهِ تَعَالى.
وَيَرُدُّ اللهُ تعالى عليهم في آيةٍ أخرى: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى.} زادَهُم نُفُوراً - تَبَاعُداً عنِ الإِيمَانِ.
أَنَسْجُدُ لما تأمُرنا - أَنَسجُدُ بمُجَرَّد أَمرِكَ.
{سِرَاجاً}(1/2797)
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
(61) - يُباركُ اللهُ تَعالى نفسَهُ الكَريمةَ ويُمَجِّدُها على بَديعِ ما خَلَقَ في السَّماواتِ منَ البُروجِ (والبُروجُ منازلُ الكواكِبِ) ، وعلى ما جعلَ فيها مِنْ شَمسٍ مُنيرةٍ هي كَالسِّراجِ في الوُجودِ، كَما جَعَلَ فيها قَمْراً مُشرقاً مُضيئاً.
تباركَ - تَعالى وتمجدَ وتكاثرَ خيرهُ.
بُروجاً - مَنازِلَ الكَواكِبِ.(1/2798)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
{الليل}
(62) - والرَّحمنُ جعلَ الليلَ والنَّهارَ مُتعاقِبَيْنِ يَخْلُفُ أَحدُهُما الآخرَ، وقد دَبَّرَ ذلك لِيتَذَكَّرَ مَنْ شاءَ هذا التَّدبيرَ المُحْكمَ فيتَّعِظَ، ويَعرفَ حِكْمَةَ خِلْفَةً - يَخْلُفُ أحدُهُما الآخرَ ويتعاقَبانِ.(1/2799)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
{الجَاهِلُونَ} {سَلاَماً}
(63) - ويَصِفُ اللهُ تَعالى عِبَادَهُ المؤمنينَ المُتَقَّينَ بأَنهُمْ مُتواضِعُون، يَسيروُن على الأرضِ بسَكِينةٍ ووَقَارٍ ورِفْقٍ (هَوْناً) مِنْ غير تَجَبُّرٍ ولا اسْتِكْبارٍ، وإذات سَفِه عليهِمُ الجاهلونَ بالقَولِ لم يُقابِلُوهم عليهِ إلا حِلْماً وقَوْلاً مَعْروفاً، ويَرُدُّونَ عليهم قائلينَ: سلامٌ عليكمٌ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلينَ.
هَوْناً - بِسَكِينةٍ وَوَقَارٍ وتَواضُعِ.
قالُوا سَلاماً - قَوْلاً سَدِيداً يَسْلَمُون بِهِ من الأَذَى.(1/2800)
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)
{وَقِيَاماً}
(64) - وهُمْ يَبيتُونَ قِيَاماً في طَاعَةِ اللهِ تَعالى وعبادَتِهِ ويذكُرونَه ذِكْراً كَثيراً في رُكُوعِهِمْ وسُجُودِهمْ.
(وقالَ تَعالى في صِفَةِ عِبَادِ الرَّحمنِ في سُورةٍ أُخْرى: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.} يَبيتُونَ - أَيْ يُدْرِكُهُمْ الليلُ.(1/2801)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)
(65) - وهُمُ الذين يَغْلِبُ عليهِم الخَوفُ منَ اللهِ فيدْعُونهُ، ويسأَلُونَهُ أَنْ يَصرِفَ عنهمْ عَذابَ جَهَّنمَ، فإنَّ عذَابَها مؤلمٌ ملازمٌ للإِنسَانِ، لا يَزولُ عنهُ، ولا يَحُولُ، ولا يُفارِقُهُ.
غَراماً - لازماً أو مُمْتَدّاً كَلُزُومِ الغَريم.(1/2802)
إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)
(66) - وإنَّ جَهَنَّمَ بئسَ المنزلُ، وَبئْسَ المَقِيلُ والمقَامُ.(1/2803)
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
(67) - ومِنْ صِفاتِ عِبادِ الرَّحمنِ أَيضاً الاعتدَالُ في الإِنفَاقِ على أَنْفُسِهِمْ، وأَهليهمْ، فهُمْ لَيْسُوا بِمُبَذِّرينَ في إنفاقِهِمْ فيَصْرِفُون فوقَ الحَاجَةِ، ولا بُخَلاءَ على أهليهِمْ فَيُقَصِّرُون في حقِّهِمْ، فلا يَكْفُونَهُمْ، بلْ همْ مُعْتَدِلُونَ في أمورِهِمْ.
لَمْ يَقْتُرُوا - لم يُضيِّقُوا تَضْييقَ الأشِحَّاءِ.
قوَاماً - عَدْلاً وَسَطَاً بينَ الطَّرَفَينِ.(1/2804)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
{آخَرَ}
(68) - وهمْ مُخْلِصُون في عِبادَتِهِم للهِ تَعالى وحدَهُ، لا يُشْرِكُون بهِ شَيئاً، ولا يَدْعُونَ معهُ أحَداً، ولا يَعْبُدُونَ سِوَاهُ ولا يقْتُلُونَ النَّفْسَ التي حَرَّمَ اللهُ قَتْلَها إِلا بِحَقِّها، وَفْقاً لما شَرَعَهُ اللهُ تَعالى، ولا يَرْتَكِبُون الزِّنى، ولا يَأْتُونَ ما حَرَّمَ اللهُ من الفُروجِ. ومَنْ يَرْتَكِبْ هَذِهِ الكبائرَ فإِنَّهُ يَلْقَى عَذاباً ألِيماً يومَ القيامةِ، جَزَاءً لَهُ على ما ارْتَكَبَ.
يَلْقَ أثاماً - يُلاقِي عِقَاباً في الآخرةِ.(1/2805)
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)
{يُضَاعَفْ} {القيامة}
(69) - وَيُزَادُ في عذابهِ يومَ القيامةِ، ويُغْلَظُ لهُ فيهِ، وَيخْلُدُ في جهنمَ مُهَاناً ذَلِيلاً حَقِيراً، جَزَاءً لهُ على ما ارْتَكَبَ من الأعمالِ المُنْكَرَةِ.(1/2806)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
{َآمَنَ} {صَالِحاً} {فأولئك} {حَسَنَاتٍ}
(70) - إلا مَنْ تَابَ في الدُّنْيا، وأخْلَصَ التوبةَ وهو مُؤْمنٌ، وقدْ عَمِلَ الصالحاتِ، ورجَعَ إلى رَبِّهِ مُسْتَغْفِراً مُنِيباً، فإنَّ اللهَ تَعالى يتوبُ عليه، ويُحْسِنُ عاقِبَتَهُ، (وفي ذلك دَلالةٌ على صِحَّةِ توبةِ القَاتل) ، وهؤلاءِ هُمُ المُؤمنون، كانُوا قبلَ إيْمَانِهِمْ يَعْمَلُونَ السَّيّئاتِ، فَحَوَّلَهُمُ اللهُ تَعالى إلى الحَسَناتِ، وأبْدَلَهُمْ مَكَانَ السَّيئاتِ الحَسَنَاتِ، واللهُ غفورٌ لذُنُوبِ عِبادِه، رَحيمٌ بِهمْ.
(وقيلَ بلْ مَعْنَاهُ: إِنَّ السَّيئاتِ السَّابِقةَ تَنْقَلبُ بِنَفْسِ التَّوبَةِ إلى حَسَناتٍ) .(1/2807)
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
{صَالِحاً}
(71) - ويَعِدُ اللهُ التَّائِبينَ إليهِ وَعْدَاً جَميلاً، فيقولُ تَعالى: إنَّهُ مَنْ تَاب عَنِ المَعَاصي التي عَمِلَها ونَدِمَ على ما فَرَطَ منهُ، وأكْمَلَ نفسَهُ بصَالِحِ الأعْْمَالِ، فإِنَّهُ يتوبُ إلى اللهِ تَوبةً نَصُوحاً مَقْبُولَة لَدَيْهِ، ماحِيةً للعِقَابِ، مُحَصِّلَةً لِجَزِيلِ الثوابِ.(1/2808)
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)
(72) - ومنْ صفاتِ عبادِ الرحمنِ أنهمْ لا يَشْهَدونَ الزُّورَ، ولا يَحْضرُونَ مَجَالِسَ الفِسْق واللَّغْوِ والبَاطِلِ، ومَجَالِسَ السُّوءِ، وإذا مَرُّوا بمَنْ يَلْغُونَ ويَهْذُرُونَ ويَفْسُقُونَ لم يتوقَّفوا عليهِمْ واسْتَمَرُّوا في سيْرِهِمْ مُسْرِعِين.
(وقيل إِنَّ المَقْصُودَ بالزُّورِ هُنَا شَهادةُ الزُّورِ وهِيَ الكَذِبُ عَمْداً في الشَّهادَةِ) .
مَرُّوا باللَّغْو - بما يَنْبَغِي أنْ يُلغَى ويُطْرَحَ منَ الكَلاَمِ.
مَرُّوا كِرَاماً - مُسْرعِينَ أو مُكَرِّمِينَ أنفسَهُمْ عن المشاركَة والخَوْضِ فيما يَخوُضُونَ.(1/2809)
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
{بِآيَاتِ}
(73) - ومنْ صِفاتِ المؤمنينَ أنهمْ إذا ذَكَرُوا اللهَ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وإذا تُلِيَتْ عليهِمْ آياتَهُ زادَتْهُم إيماناً ويَقِيناً بِصِدْقِ ما جاءَتْهُمْ بِهِ النُّبُّواتُ، ولم يكُونُوا كالكُفَّارِ الذين لا يَتَأَثَّرُون بما يَسْمعُون ويُبْصِرُونَ من آياتِ اللهِ ومُعْجِزَاتِه، ويَسْتَمِرُّونَ وكأنهمْ صُمٌّ لا يَسْمعونَ، وعُمْيٌ لا يُبْصِرونَ.
لَمْ يَخْرُّوا - لمْ يَقَعُوا ولَمْ يَسْقُطُوا.(1/2810)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
{أَزْوَاجِنَا} {َذُرِّيَّاتِنَا}
(74) - ومن صِفَاتِ المُؤمنينَ أَيضاً أنهمْ يَسْألُونَ اللهَ تَعالى أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أصْلاَبِهمْ وذُرِّياتهمْ مَنْ يُطيعُ الله ويعبُدُهُ وحْدَه لا شريكَ له، لِتَقَرَّ بِهِ أعيُنُهُمْ في الدنيا والآخرةِ، وأنْ يجعلَ لهمْ مِنْ أزواجِهِمْ منْ يطيعُ الله تعالى، ويَهْتَدي بِهُدَاه، ويسألونَ ربَّهُمْ أن يجْعَلَهم أَئِمَّةً يُقْتَدى بِهم في الخَيرِ.
قُرَّةَ أَعْينُ - مَسَرَّةً وفَرَحاً.
إماماً - قُدْوَةً وحُجَّةً أو أَئِمَّةً.(1/2811)
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)
{أولئك} {وَسَلاَماً}
(75) - وهؤُلاءِ المؤمِنُونَ المُتَّصِفُون بالصِّفَاتِ السَّابِقَةِ، يُجْزَوْنَ، يومَ القِيامةِ، بالدَّرَجاتِ العَالية، والمنَازِلِ الرَّفيعةِ، في الجَنَّةِ، لصَبْرِهِمْ على القِيَامِ بِمَا أَمَرَ اللهُ، وتَتلقاهُمُ المَلائِكَةُ في الجَنَّةِ بالتَّحِيةِ والسَّلامِ، فلهُمُ السَّلامُ، وعليهمُ السَّلامُ.
الغُرْفَةَ - أَمَاكنُ عاليةٌ في الجَنَّةِ.(1/2812)
خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)
{خَالِدِينَ}
(76) - ويَبْقَوْنَ في الجَنَّةِ خَالدينَ في مُقَامِهِمْ، لا يَحُولُونَ عَنها ولا يَزولُونَ ولا يَرْتَحِلُونَ، ونِعْمَتِ الجَنَّةُ مُسْتَقراً ومُقاماً.(1/2813)
قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
{يَعْبَأُ}
(77) - قُلْ يا محمدُ لهؤلاءِ الذينَ أُرْسِلْتَ إليهم: إنَّ الفائزينَ بِنِعَمِ الله الجَليلةِ، التي يَتَنَافَسُ فيها المُتنافِسُونَ إِنما نَالُوها بما ذُكِرَ من الصِّفاتِ الحميدةِ التي اتَّصَفُوا بها، وَلَوْلاها لم يَهْتَمَّ بهم ربُّهم، ولم يَعْتَدَّ. ولذلكَ فإنَّهُ لا يَعْبَأُ بِكُمْ إذا لم تَعْبُدُوه، فما خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ إِلا لِيَعْبُدُوا ربَّهُمْ ويُطِيعُوه وحْدَه لا شريكَ له، وما دُمْتُمْ قد خَالَفْتُم أمرَ ربِّكم، وَعَصَيْتُمْ حُكْمَهُ، وكَذَّبْتُم رَسُولَهُ، فَسَوْفَ يَلْزَمُكُمْ أَثَر تَكْذِيبِكُمْ، وهو العقابُ الذي لا مَنَاصَ منهُ، فاسْتَعِدُّوا له، وهَيِّئُوا أنفسَكُمْ لذلكَ اليومِ العصيبِ، وهو آتٍ قَريبٌ.
ما يَعْبَأُ بكم - ما يَكْتَرِثُ وما يُبَالي.
دعاؤُكم - عِبادَتُكُمْ.
يكونُ لِزَاماً - يكونُ جِزاءُ تكذِيبكُم عذَاباً دائِماً مُلازماً لكُمْ.(1/2814)
طسم (1)
{طَا} {سِينْ} {مِيم}
(1) - وهي تُقْرَأُ مُقَطَّعةً، كلُّ حرفٍ على حِدَة - اللهُ أعلمُ بِمُرادِهِ.(1/2815)
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
{آيَاتُ}
(2) - هذه الآياتُ هيَ آياتُ القُرآنِ الجَلِيِّ البيِّنِ الواضِحِ الذي يُفَرِّقُ بينَ الحقِّ والبَاطِلِ.
المُبين - المُوَضَّحُ - الجَلِيُّ.(1/2816)
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)
{بَاخِعٌ}
(3) لا تُهْلِكْ يا محمدُ نفسَكَ أَسىً وحُزْناً وحَسْرةً على قومِكَ إذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بما جئتَهُم بهِ من عندِ ربكَ.
(وفي هذا الخِطابِ تَسليةٌ للرَّسولِ صلى الله عليه وسلم عَمّا يُلاقِيه من قَوْمِه من عِنَادٍ وكُفْرٍ وتكذيبٍ برسالةِ ربهمْ وتَكذِيبٍ لرَسُولِهِ) .
باخِعٌ - مُهْلِكٌ نَفْسَكَ حَسْرَةً وحُزْناً.(1/2817)
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
{آيَةً} {أَعْنَاقُهُمْ} {خَاضِعِينَ}
(4) - ولو نَشَاءُ أن نُنَزِّلَ عليهِمْ من السَّماءِ آيةً تَضْطَرُّهُمْ إلى الإِيمانِ اضْطِرَاراً وقَهْراً لَفَعَلْنَا، كَمَا نَتَقْنا الجَبَلَ فوقَ بني إسرائيلَ، ولكنِّنَا لا نفعلُ ذلكَ، لأنَّنَا لا نُريدُ أَنْ يؤمِنَ أحدٌ إلا طَائِعاً مُخْتَاراً، مُقْتَنِعاً بصدق ما جاءَ بهِ الرُّسُلُ. وقد أنزلَنَا الكُتُبَ، وأَرسَلْنا الرَّسُلَ، لِتَقومَ الحُجَّةُ البالِغَةُ على الخَلْقِ.
وقيلَ إنَّ أَعْناقهُمْ تَعْني قَادَتَهم وَزُعَمَاءَهُم.(1/2818)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)
(5) - وما يأتي هؤلاء المُشركينَ، الذين يُكَذِّبُونَكَ، شيءٌ من عندِ اللهِ يُذَكِّرهُم بالدّينِ الحَقِّ، إِلاَّ أعْرَضُوا عنِ اسْتِمَاعِهِ وتَرَكُوا إعْمَالَ الفِكْرِ فيهِ، ولَمْ يُوَجِّهُوا هَمَّهُمْ إلى تَدَبُّرِهِ.(1/2819)
فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)
{أَنبَاءُ} {يَسْتَهْزِئُونَ}
(6) - لَقَدْ كَذَّبَ هؤلاءِ المشركونَ بما جاءَهُم من ربهمْ من الحَقِّ، ثم انْتَقَلُوا منَ التَّكْذيبِ إلى الاسْتِهْزَاءِ فاصْبِرْ عليْهِمْ فَسَوْفَ يَرَوْنَ - بَعْدَ حينٍ - عَوَاقِبَ هذا التَّكذِيبِ والاستِهزاءِ، وَسَيَحِلُّ بهم العِقَابُ على ذلِكَ.
(وقدْ يكُونُ ذلكَ في الحَياةِ الدُّنْيا، وقدْ يَكُونُ ذلكَ يومَ القِيامَةِ) .(1/2820)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)
(7) - كَيفَ يُصِرُّونَ على الكُفْرِ باللهِ، وعَلى تَكْذِيبِ رَسُولِه ومَا جاءَهُم بهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، واللهُ تعالى هو الذي خَلَقَ الأرْض، وأَنْبَتَ فيها الزروعَ والثِّمارَ في أصنافٍ وطُعُومٍ مُخْتَلِفَةٍ تَبْهَرُ النَّاظِرين، وتَسْتَرْعِي أنْظَارَ الغَافِلين، أفَلَمْ يَرَ هؤلاءِ ذلكَ؟ إنَّهُمْ لو نَظَرُوا مُتَأَمِّلِينَ لاهْتَدَوْا إلى الإِيمانِ باللهِ وَحْدَه لا شَرِيكَ لهُ.
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ - مِنْ كُلِّ صِنْفٍ حَسَنٍ كَريمٍ كَثيرِ النَّفْعِ.(1/2821)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
{لآيَةً}
(8) - وفي إخراجِ النَّبَاتِ منَ الأرضِ على هذهِ الأشْكَالِ البدِيعةِ، لدلالاتٌ، لأُولي الألْبَابِ والعُقولِ، على قُدْرَةِ الخَالِقِ على البَعْثِ والنُّشورِ، فإنَّ مَنْ أحْيَا الأرضَ بعدَ مَوْتِها، وأخرجَ النَّبَاتَ والأشْجَارَ والزّروعَ والفَوَاكِهَ مِنْها لن يُعْجِزَهُ نَشْرُ الخَلائِق من قُبورِهِمْ يومَ القِيَامَةِ ولكنَّ أكثرَ الناسِ غَفَلُوا عنْ هَذِهِ الآياتِ فجَحَدُوا بها، وكَفَرُوا باللهِ، وكَذَّبُوا رُسُلَهُ.(1/2822)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
(9) - ورَبُّكَ أيُّها الرَّسُولَ هو العزيزُ الذي لا يُنالُ، وقَد غَلَبَ كلَّ شيء، وهوَ الرَّؤوفُ الرحيمُ بِخَلْقِهِ، فلا يُعَجِّلُ بالعُقُوبةِ علَى مَنْ عَصَاهُ، بل يُؤجِّلُهُ ويُنْظِرهُ، ثمَّ يَأْخُذُهُ أخْذَ عزيزٍ مُقْتَدِرٍ، وسَيَنْتَقِمُ منْ هؤلاءِ المُكذِّبينَ.(1/2823)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
{الظالمين}
(10) - واذْكُرْ أيُّها الرسولُ لِقَوْمِكَ، قِصَّةَ مُوسى عليهِ السلامُ، حينَما نَاداهُ ربُّهُ من جَانِِبِ الطُّورِ الأيمنِ، وكَلَّمَهُ ونَاجَاهُ، وأمَرَهُ بالذَّهَابِ إلى القومِ الظالمينَ، الذين ظَلَمُوا أنْفُسَهُم بِكُفْرِهِمْ، والظَّالمِينَ لِبَنِي إسْرائيلَ باسْتِعْبَادِهِمْ، وذَبْحِ الذُّكُورِ من أبْنَائِهمْ.(1/2824)
قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)
(11) - ثُم بَيَّنَ اللهُ تَعالى القَومَ الظَّالمينَ الذينَ أَرْسَلَ إليهم نبيَّهُ مُوسى عليه السلامْ، فقالَ: إِنَّهُمْ فرعونُ ومَلَؤُهُ (أي مَنْ حَوْلَهُ مِنْ كِبَارِ رجالِ دَوْلَتِهِ) . وقالَ اللهُ تعالى لمُوسى ألا يَتَّقي هؤلاءِ الظَّالمونَ رَبَّهُمْ ويَحْذَرُونَ عِقَابَهُ، ويَخَافونَ عَاقِبَةَ بَغْيِهِمْ وكُفْرِهِمْ بهِ؟(1/2825)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)
(12) - فقالَ موسى لِرَبِّهِ: إنَّهُ يخَافُ أن يُكَذِّبَهُ فِرْعَوْنَ ومَلَؤُهُ فيما يَأْتيهِمْ بِه، كِبْراً وبَطَراً وعِنَاداً.(1/2826)
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)
{هَارُونَ}
(13) - وإنَّهُ يخافُ إذا كَذَّبوهُ أن يَضِيق صَدْرُهُ، تَأَثُّراً، ويَتَلَجْلَجَ لسانُهُ، وهو يُجَادِلُهُمْ ويُناقِشُهُمْ ويَدْعُوهُمْ إلى اللهِ، ثم رَجَا رَبَّهُ أنْ يُرْسِلَ مَعَهُ أخَاه هارونَ، ويجعَلَهُ نَبِيّاً مَعهُ يُؤازِرُهُ ويَشُّدُّ بهِ عَضُدَهُ.(1/2827)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
(14) - ثُمَّ عَادَ يَعْتَذِرُ إلى رَبِّهِ بأنهُ كَانَ قَتَلَ رَجُلاً مِنَ القِبْطِ وهَرَبَ مِنْ العقابِ إِلى مَدْيَنَ، ولذلكَ فَإِنَّهُ يَخَافُ أن يقْتُلُوهُ قِصَاصاً بتلكَ الجريمَةِ، إِذا جَاءَهُمْ وَحْدَهُ.(1/2828)
قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
{بِآيَاتِنَآ}
(15) - فَرَدَّ اللهُ تَعالى عَلى مُوسى قَائِلاً: لاَ تَخَفْ شَيئاً منْ ذلك. إِنَّنَا سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بأخِيكَ هَارونَ، فاذْهَبْ أَنْتَ وإيَّاهُ إلى فِرْعَوْنَ بالآياتِ التي آتَيْتُكُمْ، ومنْها العَصا واليَدُ، وسَأكونُ مَعَكُما حَاضِراً مُسْتَمِعاً ومُبْصِراً ما سَيَجْري، وأنتُما بِحِفْظِي ورِعَايَتي، وأنتُما الغَالِبَانِ.(1/2829)
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)
{العالمين}
(16) - فاذْهَبا إلى فِرْعَوْنَ وقُولا لهُ: إِنَّ كُلاًّ منكُما مُرْسَلٌ إِليكَ وإِلى قَوْمِكَ مِنْ رَبِّ العَالَمين.
(وكَلِمةُ رَسُولٍ تُسْتَعْمَلُ لِلفَرْدِ والجَمْعِ) .(1/2830)
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
{إِسْرَائِيلَ}
(17) - وهوَ يَأْمُرُكَ بأنْ تُطْلِقَ بني إسرائيلَ مِنْ قَبْضَتِكَ وإسَارِكَ وقَهْرِكَ وتَكُفَّ عَنْ تَعْذِيبِهِمْ، فإنَّهُمْ عبَادُ اللهِ المُؤْمِنُون، وأًنْ تَتْرُكَهُمْ يَذْهَبُونَ مَعَنا إِلى الأرضِ المُقَدَّسَةِ.(1/2831)
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
(18) - فَرَدَّ فرعَونُ على مُوسى بازْدِرَاءٍ، وعَدَمِ اكْتِرَاثٍ، وقَالَ لَهُ: أَمَا أنْتَ الذي رَبَّيْنَاهُ في بَيْتِنا، وَهُوَ طِفْلٌ صغيرٌ، وأنَعْمَنَا عليهِ عَدَداً مَن السنينَ؟(1/2832)
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)
{الكافرين}
(19) - ثم قابَلْتَ ذلكَ الإحسانَ بقَتْلِ رجُلٍ مِنَّا، وجَحَدْتَ نِعْمَتَنا عليكَ وكَفَرْتَ بها.
الكَافِرينَ - الجَاحِدينَ للنِّعْمَةِ.(1/2833)
قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)
(20) - فَقَالَ موسى مُجِيباً: قَدْ فَعَلْتُ تِلْكَ الفَعْلَةَ - وهيَ قَتْلُ القِبْطيِّ - وأنَا إذْ ذَاكَ منَ الجَاهلينَ أنَّ وَكْزَتِي سَتَقْضِي عليهِ.
(وقيل إنَّ المَعْنى هُو: لقدْ فعلْتُها وأنَا في تِلكَ الحَالِ (إذاً) قَبْلَ أًَنْ يُوحِي اللهُ إليَّ بالرِّسَالَةِ، والنُّبُوَّةِ وكُنْتُ جَاهِلاً) .
الضَّالِّين - المُخْطِئِينَ عَيرِ المُتَعَمِّدِينَ.(1/2834)
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)
(21) - فَهَرَبْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُ أن تَبْطِشُوا بِي، فاخْتَارَنِي اللهُ لِحَمْلِ رِسَالَتِه، ووَهَبَنِي عِلْماً بالأشْيَاءِ على وجْهِ الصَّوَابِ، وجَعَلَنِي رَسُولاً لِهِدَايَةِ العِبَادِ، وأمَرَنِي بأنْ آتِيَكَ لأَدْعُوَكَ إليهِ، فإنْ أَطَعْتَهُ سَلِمْتَ، وإن خَالَفْتَهُ هَلَكْتَ.(1/2835)
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
{إِسْرَائِيلَ}
(22) - وإنَّكَ تَمُنُّ عَلَيَّ بأنَّكَ أحْسَنْتَ إِلَيِّ، وَرَبَّيْتَنِي في بَيْتِكَ، ولكنَّكَ اسْتَعْبَدْتَ بَنِي إسرائيلَ، وجَعَلْتَهُمْ عَبِيداً لكَ وخَدَماً تُصَرِّفُهُمْ في أعْمَالِكَ الشَّاقَةِ، وتَذْبِحُ أبْنَاءَهُمْ، ولولا خَوفُ أُمِّي عليَّ مَنَ الذَّبْحِ لَمَا قَذَفَتْنِي في التَّابُوتِ في الماءِ، ولما صِرْتُ إلى قَصْرِكَ، ولَكَانَ أَبَوَايَ رَبَّيَانِي، ولَمَا كُنتُ بِحَاجَةٍ إِلى تَرْبِيَتِكَ لِي. فَلَيْسَتْ نِعْمَتُكَ عَلَيَّ، وتَرْبِيَتُكَ إِيَّايَ بِشَيْءٍ يُقَاسُ بالنِّسْبَةِ ألى ما فَعَلْتَهُ أنْتَ بِبَني إسرائيلَ.
عَبَّدْتَ بَني إسرائيلَ - اتَّخَذْتَهُمْ عَبِيداً لَكَ مُسْتَذَلِّينَ.(1/2836)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)
{العالمين}
(23) - وكانَ فِرْعَوْنُ يَحْمِلُ قَوْمَهُ على عِبَادَةِ شَخْصِهِ هُوَ، ويَقُولُ لَهُمْ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} ، فَلَمَّا دَعاه مُوسى إِلى عبادةِ اللهِ، وقالَ لهُ إني رسولُ رَبِّ العَالَمين، قالَ لهُ فِرعونُ مُسْتَخِفّاً جَاحِداً: ومَنْ رَبُّ العَالَمِين هذا الذي تَدَّعِي أًَنَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَيِّ؟ وما هِيَ حَقِيقَتُهُ؟(1/2837)
قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)
{السماوات}
(24) - فَقَالَ لهُ مُوسى: إنَّه خَالِقُ السَّمَاواتِ والأرْضِ وما بينَهُما، ومالِكُ كلِّ شيءٍ وإلهُهُ لا شَرِيكَ لَهُ، ولَوْ كَانَتْ لَكُمْ قُلُوبٌ مُوقِنةٌ، وأبْصَارٌ نَافِذَةٌ لانْتَفَعْتُمْ بِهَذا الجَوابِ، ولاهْتَديتُم، وَلَعرفْتُم أنَّ مُلْكَ فِرعَونَ لا يُقَاسُ بِمُلْكِ اللهِ العظيم.(1/2838)
قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25)
(25) - فالتَفَتَ فرعَونُ إلى مَنْ حَوْلَهُ من مَلَئِهِ، وكِبَارِ رِجَالِ دَوْلَتِهِ، قائلاً لهُمْ على سَبيلِ التَّهَكُّمِ والاسْتِهْزَاءِ والسُّخْرِيَةِ والتَّكْذِيبِ لمُوسَى: ألاَ تَسْتَمعونَ إلى ما يقُولُه هذا في زعْمِه أنَّ لكمْ إِلَهاً غَيْري.(1/2839)
قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)
{آبَآئِكُمُ}
(26) - فتابَعَ مُوسى عليهِ السلامُ وصْفَ عَظَمَةِ اللهِ تَعالى، قائلاً: إنهُ ربُّكُم وخالِقُكُمْ، وخَالقُ آبائِكُم الأولينَ مِنْ قَبْلِكم.(1/2840)
قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
(27) - فَقَالَ فرَونُ لمَلَئِه: إنَّ هذا الذي يَدَّعِي أنَّهُ رسُولٌ إليكُمْ مِنْ رَبِّ العَالمينَ هوَ رجُللإ مَجْنُونٌ لا عَقلَ لهُ، إذْ يَدَّعِي أنَّ ثَمَّةَ إلهاً غيرَهُ هوَ (أي غَيْرَ فرعَونَ) .(1/2841)
قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
(28) - فقالَ لهُ موسَى: إنَّ اللهَ رَبَّهُ هو ربُّكُمُ الذي جَعَلَ المَشْرِقَ مَشْرِقاً، والمغْرِبَ مَغْرِباً، فَتَطْلُعُ الكَواكِبُ من المَشْرِقِ، وتَغْرُبُ في المَغْرِبِ، هذا إنْ كانَتْ عُقُولٌ تَفْقَهُونَ بها ما تَرَوْنَ، وما يُقَالُ لَكُمْ فإذا لَمْ تُؤْمِنُوا باللهِ فأنْتُمْ الذينَ تَسْتَحِقُّونَ أن تُوصَفُوا بالجُنُون.(1/2842)
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)
{المسجونين}
(29) - فلما شعرَ فرعونُ أنهُ غُلِبَ وانْقَطَعَتْ حُجَّّتُهُ، عَدَلَ إِلَى اسْتِعْمَال جاهِهِ وقوةِ سُلْطَانِهِ، واعْتَقَدَ أنَّ ذَلكَ نافِعُهُ، ونافِذٌ في مُوسى وأخِيه فقال لمُوسى: إذا عَبَدْتَ إلهاً غَيْرِي فَسَأَسْجُنُكَ، وأنتَ تَعْرِفُ سُوْءَ حَالِ مَنْ يَدْخُلُ في سِجْنِي.(1/2843)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)
(30) - فقالَ مُوسى لفِرعَونَ مُتَلَطِّفاً طَمَعاً في إيمانِهِ: وهَلْ تَسْجُنُنِي حتَى ولو جئْتُكَ بِبُرْهَانٍ قَاطعٍ واضحٍ على صِدقِ ما أقولُ منْ أنَّنِي مُرْسَلٌ إليكَ مِنَ الإِلهِ القادِرِ وأنَّ هذِهِ المُعْجزةَ تَدُلُّ على عَظَمَةِ اللهِ وقُدْرَتِه وحِكْمَتِه؟(1/2844)
قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
{الصادقين}
(31) - فقالَ لهُ فرعونُ هاتِ ما عِنْدَكَ مِنْ بُرْهَانٍ، إنْ كُنْتَ صَادقاً في دَعْوَاكَ أنَّ لَدَيْكَ آيةً ومُعجزة.(1/2845)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32)
(32) - فألقَى موسى العَصَا التي كَانَتْ بيدِهِ، فانْقَلبتْ إلى ثعبانٍ حَقِيقيٍّ ظَاهِرٍ في غَايَةِ الوُضُوحِ والجَلاءِ.(1/2846)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)
{لِلنَّاظِرِينَ}
(33) - ونَزَعَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِ قَمِيصِهِ فإذا بِها تَتَلأَلأُ كَفِلْقَةِ القَمَرِ من غيرِ سُوءٍ ولا مَرَضٍ.
نَزَعَ يَدَهُ - أخْرَجَهَا مِنْ جَيْبهِ (والجَيْبُ فَتْحَةُ الثَّوْبِ عندَ الصَّدْرِ) .(1/2847)
قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)
{لَسَاحِرٌ}
(34) - فبادَرَ فرعونُ إلى التَّكْذيبِ والعِنَادِ، فقالَ لِمَنْ حَوْلَهُ من بِطَانَتِهِ: إنَّ مُوسَى سَاحرٌ بارعٌ في السِّحْرِ (عَليمٌ) فأدْخَلَ في رُوْعِهِمْ أنَّ ما جَاءَ بهِ موسَى هوَ منْ قَبيلِ السِّحْرِ، لا مِنْ قَبِيلِ المُعْجِزَةِ الخَارِقَة، ثم حَرَّضَهُمْ على مُخَالَفَتِه، والكُفْرِ بهِ.
المَلأُ - وُجُوهُ القَوْمِ وكُبَرَاءُ الدولةِ.(1/2848)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)
(35) - فقال لهُمْ إنَّهُ يُريدُ بسِحْرِهِ هذا أن يَذْهَبَ بقُلُوبِ النَّاسِ، فَيُكَثِّرَ أَعْوَانَهُ وأتْبَاعَهُ، ويَغْلِبَكُم بعدَ ذلكَ على دَوْلَتِكُمْ، فَيَأْخُذَ البِلادَ مِنْكُمْ، ويُخْرِجَكُم مِنْها، فَأَشِيرُوا عليَّ بالذي تَرَوْنَ في أمْرِهِ؟(1/2849)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36)
{المدآئن} {حَاشِرِينَ}
(36) - فَقَالَ الملأُ لفرعَونَ: أَجِّلِ الفَصْلَ في أمْرِهِ وأمْرِ أَخِيهِ، وأرْسِلْ مِنْ قِبلِكَ رُسُلاً (حاشِرِينَ) يَطُوفُونَ أرْجَاءَ مَمْلَكَتِكَ بَحْثاً عنِ السَّحَرَةِ أَرْجِهْ - أَخِّرْ أمْرَهُمَا ولا تُعَجِّلْ لهُما بالعُقُوبَةِ.
حَاشِرين - أُنَاساً يَجْمَعُون لكَ السَّحَرَةَ.(1/2850)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
(37) - ليأتوكَ بكلِّ مَنْ لَهُ عِلْمٌ كَافٍ بالسِّحْرِ، وفُنُونِه، لِيُقَابِلُوا مُوسى وأَخَاه بِنَظيرِ ما جَاءَ بِه مُوسى فَتَغْلِبَهُ أنْتَ، وتكونَ لكَ النُّصْرَةُ والغَلَبَةُ عليهِ، وعَلى أخِيهِ. فأجَابَهُم فرعَونُ إلى ذلكَ وكَانَ هذا مِنْ تَسْخِير اللهِ تَعالى لِيَجْتَمِعَ السَّحَرةُ والناسُ في صَعِيدٍ واحِدٍ، وتَظْهَرَ آياتُ اللهِ وحُجَجُهُ في النَّهَارِ أمَامَ الخَلائِقِ.(1/2851)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)
{لِمِيقَاتِ}
(38) - فَضُرِبُ للسَّحرةِ مَوْعِدٌ يَجْتَمِعُونَ فيهِ في مَكانٍ مُعَيِّنٍ ووقتٍ مُحَدَّدٍ.(1/2852)
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)
(39) - ودُعيَ الناسُ إلى الاجْتماع لِمُشَاهَدَةِ المُبارَزَةِ بينَ السَّحَرةِ وبينَ مُوسى وهَارونَ، فَإخذَ الناسُ يَحُثُّ بعضُهُم بَعْضاً على الاجْتِمَاعِ في اليومِ المَعْلُومِ لحُضُورِ الحَفْلِ المَشْهُودِ.
هَلْ أنتُمْ مُجْتَمِعُونَ - حَثٌّ على الاجْتِمَاعِ واسْتِعْجَالٌ لَهُ.(1/2853)
لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)
{الغالبين}
(40) - وقالَ قائلُهمْ: لعلَّنا نَتَّبعُ السَّحَرَةَ إنْ غَلَبُوا مُوسَى وأخَاه. (ولم يَقُولُوا لعلَّنا نتبعُ الحقَّ سَواءٌ كانَ منَ السَحَرةِ أو مِن موسَى، ولكنهُمْ كانُوا على دِينِ مَلِكِهِمْ فرعونَ) .(1/2854)
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41)
{أَإِنَّ} {الغالبين}
(41) - وَجَاءَ السَّحَرةُ إلى مَجْلِسِ فرعونَ، وَقَدْ جَلَسَ على كُرْسِيِّهِ وحولَهُ كِبَارُ رِجَالِ دَوْلَتِهِ، وخَدَمُهُ وحَشَمُهُ وجُنْدُهُ، فَقامَ السَّحَرةُ بينَ يديْ فرعونَ يَطْلُبون منهُ الإِحْسَان إليهمْ إنْ غَلَبُوا مُوسى وهَارون، وقالُوا لهُ: وهَلْ لَنَا مِنْ أجرٍ إذا انْتَصَرْنَا عليهِما؟(1/2855)
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
(42) - فقالَ لهمْ فرعونُ: نَعَمْ إنَّ لَكُمْ لاَجْراً، وإنَّ لَكُمْ عِنْدي أكثرَ مِنْ ذَلِكَ، فإنَّكُمْ سَتَكُونُونَ مِنْ جُلَسَائِي، ومنَ المُقَرَّبِين عِنْدِي.(1/2856)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43)
(43) - ولمَّا اجْتَمَعُوا، في اليومِ المَعْلُومِ، أمَامَ فرعونَ والناسِ المُحْتَشِدينَ، سأَلَ السَّحَرَةُ مُوسى إنْ كَان يُريدُ أن يَبْدَأَ هو بإلقاءِ ما عِنْدَهُ مِنْ فُنُونِ السَّحَرَةُ مُوسى إنْ كَان يُريدُ أن يَبْدَأَ هو بإلقاءِ ما عِنْدَهُ مِنْ فُنُونِ السِّحْرِ، أوْ يكونُونَ هُمُ البَادِئِيْنَ؟ فقالَ لهمْ: بَلْ ألْقُوا أنُتمْ مَا لَدَيْكُم من فُنُونِ السِّحْرِ.(1/2857)
فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)
{الغالبون}
(44) - فأَلَقَوْا حِبَالَهُمْ وعِصِيَّهُمْ فسَحَرُوا أعْيُنَ الناسِ واستَرْهَبُوهم وجَاؤُوا بسحرٍ عَظيمٍ - كَما جَاءَ في آيةٍ أُخْرَى - ونَظَرُوا إلى مَا أَتَوْا منَ السِّحْرِ فظنُّوهُ عَظيماً، وداخَلَهُم الزَّهْوُ، وأيْقَنُوا بالنَّصْرِ، فأقْسَمُوا بِعِزَّةِ فرعَوْنَ، وَقُوَّتِهِ، وَيُمْنِهِ، أنهُمْ سَيًَكونُون الغالبينَ.
بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ - بِعَظَمَةِ فِرْعَوْنَ ويُمْنِهِ.(1/2858)
فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)
(45) - فألقَى مُوسى عَصَاهُ فانْقَلَبَتْ ثًعْبَاناً عَظِيماً أخَذَ يُطَارِدُ حِبَالَ السَّحَرةِ، وعِصَيَّهُمْ ويَبتلعُها، حتّى أتَى عَليْها جَميعاً، وقَدْ حَدَثَ كلُّ ذلِكَ أمامَ فرعونَ ومَلِئِ وجُندِهِ وأهلِ مَمْلَكَتهِ.
ما يأفِكُون - ما يَكْذِبُون، ويُمَوِّهُونَ بِهِ على النَّاسِ.
تَلْقَفُ - تَتْتَلِعُ بسرعةٍ.(1/2859)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)
{سَاجِدِينَ}
(46) - وعَلِمَ السَّحَرَةُ أنَّ مَا أتَى بهِ مُوسَى لَيْسَ سِحْراً، لأنَّهُ لوَ كانَ سِحْراً لَما غَلَبَهُمْ، وهُمْ جُمُوعٌ من السَّحَرةِ، لهمْ بالسحْرِ علمٌ وَمَعْرِفَةٌ، وأيْقَنُوا أَنَّ أتَى بهِ مُوسى هوَ الحَقُّ من عندِ اللهِ تَعالى فَخَرُّوا على وُجُوهِهِمْ سَاجِدينَ للهِ ربِّ العالَمينَ، تَائِبينَ مُسْتَغفرينَ رَبَّهُمْ على مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ سِحرٍ وكُفْرٍ، ورَغْبَةٍ في مُعَارَضَةِ الحَقِّ مِنْ عندِ اللهِ بِسْحْرِهِمْ.(1/2860)
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47)
{العالمين}
(47) - وقالُوا: آمَنَّا بربِّ العالِمين الذيْ دَعا موسَى فِرعَونَ إلى عبادَتِهِ حينَما جاءَهُ، وأعْلَنُوا إيْمَانَهُمْ أمامَ فرعونَ ومَلئِهِ.(1/2861)
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)
{هَارُونَ}
(48) - ثمَّ بَيَّنُوا أنَّ ربَّ العالمينَ الذيْ آمنُوا بهِ هوَ ربُّ مُوسَى وهَارُونَ، ومؤيِّدُهُما بنصْرِهِ.(1/2862)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
{آمَنتُمْ} {آذَنَ} {خِلاَفٍ}
(49) - فشعَرَ فرعَونُ أنُه غُلِبَ عَلَى أمْرِه غَلْباً كَبيراً أمامَ شَعْبِهِ ومَلَئِهِ وسَحَرَتِهِ، فَعَدَلَ إلى المُكَابَرَة والعِنَادِ، ودَعْوَى الباطِلِ، فشرَعَ يَتَهَدَّدُ السحرةَ وَيَتَوَعَّدُهُمْ، ويقولُ لَهُمْ: إنَّ مُوسى هو كبيرُهُم، وهو الذي عَلَّمَهُمُ السِّحْرَ، وإنهُمْ تَوَاطُؤوا معهُ ليظْهَرَ عليهمْ أمامَ النَّاسِ فيتَّبِعُوه.
وقالَ لَهُمْ فرعونُ: كيفَ تؤمنونَ لهُ قبلَ أن تسْتَأذنُونِي في ذلكَ؟ وقبلَ أنْ أسْمَحَ لكُمْ بهِ؟ ثمّ تَوَعَّدَهمْ بقطعِ أيدِيهمْ وأَرجُلهمْ بصُورةٍ مُتَخَالِفةٍ فإِذا قَطَعَ اليدَ اليُمنى قطعَ الرجلَ اليسرى، وبأَنَّهُ سَيَصْلِبُهُم جَميعاً على جُذوع النَّخلِ.(1/2863)
قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50)
(50) - فقالُوا لهُ: لا حَرَجَ علينا ولا بأسَ في ذلك، وهوَ لا يَضُرُّنا ولا نُبالي بِهِ، فإنَّنا راجِعُون إلى ربِّنا، وهو تَعالى لا يُضيعُ أجرَ المُحْسنين، لا ضَيْرَ علينا - لا ضَرَرَ علينا فيما يُصِيبُنا.(1/2864)
إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
{خَطَايَانَآ}
(51) - وإنَّنا نَطمعُ في أَنْ يَغفِرَ لنا رَبُّنا ذنُوبَنَا وما اقْتَرفْنَاه في حياتِنَا الماضيةِ من الخَطَايا، وما أكْرَهْتَنَا عليه من السِّحرِ، إذْ كُنَّا أولَ من آمنَ من قومِك بمُوسى ورسالَتِه انْقِياداً للحقِّ، وإعْرَاضاً عن زُخْرُفِ الدُّنيا وزينَتِها.(1/2865)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
(52) - ولَمَّا طالَ مُقَامُ موسى في مصرَ، وأقامَ بها حُجَجَ اللهِ وبراهينَهُ على فرعونَ ومَلَئِِهِ، وهُمْ في ذلكَ يُكَابِرُون ويُعَانِدُون، لمْ يَبْقَ إلا العذابُ والنَّكالُ، فأمرَ اللهُ تعالى مُوسى بأَنْ يخرجَ ببني إسرائيلَ ليلاً من مِصْرَ، وأعْلَمَهُ أنَّ فرعونَ سيتْبَعُهُم، وأمَرَهُ بأنْ يتوجَّهَ حيثُ يُؤْمَرُ، فَفَعَلَ موسى ما أمَرَهُ بهِ ربُّهُ.
مُتَّبعُون - يَتْبَعُكُمْ فرعونُ وجنودُهُ.
السُّرى - السَّيْرُ ليلاً.(1/2866)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53)
{المدآئن} {حَاشِرِينَ}
(53) - وَلمَّا عَلِمَ فِرعَونُ بارتحالِ بني إسْرائيلَ مَعَ مُوسى ليخرُجُوا من أَرْضِ مصرَ اغْتَاظَ وأرسلَ رسُلاً (حاشرينَ) يَجْمَعونَ له الجنودَ من أطرافِ مملكتِهِ، لِتَبْعَهُمْ ويَردَّهمْ إلى أرضِ مصرَ، ويمنَعُهم من الخروجِ منها.
حَاشرينَ - أُنَاساً يَجْمعُون لهُ الجُندَ.(1/2867)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)
(54) - وَنَادَى فِرعَوْنُ في قومهِ: إنَّ بني إسرائيلَ (هؤلاءِ) طَائفةٌ خَسِيسةٌ في شأنِها، قليلةٌ في عَدَدها (لشِرْذِمةٌ) ، ومنَ السَّهْلِ قهرُهُم والسَّيطَرةُ على مُقَاوَمَتِهِمْ في وقتٍ قصيرٍ.
شِرْذمة - طائفة قليلة الأهميَّةِ.(1/2868)
وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)
{لَغَآئِظُونَ}
(55) - وقد أقَدَمُوا على عَمَلِ ما يُثِيرُ غَيْظَنَا بمُخَالَفَةِ أمْرِنا، ومُحَاوَلةِ الخروجِ من أرضِ مصرَ بغيرِ إِذْنِنا، وبذهابِهِم بالحُلِيِّ الرتي استعَارُوها من القِبْطِ.(1/2869)
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)
{حَاذِرُونَ}
(56) - وَإنَّ علينَا أن نحذَرهم قبلَ أن يستفْحِلَ شرُّهُمْ. ونحنُ قومٌ من عادَتِنا الحَذَرُ والتَّيَقُّظُ، واسْتِعْمَالُ الحَزْمِ فِي الأمور.
حاذِرُون - محُتَرِزُون أو مُتَأَهِّبُون بالسلاحِ.(1/2870)
فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57)
{فَأَخْرَجْنَاهُمْ} {جَنَّاتٍ}
(57) - فَأَخْرَجَ اللهُ تَعالى فرعونَ وقومَهُ وجنودَه من نعيمِ الحَياة التي كَانوا يَعِيشُونها، فَتركُوا المَنَازِلَ العَالِيةَ، والبَسَاتينَ النَّضِرَةَ والمِيَاهَ الوَفِيرةَ، لِيُهْلِكَهُمُ اللهُ جَميعاً في البَحْرِ غَرَقاً.(1/2871)
وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)
(58) - وتَرَكُوا الكُنوزَ والأَمْوالَ والأرْزَاقَ والجَاهَ الوافِرَ في الدُّنيا.(1/2872)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
{وَأَوْرَثْنَاهَا} {إِسْرَائِيلَ}
(59) - وهكَذا أخرَجَ اللهُ تعالى فرعَونَ وقومَهُ وجنُودَهُ من أرْضِهِم، التي كانُوا مُقيمينَ لِيُهْلِكَهُم في البَحْرِ غَرَقاً، وجَعَلَ بني إِسرائيلَ يَرثُون الأرضَ المُقَدَّسَةَ، وفيها جَنَّاتٌ وعُيونٌ ونَعِيمٌ يُمَاثِلُ ما تَرَكَهُ فِرْعَونُ وقومَه في مصرَ فتحَوَّلَ حالُ بني إسرائيلَ من الرِّقِّ والعُبوديَّةِ والذُّلِّ، إلى الحُرِّيَّةِ والترفِ والنعيم.(1/2873)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
(60) - فَاتَّبعَ فِرْعَونُ وقومُه بني إسْرائيلَ، وأدركُوهُمْ عِندَ شُروقِ الشَّمسِ.
مُشرِقين - دَاخِلين في وقْتِ الشُّروقِ.(1/2874)
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
{تَرَاءَى} {أَصْحَابُ}
(61) - فلمَّا رأَى كُلُّ فريقٍ الفَريقَ الآخَرَ، قالَ أصْحَابُ موسى: إنَّ فرعونَ وقَوْمَهُ قدْ أدركُوهُمْ وَإِنَّهُمْ سيقتُلُونَهُمْ، وذلكَ لأنهمْ وَصَلُوا إلى سَاحِلِ البحرِ، ولمْ يَعُدْ بإِمكانِهِمْ مُتَابَعَةُ السَّيرِ للتَّخَلُّصِ مِنْ مُطَارَدَةِ فرعَونَ وجُنودِهِ.
تَرَاءى الجَمْعَانِ - رَأَى كلٌّ منهُما الآخَرَ.(1/2875)
قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
(62) - فقالَ مُوسى لِقَوْمِه: كَلاَّ. إنَّ فرعونَ وقومَهُ لَنْ يَصِلُوا إليكُمْ، فإنَّ اللهَ تَعالى هُوَ الذي أمَرَنِي بأنْ أَسيرَ بكُمْ إِلى هُنا، وهُو تَعالى لا يُخْلِفُ المِيعَادَ، وإنهُ سيهدينِي سواءَ السَّبيلِ، إلى ما يَجبُ أن أفعَلَهُ لنَنْجُوَ.(1/2876)
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)
(63) - فأمرَ اللهُ تَعالى مُوسى بأنْ يَضربَ البحرَ بِعَصَاهُ فَضَرَبَهُ فانْفَلَقَ البحرُ بإذنِ اللهِ تَعالى، فكانَ كلُّ جَانِبٍ منَ الماءِ كالجَبَلِ العَظيمِ.
(وقال ابنُ عَبَّاسٍ: أصْبَحَتِ الفَتْحَةُ التي انشَقَّ عنها الماءُ كالفَجِّ العَظِيم بينَ جَبَلَيْنِ) .
فانْفَلَقَ - انْشَقَّ اثْنَيْ عَشَرَ فِرْقاً.
فِرقٍ - قِطْعَةٍ منَ البَحرِ مُرْتَفِعَةٍ.
كَالطَّودِ العَظيمِ - كَالجَبلِ المرتفعِ في السَّماءِ.(1/2877)
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
{الآخرين}
(64) - وَقَرَّبَ اللهُ فرعونَ وجُنودَهُ من البحرِ، وأدْنَاهُمْ منهُ.
أزْلَفْنَا - قرَّبْنَاهُمْ منَ البَحرِ (أي جَمَاعةَ فرعَونَ) .(1/2878)
وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)
(65) - فَسَارَ موسى وَقومُهُ في المَكَانِ الذِي انْفَتَحَ في البَحرِ وأصْبَحَ يابِساً، وبَلَغُوا الطرفَ الآخَرَ من البحرِ، فَنَجَوْا جَمِيعاً.(1/2879)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)
{الآخرين}
(66) - وتَبِعَهُمْ فِرعونُ وجنودُهُ في المَكَان الذي انْفَتَحَ في البَحْرِ، فَلمَّا أصْبَحُوا جَمِيعاً بينَ فِرْقَتَي الماءِ، أطْبَقَ عليهِمُ البحرُ فأغْرَقَهُمْ أجْمَعينِ.(1/2880)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)
{لآيَةً}
(67) - وفي هذه القصَّةِ، وما فيها منَ العَجائبِ، والنَّصْرِ، والتَأْييدِ لِعِبَادِ اللهِ المؤمنينَ، لدَلاَلَةٌ واضحةٌ وحُجَّةٌ قاطعةٌ على قُدرةِ اللهِ تَعالى، وعلى صِدْقِ مُوسى، ولكنَّ أكْثَرَهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا مَعَ أنهُمْ رَأَوْا بِأَعْيُنِهِمْ هذه الآياتِ العِظامَ الباهرة.(1/2881)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
(68) - وإنَّ خالقَكَ ومَرُبِّيكَ، يا مُحَمَّدُ، لهوَ القويُّ القادرُ على الانتِقامِ مِنَ المُكَذِّبينَ، المُنعِمُ بالرَّحمَةِ على المُؤمِنينَ.(1/2882)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69)
{إِبْرَاهِيمَ}
(69) - واتْلُ يا مُحَمَّدُ عَلَى قَوْمِكَ أخْبَارَ أبيهِمْ إبراهيم عَليهِ السَّلامُ، لَعَلَّهُمْ يَقْتَدُونَ بهِ في الإِخلاصِ والتَّوَكُّلِ على اللهِ تَعالى، وَعِبَادَتِه وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، والتَّبَرُّؤ منَ الشِّرْكِ وأهلِهِ فقدْ أُوتِي رُشْدَهُ من صِغَرِهِ، فَهوَ حينَ نَشَأَ وَتَرَعْرَعَ أنكَرَ على أبيهِ وقومِهِ عبادةَ الأصْنَامِ.(1/2883)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)
(70) - فقال لأبيه وقومِهِ: مَاذا تَعْبدُونَ؟ وما هذهِ التَّمَاثيلُ التي أَنُتمْ على عِبَادَتِها عَاكِفُونَ؟ مَعَ أنَّها لا تَستحِقُّ العبادَةُ.(1/2884)
قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)
{عَاكِفِينَ}
(71) - فقالُوا لَهُ مُبَاهينَ: إنهُمْ يَعْبُدونَ أصْنَاماً يظَلُّونَ مُقيمينَ على عِبَادَتِها ودُعائِها تَعْظِيماً لها وتَمْجِيداً.(1/2885)
قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72)
(72) - فَسَأَلَهُمْ إبراهيمُ مُسْتَغْرِباً، ومُسْتَهْزِئاً، وَمُنْكِراً تَصَرُّفَهُمْ هذا: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ حِينَما تَدْعُونَهُمْ وهُمْ حِجَارَةٌ، وهَلْ يُجِيبُونَكُمْ إذا دَعَوْتُمُوهُمْ؟(1/2886)
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
(73) - وَهَلْ يَسْتَطِيعُونَ نَفْعَكُمْ إِذا أطَعْتُمُوهُم، أَوْ ضَرَّكُمْ إِنْ عَصَيْتُموهُمْ؟(1/2887)
قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)
{آبَآءَنَا}
(74) - فَاعْتَرَفُوا بأَنَّهُمْ لا يَعْرِفُون أنَّها تَنْفعُ وتَضُرُّ، وإنَّما وَجَدُوا آباءَهُمْ يَعْبُدُونَها، ويَسجُدُونَ لهَا، ويَنْحَرُونَ لها القَرابينَ، فاقْتَدَوْا بِهمْ، وفَعلُوا فِعلهُمْ.(1/2888)
قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75)
{أَفَرَأَيْتُمْ}
(75) - قالَ إبراهيمُ لقومِهِ: هلْ تَرَوْنَ هذهِ الأصنامَ التي تَعْبُدُونها أنتم؟ أفرأيتُمْ - أتَأَمَّلْتُمْ فَعَلِمْتُمْ.(1/2889)
أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)
{َآبَآؤُكُمُ}
(76) - والتي عَبَدَهَا آباؤُكُم الأقْدَمُون من قَبْلِكُمْ؟(1/2890)
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
{العالمين}
(77) - إِنَّنِي بَرَاءٌ منها جَميعاً، وَأَنَا لا أَعتَرِفُ برُبوبيَّةِ شَيءٍ منْها، وإِنَّنِي لا أَعْبُدُ إِلاَّ اللهَ وَحْدَهُ سُبحانَهُ، فَهُوَ رَبُّ العَالمِينَ، وَلا رَبَّ سِوَاهُ.(1/2891)
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
(78) - وهُوَ تَعَالَى الذيْ خَلَقِنِي، وخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ، وهُوَ الذِي هَدَى الخَلائِقَ إِلَيْهِ، فَكُلٌّ يجرِي عَلى ما قُدِّرَ لَهُ، وهُو الذيْ يَهْدِينِي إلى كلِّ ما يُوصلُني إِلى السَّعَادَةِ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ.(1/2892)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)
(79) - وهُو خَالِقِي ورَازِقِي بِمَا سَخَّرَ ويَسَّرَ مِنَ الأسْبَابِ.(1/2893)
وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)
(80) - وإذَا ألمَّ بِي مَرَضٌ فَرَبِّي هوَ الذي يَشْفِينِي مِنَ المَرضِ، ولا يقْدِرُ عَلى شِفَائي غيرُهُ، بما يُقَدِّرُهُ من الأَسْبَابِ المُوصِلَةِ إليهِ.(1/2894)
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)
(81) - وهُوَ الذيْ خَلَقَنِي ثُمَّ يُمِيتُنِي حينَمَا يَحِينُ أَجَلِي، ثُمَّ يَبْعَثُنِي حَيّاً مَرَّةً أُخْرى يَومَ القِيامةِ، ولا يَقْدِرُ أَحُدٌ سواهُ على شَيءٍ مِنْ ذَلكَ.(1/2895)
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
(82) - وإنِّي أطْمَعُ في أنْ يغْفِرَ تَعالى خَطَايَايَ وذُنُوبِي وهَفَوَاتِي يومَ القِيَامَةِ (يومَ الدِّين) ، ولا يَقْدِرُ على مِغْفِرَةِ الذُّنُوبِ غيرُهُ، في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وهو الفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ.
يومَ الدِّين - يومَ القِيَامَةِ.(1/2896)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
{بالصالحين}
(83) - ثُمَّ دَعَا إبراهيمُ رَبَّهُ أنْ يُؤْتِيَهُ عِلْمَاً ورَأْياً سَدِيداً (حُكْماً - وقِيلَ بلْ المرادُ بِالحُكْمِ هُنا النُّبوةُ) وأن يُوفِّقَهُ إلى العَمَلِ في طَاعَةِ ربِّهِ لِيَكُونَ منْ زُمَرَةِ المُقَرَّبينَ إليهِ، المُطِيعِينَ لَهُ، المُؤْهَّلِينَ لِحَمْلِ رَسَالَتِهِ.(1/2897)
وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)
{الآخرين}
(84) - وأَن يَجْعَلَ لهُ ذِكْراً جَميلاً، يَذْكُرُه بهِ منْ يأتي بعدَهُ، وَأَنْ يَكُونَ قُدْوَةً يُقْتَدَى بهِ بِمَا يُوفِّقُهُ إليهِ ربُّهُ مِنْ عَمَلِ الخَيْرِ.
لِسَانَ صِدْقٍ - ثَنَاءً جَمِيلاً، وذِكْراً حَسَناً.(1/2898)
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)
(85) - وأَن يُنْعِمَ عليه ربُّهُ في الدُّنْيا بِبَقَاءِ الذِّكْرِ الجَمِيلِ بَعْدَهُ، وأن يُنْعِمَ عَليهِ في الآخِرَة بأنْ يَجْعَلَهُ مِمَّنْ يَرِثُونَ جَنةَ النَّعِيم.(1/2899)
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)
(86) - ودَعَا إبراهيمُ رَبَّهُ لِيَغْفِرَ لأَبِيه (لأنَّهُ كانَ مُشْرِكاً باللهِ، ضَالاً عَنْ طريق الهُدَى) .
(ولكنَّ إبْرَاهِيمَ تَبَرَّأَ مِنْ أَبِيهِ فيما بَعْدُ حينَمَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوُّ للهِ، ورَجَعَ في دُعَائِه هَذا كَما جاءَ في آيةٍ أُخْرَى) .(1/2900)
وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
(87) - ودَعَا رَبَّهُ أنْ يُجِيرَهُ من الخِزْيِ والهَوَانِ يومَ القِيِامَةِ، يومَ يَبْعَثُ اللهُ الخَلائقِ، ويحشُرُهُمْ جَميعاً للحِسَابِ.
لا تُخْزِنِي - لا تَفْضَحْنِي ولا تُذِلَّنِي بِعِقَابِكَ.(1/2901)
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)
(88) - وفي يَومِ القِيامةِ، يومَ يُبْعَثُ الخَلائِقُ، لا يَقِي المَرءَ منْ عذابِ اللهِ مالُهُ، ولوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الأرْضِ ذًهَباً، ولا يَنْفَعُهُ بنُوهُ، ولا أحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ.(1/2902)
إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
(89) - ولا يَنْفَعُهُ في ذَلكَ اليوم إِلاَّ إيمَانُه، وَعَمَلُهُ الصَّالِحُ، وأَنْ يأْتِيَ اللهَ ربَّهُ بقلْبٍ سليمٍ، مُبَرَّإٍ من الشِّرْكِ والدَّنَسِ، والخَطَايا، وقَدْ أَخْلَصَ الإِيمانَ للهِ، وأخْلَصَ العَقِيدَةَ لَهُ، وآمَنَ إيمَاناً صادقاً أنه لا إِلهَ إلا الله وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأنَّ السَّاعَةَ آتيةٌ لا رَيْبَ فِيها، وأنَّ يَبْعَثُ مَنْ في القُبُورِ.
بِقَلْبِ سَلِيمٍ - بَرِيءٍ من مَرَضِ النِّفَاقِ والكُفْرِ.(1/2903)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)
(90) - وأُدْنِيَتِ الجَنَّةُ وقُرِّبَتْ الجَنَّةُ وقُرِّبَتْ منَ السُّعَداءِ المُتَّقِين، حَتى أصْبَحَتْ مِنْهُمْ بِمَرْأَى البصَرِ وهيَ مُزَيَّنَةٌ مُزَخْرَفَةٌ لِيَفْرَحُوا بِرُؤْيَتِها، وهؤلاءِ المُتقونَ هُمُ أُزْلِفَتِ الجَنَّةُ - قُرِّبَتْ لِتُصْبِحَ بِمَرأَى العَيْنِ.(1/2904)
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)
(91) - وأُبْرِزَتْ جَهنَّمُ، وأُظْهِرَتْ لأهْلِها الكَفَرةِ الطُّغَاةِ الغَاوِينَ، لتكون بِمَرْأى العينِ مِنْهُمْ، وفي ذلكَ تَعجِيلٌ لِحَسْرَتِهِمْ وغَمِّهِمْ.
بُرِّزَتِ الجَحِيمُ - أُظْهِرَتْ وأُبْرِزَتْ بِحَيْث تُرى أهْوَالُها.
للغَاوِينَ - الضَّالينَ عَنْ طريقِ الحَقِّ.(1/2905)
وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92)
(92) - وقِيلَ لأهْلِ النَّارِ تَقْرِيعاً وتَوْبِيخاً: أَينَ الآلهةُ الذينَ كُنتمْ تَعْبُدُونَهُمْ منْ دونِ اللهِ مِنْ أصْنَامٍ وأنْدَادٍ؟(1/2906)
مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)
(93) - لقَدْ كُنْتُمْ أنْتُمْ تَعْبُدُونَهُمْ في الدُّنْيا من دونِ اللهِ تَعالى، وتَعْتَقِدُونَ أنَّهُمْ سَيَشْفَعُون لَكُمْ عندَ اللهِ، فهَلْ يَسْتَطِيعونَ اليومَ نَصْرَكُمْ أو نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ؟ وهَلْ يستطيعونَ أن يَدْفَعُوا عَذابَ اللهِ عنكُمْ أو عَنْ أنفُسِهِمْ؟
إنَّكُمْ وإيَّاهُمْ صَائِرونَ إِل جَهَنَّمَ وسَاءَتْ مَصِيراً ومُسْتَقَرّاً.(1/2907)
فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)
{الغاوون}
(94) - فأَلْقُوا في جَهَنَّمَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، بعْضُهُم فَوقَ بَعضٍ (كُبْكِبُوا) هُمْ وقَادَتُهُمْ وكُبَراؤُهُمْ، الذِينَ دَعَوْهُمْ إِلى الشِّرْكِ.
كُبْكِبُوا - أُلْقُوا بعضُهُمْ فوقَ بَعْضٍ على وُجُوهِهِمْ.
الغَاوُون - الضَّالُّونَ المُضِلُّون، وهُمْ هُنَا الكُبَراءُ(1/2908)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)
(95) - وقُذِفَ في النَّارِ مَعَهُمْ جنودُ إبْلِيسَ الذينَ كانُوا يُزِيِّنُون لَهُمُ الشِّرْكَ وَالمَعَاصِيَ، فَصَارُوا جَمِيعاً في النَّارِ.(1/2909)
قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)
(96) - فَيقُولُونَ مُعْتَرِفِينَ بِخَطًَئِهِمْ، وهُمْ يَتَخَاصَمُونَ في النَّارِ مَعَ مَنْ أَضَلُّوهُمْ مِنْ مَعْبُودَاتِهِم.(1/2910)
تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97)
{ضَلاَلٍ}
(97) - واللهِ لَقَدْ كُنَّا ضَالِّينَ بِصُورَةٍ جَلِيَّةٍ وَاضِحَةٍ(1/2911)
إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)
{العالمين}
(98) - إذِ اسْتَجَبْنَا لَكُمْ أيُّهَا المَعْبُودُونَ، وعظَّمْنَاكُمْ تَعْظِيمَ المَعْبُودِ الحَقِّ، وسَوِّيْنَاكُمْ بِرَبِّ العَالَمِينَ في اسْتِحَاقِ العِبَادَةِ.
نُسَوِّيكُمْ برَبِّ العَالَمِينَ - نَجْعَلُكُمْ وإيَّاهُ سَواءً في اسْتِحقَاقِ العِبَادَةِ.(1/2912)
وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)
(99) - ومَا دَعَانا إلى ذَلِكَ، ولا حَمَلَنَا عَلَيْهِ إِلاَّ المُجْرِمُونَ من السَّادَةِ والكُبَرَاءِ، الذينَ أَضَلُّونَا السَّبِيلَ.(1/2913)
فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100)
{شَافِعِينَ}
(100) - فلَيْسَ لَنَا اليَومَ منْ يَشْفَعُ لَنَا عِنْدَ اللهِ، ويُنْقِذُنَا مِمَّا نَحْنُ فيهِ مِنْ ضِيقٍ وَعَذَاب.(1/2914)
وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)
(101) - وَلَيْسَ لَنَا اليوم صَديقٌ مُخْلِصُ الصَّدَاقَةِ وثيقُها (حَمِيم) يُؤازِرُ في الشَّفَاعَةِ لَنَا عِنْدَ اللهِ، أو يَتَوجَّعُ لنا وَيَرْثِي لِحَالِنَا.
حَمِيمٍ - قَريبٍ مُشْفِقٍ يَهْتَمُّ بأمْرِنا.(1/2915)
فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)
(102) - وَيَتَمَنَّونَ فِي ذلِكَ الوَقْتِ لَوْ أَنَّهُمْ يُرَدُّونَ إلى الدَّارِ الدُّنْيَا لِيَعْمَلُوا بِطَاعَةِ اللهِ فِيمَا يَزْعُمُون. واللهُ تَعالى يَعْلَمُ إِنَّهُمْْ لَكَاذِبُونَ، ولَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ.
كَرَّةً - رَجْعَةً إلى الدُّنْيا.(1/2916)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103)
{لآيَةً}
(103) - وإنَّ فِي محَاجَّةِ إبراهيمَ لِقَوْمِهِ، وإقَامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ في وُجُوبِ التَّوْحِيدِ لآيةً، وبُرهاناً جَلِيّاً على أنَّه لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريك لَهُ: ومَعَ وُضُوحِ ذلكَ وجَلائِه لأَعْيُنِهِمْ فإنَّهُ لم يُؤْمِنْ أكثرُهُمْ بِهِ.
(وقدْ يَكُونُ المَعْنَى: وَمَا كَانَ أكثرُ قَوْمِكَ الذين تُتْلُو عليْهِمْ هذا النَّبَأَ مُذْعِنِين لِدَعْوَتِكَ) .(1/2917)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
(104) - ورَبُّكَ، يا مُحَمَّدُ، هُوَ العَزِيزُ الجَانِبِ، الذيْ لا يُقَاوَمُ ولا يُغَالَبُ، وهو القَادِرُ على الانْتِقَامِ من المُكَذِّبينَ، وهُوَ الرَّحيمُ، إذْ لَمْ يُهْلِكِ العِبَادَ بِكُفْرِهِمْ وذُنُوبِهِمْ، بل أخَّرَ ذلكَ، وأَرْسَلَ إليهِم الرُّسُلَ لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ وَيرجِعُونَ إلى رَبِّهمْ.(1/2918)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)
(105) - يُخبرُ اللهُ تَعَالى عَنْ نوحٍ عَلَيهِ السَّلامُ، وَهُوَ أولُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ تَعَالى إِلى أَهلِ الأرضِ، بَعدَمَا عَبَدَ النَّاسُ الأَصْنَامَ والأَنْدَادَ، فَبَعَثَهُ اللهُ إلى قومهِ نَاهياً لَهُمْ عَنْ ذَلك، وَمُحَذِّراً إيَّاهُمْ مِنْ عِقَابِ اللهِ تَعالَى، فكَذَّّبَهُ قَومُهُ، واستَمَرُّوا مُقِيمينَ عَلَى عِبَادَةِ الأصْنَامِ والأَوْثَانِ والشِّرْكِ باللهِ. (ومَنْ كَذَّبَ رسُولاً فكأَنَّه كَذَّبَ جَميعَ المُرْسَلين لاتِّحَادِ دَعْوَةِ جميعِ الرُّسُلِ في أُصُولِها وغَايَاتِها، وَلِذلِكَ قَالَ: {كَذَّبَتْ قومُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ.}(1/2919)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)
(106) - إِذْ قالَ لَهُمْ نوحٌ - وسَمَّاهُ أخَاهُمْ لأَنَّهُ مِنْهُمْ نَسَباً -: ألا تَخَافُونَ الله في عِبَادَتِكُم غَيْرَهُ؟ وَهلاَّ اتَّقَيْتُمْ عِقَابَهُ؟(1/2920)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107)
(107) - إنِّي رَسُولُ اللهِ إليكُمْ؟ أمينٌ فِيمَا بَعَثَني بهِ إليْكُمْ، أُبَلِّغُكُمْ رِسَالات رَبِّي، ولا أَزيدُ فِيهَا ولا أًُنْقِصُ مِنْهَا.(1/2921)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)
(108) - فَأَطِيعُونِي فيما دَعَوْتُكُمْ إليهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، واتَّقُوهُ وأَخْلِصُوا العِبَادَةَ لَهُ، وأَقْلِعُوا عَنِ ارْتِكَابِ المُنْكَرَاتِ والمَعَاصِي.(1/2922)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)
{أَسْأَلُكُمْ} {العالمين}
(109) - وإِنِّي لا أطْلُبُ منكُمْ أجْراً، ولا جَزَاءً، عَلَى نُصْحِي في إِبْلاَغِ رِسَالَةِ رَبِّكُمْ إلَيْكُمْ، وإنَّمَا أَبْتَغِي الاجْرَ والثَّوَابَ على ذَلك عندَ اللهِ ربِّ العَالَمين.(1/2923)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)
(110) - فَخَافُوا الله واتَّقُوهُ وأَطِيعُوني واسْتِجِيُبُوا لِنُصْحِي، فَقَدْ وَضَحَ لَكُمْ الأمْرُ، وبَانَ لَكُمْ نُصْحِي وأَمَانَتِي في أداءِ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ إليكُمْ.(1/2924)
قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)
(111) - قَالُوا: كيفَ نُؤمِنُ لَكَ، وكَيْفَ نَتَّبِعُكَ وَنَتَأَسَّى في ذَلك بِهَواءِ الأْذَلِينَ الذينَ اتَّبَعُوكَ وصَدَّقُوكَ؟
اتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ - السِّفْلَةُ الاَدْنِيَاءُ منَ النَّاسِ.(1/2925)
قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112)
(112) - قالَ لَهُمْ نُوحٌ: إنَّنِي دَعَوْتُ هَؤلاءِ فَصَدَّقُونِي واسْتَجَابُوا لِي، وعَلَيَّ أنْ أقْبَلَ منهُمْ ذَلك، وأكِلَ سَرَائِرَهُمْ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، ولَيْسَ لِي أنْ أُنَقِّبَ عنْ ضَمَائِرِهِمْ، ولا أَنْ أُدَقِّقَ في أعْمَالِهِمُ السَّابِقَةِ.(1/2926)
إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)
(113) - والذي يُحَاسِبُهُمْ عَلَى ضَمَائِرِهِمْ، وعَلَى أَعْمالِهِم السابِقَةِ واللاحِقَةِ، إنَّمَا هُوَ اللهُ ربُّ العالَمِينَ، فهوَ المُطَّلِعُ عَلَيْهِم، لَوْ كنتمُ من ذَوِي الشُّعُورِ والعَقْلِ.(1/2927)
وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
(114) - وحينما سَأَلُوهُ أنْ يَطْرُدَ هَؤلاءِ المُؤْمِنينَ، ويُبْعِدَهُمْ عنهُ، أجَابَهُمْ: إنَّه لا يَفْعَلُ ذَلك.(1/2928)
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)
(115) - وَقَالَ لَهُمْ إنَّ اللهَ تَعَالَى بَعَثَهُ نَذِيراً للنَّاسِ، فَمنْ أطَاعَهُ وصَدَّقَهُ كَانَ مِنْهُ، وَلا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ شَريفٍ وَوَضِيعٍ، وَلا بَيْنَ جَلِيلٍ وَحَقِيرٍ.(1/2929)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)
{لَئِنْ} {يانوح}
(116) - طَالَ مُقَامُ نُوحٍ عَلَيه السَّلامُ بَينَ ظَهْرَانِيْ قَومِهِ، يَدْعُوهُمْ إلى اللهِ لَيلاً ونَهاراً، وسِرّاً وجِهَاراً، وكُلَّمَا كَرَّرَ عليهِمُ الدَّعوةَ ازْدَادوا كُفْراً واسْتِكْبَاراً.
ولَمَّا كَرَّرَ لَهُمْ نوحٌ الدعوةَ تَضَايَقُوا منْهُ ومِمَّنْ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ الظَّالِمُونَ مِنْ قومِهِ: لَئِنْ لمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عَن دَعَْوَتِكَ إٍِيَّانَا إلى دِينِكَ لَنَرْجُمَنَّكَ بالحِجَارَةِ وَلنقْتُلَنَّكَ.(1/2930)
قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117)
(117) - فدَعَا نُوحٌ عليهِ السلامُ عَلَيْهِمْ، واسْتَنصَرَ رَبِّهُ عَلَيْهِمْ، وقالَ لِرَبِّهِ: رَبِّ إنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِي.(1/2931)
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)
(118) - ثم رجَا رَبَّهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُ وبينَ قَوْمِهِ، وأَنْ يَحْكُمَ بينَهُمْ بالحَقِّ، وأنْ يُنَجِّيَه والذينَ آمنُوا معَهُ العَذَابِ الذِيْ سيُنْزِلُهُ اللهُ بِهؤلاءِ الكافرينَ المُكَذِّبينَ.
افْتَحْ - اقْضِ واحْكُمْ، أو افْرُقْ.(1/2932)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
{فَأَنجَيْنَاهُ}
(119) - فأنْجَى اللهُ نُوحاً والمُؤْمِنينَ معَهُ في السَّفينةِ التي أَمَرَهُ اللهُ بصُنْعِها، وبأنْ يَحمِلَ فيها المُؤمنينَ، ومِنْ كُلٍّ زوجَيْنِ اثْنَتِينِ من الحَيَوَاناتِ والنباتَاتِ، ولذلكَ قال المَشْحُون إشارةً إِلى امْتِلاَءِ السفينةِ بالحُمُولَةِ.
الفُلْكِ - السَّفينةِ والمَرْكَبِ.
المَشْحُون - المُمْتَلِئ بالحُمولةِ مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ.(1/2933)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)
(120) - ثمَّ إنَّ الله تَعالى أغرَقَ البَاقينَ جَمِيعاً، بعْدَ أنْ أنْجَى نُوحاً وَالذين آمَنُوا مَعَهُ في السَّفِينةِ.(1/2934)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121)
{لآيَةً}
(121) - وَفي ذلكَ لآيةٌ عَلَى عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِعبادِهِ المُؤْمنينَ، وعَلى قُدْرَتِهِ تَعالى عَلى إهْلاَكِ المُجْرِمِينَ المُكذِّبينَ. وَمَعَ أنَّ نُوحاً حَذَّرَ قَومَهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ ونَكَالِهِ ودعَاهُمْ إِلى عِبَادَةِ اللهِ تَعالى لَيلاً ونهاراً، وسِرّاً وَجِهَاراً فإِنَّهُ لمْ يؤمنْ بِهِ كثيرٌ منهُمْ.(1/2935)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
(122) - وإنَّ ربَّكَ مُحَمَّدُ هُو العَزيزُ الجَانبِ الذي لا يُقَاوَمُ ولا يٌغَالَبُ وهُوَ الحَكيمُ في شَرْعِهِ وتدْبِيرِهِ، الرَّحيمُ بعبَادِهِ إذْ لَمْ يُعَاجِلِ المُكَذِّبينَ بالعُقُوبةِ، وأرْسَلَ إليهِم الرَّسُلَ، وأَخَّرَ عُقُوبَتَهُمْ لَعلَّهُمْ يَتُوبُونَ.(1/2936)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123)
(123) - يُخْبِرُ اللهُ تَعالى أنَّهُ أرْسَلَ رَسُولَهُ هُوداً إلى قَوْمِ عَادٍ - وكَانُوا يَسْكُنُونَ الأحْقَافَ وهِيَ تِلاَلٌ رَمْلِيَّةٌ قُرْبَ حَضْرَمَوْتَ - وكَانُوا بعدَ قومِ نُوحٍ - فَدَعَاهُمْ هُودٌ إلى عِبادَةِ اللهِ تَعَالى وَحْدَه لا شَرِيكَ لَهُ، والإِقَلاعِ عَنْ عبادةِ الأَصْنَامِ والأَوْثَانِ فكذَّبُوهُ.(1/2937)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124)
(124) - فَقَالَ لَهُمْ هُودٌ عليهِ السَّلامُ: أَلاَ تَخَافُونَ أَنْ تَعْبُدُوا مَعَ اللهِ آلهةً أُخْرى هيَ أَصنامٌ لا تَضرُّ ولا تَتْفَعُ؟(1/2938)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125)
(125) - إنِّي مُرْسَلٌ إِليكُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالى، وَإِني صَادِقٌ فِيما أُبَلِّغُكُمْ إِيَّاهُ مِنْ رَبِّكُمْ.(1/2939)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126)
(126) - فَأَطْيعُونِي، واتَّبِعُوا قَوْلِي، واسْتَجِيبُوا لِدَعْوَتِي واتَّقُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، واعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ.(1/2940)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127)
{أَسْأَلُكُمْ} {العالمين}
(127) - وَأَنَا لا أسْأَلُكُمْ جَزَاءً وأجْراً عَلَى مَا أقُومُ بِهِ منْ دَعْوَتِي إيَّاكُمْ، وَإِنَّمَا أنْتَظِرُ الأجْرَ والثَّوَابَ عَلَى ذَلكَ مِنَ اللهِ رَبِّ العَالَمينَ الذِي بَعَثَنِي إليْكُمْ.(1/2941)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)
{آيَةً}
(128) - كانَ قومُ عادٍ جَِبَّارينَ في غَايةِ القُوةِ وشِدَّةِ البَطْشِ، وَكَانَتْ لَهُمْ وَفْرَةٌ في الأموالِ والزُّرُوعِ والمِيَاهِ والأَبْنَاءِ، وَمَعَ ذلكَ كانُوا يَعْبُدُونَ غيرَ اللهِ مَعَهُ، فَبَعَثَ اللهُ إِليهمْ هُوداً، وهُو رَجُلٌ منهُم، رَسُولاً ونَذِيراً فَدَعَاهُمْ إلى اللهِ، وَحَذَّرهُمْ نِقَمَهُ وَعَذَابَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: أَتَبْنُونَ في كُلِّ مُرْتَفَعِ منَ الأَرضِ (رِيْعٍ) بِنَاءٍ ضَخْماً مُحْكَماً للعَبَثِ والتَّفَاخُرِ والدَّلاَلَةِ على الغِنَى والقُوَّوةِ؟ لِذلِكَ أنْكَرَ علَيْهِمْ نَبيُّهُم الاشْتِغَالَ فيما لا يُجْدِي في الدُّنيا والآخِرَةِ.
رِيْعٍ - مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ - أَوْ طَرِيقٍ.
آيةً - بِنَاءً شَامِخاً كَالعَلَم فِي الارْتِفَاعِ.
تَعْبَثُونَ - بِبِنَائِها أَوْ بمَنْ يَمُرُّ بِهَا.(1/2942)
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)
(129) - وَتَبْنُونَ قصُوراً مُشَيَّدَةً وَحِيَاضَاً ضَخْمَةً لِجَمْعِ المِيَاهِ، وتظُنُّونَ أنَّكُمْ خَالِدُونَ في هِذه الحَياةِ الدُّنْيا، وَهذَا لَيْسَ بِحَاصِلٍ لَكُمْ، بَلْ هُوَ زَائِلٌ عنْكُمْ كَمَا زَالَ عَمَّنْ قَبْلَكُمْ.
المَصانِعُ - الأَحْواضُ الضَّخَمَةُ لِجَمْعِ المَاءِ - أَوِ القُصُورُ.(1/2943)
وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)
(130) - ويَصِفُهُمْ نَبِيُّهُم بِالقَسْوَةِ، والغِلْظَةِ، وَالجَبَرُوتِ، فَيَقُولُ لهمْ: إنَّهُمْ حِينَما ينْتَقِمُونَ وَيضْرِبُون، فإنَّهُم يفْعلونَ ذَلِكَ بقَسْوَةٍ بَالِغَةٍ، كَما يَفْعَلُ الجبَّارُونَ الأقْوِياءُ الذينَ لا يَخَافُونَ اللهَ تَعالى.(1/2944)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)
(131) - فأَطِيعُوني فِيمَا دعوتُكُم إليهِ، وتَجَنَّبُوا ما حَذَّرْتُكُمْ منْهُ، واتَّقُوا الله، وَخَافُوا نِقَمَهُ في الدُّنْيا والآخرةِ.(1/2945)
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132)
(132) - واتَّقُوا الله الذي آتاكمُ الأمْوالَ، والبَنينَ والقُوَّة.
أَمَدَّكُمْ - أنْعَمَ عَلَيْكُمْ ورَزَقَكُمْ.(1/2946)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133)
{بِأَنْعَامٍ}
(133) - الذِي أمدَّكُمْ بأنْعَامٍ تَنْتَفِعُونَ بأوْبَارِهَا وأصْوافِها ولُحُومِها وألْبَانِها، وأمَدَّكُمْ بِبَنِينَ يَزيْدُونَ في قُوَّتِكُمْ.(1/2947)
وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134)
{وَجَنَّاتٍ}
(134) - وأمَدَّكُم بِبساتِينَ ومَزَارِعَ وعيونِ ماءٍ تَجْري في أرْضِكُمْ.(1/2948)
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
(135) - فإنْ كذَّبْتُمْ وتَوَلَّيْتُم ورَفَضْتُم اتِّبَاعِي فِيمَا دَعَوْتُكُمْ إِليهِ مِنْ عِبادةِ اللهِ تَعَالى، فإِنِّي أخافُ أن تَحِلَّ بِكُمْ نِقَمُ اللهِ وعذابُهُ في يومِ القيامةِ، وهُوَ يَومٌ شديدُ الهَوْلِ.(1/2949)
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)
{الواعظين}
(136) - فَرَدَّ القَومُ عَلَى هُوُدٍ قائِلينَ: إنَّهُمْ لا يُبَالُون بنُصْحِهِ، ووَعْظِهِ، وَدَعْوَتِهِ، وإِنَّهُمْ لنْ يَرْجِعُوا عمَّا هُمْ عليهِ من الضَّلاَلِ، ولنْ يَتْرُكُوا آلِهَتَهُمْ كَمَا جاءَ في آيةٍ أُخْرى.(1/2950)
إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
(137) - وإنَّ مَا هُمْ عَلَيهِ منَ الدِّينِ هُوَ دينُ آبائِهمُ الأولينَ (خُلُقُ الأوَّلِينَ) ، وإنَّهمْ يتَّبِعُونَ ما وَجَدُوا آباءَهُمْ عَلَيْهِ، فَيَعِيشُونَ كَمَا عاشُوْا، ويَمُوتُونَ كمَا مَاتُوا.
خُلُقُ الأوَّلِين - عَادَتُهُم في اعْتِقَادِهمْ أنَّهُ لا بَعْثَ ولا نُشُورَ.(1/2951)
وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)
(138) - وإنَّهمْ لا يَعْتَقِدُونَ أنَّهُ سَيكُونُ هَناكَ بَعْثٌ، أَوْ نُشورٌ أَوْ حِسَابٌ، أَوْ قِيامةٌ، أَوْ جَنَّةٌ، أَوْ نَارٌ، وَأَنَّهُمْ لَنْ يُعَذَّبُوا عَلَى مَا يأْتُونَهُ منَ الأَعْمالِ.(1/2952)
فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
{فَأَهْلَكْنَاهُمْ} {لآيَةً}
(139) - واسْتَمَرُّوا في تَكْذِيبِهِمْ نبيَّهُمْ هُوداً عَلَيهِ السَّلامُ، وفي مُخَالَفَتِهِ ومُعَانَدَيِهِ فأهْلَكَهُمُ اللهُ بأنْ أرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً شَدِيدَةَ البُرودَةِ، بالغةَ العُنْفِ والقَسْوَةِ (عَاتِيَةً) ، لَقَدْ كَانُوا عُتَاةً فَأَهلَكَهُمْ اللهُ تَعَالى بِمَا هُوَ أَعْتَى مِنْهُمْ، وفي ذَلك آيَةٌ وعِظَةٌ، وَعِبْرَةٌ لمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، إِلا أنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ.(1/2953)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
(140) - واللهُ رَبُّكَ هُوَ القَوِيُّ العَزيزُ الذِي لا يُقْهَرُ، وَلا يُغَالَبُ، وَهوَ الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ يُرِيدُ أَنْ يُؤْمِنُوا وَيُتُوبُوا إليهِ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ، ويَتَجَاوَزَ عَنْ سَيئَاتِهِمْ.(1/2954)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141)
(141) - يُخبرُ اللهُ تَعالى أَنَّهُ أرْسَلَ عَبْدَهُ صَالِحاً رَسُولاً إلى قَوْمِهِ ثُمودَ، وَكَانُوا عَرَباً يَسْكُنُونَ الحِجْرَ، بينَ وَادِي القُرى وبِلادِ الشَّامِ، ومَسَاكِنُهُمْ مَعْرُوفةٌ باسْمِ مَدَائِنِ صَالِحٍ، وَكَانُوا بَعْدَ عادٍ، وَقَبْلَ إبراهيمَ عليهِ السلامُ، فدَعَاهُمْ نَبيُّهُمْ صَالِحٌ إلى عِبادةِ اللهِ تعالَى وَحْدَه لا شَريكَ لَهُ فَكَذَّبُوهُ، وبِذَلكَ يَكُونُون قَدْ كَذَّبُوا جَميعَ الرُّسُلِ لاتِّحَادِ رِسَالاتِ الرُّسُلِ في أصُولِها وغَايَاتِها.(1/2955)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142)
{صَالِحٌ}
(142) - وَقَالَ لَهُمْ نبيُّهُمْ صَالِحٌ: أَلا تَخَافُونَ أَنْ تُشْرِكُوا معَ اللهِ آلهةً أُخْرى في العِبَادَةِ؟ (وَصَالحٌ مِنْ ثمودَ لِذَلكَ قَالَ تَعَالى عَنهُ إِنهُ أخُوهمْ) .(1/2956)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143)
(143) - فَأنَا مُرسلٌ إِليكمْ مِنَ اللهِ تَعَالى، وَإِنِّي أمينٌ في نُصْحي لكُمْ، وفِي إِبْلاغِكُمْ رِسَالَة رَبِّي.(1/2957)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144)
(144) - فأَطِيعُوني فِيما دَعَوْتُكُمْ إليهِ من عِبَادَةِ اللهِ تَعَالى وَحدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، وفِي الإِقْلاَعِ عَنْ عِبَادَةِ الأصْنَامِ والأنْدَادِ.(1/2958)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)
{أَسْأَلُكُمْ} {العالمين}
(145) - وإنِّي لا أبْتَغِي مِنْكُمْ أَجْراً عَلَى مَا أقومُ بهِ من إبْلاَغِكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي، وإنَّمَا أطْلُبُ الأجْرَ والثَّوَابَ عليهِ منَ اللهِ وَحْدَهُ.(1/2959)
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146)
{هَاهُنَآ} {آمِنِينَ}
(146) - وذَكَّرَهُمْ بِمَا أنْعَمَ اللهُ بِهِ عليهِمْ من الأرْزَاقِ والجَنَّاتِ، والزُّرُوعِ والثمارِ، ثُمَّ قالَ لهمْ: هلْ تَظُنُّونَ أنْ تُتْرَكُوا طَوِيلاً في هَذا النّعيمِ والرَّفَاهِ والأمْنِ، وأنتُمْ كافِرُون، جَاحِدُون نِعَمَ اللهِ، مُخَالِفُونهَ أوامِرَهُ؟(1/2960)
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147)
{جَنَّاتٍ}
(147) - في هذهِ الجَنَّاتِ والعُيُونِ والخَيْراتِ الحِسَانِ.(1/2961)
وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)
(148) - وفي هذِهِ الزُّرُوعِ وَالنَّخِيلِ، وَقَدْ أيْنَعَ ثمرُهَا، وبَلَغَ، فأصْبَحَ نَاضِجاً هَضِيماً.
الطَّلْعُ - الثَّمَرُ الذي يَؤُولُ إِليهِ الطَّلْعُ.
هضِيمٌ - نَاضِجٌ يَانِعٌ.(1/2962)
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)
{فَارِهِينَ}
(149) - وتَنْحِتُون بُيُوتاً في الجِبَالِ أَشَراً وبَطَراً وعَبَثاً (فَارِهِينَ) ، منْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلى سُكْنَاهَا.
(كَانَ قومُ ثمودَ مَهَرةً حَاذِقينَ في نَحْتِ البيُوتِ في الجِبَال ونَقْشِها) .
فَارِهِينَ - بَطِرِينَ مُتْرَفينَ - أو حَاذِقِينَ في نَحْتِها.(1/2963)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)
(150) - فأطِيعُوني فيمَا دَعَوْتُكُم إليهِ منْ عِبَادَةِ اللهِ وحدَهُ، والإٍِقْلاَعِ عنِ الكُفْرِ والضَّلاَلِ والطُّغيَانِ وعِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَأقْبِلُوا عَلَى مَا يَعُودُ عليكُمْ نَفْعُهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّكُمُ الذِي خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ، وتسبيحهِ بُكْرَةً وأَصِيْلاً.(1/2964)
وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151)
(151) - وَلاَ تُطِيعُوا أمْرَ الرُّؤسَاءِ والكُبَراءِ، الدُّعَاةِ إلى الشِّرْكِ والكُفْرِ ومُخَالَفَةِ الحَقِّ (المُسْرِفِينَ) .
المُسْرِفِين - المُتَجَاوِزِينَ الحُدُودَ.(1/2965)
الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)
(152) - وَهَؤُلاءِ الكُبراءُ يُفْسِدُونَ في الأَرْضِ، وَيَدْعُونَ إِلى الضَّلالِ وَيَصْرِفُون النَّاسَ عَنِ الحقِّ، وَلا يَدْعُونَ إلى الهُدى وَالإِصْلاحِ.
(وقِيلَ إنَّ المَقصُودَ بِهُؤُلاءِ الكُبَراءِ هُمُ الرَّهْطُ التِّسْعَةُ الذينَ تآمَرُوا على قَتْلِ صَالحٍ وعَقْرِ نَاقَتِهِ) .(1/2966)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)
(153) - فأجَابُوه: إِنَّكَ رَحُلٌ غَلَبَ السِّحرُ عَلَى عَقْلِهِ، فَلاَ يُقْبَلُ لَهُ قَوْلٌ، وَلا يُسْمَعُ لَهُ نُصْحٌ.
المُسَحَّرِينَ - المَغْلوبِ عَلَى عُقُولِهِمْ بالسِّحْرِ.(1/2967)
مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)
{بِآيَةٍ} {الصادقين}
(154) - فَلَسْتَ إلا بَشَراً مثْلَنَا فكَيْفَ أَوْحَى اللهُ إِليكَ مِنْ دُونِنا؟ ثُمَّ اقْتَرَحُوا عَليهِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بمُعْجِزةٍ خَارِقَةٍ لِلعَادةِ (آيةٍ) ، لِيَعْلَمُوا أنهُ صادِقٌ فِيما جاءَهُمْ بِهِ من ربِّهِمْ.(1/2968)
قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
(155) - ولمَّا سَألَهُمْ صَالحٌ عليهِ السَّلامُ عنِ الآيةِ التي يُريدونَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِهَا، اجتَمَعَ مَلؤُهُم وطلَبُوا مِنهُ أَنْ يُخْرِجَ لهمْ من صَخْرةٍ عَيَّنُوها لهُ ناقةً عُشَرَاءَ منْ صِفَتِها كذَا وكَذا. وحِينئذٍ أخَذَ عليهِمْ صالحٌ العَهْدَ والمِيثاقَ لِئنْ أجَابَهُم إلى ما سَأَلوا لَيُؤْمِنُنَّ باللهِ، وبِمَا جَاءَهُمْ بهِ منْ عندِ اللهِ. ثم دَعَا اللهَ ربَّهُ أن يُجِيبَهُمْ إلى سُؤَالِهِمْ، فانْفَطَرتِ الصَّخْرَةُ التي أَشَارُوا إِليها عَنْ ناقةٍ عُشَرَاءَ، لَها الصِّفَاتُ التي طَلَبُوها. فآمَن بعضُهُمْ، وكَفَرَ أكثرُهُمْ، فقالَ لهمْ صالِحٌ هَذهِ النَّاقَةُ التي سَأَلتُمُوهَا، وَإِنَّها سَتَرِدُ الماءَ يَوْماً، لا يُشَارِكُونَها فيهِ، ويَرِدُونَهُ هُمْ يومَاً لا تُشَارِكُهُمْ هيَ فيهِ.
لها شِرْبٌ - نَصِيبٌ مَشْرُوبٌ من المَاءِ.(1/2969)
وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)
(156) - وحَذَّرَهُمْ مِنْ نِقْمَةِ اللهِ أَنْ تَحِلَّ بِهِمْ إنْ هُمْ مَسُّوا الناقَةَ بِسُوءٍ، فَمَكَثَتِ النَّاقةُ بينَ أظهُرِهِمْ حيناً منَ الدَّهرِ تَرِدُ المَاءَ وتَرْعَى في أَرْضِ اللهِ، وينْتَفِعُون بِلبَنِها، يَحْلبُونَ منْها ما يكْفِيهِمْ شُرْباً وَرِيّاً. فَلَمَّا طالَ عَلَيهِمُ الأمَدُ وحَضَرَ أشْقَاهُمْ تَمالؤوا على قَتْلِها وعَقْرِها.(1/2970)
فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157)
{نَادِمِينَ}
(157) - فقَتَلُوا النَاقَةَ. فَقَالَ لَهُمْ نبيُّهُمْ صالِحٌ: تَمَتَّعُوا في دِيَارِكُمْ ثَلاثةَ أيامٍ، وَبعْدَ ذَلك يَحِلُّ بِكُمُ العَذابُ، فنَدِمُوا عَلى مَا فَعَلَهُ أشقياؤُهُمْ.(1/2971)
فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158)
{لآيَةً}
(158) - وفي المَوْعِد الذي حَدَّدَهُ لَهُمْ صالحٌ، حَلَّ بهِمْ عذابُ اللهِ، فَزَلْزِلَتِ الأرضُ زِلْزَالاً شديداً، وجاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ عَظِيمَةٌ اقْتَلَعَتِ القُلوبَ ممنْ مَحَالِّها، وأتَاهُمْ منَ الأمرِ ما لمْ يَكونوا يَحْتَسِبُون، وأصْبَحُوا في دِيَارِهم هَلْكَي جَاثِمِين، ولمْ يكنْ أكثرُهُمْ مُؤْمِنينَ بِمَا جَاءَهُمْ بهِ صَالِحٌ، وفي ذَلك لآيةٌ وعبرةٌ وعظةٌ للعاقِلين.(1/2972)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
(159) - وإنَّ رَبَّكَ، يَا مُحَمَّدُ، هُوَ العَزيزُ الذِي لا يُقَاوَمُ ولا يُغَالَبُ وَهُوَ الرَّحِيمُ بِعبادِهِ.(1/2973)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160)
(160) - وأَرْسَلَ اللهُ تَعَالى لُوطاً علَيهِ السَّلامُ - وهُوَ ابنُ أَخي إِبراهيمَ - إلى قَومٍ عُرِفُوا فيما بعْدُ بقومِ لوطٍ، وكَانُوا يَسْكُنُونَ مَدينةَ سَدُومٍ جَنُوبِيِّ البَحْرِ المَيِّتِ في الأُرْدُنَّ فَدعَاهُمْ إلى عِبَادَةِ اللهِ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأنْ يُطِيعُوا رَسُولَهُ الذِي بَعَثَهُ اللهُ إلَيْهِمْ، ونَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ تَعالى، وعنِ ارْتِكَابِ الفَواحِشِ التي لَمْ يَسْبِقْهُمْ أحَدٌ منَ العَالَمِينَ إلى ارْتِكَابِها، فكذَّبُوهُ.(1/2974)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161)
(161) - فَقَالَ لَهُمْ لُوطٌ: أَلا تَتَّقٌونَ اللهَ، وتَخَافُونَ عِقَابَهُ، وأنتُمْ تَعْبَدُونَ منْ دُونِهِ آلهةً أصْنَاماً لا تَضُرُّ ولا تْنَفَعُ، وتَرْتَكِبُونَ الفَواحِشَ؟(1/2975)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162)
(162) - فإِنيّ رَسُولُ اللهِ إليكمُ، وَإِنيّ أَمينٌ في إِبْلاَغِكُم مَا أتَلَقَّاهُ مِنْ رَبِّي.(1/2976)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163)
(163) - فأَطِيعُوني وَاسْمَعُوا قولي، وَاتَّقُوا الله وأخْلِصُوا العِبَادَةَ لَهُ وحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ.(1/2977)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164)
{أَسْأَلُكُمْ} {العالمين}
(164) - وَأَنا لا أَسْأَلُكُمْ جَزَاءً، وَلاَ أَجْراً عَلى نُصْحِي لَكُمْ، ودَعْوَتي إيَّاكُمْ إِلى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالى، وَإِنَّما أبْغِي الأَجْرَ والثَّوَابَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ عِنْدِ اللهِ ربِّ العَالَمِين.(1/2978)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165)
{العالمين}
(165) - وَقَالَ لَهُمْ: إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنَ دُونِ النِّسَاءِ، وَهذَا أمرٌ مُنْكَرٌ لَمْ يَسْبِقْكُمْ إِليهِ أََحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ.(1/2979)
وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)
{أَزْوَاجِكُمْ}
(166) - وتَذَرُونَ نَِاءَكُمْ وَمَا خَلَقَ اللهُ لَكُمْ مِنْهُنَّ، فَأَنْتُمْ بِذَلِكَ قَوْمٌ مُعْتَدُون، مُتَجَاوِزُونَ حُدودَ اللهِ، وشَرائِعَهُ.
عَادُون - مُتَجَاوِزُونَ الحَدِّ فِي الْمَعَاصِي.(1/2980)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)
{لَئِن} {يالوط}
(167) - فَقَالُوا لَهُ: لئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ عَمَّا جِئْتَنَا بهِ مِنْ دَعْوَتِنا إلى التَّطَهُّرِ، وتَركِ ما وَجَدْنا عَليه آباءَنا، لَنُنْخِرجَنَّكَ مِنْ بينِ أظْهُرِنا، ولَنَنْفِيَنَّكَ منْ بَلْدَتِنا أنْتَ وأَهْلَكَ، فإِنَّكُمْ أُنَاسٌ تَتَطَهَّرُون.(1/2981)
قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)
(168) - فَقَالَ لَهُمْ لُوطٌ إنَّهُ كَارِهٌ لِمَا يفْعَلونَهُ، وَلا يَرْضَى بهِ، وإِنَّه بَراءٌ مِنهُمْ.
القَالينَ - المُبْغِضِينَ أشَدَّ البُغْضِ.(1/2982)
رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)
(169) - وَدَعَا لُوطٌ ربَّهُ قَائِلاً: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُ هؤلاءِ منَ المُنْكَرَاتِ، وأنْقِذْنَا بِفَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ حينَما تُنْزِلُ بالضَّالِّينَ عَذَابَكَ الأَليمَ.(1/2983)
فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170)
{فَنَجَّيْنَاهُ}
(170) - فأنْجَاهُ اللهُ تَعَالى وأهلَهُ جَمِيعاً.(1/2984)
إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)
{الغابرين}
(171) - إِلاَّ امرَأَتَهُ، وكَانَتْ عَجُوزَ سَوْْءٍ، بَقِيَتْ مَعَ قَوْمِها الهَالِكِينَ حِينَ أَمَرَهُ اللهُ بأنْ يُسْرِيَ بِأَهْلِهِ، فَهَلَكَتْ مَعَ قَوْمِها.
فِي الغَابِرينَ - فِي البَاقِينَ فِي العَذابِ كَأَمْثَالِها - أوْ في الهَالِكِينَ.(1/2985)
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)
{الآخرين}
(172) - وأمَرَ اللهُ تَعالَى لوطاً بأن يُسْرِيَ بِأَهْلِهِ بَعْدَ مُضِيِّ جَانِبٍ منَ اللَيلِ، بِقِطْعٍ منْهُ - وأَنْ لا يَلتَفِتَ منهُمْ أحدٌ إلى الورَاءِ حِينَما يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ تُدَمِّرُ القَومَ الظَّالِمِينَ، وَقَريَتَهُمْ. وَلمَّا خَرَجَ لُوطٌ وأَهلُهُ، وابْتَعَدُوا صَبَّ اللهُ عَذَابَهُ عَلَى القَريةِ، وأَمْطَرَها حِجَارةً من سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ، فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَها، ولَمْ يُبْقِ أحَداً مِنْ أهْلِها عَلَى قَيدِ الحَياةِ.
دَمَّرْنَا الآخَرِينَ - أهْلَكْنَاهُمْ إهْلاَكاً شَدِيداً.(1/2986)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)
(173) - وأَمْطَرَ اللهُ تَعالى عَلَى القَرْيَةِ مَطَراً مُهْلِكاً، وَكَانَ بِئْسَ المَطَرُ يَنْزِلُ بالقَوْمِ الذِينَ أنْذَرَهُمُ اللهُ بالهَلاَكِ والدَّمَارِ.
مَطَراً - حِجَارَةً مِنَ سِجِّيلٍ مُهْلِكَةٍ.(1/2987)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)
{لآيَةً}
(174) - وفِي ذَلك لبُرْهَانٌ ودَليلٌ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالى، وفِيهِ عِظَةٌ للعَاقِلِينَ، وَلَمْ يَكُنْ أَكْثَرُهُم مُؤمِنينَ بما جَاءهُمْ بِهِ لُوطٌ عليهِ السَّلامُ.(1/2988)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
(175) - وَرَبُّكَ يا مُحَمَّدُ، هُوَ العَزيزُ الذي لاَ يَقَاوَمُ ولا يُغَالَبُ، وهو الرَّحِيمُ بعبادِهِ، يُريْدَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا لِيَغْفِرَ لَهُمْ.(1/2989)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)
{أَصْحَابُ} {الأيكة}
(176) - أهْلُ الأَيْكَةِ هُمْ أصْحَابُ مَدْيَنَ، والأَيْكَةُ هيَ الشَّجَرُ المُلْتَفُّ كَالغَيْضَةِ، كَانُوا يَعْبُدونَها، وَمَدْينُ تَقَعُ جَنُوبِيِّ الأُرْدُنِّ قَريباً مِنَ العَقَبَةِ.
وَنتبيُّهُمْ شُعيبٌ عليهِ السلامُ، وَهُوَ مِنْهُمْ، وَقَدْ أرْسَلَهُ اللهُ إليهمْ ليَدْعُوَهُمْ إلى عِبَادَةِ اللهِ، وَتَرْكِ مَا هُمْ عَليهِ مِنَ الفَسَادِ والضَّلالِ فَكَذَّبُوهُ.
الأيْكَةِ -الغَيْضَةِ المُلْتَفَّةِ الأشْجَارِ(1/2990)
إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177)
(177) - فَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ شُعَيْبٌ: ألا تَعْبُدونَ اللهَ وتُطِيعُونَ أَمْرَهُ، وتُقْلِعُونَ عَنْ عِبَادَةِ ما سِواهُ منَ الأصْنَامِ والأَنْدَادِ؟ وتَكُفُّونَ عَنْ تَطْفِيفِ المِكْيَالِ والمِيزانِ؟ إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَفعَلُوا ذَلكَ فإِنَّ اللهَ سَيُعَاقِبُكُمْ عِقَاباً شَدِيداً.(1/2991)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178)
(178) - وإِنِّي رَسُولٌ إليْكُمْ منَ اللهِ، أمينٌ في إبْلاَغِكُم مَا أَتَلَقَّاهُ مِنْ رَبِّي.(1/2992)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179)
(179) - فَأَطِيعُونِي وَاسْمَعُوا قَوْلِي، وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ، وَأَخْلِصُوا لَهُ العِبَادَةَ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ.(1/2993)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180)
{أَسْأَلُكُمْ} {العالمين}
(180) - وَأَنَا لاَ أَسْألُكُمْ جَزَاءً أو أَجْراً عَلَى نُصْحي لكُمْ، وَدَعْوَتي إيَّاكُمْ إِلى عِبادةِ اللهِ تَعالى وَحْدَه لا شَريكَ لهُ، وإِنَّما أبْغِي الأَجْرَ والثَّوابَ على ذَلِكَ مِنَ اللهِ الكَرِيمِ وَهُوَ رَبُّ العَالَمينَ.(1/2994)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181)
(181) - ثمَّ أمرَهُمْ بإِيفَاءِ المِكْيَالِ والمِيزانِ، وَنَهَاهُمْ عن التَّطْفِيفِ، وقالَ لهمْ: إذا دَفْعْتُمْ للنَّاسِ فأوْفُوا الكَيلَ والمِيزانَ حقَّهُمَا، ولا تَبْخَسُوا الكَيْلَ فَتُعْطُوا ناقِصاً، وَتَأْخُذُوهُ وَافياً إِذا كَانَ لَكُمْ، وَلكِنْ خُذُوا كَما تُعْطُوْنَ، وأعْطُوا كَمَا تأخُذُون.
المُخْسِرِين - المُنْقِصِينَ لِلحُقُوقِ بالتَّطفِيفِ.(1/2995)
وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182)
(182) - وزِنُوا بالمِيزَانِ العَادِلِ المَضْبُوطِ (القِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ) .
القِسْطَاسِ - العَادِلِ - أو المَضْبُوطِ.(1/2996)
وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)
(183) - ولا تُنْقِصُوْا النَّاسَ شَيْئاً مِنْ حُقُوقِهِمْ وأَمْوَالِهِمْ، وَلاَ تَعِيثُوا في الأَرضِ فَسَاداً، وَلا تَقْطَعُوا الطَّريقَ عَلَى النَّاسِ، كَمَا جَاءَ في آيةٍ أُخْرى {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} .
لا تَبْخَسُوا - لا تَنْقِصُوا.
لا تَعْثَوْا - لا تُفْسِدُوا أشَدَّ الإِفْسَادِ.(1/2997)
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
(184) - وَحَذَّرَهُمْ شُعَيْبٌ مِنْ نِقْمَةِ اللهِ وبأْسِهِ، وَهُوَ الذي خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ آباءَهُمُ الأوَّلينَ مِنَ العَدَمِ ليَكُونُوا مُصْلِحِينَ في الأرضِ.
الجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ - الخَلْقَ الأوَّلِينَ. وَجَاءَ في آيةٍ أخْرَى {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ} أي خَلْقاً كَثِيراً.(1/2998)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)
(185) - فقالُوا لهُ: إنَّما أنتَ رجلٌ مَسْحُورٌ فَاقِدُ العَقْلِ.
المُسَحَّرِينَ - المَغْلوبَةِ عُقولُهُمْ بكَثْرَةِ السِّحْرِ.(1/2999)
وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)
{الكاذبين}
(186) - فَلَسْتَ إٍِلا بَشَراً مِثلَنَا فَكَيفَ أُوحِيَ إِلَيكَ مِنْ دُونِنا؟ وَمَا نَظُنَّكَ إِلاَّ كَاذِباً فِيمَا تَقُولُهُ مِنْ أنَّ اللهَ أرْسَلَكَ نَبِياً إِلَينا.(1/3000)
فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)
{الصادقين}
(187) - فأَسْقِطْ عَلَيْنَا السَّمَاءَ قِطَعاً فِيها العَذَابُ لَنا، هَذا إِنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيمَا زَعَمْتَ مِنْ أنَّكَ رسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعالى، وأنَّ اللهَ حَفِيٌّ بِكَ.
(وَهَذا مِثْلُ مَا قَالَتْهُ قُرَيشٌ للرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم: {أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} .
كِسَفاً - قِطَعاً.(1/3001)
قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)
(188) - قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ: اللهُ أعْلَمُ بِأعْمَالِكُمْ، فإِنْ كُنْتُمْ تَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ العَذابَ جَازَاكُم اللهُ بِهِ، وهُوَ غيرُ ظَالِمٍ لَكُمْ (أوْ إنْ شَاءَ عَجَّلَ لكُمُ العَذَابَ، وَإِنْ شَاء أخَّرَهُ إلى أجَلٍ مَعْلُومٍ.(1/3002)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)
(189) - فأَصرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ شُعَيْباً، فَعَاقَبَهُمُ اللهُ على ذَلك التَّكْذِيبِ، وعلى جُحُودِهِمْ بآيَاتِ اللهِ رَبِّهِمْ، بِأَنْ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ حَرّاً شَديداً مُدَةَ سَبْعَةِ أيَّامٍ مُتَوَالِيَاتٍ، لا يَقِيهِمْ منهُ شيءٌ، ثم أقْبَلَتْ إليهِمْ سحَابةٌ أظَلَّتْهُمْ فَجَعَلُوا يَنْطَلِقُونَ إليها يَسْتَظِلُّونَ بِظِلِّهَا مِنْ شِدَّةِ الحَرِّ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ تَحتَها، أرسَلَ اللهُ عَليْهِمْ مِنْهَا شَرراً منْ نَارٍ، ولَهَباً ووَهْجاً عَظيماً، وَرَجَفَتْ بِهِم الأرضُ، وَجَاءَتْهُمْ صيحةٌ عظيمةٌ أزْهَقَتْ أرواحَهُمْ في يومٍ شَديدِ الهَوْلِ.
الظُّلَّةُ - سَحَابَةٌ أَظَلَّتْهُمْ ثُمَّ أَمْطَرَتْهُمْ نَاراً.(1/3003)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)
{لآيَةً}
(190) - وفِيمَا نَزَلَ بأَصْحَابِ الأَيْكَةِ منَ العُقُوبَةِ دَلِيلٌ، وَبُرْهَانٌ على كَمَالِ قُدْرَةِ اللهِ تَعالى، وَعِظَةٌ للعَاقِلينَ ولمْ يَكُنْ أكْثَرُهُمْ مُؤْمِنينَ، بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ شُعَيْبٌ عليهِ السلامُ.(1/3004)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
(191) - وَرَبُّكَ هُوَ العَزِيزُ في انْتِقَامِهِ، وَهُوَ لا يُغَالَبُ ولا يُقَاوَمُ، وهُوَ الرَّحِيمُ بِعبَادِهِ المُؤْمِنينَ.(1/3005)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)
{العالمين}
(192) - وإنَّ القرآنَ الذِيْ تَقَدَّمَ التَّنْوِيهُ بِهِ في أَوَّلِ السُّورَةِ {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن} أَنْزَلَهُ اللهُ ربُّ العالَمِين عليكَ يا مُحَمَّدُ، وأوْحَاهُ إِليكَ، وَهُوَ ربُّ العَالَمِين، فَخَبَرُهُ صَادِقٌ، وحُكْمُهُ نَافِذٌ.(1/3006)
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)
(193) - وهَذا القُرآنُ أنْزَلَهُ اللهُ تَعالى عَلَيكَ يا مُحَمَّدُ، وجَاءَكَ بهِ جِبْرِيلُ عَليهِ السَّلامُ (الرُّوحَ الأمِينُ) .(1/3007)
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)
(194) - وهَذا القُرآنُ أنْزَلَهُ عليكَ يا مُحَمَّدُ، وتَلاهُ عليكَ الرُّوحُ الأمينُ حَتَّى وَعَيْتَهُ بِقَلْبِكَ لِتُنْذِرَ بِهِ قَوْمَكَ.(1/3008)
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
(195) - وقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تَعالى هَذا القرآنَ عليكَ بِلسَانٍ عَربيٍّ فَصيحٍ واضِحٍ لِيكونَ بَيِّناً واضِحاً في دَلاَلَتِهِ، قَاطِعاً لِلْعُذْرِ.(1/3009)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
(196) - وقدْ وردَ ذِكْرُ هذَا القُرآنِ والتَّنْويهُ بهِ في كُتُب الأُوَّلينَ المَأْثُورَةِ عن أَنبيَائِهِم الَّذِينَ بَشَّرُوا بهِ في سَالِفِ الأيامِ، كَمَا أخَذَ اللهُ الميثاقَ علِيْهِمْ بأنْ يُؤْمِنُوا بِهِ.
(الزُّبُرُ - الكُتُبُ ومثْلُه قولُهُ تعالى {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر} أيْ إِنَّهُ مُسَجَّلٌ في صُحُفِ المَلاَئِكَةِ) .
زُبُرُ الأولينَ - كُتُبِ الأنْبِيَاءِ السَّابِقينَ.(1/3010)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)
{آيَةً} {عُلَمَاءُ} {اإِسْرَائِيلَ}
(197) - أَوَلَيْسَ يَكْفِيهِمْ شَاهداً على صِدْقِ هَذا القرآنِ أنَّ علماءَ بني إسرائيلَ يَجِدُونَ ذِكْرَهُ في كُتُبِهِمُ التي يَدْرُسُونها، كمَا أخبرَ بذلِكَ مَنْ آمَنَ منهُمْ - مثلُ عبدِ اللهِ بنِ سَلاَّمٍ.(1/3011)
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198)
{نَزَّلْنَاهُ}
(198) - يُخبِرُ اللهُ تَعالى عَنْ عِنَادِ المُشْرِكينَ وَشِدَّةِ كُفْرِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى إنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ هذَا القرآنَ على رَجُلٍ أَعْجَمِيٍّ لا يَعْرِفُ العَرَبيةً، ولا يَستَطيعُ التَّكَلُّمَ بِها.(1/3012)
فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)
(199) - وَكَانَ هذا الأعجمِيُّ لا يَعرِفُ اللُغَةَ العَربيَّةَ، وكُفَّارُ قٌريشٍ يَعِرفُونَ ذَلِكَ منْهُ، ثُمَّ قَرأَ عَلَيِهِمْ هذا الأعجميُّ هذا القُرآنَ قِراءةً صَحيحةً واضِحةً، وهُمْ مُتَأَكِّدُونَ مِنْ أنَّهُ لا يستطيعُ أنْ يأْتِيَ بمِثْلِهِ بَيَاناً وفَضَاحَةً، لَمَا آمنُوا بهِ، ولاسْتَمَرُّوا عَلى كُفْرِهِمْ وعِنَادِهِمْ، ولَوَجَدُوا عُذْرَاً لَهُمْ على اسْتِمْرَارِهِمْ في كُفْرِهِمْ وعِنَادِهِمْ.(1/3013)
كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)
{سَلَكْنَاهُ}
(200) - وقَدْ أدْخَلْنَا الكُفْرَ والتكَّذِيبَ والجُحُودَ في قُلُوبِ الكَفَرَةِ المُكَابِرِينَ المُجْرِمينَ، وَقَرَّرْنَاهُ فِيها، مِثْلَمَا قَرَّرْنَاهُ في قُلوبِ مَنْ هُمْ على صِفَتِهِمْ.(1/3014)
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)
(201) - لِذَلِكَ فإِنًَّهمْ لا يُؤمنونَ بالحَقِّ، ولا يتأَثَّرونَ بالأمورِ الدَاعيةِ إلى الإِيمَانِ، وسَيَظَلُّونَ مُقِيمينَ على كُفْرِهِمْ وعِنَادِهِمْ، حَتَّى يَرَوا العَذَابَ الأَليمَ الذيْ وُعِدُوا بهِ، وحِينَئِذٍ يُؤمِنُونَ ولكنَّ إيْمانَهُمْ في ذلك الحِينِ لا يَنْفَعُهُمْ شَيئاً.(1/3015)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202)
(202) - فَيَنْزِلُ بِهِمُ العذابُ فَجْأةً عَلَى غَيْرِ تَنوَقُّعٍ مِنْهُمْ ولا انْتِظَارٍ، وَهُمْ لا يَشْعُرونَ أنهُ آتيهِمْ.
بغْتَةً - فَجْأةً.(1/3016)
فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)
(203) - وحينَ ينزِلُ بهم العذابُ يَتَمنَّوْنَ أنْ لَوْ أُنْظِرُوا قليلاً ليعْمَلُوا بطاعَةِ اللهِ، وكلُّ كافرٍ ظالمٍ يشعُرُ بالنَّدَمِ حينَ يَرى عُقُوبةَ اللهِ.
هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ - هَلْ نَحْنُ مُمْهَلُونَ لِنُؤْمِنَ.(1/3017)
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204)
(204) - وَيَردُّ اللهُ تَعَالى عَلى هؤَلاءِ المُجْرمين، مُنْكِراً ومُتَهَدِّداً لَهُمْ على قَوْلِهِمْ للرَّسُولِ الكَريمِ اسْتِبْعاداً وتَكْذِيباً {ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} فَيَقُولُ لَهُمْ تَعالى: أَيَسْتَعْجِلُ هؤلاءِ بِعَذابِنَا، ويَسْتَخِفُّونَ بِهِ؟(1/3018)
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205)
{أَفَرَأَيْتَ} {مَّتَّعْنَاهُمْ}
(205) - فَلَوْ أنَّنَا أخَّرْنَاهُمْ وأَنْظَرْنَاهُمْ حِينَاً من الدَّهْرِ، يتَمتَّعُونَ خِلاَلَهُ بما هُمْ فيهِ من النَّعيمِ.(1/3019)
ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)
(206) - وَإِنْ طَالَتْ مُدَّةُ تَمَتُّعِهِمْ، ثُمَّ جَاءَهُمْ أَمْرُ اللهِ، ونَزَلَ بِهِم العَذَابُ الأليمُ الذي كَانُوا يُوعَدُونَ بهِ.(1/3020)
مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)
(207) - فأيُّ شيءٍ يُغْنِي عنهُمْ تَمَتُّعُهُمْ بِطُولِ العُمُرِ، وطِيبِ العَيْشِ؟ وهَلْ يُخَفِّفُ عنهُمْ ما كَانُوا فيهِ منَ النَّعِيمِ شَيئاً مِنَ العَذَابِ، أو يصْرِفَهَ عَنْهُمْ؟ فَعَذابُ اللهِ وَاقعٌ بهِمْ، عاجِلاً أو آجِلاً، ولا خَيْرَ في نَعِيمٍ يعقُبُهُ عذابٌ سَرْمَدِيٌّ.
ما أغْنَى عنهُمْ - أيُّ شيءٍ يُغْنِي عنهُمْ وينْفَعُهُمْ.(1/3021)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208)
(208) - يُخْبِرُ اللهُ تَعالى عَنْ عَدْلِهِ فِي خَلْقِهِ فيقولُ: إنَّهُ لَمْ يُهْلِكُ أُمةً مِنَ الأُمَمِ الخَاليةِ إلاَّ بَعْدَ أًَنْ يُرْسِلَ الرُّسُلَ إليها يُنْذِرونَهُمْ بَأْسَ اللهِ وعِقَابَهُ الأليمَ، إذا اسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وفِسْقِهِمْ وطُغْيَانِهِمْ، ويَدْعُونَهُمْ إلى اللهِ، ويُعَرِّفُونَهُمْ ما فِيهِ النَّجَاةُ من العَذَابِ، لِتَقُومَ عليْهِم الحُجَّةُ.(1/3022)
ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
{ظَالِمِينَ}
(209) - واللهُ تَعالى يُرْسِلُ الرُّسُلَ إليْهِمْ لِيُنْذِرُوهُمْ ويُذَكِّرُوهُم، ويَدْعُوهُمْ إِلى اللهِ، وَاللهُ تَعالى لا يَظْلِمُ أحَداً من خَلْقِهِ.(1/3023)
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)
{الشياطين}
(210) - ثُمَّ يَرُدُّ اللهُ تَعالى عَلَى قَولِ مَنْ قَالَ من المُشْرِكِينَ إنَّ مُحَمَّداً كَاهنٌ، وإِنَّ ما يَأْتِيهِ هُوَ مِنْ نَوْعِ ما تَأْتِي بهِ الشَّياطِينُ إلى الكَهَنَةِ. . فَيَقُولُ لَهُمْ تَعالى: إنَّ القرآنَ لم تَتَنَزَّلْ بهِ الشياطيِنُ ليكونَ كَهَانَةً وسِحْراً.(1/3024)
وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)
(211) - وما يَنْبِغِي لِلشَّياطِينِ أَنْ يَتَنَزَّلُوا بهِ، لأَنَّ من سَجِيَّةِ الشَّياطِينِ الفَسَادَ، وَإِضْلاَلَ العِبَادِ، والقُرآنُ هُدىً، وَبُرهَانٌ عظيمٌ لِلعبادِ على وُجُودِ اللهِ، وَعَلى الخَيْرِ، والحَقِّ، فَبَيْنَهُ وبَينَ الشَّياطِينِ مُنَافاةٌ عظيمةٌ.
ثمَّ يقولُ تَعالى إنَّهمْ لا يَسْتَطيعُونَ حَمْلَهُ ولا تَأْدِيَتَهُ، لأَنَّ حَمْلَ القُرآنِ لَيْسَ بالأَمرْ السَّهْلِ. ثُمًَّ إِنَّهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَعْزلٍ عنِ اسْتِمَاعِ القرآنِ حَال نُزُولِهِ، كَمَا جَاءَ في الآيةِ التَّالِيَةِ.(1/3025)
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
(212) - والشَّياطِينُ مَعْزُولونَ عنِ استْمَاعِ حَرْفٍ واحِدٍ من القُرآنِ لِئلاَّ يَشْتَبِهَ الأمْرُ، وهَذا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ ومِنْ حِفْظِهِ لِشَرْعِهِ، وَتأْيِيدِهِ لِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ.(1/3026)
فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
(213) - يَأْمُرُ اللهُ تَعالى عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ بعبادَتِهِ وحْدَه لا شريكَ لهُ، ويُخْبِرُهُمْ أنَّهُ مَنْ أشرَكَ باللهِ عَذَّبَهُ. وجَاءَ الخِطَابُ للرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم والمَقْصُودُ بِهِ أُمَّتَهُ لأنَّ الرَّسُولَ معصومٌ من ذَلِك.(1/3027)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
(214) - يَأمُرُ اللهُ تَعالى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِأْنَ يُنْذِرَ عَشِيرَتَهُ الأَدْنَيْنَ لَهُ، وأَنْ يُعْلِمَهُمْ أنَّهُ لا يَنْفَعُ أحَداً منُهمْ يَوْمَ القِيامةِ إِلا إِيمانُهُ بربِّهِ، وعَمَلُه الصَّالحُ.(1/3028)
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)
(215) - ويَأْمُرُ اللهُ تَعالى رسُولَه محمداً صلى الله عليه وسلم، بأنْ يُلِينَ جَانِبَهُ لِمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ عِبادِ اللهِ المُؤمنينَ، وأَنْ يَتَرَفَّقَ بِهِمْ، فَذَلِكَ أَدْعَى لاِخْلاصِهِمْ للرّسُولِ، ولِزِيَادَةِ مَحَبِتَّهِ.
اخْفِضْ جَنَاحَكَ -أَلِنْ جَانِبَك وتَواَضَعْ.(1/3029)
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)
(216) - فإِنْ عَصَاكَ مَنْ أَنْذَرْتَهُمْ مِنْ عشيرَتِكَ الأدْنينَ فلا ضَيْرَ عَلَيْكَ، فَقَدْ أَدَّيْاَ مَا أُمِرْتَ بهِ، وقُلْ لَهُمْ إنِّي بَرِيءٌ منكُمْ، وممَّا تَدْعُونَ مِنْ دونِ اللهِ.
(وفي الحَديثِ: " والذِي نَفْسي بيدِهِ لا يسْمَعُ بِي أحدٌ من هذِه الأُمةِ يَهودِيٌّ ولا نصرانيٌّ ولا يؤمنُ بي إلا دَخَلَ النارَ ") . (رواه مسلم) .(1/3030)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
(217) - وتوكَّلْ على اللهِ القويِّ العزيزِ، في جميعِ أُمُوْرِكَ، فإِنَّهُ مُؤَيِّدُكَ وحَافِظُكَ وناصِرُكَ، ومُظْفِرُكَ ومُعْلِي كَلِمَتِكَ بِعِزَّتِهِ ورَحْمَتِهِ.(1/3031)
الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)
{يَرَاكَ}
(218) - الذِي يَرَاكَ في تَقَلُّبِكَ وفي جميعِ حَالاَتِك.(1/3032)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
{الساجدين}
(219) - وَيَرَاكَ وأنْتَ تَتَقَلَّبُ في صَلاتِكَ وتُؤمُّ المُصَلِّين.
(وقالَ ابْنُ عَباسٍ إنَّ المَعْنى هُوَ: تُقَلُّبُهُ عَلَيهِ السَّلامُ مِنْ صُلْبِ نبيِّ إلى صُلْبِ نبيٍّ، حَتَّى أخْرَجهُ اللهُ تعالى نَبِياً) .(1/3033)
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
(220) - وهُوَ تَعالى السَّميعُ لأَقوالِ العِبَادِ، العَليمُ بحرَكَاتِهِمْ وسكَناتِهِمْ، ونِيَّاتِهِمْ.(1/3034)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)
{الشياطين}
(221) - زعَمَ بعضُ المُشركينَ أنَّ ما جَاءَ بهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليسَ بِحَقٍّ، وأنَّهُ شيءٌ افْتَعَلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وأتَاهُ بِهِ رِئيٌّ مِنَ الجَانِّ.
وَيَرُدُّ اللهُ تَعالى عَلَى هَؤلاءِ المُفْتَرِينَ مُنَزِّهاً رَسُولَهُ الكَريمَ عَنْ قولِهِمْ وافْتِرَائِهِمْ، ومُنَبِّهاً إلى أنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ إنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وليْسَ مِنْ قِبَلِ الشَّيَاطينِ، لأنَّ الشَّياطِينَ إنَّمَا تَتَنَزَّلُ عَلى مَنْ يُشَاكِلُهُمْ ويُشَابِهُهُمْ مِنَ الكهَّانِ الكَذَبَةِ الفَسَقَةِ.(1/3035)
تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)
(222) - إِنَّهُمْ يَتَنَزَّلُونَ عَلَى كُلِّ كَاذِبٍ (أَفَّاكٍ) فَاجِرٍ كَثيرِ الإِثْمِ مِنَ الكَهَنَةِ.
أَفَّاكٍ أَثيمٍ - كَثِيرِ الكَذِبِ والإِثْمِ.(1/3036)
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
(223) - ويَسْتَرِقُ الشَّياطينُ السَّمْعَ منَ السَّمَاءِ فيَسْمَعُونَ الكَلِمَةِ منْ عِلْمِ الغَيْبِ، فَيَزِيدُونَ فِيها الكَذِبَ مِنْ أنْفُسِهِمْ، ويُلْقُونَهُ إلى أوْلِيَائِهِمْ مِنَ الإِنْسِ، فَيُحَدِّثُونَ بِهِ، ويَزِيدُونَ فيهِ مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ، فَيُصدِّقُهُمْ النَّاسُ في كُلِّ ما قَالُوا بِسبِبِ صِدْقِهِمْ في تِلكَ الكلمَةِ التي سُمِعَتْ مِنَ السَّماءِ. ومُحَمَّدٌ رَجُلٌ لا يَكْذِبُ، فلا سَبِيلَ إلى مُقَارَنَتِهِ بِالكَهَنَةِ الكَذَّابيْنَ.(1/3037)
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)
{الغاوون}
(224) - قَالَ المُشْرِكُونَ: إنَّ مُحَمَّداً لَشاعرٌ، وقالوا: إن القرآنُ شِعْرٌ فأنزَلَ اللهُ تَعالى هذهِ الآيةَ الكريمةَ يُرُدُّ بها على افْتِرَائِهِمْ هَذا، ويقولُ لهمْ إنَّ القرآنَ فيما حَوَاه من حِكَمٍ وأحْكَامٍ، وفي أُسْلُوبِه يَتَنَاقَضُ مع الشِّعْرِ. وإنَّ حَالَ مُحَمَّدٍ يَتَنَافَى مَعَ حَالِ الشُّعْراءِ، فهوَ لا يَنْطِقُ إلا بالحَقِّ والحِكْمَةِ، والصِّدْقِ، ويَتَّبِعُهُ الصَّادِقُونَ المُخْلِصُونَ. والشُّعَراءُ يقولونَ الباطِلَ والزُّورَ، ولا يَتَّبِعُهُمْ إلا الضَّالُّونَ.(1/3038)
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)
(225) - والشُّعَرَاءُ يَخُوضُونَ في كُلِّ لغْوٍ، ويَهِيمُونَ على وجُوهِهِمْ في كلِّ فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الكَلاَمِ، فَهُمْ يَخُوضُونَ مرةً فِي شَتيمةِ فلانٍ، ومَرةً في مَدِيحِ فُلانٍ، فلا يَهْتَدُونَ إلى الحقِّ.
يَهِيمُونَ - يَخُوضُونَ ويَذْهَبُونَ كُلَّ مَذْهَبٍ.(1/3039)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)
(226) - والشُّعْرَاءُ يقُولُونَ مَا لاَ يَلْتَزِمُونَ بهِ في عَمَلِهِمْ، ويَتَبَجَّحُونَ بأقْوَالٍ وأَفْعَالٍ لمْ تَصْدُرْ عَنْهُمْ ولا مِنْهُمْ، فَيتَكَثَّرُونَ بِمَا ليسَ لهُمْ، والرَّسُولُ الذي أُنْزِلَ عليهِ القُرآنُ ليسَ بِكَاهِنٍ، ولا شَاعِرٍ لأنَّ حالَهُ مُنَافٍ لِحَالِ الشُّعَراءِ مِنْ وُجُوهٍ ظَاهِرَةٍ.(1/3040)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
{آمَنُواْ} {الصالحات}
(227) - واسْتَثْنَى اللهُ تَعالى مِنَ الصِّفَاتِ المُتَقَدِّمَةِ الشُّعراءَ الذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَذَكَرُوا الله كَثيراًُ، وتَوَلَّوا الرَّدَّ على الكُفَّارِ الذينَ كانُوا يَهْجُونَ المُؤْمِنِينَ.
(وفي الحَديثِ: " إِنَّ المُؤمنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ ولِسَانِهِ، والذي نَفْسِي بِيدَهِ لَكَأَنَّ مَا تَرمُونَ بهِ نَضحُ النَّبْلِ ") . (أََخرَجهُ الإِمامُ أحمدُ) . وسَيَعْلَمُ الذينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالشِّرْكِ، وهِجَاءِ الرَّسُولِ، كَيفَ يَكُونَ مُنْقَلَبُهُمْ يومَ القيَامَةِ، وفي ذَلكَ اليومِ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ معذِرَتُهُمْ.(1/3041)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)
{آيَاتُ} {القرآن}
(1) - طَاسِينْ وتُقْرأ مُقَطَّعَةً كُلَّ حرفٍ عَلَى حِدَة، واللهُ أَعْلَمُ بِمُرادِه.
هَذِهِ الآياتُ التي أنْزَلَهَا عَليكَ رَبُّكَ يا مُحَمَّدُ، هيَ آياتُ القُرآنِ الجَلِيِّ الوَاضِحِ (المُبِينِ) .(1/3042)
هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
(2) - وهَذَا القرآنُ فيهِ الهُدَى لِمَنْ يُؤْمِنُونَ باللهِ واليَومِ الآخِرِ، وبكتُبِهِ ورُسُلِهِ، وفيهِ البُشْرَى لَهُمْ بِرَحْمَةِ اللهِ.
هدىً - هَادٍ مِنَ الضَّلاَلةِ.(1/3043)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
{الصلاة} {الزكاة} {بالآخرة}
(3) - والمُؤْمِنُونَ حَقَّ الإِيمَانِ هُمُ الذينَ يُقِيمونَ الصَّلاةَ، ويُؤَدُّونَها حَقَّ أَدائِها، وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوالِهِمْ، وَيُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ، وبأنَّ الحَيَاةِ الدُّنْيا، ولِذَلِكَ فإِنَّهُمْ يَبْذُلُونَ جُهْدَهُمْ فِي طَاعَةِ اللهِ، وفي سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ.(1/3044)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
{بالآخرة} {أَعْمَالَهُمْ}
(4) - أمَّا الذينَ يُكَذِّبُونَ بالآخِرَةِ ويَسْتَبْعِدُونَ قِيامَ السَّاعةِ، فقَدْ حَسَّنَ اللهُ لهُمْ في أعيُنِهِمْ أعمَالَهُمْ، ومَدَّ لَهُمْ في غَيِّهِمْ، فَهُمْ يَتِيِهُونَ في ضَلالِهِمْ حَيَارَى (يَعْمَهُونَ) ، ويَحْسَبُونَ أنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً.
يَعْمَهُونَ - يَتَحَيَّرُونَ وَيَتَرَدَّْوْنَ في الضَّلاَلةِ.(1/3045)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
{أولئك} {الآخرة}
(5) - وَهؤلاءِ الكُفَّارُ أعَدَّ اللهُ لَهُمْ أَسْوَأَ العَذَابِ في الدُّنْيا، بِقَتْلِهِمْ وأسْرِهِمْ وفَرْضِ الجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ. . .، وسَيكُونُونَ في الآخِرَةِ هُمُ الخَاسِرِين وحْدَهُمْ.(1/3046)
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
{القرآن}
(6) - وإنَّكَ يا مُحَمَّدُ تَتَلَقَّى مِنْ عندِ اللهِ الحَكيمِ في أمْرِه ونَهْيِهِ، العَليمِ بالأُمورِ جَميعِها، جَلِيلِها وحَقِيرِها، فَخَبَرُهُ هُوَ الصِّدْقُ المَحْضُ، وحُكْمَهُ هُوَ العَدْلُ التَّامُّ.(1/3047)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
{آنَسْتُ} {سَآتِيكُمْ} {آتِيكُمْ}
(7) - واذْكُرْ يا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ خَبرَ مُوسى عَليهِ السَّلامُ حِين سَارَ بأهلهِ مِنْ مَدْيَنَ مُتَّجهاً إلى مِصْرَ، فَضَلَّ الطريقَ في ليلةٍ ظَلْمَاءَ، فَرَأى منَ جَانِبِ وَادي الطُّورِ نَاراً تَتَأَجَّجُ، فَقَالَ لأَهْلِه إِنَّه رَأى نَاراً، وإنهُ سَيَسْأَلُ مَنْ عَلَى النارِ مِنَ النَّاسِ عَنِ الطريقِ أو إنَّهُ سَيَأتِيهِمْ - أَيْ سَيَأْتِي أهْلَهُ - بِقِطْعَةٍ مِنْ نارٍ يُوقِدُونَ بِهَا ناراً لَهُمْ ناراً لَهُمْ يَسْتَدْفِئُونَ عَلَيْهَا مِنْ بَرْدِ تِلْكَ الليلةِ.
آنَسْتُ نَاراً - أبْصَرْتُ إبْصَاراً بَيِّناً.
بِشِهَابٍ قَبَسٍ - بِشُعْلَةِ نَارٍ سَاطِعَةٍ مَقْبُوسَةٍ مِنْ أَصْلِها.
تَصْطَلُونَ - تَسْتَدْفِئًونَ بِهَا.(1/3048)
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
{وَسُبْحَانَ} {العالمين}
(8) - فَلمَّا أتَى مُوسَى النَّارَ لَمْ يَجِدْ عِندَها أَحَداً، وَوَجَدَهَا تَشْتَعِلُ في شَجَرةٍ خَضْراءَ، وَالنَّارُ لا تَزْدَادُ إلا اضْطِرَاماً، والشَّجرةُ لا تزْدادُ إلا اخْضِرَاراً، فتعجَّبَ مُوسَى مِنْ ذَلكَ، فَرَفَعَ رأسَهُ فوجَدَ نُوراً مُتَّصِلاً بِعَنَانِ السَّماءِ، فوقَفَ مُوسى مُتعجِّباً ممَّا يَرى، فَنَادَاه صَوْتٌ قَائِلاً: تَقَدَّسَ مَنْ مَكَانِ النَّارِ، وَمَنْ حَوْلَ مَكَانِهَا (وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ المَعْنى هُوَ تَقَدَّسَ مَنْ حَوْلَ النارِ مِنَ المَلائِكَةِ) ، وَتَنَّزهَ اسمُ اللهِ تعَالى وتقَدَّسَ، وهُوَ الفَعَّالُ لِما يَشَاءُ، وهُوَ الأَحَدُ الصَّمَدُ المُنَزَّهُ عَنْ مُمَاثَلَةِ المحْدَثَاتِ، وهُوَ رَبُّ العَالَمينَ.
بُورِكَ - قَدُسَ وطَهُرَ وَزِيدَ خَيْرُهُ.
مَنْ في النَّارِ ومَنْ حَوْلَها - الذِينَ في ذَلك الوادِي الذِي بَدَا فيهِ النُّورُ.(1/3049)
يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
{ياموسى}
(9) - ثُمَّ أَعْلَمَ اللهُ تَعالَى مُوسَى بَعْدَ ذلِكَ أَنَّ الذيْ يُكَلِّمُهُ، ويُنَاجيهِ هُوَ اللهُ، ربُّّهُ وهُوَ العَزيزُ الذي عَزَّ كُلَّ شيءٍ، وقَهَرَهُ وغَلَبَهُ، وهُوَ الحَكِيمُ في أقْوَالِهِ وشَرْعِهِ وأفْعَالِهِ.(1/3050)
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)
{رَآهَا} {ياموسى}
(10) - ثُمَّ أمَرَ اللهُ تَعالى مُوسَى بأَنْ يُلْقِيَ عَصَاهُ ليُظْهِرَ لَهُ دَليلاً واضِحاً على أنهُ الفاعلُ المختارُ القادرُ على كلِّ شيءٍ. فلما ألْقَى العَصا من يدِهِ انقَلَبَتْ في الحَالِ إلى حَيَّةٍ سَرِيعةِ الحَرَكَةِ كأنَّها جانٌّ (أيْ ضربٌ من الحَيَّاتِ سريعُ الحَرَكَةِ) فلما رَأى موسى ذلِك هَرَبَ خمُسْرِعاً ولمْ يَلْتَفِتْ خَلْفَهُ (ولم يُعَقِّبْ) ، مِنْ شِدَّةِ خَوْفِهِ واضْطِرَابِهِ، فقالَ لهُ اللهُ تَعالى: يَا مُوسى لا تَخَفْ مما تَرَى، فإِنِّي أريدُ أن أصْطِفيَكَ رَسُولاً، وأجْعَلَكَ نَبياً وَجِيهاً، وإنِّي لا يَخَافُ عندِي رُسُلي وأنْبِيائي.
تَهْتَزُّ - تَتَحَرَّكُ.
كأنَّها جانٌّ - كأنَّها حيةٌ خَفيفةُ الحَرَكَةِ.
لمْ يُعَقِّبْ - لم يَرْجِعْ على عَقِيَبْهِ أو لَمْ يَلْتَفِتْ.(1/3051)
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
(11) - ولكنْ منْ ظلمَ نفسَهُ بعَملِ مَا نُهيَ عَنْهُ، فإِنهُ يَخَافُ عِقَابِي، إلا إذا تابَ، وعملَ عَملاً صَالحاً، فإنِّي أَغْفِرُ لَهُ، وأمْحُو ذُنوبَهُ. وفي هذا بِشَارَةٌ عَظيمةٌ للبَشَرِ بأنَّ مَنْ عَمِلَ منْهُمْ سُوءاً ثمَّ تابَ وأقْلَعَ عمَّا كان فيهِ، فإِنَّ الله يتوبُ عليهِ، وَيَغفِرُ لَهُ ذُنُوبَهُ، ويُدْخِلُهُ في رحْمَتِهِ.(1/3052)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
{آيَاتٍ} {فَاسِقِينَ}
(12) - ثمَّ أمَرَ اللهُ تَعالى مُوسى بأنْ يُدْخِلَ يدَهُ في فَتْحَةِ الصَّدْرِ مِنْ ثَوْبِهِ (جَيْبهِ) ، فأدْخَلَهَا وأخْرجَهَا فإِذا هِيَ بيضاءُ تَتَلأْلأُ منْ غَيْرِ سُوءٍ ولا مَرَضٍ. وهَاتَانِ آيتانِ مِنْ تِسْعِ آياتِ أَيَّدَ اللهُ بِهَا مُوسَى، وَجَعَلَهَا بُرْهَاناً لهُ في دَعْوَتِهِ فِرعَونَ وقومَهُ إلى عِبَادَةِ اللهِ، فَقَدْ كَانُوا خَارِجينَ عن طَاعةِ اللهِ (فاسقينَ) إذِ ادَّعى فرعَونُ الأُلُوِهيَّةَ، وَصَدَّقهُ قومُهُ في هذِه الدَّعْوى.
جَيْبِكَ - فَتْحَةِ القَميصِ عِندَ الصَّدرِ.
مِنْ غيرِ سُوءٍ - مِنْ غَيرِ مَرضٍ ولا بَأْسٍ.(1/3053)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)
{آيَاتُنَا}
(13) - فَلَمَّا جَاءَتْ فرعونَ وقومَهُ هذهِ الآياتُ الواضِحَاتُ الظاهِرَاتُ (مُبْصِرَةً) ، جَحَدُوا بِهَا، وعَانَدُوها، وَقَالُوا عَنْها: هذا سِحْرٌُ واضِحٌ بَيِّنٌ.
مُبْصِرَةً - واضِحَةً بَيِّنَةً هادِيَةً.(1/3054)
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
{عَاقِبَةُ}
(14) - وَجَحَدُوا بالآياتِ التي جَاءَتْهُمُ مِنْ عِنْدِ اللهِ على يَدَيْ مُوسى، وكانَ جُحودُهُم بها ظُلْماً منْ عندِ أنفُسِهِمْ، واسْتِكْبَاراً عن اتِّباعِ الحَقِّ (عُلُوّاً) ، وَهمْ يَعلَمُونَ أنّها حقٌّ وصِدْقٌ، وأَنَّ مَنْ جَاءَ بها هُوَ رَسُولُ الهِ حَقّاً وصِدْقاًَ، وإنْ قَالُوا عنهُ: سَاحِرٌ. فأهْلَكَهُمُ اللهُ جميعاً في صَبِيحةٍ واحدةٍ. فانظُرْنا يا محمَّدُ كيفَ كَانَتْ عَاقِبةُ أمْرِ هؤلاءِ المكَذَّبينَ المُفْسِدينَ في الأرض، فاحْذَرُوا يا مَنْ تُكَذِّبونَ مَحمَّداً رَسُولَ اللهِ أنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصَابَهُمْ.
عُلُوّاً - تَرَفُّعاً واسْتِكْبَاراً عنِ الإِيمانِ بِها.(1/3055)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
{آتَيْنَا} {دَاوُودَ} {َسُلَيْمَانَ}
(15) - يُخبِرُ اللهُ تَعالى عَمَّا أنْعَمَ بهِ على عَبْدَيْهِ داودَ وسُليمانَ عَلَيهما السَّلامُ، مِنَ النِّعم والمواهِبِ الجَلِيلةِ، وَمَا جَمَعَ لَهُما من سَعَادةِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، والمُلْكِ والنُّبوَّةِ، فحَمِدَا الله تعالى على فَضْلِهِ، وَأَثْنَيَا عليهِ بما هُوَ أهْلُهُ، لِمَا تَفَضَّلَ بهِ عليهِما من تَفْضيلِهِ إياهُما على كثيرٍ من عبادِهِ بالعِلْمِ والشريعَةِ ودِرَاسَةِ الأحْكَامِ والنُّبُوَّةِ. فقد عَلَّمَ اللهُ داودَ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ، وعَلَّمَ سُليمانَ مَنْطِقَ الطَّيرِ، وَالحيَواناتِ، وَتَسبِيحَ الجِبَالِ، وَسَخَّر لَهُ الجِنَّ والشَّيَاطِينَ.(1/3056)
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
{سُلَيْمَانُ} {دَاوُودَ} {ياأيها}
(16) - وَوَرِثَ سُليمانُ أيَاهُ دَاودَ في المُلْكِ والنُّبُوَّةِ (وَلَيْسَ المُرادُ بالوِرَاثة هُنا وِرَاثةَ المالِ لأَن الأنْبياء لا يُوَرِّثُونَ أَمْوالَهُمْ) . وَأخبرَ سُليمانُ مَنْ حَوْلَهُ بما أنْعَمَ اللهُ عَليهِ، وَبمَا وَهَبَهُ مِنَ المُلْكِ العَظِيمِ، حَتَّى إِنَّهُ سَخَّرَ لهُ الإِنْسَ والجِنَّ والطَّيرَ، وكانَ يعرِفُ سلُغَةَ الطَّيرِ والحَيَوانَاتِ، وَأُعْطِيَ كُلَّ مَا يَحتَاجُ إِليهِ المُلْكُ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ الظاهِرِ البَيِّن عليْهِ.
مَنْطِقَ الطيرِ - فَهْمَ أَغْرَاضِهِ كُلِّها مِنْ أَصْوَاتِهِ.(1/3057)
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
{لِسْلَيْمَانَ}
(17) - وَجُمِعَ لِسُلَيمانَ جُنودُهُ مِنَ الجنِّ والإِنسِ والطَّيرِ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَرَكِبَ فيهمْ في أُبَّهةٍ عظيمةٍ ليُحَارِبَ بهِمْ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ في طَاعَةِ اللهِ، وَكَانَ يَتَولَّى أَمرَ كُلِّ فِئةٍ وازِعُونَ مِنْهُمْ يُلْزِمُونَ كلَّ واحدٍ مَكَانَهُ، لكيْلا يَتَقَدَّمَ عنْهُ في الموْكِبِ، أثْنَاءَ السَّيْرِ.
يُوزَعُونَ - يُحْبَسُ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ حَتَّى يَكْتَمِلَ جَمْعُهُمْ وَيَبْقَوْنَ كُتْلَةً وَاحِدَةً.(1/3058)
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
{وَادِ} {ياأيها} {مَسَاكِنَكُمْ} {سُلَيْمَانُ}
(18) - حَتَّى إِذا مَرَّ سُلَيمانُ بمنْ مَعَهُ مِنَ الجُنْدَ عَلى وَادٍ للنَّمْلِ قَالَتْ نملةٌ لِصَحْبِهَا: ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ، فإِنَّ سُليمانَ وَجُنُودَهُ قَدْ يَحْطِمُونَكُمْ وهُمْ لا يَشْعُرونَ بِوُجُودِكُمْ، وَلا يَفْعَلُونَ من تَحْطِيمِكُمْ.
يَحْطِمَنَّكُمْ - يُدُوسُكُمْ ويُهْلِكُكُمْ.(1/3059)
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
{وَالِدَيَّ} {صَالِحاً} {تَرْضَاهُ} {الصالحين}
(19) - فَفهِمَ سُلَيمانُ مَا قَالَتْهُ النَّملةُ لجمَاعَةِ النَّمْلِ، فَتَبَسَّمَ مُتَعَجِّباً مِنْ حَذَرِهَا، وَمِنْ تَحْذِيرها جَمَاعَتَهَا، وَسُرَّ بما خَصَّهُ الله بهِ مِنْ فَهْمِ قَوْلِها، وَسَأَلَ رَبَّهُ أنْ يُلْهِمَهُ شُكْرَهُ على مَا أنْعَمَ بهِ عليهِ وَعَلى والِدَيْهِ، وأنْ يُيَسِّرَهُ لِلعَمَلِ الصَّالِحِ الذي يَرْضَاهُ اللهُ لَهُ. وَسَأَلَ رَبَّهُ أنْ يَجْعَلَهُ في عِبَادِهِ الصَّالِحينَ، وأنْ يُدخِلَهُ في رَحمَتِهِ.
أوْزِعْنِي - أَلْهِمْنِي واحْمِلْنِي.(1/3060)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)
{الغآئبين}
(20) - قالَ ابنُ عباسٍ: كَانَ الهُدْهُدُ يَدُلُّ سُلَيْمَانَ عَلَى مَواقِعِ الماءِ في بَاطِنِ الأَرضِ فَيَأْمُرُ سُليمانُ الجِنَّ بالحَفْرِ لِيُسْتنبَطَ الماءُ. وفي يومٍ نَزَلَ سليمانُ في أرض فَلاَةٍ فَتَفَقَّدَ لِيَرَى الهُدْهُدَ، فَلَمْ يَرَهُ فَسَألَ عَنْهُ، وقالَ: مَا لِيَ لا أَرى الهُدْهُدَ، هَلْ أخْطَأَهُ بَصَرِي منَ الطَّيْرِ، أمْ إِنَّهُ غابَ فَلَمْ يَحْضُرْ؟ وَلمْ أشْعُرْ بِغَيْبَتِهِ.(1/3061)
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
{لأَذْبَحَنَّهُ} {بِسُلْطَانٍ}
(21) - فَقَالَ سُلَيمانُ إِنهُ سَيُعَذِّبُ الهُدْهُدَ عَذَاباً شَدِيداً بِنَتْفِ ريشِهِ وَتَرْكِهِ لِيَأْكُلَهُ الذَّرُّ والنَّمْلُ، أَوْ إنَّهُ سَيقْتُلُهُ إذا لمْ يَأْتِ بِعُذْرٍ مُقْنِعٍ مَقْبُولٍ (مبينٍ) ، يَبَرِّرُ بِهِ غَيْبَتَهُ.
بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ - بِحُجَّةٍ وَمعْذِرَةٍ تُبَرِّرُ غَيْبَتَهُ.(1/3062)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
{سَبَإٍ} {بِنَبَإٍ}
(22) - فَغَابَ الهُدْهُدُ زَمَناً يَسيراً (فَمَكَثَ غيرَ بعيدٍ) بَعْدَ أنْ سَأَلَ سُليمانُ عنْهُ، ثمَّ جَاءَ فَقالَ لِسُلِيمانَ: لَقَد اطَّلَعْتُ عَلَى مَا لَمْ تَطَّلِعْ عَليهِ أنْتَ وَجُنودُكَ، وَجئتُكَ مِن سَبَأٍ بِنَبَأٍ صَادِقٍ حَقٍّ (يقينٍ) .
بِنَبَأٍ - بِخَبَرٍ.
سَبَأٍ - مدينةٍ في اليَمَنِ.(1/3063)
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
(23) - لقدْ وَجَدْتُ امْرأةً تَملِكُهُمْ، وأُوْتِيَتْ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيا كُلَّ ما يَحتاجُ إليهِ المَلِكُ المُتَمَكِّنُ، ولها سَريرُ مُلْكٍ عَظيمٌ تَجْلِسُ عليهِ (عَرشٌ) ، وهوَ موجودٌ في بِناءٍ ضَخْمٍ تَدْخُلُهُ الشَّمْسُ مِنْ طَاقَةٍ، وتَغْرُبُ مِنهُ منْ طَاقَةٍ أُخْرى فَيَسْجُدونَ لِلشَّمْسِ صَباحاً وَمَسَاءً.(1/3064)
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)
{الشيطان} {أَعْمَالَهُمْ}
(24) - لقدْ وَجَدْتُها وَقَومَهَا يَعبُدُونَ الشَّمْسَ مِنْ دُونِ اللهِ، وَيسْجُدُونَ لَها، وقَدْ أَضَلَّهُمُ الشَّيطَانُ عنِ الطَّريقِ السَّوِيِّ، فهُمْ لا يَهْتَدُونَ إلى الحَقِّ.(1/3065)
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)
{السماوات}
(25) - وقدْ صَدَّهُمُ الشَّيطَانُ عنِ السَّبيلِ السَّوِيِّ حَتَّى لا يَسْجُدُوا للهِ الذِي يُخرِجُ المَخْبُوءَ في السَّماواتِ والأرضِ، وَمَا جَعَلَ فيها من الأَرْزَاقِ: المَطرِ، والماءِ مِنَ السَّماواتِ والنَّبَاتِ مِنَ الأرْضِ، وَيَعْلَمُ مَا يُخفِيهِ العِبَادُ، ومَا يُعْلِنُونَهُ مِنَ الأَقْوَالِ والأَفْعالِ.
الخَبْءَ - المَخْبُوءَ، المَسْتُورَ أَياً كَانَ.(1/3066)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
(26) - فهوَ اللهُ الذي لا إِلَه إلاَّ هُوَ، وَلا تَصْلُحُ العِبَادَةُ إِلاَّ لَهُ، وَهُوَ ربُّ العَرشِ العظيمِ، وَكَلُّ عَرْشٍ وَإِنْ عَظُمَ فَهو دُونَهُ، فَأَفْرِدُوهُ بالطَّاعَةِ، ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً.
" وَيُرْوَى أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ الهُدْهُدِ لأَنَّهُ دَاعِيَةٌ إِلى الخَيرِ، وَإِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالى " (رَوَاهُ أحمدُ وابنُ مَاجَه وأَبو دَاودَ) .(1/3067)
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)
{الكاذبين}
(27) - فَقَالَ سُلَيمانُ للهدهُدِ: سَنَنْظُرُ فيما قُلْتَهُ أَصَدَقْتَ فيما أَخْبَرْتَ بِهِ، أَمْ كَذَبْتَ للتَّخَلُّصِ مِنَ العِقَابِ الذي أوْعَدْتُكَ بهِ؟(1/3068)
اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
{بِّكِتَابِي}
(28) - فَكَتَبَ سُليمانُ كِتَاباً إِلى بلْقِيسَ مَلِكَةِ سَبَأٍ، وأمَرَ الهُدْهُدَ بحَمْلِهِ إليها، وبإِلْقَائِه بينَ يَدَيْها، ثُمَّ أَمَرَهُ بالتَّنَحي عنهُمْ جَانِباً لِيُلاَحِظَ ما ستفْعَلُهُ بالكتابِ، وماذا يكونُ رَدُّهَا عليهِ، فحمَلَ الهُدْهُدْ الكِتَابَ إليْها، وأَلقاهُ بينَ يدَيْها. ولما فَتحتْهُ وقرأَتْهُ، استَدْعَتْ كِبَارَ رِجَالِ دَولَتِها، لتُشَاوِرًهُمْ في الأمْرِ.
تَوَلَّ عنهمْ - تَنَحَّ عنهُمْ قَليلاً.(1/3069)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)
{ياأيها} {الملأ} {كِتَابٌ}
(29) - فَقَصَّتْ على رِجَالِ دَوْلَتِها خبرَ الكتاب الذِي أُلْقِيَ إليْهَا، وَوَصَفَت الكتَابَ بأَنَّهُ كريمٌ، لأنَّها رَأتْ طائِراً يَحْمِلُهُ إليها، وَيُلْقِيهِ بين يديْهَا، ثم يَقِفُ جَانِباً مَتأَدِّباً، وهذا شيءٌ لاَ يَفْعَلُهُ البَشَرُ عَادَةً.(1/3070)
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)
{سُلَيْمَانَ}
(30) - وقدْ جَاءَ في الكِتَابِ إِنًَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ سُليمانَ نَبيِّ اللهِ، وَمُبْاَدَأٌ باسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحِيمِ.(1/3071)
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
(31) - ثمَ طَلَبَ إِليها سُليمانُ في الرِّسَالَىِ أَلاَّ تَتَكَبَّرَ هِيَ وقَوُمُها عَلَيهِ، وأَنْ يَأتُوهُ طَائِعينَ مُسْتَسْلِمِينَ.
ألا تَعْلُوا عَلَيَّ - لاَ تَتَكَبَّرُوا عَلَيَّ.
مُسْلِيمنَ - مُؤْمِنِينَ مُنْقَادِينَ مُسْتَسْلِمِينَ.(1/3072)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)
{ياأيها} {الملأ}
(32) - ولما قَرَأَتْ عَليهمْ كِتَابَ سُلَيمانَ واسْتَشَارَتْهُمْ في أَمْرِهَا، وكَيْفَ تَفَعَلُ، قَالَتْ لَهمْ إِنَّهَا لا تَقْطَعُ بأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدَّوْلَةِ حَتَّى يَجْتَمِعُوا إِليْها، ويُشِرُوا عَلَيها فِيهِ.
تَشْهُدُونَ - تَحْضُرُونَ، أَو تُشِيرُون عليَّ.(1/3073)
قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
{أُولُو}
(33) - فَذَكَّرُوها بأَنَّهُمْ قَوخٌ ذَوُوْ عَدَدٍ وقُوَّةٍ، فإِذَا شَاءَتْ أَنْ تَقْصِدَ سليمانَ لِتُحَارِبَهُ فَهُمْ مَعَها، وَتَحْتَ أمْرِهَا، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى ذَلك لأَنَّهُمْ ذَوُو عَدَدٍ وَعُدَّةٍ وَمَعْرِفَةٍ بالحَرْبِ، ثمَّ فَوَّضُوا الأمْرَ إِليْهَا لِتَتَصَرَّفَ حَسْبَما تَرى فِيهِ المصلحَةَ.
أولُو بأْسٍ - أَصْحَابُ قوةٍ وَبلاءٍ ونَجْدَةٍ في الحُروبِ.(1/3074)
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
(34) - وأَدْرَكَتْ بَلقيسُ أنًَّها لا طَاقَة لَها، ولا لِقَوْمِها، بحَرْبِ سليمانَ، وقدْ لاحَظَتْ ما سَخَّرَهُ اللهُ لَهُ، فقالَتْ لَهُمْ إِنَّهَا تَخْشَى أن يَمْتَنِعُوا عليهِ ويبادِرُوهُ بالعدَاءِ، فيَقصِدهُمْ، ويُهْلِكهُمْ بمنْ مَعَهُ، فَيحِل في بَلَدِهِمْ الخرابُ والدَّمارُ، فإِن الملوكَ إذا دَخَلُوا بَلَداً عَنْوَةً خَرَّبُوهُ وأفْسَدُوه، وجَعَلُوا كِرَامَ أهلِهِ مِنْ قَادَةٍ وكُبَراءَ وأُمَراءَ وشُرَفَاءَ. . أذلةً بالقتْلِ والأسْرِ، وهَذا ما يَفْعَلُونَهُ عَادَةً.(1/3075)
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
(35) - ثمَّ قَالَتْ لَهُمْ: الرَّأْيُ أنْ يَمِيلُوا إلى المَصَالَحَةِ، والمُسَالَمَةِ، وإنَّها سَتُرْسِلُ إلى سُليمانَ بِهَدِيَّةٍ تَلِيقُ بمِثْلِهِ، وسَيَنْظُرونَ حينئذٍ ماذَا سيكونُ عليهِ جوابُهُ، فَلَعَلَّهُ يَقْبَلُ ذَلِكَ، ويَكُفَّ أذَاهُ عَنْهُمْ. (وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ: إنَّها قَالتْ لَهُمْ إِنْ قَبِلَ سُليمانُ الهَدِيَّةَ فهو مَلِكٌ فَقَاتِلُوهُ، وإنِ لَمْ يَقْبَلْهَا فَهُوَ نَبِيّ فاتّبِعُوهُ، لأنَّ النبيَّ لا يَقْبَلُ منْهُم إِلاَّ اتِّباعَ دِينِهِ) .(1/3076)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)
{سُلَيْمَانَ} {آتَانِيَ} {آتَاكُمْ}
(36) - وأَرْسَلَتْ إلى سُلَيْمَانَ بالهَدِيَّةِ فَلَمْ يهتَمَّ بِهَا، وَقَالَ لِمَنْ حَمَلَ إليهِ الهَدِيَّةَ: إنَّكُمْ تُرِيدُونَ بهذِهِ الهَدِيَّةِ مُصَانَعتِي عَلى مَالٍ لأَتْرُكَكُمْ، فما أعْطَانِي اللهُ، مِنَ المالِ والمُلْكِ والجُنُودِ، خَيْرٌ ممَّا آتَاكُمْ وممَّا أنتُمْ فِيهِ وأَنتمُ الذين تَهْتَمُّونَ بالهَدايا والتُّحَفِ، وتَنْقَادُونَ إليْهَا، وَتَفْرَحُونَ بِهَا، أمَّا أنا فلا أقْبَلُ مِنْكُمْ إِلاّ الإِسلاَمَ أَوِ السَّيفَ.(1/3077)
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
{صَاغِرُونَ}
(37) - ثُمَّ أمَرَ سليمانُ الرَّسُولَ بأنْ يرجِعَ إلى بلْقِيسَ، مَعَ جَوابِ سُليمانَ، سَمِعتْ وَأَطَاعَتْ هيَ وقومُهَا، وَسَارَتْ إِليهِ بِجَيْشِهَا وجنودِهَا خاضِعَةً لأَمرِ سُلَيمانَ، وَرَاغِبَةً في مُتَابَعَتِهِ عَلى دِينِهِ، وأَرسَلَتْ تُخبِرُ سُلَيمانَ بقُدُومِها عَلَيهِ.
لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا - لاَ طَاقَةَ لَهُمْ بمقاوَمَتِها.
صَاغِرُون - ذَلِيلُونَ مَقْهُورُونَ.(1/3078)
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)
{ياأيها} {الملأ}
(38) - ولما تَحقَّقَ سُليمانُ مِنْ قُدُومِهِمْ عَلَيهِ طَائِعينَ مُسْتَسلِمينَ فَرِحَ وَكَانَ الهُدْهُدُ قَدْ وَصَفَ لَهُ كُرْسِيَّ المُلْكِ الذي تَجلِسُ بلْقيسُ عَليهِ، وَمَا هُوَ عَليهِ مِنَ الرَّوْعَةِ والبَهَاءِ، فأعجَبَهُ، وَخَافَ أَنَّهُمْ إِنْ أَتَوْهُ مُسْلِمِينَ أَنَّهُ لا يَسْتَطِيعُ أخْذَهُ بَعدَ ذَلكَ، فَجَمَعَ مَنْ تَحْتً يدِهِ منَ الإِنْسِ والجِنِّ وسَألَهُمْ مَنْ مِنْهُمْ يَستطيعُ أنْ يحمِلَ إليهِ عَرْشَها قَبْلَ أَنْ يَأْتُوه مُسْلِمِينَ؟ لِيُريَهَا بَعْضَ مَا أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عليهِ مِنَ القُدْرَةِ والعَجَائِبِ، لِتَعرِفَ صِدْقَ نُبوَّتِهِ.(1/3079)
قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
{آتِيكَ}
(39) - فَقَالَ لَهُ مَارِدٌ مِنَ الجِنِّ إِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يأْتيَهُ بالعَرْشِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ هَذا، وَإِنَّهُ قويٌ عَلى حَمْلِهِ، أًَمينٌ عَلَى مَا فِيهِ منَ الجَواهِرِ.(1/3080)
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
{الكتاب} {آتِيكَ} {رَآهُ} {أَأَشْكُرُ}
(40) - فَقَالَ سُليمانُ لجماعَتِهِ إِنهُ يريدُ أَنْ يأتُوهُ بهِ بأَسرَعَ منْ ذلِكَ، فقالَ لهُ رَجُل يعرفُ اسمَ اللهِ الأَعْظَمِ (عندَهُ عِلمٌ منَ الكِتابِ) إِنهُ مُسْتَعِدٌّ أنْ يأتِيَهُ بهِ قَبْلَ أن تَطْرِفَ عينُهُ وَدَعَا الرّجلُ باسْمِ اللهِ الأَعْظَمِ، فمَثلَ العَرْشُ بينَ يَديْ سُلَيمانَ فَلَمَّا رَآهُ سُليمان ومَنْ حَوْلَهُ مُسْتَقِراً بينَ أيديهمْ قالَ سليمانُ: هذَا مِنْ نِعَمِ اللهِ عليَّ لِيَخْتَبِرَنِي رَبِّي أَأَشْكُرُهُ عَلى نِعَمِهِ أمْ أكفرُ بها؟ ومنْ شَكَرَ وَعَمِلَ صَالحاً فلنفْسِهِ، ومَنْ كَفَرَ فَعَليهِ كُفرُهُ، وَاللهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عنِ العِبادِ، وعَنْ عبادَتِهِمْ.
(وقِيل بَلِ المعْنى هُوَ: أَنَّ سُلَيمانَ قَالَ لِلجِنِّيِّ أنَا أُحْضِرُهُ في لَمْحِ البَصَرِ، وَكَانَ كَما قَالَ، فلما رآهُ أمَامَهُ شَكَرَ ربَّهُ، والأوَّلُ أظهرُ) .
الذي عندَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ - رَجُلٌ أَوْ مَلَكٌ يَعْلَمُ اسْمَ اللهِ الأَعظَمَ يرتَدُّ إليكَ طَرْفُكَ - قَبْلَ أَنْ تُغْمِضَ عَينَكَ ثُمَّ تَفتَحَها.
ليبلوَني - ليَخْتَبِرَني ويَمْتَحِنَنِي.(1/3081)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)
(41) - فأمَرَ سُلَيمانُ بأَنْ يُجْرُوا بَعْضَ التَّغْيِيرِ في هَيئَةِ عَرْشِ بلْقِيسَ ليخْتَبِرَ مَعْرَفَتَهَا، وَثَبَاتَها، عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، وَهَلْ تَستطيعُ أنْ تعرِفَ عَرْشَهَا إذا بُدِّلَ فِيهِ وَنُكِّرَ، أمْ لا تَسْتَطيعُ ذَلِكَ.
نَكِّرُوا - غَيِّرُوا فيهِ وبَدِّلُوا.(1/3082)
فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
(42) - فَلَما وصلتْ بِلقيسُ إِلى سُلَيمانَ، عَرَضَ عليهَا عَرْشَهَا وَقَد غُيِّرَ فيهِ، ونُكِّرَ، وزِيْدَ فيهِ، فَسَأَلها أهَكَذا عرشُكِ؟ ولكِنَّها اسْتَبْعَدَتْ أن يُحْمَلَ عرشُهَا مِنْ تلكَ المَسافاتِ البَعيدةِ، فقالتْ كأَنَّهُ هُوَ، فهُوَ يُشْبِهُهُ ويُقَارِبُه وقيل إِنَّ جَوَابَها هَذا دَليلٌ على رَجَاحَةِ عَقْلِهَا، وفِطْنَتِها وَدَهَائِها، وثباتِ قَلْبَهَا.
وَقَالَ سليمانُ إِنَّهُ أُوتِيَ العِلمَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَهُ بِلْقِيسُ، وإِنَّهُ كَانَ مِنَ المسلِمينَ أَيضاً.
(وقيلَ إِنَّ معْنَى قولِهِ تَعَالى {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا} هُوَ أَنَّ سُليمانَ أرادَ بِذَلِكَ اخْتِبَارَ رَجَاحَةِ عَقْلِهَا، وإِظهارَ المُعْجِزَةِ لَها، فقالَتْ: لَقَدْ أُوُتِينَا العلمَ بكمَالِ قُدْرَةِ اللهِ، وصِدْقِ نُبُوَّتِكَ، مِنْ قَبْلِ هَذه المُعْجِزَةِ، بما شَاهَدْنَاه من أمر الهُدْهُدِ، وبِما سَمِعْنَاهُ من رُسُلِنَا إليكَ من الآياتِ الدَّالَةِ على ذلِكَ، وكنَّا مُنْقَادِينَ لَكَ مُنْذُ ذَلكَ الحِينِ، فَلا حَاجَةَ بِنَا إلى إظْهَارِ مَزِيدٍ من المُعْجِزَاتِ الأُخْرَى) .(1/3083)
وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
{كَافِرِينَ}
(43) - أمَّا هيَ فَقَدْ صَدَّها عنِ الإِيمانِ باللهِ، وعَنِ الإِسْلامِ إليهِ، ما كَانَتْ هِيَ وقَومُها يَعْبُدونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ، وَكَانوا كَافرين.(1/3084)
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
{سُلَيْمَانَ} {العالمين}
(44) - كانَ سليمانُ عليهِ السلامُ قد أمَرَ الشَّياطينَ فَبَنَوْا لَها قَصْراً (صَرْحاً) عَظيماً من زُجَاجٍ، أُجِريَ الماءُ من تحتِهِ، فمَنْ لا يَعْرِفُ أَمْرَهُ يَظُنُّ أَنَّهُ ماءٌ، ولكنَّ الزُّجَاجَ يَحُولُ بينَ الماءِ وبينَ الماشي. ثمَّ قالَ لها سليمانُ: ادْخُلِي الصَّرْحَ لِيُرِيَها مُلْكاً أعَزَّ من مُلْكِها، وسُلْطَاناً أعْظَمَ من سُلْطَانِها، فَلَمّا رأتِ الماءَ تَحْتَ الزُّجَاجِ ظَنَّتْ أنَّهَا سَتَخُوضُ فيهِ، فَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْها لِتَخُوضُ فقَالَ لَها سُليمانُ إِنَّهُ زُجَاجُ، وليسَ ماء، فلَمَّا وقَفَتْ عَلَى سليمانَ عَاتَبهَا على عِبَادَةِ الشَّمسِ مِنْ دُونِ اللهِ، وَدَعَاهَا إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، فأسْلَمَتْ وحَسُنَ إسِلامُها، واتَّبعَتْ دينَ سُليمانَ، وَقَالَتْ: رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بعِبَادَةِ الشَّمسِ، وبِاغْتِرَارِي بِمُلْكِي، وأسْلَمْتُ مَعَ سُليمانَ للهِ ربِّ العالمينَ، وخالقِ كلِّ شيءٍ.
الصَّرْحُ - القَصْرُ أَوِ البِنَاءُ المُرْتَفِعُ.
مُمرَّدٌ - مُملَّسٌ مُسَوَّى.
لُجَّةً - مَاءً غَزيراً أو عَمِيقاً.
مِن قَواريرَ - من زجاجٍ شَفَّافٍ.(1/3085)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)
{صَالِحاً}
(45) - يُخْبِرُ اللهُ تَعالى عَنْ قَوْمِ ثَمودَ وما كانَ من أَمرهمْ مَعَ نبيِّهِمْ صَالحٍ عليهِ السلامُ. حينَ بَعَثَهُ اللهُ إليهم فدعاهُمْ إلى عِبَادَةِ اللهِ وحْدَهُ لا شريكَ لهُ، فآمنَ بهِ، بعضُهُمْ، وكَفَرَ بِهِ بعضُهُمْ، وأصْبَحُوا فَرِيقينِ يخْتَصِمَانِ ويتَجَادَلاَنِ في اللهِ، وفي رسالةِ صالحٍ.(1/3086)
قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)
{ياقوم}
(46) - فقالَ لهُمْ صالحٌ: لماذا تطلبونَ أنْ يُنْزِلَ اللهُ بكُم عقابَهُ وعذابَهُ، ولا تَطْلُبُونَ منَ اللهِ الرَّحْمَة؟ فَهَلاَّ تُبْتُمْ مِنْ كُفْرِكُمْ إليهِ تَعَالى، واستَغْفَرْتُمُوهُ وسَأَلْتُمُوهُ العَفْوَ لَعَلَّهُ يَغْفِرُ لكُمْ ويَرحَمُكُمْ؟(1/3087)
قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
{طَائِرُكُمْ}
(47) - فَقَالُوا لَهُ: إنَّهم تَشَاءَمُوا مِنْ وُجُودِهِ بينَهُمْ، ومِنْ وُجُودِ مَنْ آمَنَ مِنْ قومِهِ (أيْ تَطَيَّرُوا بِهِمْ) . فَقَالَ لهُمْ صَالِحٌ عليهِ السَّلامُ: إِنَّ مَا يُصِيبُكُمْ من خَيْرٍ أو شَرّ مكْتُوبٌ عندَ اللهِ، وهُوَ بقَضَائِهِ وقَدَرِهِ، وليسَ شيءٌ منهُ بِيَدِ غيرهِ تَعالى، فَهُوَ إنْ شَاءَ رَزَقَكُمْ وإن شَاءَ حَرَمَكُمْ. ولكنَّكُمْ قومٌ يختَبِرُكُمْ ربُّكُمْ حينَ أرْسَلنِي إليكُمْ لِيَرَى: أتُطِيعُونَهُ فَتَعْمَلُوا بما أَمَرَكُمْ بهِ، فَتَنَالُوا ثَوَابَهُ، أمْ تَعْصُونَهُ فَتَعْمَلُوا ما نَهَاكُمْ عنهُ، فَيَحِلُّ بِكُمْ عِقَابُهُ.
اطَّيَّرْنَا - تَطَيَّرْنَا وَتَشَاءَمْنَا إذْ أُصِبْنَا بالشَّدَائِدِ.
طَائِرُكُمْ عِنْدَ الله - شُؤْمُكُمْ عمَلُكُم المكتوبُ عليكُمْ عندَ اللهِ.
قَومٌ تُفْتَنُونَ - قَوْمٌ يفتِنُكُم الشَّيَطانُ بِوَسْوَسَتِهِ.(1/3088)
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)
(48) - وَكَانَ في مَدينةِ الحِجْرِ (وهِيَ مَدِينَةُ ثمودَ) تِسعةُ أفرادٍ (رَهْطٍ) مُجْرِمينَ طُغَاةٍ، وكانُوا همْ دُعَاةَ قَوْمِهِمْ إلى الكُفْرِ والضَّلاَلِ، وكانَ من عادَتِهِمُ الإِفسادُ في الأَرضِ، والأَمرُ بالفَسَادِ والضَّلاَلِ، ولَمْ يَكُونوا منَ المُصلِحِينَ، وقَدْ غَلَبُوا على قَومِهِمْ لأَنهمْ منْ رُؤَسائِهِم وَكُبَرائهِم، وَهُم الذِينَ عَقَرُوا النَّاقَةَ، وَهَمُّوا بقَتْلِ صَالحٍ غِيْلَةً.
تِسْعَةُ رَهْطٍ - تِسْعَةُ أشْخَاصِ مِنَ الرُّؤَسَاءِ مَعاً كَأَنَّهُمْ رَهْطٌ.(1/3089)
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
{لَصَادِقُونَ}
(49) - فقالَ أولئِكَ المُفْسِدُونَ بعضُهُمْ لبعضٍ: تَعَالَوا نَتَحالَفْ، وَنَتَقَاسَمْ فِيمَا بَينَنَا عَلى أَنْ نَقتُلَ صَالِحاً لَيلاً غِيْلَةً. فَبَعدَ أَنْ قَتَلوا النَّاقَةَ أنذرَهُمْ صَالحٌ بأنهمْ سَيهْلِكُون بعدَ ثلاثةِ أيامٍ، فقالَ بعضُهُم لبعضٍ: هَلُمَّ فلْنَقْتلْ صَالِحاً وأهلَهُ، ثُمَّ لنقُولنَّ إنَّنا لا نَعلمُ شيئاً عَنْ مَصْرَعِهِمْ. فإِذا كانَ صادِقاً فِيمَا يقولُ عَجَّلْنَا بهِ قَبْلَنَا، وإن كانَ كاذباً ألحَقْنَاه بِناقَتِه، وكانَ ذلكَ مكْراً مِنهمْ. فأتَوْهُ ليلاً لِيُبَيِّتُوه فِي أهْلِهِ، فأهْلَكَهُمُ اللهُ تَعالى بالحِجَارَةِ، ولمَّ أَبْطَؤُوا على أَصْحَابِهِمْ أتَى هؤُلاَءِ إِلى مَنْزِلِ صَالِحٍ فَوَجَدُوهُمْ قَدْ رُضِخُوا بالحِجَارةِ، فَقَالَ أهلُهُمْ لصَالحٍ أنْتَ قَتَلْتَهُمْ.
تَقَاسَمُوا - حَلَفُوا بالله.
لَنُبَيِّتَنَّهُ - لَنَقْتُلنَّهُ، غِيْلَةً.
مَهْلِكَ أهْلِهِ - هَلاكَهُمْ.(1/3090)
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)
(50) - وَيَقُولُ اللهُ تَعالى إِنَّهُمْ دَبَّرُوا أمْراً لإِهْلاكِ نَبِيِّ اللهِ صَالحٍ، فَدَبَّرَ اللهُ تَدْبِيراً خَفِيّاً مُحْكَماً أبْطَلَ مَكْرَهُمْ وَتَدْبِيرَهُمْ، وأهْلَكَهُمْ قَبْلَ أن يَصِلُوا إلى صَالِحٍ وأَهلِهِ بأَذىً، وهُم لا يَشْعُرون بأنَّ عينَ اللهِ سَاهِرةٌ تَرْعَى نَبِيَّهُ صَالحاً والمؤمنينَ، وتعرفُ ما يُدَبِّرُهُ هؤلاءِ المُفْسِدُون.
مَكَرَ - دَبَّرَ تَدْبِيراً خَفِيّاً.(1/3091)
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)
{عَاقِبَةُ} {دَمَّرْنَاهُمْ}
(51) - وَكَانَتْ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنْ دَمَّرَ اللهُ المُجرِمِينَ وَأَهْلَكَهُمْ مَعَ قَوْمِهِمْ أَجْمعِينَ، فَلَمْ يُبقِ مِنَ الكُفَّارِ أَحَداً في دِيارِهِمْ.
دَمَّرنَاهُمْ -أَهْلَكْنَاهُمْ.(1/3092)
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)
{لآيَةً}
(52) - وَهذِهِ بُيُوتُهم أَصبَحَتْ خَاوِيةً خَاليةً لا يَسْكُنَها أَحَدٌ، وذلِكَ عِقَابٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لَهُم بِسَبِبِ ظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ. وفِيمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ عَذابٍ وَهَلاَكٍ لَعِبَرَةٌ وَعِظةٌ لِمَنْ يَنَظُرُ وَيَتَفكَّرُ في قُدرَةِ اللهِ وَتَدبِيرِهِ فَيَتَّعِظُ.
خَاوِيَةٌ - خَالِيَةٌ خَرِبَةٌ - أَوْ سَاقِطَةٌ مُتَهَدِّمَةٌ.(1/3093)
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
{آمَنُواْ}
(53) - أَمَّا الذينَ آمنوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ صَالِحٌ، واتَّقَوا رَبَّهُمْ وخَافُوهُ، فَقَدْ أَنْجَاهُم اللهُ تَعَالَى مَعَ صَالِحٍ وَأهلِهِ.(1/3094)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)
{الفاحشة}
(54) - واذكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَومِكَ حَديثَ لُوطٍ مَعَ قَومِهِ إِذْ أَنذَرَهُمْ وَحَذَّرَهُمْ نِقَمَ اللهِ أَنْ تَحلَّ بِهِمْ إِذَا استمرُّوا عَلَى فِعْلِهِم الفَاحِشَةَ التي لَمْ يَسبِقْهُمْ إٍِليها أَحَدٌ مِنَ البَشَرِ، فَقَدْ كَانُوا يَأتُونَ الرِّجَالَ شَهوةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ، ويأتوُنَ الفَاحِشَةَ في نَادِيهِمْ في حُضُورِ الآخَرِينَ، وأَمَامَ أَعيُنِهِمْ (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) .
(وقيلَ بَلِ: المَعْنَى هُوَ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ الفَاحِشَةَ ويعلَمُونَ أَنَّها فَاحِشَةٌ، واقتِرافُ القَبيحِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّ مَا يَفعَلُهُ هُوَ قَبيحٌ، هُوَ أقْبَحُ وأَشْنَعُ.
وأنتُمْ تُبْصِرُون - لاَ تَُبَالُونَ بِإِظْهَارِهَا مَجَانَةً.(1/3095)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
{أَإِنَّكُمْ}
(55) - فإِنَّكُمْ تَأْتُونَ الذُّكُورَ، وَتَذَرُونَ النِّسَاءَ، وهذا فَسَادٌ ومُنْكَرٌ، فَأَنتُمْ مُعتَدُونَ جَاهِلُونَ، لا تُمَيِّزُونَ بَيْنَ الخَبيثِ والطَّيِّبِ، مُتَجَاوِزَونَ حُدُودَ مَا شَرَعَ الله لَكُمْ.(1/3096)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)
{آلَ}
(56) - فَلَمْ يَجِدْ هؤلاءِ المُفْسِدُونَ مَا يَردُّونَ بهِ عَلَى دَعوةِ لُوطٍ لَهُمْ، واستِنْكَارِه، لأَعمالِهِم وفَسَادِهِم، إِلا أَنْ قَالُوا: إِنَّ لُوطاً وأهلَهُ أُناسٌ يَتَطَهَّرُون، وَيَتَوَرَّعُونَ عَنْ مُجَارَاتِكم في فِعْلِ المُنْكَرِ، فَأَخْرِجُوهُمْ من قَريَتِكُم، لأَنَّهُمْ لا يَصْلُحُونَ لمُجَاوَرتِكُمْ.
يَتَطَهَّرُونَ - يَزعُمُونَ التَّنزُّهَ عَمَّا نَفْعَلُ.(1/3097)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57)
{فَأَنجَيْنَاهُ} {قَدَّرْنَاهَا} {الغابرين}
(57) - وَعَزَمُوا عَلَى إٍِخرَاجِ لُوطٍ وَأَهْلِهِ مِنْ قَريَتِهِمْ، فَعَاجَلَهُمُ اللهِ بالعُقُوبةِ، فَدَمَّر عَلَيهِمْ، ولِلكَافِرينَ أمثَالُهَا، وَأَنَجى اللهُ لُوطاً وأَهلَهُ والمُؤمنينَ مَعَهُ، إِلاّ امرأَتَهُ فَقَدْ قَضَى اللهُ بهَلاَكِهَا، لأَنَّها كَانَتْ رَاضِيَةً بأَفعَالِ قَومِهَا القَبِيحَةِ فَكَانَتْ تَدُلُّ قَومَها عَلَى أَضْيَافِ زَوْجِهَا لُوطٍ ليَأتُوا إِليهِمْ لِفعلِ المُنكَرِ مَعَهُمْ.
مِنَ الغَابِرينَ - بِجَعلِهَا مِنَ البَاقِينَ فِي العَذَابِ أَوِ الهَالِكِينَ.(1/3098)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
(58) - فَأَمطَر اللهُ على قَريةِ قَوْمِ لُوطٍ (وهيَ سَدُومُ عَلَى قَولٍ) حِجَارَةً، وَخَسَفَ بِهِم الأَرضَ فَدَمَّرَهُمْ تدمِيراً، ولمْ يَنْجُ أَحَدٌ مِنْهمْ مِنَ العُقُوبةِ، بعدَ أنْ أَمَر الله تعالَى لُوطاً وأَهلَهُ ومَنْ آمَنَ مَعَهُ، بالخُرُوجِ مِنْهَا والاتِّجَاهِ إِلى حَيثُ أَمرهُمُ اللهُ، فبِئْسَ ذلِكَ المَطَرُ مَطَرُ الذِينَ أًَنذَرَهُمُ اللهُ بالعِقَابِ الأَلِيمِ.
مَطَراً - حِجَارَةً مُهِلكَةً، تَنزِلُ عَلَيهِمْ مِنَ السَّمَاءِ كَأَنَّها المَطَرُ.(1/3099)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
(59) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِأنْ يَحْمَدَ رَبَّهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلائِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وهيَ نِعَمٌ لاَ تُعَدُّ وَلا تُحْصَى، وَعَلَى مَا اتَّصَفَ بِهِ تَعَالى مِنَ الصِّفَاتِ الحَميدَةِ، والأَسْمَاءِ الحُسنَى، وَأَنْ يُسَلِّمَ عَلَى عِبَادِ اللهِ الذِينَ اصْطَفَاهُمْ رَبُّهُم، واخْتَارَهُمْ لِحَمِلِ رَسَالاَتِهِ (وَهُمْ الرُّسُلُ الكِرَامُ والأَنبِياءُ عَلَيهِمِ السَّلاَمُ، ومَنِ اصْطَفَاهُمُ الله لنُصْرةِ الرُّسُلِ) .
ويُنكِرُ اللهُ تَعَالَى المُشرِكِينَ عِبَادَتَهُم آلهةً مَعَ اللهِ. ثُمَّ يَسأَلُهُم، مُستَنْكِراً، مَنْ هُو خيرٌ وأَفْضَلُ: أَهوَ اللهُ الحَقُّ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ، وَمُدَبِّرُ الكَوْنِ، وَمَنْ فِيهِ، وَرازِقُ المَخلُوقَاتِ، أَم الأَصنَامُ التي لاَ تَمْلِكُ لنَفسِها وَلا لِغَيرِهَا نَفْعاً ولا ضَرّاً وَلا مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً؟(1/3100)
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
{أَمْ مَنْ} {السماوات} {حَدَآئِقَ} {أإله}
(60) - واسْأَلْهُمْ هَلْ عِبَادَةُ مَا تَعبُدُونَ يَا أَيُّها المُشرِكُونَ مِنْ أَوثَانٍ وأَصنَامٍ، لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، خيرٌ أًَمْ عِبَادَةُ اللهِ الذي خَلَقَ السَّمَاواتِ في ارتِفَاعِهَا وَعَظَنَتِها، وَمَا جَعَلَ فِيها مِنَ الكَواكِبِ والنُّجُومِ والأَفْلاكِ الدَّائِرَةِ، وَخَلَقَ الأَرضَ وَمَا فِيها مِنْ بِحَارٍ وَجِبالٍ وأَنهارٍ وأَشْجَارٍ ومخلُوقَاتٍ. . وأَنزَلَ لَكُمُ المَطَرَ مِنَ السَّماءِ فرَوَّى بهِ الأَرض فَأَنْبَتَتِ الزُّرُوعَ والأَشْجَارَ والثِّمَارَ، وَلَمْ يَكُن الإِنْسَانُ قَادِراً عَلَى أَنْ يُنْبِتَ مِنْهَا شَيئاً؟
إِنَّكَ إِنْ سَأَلتَهُمْ هَذَا السُّؤَالَ فَسَيقُولُونَ إِنَّ الذِي فَعَلَ ذَلِكَ هُو اللهُ، وسَيقُولُونَ إِنَّهُ ليسَ هُنَاكَ أَحَدٌ مَعَ اللهِ قَامَ بِعَمَلِ شَيءٍ مِنَ الخَلْقِ والتَّدبِيرِ، وَإِنَّهُ المُتَفَرِّدُ بِكُلِّ ذَلِكَ. فَقُلْ لَهُمْ: كَيفَ تَعبُدُونَ مَعَهُ غيرَهُ إذاً، وَهُوَ المُستَقِلُّ المُتَفَرِّدُ بِالخَلْقِ والتَّدبِيرِ، وَهؤُلاءِ الذينَ تَعْبُدُونَهُمْ لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شيءٍ مِنْ ذَلك كُلِّهِ؟
حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ - بَسَاتِينَ ذَاتَ حُسْنٍ وَرَوْنَقٍ.
قَومٌ يَعدِلُونَ - يَنْحَرِفُونَ عَنِ الحَقِّ إِلى البَاطِلِ.(1/3101)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
{أَمْ مَنْ} {خِلاَلَهَآ} {أَنْهَاراً} {رَوَاسِيَ} {أإله}
(61) - واسأَلْهُمْ: هَلْ عِبَادَةُ مَا تَعبُدُونَ مِنَ الأَوثانِ والأَصْنَامِ، التي لا تَضُرُّ وَلاَ تَنفَعُ خَيرٌ أمْ عِبَادَةُ اللهِ الذي جَعَلَ الأَرضَ مُسْتَقَرّاً للبَشَرِ وَالمَخْلُوقَاتِ، وَجَعَلَ فِيهاه أنهاراً يَنْتَفِعُونَ بِها في شُربهِمْ وَسَقْيِ أنعَامِهِم وريِّ زُرُوعِهِمْ؟ وَجَعَلَ فِيها جبَالاً رَاسِيَاتٍ تُرسِي الأًَرْضَ وَتُثَبِّتُها لِكيلا تَمِيدَ وَتَضْطَرِبَ بِمَنْ عَلَيها، وَجَعَلَ بَينَ المِيَاهِ العَذَبَةِ والمَلِحَةِ حَاجِزاً يَمنَعُها مِنَ الاختِلاَطِ لِكَيلا يَفْسُدَ المَاءُ العَذْبُ، فَيمتَنِعَ عَلى الإِنسانِ والحَيَوانِ والنَّبَاتِ الانتِفَاعُ بهِ، وَجَعَلَ البِحَارَ مَلِحَةً لأَنها سَاكِنَةٌ، وَلولا مُلُوحَتُها لَفَسَدَتْ.
إِنَّهُمْ سَيَقُولُونَ إِنَّ الذِي فَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ هُوَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحْدَهُ، ولا شَرِيكَ لَهُ فِيهِ. فَقُلْ لَهُمْ كَيفَ تعبُدُونَ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى لاَ تَسْتَطِيعُ فِعْلَ شيءٍ مِنْ ذَلك كُلِّه؟ ولكِنَّ أَكثَرَهُمْ جَاهِلُونَ عَظَمَةَ اللهِ، وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ (لاَ يَعْلَمُون) .
الأرضَ قَرَاراً - مُسْتَقرّاً بالدَّحْوِ والتَّسْوِيَةِ.
رَوَاسِي - جِبَالاً ثَوَابِتَ لكَيلاَ تَضْطَرِبَ بِمَنْ عَلَيهَا.
حَاجِزاً - فَاصِلاً يَمْنَعُ اختِلاَطَهُما.(1/3102)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)
{أًَمْ مَنْ} {أإله}
(62) - واسأَلهُم هَلِ الذِينَ تُشرِكُونَهُم في العِبَادَةِ مَعَ اللهِ خَيرٌ، وَهُمْ لا يَضُرُّونَ وَلا يَنفعُونَ، أَمْ مَنْ يُجيبُ دَعوَةَ المُضْطَرِّ عِنْدَ الشَّدَّةِ إِذا دَعَاهُ لِيَكشِفَ عَنْهُ مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ، وَمَنْ يَجْعَلُ أُمَما في الأَرْضِ قَرْناً بَعْدَ قَرنٍ، وَجيلاً بَعْدَ جِيل، وَلو شَاءَ لخَلَقَهُمْ أَجمَعِين، ولَمْ يَجْعَلْ بعضَهُم مِنْ ذُرِّيَّةِ بعضٍ، ولو فَعَلَ ذَلِك لضَاقَتِ الأرضُ بالبَشَرِ، ولضَاقَتْ عَليهِم مَعَايِشُهُمْ وَأَرزَاقُهُمْ، ولكِنّ حِكمَتَهُ اقتَضَتْ أن يَخْلُقَهُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَأ، يَجْعَلَهُمْ أُمماً يَخْلُفُ بَعْضُهُم بَعْضاً، حَتَّى يَنْقَضِيَ الأَجَلُ وَيَعُودَ النَّاسُ إِلى اللهِ تَعَالى يَومَ القِيامَةِ، وَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ غيرُ اللهِ تَعَالى؟ فَهَلْ هُنَاكَ إِلهٌ مَعَ اللهِ، وَهَلْ تَدْعُونَ مَعَ اللهِ إلهاً غَيرَهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ اللهُ؟ فَمَا أقَلَّ تَذَكُّرَكُمْ أنْعُمَ اللهِ عَلَيكُم التِي يُرشِدُكُم بِها إِلى الحَقِّ، وَيَهدِيكُمْ بِها إلى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ؟(1/3103)
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
{أَمْ مَنْ} {ظُلُمَاتِ} {الرياح} {أإله} {تَعَالَى}
(63) - وَمَنْ تُشرِكُونَهم فِي العِبَادَةِ مَعَ الله خَيرٌ أَمِ اللهُ الذي يُرشِدُكُم في ظُلُمَاتِ البَرِّ والبَحْرِ إِذا أُظلَمَتْ عَلَيكُمُ السُّبُلُ، فَضَلَلْتُمُ الطَّريقُ، بِمَا خَلَقَ اللهُ مِنَ الدَّلائِلِ السَّماوِيَّةِ، والعَلاَمَاتِ الأَرضِيَّةِ؟ وَمَنْ يُرسِلُ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ بالسَّحَابِ المُثْقَلِ بِالمَطَرِ الذي يُغِيثُ بهِ العِبَادَ المُجدِبينَ القَانِطِينَ؟ فَهَلْ هُنَاكَ إِلهٌ آخَرُ غيرُ اللهِ يَستَطِيعُ فِعلَ ذَلِكَ؟
إِنَّ اله هُوَ وَحْدَهُ القَادِرُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ وَلا يَقْدِرُ عَلَيهِ غَيرُهُ، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَعَهُ آلهَةً لاَ تَضُرُّ وَلا تَنفَعُ وَلا تَقْدِرُ عَلى شيءٍ؟ فَتَعَالَى اللهُ وَتَنَزَّهَ عَنْ شِرْكِ المُشرِكِينَ وَكَذِبِهِمْ.
رَحْمَتِهِ - المَطَرِ الذي تَحْيَا بِهِ الأَرضُ.(1/3104)
أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
{أَمَّن} {يَبْدَأُ} {أإله} {بُرْهَانَكُمْ} {صَادِقِينَ}
(64) - وَاسْأَلْهُمْ هَلِ الذينَ تُشْرِكُونَهُمْ بالعِبَادَةِ مَعَ اللهِ خيرٌ أَمِ اللهُ الذي يَبْدَأُ الخَلْقَ، بِقُدْرَتِهِ وَسُلطَانِهِ، وَيَبتَدِعُهُ عَلى غيرِ مِثَالٍ سَبَقَ، ثُمَّ يُفْنِيهِ إِذا شَاءَ مَرَّةً أُخْرَى، وَهُوَ الذِي يَرزُقُكُمْ بِإِنزالِ المَطرِ مِنَ السَّماءِ فَيُخرجُ لكُم منَ الأَرضِ زُرُوعاً وَثِماراً ونَبَاتَاتٍ، وثِمَاراً ونَبَاتَاتٍ، تَنْتَفِعُ بِها الأَنْعَامُ والمَخلُوقَاتُ والبَشَرُ، فَهلْ إٍِلهٌ آخرُ مَعَ اللهِ فَعَلَ هذا؟ أَمْ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ؟ فإِذا ادَّعيُتُمْ أَنَّ آلِهَةً أُخْرى فَهَاُوا بُرْهَانَكُم عَلَى صِحَّةِ مَا تَقُولُونَ مِنْ وُجُودِ هذِهِ الآلِهَةِ الأُخْرَى التِي تَستَطيعُ أَنْ تَخلُقَ وَتَرْزُقَ؟(1/3105)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
{السماوات}
(65) - يَأْمُرُ الله تَعالى رَسُولَه صلى الله عليه وسلم بأَنْ يُعْلِمَ الخَلائِقَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ أَهلِ السَّماواتِ والأرضِ الغَيبَ، وإِنَّما يعلَمُهُ اللهُ وَحْدَهُ، وَعِنْدَهُ وَحْدَهُ مَفَاتِيحُ الغَيبِ، لاَ يعلَمُها إلاَّ هُو، وَلا يَشْعُرُ الخَلاَئِقُ المَوْجُودُونَ في السَّماواتِ والأَرْضِ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ ومَتَى يَبْعَثُ اللهُ الأَمواتَ مِنْ قُبُورِهِمْ.(1/3106)
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
{ادارك}
(66) - وَقَدْ قَصَّرَ عِلْمُهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَعَجَزُوا عَنْ ذلك وَغَابَ عَنْهُمْ، وَإِنَّ أكثرَ النّاسِ مِنَ الكَافِرينَ في شَكٍّ مِنْ حُدُوثِها وَوَقُوعِها، بَلْ هُم في عَمَايَةٍ وَجَهْلٍ كَبيرينِ مِنْ أمرِها وشَأْنِها.
أدَّارَكَ - عِلْمُهُمْ - تَكَامَلَ واسْتَحْكَمَ عِلْمُهُمْ بأَحوَالِها. وَيقْصدُ تَعَالَى بِقَولِهِ هذَا التَّهكُّمَ عَلَيهِمْ.
عَمُونَ - عُمْيُ البَصَائِرِ.(1/3107)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67)
{أَإِذَا} {تُرَاباً} {َآبَآؤُنَآ} {أَإِنَّا}
(67) - وَقَالَ الكَافِرُونَ باللهِ، وَالمُكَذِّبُونَ لِرُسُلِهِ، المُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ والنُّشُورِ: هَلْ سَنَخْرُجُ مِنْ قُبُورِنا أحياءً كَهَيئتنا مِنْ بعدِ مَمَاتِنا، وَبَعْدَ أَنْ نَكُونَ قَد بَلِينا، وَأَصْبَحَتْ عِظَامُنا تُراباً؟(1/3108)
لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
{َآبَآؤُنَا} {أَسَاطِيرُ}
(68) - وَمَا زِلْنَا نَسْمَعُ بِهذا نَحْنُ وَآباؤُنَا، ولاَ نَرَى حَقِيقَةً لَهُ، وَلاَ وُقُوعاً، وَمَا هذا الوَعدُ بِإِعَادةِ نَشْرِ الأَجسَادِ منَ القُبُورِ بعدَ أَنْ تَصيرَ رُفَاتاً وتُراباً إِلا قَصَصٌ مِنْ قَصَصِ الأوَّلينَ، تَتَنَاقَلُهَا الأَلسُنُ، جيلاً بعدَ جيل، ولا سَنَدَ لها مِنَ الحَقيقةِ ولا ظِلَّ، لأنَّهُ لَوْ كَانَ البَعثُ حَقاً لحَصَلَ.
أَساطيرُ الأوّلينَ - قَصَصُهُمْ وأَكاذِيبُهُم المَسْطُورَةُ في كُتُبِهِمْ.(1/3109)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)
{عَاقِبَةُ}
(69) - فَقُلْ يا مُحَمَّد لهؤلاءِ المُكَذِّبينَ لِلرُّسُلِ وَالمَعَادِ: سِيروا في الأرضِ فانظُروا كَيفَ كَانَتْ نِهَايَةُ الذين كَذَّبوا الرُّسُلَ مِنْ قَبلِكُمْ، وكَفَرُوا بربِّهِمْ، وأَفسَدُوا في الأَرضِ؟ لَقَد دَمَّرَ اللهُ عَلَيهِمْ، وَأْهْلَكَهُمْ، وَنَجَّى رُسُلَهُ والمُؤمنينَ، فاحذَرُوا أَنّ يُصيبُكُم مِثلُمَا أَصَابَهُم، ولسْتُمْ بأَكْرَمَ على اللهِ مِنْهُمْ.(1/3110)
وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
(70) - وَلاَ تَحْزَنْ يا مُحَمَّدُ عَلَى تَولِّي هُؤلاءِ المُكَذِّبينَ عَمّا جِئْتَهُم بهِ، ولا تَأْسَفْ على ألا يكُونوا مُؤمِنينَ، ولا تُذْهِبْ نَفْسَكَ عليهم حَسَرَاتٍ، ولا يَضِيقَنَّ صَدْرُكَ بمَكْرِهِمْ وكَيدِهِمْ وتَكْذِيبِهِمْ لَكَ، فإِنَّ الله مُؤَيِّدُكَ وَناصِرُكَ وُمظْهِرُ دِينِكَ عَلَى مَنْ خَالفَكَ وَعَانَدَكَ.
ضَيْقٍ - حَرَجٍ وضِيقِ صَدْرٍ.(1/3111)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71)
{صَادِقِينَ}
(71) - وَيقُولُ المُشْرِكُونَ مُتَسَائِلين: مَتَى يَكُون يومُ القِيامةِ (أو مَتَى يكونُ هذا العَذاب) الذي تَعِدونَنَا بِهِ، إِنّ كُنتُم صَادقينَ في أنَّهُ كَائِنٌ لا مَحَالَةَ؟(1/3112)
قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)
(72) - فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: عَسَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الذي تَسْتَعجِلُونَ بِهِ قَريباً.
(أَوْ عَسَى أنْ يَلْحَقَكُم وَيَصِلَ إِلَيكُمْ بَعْضُ مَا تَستَعجِلُونَ حُلُولَهُ مِنَ العَذَابِ - أَيْ مَا حَلَّ بِهِمْ يَومَ بدرٍ) .
رَدِفَ لَكُمْ - عُجِّلَ لَكُمْ، أَوْ وَصَلَ إِلَيكُمْ، أَوْ لَحِقَ بِكُمْ.(1/3113)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)
(73) - وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ عَلَى النَّاسِ جَمِيعاً لِتَركِهِ المُعَاجَلَةَ بالعُقُوبَةِ عَلى المَعْصِيَةِ والكُفرِ، وَلكِنَّ أَكثَرَهُمْ لا يَعرِفُونَ حَقَّ فَضلِهِ عَلَيهِم، فَلا يَشكُرُهُ إِلاَّ قَلِيلُونَ مِنْهُمْ.(1/3114)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)
(74) - واللهُ تَعَالى يَعْلَمُ مَا تُسِرُّ صُدُورُهُمْ، وَمَا تُخفِي ضَمائِرُهُمْ، كَمَا يَعْلَمُ الظَّواهِِرَ، وَيَعلَمُ مَا يُعِلِنُونَ.
مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ - مَا تُخفِي وَتَسْتُرُ مِنَ الأَسرارِ.(1/3115)
وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
{غَآئِبَةٍ} {كِتَابٍ}
(75) - وَمَا مِنْ أَمرٍ مَكتُومٍ، وَسِرٍّ خَفِيٍّ، يَغِيب عَنِ النَّاظِرِينَ (غَائِبَةٍ) ، في السَّماءِ ولا في الأَرْضِ، إِلاَّ وَيَعلَمُ اللهُ تَعَالى بهِ، وَقَدْ أَثبَتَهُ في أُمِّ الكِتَابِ، الذِي لا يُغَادِرُ صَغِيرةً ولا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا، وَقَدْ أَثبَتَ فيهِ تَعَالى كُلَّ مَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا سَيَكُونَ من ابتِداءِ الخَلْقِ حَتَّى قِيامِ السَّاعةِ؟
غَائِبَةٍ - مَا غَابَ عَنِ النَّاظِرينَ، وَخَفِيَ عَنْهُمْ.(1/3116)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)
{القرآن} {إِسْرَائِيلَ}
(76) - يُخِرُ اللهُ تَعَالى أَنَّ هذا القُرآنَ قَدْ تَضَمَّنَ كَثيراً مِنَ الأُمُورِ التي اخْتَلَفَ حَولَها بَنُو إِسرائيلَ مِنْ أُمُورِ دينِهِمْ، ومِنْ ولاَدَةِ عِيسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ، وَرِسَالَتِهِ، وَمَا افتَرَوْهُ عَلَى أُمِّهِ مَريَمَ عَليها السّلاَمِ مِنَ الإِفْكِ والبُهْتَانِ، فَجَاءَ القُرآن بالقَولِ الفَصْلِ فِيمَا اختَلَفُوا فِيهِ، وَكَانَ عَلَيهِمْ لَوْ أَنْصَفُوا أَنْ يَتْبَعُوه، وَلكِنَّهُمْ لَمْ يَعْقِلُوا، وَلَمْ يَفْعَلُوا ذلِكَ، عُتُوّاً واسْتِكْبَاراً عَنِ الحَقِّ.(1/3117)
وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
(77) - وَفي هذا القُرآنِ هُدىً لِقُلُوبِ المُؤْمِنينَ إِلى سَبِيلِ الرَّشَادِ، وَرَحمَةٌ لِمَنْ صَدَّقَ بِهِ، وَعَمِلَ بِما فِيهِ.(1/3118)
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
(78) - وَيَومَ القِيامَةِ يَقْضِي اللهُ تَعَالى بَينَ النَّاسِ فِيمَا اختَلَفُوا فيهِ (أَوْ بَينَ بَني إسرائِيلَ وَمَنْ خَالَفَهُمْ فِي أَمْرِ عِيسَى) ، وَقَضَاؤُهُ تَعَالى هُوَ الفَصلُ، ثُمَّ يُجَازِي كُلَّ وَاحدٍ بِمَا يَستَحِقُّهُ مِنَ الجَزَاءِ، وَهُوَ العَزيزُ في انتِقَامِهِ، العَليمُ بأفعالِ العِبادِ وأَقوالِهِمْ.(1/3119)
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)
(79) - فَتَوَكَّلْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى اللهِ رَبِّكَ فِي جَمِيعِ أُمُورِكَ، وَبَلِّغ رِسَالَةَ رَبِّكَ لِقَوْمِكَ، فَإٍنَّكَ عَلَى الحَقِّ الوَاضِحِ الجَلِيِّ (المُبِينِ) ، وإِنْ خَالَفَكَ مَنْ خَالَفَكَ مِمَّنْ كُتِبَتْ عَلَيهِم الشَّقَاوَةُ، وَحَقَّتْ عَلَيهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَلو جَاءتْهُمْ كُلُّ آيةٍ.(1/3120)
إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
(80) - وَكَمَا أَنًَّكَ لاَ تُسمِعُ المَوتَى، كَذلِكَ فإِنَّكَ لاَ تُسمِعُ هؤلاءِ المُشرِكينَ المَعَانِدينَ مَا يَنَفَعُهُمْ، فَقَدْ رَانَتْ عَلَى قُلُوبِهِمْ غِشَاوَةٌ، وَجَعَلَ اللهُ في آذانِهِم وَقْراً، لِذَلِكَ فإِنَّهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ وَلاَ يَعْقِلُونَ وَلاَ يُؤْمِنُونَ.
الصُّمُّ - الذِينَ فَقَدُوا حَاسَّة السَّمعِ.
الدُّعَاءَ - النِّدَاءَ.(1/3121)
وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
{بِهَادِي} {ضَلالَتِهِمْ} {بِآيَاتِنَا}
(81) - وَإِنَّك لاَ تَستَطِيع أَنْ تَهدِيَ مَنْ أَعْمَاهُمُ اللهُ عَنِ الهُدَى والرَّشَادِ فَجَعَلَ عَلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً تَمنَعُهُمْ مِنَ النَّظَرِ فِيمَا جِئْتَ بِهِ نَظَراً يُوصِلُهُمْ إِلى مَعرِفَةِ الحَقِّ، وَسُلُوكِ سَبيلِهِ، وَإِنَّما يَستَجِيبُ لَكَ مَنْ هُوَ سَميعٌ بَصِيرٌ، يَنْتَفِعُ بِسَمِعِهِ وَبَصَرِهِ، وَقَدْ خَضَعَ وَخَشَعَ للهِ، وَوَعَى مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ عَلى أَلسِنَةِ الرُّسُلِ، عَليهِم السَّلاَمُ، فَهؤُلاءِ هُمْ مُسلِمُونَ لأَمرِ رَبِّهِمْ.(1/3122)
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
{بِآيَاتِنَا}
(82) - وفِي آخِرِ الزَّمَانِ، حِينَما يَفْسُدُ النَّاسُ، وَيَتْرُكُونَ أَوَامِرَ اللهِ، وَيَتَبدَّلُونَ الكُفرَ بالدِّينِ الحَقِّ وَالإِيمَانِ، وتَحقُّ عَليهِمْ كَلِمَةُ العَذَابِ، فإِنًَّ اللهَ تَعالى يُخْرِجُ لَهُمْ مِنَ الأَرضِ دَابةً تُخَاطِبُ النَّاسَ وَتُكَلِّمُهُمْ وَتَقُولُ لَهُم: (انَّ النَاسَ كانُوا بآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ) . أَيْ إِنَّهُمْ لاَ يُوقِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ الدَّالَّةِ عَلى قُرْبِ قيامِ السَّاعَةِ، وَظُهُورِ مَقَدِّمَاتِها.
وَقَعَ القَولُ - دَنَتِ السَّاعَةُ وَأَهْوَالُها المَوْعُودَةُ.
دَابَّةً - خُرُوجُها مِنْ أَشْرَاطِ قِيَامِ السَّاعَةِ.(1/3123)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)
{بِآيَاتِنَا}
(83) - يُخبِرُ اللهُ تَعَالى عَنْ يَومِ القِيَامَةِ، وَعَنْ حَشرِهِ الظَّالِمينَ المُكَذِّبينَ رُسُلَ الله وَآياتِهِ، لِيَسْأَلَهُمْ عَمَّا فَعَلُوهُ في الدَّارِ الدُّنْيا، تَقْرِيعاً لَهُمْ، وَتَصْغِيراً وَتَحقِيراً لِشَأنِهِمْ، فَفي ذلِكَ اليَومِ يَحْشُرُ اللهُ مِنْ كُلِّ قَوْمٍ وَأُمَّةٍ جَمَاعَةً مِمَّنْ كَانُوا يُكَذِّبُونَ بآيَاتِ رَبِّهِمْ، وَيْؤْمَرُونَ بِالتِزَامِ أَمَاكِنِهِمْ. (يُوزَعُونَ) لِيَجتَمِعُوا في مَوقِفِ التَّوبيخِ والإِهَانَةِ.
يُوزَعُونَ - يُوقَفُ أَوَائِلُهُمْ لِيَلْحَقَهُمْ أًَوَاخِرُهُمْ ثُمَّ يُسْأَلُونَ.
فَوْجاً - جَمَاعَةً وَزُمْرَةً.(1/3124)
حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)
{جَآءُوا} {بِآيَاتِي} {أَمْ ماذَا}
(84) - حَتَّى إِذا جَاؤُوا وَوَقَفُوا بَينَ يَدَيِ اللهِ تَعَالَى في مقَامِ المُسَاءَلَةِ، وَمُنَاقَشَةِ الحِسَابِ، قَالَ لَهُمُ الرَّبُّ الكَرِيمُ، مُؤَنِّباً وَمُوَبِّخاً عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ كُفْرِ وَتَكذِيبٍ: أَكَذَّبتُمْ بِآياتِي النَّاطِقَةِ بِلِقَاءِ يَومِكُمْ هذا دُونَ تَدَبُّرٍ وَلاَ فَهْمٍ، غَيرَ نَاظِرينَ فِيها نَظَراً يُوصِلُكُمْ إِلى العِلمِ بَحقِيقَتِها، أَمْ مَاذا كُنتُم تَعمَلُون فِيها مِنْ تَصدِيقٍ وَتَكذِيبٍ؟(1/3125)
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)
(85) - وَحَلَّ بأُولئِكَ المُكَذِّبينَ السَّخطُ، وَالغَضَبُ، وَالعَذَابُ، بِسَبَبِ تَكذِيبِهِم بآياتِ اللهِ، فَهُمْ لاَ يْنِطِقُونَ بِحُجَّةٍ يَدْفَعُونَ بِها عَنْ أَنْفُسِهِمْ عَظِيمَ مَا حلَّ بِهِمْ مِنَ العَذَابِ.(1/3126)
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
{الليل} {لآيَاتٍ}
(86) - يُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى هؤلاءِ المُكَذِّبينَ بسُلطَانِهِ العَظِيم، وشَأْنِهِ الرَّفيعِ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّهُ جَعَلَ لَهُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنَ حَرَكَاتُهُمْ فِيهِ، وتَهدَأَ أَنفُسُهُمْ وَيستَرِيحُوا مِنَ العَنَاءِ والتَّعَبِ في نَهَارِهِمْ. وَجَعَلَ النَّهَارَ مُبْصِراً مُشْرِقاً بالنُّورِ والضِّيَاءِ لِيَعْمَلُوا فِيهِ، وَيَتَصَرَّفُوا في مَعَايِشِهِمْ وَمَكَاسِبِهِمْ وأَسْفَارِهِمْ وَتِجَارَاتِهِمْ ومَا يَحتَاجُونَ إِليه مِنْ شُؤُونِهِم. وَفي ذلكَ دَلاَلاَتٌ عَلَى وُجُودِ اللهِ وقُدْرَتِهِ عَلَى البَعْثِ والنُّشُورِ، وعَلى عِنَايَتِهِ ولُطْفِهِ بِعِبَادِهِ.(1/3127)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)
{السماوات} {دَاخِرِينَ}
(87) - وَاذكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِهؤُلاءِ المُكَذِّبِينَ هَوْلَ يَومِ القِيَامَةِ، حِينَ يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى إِسرافِيلَ، عَلَيهِ السَّلاَمُ، فَيَنفُخُ في الصُّورِ، وحِينَما يَسْمَعُ الأَحياءُ مِنَ المَخْلُوقَاتِ ذلِكَ الصَّوت يُصِيبُهُمُ الفَزَعُ، إِلا مَنْ شَاءَ اله مِنْ عِبَادِهِ الأَبْرارِ المُخْلِصِينَ فَإِنَّهمْ لا يُصِيبُهُمُ الفَزَعُ. ثُمَّ يَنفُخُ إِسْرافِيلُ نَفْخَةُ أُخْرَى الصّعْقِ، فَيُصْعَقُ كُلَّ مَنْ سَمِعَهَا مِنَ المَخْلُوقَاتِ. ثُمَّ يَنْفَخُ الثَّالِثَةَ المُؤْذِنَةَ بِالبَعْثِ والنُّشُورِ، فَتَقُومُ الأَجسَادُ لِرَبِّ العِبَادِ، وَيأتُونَ رَبَّهم جَمِيعاً صَاغِرِينَ مُطِيعِينَ لاَ يَتَخَلَّفُ مِنْهُمْ أَحَدٌ عَنْ أمرِ رَبِّهِ.
فَزِعَ - خَافَ خَوْفاً يَسْتَتْبعُ المُوتَ.
دَاخِرينَ - صَاغِرِينَ ذَلِيلِينَ.(1/3128)
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
(88) - وَفي ذَلكَ اليومِ يَرَى النَّاسُ الجِبَالَ ويَحْسَبُونَها ثَابِتَةً في أَمَاكِنَها، وَلكنَّها تَزُولٌ عَنْ أَمَاكِنِها وتَتَحَرَّكُ كَمَا يَتَحرِّكُ السَّحَابُ، وهذا مِنْ فِعلِ اللهِ ذِي القُدْرَةِ العَظِيمَةِ الذي أَتْقَنَ صُنْعَ كُلِّ شَيءٍ خَلَقَهُ، وأَودَعَ فيهِ الحِكْمَةَ، وَهُوَ خَبِيرٌ بِمَا يَفْعَلُهُ عِبَادُهُ مِنْ خَيرٍ وَشَرٍّ، وَسَيُجَازِيهِمْ عَلَيهِ الجَزَاءَ الأََوْفَى.(1/3129)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)
{يَوْمَئِذٍ} {آمِنُونَ}
(89) - زَمَنْ جَاءَ في ذَلِكَ اليَومِ رَبَّهُ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ في الدُّنيا، فَإِنَّ اللهَ تَعَالى يُدْخِلُهُ الجَنَّةَ، وَيُجَنِّبُهُ الفَزَعَ الأَكبرَ الذي يُصِيبُ المُجرِمينَ الأَشقِياءَ في ذلكَ اليومِ.(1/3130)
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
(90) - وَمَنْ جَاءَ رَبَّهُ في ذلِكَ اليَومِ قَدْ أَشْرَكَ به وَعَصَاهُ، وَمَاتَ عَلى ذَلِكَ، فَهِؤُلاَءِ يَكُبُّهُمْ اللهُ تَعَالَى عَلَى وُجُوهِهِمْ في نَارِ جَهَنَّمْ، واللهُ يَجْزِيِهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ، وَيُنزِلُ بِهِمْ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِم السَّيِّئَةِ.
(أَوْ يُقَال لَهُمْ: هَلْ تُجْزَونَ إِلا بِمَا كَنْتُم تَعْمَلُونَ في الدُّنيا مِمَّا يُسْخِطُ رَبَّكُمْ؟) .
كُبَّتْ وُجُوهُهُمْ - أُلْقُوا مَنْكُوسِينَ عَلَى رُؤُوِسِهِمْ.(1/3131)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)
(91) - يَأْمُرُ اللهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بأَنْ يَقُولَ لِهؤُلاءِ المُكَذِّبينَ: إِنَّهُ أُمِرَ بعِبَادَةِ رَبِّ مَكَّةَ التي جَعَلَهَا بَلَداً حَراماً، لاَ يُسْتَبَاحُ فِيها دًمٌ، وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شيءٍ وَمَلِيكُهُ، لا إٍِلهَ إِلاَّ هُوَ، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ رَسُولَهُ بأَنْ يَكُونَ مِنَ المُسلِمِينَ لَهُ، المُوَحِّدِينَ المُخْلِصِينَ لِجَلاَلِهِ.(1/3132)
وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)
{أَتْلُوَ} {القرآن}
(92) - وَقُلْ لَقَدْ أَمَرني رَبي بِأَنْ أَتلُوَ القُرآنَ عَلَى النَّاسِ، وَأْلَلِّغَهُمْ إِياهُ، وَلِي أُسْوَةٌ بَِنْ تَقَدَّمَني مِنَ الرُّسُلِ، الذين أَنْذَرُوا أَقوَامَهُمْ، وَقَامُوا بتأْدِيَةِ الرِّسَالةِ، وَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَيَنْتَفِعُ بِهُدَاهُ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضُرُّ نَفْسَهُ وَلا يَضُرُّ الله شَيْئاً.(1/3133)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
{آيَاتِهِ} {بِغَافِلٍ}
(93) - وَقُلْ لَهُمُ: الحَمْدُ للهِ الذِي لاَ يُعَذِّبُ أَحَداً إِلاَّ بَعْدَ قِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيه، والإِعذارِ إِليِهِ، وإِنَّهُ تَعَالى سَيُظْهِرُ للنَّاسِ آياتِهِ العِظَامَ لِيَعْرِفَهَا النَّاسُ، وَيتَّعِظُوا بِها، وَيَسْتَدِلُّوا بِهَا عَلَى وُجُودِهِ وَعَظَمَتِهِ، واللهُ يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ جَمِيعاً لا يفُوتَهُ شَيءٌ مِنْ أَعمَالِهِمْ، وَلا يَغْفلُ عَنْ شَيءٍ مِنْهُ.(1/3134)
طسم (1)
(1) - طَاسِينْ مِيمْ -
وَتُقْرَأُ مُقَطَّعَةً، كُلُّ حَرْفٍ عَلَى حِدَةٍ، الله أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
{آيَاتُ} {الكتاب}(1/3135)
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
{آيَاتُ} {الكتاب}
(2) - هَذِهِ الآياتُ هيَ آياتُ القُرآنِ الوَاضِحِ الجَلِيِّ، الذي يَكْشِفُ عَنْ أُمورِ الدِّين، وأَخْبَارِ الأَوَّلِينَ، لَمْ تَتَقَوَّلْهُ أَنتَ يَا مُحَمَّدُ، وَلَمْ تَتَخَرَّصْهُ كَمَا زَعَمَ المُشْرِكُونِ.(1/3136)
نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)
{نَتْلُواْ} {نَّبَإِ}
(3) - إِنَّنا نَذْكُرُ لَكَ مَا كَانَ مِنْ أَمرِ مُوسَى وفِرْعَونَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، كَأَنَّكَ شَاهِدٌ حَاضِرٌ، وَلا يَعتَبِرُ بِآياتِ اللهِ إِِلاَّ مَنْ كَانَ مُؤمِناً، وَلَهُ قَلْبٌ وَاعٍ.(1/3137)
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
{طَآئِفَةً} {وَيَسْتَحْيِي}
(4) - لَقَدْ تَكَبَّرَ فِرعَونُ في أَرْضِ مِصْرَ، وَتَجَبَّرَ، وَجَعَلَ أَهْلَهَا فِرَقاً وأَصْنَافاً وأًحزََاباً مَتَعَدِّدَةً (شِيَعاً) ، وأَغْرَى بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ، لِكَيلاَ يَتَّفِقُوا عَلَى أَمرٍ، وَلاَ يُجْمِعُوا عَلَى رَأْيٍ، وَيَسْتَغِلُّ بَعْضَهُمْ لِلْكَيدِ لِبْعَضٍ، فَلا يَصْعُبُ عَلَيهِ خُضُوعُهُم واسْتِسْلامُهُمْ واستَضْعَفَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (طائفةً منهمُ) ، وَكَانُوا أَهلَ الإِيمانِ في ذلِكَ الزَّمَانِ، واستَذَلَّهُم، فَأَخَذَ يَسْتَعْمِلُهُمْ في أًَحَطِّ الأًعمَالِ وأَشقِّها، وَيَقتُلُ الذُّكُورَ مِنْ أَوْلادِهِمْ حِينَ يُولَدُونَ، لأَنَّهُ كَانَ يَخَافُ مِنْ بَني إِسْرَائِيلَ أَنْ يَسْتَولَوا عَلَى المَرافِقِ العَامَّةِ، وأَنْ يَغْلِبُوا الأَقْباطَ إِذا تَكَاثَرُوا وَتَنَاسَلُوا، وَقَدْ كَانَ فِرعَونُ مِنَ الضَّالِينَ المُفْسِدِينَ.
(وَقيلَ إِنَّهُ كَانَ يَقْتُلُهُمْ خَوْفاً مِنْ أَنْ يُولَدَ غُلاَمٌ مِنْهُمْ يَكُونُ سَبَباً في هَلاَكِهِ، وَزَوَالِ مُلْكِهِ، كَمَا فَسَّر لَهُ بَعْضُ الكَهَنَةِ حُلْماً رآهُ) .
عَلاَ في الأرضِ - تَجَبَّرَ وَطَغَى فِي أَرْضِ مِصْرِ.
شِيَعاً - أَصْنَافاً فِي الخِدْمَةِ والتَّسْخِيرِ والإِذْلاَلِ.
يَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ -يَسْتَبِقِي النِّسَاءَ لِلْخِدْمَةِ.(1/3138)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)
{أَئِمَّةً} {الوارثين}
(5) - ولكِنَّ قَضَاءَ اللهِ لاَ مَهْرَبَ مِنْهُ، وَلاَ يَنْفَعُ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، فَوُلِدَ مُوسَى وَتَرَبَّى عَلَى بَني إِسرائيلَ الذينَ كَانَ يَسْتَضْعِفُهُمْ فِرعَوْنُ في أرْضِ مِصْرَ، فَجَعَلَهُمْ أَئِمَّةً، وقُدْوَةً للنَّاسِ في زَمَانِهِمْ، وَأَوْرَاثَهُمُ الأَرضَ المُقَدَّسَةَ التي وَعَدَهُمُ اللهُ بالسُّكْنَى فِيها عَلى لِسَانِ إِبراهيِمَ وَيَعقُوبَ.(1/3139)
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
{هَامَانَ}
(6) - وَمَكَّنَ اللهُ لِبني إِسرَائيلَ في الأرضِ المُقَدَّسَةِ وأَنقَذَهُمْ من عَسَفِ فِرعَوْنَ وطُغيَانِهِ، فَخَرَجَ فِرْعَونُ وَهَامَانُ وجُنُودُهُما، يَتبَعُونَ آثَارَ بَني إِسرَائيلَ، لِضْطَرُّوهُمْ إِلى العَودَةِ إِلى أَرْضِ مِصْرَ، فَأَغْرَقَهُمُ اللهُ تَعَالى وَأَذَاقَهُمْ مَا كَانُوا يَحذَرُونَ مِنَ الهَلاكِ، وضَياعِ المُلْكِ عَلى يَدِ وَلَدٍ يُولَدُ مِنْ بَنِي إِسرَائيلَ.
يَحْذَرُونَ - يَخَافُونَ مِنْ ذَهَابِ مُلْكِهِمْ.(1/3140)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
(7) - لَمَّا أَكثرَ فِرعَونَ القَتْلَ في بَني إِسرائيلَ خَافَ الأَقباطُ أَن يَفْنَى بَنُو إِسرائيلَ، فَيُضْطَرُّ القِبطُ، إِلى القِيامِ بِمَا يَقُومُ بهِ بَنُو إِسْرائيلَ مِنَ الأَعمَالِ الشَّاقةِ، فَقَالُوا لِفرعَوْنَ ذَلِكَ، فَأَمرَ بِقْتْلِ الوِلْدَانِ عَاماً، وَتَركِهِمْ عَاماً، فَوُلِدَ هارُونُ في السَّنةِ التي يَتْركُونَ فِيها الذُّكُورَ، وَوُلِدَ مُوسَى في السَّنةِ التي يَقْتُلُونَ فِيها الذُّكُورَ فَخَافَتْ أُمُهُ عَلَيه، وَضَاقَتْ بهِ ذَرْعاً، وَقَدْ أَحَبَّتْهُ حُبّاً شَديداً (فَفَدْ أَلقى اللهُ تَعَالى مَحَبَّتَهُ في قَلْبِ كُلِّ مَنْ رَآهُ كَمَا جَاءَ في حُبّاً شَديداً (فَقَدْ أَلقى اللهُ تَعَالَى مَحَبَّتَهُ في قَلْبِ كُلِّ مَنْ رَآهُ كَمَا جَاءَ في آيةٍ أُخْرى) فَأَلْهَمَهَا اللهُ أَنْ تَضَعَهُ فِي تَابُوتٍ، وَتَقْذِفَهُ فِي المَاءِ حِينَمَا يَدْخُلُ عَلَيها أَحْدٌ تَخَافُهُ. وَرَبَطَتِ التَّابُوتَ بِحَبْلٍ فإِذا ذَهَبَ مَا تَحْذَرُهُ جَذَبَتِ الحَبلَ وأَخْرَجَتْ مُوسَى مِنَ التَّابُوتِ. وذَات يومٍ دَخَلَ عَلَيها مَنْ تَحْذَرُهُ، فَوَضَعَتْ مُوسَى في المَهْدِ، وَنَسِيَتْ رَبطَ الحَبْلِ، فَذَهَبَ بهِ المَاءُ، واحتَمَلَهُ حَتَّى مَرَّ بهِ أَمامَ دارِ فِرعَونَ. وَقَدْ وَعَدَ اللهُ أُمَّ مُوسَى بمَا يُسلِّيها، ويُطْمْئِنُ قَلبَها، وَهُوَ أَنَّهُ سَيَحفَظُهُ لَهَا، وَسَيَرُدُّهُ إِليها لِتكُونَ مُرضِعَتَهُ، وأَنَّهُ سيَجعَلُهُ مُرْسَلاً إِلى فِرْعوْنَ الطَّاغِيَةِ، وسَيَجْعَلُ على يَدَيهِ هَلاَكَ فِرعَونَ، ونَجَاةَ بَني إِسْرائِيلَ مِمَّا هُمْ فيهِ.(1/3141)
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
{آلُ} {َهَامَانَ} {خَاطِئِينَ}
(8) - فَالتَقَطَتْهُ الجَوَارِي، وَحَمَلْنَهُ إِلى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَكَأَنَّهُ لُقَطَةٌ، فَأَوْقَعَ اللهُ مَحَبَّتَهُ فِي قَلْبِها، وَقَدْ قَدَّرَ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَتَربَّى مُوسَى في دَارِ فِرْعَوْنَ، وَعَلَى فِراشِهِ، لِيكُونَ عُدُوّاً لفرعَونَ وقَومِهِ، وِلتَحِلَّ بِهِم المُصِيبةُ عللا يديهِ، فَقَد كَانَ فِرعَونُ، وَوَزيرُهُ هَامَانُ، وجُنُودُهُما الذينَ لاَحَقُوا بني إِسْرائيلَ، والذِينَ كَانُوا أَداةَ الظُّلْمِ والإِرْهَابِ في يَدِ فِرْعَونَ، جَميعاً مِنْ مُرتكِبي الخَطَايا.
خَاطِئينَ - مُذنِبينَ، آثِمِينَ.(1/3142)
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
{امرأة} {قُرَّةُ}
(9) - فَلَمّا رَآهُ فِرعَونُ هَمَّ بِقَتلِهِ خَوْفاً مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَني إِسْرائيلَ، فَأَخَذَتِ امرأَتُهُ تَسْتَعْطِفُهُ، فَقَالَتْ لَهُ: لاَ تَقْتُلْهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ قُرَّةَ عَيْن لي وَلَكَ، وَقَدْ يَنْفَعُنا أو نَتَّخِذُهُ وَلَداً وَنَتَبَنّاهُ، لأَنَّها لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ. فَقالَ فِرعَونَ إِنَّهُ قُرَّةُ عَيْنِ لَكِ لاَ لِي. فَكَانَ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَكُونُوا يَدْرُونَ مَا أَرَادَهُ اللهُ مِنِ التِقاطِهِمْ إِيَّاهُ مِنَ الحِكْمَةِ العَظِيمَةِ البَالِغَةِ الدَّالةِ عَلى قَدْرَتِهِ تَعَالَى، وَلُفْهِهِ فِي تَهْيِئَةِ الأَسْبَابِ لِمَا يُرِيدُ (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) .
قُرَّةُ عَيْنٍ - مَسَرَّةٌ وَفَرَحٌ.(1/3143)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
{فَارِغاً}
(10) - يُخبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ أُمَّ مُوسَى لَمَّا ذَهَبَ وَلَدُهَا مَعَ المَاءِ أَصْبَحَ قَلْبُهَا خَالياً مِنْ كُلِّ أَمر مِنْ أُمُورِ الدُّنيا إِلاّ مِنَ التَّفْكِير فِيهِ، وَكَادَتْ مِنْ شِدَّةِ وَجْدها وحُزْنِهَا أَنْ تُعْلِنَ أَنَّ وَلَدَهَا ذَهَبَ مَعَ المَاءِ وَأن تُخبِرَ بَحَالِها، لولا أَنَّ اللهَ تَعالى ثَبَّتَها، وَصَبَّرَهَا، وَرَبَطَ عَلَى قَلْبِهَا، لِتكُونَ مِنَ المُوقِنينَ المُصَدِّقِينَ بأَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ، وَأَنَّهُ سَيَرُدُّهُ عَلَيهَا.
فَارِغاً - خَالياً مِنْ كُلِّ مَا سِوَى مُوسَى.
لَتُبْدِي بِهِ - لَتُصَرِّح بأَنَّ ابنَها ذَهَبَ مَعَ المَاءِ لِشِدَّةِ وَجْدِها عَلَيه.
رَبَطْنَا - بِالعِصْمَةِ والصَّبْلاِ والتَّثْبِيتِ.(1/3144)
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
(11) - فَقَالَتْ لاْبْنَتَها: قُصِّي أَثَر أَخيكِ، وَتَتَبَّعِي خَبَرَهُ، فَخَرَجَتْ لِذَلِكَ، فَبَصُرَتْ بهِ عَنْ بُعدٍ بينَ يَدي جَواري آل فِرْعَون، وَهي تَتَجَنَّبُ ظُهُور أَمرِها، وَكَانَتْ تَنْظُر إِليه وَكَأَنَّهَا لاَ تُريدُ ذَلِكَ (عَنْ جُنُبٍ) ، وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ بِأَنَّها أُخْتُهُ، وَأَنَّها كانَتْ تَقُصًُّهُ وَتَتَعَرَّفُ حَالَهُ.
قُصَّيهِ - اتْبَعِي أَثَرَهُ وَتَعَرِّفي خَبَرَهُ.
عَنْ جُنُبٍ - مِنْ طَرَفٍ خفِيٍّ - أَوْ مِنْ مَكَانٍ بعيد.(1/3145)
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)
{نَاصِحُونَ}
(12) - وَلَمَّا اسْتَقَرَّ مُوسَى في دَارِ آلِ فِرْعَونَ، عَرَضُوا عَليهِ المَراضِعَ فَلَمْ يَقْبَلْ أَنْ يَرْضَعَ مِنْ ثَدْيِ امرَأَةٍ مِنْهُنَّ، فَخَرجُوا بِهِ إِلى السُّوقِ لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ امرَأَةً تَصْلُحُ لإِرضَاعِهِ، فَلَمَّا رَاته أُختُهُ في أيدِيهِمْ عَرَفَتْهُ وَلم تُظْهِرْ ذَلِكَ، وَلَم يَشْعُرُوا بِها، فَقَالَتْ لَهُمْ: هَلْ تُريدُونَ أَنْ أَدُلَّكُمْ عَلى أََهلِ بَيتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ حَافِظُونَ؟ فَذَهَبُوا مَعَهَا إِلى أَمِّهَا، فَأعْطَتْهُ ثَدْيَهَا فَالتَقَمَهُ، فَفرحُوا بذلك، وَبَشَّرُوا امْرَأَةَ فِرْعُونَ، فَاسْتَدعَتْ أُمَّ مُوسَ، وأَحْسَنَتْ إِليها، وَهِيَ لاَ تَعرِفُ أَنَّها أُمُّهُ، ثُمَّ سَلأَلَتْها أَنْ تُقِيمَ عِندَهَا لتُرِضِعَهُ فَأَبتْ عَليها، وَقَالَتْ لَها إِنَّ لَهَا زَوْجاً وَأَولاَداً، فَسَمَحَتْ لَها امرَأَةُ فِرعَونَ بأَنْ تَأْخُذَهُ، إِلى بَيِتِها لِتُرْضِعَهُ، وَأَجْزَلَتْ لَهَا العَطَاءَ.(1/3146)
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
{فَرَدَدْنَاهُ}
(13) - فَرَجَعَتْ أُمُّ مُوسَى بِولَدِهَا رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، قَدْ أَبدَلَهَا اللهُ بِخَوْفِها عَلَيهِ أَمْناً، وَأَقَرَّ عَيْنَها فَلا تَحْزَنُ لِفِرَاقِهِ، ولِتَزْدَادَ عِلْماً بأَنَّ مَا وَعَدَهَا بِهِ رَبُّها، مِنْ رَدِّ وَلَدِها إليها، هُوَ وَعْدُ حَقٍّ، وَاللهُ لا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، وَلكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْمَلمُونَ حِكْمَةَ اللهِ في أَفْعَالِهِ، وعَوَاقِبَها المَحْمُودَةَ، فَرُبَّمَا وَقَعَ الأَمرُ كَرِيهاً إِلى النُّفُوسِ، وَعَاقَبَتُهُ حَمِيدَةٌ.
{آتَيْنَاهُ}(1/3147)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
(14) - وَلَمَّا بَلَغَ مُوسَى رُشْدَهُ، وَبَلَغَ حَدَّ الرّجُولَةِ، واسْتَكْمَلَ قُوتهُ البَدَنِيَّة، آتاهُ الله العِلْمَ والحِكْمَةَ، وَهذا جَزَاءُ المُحْسِنينَ عِنْدَ رَبِّهِم، الذِينَ يُطِيعُونَ أَمْرَهُ.
بَلَغَ أَشُدَّهُ - بَلَغَ مَبْلَغَ الرُّجُولَةِ.
اسْتَوَى -اعتَدَلَ عَقْلُهُ وَكَمُلَ.(1/3148)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)
{فاستغاثه} {الشيطان}
(15) - وَدَخَلَ مُوسَى مَدِينَةَ مِصْرَ في وَقتٍ كَانَتْ خَاليةً فِيهِ مِنْ أَهْلِهَا (وقِيلَ إِنَّهُ دَخَلَ في مُنْتَصَفِ النَّهَارِ وَقْتَ القَيلُولَةِ، وَقيلَ أيضاً إِنَّهُ دَخَلَ بَعْدَ الغُروبِ بَعدَ أَنِ انْصَرَفَ النَّاسُ مِنْ أعمَالِهِمْ إِلى بُيُوتِهِمْ) ، فَوَجَدَ رَجُلَينِ يَقْتَتِلاَنِ وَيَتَضَارَبَانِ أَحَدُهُما إِسْرئِيليٌّ (مِنْ شِيعَتِهِ) والآخَرُ قِبْطِيٌّ (مِنْ عَدوِّهِ) فَاسْتَغَاثَ الإِسْرائيليُّ بمُوسى، فَضَرَبَ مُوسَى القِبْطِيَّ بُجْمعِ يَدِهِ، أَوْ بِعَصاً كَانَتْ في يِدِهِ (فَوَكَزَهُ) فَقَضَى عَليهِ. فَقالَ مُوسَى: هذا الذِي حَدَثَ هُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيطَانِ وتَزْيِينِهِ، وَهُوَ العَدُوُّ المُبِينُ للإِنسَانِ، فَينبَغي الحَذَرُ مِنْهُ.
وَكَزَهُ - ضَرَبَهُ بِجمعْ يَدِهِ فِي صَدْرِهِ.(1/3149)
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
(16) - فَاسْتَغَفَرَ مُوسَى رَبَّهُ، وَقَالَ إِنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِقْتْلِهِ الرَّجُلَ، فَغَفَرَ اللهُ لَهُ ذَنْبَهُ، وَعَفَا عَنْهُ. واللهُ هُوَ الغَفُورُ لِذُنُوبِ عِبَادِهِ، الرَّحيمُ بِهِمْ.(1/3150)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
(17) - ثُمَّ قَالَ مُوسى: رَبِّ بِما جَعَلْتَ لِي مِنَ الجَاهِ والعِزِّ، وَبِما أَنْعَمْتَ عَلِيَّ بِعفُوِكَ عَنْ قَتْلِ هذِهِ النَّفْسِ، لأَمْتَنِعَنَّ عَنْ مِثْلِ هذا الفِعْلِ، وَلَنْ أَكُونَ عَوْناً لِلمُجْرِمينَ الكَافِرِينَ بِكَ، المُخَالِفينَ لأمْرِك، وَلَنْ أُظَاهِرَهُمْ عَلَى الإِثمِ والعُدْوَانِ.
ظَهيراً لِلمُجْرِمِينَ - مُعِيناً لَهُمْ(1/3151)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)
{خَآئِفاً}
(18) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ مُوسَى لَمَّا قَتَل القِبْطِيَّ أَصبَحَ خَائِفاً مِنْ مَعَرَّةِ مَا فَعَلَ، يَتَلَفَّتُ وَيَتَوقَّعُ مَا يَكُونُ مِنْ هذا الأمرِ (يَتَرَقَّبُ) ، وَصَارَ يَتَحَسَّسُّ الأًَخبارَ، وَيَسْأَلُ عَمَّا يَتَحَدَّثُ بهِ النَّاسُ في مَوْضُوعِ قَتلِ القِبْطِّي، فَمَرَّ في بعَضِ الطُّرُقِ، فإِذا بالرَّجُلِ الإِسْرائيليِّ الذي استَنْصَرَهُ بالأَمسِ عَلَى ذَلِكَ القُبطيِّ، يُقاتِلُ رَجُلاً قِبطِياً آخرَ ويُخَاصِمُه، فلمَّا مَرَّ بهِ مُوسَى اسْتَصْرَخَهُ الإِسْرائيليُّ طَالباً عَوْنَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: إِنَّكَ لَرجلٌ ظَاهِرٌ الغِواية، كثيرُ الشَّرِّ.
يَتَرَقَّبُ - يَتَوقَّعُ المَكْرُوهَ.
يَسْتَصِرخُهُ - يَسْتَغِيثُ بهِ مِنْ بُعْدٍ.
إنَّكَ لَغَوِيٌّ - ضَال عَنِ الرَّشَدِ.(1/3152)
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
{ياموسى}
(19) - ثُمَّ عَزَمَ مُوسَى عَلى البَطْشِ بِذَلِكَ القِبْطِيَّ، فَظَنَّ الإسرائيليُّ لِجُبِنِهِ، أَنَّ مُوسَى إِنَّما يُريدُ أنْ يَبْطِشَ بهِ هُوَ، وَذَلِكَ بَعدَما سَمِعَهُ مِنهُ مِنَ التَّقرِيع، فَقَالَ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ: يَا مَوسى أَتريدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ ذَلِكَ القِبْطِيَّ يَومَ أِمسِ؟
فَلَمَا سَمِعَ القِبْطِيُّ هذا القَولَ ذَهَبَ بهِ إِلى فِرعَونَ يَشْكُو مُوسَى، فاشْتَدَّ حَنَقُ فِرعَونَ عَلَى مُوسى، وأَرسَلَ الذَّبَاحِينَ إِليهِ لِيقُتُلوهُ.
يَبْطِشَ - يَأْخُذَ بقُوَّةٍ وَعْنْفٍ.(1/3153)
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
{أَقْصَى} {ياموسى} {الناصحين}
(20) - وَجَاءَ رَجُلٌ مُؤمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَونَ يكُتُمُ إِيمَانَهُ، يَعْرِفُ مُوسَى، وَقَدْ سَمِعَ مَا دَارَ مِنْ حَديثٍ بَينَ كُبَراءِ الدَّولَةِ (المَلأَ) فِي حضرةِ فِرعَونَ، وأَنَّ فرعَونَ أَرْسَلَ إِلى مُوسَى مَنْ يَأْتِيهِ بِهِ، فَخَالَفَ الرَّجُلُ الطَّريقَ الذي ذَهَبَ فِيهِ رُسُلُ فِرْعَونَ، وأَسْرَعَ مِنْ طريقٍ آخرَ أَقْرَبَ، فالتَقى بمُوسَى، فقالَ لهُ إِنَّ فِرعَونَ وكُبَراءَ رِجَالِ دَوْلَتِهِ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ قَتلِكَ، جَزَاءَ مَا قَتَلْتَ ذلِكَ القِبْطِيَّ، فاخْرُجْ مِنَ البَلَدِ، وانْجُ بِنَفْسِكَ فَأَنا نَاصِحٌ لَكَ، مُخْلِصٌ في نَصِيحَتِي.
يَسْعَى - يُسرِعُ فِي المَشْيِ.
يَأْتُمِرُونَ بِكَ - يَتَشَاوَرُونَ فِي شَأْنِكَ.(1/3154)
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
{خَآئِفاً} {الظالمين}
(21) - فَخَرَجَ مُوسَى مِنْ مَدِينةِ فِرْعَونَ وَحْدَهُ، يَتَلَفَّتُ خَوْفَ أَنْ يُدْرِكُوهُ، وَهُوَ لَمْ يَأْلَفْ مِثْلَ تِلْكَ المَشَاقِّ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَجَمَاعَتِهِ (القومِ الظَّالِمينَ) ، فَلاَ مَلْجَأَ لِلمْضْطَرِّ إِلاَّ إِليهِ تَعَالَى.(1/3155)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)
(22) - ولَمَّا سَلَكَ الطَّريقَ المُوصِلَ إِلى مَدْيَنَ (وهيَ بَلْدَةٌ قَريبَةٌ مِنَ العَقْبَةِ) فَرِحَ بِذَلِكَ، وَقَالَ عَسَى أَنْ يَهْدِيني رَبِّي إِلى الطَّريقِ الأقَومِ، فَفَعَلَ اللهُ ذَلِكَ وَهَدَاهُ.
تِلْقَاءَ مَدْيَنَ - نَحْوَ مَدْيَنَ - وَجِهَتهَا.
سَواءَ السَّبِيل - الطَّريقَ الوَسَطَ الذي فيهِ النَّجَاةُ.(1/3156)
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
(23) - فَلَمَّا وَصَلَ مُوسَى إِلى مَدْيَنَ وَرَدَ مَاءَهَا، وَكَانَ لَهَا بِئْرٌ يَرِدُهَا رُعَاةُ المَاشِيَةِ، فَوَجَدَ جَمَاعَةً منَ النَّاسِ يَسْقُونَ أَنْعَامَهُمْ وَوَجَدَ امْرأَتَينِ تَكَفْكِفَانِ غَنَمَهُمَا أَنْ تَرِدَ مَعَ أُولِئكَ الرّعَاةِ (أَيْ تَذُوَدَانِ غَنَمَهُمَا عَنِ الوُرُودِ (لئلاّ يُؤْذِيَهُمَا أَحدٌ، فَرَقَّ لَهُمَا قَلْبَ مُوسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ، وَسَأَلهُمَا لِمَاذا لا تَرِدَانِ مَعَ النَّاس؟ فَقَالَتَا: إِنَّهُمَا لاَ تَسْتَطِيعَانِ مُزَاحَمَةَ الرُّعَاةِ، لِذَلِكَ فَإِنَّهُمَا تَنْتَظِرانِ حَتَّى يَخِفَّ الزِّحَامُ عَلَى البِئْرِ، وَيَذْهبَ الرُّعَاةُ بَمَواشِيهِمْ (يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) ، وَحِينئذٍ تَسْتَطِيعَانِ سَقْيَ أَغْنَامِهِمَا، وَهُمَا لَيْسَ لَهُمَا قَرِيبٌ ذَكَرٌ يَسْتَطِيعُ القِيَامَ بِمهمَّةِ السَّقْيِ، وَأَبُوهُمَا شَيخٌ كَبيرٌ لا يَحْتَمِلُ مِثْلَ هذهِ المَشَقَّةِ، لِذَلِكَ تَقُومَانِ هُمَا بِهَا.
تَذُودَانِ - تَمْنَعَانِ أَغْنَامَهُمَا عَنْ وُرُودِ المَاءِ.
مَا خَطْبُكُمَا - مَا شَأْنُكُمَا وَمَا مَطْلُوبُكُمَا.
يُصْدِرَ الررِّعَاءُ - يَنءصِرِفَ الرُّعاةُ بِمَوَاشِيهِمْ عَنِ المَاءِ.(1/3157)
فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
(24) - فَتَولَّى مُوسَى السَّقْيَ لَهُمَا، ثُمَّ جَلَسَ إِلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ هُنَاكَ يَسْتَرِيحُ، وَقَالَ: رَبِّ إِني لَمُحْتَاجٌ إِلى شَيءٍ تُنْزِلُهُ إِلَيَّ مِنْ خَزَائِن جُودِكَ وَكَرَمِكَ.
(وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ مُوسى افْتَقَرَ إِلى شِقِّ تَمْرَةٍ، وَلَصِقَ بَطْنُهُ بِظَهْرِهِ مِنْ شِدَّةِ الجُوعِ، فَجَاءَهُ الفَرَجُ مِنَ اللهِ تَعَالى) .(1/3158)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
{إِحْدَاهُمَا} {الظالمين}
(25) - وَلَمَّا رَجَعَتِ المَرأَتانِ إِلى أَبِيهِمَا بِالغَنَمِ سَرِيعاً عَلَى غَيرِ عَادَتِهِما، سَأَلَهُما عَنْ خَبرِهِما، فَقَصَّتَا عَليهِ مَا فَعَلَهُ مُوسَى عَليه السَّلامُ، فَبَعَثَ إِحدَاهُما لِتَدْعُوَه إِليه. فَجَاءَتْهُ تَمْشِي عَلى اسْتِحياءٍ (أَيْ وهَي مُسْتَحْيِيَةٌ مُتَسَتِّرةٌ) فَقَالَتْ لَهُ مُتَأَدِّبَةً في حَدِيثَها، لِكَيلا يَظُنَّ فِيها السُّوءَ: إِن أَبَاهَا يَدْعُوُ لِيُكَافِئَهُ عَلَى مُسَاعَدَتِهِ لابنَتَيهِ في سَقْي الغَنَمِ، فَسَارَ أَمَامَها، وَهِيَ تَسِيرُ خَلْفَهُ، حَتَّى أَتيا إِلى أَبيها.
وَلَمَّا قَصَّ عَليهِ مُوسَى قِصَّةَ هَرَبِهِ مِنْ فِرْعَونَ، قَالَ الرَّجُلُ (وَقيلَ إِنَّهُ شُعَيْبٌ عَليهِ السَّلامُ) : لاَ تَخَفْ فَقَدْ نَجَوتَ مِنْ فِرْعَونَ وَقَومِهِ الظَّالِمينَ، لأنَّ فِرعَونَ لا سُلْطَانَ لَهُ في هذِهِ الأَرضِ.(1/3159)
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)
{إِحْدَاهُمَا} {ياأبت} {استأجره} {استأجرت}
(26) - فَقَالَتْ إِحدَى ابنَتَيِ الرَّجُلِ لأَبِيها: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ لِرَعيِ الغَنَمِ، فَهُوَ خَيرُ مَنْ يُسْتَأْجَرُ لِمِثْلِ هذِهِ المهمَّةِ فَهوَ قَويٌّ أَمينٌ.
(وقِيلَ إِنَّ أَبَاهَا سَأَلَها: وَكَيفَ عَرَفْتَ أَنَّهُ قَوِيٌّ أَمِينٌ؟ فَقَالَتْ أَمّا إِنَّهُ قَوِيٌّ فَقَدْ رَفَعَ صَخْرَةً تُغَطِّي فُوَّهَةَ البِئْرِ وَحْدَهُ، وَهِيَ لا يُطِيقُ رَفْعَهَا عَشَرَةُ رِجَالٍ. وأَمَّ إِنَّهُ أَمِينٌ فَقَدْ طَلَبَ أنْ يَتَقَدَّمَني فإِذا اختلَفَتَ الطَّريقُ حَذَفْتُ لَهُ بِحَصَاةٍ يَعْلَمُ بِها كَيفَ الطَّريقُ وذلِكَ لِكَيلا يَسِيرَ وَرَاءَهَا، وَيْنْظُرَ إِلى جِسْمِهَا) .(1/3160)
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
{هَاتَيْنِ} {ثَمَانِيَ} {الصَّالِحِينَ}
(27) - فَقَالَ الرَّجُلُ لِمُوسَى: إِنَّهُ يُريدُ أَنْ يُزَوِّجَهُ إِحْدَى انَتَيهِ عَلى أَنْ يَكُونَ مَهْرُها أَنْ يَعْمَلَ مُوسَى لَديهِ، فِي رَعْي الغَنَمِ، مُدَّةَ ثَمانِي سَنَواتٍ، فَإِنْ تَبرَّعَ مُوسَى سَنَتِينِ أُخْرَيَيْنِ فَذَلِكَ إِحسَانٌ مِنْهُ، وإِلاَّ ففِي الثَّمَاني كِفَايَةٌ. ثُمَّ قَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنَّهُ لا يُريدُ أَنْ يَشُقَّ عَليهِ بِفَرْضِ أَطْولِ الأَجَلَينِ، وَلا أَن يُؤذِيَهُ، وَلاَ أَنْ يُمَارِيَهُ، وإِنَّهُ سَيَجِدُهُ مِنَ الصَّالِحِين الذينَ يَتَقَيَّدُونَ بِشُرُوطِهِمْ وَعُهُودِهِمْ إِنْ شَاءَ اللهُ.
تَأْجُرَنِي - تَكُونَ لِي أَجِيراً فِي رَعْيِ الأَغْنَامِ.
حِجَجٍ - سِنينَ.(1/3161)
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
{عُدْوَانَ}
(28) - فَقَالَ مُوسَى لِصِهْرِهِ: الأَمرُ كَمَا قُلْتَ مِنْ أَنَّكَ اسْتَأْجَرْتَني عَلَى ثَمَاني سِنينَ، فَإِنْ أَتْمَمْتُ عَشْراً مِنَ العَمَلِ فَذَلِكَ تَطَوُّعٌ مِني، وَأَنا مَتى عَمِلْتُ أَقَلَّ الأَجَلَينِ بَرِئَتْ ذِمَّتِي مِنَ العَهْدِ، وَحَقَّقْتُ الشَّرْطَ، وَلاَ حَرَجَ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ (فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ) ، ثُمَّ تَوَكَّلا عَلَى اللهِ، تَأْكِيداً للعَفْدِ.
(وَيَقُولُ ابْنُ عَبَاسٍ: إِنَّ مُوسَى قَضَى عَشْرَ سِنينَ عِنْدَ الرَّجُلِ لأَنَّ رَسُولَ اللهِ إِذَا قَالَ فَعَلَ.(1/3162)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
{آنَسَ} {آنَسْتُ} {آتِيكُمْ}
(29) - فَلَمَّا أَوْفَى مُوسَى الأَجَلَ المُتَّفَقَ عَلَيهِ، سَارَ بأَهْلِهِ مِنْ مَدْيَنَ باتَّجَاهِ مِصْرَ، لِزِيَارَةِ أَهلِهِ خِفْيَةً مِنْ فِرْعَوْنَ، فَسَلَكَ بِهِم فِي لَيلَةٍ مَطِيرَةٍ حَالِكَةِ الظَّلامِ، شَدِيدَةِ البَرْدِ، فَنَزَلَ مَنْزِلاً، فَجَعَلَ كُلَّمَا أَوْرَى زَنْدَهُ، لا يَظْهَرُ منْهُ شَرَرٌ، فَتَعَجَّبَ. فَبَينَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ رَاَى نَاراً تُضِيءُ عَنْ بُعدٍ مِنْ جَانِبِ جَبَل الطُّورِ، فَقَالَ لأَهِلِهِ: ابقُوا حَيْثُ أَنْتُمْ (امْكُثُوا) حَتَّى أَذْهَبَ إِلى النَّارِ لَعَلِّي أَسَْلُ مَنْ عَلَيها مِنَ النَّاسِ عَنِ الطَّرِيقِ، أَوْ آتِيكُمْ بِقَبَسٍ مِنَ النَّارِ (جَذْوَةٍ أو قِطْعَةٍ) أَوقِدُ لَكُمْ بِهِ نَاراً تَسْتَدْفِئُونَ بِهَا.
آنَسَ - أَبْصَرَ بِوُضُوحٍ.
جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ - عُودٍ فيهِ نَارٌ، بِلاَ لَهَبٍ.
تَصْطَلُونَ - تَسْتَدْفِئُونَ بِهَا مِنَ البَرْدِ.(1/3163)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)
{أَتَاهَا} {شَاطِىءِ} {الوادي} {المباركة} {ياموسى} {العالمين}
(30) - فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى النَّارَ التِي أَبْصَرَهَا عَنْ بُعْدٍ نُودِي مِنْ جَانِبِ الوَادي، (مِمَّا يَلِي الجَبَلَ عَنْ يَمِينِهِ، مِنْ نَاحِيَةِ الغَرْبِ، كَمَا جَاءَ في آيةِ أُخرى) - فَلَمَّا اقتَرَبَ مُوسَى وَجَدَ النَّارَ تَشْتَعِلُ في شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ في لِحْفِ جبلٍ، مِمَّا يَلِي الوَادِي، فَوقَفَ مُوسَى بَاهِتاً مُتَحَيِّراً في أَمرِها، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: إِنَّ الذِي يُكَلِّمًكَ هُوَ اللهُ رَبُّكَ وَرَبُّ العَالَمِينَ، الفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ.(1/3164)
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)
{رَآهَا} {ياموسى} {الآمنين}
(31) - ثُمَّ أَمرَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى قَائِلاً: أَلْقِ عَصَاكَ التِي هِيَ فِي يَدِكَ اليُمْنَى، فَأَلْقَاهَا فإِذا هِيَ تَهْتَزُّ بِحَرَكَةٍ سَرِيعَةٍ كَأَنَّها جَانٌّ مِنَ الحَيَّاتِ، فَخَافَ مُوسَى، وَوَلَّى مُدْبِراً، وَلَمْ يَلْتَفِتْ (وَلَمْ يُعَقِّبْ) ، فَقَالَ لَهُ اللهُ تَعَالى: ارجِعُ إلى المَكَانِ الذِي كُنْتَ تَقِفُ فِيه أولاً، ولا تَخَفْ فَلَنْ يُصِيبَكَ أذىً مِنها فهيَ عَصَاكَ، أردْنا أَنْ نُرِيَكَ فِيها آيةً كُبرَى، لِتَكُونَ عَوْناً لَكَ حِينَما تَذهَبُ إِلى فِرعَونَ، وَتَدعُوهُ إِلى عِبَادَةِ اللهِ
فَرَجَعَ مُوسَى وَوَقَفَ حَيْثُ كَانَ يَقِفُ.
تَهْتَزُّ - تَتَحرَّكُ بِشِدَّةٍ واضْطِرابٍ.
كَأَنَّها جَانٌّ - حَيَّةٌ خَفيفَةٌ في سُرْعَتِهَا وَحَرَكَتِها.
لَم يُعَقَّبْ - لَمْ يَرْجِعْ عَلى عَقِبَيهِ أوْ لَمْ يَلْتَفِتْ.(1/3165)
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
{فَذَانِكَ} {بُرْهَانَانِ} {َمَلَئِهِ} {فَاسِقِينَ}
(32) - وَقَالَ اللهُ تَعَالى لِمُوسَى: أَدْخِلْ يَدَكَ في فَتْحَةِ ثَوبِكَ عِنْدَ الصَّدرِ (جَيْبِكَ) فَإِنَّها سَتَخْرُجُ بَيْضَاءَ تَتَلأْلأُ مِنْ غَيرِ سُوءٍ وَلا مَرَضٍ، فَفَعَلَ فَخَرَجَتْ بَيْضَاءَ، ثُمَّ عَادَ فَأَدْخَلَهَا، فَعَادَتْ إِلى خِلْقَتِهَا الأُولى. ثُمَّ أَمَرَخُ اللهُ تَعَالَى بِأَنْ يَضُمَّ إِليهِ جَنَاحَهُ (عَضُدَهُ - أَو يَدَهُ) إِذا شَعَرَ بِخَوْفٍ فَيزُولَ الخَوفُ عنْهُ.
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِمُوسَى إِنَّهُ جَعَلَ العَصَا حَيَّةً تَسْعَى، وَجَعَلَ يَدَهُ بَيْضَاءَ مِنْ غَيرِ سُوءٍ إِذا أًَدْخَلَها فِي جَيبهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ آيةً وبُرهَاناً لَهُ مِنْ رَبِّه، عَلى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى، وَعَلى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مَنْ جَرَتْ هَاتَانِ الخَارقَتَانِ عَلَى يَديهِ.
ثُمَّ أَمَرهُ اللهُ تَعَالى بِأَنْ يَتَوجَّهَ بِهَاتَينِ الآيَتَيْنِ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَومِهِ لِيَدْعُوَهُمْ إِلى عِبادَةِ اللهِ تَعَالى، وإِلى الإِيمانِ بهِ، لأَنَّهُمْ قَومٌ ظَالِمُونَ، فَاسِقُونَ، خَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ.(1/3166)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33)
(33) - فَقَالَ مُوسَى لِرَبِّهِ: إِنَّهُ قَتَلَ رَجُلاً مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَهُوَ يَخَافُ إِنْ ذَهَبَ إِليهِمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ بِذَلِكَ الرَّجُلِ.(1/3167)
وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)
{هَارُونُ}
(34) - وَكانَ في لِسَانِ مُوسَى لُثغَةٌ يَجِدُ مَعَها صُعُوبةً في التَّعبيرِ، فَقَالَ لِرَبِّهِ إِنَّ أَخَاهُ هارُونَ أفْصَحُ مِنْهُ لِسَاناً، ورَجا رَبَّهُ أَنْ يُرسِلَهُ مَعَهُ لِيتَولّى التَّعبيرَ عنهُ، نَظَراً لفَصَاحَتِهِ، وَلِيُصَدِّقَهُ ويُؤَيِّدَهُ إِذا كَذَّبهُ فِرعَونُ وَقَوْمُهُ.
رِدْءاً - عَوْناً ومُؤَيِّداً.(1/3168)
قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
{سُلْطَاناً} {بِآيَاتِنَآ} {الغالبون}
(35) - فَأَجَابَهُ اللهُ تَعَالى إِنَّهُ سَيُقَوِّي أَمْرَهُ وَيُعِزُّ جَانِبَهَ بأَخِيهِ هَارُونَ، فَيَجْعَلُه نَبيّاً كَما سَأَلَ، وَسَيَجْعَلُ لَهُما قُوةً وحُجَّةً قَاهِرَةً (سُلْطَاناً) فلا يَسْتطيعُ فِرعَونُ وَمَلَؤُهُ الاعتِدَاءَ عَلَيهمَا حِينما يُبَلِّغَانِهِمْ آيَاتِ رَبِّهِمْ. وَطَمْأَنَهُ تَعَالى إِلى أَنَّهُ وأَخَاهُ وَمَنْ آمَنَ لَهُمَا سَتكُونَ الغَلَبَةُ لَهُمْ عَلَى فِرْعَونَ وَقَوْمِهِ.
سَنَشُدُّ عَضُدَكَ - سَنُقَوِّيكَ ونُعِينُكَ.
سُلْطَاناً - حُجَّةً أَوْ تَسَلُّطاً وَغَلَبَةً.(1/3169)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)
{بِآيَاتِنَا} {بَيِّنَاتٍ} {آبَآئِنَا}
(36) - فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى وَهَارُونَ إِلى فِرْعَونَ وَمَلَئِهِ، وَعَرَضَا عَلَيهِمْ ما آتاهُما اللهُ مِنَ المُعْجِزَاتِ البَاهِرَاتِ، والدَّلاَلاَتِ القَاهِرَاتِ على صِدْقِهِما، لَمْ يَجِدْ فِرْعَونُ وَمَنْ مَعَهُ مَت يَدْحَضُونَ بِهِ بَراهينَ اللهِ وَحُجَجَهُ، فَعَدَلُوا إِلى العِنادِ والمُبَاهَتَةِ استِكْبَاراً مِنْهُم عَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ، فَقَالُوا: مَا هذا الذِي جَاءَ بِهِ هذا إٍِلاَّ سِحْرٌ مُفَتَعَلٌ وَمَصْنُوعٌ (مُفْتَرىً) ؛ وَقَالُوا إِنهُم لَمْ يَسْمَعُوا فيما تَنَاقَلُوه عَنْ آبائِهِمِ الأَوَّلِينَ أَنَّ أَحَداً عَبَدَ اللهَ وَحْدَهُ، وَلَمْ يُشْرِكْ بهِ شَيئاً.
مُفْتَرىً - يَنْسُبُهُ إِلى اللهِ كَذِباً.(1/3170)
وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
{عَاقِبَةُ} {الظالمون}
(37) - فَأَجَابَهُمْ مُوسَى عَلَيهِ السَّلامُ بقَولِهِ: إِنَّ رَبي يَعْلَمُ أَنِّي جِئْتُ بِالحَقِّ والهُدَى مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى، فَهُوَ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ العَاقِبةَ الحَميِدَةَ سَتكُونُ لأَولِيَائِهِ وأَنْبِيَائِهِ والمُؤمِنينَ بِهِ، وأَنَّ الذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ لاَ يُفْلِحُونَ أبداً، وَلاَ يُدرِكُونَ طُلْبَتَهُمْ وَبُغْيَتَهُمْ.(1/3171)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
{ياأيها} {ياهامان} {الكاذبين}
(38) - كَانَ فِرعَوْنُ يَدَّعِي الأُلُوهِيَّةَ، وَقَدْ حَمَلَ قَومَهُ عَلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ مُوسَى وَهَارُونُ يَدْعُوَانِهِ إِلى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالى، وَيُحَذِّرَانِهِ عِقَابَهُ وَعَذَابَهُ إِنِّ استَمَرَّ في كُفْرِهِ وطُغَيانِهِ، َخَذَ في المَكَابَرَةِ والمُعَانَدَةِ، وَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنْ كِبَارِ رِجَالِ دَولتِهِ: إِنَّهُ لاَ يَعرفُ لقومِهِ إِلهاً غيرَهُ هُوَ. وَقَالَ لِمُوسَى فِي آيةٍ أُخْرى: {لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} ثُمَّ أَمرَ وَزيرَهُ هَامَانَ بأنْ يُوقِدَ النَّارَ لِيَشْوِيَ الطِّينَ، وَيَجْعَلَ مِنْهُ آجُرّاً لإِشَادَةِ قَصْرٍ شَامِخٍ لَهُ (صَرْحاً) ، يَصْعَدُ إليهِ فِرْعَونُ لِيَرى إِلهَ مُوسَى. ثُمَّ قَالَ إِنَّهُ يَعْتَقِد أَنَّ موسَى مِنَ الكَاذِبينَ فِيما يدِّعِيهِ مِنْ أًَنَّ له إلهاً فِي السَّمَاءِ يَنْصُرُهُ ويُؤَيِّدُهُ، وَهُوَ الذي أَرْسَلَهُ إليهِ. وَكَانَ فِرْعَونُ يَرْمِي مِنْ هذا القَوْلِ إِلى تَخفِيفِ أَثَرِ الآياتِ التي جَاءَ بِها مُوسىَ وَهارُونَ، في نُفُوسِ رَعِيَّتِهِ.
صَرْحاً - قَصْراً أَوْ بِنَاءً عَالياً مكشوفاً.(1/3172)
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)
(39) - وَطَغَى فِرْعَونُ وَمَلَؤُهُ وَجُنُودَهُ في أَرْضِ مِصْرَ، وَتَجَبَّروا، وَأَكْثَروا فِيها الفَسَادَ، واعتَقَدُوا أَنَّهُ لا قِيَامَةَ وَلاَ حَشْرَ وَلاَ مَعَادَ، وَلاَ رَجْعَةَ إِلى اللهِ، وَلا حِسَابَ لَهُمْ عَلى عَمَلِهِم السَّيءِ، واعتِقادِهِم الفَاسِدِ.(1/3173)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
{فَأَخَذْنَاهُ} {فَنَبَذْنَاهُمْ} {عَاقِبَةُ} {الظالمين}
(40) - فَجَمَعَ اللهُ تَعَالَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ، وأَغْرَقَهُمْ في البَحْرِ في صَبيحَةِ وَاحِدَةٍ، وَلَمْ يُبْقِ مِنْهُمْ أًحَداً. فانظُرْ أَيُّها المُعْتَبِرُ بالآيَاتِ كَيفَ كَانَ أَمرُ هؤلاءِ الذينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَهذِهِ هِيَ عَاقِبَةُ الكُفرِ والبَغْيِ والظُّلْمِ.
فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليمِّ - ألقَيْنَاهُمْ وأَغْرَقْنَاهُمْ في البَحْرِ.(1/3174)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)
{جَعَلْنَاهُمْ} {أَئِمَّةً} {القيامة}
(41) - وَجَعَلَ اللهُ فِرْعَونَ وَقَوْمَهُ أَئِمَّةً، يَقْتَدِي بِهِمْ أهلُ العُتُوِّ والكُفْرِ والضَّلاَلِ، فَهُمْ يَبْحَثُونَ عَن الشُّرُورِ والمَعَاصِي، التي تُلقِي بِصَاحِبهِا في النَّارِ، وَكَذَلِكَ جَعَلَ اللهُ تَعَالى مَصِيرَ مَنْ يَتْبَعُهُمْ، وَيَقْتَدِي بِهِمْ في الكُفْرِ، وتَكْذِيبِ الرُّسُل مِثْل مَصيرِهِمْ في نَارِ جَهَنَّمَ، وَلا يَجِدُونَ أَحَداً يَنْصُرُهُمْ يومَ القِيَامَةِ مِنْ عَذَابِ اللهِ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيِهِمْ خِزْيُ الدُّنيا، مُتَّصِلاً بِذُلِّ الآخِرَةِ.(1/3175)
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
(42) - وأَلْزَمَ اللهُ تَعَالَى فِرْعَونَ وَقَومَهُ في هذِهِ الدُّنيا خِزْياً وَطَرداً مِنْ رَحْمَتِهِ (لَعْنَةً) ، ثُمَّ قَضَى عَلَيْهِمْ بِالبَوارِ والهَلاَكِ، وسُوء الأُحْدُوثَةِ، وسَيُتْبِعُهُمْ لَعنَةً أُخْرى يَومَ القِيَامَةِ، وَيُذِلُّهُم ويُخْزِيهِمْ خِزْياً دَائماً مُسْتَمِرّاً لا فكَاكَ لَهُمْ مِنْهُ.
لَعْنَةً - طَرْداً أَوْ إِبْعَاداً مِنَ الرَّحْمَةِ.
مِنَ المَقْبُوحِينَ - المُبْعَدِينَ أَوِ المُشَوَّهِينَ في الخِلْقَةِ.(1/3176)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
{آتَيْنَا} {الكتاب} {بَصَآئِرَ}
(43) - وَلَقَدْ أَنزَلَ اللهُ تَعَالى التَّورَاةَ عَلَى مُوسَى بعدَ أَنْ أَهْلَكَ المُكَذِّبينَ مِنَ الأُمَمِ السَّابِقةِ، لتكونَ نُوراً للقُلُوبِ المُظْلِمَةِ، بَعْدَ أَنْ دَرَسَتْ مَعَالِمُ الشَّريعةِ التي جَاءَهُمْ بِها الأَنبياءُ السَّابِقُونَ، وَسَادَ الفَسَادُ في العَالَمِ، وَفَشَ الشَّرُّ بَينَ النَّاسِ، فَاحْتَاجَ النَّاسُ إِلى تَشرِيعٍ جَدِيدٍ يُصْلِحُ مَا فَسَدَ مِنْ عَقَائِدِهِمْ، وأَفْعَالِهِمْ، بِتَقريرِ أُصُولٍ في ذلِكَ التَّشرِيعِ، تَبْقَى أَبَدَ الدَّهْلاِ، وتَرتِيبِ فُروعٍ تَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ العُصُورِ، واخْتِلافِ أحوَال النَّاس. وَفِي التَّورَاةِ تَذكِيرٌ بأحوالِ الأُمَمِ السَّابِقَةِ، لِيَكُونَ ذلِكَ عِبرةً لِلنَّاسِ، لَعَلَّهُمْ يَتَّعِظُونَ بِما نَزَلَ بِهؤُلاءِ، فَيُقْلِعُوا عَمَّا هُمْ عَلَيهِ مِنَ الكُفْرِ والتَّكذِيبِ.
القُرونَ الأولى - الأُمَمَ المَاضِيَةَ المُكَذِّبَةَ.
بَصَائِرَ للنَّاسِ - أَنْواراً لِقُلُوبِهِمْ تُبْصِرُ بِهَا.(1/3177)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)
{الشاهدين}
(44) - يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالى النَّاسَ إِلى البُرهَانِ عَلَى نُبُوَّةِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، إِذْ أَخْبَرَ عَنْ أَمورٍ حَدَثتْ في سَالِفِ الأَزْمَانِ لَمْ يَكُن العَرَبُ يَعْرِفُونَها، وقَصَّها الرَّسُولُ الكَريمُ بِتَفَصِيلِهَا وَهُوَ رَجُلٌ أُميٌّ لا يَقْرَأُ وَلا يَكْتُبُ، وأَشَارَ اللهُ تَعالى إِلى هذا الأَمرِ بَعدَ عَدَدٍ مِنَ القصَصِ المُتَعَلِّقَةِ بالأَولِينَ مَعَ أَنبِيائِهِمْ، وَرَدَتْ في القُرآنِ: مِثْلِ قِصَّةِ نُوحٍ، ومَريَمَ، وَيُوسُفَ. وهنا يَقُولُ تَعالى لِنَبيِّهِ: إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لم تَكُنْ في الجَانِبِ الغَربيَّ من الوَادِي حِينَمَا كَلَّمَ اللهُ تَعالى مُوسَى مِنَ الشَّجَرةِ عَلَى شَاطِئِ الوَادِي، وَلمْ تَكُنْ مُشَاهِداً لِشَيءٍ مِمَّا وَقَعَ، لكِنَّ الله أَوْحَاهُ إِليكَ، وَأَخْبَرَكَ بهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ حُجَّةً وبُرهَاناً على صِدْقِ نُبُوَّتِكَ.
قَضَيْنا - عَهدْنَا.(1/3178)
وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)
{تَتْلُو} {آيَاتِنَا}
(45) - وَلكِنَّ الله تَعالى خَلَقَ أجيالاً كَثيرةً طَالَ عَليها الزَّمَنُ فَنَسُوا ما أَخَذَهُ اللهُ عَلَيهِمِ مِنَ العُهُودِ والمَواثِيقِ، وَدَرَسَتِ العُلُومُ، وتَشَوَّهَتِ الشَّرائِعُ فَوَجَبَ إرسَالُ مُحَمَّدٍ إِلى النَّاسِ ليُخرِجَهُمْ منَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ، بإِذْنِ رَبِّهِمْ، وَقَدْ أَوْحَى اللهِ إِليهِ بقَصَصِ الأَنْبِياءَ، وبأَخبَارِ الأُمَمِ السَّالِفَةِ التي دَمَّرَهَا الله، ليَكُونَ ذَلِكَ دَلاَلَةً لَهُ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِ، فَهُوَ رَجُلٌ أُمِيٌّ لاَ يَقْرلأُ وَلا يَكْتُبُ، وقَومُهُ أُمِّيُّونَ لا يَعرِفُونَ شَيئاً مِنْ هذه القَصَصِ فإِخْبَارُهُ بِها عَلى الشَّكلِ الذِي وَقَعَتْ فيهِ، دَليلٌ على أَنَّه أُوحِيَ إِليهِ بِها مِنَ اللهِ تَعَالى.
ثُمَّ يَقُولُ اللهِ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُقِيماً بَيْنَ أهلِ مَدْينَ (ثَوِياً) يَتَتَبَّعُ أَخْبَارَهُمْ، وَيَتَعَرَّفُ مِنْهُمْ عَلى أخْبَارِ شُعِيبٍ عليه السَّلامُ، وَقومِهِ، لِيرَوِيَها بالشًَّكْلِ الصَّحيحِ الذِي وَقَعَتْ عَلَيهِ.
ثَاوياً - مُقِيماً.(1/3179)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
{أَتَاهُم}
(46) - وَلِمَ تَكُنْ أَنتَ يا مُحَمَّدُ بِجَانِبِ الطُّورِ لَيلَةَ المُنَاجَاةِ، إِذْ نَادَينا مُوسى، وَلَم تَشْهدَ شَيئاً مِمَّا حَدَث لتَستَطيعَ رَوَايَتَهُ للنَّاسِ رِوايةَ الخَبِيرِ العَالِمِ، ولكِنَّ اللهَ أَوْحَاهُ إِليكَ، وأَخبرَكَ بهِ رَحمَةً منْهُ بِكَ وبِالعَبَادِ، إذ أرسَلَكَ إِلى قَومٍ - هُمُ العَرَبُ - لَمْ يَسْبِقْ أَنْ أَتَاهُمْ قَبلَكَ نَذِيرٌ، لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بمَا جِئْتَهُمْ بهِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) .(1/3180)
وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
{آيَاتِكَ}
(47) - وَلَم نَشَأْ أَنْ نُنْزِلَ عَذَاباً بِقَومِكَ هؤلاءِ، قَبلَ أَنْ نُرِسلَ إليهِمْ رَسُولاً يَدْعُوهُم إِلى الله، وَيُبِيِّنُ لَهُمْ شَرْعَ الله وَأَوامِرَهِ، لِكَيلا يَحتَجُّوا بأَنَّهُم لم يَأْتِيهم رَسُولٌ ولاَ مُنْذِرٌ. وَلِكَيلا يَقُولُوا رَبَّنا لَوْ أَرْسَلَتْ إِلينَا رَسُولاً يُبَيِّنُ لنا لاتَّبَعْنَاهُ، ولآمنَّا بِكَ، وَصَدَّقْنَا رَسُولَك.(1/3181)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)
{تَظَاهَرَا} {كَافِرُونَ}
(48) - فَلَمَّا أَرسَلَ اللهُ تَعَالى إِليهِم مُحَمَّداً رَسُولاً، قَالَ هؤلاءِ الكُفَّارُ على وجهِ التَّعَنُّتِ، والعِنَادِ، والكُّفرِ، والإِلحَادِ: هَلاَّ جَاءَ بِمُعْجِزَةٍ مِثَلمَا جَاءَ عَلى يَدي مُوسَى (كالعَصَا واليَدِ. . .) ، وقدْ جَاءَ مُوسى بِكُلِّ هذهِ الآياتِ العَظِيمَةِ إِلى فِرْعَونَ ومَلَئِهِ، فَلَم يُؤْمِنُوا، وكَفَروا واسْتَكْبَرُوا كَمَا كَفَرَ كَثيرٌ مِنَ البَشَرِ بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ تِلْكَ الآياتِ، وقَالُوا لِمُوسَى وَهَارُونَ: إِنَّهُما سَاحِرَانَ تَعَاوَنَا وتَنَاصَرا، وَصَدَّقَ كُلٌّ مِنْهُمَا الآخَرَ، وأَعلَنُوا كُفْرَهُمْ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى وَهَارُونَ.
(وَقيلَ بَلِ المَقْصُودُ بِقَولِهِمْ سِحْرانِ تَظَاهَرَا وَتَعَاوَنَا التَّورَاةُ والقُرآنُ، وقِيلَ بَلْ مُوسَى وَمُحَمَّدٌ) .(1/3182)
قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)
{بِكِتَابٍ} {صَادِقِينَ}
(49) - كَثيراً مَا يَقْرِنُ اللهُ تَعَلاى ذِكْرَ التَّورَاةِ بِذِكْرِ القُرآنِ، وَهُنَا يَقُول مُخَاطِباً نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم، قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهؤلاءِ المًُكَذّبينَ: أئتُونَا بِكتابٍ مُنْزَلٍ مِنْ عندِ اللهِ يَكُونُ أَكثَرَ هِدَايةً مِنَ التَّورَاةِ والقُرآنِ، لأترُكَهُما وأَتَبَعَهُ، هذا إِنْ كُنتُمْ صَادِقينَ فيما تَقُولُونَ مِنْ أَنَّ اللهُ أَنْزَلَ خَيْراً مِنْهُما، وأَكْثَرَ وضُوحاً وتَفْصِيلاً.(1/3183)
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
{هَوَاهُ} {الظالمين}
(50) - فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا مَا طَلَبتَهُ مِنْهُمْ مِنَ الإِتيَانِ بكِتَابٍ أَهْدَى مِنَ التَّورَاةِ والقُرآنِ، وَلَمْ يَتَّبِعُوا الحَقَّ فاعْلَمْ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَيَتَكَلَّمُونَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مَأْخُوذَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ، واللهُ تَعَالى لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ، وَلا يُوفِّقُهُمْ إِلى اتِّبَاعِ سَبِيلِ الحَقِّ والرَّشَادِ.(1/3184)
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
(51) - وَلَقدْ فَصَّلَ اللهُ تَعَالَى لَهُمُ الآيَاتِ، وأَنزلَ إِلَيهِمِ القُرآنَ مُتُواصِلاً بَعْضَهُ إِثرَ بَعْضٍ، حَسْبَمَا تَقْتَضِيهِ الحَاجَةُ (وَصَّلْنَا لَهُمُ القَوْلَ) وأَخْبَرَهُمْ بِمَا صنعَ بِمَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ المُكَذِّبِينَ، وَبِمَا سَيَصْنَعُهُ بِهِمْ إِنِ استَمَرُّوا عَلى كُفْرِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ - لَعلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَيرتَدِعُوا، وَيَعُودُوا إِلى الحَقِّ.
وَصَّلْنا لَهُمُ القَوْلَ - أَنَزلْنَا عَلَيهِمِ القُرآنَ مُتَوَاصِلاً مُتَتَابِعاً.(1/3185)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)
{آتَيْنَاهُمُ} {الكتاب}
(52) - والذِينَ آمَنُوا بالتَّورَاةِ والإِنْجِيلِ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ ثُمًَّ أَدرَكُوا مُحَمَّداً، يُؤِمِنُونَ بالقُرآنِ لأَنَّهُمْ يَجِدُونَ في كُتُبِهِم البُشْرى بِهِ، وانطبَاقَ الأَوصَافِ عليهِ، وإذا تُليَ عَلَيهِمْ هذا القُرآنُ قَالُوا: صَدَّقْنا بِأَنَّهُ أُنزِلَ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا حَقّاً وَصِدْقاً.
(وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِنَّ هذِهِ الآيةَ نَزَلَتْ في سَبعِينَ مِنَ القِسِّيسِينَ بَعَثَهُمُ النجَّاشِيُّ فَلَما قَدِمُوا عَلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، قَرأَ عَلَيهِمْ سُورَةَ (يس) فَبَكَوْا وأَسْلَمُوا) .(1/3186)
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)
{آمَنَّا}
(53) - وإِذا تُلِي عَلَيهِم القُرآنُ قَالُوا: آمَنَّا بأَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّنا وَقَدْ أَسْلَمْنا إِلى رَبِّنا، وَكُنّا مُوَحِّدِينَ مُخْلِصِينَ للهِ، مُسْتَجِيبِينَ لَهُ، قَبلَ أَنْ نَسْمَعَ هذا القُرآنَ، لأَنَّنا وَجَدْنا في كُتُبِنا نَعْتَ مَحَمَّدٍ، وَنَعْتَ كِتَابِهِ، لِذَلِكَ آمنَّا بِهِ قَبلَ نُزُولِهِ.(1/3187)
أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)
{أولئك} {رَزَقْنَاهُمْ} {يَدْرَؤُنَ}
(54) - وَالذينَ آمنُوا بالكِتَابِ الأَوَّلِ، ثُمَّ آمنُوا بالقُرآنِ، سَيُؤْتِيهِم اللهُ أَجْرَهُمْ مَرَّتَين، جَزَاءً لهُم عَلَى صَبْرِهِمْ على اتِّباع الحَقِّ، وَعَلَى الإِيمَانِ بِكِتَابِهِمْ أَوَّلاَ، ثُمًَّ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِالقُرآنِ، لأَنَّ اتِّبَاعَ الحَقِّ فيهِ مَشَقَّةٌ على النُّفُوسِ. وَيَتَّصِفُ هؤلاءِ الذينَ آمنُوا بِكِتَابِهِمْ، ثُمَّ آمنُوا بالقُرآنِ بأَنَّهمْ لا يُقَابِلُونَ السِّيِّئَةَ بِمِثْلِهِا، وإنَّما يَعفُونَ ويَصْفَحُونَ، ويُنْفِقُونَ مِمَّا رَزَقَهُمُ الله مِنَ الرِّزْقِ الحَلالِ، عَلَى خَلْقِ اللهِ، وعَلَى ذَوِي قُرْبَاهُم ويُؤَدُّونَ زَكَاة أَمْوَالِهِم.
يَدْرَؤُونَ - يَدْفَعُونَ.(1/3188)
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
{أَعْمَالُنَا} {أَعْمَالُكُمْ} {سَلاَمٌ} {الجاهلين}
(55) - وَهُمْ لا يَخَالِطُونَ أَهلَ اللَّغْوِ واللَّهوِ، والخَوْضِ فِيما لا يَنْفَعُ في دِينٍ ولا دُنْيَا، ولا يُعَاشِرُونَهُمْ بَلْ يُعرِضُونَ عَنهُم، ويَتَجَنَّبُونَ مُجَالَسَتَهُمْ، وإِذا سَفِهَ عَلَيهِمْ أَحَدٌ، وَكَلَّمَهُمْ بِمَا لا يَلِيقُ، أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَلَمْ يُقَابِلُوهُ بِمِثْلِهِ مِنَ الكَلاَمِ القَبيحِ، وَلاَ يَصدُرُ عَنْهُمْ إِلا كَلاَمٌ طَيِّبٌ. وَيَقُولُونَ لِمَنْ سَفِهَ عَلَيهِمْ: سَلامٌ عَلَيكُم سَلاَم مُتَارَكَةٍ وَتَوْدِيعٍ، إِنَّنا لا نُرِيدُ اتِّبَاعَ طَريقِ الجَاهِلِينَ السُّفَهَاءِ، وَلاَ نُحِبُّهَا.
(وهذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ في وَفْدٍ مِنْ نَصَارَى الحَبَشَةِ الذِين أَسْلَمُوا فَاعتَرَضَهُم كُفَّارُ قَريشٍ، وَشَتَمُوهُم واتَّهمُوهُمْ بِالحُمْقِ، فَرَدُّوا عَلَيهِمْ قَائِلينَ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نُجَاهِلُكُمْ، لَنَا مَا نَحْنُ عَلَيهِ، وَلَكُمْ مَا أَنتُمْ عَلَيهِ) .
(وَقِيلَ أَيضاً إِنَّها نَزَلَتْ في وَفْدٍ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ في اليَمَنِ) .(1/3189)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
(56) - يَقُولُ اللهُ تَعَالى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ هِدَايَةَ مَنْ أَحْبَبْتَ أَنْتَ هِدَايَتَهُ، وَلَيسَ ذَلكَ إٍليكَ، وَإِنَّما أَنْتَ رَسُولٌ عَلَيكَ البَلاَغُ، واللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، واللهُ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدَى، وَبِمَنْ ضَلَّ سَواءَ السَّبيلِ.
(وقيلَ إِنَّ هذِهِ الآيةَ نَزَلَتْ في أَبي طَالِبٍ، فَحِينَما حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ أَتاهُ الرَّسُولُ وَقالَ لَهُ: يا عمَّاهُ قُلْ: لا َ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، أَشْهَدُ لَكَ بِها عِنْدَ اللهِ يَومَ القِيَامَةِ، فَقَالَ لَوْلاَ أَنْ تُعيَّرَنِي قُرَيشٌ: يَقُولُونَ مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلا جَزَعَُهُ مِنَ المَوتِ، لأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ) .(1/3190)
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
{آمِناً} {ثَمَرَاتُ}
(57) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَمَّا اعتَذَرَ بهِ بَعْضُ المُشْرِكِينَ إِلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ سَببِ عَدَمِ إيمانِهِمْ بِرِسَالَتِهِ، وَكَانَ مِنْ هؤلاء المُعتَذِرِينَ الحَارِثُ بِنُ عُثْمَانَ بْنِ نَوْفَل بْنِ عَبْدِ مُنَافٍ فَقَدْ جَاءَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ لَهُ: نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ عَلى الحقِّ، ولكِنَّنا نَخَافُ إِنْ اتَّبْنَاكَ، وَخَالَفْنا العَرَبَ، أَنْ يُخرِجُونامِنْ أَرضِنا، ويَغْلِبُونا عَلَى سُلْطَانِنا ونَحنُ قِلَّةٌ. وَيَردُّ الله تَعالى عَلَى هؤلاءِ بقَولِهِ: إِنّ الذِي اعْتَذَرُوا بِهِ بَاطِلٌ، لأنَّ اللهَ جَعَلُهُمْ في بَلَدٍ آمِن، وَحَرمٍ مُعَظَّمٍ آمِنٍ مُنْذُ وُضِعَ. فَكَيفَ يَكُونَ هذا الحَرَمُ آمِناً لَهُمْ وَهُمْ كُفّارٌ، مُشْرِكُونَ، وَلا يَكُونُ آمنا لهُمْ إِذا أَسْلَمُوا واتَّبَعُوا الحَقَّ؟ ثُمَّ يَقُولُ تَعَالى: إِنَّهُ يَسَّرَ وصُُولَ الثَّمَرَاتِ والأَمتِعَةِ والأَرْزَاقِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ إِلى أهلِ الحَرَمِ، وهذا كُلُّهُ بِفَضْلِ اللهِ، وَمنْ عِنَايَتِهِ، ولكِنَّ أَكثَرَ هؤلاءِ جَهَلَةٌ لاَ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِ خَيرُهُم وَسَعَادَتُهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالُوا مَا قَالُوا.
نُتَخَطَّفُ - نُنْتَزَعُ بِسْرُعَةٍ.
يُجْبَى إِليهِ - يُجْلَبُ إِليهِ وَيُحْمَلُ إِليهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ.(1/3191)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)
{مَسَاكِنُهُمْ} {الوارثين}
(58) - يُعَرِّضُ الله تَعَالى بأهلِ مَكَّةَ، وَيُنَبِّهُهُمْ إِلى أَنَّهُ قَدْ سَبَق لَهُ أَنْ أَهلَكَ كَثيراً مِنَ المُدُنِ والقُرى، التي طَغَتْ وأَشِرَتْ وكَفَرَت بِنِعْمَةِ اللهِ، فيما أَنْعَمَ بهِ عَلَيها، فَدَمَّرَهَا تَدمِيراً، وَلَم يَتْرُكْ أَحَداً مِنْ أهلِها حياً، وَلَم يَعُدْ يُرى فِيها إِلاّ المَسَاكِنُ الخَرَابُ المَهْجُورَةُ، لَمْ يَسْكُنها أَحدٌ بَعدَهُمْ، إِلاَّ عَابرُو السَّبيلِ لفَتَراتٍ قَصِيرةٍ، وَهُمْ مَارُّون مُجْتَازُونَ بِها، وَآلتْ وِرَاثُتها إِلى اللهِ، لأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَهلِهَا أَحَدٌ يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَ وَرَاثَتَها.
بَطرَتْ مَعِيشَتها - طَغَتْ وَتَمَرَّدَتْ فِي أَيَّامِ حَيَاتِها.(1/3192)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
{يَتْلُو} {آيَاتِنَا} {ظَالِمُونَ}
(59) - وَيُخْبِرُ اللهُ تَعَالى عَنْ عَدْلِهِ فَيقُولُ: إِنَّهُ لاَ يُهْلِكُ أَحَداً وَهُوَ ظَالِمٌ لَهُ، وَإِنَّما يُهِلكُهُ بعدَ أَنْ تَقُومَ عَليهِ الحُجَّةُ. وإِنَّهُ لاَ يُهلِكُ القُرى حَوْلَ مَكَّةَ بِكُفْرِهِم وَظُلْمِهِم إِلاَّ بَعْدَ أَن يَبْعَثَ فِي أُمِّ القُرَى (مَكَّةَ) رَسُولاً يدْعُوهُم إِلى اللهِ، وَيُبِيِّنُ لهُم سَبيلَ الهدَايَةِ والرَّشَادِ، وَيتلُو عَلَيهمْ آياتِ اللهِ، وإِنَّهُ لا يُهلِكُ هذهِ القُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظَالِمُونَ، قَدْ كَذَّبُوا النَّبِيَّ، وَرَفَضُوا اتِّباعَهُ، وقَبُولَ دَعْوَتِهِ.
(وَفُهِمَ مِنْ هذِهِ الآيةِ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بُعِثَ إِلى النَّاسِ كَافَّة، وَلَيسَ لأَهلِ مَكَّةَ خَاصَّةً) .(1/3193)
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)
{فَمَتَاعُ} {الحياة}
(60) - كُلُّ مَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا مِنْ زِينَةٍ زَائِفَةٍ، وَزَهَرَةٍ فَانِيَةٍ، وأَموَالٍ وأوْلاَدٍ هُوَ مَتَاعٌ مَحْدُودٌ مُؤقَّتٌ تَافِهٌ بالنِّسْبَةِ إِلى مَا أَعدَّهُ الله في الحَيَاةِ الآخِرَةِ مِنْ نَعيمٍ مُقيمٍ دائِمٍ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنينَ المُخِلصِينَ، فَلا تَصْرِفَنَّكُمْ، أَيُّها العِبَادُ، العَرُوضُ الفَانِيةُ في الحَيَاةِ الدُّنيا، عَنِ النَّعيمِ الخَالِدِ في الحَيَاةِ الآخِرَةِ، وَحَكِّمُوا عُقُولَكُمْ في أُمُورِكُم بَدَلَ أَهَوائِكُم تَفُوزُوا.
(وفِي الحَديثِ: " مَا الحَيَاةُ الدُّنيا فِي الآخِرَة إِلاَّ كَمَا يَغْمِسُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ في اليَمِّ فَلْيَنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُ ") . (أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ) .(1/3194)
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
{وَعَدْنَاهُ} {لاَقِيهِ} {مَّتَّعْنَاهُ} {مَتَاعَ} {الحياة} {القيامة}
(61) - لاَ يَسْتَوِي مَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ باللهِ، مَصَدِّقٌ بمَا وَعَدَ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ المُؤمِنينَ، مِنْ عَظيمِ الأَجرِ والثَّوابِ، عَلَى الإِيمَانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ، فَاستَحَقَّ وَعْدَ اللهِ الحَسَنَ بالجَنَّةِ، وَحُسْنَ الثَّوابِ، مَعَ مَنْ كَفَرَ وَكَذَّبَ بِلِقَاءِ اللهِ، وَوَعْدِهِ، وَوَعِيدِهِ، وجَنَّتِهِ وَنَارِهِ، فَهُوَ يَتَمَتَّعُ بِالحَياةِ الدُّنيا وَزُخْرُفِهَا أَيَّاماً قَلِيلَةً ثُمَّ َيكُونُ يَومَ القِيَامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ لِلْحِسَابِ، المُلاقِينَ لِلْعِقَابِ.(1/3195)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)
{شُرَكَآئِيَ}
(62) - واذْكُر أَيُّها الرَّسُولُ حِينَ يُوَبِّخُ اللهُ تَعَالى المُشْرِكِينَ المُضْلِّينَ يَومَ القِيَامَةِ، فَيَسْأَلُهُمْ قَائِلاً: أَيْنَ الآلِهَةُ التِي كُنْتُمْ تَعبُدُونَها فِي الدَّارِ الدُّنيا مِنَ الأَصْنَامِ والأَندَادِ والجِنِّ. . هَلْ يَدْفَعُونَ عَنْكُمُ اليَومَ، أَوْ يَشْفَعُونَ فِيكُمْ؟(1/3196)
قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)
{أَغْوَيْنَاهُمْ}
(63) - ويَقُولُ رُؤَسَاءُ الضَّلاَلَةِ، والدُّعَاةُ إلى الكُفرِ، الذِينَ حَقَّ عَليهْم غَضَبُ اللهِ: رَبَّنا إِنَّ هؤُلاءِ الأَتبَاعَ الذِينَ أَضْلَلْنَاهُمْ كَمَا ضَلَلْنَا، هُمُ الذِين غَوَوْا بِطَوْعِهِمْ واخْتِيَارِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَّا لَهُمْ إِلاَّ الوَسْوَسَةُ والتَّسْوِيلُ، ولمْ نُكرِههّمْ على فِعلِ شيءٍ لا يُريدُونَه، فًَهُم كَانوا مُختَارينَ حِينما تَقَبَّلُوا تلكَ العَقَائِدَ، وأقدَموا على هذِهِ الأعمالِ. وإِنَّنا نَبرأ إِليكَ مِنْهُمُ اليَومَ، ومِمّا اختارُوه فِي الدُّنيا مِنَ الكُفرِ، وهُمْ لمْ يَعْبُدونَا نَحنُ، بلْ عَبدُوا أَهَواءَهُمْ، بلْ عَبدُوا أَهَواءَهُمْ، وأَطَاعُوا شَهَواتِهِمْ.
أَغْوَينَا - دَعَونَاهُمْ إِلى الغَيِّ فَاتَّبَعُونَا.(1/3197)
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)
(64) - وَيُقَالُ في ذلكَ اليَومِ - يومِ القِِيامةِ - لِهؤلاءِ المُشرِكِينَ الذِينًَ كَفُروا بالله في الدُّنيا، وَعَبدُوا مَعَهُ غَيْرَه: ادْعُوا آلِهَتَكُمْ الذِينَ زَعَمْتُم أَنَّهم كَانُوا شُرَكَاءَ للهِ، لُيخَلِّصُوكُم مِمّا أَنتُمْ فيهِ، كَمَا كُنتُم تَرْجُونَ مِنْهُمْ ذلِكَ في الدَّارِ الدُّنيا، فدعوْهُم فَلَم يَرُدُّوا عَلَيهم لِعَجْزِهِمْ عَنِ الإِجابةِ، وأَيقنَ الدَّاعُونَ والمَدعُوُّونَ أَنَّهم صَائِرُونَ إِلى النَّارِ لا مَحَالةَ، فَتَمَنَّوْا لوْ أنَّهُمْ كَانُوا مِنَ المُهتَدِينَ في الدَّارِ الدَّنيا، لِكيلاَ يَصِيرُوا إِلى العَذَابِ الأَليمِ.(1/3198)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)
(65) - ثُمًَّ يُنَادي اللهُ تَعَالى المُشرِكِينَ وَيَسْأَلُهُم عَمَّا أَجَابُوا بهِ عَلَى دَعْوَةِ المُرسَلِينَ إِليهِمْ، وكَيفَ كَانَ حَالُهُم مَعَهُم حِينما أبلغُوهُم دَعْوَةَ رَبِّهِمْ؟(1/3199)
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)
{يَوْمَئِذٍ}
(66) - فَلاَ يَجدُونَ مَا يرُدُّونَ بهِ عَلَى السُّؤالِ فيَسكُنُونَ. وَتَخْفَى عَليهِم الحُجَجُ وكُلُّ طُرُقِ العِلْمِ التِي كَانَتْ تُجدِيهِمْ نَفْعاً في الحَيَاة الدُّنيا، فَلا يَسْأَلُ بَعْضُهُم بَعْضاً، لِتَساوِيِهم جَميعاً في عَمَى الأنباء عَليهِمْ، والعَجزِ عنِ الجَوَابِ.
فَعَمِيتْ عَليهِمُ الأَنْبَاءُ - خَفِيَتْ واشْتَبَهَتْ عَلَيهِم الحُجَجُ.(1/3200)
فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
{آمَنَ} {صَالِحاً}
(67) - وأَما الذي تَابَ، مِنَ المُشرِكينَ، عَمَّا اقتَرَفَهُ مِنَ الشِّرْك والذُّنوبِ والمآثِمِ والمَحَارِمِ، وآمَنَ بِرَبّهِ إِيماناً مُخْلِصَاً، وصَدَّقَ رَسُولَهُ، وَعَمِلَ في الدُّنيا عَمَلاً صالحاً، فإِنَّهُ يَرجُو أَنْ يكُونَ في الآخِرَةِ مِنَ المُفْلِحينَ الفَائزينَ بِرِضوانِ الله.
(وَعَسَى مِنَ اللهَ تَعَالى مُوجِبَةٌ أَيْ إِنَّ ذَلكَ وَاقعٌ بِفَضْلِ اللهِ وَمِنَّتِهِ لاَ مَحَالَةَ) .(1/3201)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
{سُبْحَانَ} {وتعالى}
(68) - يُخْبِرُ اللهُ تََالى أَنه المُتَفَرِّدُ بالخَلْقِ والاختيارِ، وأَنَّهُ لا يُنَازِعُهُ في ذَلِكَ مُنَازِعٌ، ولا مُعَقِّبَ عَلى حُكْمِهِ، فَمَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لمْ يشَأْ لمْ يكُنْ فالأمورُ كُلُّها، خيرُهَا وشَرُّها، بيدِهِ فَيختَارُ قَوماً لأَدَاءِ رِسَالتِهِ، وهِدايةِ خَلقِهِ، ويُمَيِّزُ بعضَ الخَلْقِ عَلى بَعْضٍ، ويُفَضِّلُه بمَا شاء، وليسَ للخَلْقِ أن يَخْتَاروا عَلى الله شَيئاً، ولهُ الخِيرَةُ عَليهم، وليسَ للخَلْقِ إلا اتِّبَاعُ ما اصْطَفَاهُ اللهُ، فَتَنَزَّهَ اللهُ تعلى عن شِرْكِهِمْ، وَتَبَارَكَ اسمُهُ وتَقَدَّسَ.
الخِيَرَةُ - الاختِيَارُ.(1/3202)
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)
(69) - واللهُ رَبُّكَ يَا مُحَمَّد هُوَ الذِي يَعْلَمُ مَا تُكِنُّهُ الضَّمَائِرُ، وَمَا تَنْطَوي عَليه السَّرائِرُ، كَمَا يَعْلَمُ ما تُبدِيهِ الظَّواهِرُ، واختيارُهُ تَعَالى لِمَنِ اختارَهُمْ للإِيمانِ لهُ، مَبنِيُّ عَلَى عِلْمٍ منهُ بسَرائِرِ أمُورِهِم وبَواديها، فَيَختَارُ للخَيْرِ أهلهُ وَيُوفِّقُهُمْ لهُ، وَيُولِّي الشَّرَّ أهلَهُ، وَيُخَلِّهِمْ وَإيَّاهُ.
(وَقَدْ يكُونُ المَعْنى: وَرَبُّكَ يَا مَحَمَّدُ عَليمٌ بمَا تُخفِيهِ صُدُورَ المُشرِكينَ مِنْ عَداوَةٍ لَكَ، وَمَا يُعْلِنُونَهُ بألَسِنَتهمْ مِنَ الاعتِراضِ علَى اختيارِكَ للرّسَالةِ) .
مَا تُكِنَّ صُدُورُهُم - مَا تُضْمِرُهُ مِنَ البَاطِِلِ والعَدَاوَةِ.(1/3203)
وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
{الآخرة}
(70) - وَرَبُّكَ أَيُّها الرَّسُولُ هُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ، وهُوَ المُتَفَرِّدُ بالأُلُوهِيّةِ، فَلاَ مَعبودَ سِوَاهُ، ولا رَبَّ غَيرُهُ، لَهُ الحَمْدُ فِي جَميعِ ما يفعَلُهُ (في الأُولى والآخِرَةِ) ، فَهُوَ العَادِلُ، ولهُ الحُكْمُ، ولا مَعَقِّبَ لهُ، لِقَهرِهِ، وغَلَبَتِهِ، وحِكمَتِهِ، ورَحْمَتِهِ، وإِليهِ يَرجعُ الخَلْقُ جَميعاً سَوْمَ القِيامةِ، فَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، مِنْ خَيرٍ أَوْ شَرٍّ، وَلاَ يَخْفَى عَليهِ مِنْهُمْ خَافِيةٌ.(1/3204)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)
{أَرَأَيْتُمْ} {الليل} {القيامة}
(71) - يَمْتَنُّ اللهُ تَعَالى عَلَى خَلْقِهِ بِمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ اللَّيلِ والنَّهَارِ، لِيَكْسبوا مَعايِشَهُمْ في النَّهارِ، ولِيسْكُنُوا في اللّيلِ، ويَرتَاحُوا. ولوْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ اللَّيْلَ دَائماً عَلَيهِمْ مُتَتَابِعاً (سَرْمَداً) إِلى يَومِ القِيَامَةِ، لأَضَرَّ ذَلكَ بِهِمْ، ولَسَئِمَتْهُ النُّفُوسُ، وَلاَ يَستَطيعُ أَحَدٌ مِنَ الأَندَادِ والأَصْنَامِ، الذِينَ يَدْعُوهم المُشرِكُونَ، أنْ يأتِيَهُمْ بِضياءٍ يُبصِرُونَ فيهِ، وَيَسْتأَنِسُونَ بمَا يَرَوْنَهُ، أفلا يَسمعُونَ هذا الذِي يُقَالُ لَهُمْ وَتَتَدَبَّرُونَهُ؟
أَرَأيْتُمْ - أَخْبِرُوني.
سَرْمَداً - دَائماً مُطَّرداً.(1/3205)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)
{أَرَأَيْتُمْ} {القيامة}
(72) - وإِذا أَرادَ اللهُ أَنْ يَجْعَلَ النَّهارَ عَلَى النَّاس دَائماً سَرْمَداً إِلى يومِ القِيَامَةِ، لأضَرَّ ذلكَ بِهِمْ، ولَتَعِبَتِ الأَبدَانُ وَكَلَّتْ مِنْ كَثْرَةِ الحَرَكَةِ والأشْغَالِ، ولا يَستَطِيعُ أحدٌ مِنْ هؤلاءِ الأَنْدَادِ والأَصْنَامِ أَنْ يأتَي بليلٍ يَرْتَاحُ فيهِ النَّاس ويُسكُنُونَ. أفَلا يُبصيِرُ هؤلاءِ بأعيُنِهِمْ تَدبيرَ اللهِ وخَلْقَهُ؟(1/3206)
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
{الليل}
(73) - ومِنْ رَحْمَتِه بِكُم أَنَّهُ خَلَق اللَّيلَ مُظْلِماً لِتَسكُنُوا فيهِ، وتَرتَاحُوا وَخَلَقَ النَّهارَ مُضِيئاً، لتَعمَلُوا فيهِ، ولتكسبُوا مَعَايِشَكُم بالعَمَلِ والأَسْفَارِ (لِتَبتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) ، وهُوَ تَعَالَى يُذَكِّرُكُمْ بِنِعمَتِهِ وآلائِهِ عَليكُم لَعَلَّكُمْ تَقُومُونَ بِشُكْرِهِ عَليها بأَداءِ العِبَادَاتِ لهُ في الليْلِ والنَّهَارِ، وتُخْلِصُونَ الحَمدَ لَهُ.(1/3207)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74)
{شُرَكَآئِيَ}
(74) - وَيَومَ القِيَامَةِ يُنَاجدي الرَّبُ تَعَالى المُرِكينَ عَلَى رُؤوسِ الأشْهَادٍِ مُوَبِّخاً ومُقَرِّعاً، فَيَقُولُ لَهم: أَينَ الذِين كُنتُم تَزْعمُونُ في الدَّارِ الدُّنيا أَنَّهُمْ شُرَكَائي، هَلاَّ دَعَوْتُمُوهُمْ لِيُخَلِّصُوكُمْ مِمّا أنتُمْ فيهِ اليَوْمَ؟(1/3208)
وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
{بُرْهَانَكُمْ}
(75) - وَيومَ القِيامَةِ يَنْزِعُ اللهُ تَعَالى مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَاهِداً عَلَيها، هُوَ نَبيُّها، فَيشْهَدُ عَلَيها بما أَجَابَتهُ بهِ أُمَّتُهُ حينَ دَعَاها إِلى اللهِ، وأَبلَغَها رَسَالاَتِ رَبِّهِ، ويَقُولُ اللهُ تَعَالى لِلمُخَالِفينَ مِنْهُم: هَاتُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنْ حُجَّةٍ وَبُرهَانٍ على صِحَّةِ ما ادَّعيتُمُوهُ مِنْ أَنَّ للهِ شُرَكَاءَ. وَحِينئذٍ يَعلَمُونَ أَنَّهُ لا إلهَ إلاَّ اللهُ المَلِكُ الحَقُّ، وَلا حَقَّ غَيرُهُ، فَلا يَنطِقُونَ، ولا يُجِيبُونَ بِشَيءٍ عَنْ سُؤالِ الرَّبِّ العَظيمِ، وَيَتَلاشَى باطِلُهُمْ، وَمَا كَانُوا يَدْعُونَهُ مِنْ دُون اللهِ.(1/3209)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
{قَارُونَ} {وَآتَيْنَاهُ} {لَتَنُوءُ}
(76) - ويَلْفِتُ اللهُ تَعَالى نَظَرَ كُبَراءِ قُريشٍ، الذِين اغتَرُّوا بأَمَوالِهِم، واسْتَطَالُوا بِهَا عَلَى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى المُؤمنينَ، إِلى أنَّ المَالَ عَرَضٌ زَائِلٌ، وَأَنَّ المَالَ لاَ قِيمَةَ لهُ في مِيزَانِ اللهِ تَعَالى، يَوْمَ الحِسَابِ في الآخِرَةِ، وأَنَّ أمْوالَ هؤلاءِ الكُفَّارِ مِنْ قُريشٍ، لا تُعَدُّ شيئاً مذكُوراً بالنِّسبةِ لِلمَالِ الذي آتاهُ اللهُ قَارُونَ، ثُمَّ خَسَفَ اللهُ بهِ وبدَارِهِ الأَرْضَ لأَنَّهُ بَطِرَ وَأَشِرَ، واسْتَكْبَرَ ولم يَبْتَعِ بهذا المَالِ ثَوابَ اللهِ، وجَزَاءَهُ في الدَّارِ الآخِرَةِ.
وَيَقُولُ تَعَالى إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ بَني إِسرائيلَ (وَقَالَ بعضُ المُفَسِّرينَ إِنَّهُ كَانَ مِنْ أقرِباءِ مُوسَى عَليهِ السَّلامُ) ، وَقَدْ آتاهُ اللهُ كثيراً منَ المَالِ، حَتَّى إِنَّ مَفَاتَيِحَ خَزَائِنِ أمْوَالِهِ لَيَصْعُبُ عَلَى الجَمَاعَةِ حَمْلُها لِكَثْرَتِهَا، وَثِقلِ وَزْنِها، فَطَغَى وَبَغَى، وَبَطِرَ، وَتَكَّبرَ، فَقَالَ لبهُ قَومُهُ ناصِحِينَ: لا تَبْطَرْ، ولا تَفْرَحْ بمَا أَنتَ فيهِ من النَّعمَةِ والمَالِ، لأَنَّ اللهَ تَعَالى لاَ يًُحِبُّ البَطرِينَ الأَشِرِينَ، الذين لا يَشكُرونَ اللهَ عَلَى نِعَمِهِ وآلائِهِ، وَتَنْسِيهمُ الدُّنيا والآخِرَةَ.
فَبَغَى عَلَيهِمْ - ظَلَمَهُمْ وَتَكَبَّرَ عَلَيهِمْ.
لَتَنُوء بالعُصْبَةِ - لَتُثْقِلُ الجَمَاعَة الكَثَيرَةَ وتَمِيلُ بِهِمْ.
لاَ تفرحْ - لا تَبْطَرْ ولاَ تَأْشَر بِكَثْرةِ المَالِ.(1/3210)
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
{آتَاكَ} {الآخرة}
(77) - واسْتَعْمِلْ مَا وَهَبكَ اللهُ مِنَ المَالِ الجَزيلِ، والنَّعمَةِ الطَّائِلَةِ، في طَاعَةِ رَبِّكَ، والتَّقَرُّبِ إليهِ، ولا تَنْسَ حَظَّكَ (نَصِيبَكَ) مِنَ الدُّنيا، ممَّا أَبَاحَهُ اللهُ فيها لِعِبادِهِ، مِنَ المَآكِلِ والمَشَارِبِ والمَلاَبِسِ وغَيرها. . فإِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيكَ حَقّاً، وَلِنَفَسِكَ عَليكَ حَقّاً،. . فَآتِ كُلِّ ذي حقٍّ حَقَّهُ. وأحْسِنْ إِلى خَلْقِ اللهِ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ولا يَكنْ هَمُّكَ الإِفسَادَ في الأَرضِ، والإِساءَةَ إلى خَلْقِ اللهِ، إنّ الله لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ.(1/3211)
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
{لاَ يُسْأَلُ}
(78) - فَأَجَابَ قَارُونَ نَاصِحِيهِ مِنْ قَومِهِ: إِنَّهُ لا يَفْتَقِرُ إلى مَا يَقُولُونَ، فإِنَّ الله إِنَّما أعطَاهُ هذا المَالَ لِعلمِهِ بأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ، وَلأَنَّهُ يُحِبّهُ. ويَرُدّ اللهُ تَعَالى عَليهِ قائِلاً: إِنَّهُ كَانَ قَبلَ قَارُونَ أُناسٌ كثيرونَ أكثرُ منهُ مالاً، إِلاَّ أَنهُ سُبحَانَهُ لَمْ يُعْطِهِمْ هذا المَالَ عَنْ مَحَبَّةٍ منهُ لهُمْ، وَقَدْ أًَهْلَكَهُمْ بِكُفْرِهِمْ، وَعَدمِ شُكرِهِمْ، وفي الآخِرَةِ لا يَسْأَلُ اللهُ تَعَالى المُجرِمينَ عَنْ ذُنُوبِهِمْ، ومِقْدَارِهَا وَكُنْهِها. . وَلاَ يُعَاتِبُهُمْ عَلَيها، وإِنِّما يُلْقِيهِمْ فِي جَهَّنَم دُونَ سُؤَالٍ.
مِنَ القْرُونِ - مِنَ الأُمَمِ.
لا يُسْأَلُ - سُؤَال اسْتِعلامٍ بلْ سُؤَالَ تَوِبيخٍ.(1/3212)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
{الحياة} {ياليت} {قَارُونُ}
(79) - وَخَرَجَ قَارُونَ ذَاتَ يومٍ عَلَى قَومِهِ، وَهُوَ في زِينَةٍ عَظِيمَةٍ، وتَجَمُّلٍ بَاهِرٍ، فلما رَآه مَنْ يُريدُ الحَيَاةَ الدُّنيا، وَيمَيلُ إلى زُخُرفِها وزِينَتِها مِنْ قَومِهِ، تَمَنُّوا أَنْ لَوْ كَانُوا يُعطَوْنَ مِثْلِ ما أُعْطِيَ قَارُونُ مِنَ المَالِ، فهوَ ذُو حَظٍّ عظيمٍ وافرٍ في الدُّنيا.
في زِينتِه - في مَظَاهِرِ غِنَاهُ وَتَرَفِهِ.(1/3213)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)
{آمَنَ} {صَالِحاً} {يُلَقَّاهَآ} {الصابرون}
(80) - فَلَمَّا سَمِعَ أهلُ العِلْمِ النَّافِع مَقَالَةَ مَنْ تَمَنَّوا أَنْ يكُونَ لَهُمْ مِثلُ مَا أُوتِيَ قَارُونُ من المَالِ، قَالُوا لَهُمْ: الوَيلُ والهَلاَكُ لَكُمْ عَلَى ما تَمَنِّيتُمْ، فَما يدِّخِرُهُ اللهُ مِنْ جَزاءٍ وثَوَابٍ لِعبَادِهِ الصَّالِحينَ في الدَّارِ الآخِرَةِ خيرٌ ممَّا تَرَوْنَهُ، ولا يَفُوزُ بالجَنَّةِ ونَعيمِها فِي الدَّارِ الآخِرَةِ إِلا الصَّابِرُونَ على مَحَبَّتِهِ، الرَاغِبونَ في الدَّار الآخِرَةِ.
وَيْلَكُم - زَجْرٌ لَهُم عَلَى هذا التَّمنِّي - والوَيلُ لُغَةً الهَلاَكُ.
لا يَلَقَّاهَا - لا يُوفَّقُ لِلْعَمَلِ لِلمَثُوبَةِ.(1/3214)
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
(81) - وَبينمَا كَانَ قَارُونَ يَخْتَالُ بِطِراً مُتَفَاخِراً عَلَى قَومِهِ، وَهُوَ في حِلْيَتِهِ وزِينَتهِ، إِذْ خَسَفَ اللهُ بهِ وبِدَارِهِ الأَرضَ، فَأَصبَحَ هُوَ ودارُهُ وأموَالُهُ وخَزَائِنُهُ لا أثرَ لَهُمْ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَنْصُرُهُ مِنْ بَطْشِ اللهِ وَعَذَابِهِ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ مَالُهُ ولا جَمْعُهُ وَلا خَدَمُهًُ، وَلَمْ يَدْفَعْ كُلُّ ذَلِكَ عَنْهُ نَقْمَةَ اللهِ وَعَذَابَهُ.(1/3215)
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
{وَيْكَأَنَّ} {وَيْكَأَنَّهُ} {الكافرون}
(82) - وَلَمَّا رَأَى الذينَ تَمَنَّوْا مَالَ قَارُونَ وكُنُوزَهُ، مَا حَلَّ بهِ وبِمَالِهِ، قالُوا: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ؟ وَلولا لُطْفُ اللهِ بِنا لأَعْطَانَا مَا سَأَلنا، ثُمَّ فَعَلَ بِنَا كَمَا فَعَلَ بقَارُونَ، فَخَسَفَ بِنَا الأَرضَ، لَقَدْ كَانَ قَارُونُ كَافِراً برَبِّهِ، وَلاَ يُفْلِحُ الكَافِرُونَ في النَّجَاةِ مِنْ عَذابِ اللهِ تَعَالى.
يَقْدِرُ - يُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، لِحِكْمَةٍ.(1/3216)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
{الآخرة} {العاقبة}
(83) - تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ - الجَنَّةُ التي عَلِمْتَ مِمَّا تَقدَّمَ وَصْفَهَا - قَدْ جَعَلَها الله خَالِصَةً لِعِبَادِهِ المُؤمِنينَ المُتَواضِعِينَ، الذينَ لاَ يُريدُونَ اسْتِكْبَاراً على خَلْقِ اللهِ، وَلاَ تَعَاظُماً عَلَيهِمْ، وَلاَ َجَبُّراً، وَلاَ فَسَاداً في الأَرضِ. وَالعَاقِبَةُ المَحْمُودَةُ، وهيَ الجَنَّةُ، جَعَلَها اللهُ لِمَنْ مَلأَتْ خَشْيَةُ اللهِ قَلَبْهُ، واتَّقى عَذَابَه بِفعلِ الطَّاعَاتِ، وَتَرْكِ المُحَرَّمَاتِ.(1/3217)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
(84) - مَنْ جَاءَ يَومَ القِيَامَةِ وَلَهُ حَسَناتٌ اكْتَسَبَها في الدُّنيا، ضَاعَفَ الله ثَوابَهُ، فَضْلاً منهُ وكَرماً، ومَنْ جَاءَ بالسَّّيَئَةِ فَلاَ يُجزَى إِلاَّ مِثْلَها، عَدلاً مِنَ اللهِ وَرَحْمَةً.(1/3218)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)
{القرآن} {ضَلاَلٍ}
(85) - يُخَاطِبُ الله تَعَالى رَسُولَهُ الكَريمَ فَيَقُولُ: إِنَّ الذي أَوْجَبَ عَلَيكَ العَمَلَ بأحْكَامِ القُرآنِ وفَرَائِضِهِ لَرَادُّكَ إِلى مَكَّةَ ظَافِراً مُنْتِصراً، كَمَا أَخْرَجَكَ مِنْها - وَتَمَّ ذلكَ بَعْدَ الفَتْح -.
(وقيلَ بلْ إِنَّ المَعْنَى هُوَ: إِنًَّ الذِي أَنزَلَ عَلَيكَ القُرآانَ لَرادُّكَ إِلى مَوْعِدٍ - وهُو يومُ القِيامةِ - لِيَفْصِلَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مُكَذِّبِيكَ) . وَيُرْوَى أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لَمّا خَرَجَ مُهَاجراً مِنْ مكَّةَ إِلى المَدِينةِ، نَزَلَ بالجُحْفَةِ، فَعَرَفَ طَريقَ مَكَّةَ، واشْتَاقَ إِليها حِينَما تَذَكَّر مَولِدَهُ ومَوْلِدَ وَالِدِهِ فيها. فَنزَلَ عَليهٍِ جِبْرِيلُ عَلَيهِ السَّلامُ وقال لَهُ: أتْشْتَاقُ إِلى بلدِكَ ومَولِدِكَ؟ فَقالَ الرَّسُولً صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ: فَقَالَ لًَهُ جَبْرِيلُ إِنّ اللهَ تَعَالى يَقُولُ لَكَ {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن. . .} الآية.
مَعَادٍ - مَكَّةَ ظَاهراً عليها.(1/3219)
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)
{ترجوا} {الكتاب} {لِّلْكَافِرِينَ}
(86) - ومَا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ تَظُنُّ - قَبلَ إِنزَالِ الوَحيِ عَلَيكَ - أَنَّهُ سَيَنزِلُ عَليكَ، فَتَعْلَمُ أَخبارَ المَاضِينَ منْ قَبلِكَ، وَمَا سَيَحدُثُ مِنْ بَعدِكَ، وما فيهِ تَشْرِيعٌ وسَعادَةٌ للبَشَرِ في مَعَاشِهِم ومَعَادِهِمْ، ثُمَّ تَتلُو ذَلكَ عَلى قَومِكَ، وأن الله أَنْزَلَهُ عَليكَ رَحمةً منهُ بِكَ وبالعِبَادِ، فإِذا حَبَاكَ اللهُ بهذِهِ النِّعمَةِ العَظِيمةِ، فَلا تَكُونَنَّ مُعِيناً لِلْكَافِرينَ، وَلكِنْ فَارِقْهُمْ وخَالِفْهُمْ.
ظَهيراً - مُعِيناً.(1/3220)
وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)
{آيَاتِ}
(87) - وَلا يَصْرِفَنَّكَ الكُفَّارُ عَنِ القِيَامِ بإِبلاَغِ آياتِ اللهِ التِي أَنزَلَهَا عَلَيكَ إِلى قَومِكَ، وَلاَ تَتْرُكْ دَعْوةَ المُشْرِكينَ إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ لأَنَّكَ إِنْ تَركْتَ دَعْوَتَهُمْ كُنتَ مِمَّنْ يَفْعَلُ فِعلَ المُشرِكِينَ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، وَمُخَالَفَةِ أَمرِهِ.(1/3221)
وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
{آخَرَ}
(88) - إِنَّ العِبَادَةَ لا تَنبغي إلاّ للهِ وَحْدَه لا شَريكَ لَهُ، فاعْبُدْهُ مُخْلِصاً له الدِّين، ولا تَعبُدْ مَعَ اللهِ أَحَداً غيرَهُ، وَهُوَ وَحْدَهُ البَاقِي الدَّائِمُ، وَكُلُّ شيءٍ في الوُجُودِ، غَير اللهِ، هالكٌ وَفَانٍ، لا إِله إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَهُ الحُكْمُ والمُلْكُ والتَّصَرُّفُ في الدُّنيا والآخِرَةِ، ولا مُعًَقِّبَ عَلى حُكْمِهِ وإِليهِ يَرجِعُ النَّاسُ يَومَ القِيَامَةِ، فَيَجْزِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ خَيرِها وَشَرِّها.(1/3222)
الم (1)
(1) - أَلِفْ لاَمْ. مِيمْ. وتُقْرَأُ مُقَطَّعَةً - اللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
{آمَنَّا}(1/3223)
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)
(2) - هَلْ ظَنَّ النَّاسُ أنْ نَتْرَكَهُمْ وشَأْنَهُمْ بِمُجَرَّدِ نُطْقِهِمْ بالشَّهادَتَيْنِ، وَقَوْلِهِمْ آمنَّا باللهِ وَرَسُولِهِ، دُونَ أَنْ يَبْتَلِيَهُم اللهُ، ويَخْتَبِرَ صِدْقَ إِيمَانِهِمْ: بِالهِجْرَةِ، والتَّكَالِيفِ الدِّينْيةِ الأُخرى، والجِهَادِ، والمَصَائِبِ؟ كلاّ، فإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا بُدَّ مِنْ أَنْ يَبْتَلِيَ عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ، بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ إٍِيمانٍ.
(وَجَاءَ في الصَّحِيحِ: " أَشَد النَّاسِ بَلاَءً الأَنْبِياءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَ الأَمْثَلُ فَالأَمثَلُ، يُبتَلى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِه، فإنْ كَانَ في دِينِهِ قُوَّةٌ زِيدَ لَهُ في البَلاَءِ ") .
لا يُفْتَنُونَ - لا يُمْتَحَنُونَ بِالمَشَاقِّ لِيتَمَيَّزَ المُخْلِصُ مِنَ المُنَافِقِ.(1/3224)
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
{الكاذبين}
(3) - وَلَقَدِ امتَحَنَ اللهُ المُؤمنينَ السَّالِفينَ، وَعَرَّضَهُمْ للفِتْنَةِ والاخْتِبَارِ، وغَايَتُهُ سُبحَانَهُ وَتَعالى مِنْ هذا الابتِلاءِ والاخْتِبارِ هيَ أَنْ يُمَحِّصَهُم فَيَعْلَمَ الذينَ صَدَقُوا في دَعوى الإِيمانِ، مِمَّنْ هُمْ كاذبون في دَعواهُم، ولِيُجَازِيَ كُلاّ بمَا يَسْتَحقُّهُ.(1/3225)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
(4) - أمْ هَلْ يظُنَّ الذِينَ يَرْتَكِبُونَ الفَواحِشَ والآثَامَ، أَنْ يَفُوتُوا رَبَّهُمْ، وَيَسْبِقُوهُ، فَلا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ عِقَابَهُ العَادِلَ، وَلا أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، كَما هِيَ سُنَّتُهُ في الظَّالِمين؟ إِنًَّهم إِنْ ظَنُّوا أَنَّ في اسْتِطَاعَتِهِمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ سَاءَ مَا يَظُنُّونَ، وَمَا يَحْكُمُونَ.
أَنْ يَسْبِقُونا - أَنْ يُعْجِزُونا وَيَفُوتُونا.(1/3226)
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)
{يَرْجُو} {لآتٍ}
(5) - مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالبَعْثِ، وَيَطْمَعُ فِي ثَوابِ اللهِ يَومَ لِقَائِهِ في الآخِرَةِ، فَلْيُبَادِرْ إِلى فِعْلِ مَا يَنْفَعُهُ، وَعَمَلِ مَا يُوصِلُهُ إِلى مَرْضَاةِ رَبِّه، وَلَيَجْتَنِبْ ما يُسْخِطُ رَبَّه عَلَيهِ، فإِنَّ أَجَلَ اللهِ الذي حَدَّدَهُ لِبَعْثِ خَلْقِهِ لِلحِسَابِ والجَزَاءِ لآتٍ لاَ مَحَالَةَ، وَاللهُ هُوَ السَّميعُ لأَقْوالِ العِبَادِ، العَلِيمُ بِعَقَائِدهُمْ وأَعْمَالِهِمْ.
أجلَ الله - المَوْعِدَ الذي حَدَّدَهُ لِلْبَعْثِ وَالجَزَاءِ.(1/3227)
وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)
{جَاهَدَ} {يُجَاهِدُ} {العالمين}
(6) - وَمَنْ بَذَلَ جُهْدَهُ في جِهَادِ عَدُوٍّ لِدِينِهِ وَوَطَنِهِ وَقَوْمِهِ، وَفي مُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ، وَكَفَّها عَنِ التَّفْكِيرِ في المُنْكَرِ والسُّوءِ، فإِنَّهُ إِنَّما يَفْعَلُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ نَفْعِ نَفْسِهِ، بِالفَوْزِ بِثَوابِ اللهِ عَلى جِهَادِهِ، وبِالنَّجَاةِ مِنْ عِقَابِهِ، وَلَيْسَ اللهُ بِحَاجَةٍ إِلى جِهَادِ أَحَدٍ، فَهُوَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَهُوَ عَزِيزٌ لا يُنَالَ وَلاَ يُضَامُ.(1/3228)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
{آمَنُواْ} {الصالحات}
(7) - وَالذِينَ آمنُوا باللهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَصَحَّ إيمَانُهُمْ حِينَ ابْتِلائِهِمْ واختِبَارِهِمْ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَة، فَإِنَّ الله تَعَالى سَيَجحْزِيهِمْ أَحْسَنَ الجَزَاءِ في الآخِرَة، فَيُكَفِّرُ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِم التي فَرَطَتْ مِنْهُم لِمَاماً في حَالِ إِيمَانِهِمْ، ثُمَّ نَدِمُوا عَلى ما اجْتَرحُوهُ منها، وَيُثِيبُهُمْ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ، فَيَتَقَبَّلُ القَلِيلَ مِنَ الحَسَناتِ، وَيُثِيبُ عَلَيهَا الوَاحِدةَ بِعَشرِ، أَمْثَالِها، ويَجْزي عَلى السَّيِّئَةِ بِمِثْلِها أَوْ يَعْفُوا وَيَصْفَحُ.(1/3229)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
{الإنسان} {بِوَالِدَيْهِ} {جَاهَدَاكَ}
(8) - يَأَمُرُ اللهُ تَعالى عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ بالإِحسانِ إِلى الوَالِدينِ، لأَنَّهُما سَبَبُ وُجُودِ الإِنْسَانِ، وَلَهُمَا عَلَيهِ الفَضْلُ الكَبيرُ. وَلكِنْ إِذا كَانَ الوَالِدَانِ مُشْرِكَينِ وأَمَرا وَلدَهُما المُؤْمِنَ بِمَا فِيهِ كُفْرٌ وَمَعْصِيَةٌ للهِ تَعَالى، أَوْ أَمَراهُ بأَنْ يُشْرِكَ باللهِ مَا لا عِلمَ لَهُ بألُوهِيَّتِهِ (مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، فَعَلَيهِ أَنْ لاَ يُطِيعَهُما، لأَنّ حَقَّ اللهِ أَعظَمُ مِنْ حَقِّ الوَالِدينِ إِذْ " لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ في مَعصِيَةِ الخَالِقِ " كَمَا جاءَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
ثُمَّ يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالى عِبَاده المُؤمِنينَ إلى أَنَّهُمْ سَيرجِعُونَ إليهِ يومَ القِيَامةِ فَيجْزِيهِمْ بإِحْسَانِهِمْ إِلى وَالدَيهِمْ، وَبِصَبْرِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَيَحْشُرُهُمْ مَعَ الصَّالِحينَ.
وَوَصَّينَا الإِنْسَانَ - أَمَرْنَاهُ.
حُسْناً - بِرّاً بَوَالِدَيهِ وَعَطْفاً عَلَيْهِمَا.(1/3230)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
{آمَنُواْ} {الصالحات} {الصالحين}
(9) - واللهُ تَعَالى سَيُدخِلُ الذِينَ آمنُوا وعَمِلُوا الأَعمَالَ الصَّالحَةَ في رَحْمَتهِ، وَيَحْشُرُهُمْ مَعَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ.
(وقِيلَ إِنَّ هذهِ الآيَةَ والتِي قبلَهَا نَزَلَتَا في سَعْدِ بنْ أَبِي وَقَّاصٍ وأُمِّهِ، فَقَدْ قَالتْ لهُ يوماً: أَليسَ اللهُ أَمَرَكَ بِالبِرِّ؟ واللهِ لا أطْعَمُ طَعَاماً ولا أَشْربُ شراباً حَتَّى أَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ. فَكَانُوا إِذا أَرادُوا أَنْ يُطْعِمُوهَا فَتَحُوا فَمَهَا بِعُودٍ، فَنَزَلَتْ هَاتَانِ الآيتَانِ) .(1/3231)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)
{آمَنَّا} {لَئِنْ} {العالمين}
(10) - وَهُنَاكَ فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ يَدَّعُونَ الإِيمَانَ بأَلسِنَتِهِمْ، فَإِذا آذاهُ المُشْرِكُونَ لإِيِمَانِهِ بِاللهِ، جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ في الدُّنيا كَعَذَابِ اللهِ في الآخِرَةِ، فَارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ، وَرَجَعَ عَن إيمَانِهِ إلى الكُفْرِ، مَعَ أَنَّهُ لو صَبَرَ لَكَانَ خَيراً لهُ، لأنَّ عَذَابَ النَّاسِ لهُ دافعٌ يدفَعُه عنهُ، ولهُ نِهايةٌ، ويُثَابُ المُؤِمنُ، عَليهِ. وعَذَابُ اللهِ ليسَ لهُ مَنْ يَدْفَعُهُ عنْهُ، ولا نِهَايةَ لَهُ، وَيَترتَّبُ عليهِ العِقَابُ الأَليمُ.
أَمَّا إِذا جَاءَ نَصْرُ مِنَ اللهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالمُؤْمِنينَ، وَفَتْحٌ وَمَغَانِمُ فَيَقُولُ هؤلاءِ المُتَظَاهِرُونَ بالإٍيمان: إِنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ والمؤمنينَ يَنْصُرونَهُم، وإِنَّهُمْ إِخْوانُهُم في الدِّينِ، وطَالبُوا بِنَصِيبِهِمْ مِنَ المَغْنَمِ. ثُمَّ يَقُولُ تَعَالى: إِنَّهُمْ لا يُمْكِنُ أَن يَخدَعُوا اللهَ بِهذَهِ الدَّعوَى فَهُوَ عَالمٌ بما في قُلُوبِهِمْ مِنْ نِفاقٍ، وَبما تُكِنُّهُ ضَمَائِرُهُمْ، وإِن أَظْهَرُوا الإِيمَانَ لِلمُؤْمِنينَ، فَهُوَ تَعالى لا تَخْفَى عَليهِ خَافِيَةٌ.
فِتنَةَ النَّاسِ - مَا يِصِيبهُ مِنْ أَذَاهُمْ وَعَذَابِهِمْ.(1/3232)
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
{آمَنُواْ} {المنافقين}
(11) - وَلَيَخْتَبِرَنَّ اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ بالسَّراءِ والضَّرَّاءِ، لِيُمَيِّزَ المُؤْمِنَ الصَّادِقَ فِي إِيمَانِهِ، مِنَ المُنَافِقِ المُتَشَكِّكِ، وَلِيُظْهِرَ مَنْ يُطيعُ الله فَيصْبِرُ على الأذى إِنْ مَسَّهُ في سَبيلِ اللهِ، وَمَنْ يَعصِيهِ، ويَنْكِصُ عَلى عَقِبَيهِ إِنْ مَسَّهُ ضَرّ {إِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ.}(1/3233)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)
{آمَنُواْ} {خَطَايَاكُمْ} {بِحَامِلِينَ} {خَطَايَاهُمْ} {لَكَاذِبُونَ}
(12) - وَقَالَ كُفَّارُ قَريشٍ لِمَنْ آمنَ مِنْهُمْ، واتَّبَعُوا الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم: ارجِعُوا إِلى دِيننكُمُ الأَوَّلِ، وَعُودُوا فِيهِ، وإِذا كَانَ هُنَاكَ بَعْثٌ وَحِسَابٌ فإِنَّهُمْ سَيَحْمِلُونَ عَنْهُمْ تَبِعَةَ آثامِهِمْ، وهيَ في رِقَابِهِمْ، وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالى عَلَيهِمْ مُكَذِّباً: إِنَّهُ لا يَحْمِلُ أَحَدٌ، فَكُلُّ امْرِئٍ بِمَا اكْتَسَبَ رَهِينٌ.
خَطَايَاهُمْ - أوْزَارُهُمْ وَذُنُوبُهُمْ.(1/3234)
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
{لَيُسْأَلُنَّ} {القيامة}
(13) - وَسَيَحْمِلُ الدُّعاةُ إٍِلى الكُفْرِ والضَّلاَلَةِ، يَومَ القِيَامَةِ، أَوْزَارَ أَنْفُسِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ، وَمِثلَ أَوْزَارِ مَنْ أَضَلُّوهُمْ مِنَ النَّاسِ، وَصَرفُوهُمْ عَنِ الهُدَى مِنْ غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِ أولئِكَ شَيْءٌ، وَسَيُحَاسَبُ هؤلاءِ المُضِلُّونَ يومَ القِيَامَةِ عَلَى مَا يَخْتَلِقُونَهُ مِنَ البُهْتَانِ، وَيُعَذِّبُونَ بِهِ.
أَثَالَهُمْ - أَوْزَارَهُم الفَادِحَة.
يَفْتَرُونَ - يَخْتَلِقُونَ مِنَ الأَبَاطيلِ.(1/3235)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)
{ظَالِمُونَ}
(14) - يُسَلِّي اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بمَا يَقُصُّهُ عَلَيهِ مِنْ قَصَصِ الأَنبياءِ الكِرام، وَمَا لَقُوْهُ مِنَ المُكَذِّبين مِنْ أَقوامِهِمْ، فَمَا وَهَنُوا وَلا ضَعُفُوا وَقَامُوا بِمَا أَمَرَهُمْ بهِ رَبُّهُمْ على الوَجْهِ الأَكْمَلِ. وَهُنا يُخْبِرُ اللهُ تَعَالى رَسُولَه أَنَّ نُوحاً مَكَثَ في قَوْمِهِ مدَّةَ تِسْعِ مِئةٍ وَخَمْسِينَ عَاماً يَدْعُوهُم إِلى اللهِ لَيلاً ونَهَاراً، وسِراً وَجِهَاراً فلمْ يزِدْهُمْ ذلِكَ إِلا فِراراً، ولمْ يُؤِمِنْ لهُ منْ قومِهِ إٍِلا القَلِيلُونَ، كَمَا جَاءَ في آياتٍ أُخَر، وهَمُّوا بِإِخْراجِهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أرضِهِمْ فَنَصَرُه اللهُ على أعدائِهِ الكَفَرةِ المُكَذِّبينَ، وأَهْلَكَهُمْ جَمِيعاً بالطُّوفَانِ، وَهُمْ ظَالِمُونَ لأًَنْفُسِهِمْ، واللهُ يَهدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَبِيدَهِ الأَمْرُ كُلُّهُ.(1/3236)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
{فأَنْجَيْناهُ} {أَصْحَابَ} {َجَعَلْنَاهَآ} {لِّلْعَالَمِينَ}
(15) - فَأَنْجَى اللهُ تَعَالى نُوحاً وَمَنْ آمنَ مَعَهُ بالسَّفينَةِ، وَجَعَل قِصَّتَهُم (أَوْ جَعَلَ السَّفِينَةَ) آيةً وَدَلاَلَةً عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى، وَعَلَى حِكْمَتِهِ وأَغْرَقَ الآخرِينَ بالطُّوفَانِ.(1/3237)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)
{إِبْرَاهِيمَ}
(16) - واذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَومِكَ قِصَّةَ أَبيهِمْ إِبراهِيمَ عَليهِ السَّلامُ إِذْ آتاهُ اللهُ رُشْدَهُ مُنْذُ صِغْرِهِ، فَكَمُلَ عَقْلُهُ، وأَخَذَ في دَعْوَةِ قَوْمِهِ إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَإِلى الإِخْلاَصِ فِي تَقوَى اللهِ في السِّرِّ والعَلَنِ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ إِنَّ الإِيمَانُ خَيْرٌ سلهُم مِنَ الكُفْرِ إِنْ كَانُوا مِنْ ذَوِي العِلمِ والفَهْمِ، وإِنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بهِ فَازُوا بالخَيرِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ.(1/3238)
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)
{أَوْثَاناً}
(17) - إِنَّكُمْ لاَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِلا تَمَاثِيلَ مِنْ حِجَارَةٍ تَنْحِتُونَهَا أَنْتُمْ، وتَخْتَلِقُونَ الكَذِبَ فَتُسَمُّونَها آلهَةً، وهذِهِ التَّماثِيلُ لا تُمْلِكُ لَكُمْ ولا لأَنْفُسِها ضَرّاً وَلا نَفْعاً، وَلا تَسْتَطيعُ رِزْقَكُمْ ولا رِزْقَ أَنْفُسِهَا، والرَّازِقُ هُوَ اللهُ، فاطْلٌبُوا الرِّزْقَ مِنَ اللهِ، وكُلوا مِنْ رِزْقِ اللهِ واعبُدُوهُ واشْكُرُوا لهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بهِ عَلَيكُم، واعْلَمُوا أَنَّكُمْ سَتَرجِعُونَ إِليهِ يَومَ القِيامةِ فَيُحَاسِبُكُمْ عَلَى أعْمَالِكُمْ، وَيَجِزِيكُمْ بِهَا.
(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ مَعْنَى (تَخْلُقُونَ إِفْكاً) هُوَ تَنْحِتُونَ أَصْنَاماً)(1/3239)
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
{البلاغ}
(18) - وَقَالَ إِبراهِيمُ، عَلَيهِ السَّلامُ، مُتَابِعاً نُصْحَ قَوْمِهِ: إِنَّكُمْ إِنْ كَذَّبْتُمْ رَسُولَكُمْ فَقَدْ كَذَّبَتْ أُمَمٌ أُخْرَى قَبْلَكُمْ رُسُلَهَا، وَقَدْ بَلَغَكُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ الهَلاَكِ والدَّمَارِ، وَكَيفَ أَخَذَهُُ اللهُ بِعَذَابِهِ، وَمَهَمَّةُ الرَّسُولِ هيَ إِبْلاغُ النَّاسِ مَا أَمَرهُ رَبُّهُ بإِبلاغِهِ إِليهِمْ فَاحْرِصُوا عَلَى أَنْ تَكُونُوا مِنَ السُّعَدَاءِ المُستَجٍِيبِينَ لأَمرِ اللهِ.(1/3240)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)
(19) - ثُمَّ لَفَتَ إِبراهِيمُ عَليهِ السَّلامُ، نَظَرَ قَومِهِ إلى الأَدِلَّةِ عَلَى وَقُوعِ البَعْثِ بَعدَ المَوتِ بمَا يُشَاهِدُونَهُ في أَنْفُسِهِمْ مِنْ خَلْقِ اللهِ إِيَّاهُمْ بَعْدَ أَنْ لمْ يكُونُوا شَيْئاً مَذْكُوراً، ثُمَّ أوجَدَهُم وجَعَلهم أُناساً ذَوي سَمْعٍ وَبَصَرٍ، فالذي يَبْدَأُ هذا قَادِرٌ عَلى إِعَادَتِهِ، لأَنَّ الإِعَادَةَ أسْهَلُ مِنَ الابتِدَاءِ، كَمَا جَاءَ في آيةٍ أُخْرَى {وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ.}(1/3241)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
{الآخرة}
(20) - وَأَمَرَ اللهُ تَعَالى إبرَاهيمَ بإِرْشَادِ المُكَذِّبينَ مِنْ قَومِهِ إِلى الاعْتِبارِ بمَا فِي الكَونِ منَ الآياتِ المُشَاهَدَةِ مِنْ خَلْقِ اللهِ الأَشياءَ والسَّمَاواتِ والأَرْضَ وَالجِبَالَ والنَّباتَاتِ. . . وفي كُلِّ ذَلِكَ دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّ خَالِقَها هُوَ اللهُ، وَهُوَ الذِي يَقُولُ للشَّيءِ كُنْ فَيَكُونُ. فَهُوَ قَادِرٌ عَلى إِعَادَةِ خَلقِ هذِهِ الأَشياءِ مرَّةً أُخْرى.(1/3242)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21)
(21) - وَيُعَذِّبُ اللهُ مَنْ يَشَاءُ - وَهُمُ المُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ، الجَاحِدُونَ بآياتِ الله - في الدُّنيا وَالآخِرَة بِعَدْلِهِ في حُكْمِهِ فِي الخَلْقِ، ويَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ بِفْضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ - وَهُمُ المُؤْمِنُونَ - فَهُو الحَاكِمُ المُتَصَرِّفُ الذي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ، وَلاَ مُعقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَإِليهِ يُرَدُّ الخَلْقُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِيُحَاسِبهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.
وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ - تُرَدُّونَ وَتُرْجَعُونَ إِليهِ لِلْحِسَابِ وَالجَزَاءِ.(1/3243)
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)
(22) - وَلا يُعجِزُ اللهَ تَعَالَى أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، مِنْ أَهلِ السَّمَاوَاتِ وَلاَ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، وًَهُوًَ القَاهِرُ فَوقَ عِبَادِهِ، فَكُلُّ شَيءٍ فَقِيرٌ إِليهِ، وَليسًَ لِلنَّاسِ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَليٍّ يَليِ أَمُورَهُمْ، وَيَحْرُسُهُم مِنْ أنْ يَحِلّ بِهِمْ بلاَءٌ، وَليسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ نَاصِرٍ مِنْ بأَسِ اللهِ وَعَذَابِهِ.
يِمُعْجِزِينَ - فَائِتِينَ بِالهَرَبِ مِنْ عَذَابِ اللهِ.(1/3244)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
{بِآيَاتِ} {َلِقَآئِهِ} {أولئك} {يَئِسُواْ}
(23) - وَالذِينَ كَفَرُوا بالدَّلائِلِ التي نَصَبَها اللهُ تَعَالى فِي الكَوْنِ، لِلدَّلاَلَةِ عَلَى وِجْودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَالدَّّلائِلِ التي أَنزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ للإِرشْادِ، ولِهِدَايَةِ الخَلْقِ إِلى سَبِيلِ اللهِ، وَجَحَدُوا بِلِقَاءِ اللهِ يَومَ القِيَامَةِ، فَأَنْكَرُوا البَعْثَ والحِسَابَ، أُولئِكَ لا مَطْمَعَ لَهُمْ فِي رَحْمَةِ اللهِ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَخَافُوا عِقَابَهُ، وَلمْ يَرْجُوا ثَوَابَهُ، وَلَهُمْ عَذابٌ مُؤْلِمٌ مٌوجِعٌ في الدُّنيا وَالآخِرَةِ.(1/3245)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)
{فَأَنْجَاهُ} {لآيَاتٍ}
(24) - فَلَمْ يَكُنْ لِقومِ إِبراهِيمَ مِنْ جَوابٍ يَرُدُّونَ بهِ عَلَى الحُجَجِ الدَّامِغَةِ التي جَاءَهُمْ بها إبراهيمُ علَى فَسَادِ مُعْتَقَداتِهِمْ، وَعبَادَتِهم الأَصْنَامَ، إِلا قَوْلُ بَعضِهِمْ لِبَعْضٍ: اقتُلُوا إِبراهيمَ أَوِ احْرُقُوهُ في النَّارِ، ثُمّ اسَتْقَرَّ رَأْيهُمْ على أَنْ يَحْرُقُوهُ، وَجَمَعُوا لهُ حَطَباً كَثيراً، وَأَشْعَلُوا النَّارَ فِيهِ، وَقَذَفُوا إِبراهيمَ في النَّارِ، فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنهَا بأَنْ أَمَرَ النَّارَ بأَنْ تَكُونَ بْرداً وَسَلاَماً عليهِ. وَفِي إِنجاءِ إِبراهيمَ مِمَّا أَرَادَهُ بهِ قَوْمُهُ، لآَيَةٌ عَظِيمةٌ عَلى قُدْرَةِ اللهِ، ولُطْفِهِ بِعِبَادِهِ، لِقَومٍ يَعْقِلُونَ، وَيَتَفَكَّرُونَ، وَيُؤْمِنُونَ.(1/3246)
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
{أَوْثَاناً} {الحياة} {القيامة} {مَأْوَاكُمُ} {نَّاصِرِينَ}
(25) - وَقَالَ لَهُمْ إِبرَاهِيمُ عليهِ السَّلامُ، مُقَرِّعاً ومُوَبِّخاً عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ في عِبَادَتِهِم الأَوثَانَ: إِنَّكُمْ إِنَّما اجْتَمَعْتُمْ عَلى عِبادَتِها فِي الدُّنيا للصَّدَاقةِ، والإِلفةِ التي تَقُومُ بَينَكُمْ، لا لِقِيامِ دَليلٍ عِنْدَكُمْ عَلَى صِحَّةِ عِبَادَتِها، وَلَمْ يُنكِرْ بعضُكُمْ عَلى بَعْضٍ عِبَادَةَ هذهِ الأصنامِ مُراعاةً لهذِهِ المَوَدَّةِ. ثُمَّ تَنْعَكِسُ الحَالُ في الآخِرَةِ فَتُصْبحُ هذِهِ المَوَدَّةُ والصَّدَاقَةُ بُغْضاً وَشَنآناً، وَيَجْحَدُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ الأَتْبَاعُ مِنْكُم المَتْبُوعِينَ، ويَلْعَنُ المَتْبُوعُونَ الأَتْبَاعَ، وَسَيكُونُ مَأْوَاكُمْ جَميعاً النَّارَ، ولَيْسَ لَكُمْ مَنْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ عَذَابِ الله تَعَالَى.
مَوَدَّةَ بَينكُمْ - لِلتَّوَادِّ والتَّواصُل بَيْنَكُمْ لاجْتِمَاعِكُمْ عَلَى عِبَادَتِها.
مَأْوَاكُمُ النَّارُ - مَنْزِلُكُمُ الذِي تأْوُونَ إِليهِ النَّارُ.(1/3247)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)
{فَآمَنَ}
(26) - فَآمَنَ لُوطٌ بِدَعْوَةِ إبراهِيمَ، عَلَيهِمَا السَّلامُ، وَقَالَ إِبراهِيم: إِني مُهَاجِرٌ إِلى الجِهَةِ التي أَمَرني اللهُ بالهِجْرَةِ إِليها، لدَعوَةِ النَّاس إِلى الله فيها، وَهُوَ تَعَالى العَزيزُ الجَانِبِ، الذي يَمْنَعُني مِمَّا يُريدُهُ بِي أَعدَائي، وَهُوَ الحَكِيمُ فِي شَرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ.
(وقولُه تَعَالَى: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي} يَحْتَمِلُ عَودَهُ إِلى لُوطٍ عَلَى أَنَّهُ
أَقربُ المَذْكُوِرينَ، كَمَا يَحْاَمِلُ عَوَدَهُ عَلَى إِبراهيمَ وَهُوَ المَحْكِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ الأَقربُ لأَنَّ الحَديثَ عَنْهُ) .(1/3248)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
{إِسْحَاقَ} {الكتاب} {آتَيْنَاهُ} {الصالحين}
(27) - وَلَمَّا فَارَقَ إِبراهيمُ قَومَهُ أَقَرَّ اللهُ عَينَهُ بِوِلاَدَةِ ابنِهِ إِسْحَاقَ، وَجَعَلَهُ اللهُ نَبياً، ثُمَّ وُلِدَ لإِسْحَاقَ يَعْقُوبُ في حَيَاةِ إِبراهِيمَ، وَجَعَلَهُ اللهُ نَبِيّاً، أَيضاً. وَجعَلَ الأنبياءَ مِنْ ذُرِّيتِهِ، فَكَانَ أنبِياءُ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ ذُرِّيَةِ يَعْقُوبَ، وآخِرُهُم عِيسَى، عليه السلام. وَكَانَ آخرُ الأَنبياءِ مُحَمَّدٌ، عليه السَّلام، مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ، عليه السلام. وَجَمَعَ اللهُ لإِبراهِيمَ سَعَادَةَ الدُّنيا والآخِرَةِ، فَكَانَ لهُ في الدُّنيا الرِزْقُ الوَاسِعُ، والمَنْزلُ الرَحْبُ، والمَوْرِدُ العَذْبُ، والزَّوْجَةُ الصَّالِحَةُ، والثَّنَاءُ الجَمِيلُ، والذِّكْرُ الحَسَنُ، والذُّرِّيَّةُ الصَّالِحَةُ الوَفيرةُ العَدَدِ، وَجَعَلَهُ اللهُ قَائِماً بِطَاعَةِ رَبِّهِ وَعِبَادَتِهِ، وَجَعَلَهُ اللهُ تَعَالى في الآخِرَةِ مِنْ ذَوي الدَّرَجَاتِ العَلِيَّةِ.(1/3249)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28)
{الفاحشة} {العالمين}
(28) - وَاذْكُرْ لِقَومِكَ قِصَّةَ لُوطٍ حِينَ أَرْسَلْنَاهُ إِلى أَهْلِ سَدُوم الذينَ سَكَنَ بَينَهُمْ، وَصَاهَرَهُمْ فَصَارُوا قَومَهُ، فَدَعَاهُمْ إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وأنكَرَ عَلَيهِمْ سُوءَ صَنِيعِهِمْ، وَقَبيحَ فِعَالِهِمِ، التي لَمْ يَسْبِقْهُم إِليهَا أَحَدٌ مِنَ العَالَمِينَ لفَظَاعَتِها، وَنُفْرَةِ الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ مِنْهَا.(1/3250)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)
{أَئِنَّكُمْ} {الصادقين}
(29) - ثُمَّ أَخَذ فِي بَيَانِ المُنْكَرَاتِ التِي كَانُوا يَأْتُونَهَا وَهِي:
- أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ، وَهُوَ مُنكَرٌ لَمْ يَسْبِقْهُمْ إِليهِ أَحَدٌ مِنَ البَشَرِ.
- أَنهُمْ كَانُوا يَقْطَعُونَ السَّبيلَ عَلَى المَارَّةِ فَيقْتُلُونَهُم، وَيَعْتَدُونَ عَلَيهِم ويأخُذُونَ أَموالَهُم.
- أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ المُنْكَرَ قَوْلاً وفِعْلاً في نَوادِيهِمْ، وَمُجْتَمَعَاتِهم، جَهْرَةً ودُونَ تَحَرُّجٍ، وَلاَ يَسْتَحي أَحَدٌ منهُمْ مِنْ فِعْلٍ، وَلا يُنكِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحدٍ فِعْلَ مُنْكَر أَتَاهُ.
فَلمْ يَكُنْ لَهُم جَوابٌ عَلَى دَعوتِهِ إِيَّاهُمْ إِلى عِبَادَةِ الله، وَعَلَى مَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبيحِ الأًعْمَالِ إِِلاَّ أَنْ قَالُوا لَهُ: إِئْتِينَا بِعَذَابِ اللهِ الذِي تَعِدُنا بِهِ، إِنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيما تَقُولُ مِنْ أَنَّ عَذَابَ اللهِ سَيَنزِلُ بِنا.
يَقْطَعُونَ السَّبِيلَ - يَتَعَرَّضُونَ لِلْمَارَّةِ بِالقَتْلِ والسَّلْب والاعْتِدَاءِ.
نَادِيكُم - مَجْلِسِكُمْ وَمُنْتَدَاكُمُ الذِي تَجْتَمِعُونَ فِيهِ.(1/3251)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
(30) - فَاسْتَنْصَرَ لُوطٌ رَبَّهُ، وَسَأَلَهُ ُ أَنْ يَنْصُرَهُ عَلَى هؤلاءِ المُفْسِدِينَ مِنْ قَومِهِ، الذينَ يَسْخَرُونَ مِنهُ، وَمِنْ إِنذارِهِ لَهُمْ بِعَذابِ اللهِ، إِِنْ اسْتَمرُّوا عَلى غَيِّهِمْ وَضَلالِهِمْ.(1/3252)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31)
{إِبْرَاهِيمَ} {مهلكوا} {ظَالِمِينَ}
(31) - وَلَمَّا جَاءَ رُسُلُ اللهِ إِبراهيمَ يُبَشِّرُونَهُ بِوِلاَدَةِ ابْنِهِ إِسْحَاقَ، ومِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ، قَالُوا لإِبراهيمَ: إِنَّنا سَنُهْلِكُ أَهْلَ القَريةِ التي يُوجَدُ فِيها لُوطٌ لأَنَّ أَهْلَها كَانُوا ظَالمِين لأَنْفُسِهِمْ، بِتَمَادِيهِمْ فِي الفَسَادِ والمَعَاصِي، وَتكْذِيبِ رَسُولِ اللهِ.(1/3253)
قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)
{الغابرين}
(32) - فَقَالَ إِبراهِيمُ عَلَيهِ السَّلامُ، لِمَلاَئِكَةِ اللهِ الكِرامِ: إِنَّ في القَريةِ التي يُرِيدُونَ إِهْلاَكَ أهْلِها لُوطاً وَهُوَ لَيْسَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَهُوَ مِنْ رُسُل اللهِ. فَقَالَ الرُّسُلُ: إنَّهُم أَعلَمُ مِنْهُ بِمَنْ في القريةِ منَ الكَافِرينَ ومِنَ المُؤْمِنينَ، وَإِنَّهُم سَيُنَجُّونَ لُوطاً وَأَهْلَهُ ومَنْ آمَنَ لَهُ، مِنَ الهَلاَكِ. إِلا امْرَأتَهُ فإِنَّها فإِنَّها سَتَبقَى في القَريةِ مَعَ قَوْمِها، وَسَتَكُونُ مِنَ الهَالِكِينَ (الغَابِرِينَ) لِمُمَالأَتِهَا قَوْمَها عَلَى فِعْلِ الخَبَائِثِ، وَالكُفْرِ وَالبَغْيِ.
الغَابِرِينَ - البَاقِينَ فِي القَريَةِ، أَوِ الهَالِكينَ.(1/3254)
وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)
{الغابرين}
(33) - وَجَاءَ رُسُلُ اللهِ إِلى بَيتِ لُوطٍ في صُورَةِ شُبَّانٍ حِسَانٍ الوُجُوه، فَخَافَ عَلَيْهِمْ لُوطٌ مِنْ قَومِهِ، واغْتَمَّ لمَجِيئِهِمْ إِليهِ، خَوْفاً مِنْ أَنْ يَقْصَدَهُمْ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ بِسُوءٍ، لِمَ يَعْلَمُهُ مِنْ فَسَادِ قَومِهِ، ولِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ عَجْزِهِ عَنْ حِمَايَتِهِمْ، وَدَفْعِ الأَذَى عَنْهُمْ. وَلمَّا رَأًَوْا مِنْهُ هذِهِ الحَالَ مِنَ الهَمِّ وَالقَلَقِ قَالُوا لَهُ: هَوِّنْ عَليكَ، وَلاَ تَخَفْ عَلَينا مِنْ قَوْمِكَ، فَإِنَّنا رُسُلُ رَبِّكَ، وَقَدْ جِئْنَا لِنُهْلِكَ قَوْمَكَ لأَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي فِعْلِ الخَبَائِثِ مَبْلَغاً لاَ مَطْمَعَ في رُجُوعِهِم عَنْهُ، وَإِنا سَنُنَجِّيكَ وَأَهْلَكَ وَمَن اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنينَ فَلاَ يُصِيبُكُمْ مَكْرُوهٌ. إِلا أَنَّ امرَأَتَكَ سَتَكُونُ مِنَ البَاقِينَ فِي القَرْيَةِ، وَسَتَهْلِكُ مَعَ قَوْمِها لِفَسَادِهَا، وَمُشَارَكَتِها قَوْمَهَا فِي فَسَادِهِمْ.
(وَقِيلَ إِنَّها كَانَتْ تَدُلُّ قَوْمَها عَلَى أَضْيَافِ لُوطٍ لِيَقْصدُوهُمْ طَلباً لِفِعْلِ الفَاحِشَةِ) .
مِنَ الغَابِرِينَ - مِنَ البَاقِينَ فِي القَريةِ - أَوْ مِنَ الهَالِكِينَ.
سِيءَ بِهِمْ - اعْتَراهُ الغَمُّ لِمَجِيِئِهِمْ إِليهِ خَوْفاً عَلَيْهِمِ.
ضَاقَ بِهِم ذَرْعاً - ضَعَفَتْ طَاقَتُهُ عَنْ تَدبِيرِ خَلاَصِهِمْ.(1/3255)
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34)
(34) - وَقَالَ المَلاَئِكَةُ لِلُوطٍ - إِنَّنا سَنُنْزِلُ عَلَى أَهْلِ هذِهِ القَرْيَةِ عَذَاباً مِنَ السَّمَاءِ تَنْخَلِعُ لَهُ قُلُوبُهُم (رِجْزاً) ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى فِسْقِهِمْ وَفَسَادِهِمْ.
فَتَزَلْزَلَتِ الأَرضُ بِهِمْ، وَغَارَتِ القَريَةُ في بَاطِنِ الأََرضِ، وَتَسَاقَطَتْ عَلَيهِم الحِجَارَةُ، فَأَصْبَحَ عَالِيها سَافِلَها وَلَمْ يَنْجُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِها، وَقَامَتْ مَكَانَها بُحَيْرَةٌ خَبِيثَةٌ مُنِتنَةٌ هي بُحَيْرَةُ لُوطٍ، وَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً لِغيرِهِمْ.(1/3256)
وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
{آيَةً}
(35) - وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا هذِهِ القَريَةَ، وَتَرَكْنَا مِنْها آثاراً ظَاهِرَةً لِيَكُونَ مَا فَعَلْنَاهُ عِبْرَةً بَيِّنةً، وَعِظَةً زَاجِرَةً لِقَومٍ يُبْصِرُونَ فَيُدْرِكُونَ، وَيَنْتَفِعُونَ بِعُقُولِهِمْ (يَعْقِلُونَ) .(1/3257)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36)
{ياقوم} {الأخر}
(36) - وَأَرْسَلْنَا رَسُولَنا شُعَيْباً إِلى مَدْيَنَ فَقَالَ لَهُمْ: يَا قَوْم اعْبُدُوا الله وَحْدَهُ، وأًَخلِصُوا العِبَادَةِ لَهُ، وَارْجُوا بِعِبَادَتِكُمْ إِيَّاهُ اليَومَ الآخِرَ وثَوابَهُ، وَلا تُفْسِدُوا في الأَرْضِ، وَلاَ تَبغُوا عَلى أَهْلِهَا، فَتُنْقِصُوا المِكْيَالَ والمِيزَانَ، وَتَقْطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى المَارَّةِ - كَمَا جَاءَ في آيةٍ أُخْرى-.
العَيْثُ - الفَسَادُ والبَغْيُ.(1/3258)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
{جَاثِمِينَ}
(37) - فَكَذَّبُوهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِندِ اللهِ، فَأَهْلَكَهُمْ اللهُ بِزَلْزَلَةٍ عَظِيمَةٍ ارْتَجَّتْ لَها الأَرضُ، وارْتَجَفَتْ لهَا القُلُوبُ، وهَلَكُوا جَميعاً، فَأَصْبَحُوا في دِيَارِهِمْ مَوْتَى، لاَ حَرَاكَ بِهِمْ.
أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ - الزَّلْزَلَةُ الشَّدِيدَةُ، بِسَبَبِ الصَّيْحَةِ.
جَاثِمِينَ - هَامِدِينَ، مَيِّتِينَ، لاَ حَرَاكَ بِهِمْ.(1/3259)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
{ثَمُودَاْ} {مَّسَاكِنِهِمْ} {الشيطان} {أَعْمَالَهُمْ}
(38) - يُخِبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنِ الأُمَمِ المُكَذِّبَةِ، وَكَيْفَ أَهْلَكَهُمْ وانْتَقَمَ مِنْهُمْ بِأَنْواعٍ مِنَ العَذَابِ، فَعَادٌ، قومُ هُودٍ (وَكَانُوا يَسْكُنُونَ في الأحْقَافِ، في مِنْطَقَةِ حَضرَمَوتَ) ، أًهْلَكَهُمُ اللهُ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيةٍ، سَخَّرَهَا عَلَيهِمْ سَبْعَ لِيالٍ مُتَواصِلَةٍ فَلَمْ يَتْرُكْ لَهُمْ مِنْ بَاقِيةٍ.
وثَمُودُ قُومُ صَالحٍ (وَكَانُوا يَسْكُنُونَ الحِجْرَ قُربَ وَادي القُرَى) أَهْلَكَهُمُ اللهُ جَمِيعاً بالصِّيْحَةِ، وبزَلزَلَةِ الأَرْضِ بِهِمْ، لَمَّا عَقَرُوا النَّاقَةَ التي أَخْرَجَهَا اللهُ لَهُم، بِنَاءً عَلَى طَلَبِهِمْ مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ.
وَكَانَتِ العَرَبُ تَعرِفُ مَسَاكِنَ قَومِ عَادٍ، وَقَومِ ثَمُودَ، وَتَمُرُّ بِها في تَرْحَالِها، وَتَرى آثَارَ الدَّمَارِ والهَلاَكِ الذي نَزَلَ بِهَا وبأَهلها. وَكَانَ سَبَبُ إِهْلاكِهِمْ هُوَ مَا زَيَّنهُ لَهُم الشَّيْطَانُ مِنْ أعمالٍ سَيِّئةٍ، وَعِبَادَةٍ غيرِ اللهِ تَعَالى، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلى الإِدِراكِ والاستبْصَارِ، والتَّميِيز بَيْنَ الحَقِّ والبَاطِلِ، وَلِذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عُذْرٌ في الغَفْلَةِ، وَعَدَمِ التَّبَصُّرِ في العَواقِبِ.
مُسْتَبَصِرِينَ - عُقَلاَءَ مُتَمَكِّنِينَ مِنَ التَّدَبُّرِ.(1/3260)
وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39)
{قَارُونَ} {هَامَانَ} {بالبينات} {سَابِقِينَ}
(39) - واذْكُر لِهؤلاءِ المُغْتَرِّينَ بأَمْوالِهِمْ مِنْ قُريشٍ كَيفَ أَهْلَكَ اللهُ قَارُونَ صَاحِبَ الأموالِ الكثيرةِ، إِذْ خَسَفَ بهِ وبِدَارِهِ وكُنُوزِهِ الأَرْضَ، كَمَا أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ مَلِكَ مِصْرَ وَوَزِيرَهُ هَامَانَ، فَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بالحُحَجِ والبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلى صِدْقِ رِسَالتِهِ، فاسْتَكْبَرُوا في الأرضِ بغيرِ الحَقِّ، وأََبَوا أَنْ يُصَدِّقُوهُ وأَنْ يُؤمِنُوا لَهُ، وَلَمْ يَكُونُوا فَائِتينَ الله، وَلاَ نَاجِينَ مِنْ عِقَابِهِ، فَهُوَ تَعَالَى قَادِرٌ عَليهِمْ في كُلِّ حِينٍ، وَهُوَ عَزيزٌ ذُو انتِقَامٍ.
سَابِقينَ - فَائِتينَ مِنْ عَذَاب اللهِ.(1/3261)
فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
(40) - وَقَدْ أَرسَلَ اللهُ تَعَالى عَلَى كُلِّ فِئَةٍ لوناً مِنْ ألوانِ العَذَابِ يَتَنَاسَبُ مَعَ عُتَوِّهِمْ وَجَرَائِمِِهِمْ:
- فَقَومُ عَادٍ كَانُوا يَقُولُونَ: (مَنْ أَشَدُّ مِنّا قُوَّةً) ، فَأَرْسَلَ اللهُ عَلَيهِمْ، رِيحاً شَدِيدَةَ البُرُودَةِ (صَرْصَراً) ، بَالِغَةَ العُنفِ والعُتُوِّ (عَاتِيَةً) ، تَحْمِلُ الحَصْبَاءَ، وَترِمِيهِمْ بِها، فَأَهْلَكَنْهُمْ جَمِيعاً.
- وقَومُ ثَمودَ كَذَّبُوا رَسُولَهُم صَالِحاً، وَتَهَدَّدُوهُ وَعَقَرُوا النَّاقَةَ، فَأَرْسَلَ اللهُ عَلَيهِمْ صَيْحَةً أًَخْمَدَتْ أَنفَاسَهُمْ، وَلَمْ تَتْرُكْ مِنْهُمْ أَحَداً.
- وَقَارُونُ طًغَى وَبَغَى وعَصَى اللهَ، وَمَشَى في الأَرْضِ، مَرَحاً فَخَسَفَ اللهُ بهِ وبِدَارِهِ الأَرضَ، وأَهلَكَهُ وكُنُوزَهُ.
- وَفِرْعَوْنُ وهَامَانُ وقَومُهُما مِنَ القِبطِ أَغرَقَهُمُ اللهُ في صَبيحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكانَتْ هذهِ العَقُوبَةُ جَزَاءً عَلَى مَا اجتَرَحُوهُ مِنَ الإِجْرامِ، ولمْ يَظْلِمْهُمُ اللهُ فيما فَعَلَ بِهِمْ، ولَكِنَّهُمْ هُمُ الذينَ كَانُوا يَظْلِمُونَ أَنَفُسَهُمْ بِالكُفْرِ، والبَطَرِ والعُتُوِّ والطُّغيَانِ، فَأَوْصَلُوها إِلى العَذَابِ والبَلاَءِ الذي حَلَّ بِها.
حَاصباً - رِيحاً عَاصِفاً تَرمِيهِم بالحَصْبَاءِ.
أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ - صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ مُهْلِكٌ مُرْجِفٌ.(1/3262)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
(41) - ثُمَّ ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلاً لِلْمُشرِكِينَ الذينَ اتَخَذُوا آلِهَةٌ مِنْ دُونِ اللهِ، يَرْجُونَ نَفْعَهُمْ وَنَصْرَهُمْ وَرِزْقَهُمْ فَقَالَ: إِنَّ مَثَلَ عَمَلِ هؤُلاءِ المُشرِكِينَ، مَثَلُ العَنْكَبُوتِ التِي اتَّخَذَتْ بَيتاً تَحْتمي بهِ، مَعَ أَنَّ بيتَها هُوَ أَوْهَى البُيُوتِ، وأَضْعَفُها، وأَبْعَدُها عَن الصَّلاحِ لِتَأْمِين الحِمَايَةِ، وَلَوْ علِمَ المُشْرِكُونَ حَقيقَةَ حَالِهِمْ لَمَا اتَّخَذَوا مِنْ دُونِ اللهِ أوْلِياءَ لا يُغْنُونُ عنهُمْ شَيئاً، لكِنَّ الجَهْلَ بَلَغَ مِنْ هؤُلاءِ حَداً لا يَسْتَطِيعُونَ مَعَهُ التَّميِيزَ بينَ الخَيرِ والشَّرِّ.(1/3263)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)
(42) - واللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ حَالَ مَا يَعْبُدُهُ هؤُلاءِ مِنْ دُونِ اللهِ مِنَ الأَصْنَامِ والأَوثَانِ والأًَندَادِ، وَيَعلَمُ أَنَّ عِبَادَتَها لا تَنْفَعُهُمْ شَيئاً وَلا تَضُرُّهُمْ إِنْ أَرادَ اللهُ بهِمْ نَفْعاً أَوْ ضَرّاً، وَمَثَلُها في قِلَّةِ نَفْعِها كَمَثَلِ بَيْتِ العَنْكَبُوتِ في ضَعْفِهِ، وَقِلَّةِ نَفْعِهِ. واللهُ تَعالى هُوَ العَزيزُ في انتِقَامِهِ ممَّنْ كَفَرَ، وَهُوَ الحَكِيمُ في شَرعِهِ، وَتَدِبيرِهِ أُمُورَ خَلْقِهِ.(1/3264)
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
{الأمثال} {العالمون}
(43) - وَهذا المَثَلُ، وَمَا مَاثَلَهُ مِنَ الأمثَالِ التِي اشْتَمَلَ عَلَيها القُرآنُ الكَريمُ، إِنَّما ضَرَبَها اللهُ تَعَالى لِلنَّاسِ لِيُقَرِّبَ مِنْ أَفهَامِهِمْ مَا بَعُدَ عَنْها، وَلِيُوضِّحَ لهُم مَا أَشْكَلَ عَلَيهِمْ أَمْرُهُ، واسْتَعصَى عَليهِمْ فَهْمُهُ، وهذه الأَمثالُ التي يَضْرِبُها اللهُ للناسِ لا يَفْهَمُها، ويُدْرِكُ مَعنَاهَا ومَغْزَاهَا، إلا الرَّاسِخُونَ في العِلمِ، المُتَدَبِّرُونَ في عَواقِبِ الأُمُورِ.(1/3265)
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
{السماوات} {لآيَةً}
(44) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى إنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرضَ بالحَقِّ، وَهُوَ إِنَّما خَلَقَها لِحِكْمَةٍ وفَوائِدَ يُقَدِّرُهَا هُوَ سُبحَانَهُ، وَلَمْ يَخْلُقْها لِلْعَبَثِ، وَلا لِلَّعِبِ والتَّسلِيةِ، وَلاَ يَفْهَمُ هذهِ الأسْرَارَ إلا الذينَ آمنُوا باللهِ، وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ، لأَنَّهُم هُمُ الذِينَ يستَدِلُّونَ بالآثارِ عَلَى مُؤَثِّراتِها، وبِالخَلقِ عَلى خَالِقِهِ.(1/3266)
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
{الكتاب} {الصلاة}
(45) - يَأْمُرُ اللهُ تَعالى المُؤمنينَ، وَهُوَ يُوَجِّهُ خِطَابَهُ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، بِتِلاَوَةِ القُرآنِ، وإِقَامَةِ الصَّلاةِ، فَقَالَ تَعَالى: وَأدِمْ تِلاَوَةَ القُرآنِ تَقَرُّباً إِلى اللهِ تَعَالى بِتلاَوتِهِ، وَتَذكُّراً لمَا فيهِ منَ الأَسْرَارِ والفَوائِدِ، واعْمَلْ بمَا فيهِ من الأوامرِ والآداب وَمَحاسِنِ الأخْلاَقِ، وأقِمِ الصَّلاةَ، وأدِّهَا عَلَى الوَجهِ الأكمْلِ بخُشُوعِها وَرُكُوعِها وسُجُودِهَا، لأَنَّ الصَّلاَةَ إِنْ تَمَّتْ عَلَى الوَجهِ الأكْمَلِ كَانَتْ لَها فَائِدَتَانِ:
- أَنها تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ والبَغْيِ وَتَحْمِلُ المُؤْمِنَ عَلى مُجَانِبَتِها، وَتركِها لِمُنَافَاةِ الصَّلاةِ لفِعْلِ الفَاحِشَةِ والمُنكَر والبَغْيِ.
- وفِيها فَائِدَةٌ أَعْظَمُ، أَلا وهي ذِكرُ اللهِ لِعِبَادِهِ الذينَ يذكُرُونَهُ، ويُؤدُّونَ الصّلاةَ بشُرُوطِها، ويُسَبِّحُونه ويَحْمَدُونَهُ، واللهُ تَعَالى يَعلَمُ ما تَفْعَلُونَ مِنْ خَيرٍ وشَرٍ، وهوَ مُجَازِيكُمْ بهِ.(1/3267)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
{تجادلوا} {الكتاب} {آمَنَّا} {وَاحِدٌ}
(46) - قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ إِنَّ هذهِ الآيةَ مَنْسُوخَةٌ بآيةِ السَّيفِ. وقالَ آخَرون إنها بَاقِيةٌ مُحْكَمَةٌ.
وفي هذهِ الآيةِ يَأمرُ اللهُ المُؤمنينَ بمُجَادَلةِ اليَهودِ والنَّصَارَى (أَهْلِ الكِتَابِ) الذينَ يُريدُونَ المَعرِفَةَ والاستِبصَارَ في الدِّين، بِاللينِ والرِّفْقِ، أَما الذينَ ظَلَمُوا، وعَانَدُوا، وأَرَادُوا بمُجَادَلَتِهِم الإِسَاءَةَ إِلى الإِسْلامِ، وإِيذَاء المُسلِمينَ فَهؤُلاءِ يُجَادَلُونَ بالسَّيفِ.
(وقَالَ سَعيدُ بْنَ جَبَيرٍ: المَقْصُودُ بالذِينَ ظَلَمُوا هُنا: الذينَ عَادوا الرَّسُولَ، وقاَتَلُوهُ، وآذوْهُ، فَيُحَارَبُونَ بالسَّيفِ حَتَّى يُسْلِمُوا، أَوْ يُعطُوا الجِزْيَةَ) .
ثمّ يقُولُ اللهُ تَعَالَى لِلمُؤمِنينَ: إِذا جَادَلَكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ بِمَا في دِينِهِمْ وكِتَابِهِمْ، وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ صِدْقَ مَا يَقُولُ فقُولُوا لهُ: آمَنَّا بِمَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِنا، وَمَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى رُسُلِ اللهِ إليكُم، وَإِنَّ إِلهَنا وَإِلهَكُمْ وَاحِدٌ، وقَدْ أَسْلَمْنَا إِليهِ وُجُوهَنَا، وَخَضَعْنَا لهُ خُضُوعاً تاماً.
(وَقَالَ أَبو هُرَيْرَة: " كَانَ أَهْلُ الكِتَابَ يَقْرَؤُونَ التَّورَاةَ بالعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَها بالعَرَبيَّةِ لأََهْلِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يُصَدِّقُوا أَهلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: آمَنَّا بِالذِي أُنْزِلَ إِلَينا. . . " (الآية) .(1/3268)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)
{الكتاب} {آتَيْنَاهُمُ} {بِآيَاتِنَآ} {الكافرون}
(47) - كَمَا أَنْزَلْنَا الكُتُبَ السَّابِقَةَ عَلَى مَنْ جَاءَ قَبْلَكَ مِنَ الرُّسُلِ، كَذَلك أنزلنَا عَلَيكَ القُرآانَ يَا مُحَمَّدُ، فَالذينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ مِنَ اليَهُودِ والنَّصَارَى، يُؤْمِنُونَ بأَنَّ القُرآنَ مُنْزَل مِنْ عِنْدِ اللهِ، لأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مِن كُتُبِهِمْ أَنَّ الله سَيُنزِلُ قُرآناً عَرَبياً عَلَى رَسُولِهِ. وَمِنْ كُفَّارِ قُريشٍ، وَمِنْ غَيرِهِمْ، مَنْ يؤمن بِهِ، وَلا يُكَذِّبُ بآيَاتِ اللهِ إلاَّ مَنْ يَجْحَدُ بِنِعْمَةِ اللهِ عَليهِ، وَيكفُرُ باللهِ، ويُنْكِرُ وحدَانِيَّتَهُ عِنَاداً واسْتِكْبَاراً.(1/3269)
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)
{تَتْلُواْ} {كِتَابٍ}
(48) - لَقَدْ لِبِثْتَ فِي قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ عُمْراً طَويلاً قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيكَ القُرآنُ، وأَنْتَ لاَ تَقْرأُ كِتاباً، وَلاَ تَعرِفُ كِتَابَةً، وكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ قَوْمِكَ يعرفُ أَنَّكَ رَجُلٌ أُمِّيٌّ - وَكَذلِكَ كَانَتْ صِفَةُ الرَّسُولِ، عَليهِ السَّلامُ، في الكُتُبِ المَتَقَدِّمَةِ - لَمْ تَعْرِفِ القِراءَةَ وَلا الكِتَابَةَ. ولَوْ أنَّكًَ كُنْتَ تَعْرِفُ القِرَاءةَ والكِتَابَةَ لارْتَابَ أَهلُ البَاطِلِ مِنْ جَهَلَةِ النَّاسِ، ولَقَالُوا: إنهُ رُبَّما اقْتَبَسَ ما يَقُولُ مِنْ كُتُبِ الأَنبياءِ السَّابِقينَ. وَلكِنْ لَمّا كُنتَ أُمِّياً فإِنَّهُ لمْ يَعُدْ لارتِيَابِهِمْ وَجْهٌ مَقْبُولٌ.(1/3270)
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
{آيَاتٌ} {بَيِّنَاتٌ} {بِآيَاتِنَآ} {الظالمون}
(49) - وَهذا القُرآنُ آياتٌ بَيِّنَاتٌ، وَاضِحَاتُ الدَّلاَلَةِ عَلَى الحَقِّ، يَحْفَظُهُ العُلَمَاءُ، وَقَدْ يَسَّرَهُ اللهُ حِفْظاً وَتِلاَوَةً، وَمَا يُكَذِّبُ بِآيَاتِ اللهِ وَيرْفُضُها، وَيَبْخَسُهَا حَقَّها إلا المُعْتَدُونَ الظَّالِمُونَ، الذِينَ يَعْلَمُونَ الحَقَّ وَيَحيدُونَ عَنْهُ.(1/3271)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
{آيَاتٌ} {الآيات}
(50) - وقَالَ كُفَّارُ قُريشٍ تَعَنُّتاً: هَلاَّ أُنزِلَ عََلَى مُحَمَّدٍ آيةٌ منَ الآياتِ التي أُنزِلَ مِثْلُهَا عَلَى رُسُلِ اللهِ السَّابِقِينَ، كَنَاقَةِ صَالِحٍ، وَعَصَا مُوسَى. . فَيَكُونُ ذَلِكَ حُجَّةً وبُرْهَاناً على صِدْق مَا جَاءَ بهِ مُحَمَّدٌ. وقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالى رَسُولَه صلى الله عليه وسلم بأَنْ يُجِيبَهُمْ: إِنَّ أَمْرَ حُدُوثِ المُعْجِزَاتِ (الآيَاتِ) يَرْجِعُ إِلى اللهِ تَعَالى، ولوْ أَنَّهُ عَلِمَ أنَّكُمْ سَأَلتُمُ اسْتِبْصَاراً وتَعَلُّماً، وَطَلَباً لِزيَادَةِ اليَقينِ، لأَجَابَكُم إِلى مَا سَأَلتُمْ، لأَنَّ ذَلِكَ سَهْلٌ يَسِيرٌ عَلَيهِ، ولكِنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أََنَّكُمْ إنَّما قَصَدْتُم بِذلِكَ التَّعَنُّت والتَّعْجِيز، وَلِذلِكَ فإِنَّهُ لا يُجِيبُكُم إِلى مَا سَأَلتُمْ. ثُمَّ أَمَر اللهُ تَعالى رَسُولَهُ بأنْ يَقُولَ لِكْفَّارِ قُرَيشٍ: إِنَّهُ رَسُولٌ مَهَمَّتُهُ إٍِبلاَغُ رِسَالةِ رَبِّهِ إِلى مَنْ أُرِسلَ إِليهِمْ، وأَنْ يُنذِرَهُمْ عَذَابَ اللهِ وَبَأسَهُ، إِن استَمَرُّوا عَلَى كُفرِهِمْ وعِنَادِهِمْ، وليسَ مِنْ مَهَمَّتِهِ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلى الإِيمَانِ حَمْل(1/3272)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)
{الكتاب}
(51) - أََمَا كَفَاهُمْ آيةً ودَليلاً عَلَى صِدْقِكَ أَنَّا أَنزَلْنَا عَليكَ القُرآانَ العَظِيمَ، وفيهِ خَبَرُ مَنْ قَبْلَهُمْ، وفيهِ أًَخْبَارُ مَا في الكُتُبِ السَّابِقَةِ عَلى الوَجهِ الصَّحِيحِ كَمَا أَنزَلَهَا اللهُ تَعَالَى، وفيهِ بَيَانٌ لمَا اخْتَلَفُوا فيهِ مِنْها، وأنتَ رَجُلٌ أُميٌّ لا تَقْرَأُ ولاَ تَكْتَبُ، ولمْ تُخَالِطْ أهلَ الكِتابِ. وَقَدْ جَاءَ القُرآنُ لرحمةِ النَّاسِ، ولِبَيانِ الحَقِّ، وإِزْهَاقِ البَاطِل، وَجَاءَ فيهِ تَذكِرَةٌ بِعِقَابِ اللهِ الذي حَلَّ بِالمُكَذِّبينَ قَبْلَهُم، وَبِمَا سَيَحِلُّ بِالكُفَّارِ المُعَانِدِينَ الظَّالِمِينَ.(1/3273)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
{السماوات} {آمَنُواْ} {بالباطل} {أولئك} {الخاسرون}
(52) - وقُلْ لَهُم حَسْبي وَحَسْبُكُمْ أَنْ يكُونَ اللهُ تَعَالى عَالِماً بِمَا صَدَرَ مِني مِنْ تَبليغِ رِسَالاَتِهِ، وَنُذُرِهِ إِليكُمْ، وَبِمَا صَدَرَ مِنْكُمْ مِنْ مُقَابَلة ذلك بالتَّكَذِيبِ والجُحُودِ، وهُوَ يَجزِي كُلاًّ بِمَا يَسْتَحِقٌّهُ. وإِني لَوْ كُنتُ كَاذِباً لانتَقَمَ مِني. وَلكِنِّي صَادِقٌ فيمَا أقُولُهُ عَن رَبّي، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ يُؤَيِّدُني بالمُعَجْزَاتِ والدَّلاَئلِ عَلَى صِدْق نُبُوَّتي، وَهُوَ تَعَالَى يَعْلَمُ جَمِيعَ مَا في السَّمَاوَاتِ والأَرضِ، وَيَعْلَمُ مَا تَنْسُبُونَهُ إِلَيَّ مِنَ التَّقَوُّل عليهِ. والذين َيَعبُدُونَ الأَوثَانَ والأَصْنَامَ، وَيَكْفُرُونَ باللهِ، مَعَ تَظَاهُرِ الأًَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِ الإِيمانِ بِهِ، ويَكْفُرُونَ بِرَسُولِهِ مَعَ تَعَاضُدِ البَراهِينِ عَلَى صِدْقِهِ، فَهَؤُلاءِ هُمُ الأَخْسَرُونَ أَعْمَالاً، وَسَيلْقَوْنَ جَزَاءَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ.(1/3274)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)
(53) - وَيَتَحَدَّاكَ كُفَّارُ قُرَيْش أَنْ تُعَجِّلَ لَهُمْ بِنُزُولِ العَذَابِ بِهِمْ. وَقَدْ قَالُوا مَرَّةً: {متى هَذَا الوعد} وَقَالُوا مَرَّةً أُخرَى: {هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. . .} وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيهِمْ قائلاً: إِنَّ حِكْمَتَهُ تَعَالى قَدِ اقْتَضَتْ أَنْ يُحَدَّدَ لَهُمْ أَجَلاً مُعَيّناً لِعَذَابِهِم، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لأَنزَلَ بِهِم العَذَابَ حِينَ اسْتِعْجَالِهِمْ بهِ، وَسَيأْتِيهِم العَذَابُ، دُونَ شَكٍّ، بصُورةٍ مُفَاجِئَةٍ لَهُمْ، وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ بمَجِيئِهِ.
أََجَلٍ مُسَمى - هُوَ يَوْمُ القِيَامَةِ.
بَغْتَةً - فَجْأَةً.(1/3275)
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54)
{بالكافرين}
(54) - يَسْتعَجِلُونَكَ بإِنزَالِ العَذَابِ بِهِم، وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ، لاَ مَحَالَةَ، ولو عَلِمُوا مَا هُم صَائِرونَ إِليهِ لَمَا تَمَنَّوا اسْتِعْجَالَ العَذابِ، وَلَعَمِلُوا جُهْدَهُمْ لِلخَلاَصِ مِنْهُ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ سَتُحِيطُ يَوْمَ القِيامَةِ بِالكافِرِينَ المُسْتَعْجِلِينَ بالعَذَابِ.(1/3276)
يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
{يَغْشَاهُمُ}
(55) - وفي يَومِ القِيَامَةِ يَغْشَاهُمُ العَذَابُ، وَيُحِيطُ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِب: مِنْ فَوْقِهِمْ، وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُِلِهِمْ، وَعَنْ مَيَامِنِهِمْ، وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ، وَيقَالُ لَهُمْ عَلَى سَبيلِ التَّقْرِيعِ: ذُوقُوا العَذَابَ الذِي أَوْصَلَكُمْ إِليه سُوءُ عَمَلِكُمْ.
يَغْشَاهُمُ العَذَابُ - يُجَلِّلُهُمْ وَيُحِيطُ بِهِمْ.(1/3277)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)
{ياعبادي} {آمنوا} {وَاسِعَةٌ} {فَإِيَّايَ}
(56) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ المُؤمِنينَ بالهِجْرَةِ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ لا يَقْدِرُونَ فيهِ عَلَى إِقَامَةِ الشَّعائِرِ الدِّينِيَّةِ إِلى مَكَانٍ آخَرَ مِنْ أَرْضِ اللهِ الوَاسِعَةِ، يَسْتَطِيعُونَ فِيهِ إِقَامَةَ شَعائِرِ دِينِهِمْ كَمَا أًَمَرَهُمْ رَبُّهُمْ.
(وَجَاءَ فِي الحَديثِ: " البِلاَدُ بِلاَدُ اللهِ، وَالعِبَادُ عِبَادُ اللهِ، حَيْثُما أَصَبْتَ خَيْراً فإَقِمْ " (أَخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ) .(1/3278)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)
{ذَآئِقَةُ}
(57) - وَأَيْنَمَا كُنْتُمْ يُدْرِككُمُ المَوْتُ، فَكُونُوا فِي طَاعَةِ اللهِ، وَحَيْثُ أَمَرَكُمْ اللهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فَالمَوْتُ آتٍ لا مَحَالَةَ، وَلا مَفَرَّ مِنْهُ وَلا مَهْرَبَ، ثُمّ تُرْجَعُونَ إِلى اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَعِنْدَهُ الحِسَابُ والجَزَاءُ.(1/3279)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)
{آمَنُواْ} {الصالحات} {الأنهار} {خَالِدِينَ} {العاملين}
(58) - وَالذِينَ آمَنُوا باللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، وَعَمِلُوا بِمَ أَمَرهُمُ اللهُ فَأَطَاعُوهُ فِيهِ، وانْتَهَوا عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ، فإِنّهُ تَعَالى يَعِدُهُمْ وَعْداً حَقّاً أَنَّهُ سَيُنْزِلُهُمْ في الجَنَّةِ قُصُوراً، وأَمَاكِنَ مُرتَفِعَةً (غُرَفاً) تَجْرِي في أَرْضِها الأَنْهَارُ وَسَيبْقَونَ فِيها خَالدِين، أَبداً، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى مَا عَمِلُوا.
وَمَا حَصَلُوا عَلَيهِ مِنْ جَزاءٍ كَرِيمٍ هُوَ نِعْمَ الأَجْرُ لِمَنْ عَمِلَ صَالِحاً.
لَنُبوئَنَّهُمْ - لَنُنْزِلَنَّهُمْ عَلَى وَجْهِ الإِقَامَةِ.
غُرَفاً - مَنَازِلَ رَفيعَةً عَالِيةً.(1/3280)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)
(59) - وَهؤُلاءِ العََامِلُون، الذينَ فَازُوا بِغُرفاتِ الجَنَّةِ، هُمُ الذِينَ صَبَرُوا عَلَى أَذَى المُشْرِكِينَ، وَعَلَى شَدَائِدِ الهِجْرَةِ، وَعَلَى الجِهَادِ في سَبِيل اللهِ، وَتًَوَكَّلُوا عَلَى رَبِّهِمُ في جَمِيعِ أَعْمَالِهِم.(1/3281)
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
{وَكَأَيِّ}
(60) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالى أَنَّ الرِزْقَ لا يَخْتَصُّ بِبُقْعَةٍ دُونَ غَيرها، وأَنَّ رِزْقَ اللهِ لِخَلْقِهِ يَصِلُ إِليهم حَيثَما كَانوا، فَكَمْ مِنْ دَابَّةٍ فِي حَاجَةٍ إِلى الغِذَاءِ وَالمَطْعَمِ، وَهِيَ لا تَسْتَطِيعُ جَمْعَ قُوتِها، وَلاَ حَمْلَةُ ولا ادِّخَارَهُ إلى غَدِها، اللهُ يرزُقُها وَإِيَّاكُمْ يَوْماً بِيَومٍ، وَهُوَ السَّميعُ لأَقوَالِ العِبَادِ، العَليمُ بَحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ.
(رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْمُؤْمِنينَ بِمَكَّةَ حِينَ آذاهُمُ المُشْرِكُونَ: اخْرُجُوا إِلى المَدِينةِ وَهَاجَرُوا وَلا تُجَاوِرُوا الظَّلَمَةَ. قَالُوا: لَيْسَ لَنا دَارٌ وَلاَ عَقَارٌ، وَلاَ مَنْ يَسْقِينَا، فَأَنْزَلَ اللهُ هذهِ الآيَةَ الكَرِيمَة) .(1/3282)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)
{لَئِن} {السماوات}
(61) - وَلئِنْ سَأَلَتْ هَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ بِاللهِ: مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرضَ فَسَوَّاهُنَّ، وَسَخَّرَ الشَّمسَ والقَمَرَ يَجْرِيَانِ دَائِبَيْنِ لِمَصَالِحِ خَلْقِهِ؟ لَيَقُولُنَّ: الذِي خَلَقَ ذَلكَ كُلَّهُ هُوَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلاَ يَذِكُرُونَ أحداً سِوَاهُ.
وإِذا كَانُوا قَدِ اعْتَرَفُوا بأَنَّ اللهَ هُوَ الخَالِقُ لِكُلِّ شَيءٍ، فَكَيفَ يُصْرِفُونَ عَنِ الهُدى والحَقِّ، وَعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له؟
فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ - فَكَيْفَ يُصْرَفُونَ عَن تَوْحِيدِهِ.(1/3283)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)
(62) - إِنَّ اللهَ يُوَسِّعُ الرِّزْقَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، وَيَقْتُرُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ (يَقْدِرُ) ، حَسْبَما يَقْتَضِيهِ عِلْمُهُ بالمَصَالِحِ، فالأَرْزَاقِ وقِسْمَتُها بِيَدِ اللهِ، لا بِيَدِ أًَحَدٍ سِوَاهُ، فَلا يُؤَخِّرَنَّكُمْ عَنت الهِجْرةِ وَجِهَادِ أَعدَاءِ اللهِ خَوْفُ الفقْرِ والفَاقَةِ، فَمَنْ خَلَقَ الكَائِنَاتِ لاَ يَعْجَزُ عَنْ أرْزَاقِها، وَهُوَ تَعالى العَلِيمُ بِمَصالِح العِبادِ، فَيَعْلَمُ مَنْ يُصْلِحُهُ بَسْطُ الرِّزْقِ، وَمَنْ يُفْسِدُهُ يَقْدِرُ لَهُ - يُضيِّقُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ.(1/3284)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
{لَئِن}
(63) - وَإِذا سَأَلتَ هؤُلاءِ المُشْرِكِينَ: مَنْ يُنْزِلُ مِنَ السَّحَابِ المَطَرَ، فًيُحْيِي بِهِ الأًَرْضَ المَوَاتَ، فَتُصْبحُ خَضْرَاءَ بالنَّبْتِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فيها شَيءٌ مِنَ النَّبَاتِ، لَيقُولُنَّ: اللهُ هُوَ المُوجِدُ لِسَائِرِ المَخْلُوقَاتِ، وَلكِنَّهم، مَعَ اعتِرَافِهِم بِهَذا، يُشْرِكُونَ باللهِ بعضَ مَخْلُوقَاتِه، التي لاَ تَقْدِرُ عَلى شَيءٍ مِنَ الخَلْقِ.
فَقُلْ لَهُمْ: الحَمْدُ للهِ عَلى إِظْهَارِ الحًُجَّةِ، وَعَلى اعتْرِفِهِمْ بأنَّ النَّعَمَ كُلَّها مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَلكِنَّ أكثَرَ المُشْرِكِينَ لا يَعْقِلُونَ مَا يَقَعُون فيهِ مِنْ تَنَاقَضٍ، وأَنَّ الأَصْنًَامَ التي يَعْبُدُونها لاَ تَمْلِكُ لَهُمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً، وَلاَ تَسْتَحِقُّ أَنْ يَعْبُدَهَا البَشَرُ.(1/3285)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)
{الحياة} {الآخرة}
(64) - يُخبِرُ تَعَالى عَنْ حَقَارَةِ الدُّنيا وَزَوَالِهَا، فَيَقُولُ: إِنَّ الحَيَاةَ الدُّنيا شَيءٌ مُنْقَضٍ زَائِلٌ عَمَّا قَريبٍ، وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ هيَ دَارُ الحَيَاة الدَّائِمَةِ، التِي لا زَوَال لَهَا، وَلا انقِطَاعَ، ولَو كَانُوا يَعْلَمُونَ هذِهِ الحَقيقَةَ لَمَا آثرُوا الحَيَاةَ الفَانِيةَ عَلَى الحَياةِ الدّائِمةِ.
لَهْوٌ وَلَعِبٌ - لَذَائِذُ مُتَصَرِّمَةٌ، وَعَبَثٌ بَاطِلٌ.
لَهِيَ الحَيَوانُ - لَهِيَ دَارُ الحَيَاةِ الدَّائِمَةِ الخَالِدَةِ.(1/3286)
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)
{نَجَّاهُمْ}
(65) - وَالمُشْرِكُونَ يُؤْثِرُونَ حَيَاةَ العَبَثِ وَاللَهْوِ في الرَّخَاءِ، ولَكِنَّهُمْ حِينَ ابْتِلائِهِمْ بالشَّدَائِدِ: كَرُكُوبِهِمُ البَحْرَ، وخَوْفِهِمْ مِنَ الغَرَقِ فيهِ، فإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلى اللهِ، وَيُعْلِنونَ أنّهُ لا إِله إلا هُوَ، وَلا قَادِرَ عَلى حِفْظِهِمْ وإِنْجَائِهِمْ مِنَ المَهَالِكِ غَيرُهُ، فيَدْعُونَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَلَكِنَّهُمْ إِذا خَرَجُوا مِنَ البَحرِ عَادُوا إِلى مَا كَانُوا عَلَيهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالعَبَثِ والبَاطِلِ.
الدِّينَ - العِبَادَةَ والطَّاعَةَ.(1/3287)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
{آتَيْنَاهُمْ}
(66) - وَلْيَكْفُرَ هؤلاءِ بِمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَيِهِمْ مِنَ النَّعَمِ، وَلْيَجْحَدُوا فَضْلَ اللهِ عَلَيِهِمْ بإِنْجَائِهِمْ مِنَ الغَرَقِ، ولْيَتَمَتَّعُوا بِاجْتِمَاعِهِم عَلى عِبَادَةِ الأَصْنَامِ، وَتَوادِّهِمْ عَلَيْها، فَسَيَعلمُونَ عَاقِبةَ ذَلِكَ حِينَ يَنْزِلُ بِهِمُ العَذَابُ والعِقَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ.(1/3288)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
{آمِناً} {أفبالباطل}
(67) - أَوَ لَمْ هَؤُلاءِ المُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيِشٍ مَا خَصَصْنَاهُمْ بهِ مِنَ النِّعَمِ، فَأَسْكَنَّاهُمْ بَلَداً حَرَّمْنَا عَلى النَّاسِ أَنْ يَدْخُلُوه لِغَارَةٍ أَوْ لِحَربٍ، وَجَعَلَنَا مَنْ سَكَنَهُ آمِنا عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، والنَّاسُ مِنْ حَوِلِهِمْ خَائِفُونَ، يَقْتَلُونَ ويُسْبَوْنَ، وتُسْلَبُ أَمْوالُهُمْ، فَكَيفَ لاَ يَشْكُرُونَ رَبَّهُمْ عَلَى هذِهِ النِّعْمَةِ الكُبْرَى بالإِيمان والطَّاعَةِ، والإِقلاَعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ البَاطِلِ وَالشِّرْكِ، وَعِبَادَةِ الأَوْثَانِ والأَصْنَامِ مِنْ دُونِ اللهِ؟
يُتَخَطَّفُ الناسُ - يُسْتَلَبُونَ قتلاً وأَسراً.(1/3289)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68)
{لِّلْكَافِرِينَ}
(68) - وَلاَ أَحَدَ أَكْثَر ظُلْماً مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ، فَقَالَ إِنَهُ أُوحِيَ إليهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُوحَ إِليهِ شيءٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ، أَوْ زَعَمَ أَنَّ للهِ شَريكاً، أَوْ قَالَ - 'ِذا فَعَلَ فَاحِشَةً - إِنَّ الله أَمَرَهُ بِها، أَوْ كَذَّبَ بِكِتَابِ اللهِ الذِي أَنْزَلَهُ عَلى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم دُونَ أَنْ يَتَمَعَّنَ فِيهِ، وَدُونَ أَنْ يُحَاوِلَ فَهْمَ مَقَاصِدِهِ وَمَعَانِيهِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَحَقَّ بالعِقَابِ وَالعَذَابِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ مِنْ هَؤُلاءِ المُكَذِّبِينَ المُفْتَرِينَ.
مَثْوى لِلْكَافِرِينَ - مَكَانٌ يَثْوُونَ فِيهِ وَيُقِيمُونَ.(1/3290)
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
{جَاهَدُواْ}
(69) - أَمَّا الذِينَ قَاتَلُوا في سَبيلِ اللهِ، وَجَاهَدُوا الكُفَّارَ، وَبَذَلُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ في سَبيلِ نُصْرَةِ دِين الله، فإِنَّ الله يَعِدُهُم بأَنْ يَزِيدَهُمْ هِدَايةً إِلى سَبِيلِ الخَيْر، وَتَوفِيقاً لسُلُوكِها. واللهُ تَعَالى مَعَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلَهُ مِنْ عِبَادِه، يُعِينُه وَيَنْصُرُهُ.(1/3291)
الم (1)
(ألِف. لاَمْ. مِيمْ)
(1) - وَتُقْرَأُ مُقَطَّعَةً كُلُّ حَرْفٍ عَلَى حِدَةٍ. اللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.(1/3292)
غُلِبَتِ الرُّومُ (2)
(2) - فِي أَوَّلِ عَهْدِ الإِسْلاَمِ، وَقَبْلَ الهِجْرَةِ، جَرَتْ حَرْبٌ بَيْنَ الفُرْسِ والرُّومِ في أَر ْضِ فِلَسْطِينَ، انْتَصَرَ فِيها الفُرْسً انِتْصَاراً سَاحِقاً، وَتَابِعُوا مُطَارَدَةَ الرُّومِ حَتَّى حَاصَرُوا القْسِطَنْطِنِيَّةَ، وَقَدْ حَزِنَ المُسْلِمُونَ لانْكِسَارِ الرُّومِ لأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الكِتابِ، وَفَرِحَ المُشْرِكُونَ وَأَظْهَرُوا الشَّمَاتَةَ بالمُسْلِمينَ، وَقَالُوا لَهُمْ: أَنْتُم أَهْلُ كِتابٍ والرُّومُ أَهْلُ كِتَابٍ، وَإِنَّكُمْ إِنْ قَاتَلتُمونَا لَنَظْهَرَنَّ عَلَيكُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ هذِهِ الآيَاتِ.(1/3293)
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)
بِلاَد العَرَبِ (أَدْنى الأَرْض - وَكَانَتِ المَعْرَكَةُ بَينَ الأُرْدُنِّ وفِلَسْطِين) وَلكِنَّ الرُّومَ سَيَغْلِبُونَ الفُرسَ، خِلاَلَ بِضْعِ سِنينَ (وَالبِضْعُ تَسْتَعْمِلُهَا العَرَبُ لِمَا بَيْنَ الثَّلاث وَالتِّسْعِ) ، وَكَانَتْ غَلَبَةُ الرُّومِ للفُرْسِ خِلاَلَ تِسْعِ سَنَواتٍ كَمَا جَاءَ في القُرآن. وَقَدْ تَرَاهَن أَبُو بَكْرٍ مَعَ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ (وَهُوَ مِنَ المُشرِكِينَ) عَلَى تَحَقٌّقِ غَلَبِ الرُّومِ خِلاَلَ تِسْعِ سَنَواتٍ، كَمَا جَاءَ في القُرآن، عَلَى مِئَةِ نَاقَةٍ، فَرَبحَ أَبُو بَكْرٍ الرِّهَانَ، وَكَانَ ذَلِكَ دَليلاً عَلَى صِدْقِ مُحَمذَدٍ صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ رَبِّهِ.
أَدْنَى الأَرْضِ - أَقْرَبِ أرْضِ الرُّومِ إِلى بِلاَدِ العَرَبِ.(1/3294)
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
{يَوْمَئِذٍ}
(4) - وَللهِ الأَمرُ مِنْ قَبْلِ غَلَبِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ، وَمِنْ بَعْدِهِ، فَمَنْ غَلَبَ فَإِنَّهُ يَغْلِبُ بأَمرِ اللهِ تَعَالى وَقَضَائِهِ، وَيومَ تَغْلِبُ الرُّومُ الفُرسَ يَفْرَحُ المُؤمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ لَهُ كِتَابٌ عَلَى أَهلِ الشِّرْكِ، وَسَيكُونُ ذَلِكَ فَألاً حَسَناً لِغَلَبةِ المُسْلِمِينَ عَلَى الكَافِرينَ.(1/3295)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
(5) - وَيَومَ تَنْتَصِرُ الرُّومُ عَلَى الفُرسِ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ إخْوانَهُمْ أَهْلَ الكِتابِ عَلى المُشْرِكِينَ المَجُوسِ، والله يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الرَّحيمُ بِعِبادِهِ فَلاَ يُعَاجِلُهُمْ بِالعُقُوبَةِ والانْتِقَامِ، وَإِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ عَيَّنَهُ وَحَدَّدَهُ لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ إِليهِ، وَيَرجِعُونَ عَمَّا كَانُوا يَجْتَرِحُونَهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ.(1/3296)
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)
(6) - وَهذا الذِي أَخْبَرَكَ بهِ رَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أَنَّهُ سَيَنْصُرُ الرُّومَ عَلَى الفُرسِ، هُوَ وَعْدٌ حَقٌّ مِنَ اللهِ تَعَالى، واللهُ لا يُخْلِفُ وَعْدَهُ أَبَداً، لأَنَّ سُنَّتَهُ قَدْ جَرَتْ بأَنْ يَنْصُرَ أَقْرَبَ الطَّائِفَتَيِنِ إِلى الحَقِّ، وَيَجْعَلَ لَهَا العَاقِبَةَ. ولكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ذلِكَ لِجْهْلِهِمْ، وَعَدَمِ تَفَكُّرِهِمْ في النَّوامِيسِ التِي وَضَعَهَا اللهُ في الكَوْنِ.(1/3297)
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
{ظَاهِراً} {الحياة} {غَافِلُونَ}
(7) - وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ إلاَّ بالأُمُورِ الدُّنْيا: كَتَدْبيرِ مَعَايِشِهِمْ، وَتَنْمِيَةِ مَتَاجِرِهِمْ، واسْتِثْمَارِ مَزَارِعِهِمْ. . وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْ أُمُورِ الدِّينِ، وما يَنْفَعُهُمْ في الآخِرَةِ، كَأَنَّ أَحَدَهُمْ مُغَفَّلٌ لا عَقْلَ لَهُ.(1/3298)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)
{السماوات} {بِلِقَآءِ} {لَكَافِرُونَ}
(8) - أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرْ هؤلاءِ المُكَذِّبونَ بِالبَعْثِ، مِنْ قَوْمِكَ، فِي خَلْقِ اللهِ لَهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا شَيئاً، وَتَعَهُّدِهِ لَهُم، حَتَّى صَارُوا كَامِلِي الخَلْقِ وَالعَقْلِ. إِنَّ الذِي فَعَلَ ذَلِكَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعِيدَهُمْ بَعْدَ فَنَائِهِمْ خَلْقاً جَدِيداً، ثُمَّ يَبْعَثُهُم لُيَجَازِيَ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، واللهُ تَعَالى لاَ يظْلِمُ أَحَداً، فَلاَ يُعَاقِبُ مَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ ذَنْباً، وَهُوَ تعالى لَمْ يَخْلُقِ السَّماوَاتِ والأَرْضِ إِلاَ بالعَدْلِ، وَإِقَامَةِ العَدْلِ وَالحَقِّ، إِلى أَجَلٍ مُسَمَّى. فإذا جَاءَ الأَجَلُ أَفْنَى اللهُ ذَلِكَ الخَلْقَ كُلَّهُ، وَبَدَّلَهُ، فَأَصْبَحَتِ الأَرْضُ غَيرَ الأَرْضِ، وحَشَرَ النَّاسَ لِلحِسَابِ، وَلكِنَّ كَثيراً مِنَ النَّاسِ غَفَلُوا عَن الآخِرَةِ وَمَا فِيها مِنْ حِسَابٍ وَجَزَاءٍ، لأَنَّهم لَمْ يَتَفكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم، وَلَوْ تَفَكَّرُوا فِيها، وَدَرَسُوا عَجَائِبَها لأَيقَنُوا بِلِقَاءِ اللهِ.
أَجَلٍ مُسَمّى - وَقْتٍ مُقَدَّرٍ لِبَقَائِهَا.(1/3299)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
{عَاقِبَةُ} {بالبينات}
(9) - أَوَ لَمْ يَسِرْ هؤلاءِ المُكَذِّبُونَ بِوُجُودِ اللهِ وَوحْدَانِيَّتِهِ، وَبِرسَالَةِ الرُّسُلِ، الغَافِلُونَ عَنِ الآخِرَةِ، في البِلاَدِ التي يَقْصَدُونَها للتِّجَارَةِ، فَيَنظُرُوا إِلى آثارِ عِقَابِ اللهِ لِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الأُمَمِ المُكَذِّبَةِ: كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ تَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَقَدْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْ قَومِكَ قُوَّةً، وَحَرَثُوا الأَرْضَ وَعَمَّرُوها أَكثرَ مِمَّا عَمَّرَها كُفَّارُ قُريشٍ، ثُمَّ أَهْلَكَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، وَمَا كَانَ اللهُ بِظَالِمٍ لَهُمْ، وَلكِنَّهُمْ هُمُ الذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَعْصِيتَهِمْ رَبَّهُمْ.
أَثَارُوا الأَرضَ - حَرثُوهَا وَقَلُبوهَا لِلزِّرَاعةِ.(1/3300)
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
{عَاقِبَةَ} {أَسَاءُوا} {بِآيَاتِ} {يَسْتَهْزِئُونَ} (10) - وَكَانَتْ عَاقِبَةُ هؤلاءِ المُسِيِئِينَ المُكَذِّبِينَ، الظَّالِمِينَ أًَنْفُسَهُمْ سَيِّئَةً في الدُّنيا والآخِرَةِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِاللهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ بِآيِاتِهِ وَرُسُلِهِ، وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِرُسِلِهِمْ عُتُوّاً واسْتِكْبَاراً.
السُّوأَى - العُقُوبَةَ المُتَناهِيَةَ فِي السُّوءِ - وَهِيَ النَّارُ.(1/3301)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)
{يَبْدَأُ}
(11) - لَقَدْ أَنْشَأَ اللهُ تَعَالى الخَلْقَ وأَوْجَدَهُ بِقُدْرَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيئاً قَبْلَ ذَلِكَ، وَلاَ شَرِيكَ لَهُ فِيهِ، وَلا مُعِين لَهُ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ يُعِيدُ خَلْقَهُ مِنْ جَديدٍ بَعْدَ فَنَائِهِ وَإِعْدَامِهِ. ثُمَّ يَحْشُرُ اللهُ الخَلْقَ وَيُرجِعُهُمْ إِليهِ لِيُحَاسِبَهُمْ على أَعْمَالِهِمْ، وليَجْزِيَ كُلاًّ بِعَمَلِهِ.(1/3302)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)
(12) - وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُحْشَرُ المُجْرِمُونَ إِلى اللهِ تَعَالى، وَيَقِفُونَ بين يَدَيهِ سَاكِتينَ، وَهُمْ يَشْعُرُونَ بِاليَأْسِ والخِزْيِ، لأَنَّهُمْ لاَ يَجِدُونَ ما يَقُولُونَ دِفَاعاً عَنْ أَنْفُسِهِمْ.
أَبْلَسَ - سَكَتَ وَانْقَطَعَتْ حُجَّتُهُ -أَوْ يَئِسَ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ.(1/3303)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)
{شُرَكَآئِهِمْ} {شُفَعَاءُ} {كَافِرِينَ}
(13) - وَلَمْ يَجِدُوا أَحَداص مِنَ الآلِهَةِ التي كَانُوا يَعْبُدُونَها، وَيُشْرِكُونَها بِالعِبَادَةِ مَعَ اللهِ، يَتَقَدَّمُ لِيَشْفَعَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ، وَيُنْقِذَهُمْ مِنْ عذَابِ اللهِ، وَحِينَئِذٍ يَكْفُرُ المُجْرِمُونَ بِالشُّرَكاءِ، وَيَتَبَرُؤونَ مِنْهُمْ.
(أَوْ أَنَّ المَعْبُودِينَ يَكْفُرونَ بِعِبَادَةِ المُجْرِمِينَ إيَّاهُمْ) .(1/3304)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)
{يَوْمَئِذٍ}
(14) - وَحِينَمَا تَقُومُ السَّاعَةُ، وَيَتمُّ الحِسَابُ، يُوَجَّهُ كُلُّ وَاحِدٍ إلى ما يَسْتَحِقُّهُ مِنْ نَعِيمٍ أَوْ عَذَابٍ، فَيَفْتَرِقُ أَهْلُ الإِيمَانِ عَنْ أهلِ الكُفْرِ، فَلاَ لِقَاءَ بَيْنَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَبداً.(1/3305)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
{آمَنُواْ} {الصالحات}
(15) - فَأَمَّا الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ في الدُّنيا، فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ في رِيَاضِ الجِنَّاتِ يَنْعَمُونَ وَيَتَمَتَّعُونَ.
يُحْبَرُونَ - يَنْعَمُونَ أَو يَتَمَتَّعُونَ.(1/3306)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
{بِآيَاتِنَا} {لِقَآءِ} {الآخرة} {فأولئك}
(16) - وَأَمّا الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَآياتِهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَأَنْكَرُوا البَعْثَ والنُّشُورَ والحِسَابَ في الآخِرَةِ، فَيَكُونُونَ حَاضِرِينَ في العَذابِ لا يَغِيبُونَ عَنْهُ أبداً.
مُحْضَرُونَ - تُحْضِرُهُمُ المَلائِكَةُ إِلى العَذَابِ وَلاَ يغِيبُونَ عَنْهُ أَبداً.(1/3307)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)
{فَسُبْحَانَ}
(17) - هُنَا يُوَجِّهُ اللهُ تَعَالى أَنْظَارَ العِبَادِ إِلى تَسْبِيحِهِ، وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لاَ يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ.(1/3308)
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
{السماوات}
(18) - وَهُوَ الحَقِيقُ بالحَمْدِ، والشُّكْرِ، والثَّنَاءِ، مِنْ جَميعِ خَلْقِهِ، أَهْلِ السَّماوَاتِ وَألأَرْضِ، فاحْمَدُوهُ وَنَزِّهُوهُ وَقتَ اشْتِدَادِ الظَّلاَمِ في اللَّيلِ (عَشِيّاً) ، وَوَقْتَ الظَّهِيرَةِ حِينَ اشْتِدَادِ الضّيَاءِ.(1/3309)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
{يُحْيِي}
(19) - فَهُوَ تَعَالى القَادِرُ عَلَى خَلْقِ الأَشْيَاءِ وأَضْدَادِها، لِيَدلَّ بذلِكَ عَلى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وقُوَّتِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ إخْراجُهُ النَّبَاتَ الحَيَّ مِنَ الحَبِّ المَيِّتِ، وَإِخْراجُهُ الحَبَّ المَيِّتَ مِنَ النَّبَاتِ الحَيِّ، وَيُحْيِي الأَرْضَ المَوَاتَ بِمَاءِ المَطَرِ الذي يُنْزِلُهُ مِنَ السَّحَابِ، فَتُخْرِجُ الأَرضُ النَّبَاتَ الرَّطبَ الغَضَّ بَعدَ أَنْ كَانَتْ صَعِيداً جُرُزاً. وَكَما أَحْيَا اللهُ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وَأَخْرَجَ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ، كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَى، وَيَبْعَثُهُم مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ لِلحِسَابِ والجَزَاءِ.(1/3310)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)
{آيَاتِهِ}
(20) - وَمِنْ حُجَجِهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ الخَالِقُ القَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ إِفْنَاءٍ وَإِيَجَادٍِ، أَنَّهُ خَلَقَ أَبَاكُمْ آدَمَ مِنْ تُرابٍ لا حَيَاةَ فِيهِ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ يُخْلَقُونَ مِنْ نُطْفَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ضَعِيفٍ، ثُمَّ يُقَلِّبُهُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ فِي أَطْوارٍ شَتَى إِلى يَخْرُجُوا أَطْفَالاً، ثُمَّ يَتَطوَّرُونَ في نُمُوِّهِمْ، ثُمَّ يَنْتَشِرُونَ فِي الأَرضِ لِلْعَمِلِ فِيها كَسْباً لِمَعَاشِهِمْ، وإِعْمَاراً لها.
تَنْتَشِرُونَ - تَتَصَرَّفُونَ فِي شُؤُونِ حَيَاتِكُمْ وَمَعَايِشِكُمْ.(1/3311)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
{آيَاتِهِ} {أَزْوَاجاً} {لآيَاتٍ}
(21) - وَمِنْ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى البَعْثِ والإِعَادَةِ، أَنَّهُ خَلَقَ لِلبَشَرِ أَزْواجاً مِنْ جِنْسِهِمْ، لِيأْنَسُوا بِهِنَّ، وَجَعَل بَينَهُمْ وَبَينَ أَزْوَاجِهِمْ مَحَبّةً ورَأفَةً (مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) ، لِتَدُومَ الحَيَاةُ المَنْزِلِيَّةُ.
وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ خَلْقٍ مِنْ تُرابٍ، وَخَلْقٍ للأَزْواجِ مِنَ الأَنْفُسِ. . . وَجَعْلِ المَوَدَّةِ والرَّحْمَةِ تَسُودُ عَلاَقَاتِ الأَزْوَاجِ بعضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ. . . لَعِبْرَةٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ في ذلك مِنْ ذَوِي العَقُولِ وَالأَفْهَامِ.
لتَسْكُنُوا إليها - لِتَمِيلُوا إِليَها وَتَأَلَفُوهَا.(1/3312)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)
{آيَاتِهِ} {السماوات} {اختلاف} {أَلْوَانِكُمْ} {لآيَاتٍ} {لِّلْعَالَمِينَ} (22) - ومِنْ آياتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ العَظِيمَةِ، أَنَّهُ تَعَالى خَلقَ السَّماوَاتِ في ارْتِفَاعِهَا واتِّسَاعِها، وَخَلَقَ فِيها النُّجُومَ والكَواكِبَ، وَخَلقَ الأَرضَ وَمَا فِيها مِنْ بِحَارٍ وَمياهٍ ومخلُوقَاتٍ وَنَبَاتَاتٍ وجِبَالٍ، وجَعَلَ أَلسِنَةَ البَشَرِ مُخْتَلِفَةً مُتَمَايِزَةً، كَما جَعَلَ ألوانَ البَشَرِ مُخْتِلفةً، وإِن تَشَابِهُوا جَمِيعاً في الخُطُوطِ الكُبرى مِنْ مَلاَمِحِهِم، وَفي ذَلك آياتٌ تَدُلُّ عَلى عَظَمَةِ الخَالِقِ لأُولِي العِلْمِ الذِينَ يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا خَلَقَ اللهُ.(1/3313)
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
{آيَاتِهِ} {بالليل} {لآيَاتٍ}
(23) - ومِنْ عَلاَمَاتِ قُدْرَتِهِ عَلَى الخَلقِ أَنَّكُم تَنَامُون في اللَيْلِ، وتَهْدَؤُونَ، لِتَرتَاحَ أَبدانُكُم مِنْ عَنَاءِ العَمَلِ في النَّهارِ، وأَنَّكُم تَنْبَعِثُونَ في النَّهارِ لِلعَمَلِ وطَلَبِ الرِّزْقِ، وفي ذلِكَ عِبَرٌ وأَدِلَّةٌ لِمَنْ يَسْمَعُونَ المَوْعِظَةَ وَيَتَّعِظُونَ بِها.(1/3314)
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
{آيَاتِهِ} {فَيُحْيِي} {لآيَاتٍ}
(24) - وَمِنْ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، أَنَّهُ يُريكُمُ البَرْقَ فَتَخَافُونَ مِنْ صَوَاعِقِهِ، وَتَرْجُونَ أَن يَأْتِيَكُمْ بَعدَهُ المَطَرُ، ليُحْييَ الأَرْضَ، فَتَغْزُرَ المِيَاهُ، وَتَنْبُتَ الأَرضُ بالكَلأَِ والنَّبَاتِ، وفي ذلِكَ دَلاَلاَتٌ، وَعِبَرٌ وَاضِحَةٌ لِمَنْ يَتَبَصَّرونَ وَيَعْقِلُونَ، عَلى قُدْرَةِ اللهُ تَعالى عَلَى بَعْثِ الخَلاَئِقِ في الآخِرَة، وَنَشْرِهِمْ لِلْحِسَابِ والجَزَاءِ.(1/3315)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
{آيَاتِهِ}
(25) - ومِنَ الحُجَجِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى مَا يَشَاءُ، قِيَامُ السَّمَاءِ والأَرض بِلاَ عَمَدٍ تَحْمِلُها، وَلا أَرْبِطَةٍ تَشُدُّها، وإِنَّما تَقُومَانِ بأمرِهِ وَتدبِيرِهِ، بِمَوْجِبِ نِظَامٍ قَدَّرَهُ وَأَقَامَهُ فِي الوُجُودِ، وَلاَ يَزَالُ الأمرُ كَذَلِكَ حتَّى يَنْتَهيَ أجلُ العالمِ في المَوعِدِ الذي حَدَّدَهُ اللهُ لانتِهَائِهِ، فَتُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ، وتُدَكُّ الجِبَالُ، وَحِنَئِدٍ يَأْمُرُ اللهُ فَيُنْفَخُ في الصُّورِ، فَيَخْرُجُ البَشَرُ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً إِلى رَبِّهِمْ مُسْتَجِيبِينَ لِدَعْوَتِهِ تَعَالى.(1/3316)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)
{السماوات} {قَانِتُونَ}
(26) - وَجَميعُ مَنْ خَلَقَهُمُ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ يَخْشَعُونَ لِرَبِّهِمْ، وَيَخْضَعُونَ لَهُ، طَوْعاً أَوْ كَرْهاً.
قَانِتُونَ - مُطِيعُونَ مُنْقَادُونَ لإِرَادَتِهِ.(1/3317)
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
{يَبْدَأُ} {السماوات}
(27) - وَهُوَ تَعَالى الذي بَدَأَ خَلْقَ السَّمَاواتِ والأَرْضِ عَلَى غَيرِ مِثَالٍ، سَبَقَ، ثُم يقضِي بِفَنَائِها وَزَوالِها، ثُمّ يُعيدُ خَلْقَها، وَكُلُّ ذَلِكَ هَيِّنٌ عَليه. ثُمَّ لَفَتَ اللهُ تَعَالى نَظَرَ البَشَرِ إِلى أَنَّ إِعَادَةَ الخَلْقِ والصُّنْعِ أهوَنُ عَلَيهِ منْ ابتِدَائِهِ، فإِذَا كَانَ اللهُ هُوَ الذي بَدَأ الخَلْقِ بعدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيئاً، فَمِنَ المَفْرُوضِ في البَشَرِ أَنْ يُدْرِكُوا أَنَّ إِعَادَةَ خَلْقِ الكَائِنَاتِ أهوَنُ مِنْ خَلْقِهَا ابْتَداءً، وَأَنَّ ذَلكَ لَنْ يُعْجِزَ اللهَ تَعَالى، فَبَعْثُ البَشَرِ يومَ القيامةِ أَسْهَلُ عَلى اللهِ مِنْ خَلْقِهِمْ، وللهِ الوَصْفُ البَدِيعُ في السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، وَهُوَ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ ليسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وهُوَ العَزيزُ الذي لا يُغَالَبُ ولا يُضَامُ، وهُوَ الحَكِيمُ في خَلْقِهِ وَتدبِيرِهِ، فَلا يَخْلُقُ شَيئاً عَبَثاً لا فَائِدةَ مِنْهُ.
لهُ المَثَلُ الأعلَى - لَهُ الوَصْفُ الأَعلَى في الجَلاَلِ والكَمَالِ.(1/3318)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
{مِمَّا} {أَيْمَانُكُمْ} {رَزَقْنَاكُمْ} {الآيات} (28) - وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكين الذينَ يَجْعَلُونَ للهِ شُرَكَاءَ، فَيَعْبُدُونَ مَعَ اللهِ آلهةً غَيْرَهُ، وَهُمْ مَعَ ذَلك مُعْتَرِفُونَ أًَنْ شُرَكَاءَهُمْ مِنَ الأَصْنَامِ عِبيدٌ للهِ، وَمُلْكٌ لَهُ، كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ في طَوَافِهِمْ حَوْلَ الكَعْبَةِ: (لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ إِلا شَرِيكاً هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ) ، فَقَالَ تَعَالى لَهَمْ: إِنَّ اللهَ يَضْرِبُ لَكُم مَثَلاً مُنْتَزَعاً مِنْ أَحوالِ أَنْفُسِكُمْ وَأَوْطَارِها، وَهِيَ أقربُ الأَشياءِ إِليكُم، وَبِهِ يَسْتبِينُ مِقْدَارُ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ بِعِبَادَتِكُمُ الأَصْنَامَ والأَوثَانَ. وَهذا المَثَلُ هُوَ: هَلْ يَرْضَى أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ شَرِيكاً لَهُ فِي مَالِهِ فَيَكُونَ مَعَهُ عَلى السَّواءِ في التَّصَرّفِ فِي المَالِ، فيَحْسبُ حِسَابَهُ مَعَهُ، فَلا يَتَصَرَّفُ في شَيءٍ مِمَّا يَملِكُ مِنْ دُونِ إِذْنِهِ، كَمَا يَحْسبَ حِسَابَ الشَّريكِ الحُرِّ المُمَاثِلِ، ويَخْشَى أَنْ يَجُورَ عليهِ شَرِيكُهُ، كَمَا يَتَحَرَّجُ هُوَ مِنَ الجَوْرِ عَلَى شَرِيكِهِ لأنَّهُ كُفْءٌ لَهُ وَنِدٌّ (تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُم) ، فَهلُ يَقَعُ شَيءٌ مِنْ ذَلكَ فِي مُحِيطِكُمُ القَرِيبِ وشَأْنِكُمُ الخَاصِّ؟ فَإِذا كَانَ شَيءٌ مِنْ ذَلكَ لاَ يَقَعُ، فَكَيفَ تَرْضَونَهُ في حَقِّ اللهِ تَعَالى ولَهُ المَثَلُ الأَعلَى؟
ثُمَّ قَالَ تَعَالى إٍنَّهُ يُفَصِّلُ الآياتِ مثلَ هذا التَّفْصِيلِ البَديعِ بِضَربِ الأَمثَالِ الكَاشِفَةِ للمَعَاني، ليُقَرِّبَها مِنْ أفهَامِ مَنْ يَسْتَعْمِلُونًَ عُقُولَهُمْ في تَدَبٌّرِ الأَمثالِ، واستِخراجِ المَعَاني لِلوُصُولِ إِلى الأَغْراضِ التي تَرْمي إِليها.(1/3319)
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
{نَّاصِرِينَ}
(29) - وَلكِنَّ الذِينَ ظَلمُوا أَنْفُسَهَمْ بكُفْرِهِمْ باللهِ، قَدِ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ جَهْلاً مِنهُمْ بحَقِّ اللهِ عَلَيهِمْ، وَعَظَمَتهِ، فَأَشْرَكُوا الأَصْنَامَ والأَوْثَانَ مَعَهُ في العِبَادَةِ، وَلا حُجَّةَ وَلا دَليلَ لَهُم في عَبَادَتِها، فَمَنْ ذَا الذِي يَسَْتَطِيعُ أَنْ يَهْدِيَ بَشَراً قَدْ خَلَقَ اللهُ فيهِ الاسْتِعْدَادَ لِلضَّلاَلَةِ؟ وَهؤلاءِ الظَّالِمُونَ لأنفُسِهِمْ ليسَ لًَهُمْ مَنْ يَنْصُرهُمْ مِنْ قَضَاءِ اللهِ وقدَرِهِ، وَلا مَنْ يُجِيرُهُمْ مِنْ بَأْسِهِ وَعِقَابِهِ.(1/3320)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
{فِطْرَتَ}
(30) - فَوَجِّهْ وَجْهَكَ إِلى الدِّينِ شَرَعَهُ اللهُ لَكَ، وَهُوَ الحَنِيفيّةُ مِلَّةُ إبراهيمَ التي هَدَاكَ اللهُ إليها، وَفَطَرَكَ عَليها، كَمَا فَطَر الخَلْقَ عَلَيهَا، وبهذهِ الفِطروِ السَّلِيمةِ يَهْتَدِي البَشَرُ إِلى مَعرِفَةِ رَبِّهِمْ وخَالِقِهِمْ تَعَالى وَتَقَدَّسَ، وأنَّهُ وَاحدٌ لا شَريكَ لهُ.
وَقَدْ سَاوَى اللهُ تَعَالى بينَ خَلْقِهِ كُلِّهِمْ في الفِطْرَةِ، لا تَفَاوُتَ بينَ النَّاسِ في ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ في مَعْنَى (لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) : إِن ذَلكَ يَعنِي لاَ تَبدِيلَ لِدِينِ اللهِ.
وَجَاءَ فِي الصَّحِيحَينِ: (" كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ حَتَّى يَكُونَ أَبَواهُ هُمَا اللذانِ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنْصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ البَهِمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ. هَلْ تُحِسّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ") (البُخَارِي وَمُسْلِمٌ) . ثُمَّ قَالَ تَعالى: إِنَّ التّمَسُّكَ بالشَّرِيعَةِ، وبِالفِطْرَةِ السَّلِمَةِ، هُوَ الدِّينُ القَيِّمُ المُستَقِيمُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ فَهُمْ عَنْهُ نَاكِبُونَ فَلإْقِمْ وَجْهَكَ - قَوِّمْهُ وَعَدِّلْهُ.
لِلدِّينِ - دِينِ التَّوحِيدِ.
حَنِيفاً - مَائِلاً إِليهِ مُسْتَقيماً عَلَيهِ.
فِطْرَةَ اللهِ - الزَمُوها وَهِيَ دِينُ الإِسْلاَمِ.
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيها - جَبَلَهُمْ وَطَبَعَهُمْ عَليها.
لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ - لدِينِهِ الذِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهِ.
الدِّينُ القَيِّمُ - المُسْتَقِيمُ الذِي لاَ عِوَجَ فِيهِ.(1/3321)
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)
{الصلاة}
(31) - فَأَقِمْ وَجْهَكَ أَيُّها الرَّسُولُ أَنْتَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ لِلدِّينِ الصَّحِيحِ، حُنَفَاءَ مُنِيِبينَ إلى اللهِ تَعَالَى، وَخَافُوهُ، وحَاذِرُوا أَن تُفَرِّطُوا فِي طَاعَتهِ، وتَرْتَكِبُوا مَعْصِيَتَهُ، ودَاوِمُوا عَلى إِقَامَةِ الصَّلاةِ في أَوقَاتِها، وأَتِمُّوهَا بِخُشُوعِها وسُجُودِهَا وَرُكُوعِهَا وَبِحُضُورِ القَلْبِ، فَهِي عًَمُودُ الدِّينِ، وهِيَ تُذكِّرُ المُؤمِنَ بِرَبِّهِ في كُلِّ حِينٍ، وتَحُولُ بينَهُ وبَينَ الفَحْشَاءِ وَالمْنَكَرِ، وأَخْلِصُوا العِبَادَةَ للهِ وَحْدَهُ، وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ.
مُنِيبِينَ - رَاجِعِينَ إِليه بالتَّوبَةِ والإِخْلاَصِ.(1/3322)
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
(32) - وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ الذِينَ بَدَّلوا دِينَهُمْ، وَغَيَّروا فيهِ، وآمَنُوا بِبَعضٍ، وكَفَرُوا بِبِعْضٍ، فَأَصْبَحُوا فِرَقاً وشِيَعاً، وَظَنَّ كُلُّ فَريقٍ مِنْهُمْ أنهُ عَلى شيءٍ منَ الدِّين الصَّحِيحِ، والهُدَى، فَفَرِحَ بِذَلِكَ كَانُوا شِيعَاً - فِرَقاً.(1/3323)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)
مُخْتَلِفَةَ الأَهْواءِ والمَشَارِبِ.
(33) - وإِذا مَسَّ هؤلاءِ المُشْرِكِينَ ضُرٌّ كَقَحْطٍ وَبَلاءٍ وَمَرضٍ وَشِدَّةٍ. . دَعَوا اللهَ مُخِلِصِينَ لَهُ الدِّينَ والعِبَادَةَ وأَفْرَدُوهُ بالتَّضرُّعِ والاسْتِغَاثَةِ، وَرَجَوْهُ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُم مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنْ شِدَّةٍ، وَلكِنَّهُمْ حِينَما يَكْشِفُ الله عَنْهُمْ ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ وَبَلاءٍ يَعودُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ إِلى مَا كَانُوا عَليهِ مِنَ الشِّرْكِ بِاللهِ.(1/3324)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)
{آتَيْنَاهُمْ}
(34) - فَلْيَكْفُرُوا بِنِعَمِ اللهِ وبِمَا آتَاهُمْ مِن فَضْلِهِ، ولْيَجْحَدُوا بِمَا تَفَضَّلَ بهِ عَلَيهِمْ مِنْ كَشْفِ الضُّرِّ والبَلاَءِ، ولْيَتَمتَّعُوا بمَا آتاهُمْ مِنَ الرَّخَاءِ والنِّعَمِ، فَإِنُّهُمْ سَيَعْلَمُونَ كَيفَ يأخُذُ اللهُ المشركينَ المُفْسِدِينَ، وكيفَ يَعَاقِبُهُمْ علَى كُفْرِهِمْ وإِفْسَادِهِمْ في الأرْضِ.(1/3325)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
(36) - لَقَدْ رُكِّبَ فِي طَبْعِ الإِنسَانِ الفَرْحُ والبَطَرُ، وسُرعَةُ القُنُوطٍِ واليَأْسِ، فإِذا كَانَ الإِنسانُ في نِعمةٍ وَرَخاءٍ وأَمن فَرِحَ وَبَطِرَ، وَتَجَاوَزَ الحُدُودَ، وإِذا نَزَلتْ بهِ الشَّدائِدُ والمَصَائِبُ وأَلحَّتْ عليهِ الجَائِحَاتُ، بِسَببِ فَسَادِ رأْيهِ، وَسُوءِ أَعمَالِهِ، قَنِطَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَيئِسَ مِنَ الخَلاَصِ مِمّا هُوَ فيهِ.
فَرِحُوا بِهَا - بَطرُوا وأَشِرُوا.
يَقْنَطُونَ - يَيْئَسُونَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ.(1/3326)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
{لآيَاتٍ}
(37) - أَوَ لاَ يَعْلَمُ هؤلاءِ أَنَّ المُتَصَرِّفَ فِي الحَالَينِ: حَالِ الرَّخَاءِ وَحَالِ الشِّجَّةِ، هُوَ اللهُ تَعَالى، وَهُوَ يَفْعَلُ ذَلكَ بِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَمَا لَهُمْ لَمْ يَشْكُرُوا رَبَّهُمْ في الرَّخَاءِ والنِّعْمَةِ، وَلَمْ يَحْتَسِبُوا وَيَصْبُروا في الضَّرَّاءِ والشِّدَّةِ؟ كَمَا يَفْعَلُ المُؤْمِنُونَ المُخْلِصُونَ؟
إِنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا أَنَّ حَالَيِ الرَّخَاءِ والشِّدَّةِ مِنَ اللهِ لَمَا ضَجُّوا وَقَنِطُوا، وَلَمَا فَرِحُوا وَبَطِرُوا، وَلَشَكَرُوا الله في الحَالينِ، فَاللهُ تَعَالى يُؤدِّبُ عِبَادَهُ، بالرَّحمة والنَّعْمَةِ، كَمَا يُربِّيهِمْ بالشِّدَّةِ والبَلاَءِ.
يَقْدِرُ - يُضَيِّقُهُ عَلى مَنْ يَشَاءُ لِحِكْمةٍ.(1/3327)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
{فَآتِ} {أولئك}
(38) - وإِذا كَانَ اللهُ تَعَالى هُوَ الذِي يُبْسُطُ الرِّزْقَ، وَيَقْدِرُهُ، فأَعطِ يا أَيُّها النَّبِيُّ أَنتَ والمُؤِمِنُونَ، مَا تَستَطِيعُونَ إِعطَاءَهُ مِنَ المَالِ لِلفُقَراءِ والمُحْتاجِينَ مِنَ الأَقَارِبِ والمَسَاكِينِ الذينَ لا مالَ لَهُمْ، ولِلْمُسَافرينَ أبناءِ السَّبيلِ الذينَ انْقَطَعَتْ نَفَقَتُهُمْ، وَهُمْ بَعيدُونَ عَنْ أَهْلِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ لِيتَمَكَّنُوا مِنَ العَوْدَةِ إِلى بَلَدِهِمْ.
ثمَّ يَقُولُ تَعالى: إِنّ الإِعطَاءِ لهؤلاءِ المُحتاجِينَ فيهِ خيرٌ للمُعْطِينَ عندَ اللهِ، وهوَ الذِي يَتَقَبَّلُ العَملَ الصَّالِحَ، ويَجزِي بهِ فَاعِلَهُ الثَّوابَ الجَزيلَ، وَقَد رَبحَ هؤلاءِ المُعْطُونَ في صَفْقَتِهِمْ لأَنَّهُمْ أعْطَوا ما يَفْنَى، وَحَصَلُوا عَلى مَا يَبْقَى (وَقِيلَ إنَّ مَعْنَى: {ذَلِكَ خَيرٌ لِمَنْ يُريدُ وَجْهَ اللهِ} هُوَ: ذَلِكَ خيرٌ لِلذِينَ يُريدُون النَّظرَ إِلى وجهِ اللهِ يومَ القِيامة) .(1/3328)
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
{آتَيْتُمْ} {لِّيَرْبُوَ} {أَمْوَالِ} {يَرْبُو} {زَكَاةٍ} {فأولئك}
(39) - قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الرِّبا رِبَوانِ: رِباً لاَ يَصِحُّ وَهُوَ رِبَا الَبيْعِ، وَرِباً لا بَأْسَ بِِ وَهُوَ هَدِيَّةُ الرَّجلِ يُرِيدُ فَضْلَهَا وَإِضَعَافَهَا، وَتَلاَ هذِهِ الآيَةَ.
وَكَذَلِكَ قَالَ عِكْرِمَةُ. فَمَنْ أًَعطَى عَطِيَّةً، أَو أَهْدَى هَدِيَّةً وهوَ يريدُ أَنْ يَرُدَّ عليهِ النَّاسُ بأكثرَ مِنها، فَلا ثَوابَ لهُ عليهِ عندَ اللهِ وَلكِنَّ هَذا الصَّنيعَ لا إِثمَ فيهِ، وَإِن كَانَ قَدْ نَهَى اللهُ رَسُولَه عنهُ حِينَمَا قَال: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} أَمَّا مَنْ أَعطَى الصَّدَقَةَ يَبْتَغِي بِها وَجْهَ اللهِ تَعَالى خَالِصاً، فَأُولئِكَ الذِينًَ يُضَاعِفُ اللهُ لَهُمُ الثَّوابَ والجَزَاءَ (المُضْعِفُونَ) .
(وَجَاءَ فِي الحَديثِ الصَّحِيحِ: " وَمَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِعِدلِ تَمرةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ إِلاَّ أَخَذَها الرَّحْمَنُ بِيَمِينِه فَيُرَبِّيها لِصَاحِبِها كَمَ يُرَبِّي أَحَدُكُم فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ، حَتَّى تَصيرَ التَّمرةُ أعظمَ مِنْ أُحُدٍ ") .
الرِّبا - هُوَ المُحَرَّمُ المَعْروفُ.
لِيَرْبُو - لِيَزيدَ ذَلكَ الرِّبَا.
فَلاَ يَرْبُوا - فَلاَ يَزْكُوْ وَلاَ يُبَارَكُ فِيهِ.
المُضْعِفُونَ - ذُوُو الأَضْعَافِ مِنَ الحَسَناتِ.(1/3329)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
{شُرَكَآئِكُمْ} {سُبْحَانَهُ} {تعالى}
(40) - اللهُ تَعَالى هُوَ الذي خَلَقَكُمْ ولَمْ تَكُونوا شَيئاً، يُخْرِجُ الإِنسانَ من بَطْنِ أُمِّهِ عُرْيَاناً، ثُمَّ يَرْزُقُهُ السَّمْعَ والبَصَرَ، والقُوَّةَ والِلِّبَاسَ، والعِلم والمَالَ، ومَا تَقُومُ بِهِ الحَياةُ، ثمَّ بعدَ هذه الحياةِ يُمِيتُكُم، ثُمّ يَعودُ فَيُحْيِيكُمْ يَومَ القِيَامَةِ، لِيُحَاسِبَكُمْ عَلَى أًَعْمَالِكُم كُلِّها.
ثُمَّ يَسْأَلُ اللهُ تَعَالى المُشْرِكِينَ مُسْتَنْكِراً وَمُقَرِّعاً: هَلْ أَحَدٌ مِنَ الآلِهةِ التي يَعْبُدُونَها مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَصنامٍ وأوثانٍ وغيرِها. . . مَنْ يَسْتَطِيعُ أًَنْ يفعلَ ذَلك؟
وَبِمَا أَنَّ هذهِ الأَصنامَ والأَوثَانَ والآلهةَ المَزْغُومَةَ لاَ تَسْتَطِيعُ لأحدٍ ولا لِنَفْسِهَا نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً، وَكُفَّارٌ قُريشِ يَعْرِفُونَ ذَلكَ وَيَعْتَرِفُونَ بِهِ، لِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: تَنَزَّهَ اللهَ وَتَعَاظَمَ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَريكٌ أَوْ نَظِيرٌ أَوْ وَلَدٌ.(1/3330)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
(41) - ظَهَرَ الفَسَادُ فِي العَالَمِ بالفِتَنِ والحُروبِ والاضْطِرابَات. . وذَلكَ بِسَببِ مَا اقتَرَفَهَ النَّاسُ منَ الظُّلمِ، وانتِهَاكِ الحُرُمَاتِ، والتَّنَكُّرِ لِلدِّينِ، وَنِسيَانِ يومِ الحِسَابِ فانْطَلَقَت النُّفُوسُ مِنْ عِقَالِها، وَعَاثَتْ فِي الأًَرضِ فَسَاداً بِلاَ وَازعٍ وَلا رَقيبٍ منْ ضَميرٍ أَوْ وُجدَانٍ أو حَيَاءٍ أَو حِسَابٍ لدِينٍ، فأَذَاقَهُم اللهُ جزاءَ بعضِ ما عَمِلُوا مِنَ المَعَاصِي والآثَامِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلى الحَقِّ، وَيَكُفُّونَ عَنِ الضَّلالِ والغِوايةِ، وَيَتَذَكَّرُونَ يومَ الحِسَابِ.(1/3331)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
{عَاقِبَةُ}
(42) - وَلَمَّا كَانَ ظُهْورُ الفَسادِ مِنْ نَتِيجَةِ أَعْمَالِ العِبَادِ وَتَقْصِيرِهِمْ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِم، وَفي حَقِّ خَالقِهِمْ، وَمُخَالَفتِهِمْ شَرْعَ اللهِ، فَقَدْ لَفَتَ الله تَعَالَى أَنْظَارَ العِبادِ إِلى مَا حَلَّ بالأُمَمِ المُفْسِدَةِ السَّالِفَةِ، وَكيفَ دَمَّرَهُمُ اللهُ وَلَمْ يُبْقِ مِنْهُم أحَداً، فَقَالَ تَعَالى: قُلْ يَا مَحَمَّدُ لهؤلاءِ المُشرِكينَ مِنْ قَومِكَ: سِيرُوا في أرضِ اللهِ الواسِعَة، فَانظُرُوا إِلى مسَاكِنِ الذينَ كَفَرُوا باللهِ، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، كَيفَ أَهْلَكَهُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً لأنَّ أَكْثَرَهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ باللهِ.(1/3332)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)
{يَوْمَئِذٍ}
(43) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ بالمُبَادَرةِ إلى الاسْتِقَامَةِ في طَاعَتِهِ، واتّبَاعِ نَهْجِهِ القَوِيمِ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَجيءَ يومُ القِيَامَةِ، وَهُوَ يومٌ لا رَادَّ لهُ، وَسَيَقَعُ حَتماً لا مَحَالةَ. وفي ذلكَ اليومِ يَتَفَرّقُ النّاسُ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ، فَريقٌ يَدْخُلُ الجَنَّةَ، وَيَنْعَمُ فِيها بالحَياةِ السَّعِيدَة، وفَرِيقٌ يَدْخُلُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً.
الدِّينِ القَيِّم - المُسْتَقيمِ. دِينِ الفِطْرَةِ.
لاَ. مَرَدَّ لَهُ - لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى رَدِّهِ.
يَصَّدَّعُونَ - يَتَفَرَّقُونَ إِلى الجَنّةِ أَوْ إِلى النَّارِ.(1/3333)
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)
{صَالِحاً}
(44) - مَنْ كَفَرَ بِاللهِ تَعَالَى، وَعَمِلَ السَّيِّئَاتِ فَعَليهِ وَحْدَهُ وِزْرُ كُفْرِهِ، وآثامُ جُحُودِهِ بِنِعَمِ اللهِ. وَمَنْ آمَنَ باللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً، وَأَطَاعَ الله فِيما أَمَرَ، وابْتَعَدَ عَمّا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ فَيكُونُ كَمَنْ مَهَّدَ لِنَفْسِهِ الفِرَاشَ وَوَطَّأَهُ، حَتَّى لا يُقَضَّ مَضْجَعُهُ، وَيَكُونُ في الآخِرةِ مِنَ الفَائِزينَ (أَوْ يكُونُ كَمَنْ مَهَّدَ لِنَفْسِهِ طَريقَ الجَنَّةِ) .
يَمْهَدُونَ - يُوطِئُونَ الفِرَاشَ - أَوْ طَريقَ الجَنَّةِ.(1/3334)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
{آمَنُواْ} {الصالحات} {الكافرين}
(45) - وَيَجْمَعُ اللهُ تَعَالى الخَلائِقَ يَومَ القِيَامَةِ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، ثُمَّ يُفَرِّقهُمْ بِحَسَبِ هذهِ الأعمالِ، فأمَّا الذينَ آمنوُا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيَجزِيهِمْ مِنْ فَضْلِهِ، فَيُضَاعِفُ لهُمْ رَبُّهُمُ الحَسَنَاتِ، وأَمّا الكَافِرونَ فإِنَّهُمْ يَلْقَونَ جَزَاءَهُمْ العَادِلَ، بِلاَ جَوْرٍ وَلا ظُلْمٍ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالى لا يُحِبُّ الكَافِرينَ، ولكِنّهُ لا يَجْزِيهِمْ إِلا بالعَدْلِ التَّامِّ.(1/3335)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
{آيَاتِهِ} {مُبَشِّرَاتٍ}
(46) - وَمِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ أَنَّهُ تَعَالَى يُرسِلُ الرِّيَاحَ لِتُبَشِّرَ النَّاسَ بالمَطَرِ الذِي يَأْتِي في إِثرِ الرِّياحِ، فَيَرْوِي المَطَرُ الأَرضَ، فَتُنْبِتُ بالزُّرُوعٍِ والنَّبَاتِ، وَتُخْرِجُ الثِّمَارِ والحُُبُوبَ فيَأكُلُ مِنْهَا النَّاسُ والأَنْعَامُ (وَليُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) وَتَجرِي السُّفُنُ بِفِعْلِ الرِّياحِ في البِحَارِ والأَنهَارِ تَحْمِلُ النَّاسَ والأقواتَ وأنواعَ البَضَائِعِ، مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، فََسْتَفِيدُ الخَلْقُ مِنَ الاتْجَارِ بِها. وَيُريدُ اللهُ أنْ يَذْكُرَ الخَلقُ آلاءَهُ ونِعَمَةُ فَيْشْكُرُوهُ عَلَيها.(1/3336)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
{بالبينات}
(47) - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا، يَا مُحَمَّدُ، قَبْلَكَ رُسُلاً إِلى أَقْومِهِمْ بالدَّلاَئلِ الوَاضِحَاتِ عَلَى أَنَّهُمْ رُسُلُ اللهِ، وأَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ إِليهمْ لدَعْوَتِهِمْ إِلى عبادةِ اللهِ وحدَهُ لا شَريكَ لهُ، فَكَذَّبَتِ الأَقْوامُ رُسُلَها، فانتَقَمْنا مِنَ الكَافِرينَ الذينَ اجْتَرَحُوا السِّيِّئاتِ، وَنجَّينا الذينَ آمنُوا باللهِ، واسْتَجَابُوا لدَعْوةِ رُسُلِهِ وقدْ أَوْجَبنا عَلَى أَنْفُسِنا نَصرَ المُؤْمِنينَ، وَكَذَلِكَ نَفْعَلُ، فَلاَ تَبْتَئِسْ يَا مُحَمَّدُ لما تَرَاهُ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِكَ لَكَ، وَمِنْ إِيذَائِهِمْ إِيَّاكَ، فَسَنَنْصُرُكَ عَليهِمْ.(1/3337)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)
{الرياح} {خِلاَلِهِ}
(48) - يُرْسِلُ اللهَ تَعَالَى الرِّياحَ فَتُنَشِئُ سَحَاباً فَيَنْشُرُهُ في السَّمَاءِ أوْ يَجْمَعُهُ، أَوْ يَجْعَلُهُ قِطَعاً (كِسَفاً) ، فَتَرى قَطَرَاتِ المَاءِ (الوَدْقَ) تَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِ السَّحَابِ، فإِذا أَصَابَ المَطَرُ مَنْ أَرادَهُمُ اللهُ مِنْ خَلْقِهِ فَرِحُوا بِهِ، واستَبْشَرُوا بالخَيرِ والخِصْبِ.
فَتُثِيرُ سَحَاباً - فَتُنْشِئُهُ وَتُحَرِّكُهُ وَتَنْشُرُهُ.
يَجْعَلُهُ كِسَفاً - قِطَعاً مُتَفَرِّقَةً.
الوَدْقَ - المَطَرَ.
مِنْ خِلاَلِهِ - مِنْ فُرَجِهِ وَوَسَطِهِ.(1/3338)
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)
(49) - وَقَدْ كَانُوا قَبلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيهِمُ المَطَرُ قَانِطِينَ يَائِسِينَ (مُبْلِسِينَ) ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ المَطَرُ اسْتَبْشَرُوا، وانتَعَشَتْ آمَالُهُمْ.
مُبْلسِينَ - يَائِسِينِ مِنْ نُزُولِ المَطَرِ.(1/3339)
فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
{آثَارِ} {رَحْمَتِ} {يُحْيِيِ} {لَمُحْييِ}
(50) - فَانْظُرِ يَا مُحَمَّدُ إِلى الآثَارِ التِي يُحْدِثُها نُزُولُ المَطَرِ، فَتَحيَا بِهِ الأرضُ، وتُنْبِتُ الزُّرُوعَ، والنًَّبَاتَ والخُضْرَةَ والثِّمَارَ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَوَاتاً.
وَالذِي قَدِرَ عَلَى إِحْيَاءِ الأَرْضِ المَوَاتِ لَقَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ المَوتَى مِن قُبُورِهِمْ يَومَ الحَشْرِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، فَقَدْ أَوْجَدَ اللهُ الكَوْنَ وَمَا فِيهِ وَمَنْ فِيهِ مِنْ عَدَمٍ.(1/3340)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
{لَئِنْ}
(51) -وَإِذا أَرْسَلَ اللهُ رِيحاً بَارِدَةً، أَو رِيحاً حَارَّةً لَفَحَتْ زُرُوعَهُمْ وَثِمَارَهُمْ، فَأَتْلَفَتْها فَاصْفَرَّتْ مِنْ بَعْدِ خُضْرَةٍ، وذَوَتْ مِنْ بعدِ نُضْرَةٍ، لَتَبَدَّلَتْ َفَرْحَتُهُمْ حُزناً، سولا نْقَلَبَ رَجَاؤُهُمْ قُنُوطاً وَكُفْراً وجُحُوداً بِأَنْعِمِ اللهِ السَّالِفَةِ لاضْطِرابِ عَقِيدَتِهِمْ، وَتَشَكُّكِهِمْ، فالمؤْمِنُ مِنْ وَاجِبِهِ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ في كُلِّ حِينٍ، وَفي كُلِّ حَالٍ، وأَنْ يَشْكُرَهُ أَبداً وَدَائِماً.
فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً - فَرَأَو النَّبَاتَ مُصْفَرّاً بعدَ الخُضْرَةِ.(1/3341)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)
(52) - وَكَما أَنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُسْمِعَ الأَمواتَ في أَجْدَاثِها، وَلاَ أَنْ تُسْمِعَ الذينَ فَقَدُوا حَاسَّةَ السَّمْع (الصُّمَّ) ، وَلا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَحْملَ مَنْ تَصَامُّوا عَنْ فَهْمِ آياتِ اللهِ فَتَجْعَلَهُمْ يَسْمَعُونَها، وَيَفْهَمُونَها، فَكَذَلِكَ إِنَّكَ لا تَسْتَطيعُ أَنْ تَهدِيَ مَنْ أَضَلَّهُ اللهُ فَتَرُدَّهُ عَنْ ضَلاَلِهِ، فَاللهُ وَحْدَهُ القَادِرُ على فِعلِ ذَلك، فَهُوَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، فَلاَ تَحْزَنْ أَنْتَ عَلَيهِمْ، وَلا تَبْتَئِسْ مِنْ عِنَادِهِمْ، وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى البَقَاءِ في الضَّلاَلَةِ.(1/3342)
وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
{بِهَادِ} {ضَلاَلَتِهِمْ} {بِآيَاتِنَا}
(53) - وهؤلاءِ الكُفَّارُ المُعَانِدُونَ هُمْ كَالعُمِيِ لانْغِلاَقِ قُلُوبِهِمْ عنِ الهُدَى، وإِنَّكَ لاَ تَسْتَطيعُ هِدَايَتَهُمْ، وَلا صَرْفَهُمْ عَنْ كُفْرِهِمْ إِلى الإِيمانِ، فَإَنْتَ لاَ تستطيعُ أَنْ تُسْمِعَ أَحَداً سَمَاعاً يَنْتَفِعُ بِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ قلبُهُ قَدْ تَهَيَّأَ للإِيمَانِ بآيَاتِ اللهِ، فَهُوَ وَحْدَهُ الذي إِذا سَمِعَ كِتَابَ اللهِ تَدَبَّرَهُ، وَفَهِمَهُ، وعمِلَ بِمَا فيهِ بِخُشُوعٍ وانقِيادٍ لأَمرِ اللهِ تَعَالى.(1/3343)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
(54) - يَرُدُّ اللهُ تَعَالى عَلى المُشْرِكِينَ الذينَ يُنْكِرُونَ البَعْثَ والنُّشُورَ قائلاً: إِنَّهُ تَعَالى خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةِ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ جَعَلَهُ يَمُرُّ في أَطْوارٍ مُتَعَدِّدَةٍ حتَّى يَخرُجَ طِفْلاً شَيئاً فَشَيئاً، حَتَّى يَعُودَ ضَعيفاً ويَعْلُوَهُ الشَّيْبُ.
واللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ مِنْ ضَعْفٍ وقُوَّةٍ وشَبَابٍ وَمِشيبٍ، وَهُوَ العَلِيمُ بِحَالِ خَلْقِهِ، وَهُوَ القَادِرُ عَلى كُلِّ شيءٍ، وَلا يَمْتَنِعُ عَليهِ شَيءٌ.
فَمَنْ فَعَل كُلَّ هذَا لاَ يَصْعُبُ عَلَيهِ أًَنْ يُعِيدَ نَشْرَ الخَلْقِ، وَبَعْثَهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ يَومَ القِيَامَةِ.
شَيْبَةً - حَالَ الشَّيْخُوخَةِ والهَرَم.(1/3344)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
(55) - وحِينَمَا تَقُومُ السَّاعَةُ، ويَبْعَثُ اللهُ مَنْ فِي القُبُورِ، يُقْسِمُ المُجْرِمُونَ الذِينَ كَفَرُوا باللهِ، وعَمِلُوا السَّيِّئَاتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا، أَنَّهُمْ لمْ تمُنْ حياتُهُمْ في الدُّنيا إِلاّ ساعَةً واحِدَةً (أَوْ أَنَّهُمْ ما لَبِثُوا فِي قُبُورِهِمْ إلا سَاعةً واحِدَةً) ، لِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ كَافيةً لهُمْ لِيَعْرفُوا خَالِقَهُم، ولِيُدْرِكُوا ما جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ. وَهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ ليَدْفَعُوا عَنْ أًنْفُسِهِمِ الحُجَّةَ القَائِمَةَ عَلَيهِمْ. وَكَمَا كَانُوا في الدُّنيا يَعرِفُونَ الحَقَّ وَيُصْرِفُونَ عَنْهُ إلى البَاطِلِ، ويَكْذِبُونَ وَيحلِفُونَ عَلَى الكَذِبِ، كَذلِكَ يَصْرَفُونَ عَنِ الحَقِّ في الآخِرَةِ ويَكْذِبُونَ في قَوْلِهِمْ أَنَّهُمْ مَا لَبِثُوا غيرَ سَاعةٍ، وَيَحْلِفُونَ عَلى الكَذِبِ.
يُؤْفَكُونَ - يُصْرَفُونَ عَنِ الحَقِّ وَالصِّدْقِ.(1/3345)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)
{الإيمان} {كِتَابِ}
(56) - فَيَرُدُّ الذِينَ أُوتُوا العِلْمِ بِكِتَابِ اللهِ، وبِالإِيمَانِ باللهِ منَ الأَنبياءِ والمَلاَئِكَةِ والمُؤْمِنينَ عَلَى هؤلاءِ المُنكِرِينَ في الدُّنيا، الذينَ يَحْلفُونَ عَلى أَنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا في الدُّنيا (أَوْ في قُبُورِهم) إِلا سَاعَةً واحَدَةً قائلين: إِنًّهُم لَبِثُوا في قُبُورِهِم مِنْ يومِ مَمَاتِهِمْ إِلى يَوْمِ البَعْثِ، فَهَذا هُوَ يومُ البَعْثِ الذي أَنكَرُوهُ في الدُّنيا، وَزَعَمُوا أنَّهُ لَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مِثْلُ هذا اليومِ بِسَبَبِ جَهْلِهِمْ، وَغَفْلَتِهِمْ وقِصَرِ نَظَرِهِمْ.(1/3346)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
{فَيَوْمَئِذٍ}
(57) - وفي يَومِ القِيَامَةِ لا يَنْفَعُ الذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم بكُفْرِهِم، وإِنْكَارِهِمُ البَعْثَ، مَا يُقَدِّمُونَهُ مِنْ أَعذَارٍ يُبَرِّوَنَ بِها كُفْرِهُمْ وَظُلْمَهُم (كَقَوْلِهِم: ما عَلمنا أَنَّ هذا اليومَ كَائِنٌ. .) وَلا هُمْ يَرْجِعُونَ إلى الدُّنيا لِيتُوبُوا وَلِيعْمَلُوا صَالحاً، فَلاَ الرَّجعَةُ مُمْكِنةٌن وَلا التَّوبةُ مقْبُولَةٌ لأَنّ أَوَانَها قَدْ فَاتَ، وَلا يَطْلُبُ إِليهِمْ أَحَدٌ أَنْ يَفْعَلُوا مَا يُرضِي اللهَ تَعَالَى وَيُزِيلُ عَتَبَهُ عَلَيْهِمْ لُهَوَانِهِمْ عَلَيهِ.
لا يُسْتَعْتَبُونَ - لاَ يُطْلَبُ مِنْهُمْ إِزَالَةُ عَتَبِ رَبِّهِمْ عَلَيهِمْ بالتَّوبَةِ.(1/3347)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58)
{القرآن} {لَئِن} {بِآيَةٍ}
(58) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالى: أنَّهُ ضَرَبَ الأَمثَالَ لِلنَّاسِ للدَّلاَلَةِ عَلَى وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ تَعَالى، وَعَلى قُدْرَتِهِ، وَعَلى خَلْقِهِ الكَوْنَ بِمَا فِيهِ، لِتَبَيَّنُوا الحَقّ ولِتَتَّبِعُوهُ، ولكِنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ اسْتِكْبَاراً وَعِنَاداً. وَيَقُولُ تَعَالى لِرَسُولِهِ: إِنَّكَ لَوْ جِئْتَهُمْ بِكُلِّ آيةٍ عَلَى صِدْقِ مَا تَقُولُ فإِنَّهُمْ لَنْ يُؤْمِنُوا لَكَ، وَسَيَقُولُونَ إِنَّهُ سِحْرٌ، أَوْ إِنَّهُ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ، وإِنّ ما أَتَيْتَهُمْ بِهِ بَاطِلٌ.(1/3348)
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59)
(59) - وَيَخْتِمُ اللهُ مِثْلَ الخَتْمِ عَلَى قُلوبِ الذينَ لا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الآياتِ والحُجَجِ فَلا يَسْتَطِيعَونَ فَهْمَ مَا يُتْلَى عَلَيهِمْ مِنَ القُرآن، وَلا إِدرَاكَ حَقِيقَةِ الإِيمانِ.(1/3349)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
(60) - فَاصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى هُؤلاءِ المُشْرِكِينَ، وَلا تَلْتَفِتْ إلى تَكذِيبِهِم وَمُكَابَرَتِهِمْ، وبَلِّغْهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ، فَإِنَّهُ وَعَدَكَ النَّصْرَ والظَّفَرَ، وسَيُنْجِزُ لَكَ وَعْدَهُ، وَلا يَحْمِلَنَّكَ الذِين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ (لاَ يُوقِنُونَ) عَلى الخِفَّةِ والانْفِعَالِ، فَيَصْرِفُوكَ بذلِكَ عَمَّا أَمَرَكَ بهِ رَبُّكَ مِنْ إِبْلاَغِ رسَالاَتِهِ إِلى النَّاسِ.
لاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ - لاَ يَحْمِلَنَّكَ عَلى الخِفَّةِ والقَلَقِ.(1/3350)
الم (1)
{ألِف} {لاَم} {ميم}
(1) - وَتُقْرَأُ مَقَطَّعَةً، كُلُّ حَرْفٍ عَلَى حِدَةٍ، اللهُ أَعْلَمُ بِمُرَدِهِ.(1/3351)
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)
{آيَاتُ} {الكتاب}
(2) - هذِهِ هِيَ آياتُ القُرآنِ الحَكِيمِ بَيَاناً وَتَفْصِيلاً.(1/3352)
هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)
(3) - وَهِيَ تَهدِي مِنَ الزِّيغِ الذينَ أَحْسَنُوا العَمَلَ واتَّبَعُوا الشَّرِيعَةَ، وتَشْفِيهِمْ من الشَّكِ والضَّلاَلَةِ.(1/3353)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
{الصلاة} {الزكاة} {بالآخرة}
(4) - ثُمَّ يُعَرَّفُ اللهُ تَعَالى هؤُلاءِ الذينَ يُحْسِنُونَ العَمَلَ، وَيَهْتَدُونَ بالقُرآن، فَيَقُولُ: إِنَّهُم الذِينَ يَقِيمُونَ الصَّلاَةَ عَلَى وَجْهِهَا الأَكْمَلِ، ويُتِمُونَّها بِخُشُوعِها وَرُكُوعِها وَسُجُودِها، وَيُؤدُّونَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ عَلى أَموالِهِم، وَيُؤْمِنُونَ إيماناً ثَابِتاً رَاسِخاً بِأَنَّ اللهَ سَيَْعَثُ الخَلاَئِقَ في الآخِرَة، وأَنَّهُ سَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وأَنَهُ سَيَجْزِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ.(1/3354)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
{أولئك}
(5) - وَهَؤُلاءِ الذينَ اتَّصَفُوا بالصِّفَاتِ المُتَقَدِّمَةِ، هُمْ عَلَى بَيِِّنَةٍ ونُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ، وَهؤُلاءِ هُمُ الفَائِزُونَ بِمَا أَمَّلُوا مِنْ ثَوابِ اللهِ يومَ القِيَامَةِ، فَرَبَحَتْ صَفْقَتُهُمْ.(1/3355)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
{أولئك}
(6) - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى حَالَ السُّعَدَاءِ الذِينَ يَهْتَدُون بكِتَابِ اللهِ وآياتِهِ، وَيَنْتَفِعُونَ بِسَمَاعِها، ثَنَّى بِذِكْرِ حَالِ الأَشقِيائِ الذينَ أَعْرَضُوا عَن الانْتِفَاعِ بِكِلاَمِ اللهِ وَآيَاتِهِ، وَأَقْبَلُوا عَلَى مَا لاَ فَائِدَةَ منْهُ يَتَلَهَّوْنَ بهِ مِنْ لَغْو الحَدِيثِ، ليُضِلُّوا النَّاسَ عَنِ السَّبيلِ الذِي يُوصِلُ إلى اللهِ. وهؤُلاءِ يُجَازِيهِمُ اللهُ، يَومَ القِيامَةِ، بالعذابِ المُخزِي المُهِينِِ.
(هذِهِ الآيةُ نَزَلَتْ في النَّضْرِ بْنِ الحَارِثِ فقَدِ اشْتَرى جَارِيَةً مُغَنِّيَةً (قَيْنَةً) وَكَانَ إِذا سَمِعَ بأَحَدٍ يُريدُ الإِسْلاَمَ انطَلَقَ بِهِ إِلى قَيْنَتِهِ، فَيَقُولُ لَها أَطْعِمِيهِ واسْقِيهِ وَغَنِّيهِ، هذا خَيرٌ مِمَّا يدعُوا إليهِ مُحَمَّدٌ) .
لَهو الحَدِيثِ - الحَديثُ الباطِلُ المُلْهِي عَنِ الخَيْرِ.
هُزُواً - سُخْرِيَةً - مَهْزُوءاً بِها.(1/3356)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
{آيَاتُنَا}
(7) - وَإِذا قُرِئَتْ آيَاتُ القُرآنِ عَلَى هذَا الذِي يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، فإِنهُ يُعرضُ عَنْها، وَيُولِّي مُسْتَكبِراً غَيرَ مُهْتَمٍّ بِها، وَكَأنَّهُ لمْ يَسْمَعْها لِصَمَمٍ في أُذْنَيهِ، فَبَشِّر هذا المُعْرِضَ المُسْتَكبِرَ، بأنّهُ سَيَلْقَى يَوْمَ القَيَامَةِ عَذَاباً مؤلِماً مُهِيناً.
وَلَّى مُسْتَكْبِراً - أَعْرَضَ مُتَكَبِّراً عَنْ تَدَبُّرِهَا.
وَقْراً - مَانِعاً عَنِ السَّمَاعِ.(1/3357)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8)
{آمَنُواْ} {الصالحات} {جَنَّاتُ}
(8) - أَمَّا المُؤْمِنُونَ الأَبْرارُ الصَّالِحُوةنَ فإِنَّ الله تَعَالى سَيَجْزِيهِمْ بإِدْخَالِهِمْ، يَوْمَ القِيَامَةِ، فِي جَنَّاتٍ يَنْعَمُونَ فِيها.(1/3358)
خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
{خَالِدِينَ}
(9) - وَيَبْقَونَ في هذهِ الجَنَّاتِ خَالدِينَ أَبَداً، لا يَحُولُونَ عَنْهَا وَلاَ يَزُولُونَ، وَلا يَنْقَضِي نَعِيمُهُم وَلا يَنْقُصُ، وهذا الذِي وَعَدَهُمْ بهِ اللهُ، هُوَ وَعْدٌ حقٌّ كَائِنٌ لاَ مَحَالَةَ لأَنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ وَعْدَهُ أبداً، وَهُوَ تَعَالى العَزيزُ الذِي قَهَرَ كُلَّ شيءٍ، وَخَضَع لَهُ كُلُّ شيءٍ، وَهُوَ الحَكِيمُ في أَقْوالِهِ وأَفْعَالِهِ وَشَرِعِهِ.(1/3359)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)
{السماوات} {رَوَاسِيَ}
(10) - وَمِنَ الأَدِلَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى البَعْثِ والنُّشُورِ، أَنَّهُ خَلَقَ السَّماوَاتِ لا تَسْتَنِدُ إِلى أَعْمِدَةٍ تَحْمِلُها، كَمَا يَرَى النَّاسُ ذَلك، وَإِنَّما تَقُومُ بقُدرَتِهِ تَعَالى وَإِرَادَتِهِ، وَجَعَل في الأرضِ جِبَالاً تُرسِيهَا وَتُثَبِّتُهُا لِكَيْلا تَضْطَرِبَ بِمَنْ عَلَيْها، وَتَمِيدَ بِهمْ، وَخَلَقَ فِي الأَرضِ حَيَوانَاتٍ مِنْ مُخْتَلِفِ الأشْكَالِ والأَنْواعِ والأَلْوَانِ، وَبَثَّهَا فِيها، ثُمَّ أَنْزَلَ تَعَالى مَطَراً مِنَ السَّمَاءِ فَسَقى بهِ الأَرضَ وَرَوَّاها، فَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ صنْفٍ كَريمٍ في النَّبَاتِ، فِيهِ المَنْفَعَةُ العَمِيمَةُ للمَخْلُوقَاتِ.
بِغَيْرِ عَمَدٍ - بغيرِ دَعَائِمَ وَأَسَاطِينَ تُقِيمُها.
رَوَاسِيَ - جِبالاً ثَوَابِتَ.
أَنْ تَمِيدَ - أَنْ تَضْطَرِبَ بِكُمْ.
زَوْجٍ كَرِيمٍ - صِنْفٍ حَسَنٍ كَثيرِ المَنْفَعَةِ.
بَثَّ فيها - نَشَرَ وَفَرَّقَ وأَظْهَرَ فِيها.(1/3360)
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
{الظالمون} {ضَلاَلٍ}
(11) - وَرَفْع السَّماءِ بِغيرِ عَمَدٍ، وخَلْقَ الأَرْضِ وَمَا فِيها مِنْ جِبَالٍ تُرسِيها، وَخَلْقُ كُلِّ نَبَاتٍ، وَكُلِّ صِنْفٍ كَرِيمٍ بَهيجٍ في الأرْضِ. . . كُلُّ ذَلِكَ مِنْ خَلْقِ اللهِ، وَتَقْدِيرِهِ وَحْدَهُ لا شَريكَ لهُ في ذلِكَ، فأَرُوْنِي يَا اَيُّهَا المُشْرِكُونَ مَاذَا خَلَقَ الذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَصْنَامٍ وَأَوْثَانٍ. . حَتَّى اسْتَحَقُّوا مِنْكُمْ مِثْلَ هذِهِ العِبَادَةِ؟ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ المُشْرِكينَ باللهِ، والعَابِدينَ سِوَاهُ هُمْ فِي جهلٍ وَعَمَايَةً، وَضَلاَلٍ وَاضِحٍ ظَاهرٍ لاَ خَفَاءَ فِيهِ.(1/3361)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
{آتَيْنَا} {لُقْمَانَ}
(12) - أَكْثَرُ المُفَسِّرِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ لُقْمَانَ كَانَ رَجُلاً صَالِحاً وَلَيسَ نَبِياً، وَهُوَ عَبْدٌ حَبَشِيٌ كَانَ يَعْمَل نَجَّاراً، وَقَدْ أََعْطَاهُ اللهُ تَعَالى الفَهْمَ والعِلَمَ الصَّحِيحَ والرَّأْيَ الصَّائِبَ. وأًَمَرَهُ تَعَالى بِشُكْرِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى ما آتاهُ اللهُ، وَعَلَى مَا خَصَّهُ بِهِ مِنَ العِلْمِ والفَضْلِ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِ، وَمَنْ شَكَرَ اللهَ عَلَى نِعَمِهِ، فَإِنَّهُ إِنَّما يَفْعَلُ ذَلِكَ لِخَيرِ نَفْسِهِ وَمَنْفَعَتِها، أَمَّا مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العِبَادِ، لاَ يَتَضَرٌّرُ بِذَلِكَ، وَلَوْ كَفَرَ أَهْلُ الأَرْضِ جَمِيعاً، فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ والثَّنَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَحْمَدْهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ.
الحِكْمَةَ - العَقْلَ والفَهْمَ والفِطْنَةَ وإِصَابَةَ القَوْلِ.(1/3362)
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
{لُقْمَانُ} {يابني}
(13) - وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ قِصذَةَ لُقْمَانَ حِينَ قَالَ لابْنِهِ، وَهُوَ أَحَبُّ النَّاسِ إِليهِ، وَهُوَ يَعِظُهُ وَيَنْصَحُهُ: يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِعِبَادَةِ اللهِ شَيئاً، لأًَنَّ الشِّرْكَ أعظَمُ الظُّلْمِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالى خَلَقَ النَّاسَ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَأَنْعَمَ عَلَيهِمْ بِنِعَمٍ لا تُحْصَى، فَإِذا عَبَدَ الإِنْسَانُ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرَ اللهِ فإِنَّهُ يَكُونُ ظَالِماً نَاكِراً لِلْجَمِيلِ.(1/3363)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
{الإنسان} {بِوَالِدَيْهِ} {َفِصَالُهُ} {لِوَالِدَيْكَ}
(14) - وَبَعْدَ أًَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالى مَا وَصَّى بِهِ لُقْمَانُ ابْنَهُ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالى وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لأنَّهُ المُنْعِمُ المُوجِدُ، أًَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا أَوْصَى بِهِ الوَلَدَ بِالوَالِدَينِ، لِكَونِهِما السَّبَلَ في وُجُودِهِ، فَقَالَ تَعَالى إِنَّهُ أَمَرَ (وَصِّينَا) الإِنسانَ بِبِرِّ وَالدَيهِ وطَاعَتِهِما، وَبِالقِيامِ بِمَا يَتَوجَّبُ عَليهِ نَحْوَهُما، وَذَكَّرَ اللهُ تَعَالى الإِنسانَ بصُورَةٍ خَاصَّةٍ بما تَحَمَّلَتْهُ أُمَّهُ مِنَ العَنَاءِ والجَهْدِ والمَشَقَّةِ في حَمْلِهِ وَوِلاَدَتِهِ، وإِرْضَاعِهِ وتَرِبِيتَهِ، فَقَدْ حَمَلَتْهُ في جَهْدٍ (وَهْنٍ) يَتَزَايدُ بِتَزَايُدِ ثِقَلِ الحَمْلِ، ثُمّ أَرْضَعَتْهُ في عَامَينِ كَامِلَينِ، وهيَ تُقَاسِي مِنْ ذَلِكَ ما تُقَاسِي مِنَ المَشَاقِّ.
ثُمَّ أَمرَ اللهُ تَعَالى الإِنسَانَ بِشُكْرِهِ تَعَالى عَلَى نِعَمِهِ عَلَيهِ، وبِشُكْرِ وَالِدَيهِ لأََنَّهُمَا كَانَا سَبَبَ وُجُودِهِ، ثُمَّ نَبَّهَ اللهُ الإِنسانَ إِلى أَنَّهُ سَيَرجِعُ إِِلى اللهِ فَيُجَازِيهِ عَلَى عَمَلِهِ إنْ خَيْراً فَخَيْراً، وَإِنْ شَرّاً فَشَرّاً.
وَصَّينَا - أًمَرْنَا وَأَلْزَمْنا.
وَهْنَاً - ضَعْفاً.
فِصَالُهُ - فِطَامُهُ عنِ الرِّضَاعِ.(1/3364)
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
{جَاهَدَاكَ}
(15) - وَإِذا أَلَحَّ عَلَيكَ وَالِدَاكَ لِيَحْمِلاَكَ عَلَى أَنْ تَكْفُرَ بِاللهِ رَبِّكَ، وَعَلى أَنْ تُشْرِكَ مَعَهُ بِالعِبَادَةِ غَيْرَهُ مِنْ أَصْنامٍ وَأَنْدَادٍ، وَأَنْتَ لا تَعْلَمُ لِهؤُلاءِ الأَصْنَامِ والأَندَادِ شَرِكَةً مَعَ اللهِ في الخَلْقِ والأُلُوهِيَّةِ، فَلا تُطِعْهُما فِيما أمَراك بهِ، ولكِنَّ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لا يَمْنَعَكَ مِنَ الإِحسَانِ إِليهِما، وَمُصَاحَبَتِهِما بِالمَعْرُوفِ خِلاَلَ أيامِ هذهِ الدُّنيا القَلِيلةِ الفَانِيَة كَإِطْعَامِهِمَا وكِسوَتِهِمَ، والعِنَايَةِ بِهِما إِذا مَرَضا. . . واتَّبعْ في أُمُورِ الدِّينِ سَبيلَ الذينَ أَخْلَصُوا العِبَادَةَ للهِ مِنَ المُؤْمِنينَ، وأَنَابُوا إِليهِ بدونِ وَهَنٍ وَلاَ تَرَدُّدٍ، فَإِنَّكُمْ رَاجِعُونَ إِليهِ تَعَالى جَمِيعاً يَومَ القِيَامَةِ، فَيُخبِرُكُمْ بِمَ كُنتُم تَعمَلُونَ مِنْ خَيرٍ وَشَرٍّ ويُجازِيكُمْ بِهِ.
(هَذِهِ الآيةُ نَزَلَتْ فِي سَعْدِ بْنِ أَبي وَقَّاصٍ (وَهُوَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ) فَقَدْ قَالتْ لًَهُ أُمُّهُ لَمَّا أَسْلَمَ: (إِمَّا أَنْ تَكْفُرَ بالدِّينِ الذِي آمَنْتَ بِهِ، وَتَعُودَ إِلى دينِ آبائِكَ، وَإِمَّا أَنْ أَمتَنِعَ عَنْ تَنَاوُلِ شَيءٍ مِنَ الطَّعَامِ والشَّرابِ حَتَّى أَموتَ) . وامتَنَعَتْ عَنْ تَنَاوُلِ شيءٍ. فَقَالَ لَهَا سَعْدٌ: واللهِ لَوْ كَانَتْ لَكِ مِئَةُ نَفْسٍ، وَخَرَجَتْ نَفْساً نَفْساً مَا تَرَكْتُ دِيني هذا لِشَيءٍ، فَإِنْ شِئْتِ فَكِلِي، وَإِنْ شِئْتِ لا تَأْكُلِيِ فَأَكَلَتْ) .
أًَنَابَ إليَّ - رَجِعَ بِالإِخْلاَصِ وَالطَّاعَةِ إِلى رَبِّهِ.(1/3365)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
{السماوات} {يابني}
(16) - وَتَابَعَ لُقمَانُ وَعْظَةُ لاِبْنِهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ خَطِيئَةَ الإِنسَانِ وَفعْلَتَهُ وَلَوْ كَانَتْ وَزْنَ (مِثْقَالَ) حَبَّةِ الخَرْدَلِ الصَّغِيرَةِ، مُخَبَّأَةً في صِخْرَةٍ، أَو فِي السَّمَاوَاتِ، أَوْ في الأََرضِ يُحْضِرُها اللهُ يومَ القِيَامة، لِيَضَعَها فِي مِيزَانِ أًَعمَالِ الإِنسانِ، ليُحَاسِبَهُ عَلَيها، وَكَذَلِكَ الحَالُ بِالنِّسْبَةِ لِحَسَناتِ الإِنسَانِ، فإِنَّ الله تَعَالَى يأتِي بهَا يومَ القِيَامَةِ ويُحَاسِبُهُ عَليهَا. واللهُ لَطِيفٌ يَصِلُ عِلمُهُ إٍلى كُلِّ خَفِيٍّ، وَهُوَ تَعَالى خَبيرٌ يَعْلَمُ ظَواهِرَ الأُمُورِ وَخَوافِيَهَا.
مِثْقَالَ حَبَّةٍ - وَزْنَ حَبَّةِ الخَرْدلِ، أَيْ أًَصْغَرَ شَيءٍ.(1/3366)
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
{يابني} {الصلاة}
(17) - ثُمَّ قَالَ لُقمَانُ لابنِهِ، يَا بُنَيَّ أَدِّ الصَّلاَة في أَوْقَاتِها، وَأَتْمِمْهَا بِرُكُوعِها وَسُجُودِها وَخُشُوعِها، لأَنَّ الصَّلاةَ تُذَكِّرُ العَبْدَ بِرَبِّهِ، وَتَحْملُهُ عَلَى فِعْلِ المَعْرُوفِ، والانْتِهَاءِ عَنْ فِعْلِ المُنْكَرِ، وإِذا فَعَلَ الإنسَانُ ذلِكَ تَصْفُو نَفْسُهُ وَتَسْمُو، وَيَسْهُلُ عَلَيها احْتِمَالُ الصِّعَابِ في اللهِ، ثمَّ حَثَّ لُقْمَانُ ابْنَهُ عَلَى احتِمَالِ أَذَى النَّاسِ إِذا قَابَلُوه بِالسُّوءِ والأَذى عَلَى حَثِّهِ إِيًَّاهُمْ عَلَى فِعْلِ الخَيرِ، والانْتِهَاءِ عَنْ فِعْلِ المُنْكَرِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنَّ هذا الذي أَوْصَاهُ بِهِ هُوَ مِنَ الأمُورِ التي يَنْبَغِي الحِرْصُ عَليها، والتَّمَسُّكُ بِهَا (مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) .(1/3367)
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)
(18) - وَلاَ تُعْرِضْ بِوجَهِكَ عَنِ النَّاسِ كِبْراً واسْتِعْلاءً، ولكِنْ أَقبِلْ عَليهِمْ بِوَجْهِكَ كُلِّهِ إذا كَلَّمْتَهُم، مُسْتَبْشِراً مُتَهَلِّلاً مِنْ غير كِبْرٍ وَلاَ عُتُوٍّ، وَلا تَمْشِ في الأَرْضٍِ مُتَبَخْتِراً، مُعْجَباً بِنَفْسِكَ كالجَبَّارِينَ الطُّغَاةِ المُتَكَبِّرِينَ (مَرَحاً) ، بَلِ امْشِ هَوْناً مِشْيَةَ المُتَواضِعِينَ للهِ، فَيُحِبَّكَ اللهُ، ويُحِبَّكَ خَلْقُهُ، واللهُ تَعَالَى لا يُحِبُّ المُعْجَبَ بِنَفْسِهِ (المُخْتَالَ) الفَخُورَ عَلى غَيْرِهِ.
(وفِي الحَدِيثِ: مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ فِي خُيَلاءٍ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِليهِ يَوْمَ القِيَامَةِ) .
لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ - لاَ تَمِلْ بِوَجْهِكَ عَنْهُمْ كِبْراً وَتَعَاظُماً.
مَرَحاً - فَرَحاً وَبَطراً وَخُيَلاَءَ.
مُخْتَالٍ - فَخُورٍ - متَكَبِّرٍ مُتَطَاوِلٍ بِمَنَاقِبِهِ.(1/3368)
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
{الأصوات}
(19) - وَامشِ مُقْتَصِداًَ فِي مَشْيِكَ، عَدْلاً وَسَطاً بَيْنَ البَطِيءِ المُتَثَبِّطِ، والسَّريعِ المُفْرِطِ، وَلا تُبَالِغْ فِي الكَلاَمِ، وَلا تَرْفَعَ صَوْتَكَ فِيمَا لا فَائِدَةَ مِنْهُ، وَحِينَما لاَ تَكُونَ هُنَاكَ حَاجَةٌ إِلى رَفْعِ الصَّوتِ، فَذَلِكَ يَكُونُ أَوْقَرَ لِلمُتَكَلِّمِ، وأَبْسَطَ لِنَفْسِ السَّامِعِ. ثُمَّ قَالَ لُقْمَانُ لاْبِنِهِ مُنَفِّراً إِيَّاهُ مِنْ رَفْعِ صَوْتِهِ حِينَما لاَ يَكُونُ هُنَاكَ حَاجَةً لِذلِك: إِنَّ الحِمَارَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ عِندَ النَّهِيقِ، ولكِنَّ الصَّوْتَ الذِي يَصْدُرُ عَنْهُ قَبيحٌ مُنْكَرٌ، فَلاَ يَلِيقُ بالإِنسَانِ العَاقِلِ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلَ الحِمَارِ.
اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ - تَوسَّطْ فِي المَشيِ بَينَ الإِسراعِ والإِبَطَاءِ.
اغْضُضْ - اخفِضْ وَانْقِصْ.(1/3369)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
{السماوات} {ظَاهِرَةً} {يُجَادِلُ} {كِتَابٍ}
(20) - أَلَمْ تَرَوْا يَا أَيُّها النَّاسُ أَنّ اللهَ تَعَالى سَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمَاوَاتِ، مِنْ شَمْسٍ وَقَمَرٍ، وَكَوَاكِبَ تَسْتَضِيئُونَ بِهَا لَيلاً ونَهَاراً، وتَهْتَدُونَ بهَا في ظُلُمَاتِ البَرِّ والبَحْرِ، ومنْ سَحَابٍ ينزِلُ منهُ المَطََرُ لِتنبُتَ الأَرْضُ بالخُضْرَةِ وَالثِّمَارِ، وليَشْرَبَ منهُ الإِنسانُ والأَنعَامُ والمَخْلُوقَاتُ، وسَخَّرَ لَكُمْ ما في الأرضِ مِنْ نَباتٍ وحَيوانٍ وجَمَادٍ ومَعَادِنَ، لتَنتَفِعُوا بهِ، وأسْبَغَ عليكُمْ نِعَمَه، مَا ظهرَ مِنها لَكُم عِياناً، وما بَطَن مِنها، مِمذا يستُرُهُ اللهُ عَلى عبدِهِ من سَيِّئِ عَمَلِهِ، ومِمَّا يَسْتَشْعِرُونَهُ في أَنْفُسِهِمْ مِنْ حُسْنِ الإِيمَانِ وَحُسْنِ اليَقينِ، فإِنًَّ هُناكَ أناساً يُجَادِلُونَ فِي وُجُودِ اللهِ وَوَحدَانِيَّتِهِ، (كَالنَّضْرِ بِنْ الحَارِثِ وأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ. .) بِدُونِ عِلْمٍ، وَلاَ مَعْرِفَةٍ فيمَا يَقُولُونَ، وَبِدُونِ أَنْ يَسْتَنِدوا إِلى كِتابٍ مَأثُورٍ، أَوْ حُجَّةٍ صَحِيحةٍ.
سَخَّرَ لَكُمْ - لِمَنَافِعِكُمْ وَمَصَالِحِكُمْ.
أَسْبَغَ أَتَمَّ وَأَوْسَعَ وَأَكْمَلَ.(1/3370)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
{آبَآءَنَا} {الشيطان}
(21) - وهؤلاءِ الذينَ يُجَادِلُونَ في اللهِ بغَيرِ عِلْمٍ، وَلاَ كِتابٍ، لا مَطْمَعَ فِي هِدَايَتِهم، فإِنَّهُمْ إِذا دُعُوا إِلى اتِّبَاعِ مَا أَنزَلَ اللهُ على رَسُولِهِ مِنْ شَرْعٍ وهُدى قَالُوا: إِنّهُم يُفَضِّلُونَ اتِّبَاعَ مَا وَجَدُوا عَليه آباءَهُمْ مِنْ دِينٍ، لأنَّ آباءَهُمْ، وَأَسْلافَهُمْ لاَ يَقَعُونَ جَميعاً فِي الخَطَأِ.
ويَرُدُّ اللهُ تَعَالى عليهم قَائِلاً: أَيَتَّبِعُونَ آبَاءَهُمْ وأَسْلاَفَهُمْ حَتَّى وَلَو كَانُوا عَلَى خَطَأٍ وَضَلاَلٍ فيما يَعْبُدُونَ؟ وَحَتَّى وَلَوْ كَانُوا يَتَّبِعُونَ ما زَيَّنَتْ لَهُمْ الشَّياطِينُ؟ وَمَنِ اتَّبَعَ الشَّيطَانَ أَوْصَلَهُ إِلى نَارِ جَهَنَّمَ وَسَعِيرهَا.(1/3371)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)
{عَاقِبَةُ}
(22) - وَمَنْ يُخلْصِ العَمَلَ للهِ، وَيَخْضَعْ لأَمْرِهِ، وَيَتّبِعْ شَرْعَهُ، وَهُوَ مُحْسِنٌ في عَمَلِهِ باتِّبَاعِ مَا أَمَرَ اللهُ بهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ، فَقَدْ تَعَلَّقَ بأَوْثَقِ الأَسْبَابِ التي تُوصِلُ إٍِلى رِضْوَانِ اللهِ، وَحُسْن جَزَائِهِ، والنَّاسُ راجِعُونَ جَميعاً إٍِلى اللهِ، وأَعْمَالُهُم وأُمُورُهُمْ صَائِرَةٌ إليهِ فيُجَازِي كُلَّ وَاحٍدٍ بِعَمَلِهِ.
يُسْلِمْ وَجْهَهُ للهِ - يُفَوِّضْ أَمْرَهُ كُلَّهُ للهِ.
اسْتَمْسَكَ - تَمَسَّكَ واعْتَصَمَ وَتَعَلَّقَ.
العُرْوةِ الوُثْقْىَ - بِالعَهْدِ الأًَوْثَقِ الذِي لاَ نَقْضَ لَهُ.(1/3372)
وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)
(23) - وَيُسَلِّي اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ لَهُ: أَمَّا مَنْ كَفَرَ بِمَا جِئْتَهُ بِهِ، فَلاَ تَحزَنْ عَلَيهِ، فإِنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ بِقَدَرِ اللهِ، وَسَيَرْجِعُ النَّاسُ إلى اللهِ يَومَ القِيَامَةِ فَيَعْرضُ اللهُ تَعَالى عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ، وَيجْزِيهِمْ بِهَا، وَلا تَخْفَى عليهِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ خَافِيةٌ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا يُكِنُّونَ فِي صُدُورِهِمْ مِنْ نَوايا.(1/3373)
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
(24) - واللهُ تَعَالى يُمْهِلُهُمْ في الدُّنيا زَمَناً قَليلاً يَتَمتَّعُونَ فِيهِ، وَيَنْعَمُونَ بِزَخَارِفِ الحَياةِ الدُّنيا الفَانِيةِ، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ النَّارَ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُمْ (نَضْطَرُّهُمْ) لِيَذُوقُوا فِيها العَذابَ الأَلِيمَ الكَبيرَ الشَّاقَّ عَلى نُفُوسِهِم.
العَذَابُ الغَلِيظُ - الشَّديدُ الثَّقِيلُ.(1/3374)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)
{لَئِن} {السماوات}
(25) - وإِذا سَأَلْتَ يَا مُحَمَّدُ، هؤلاءِ المُشْرِكينَ مِنْ قَوْمِكَ: مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ؟ لَيَقُولُنَّ: اللهُ. لأنَّهُمْ لا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ، وَإِذا اتَّضَحَ صِدْقُكَ فِيما جِئْتَهُمْ بهِ، واسْتَبَانَ الحَقُّ، الحَمْدُ للهِ الذِي ألجَأَهُمْ إلى الاعْتِرافِ بالحَقِّ، ولكِنَّ أكثرَ المُشْرِكينَ لا يَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ المُسْتَوجِبُ الحَمْدَ وَحْدَهُ.(1/3375)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
{السماوات}
(26) - وَللهِ جَميعُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ، وَمَا فِي الأَرْضِ، مُلْكاً وَخَلْقَاً وَتَصَرُّفاً، وَليسَ لأحدٍ سِواهُ شيءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَلا يَسْتَحِقُّ العِبَادَةَ فيهِما غَيْرُهُ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَةِ الخَلْقِ لَهُ، وَعَنْ عَوْنِهِمْ، وَكُلُّ شيءٍ فَقِيرٌ إليهِ، وَلَهُ الحَمْدُ في جَميعِ الأُمُورِ.(1/3376)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
{أَنَّمَا} {أَقْلاَمٌ} {كَلِمَاتُ}
(27) - وَلَوْ أَنَّ جَميعَ أَغْصَانِ الشَّجَرِ المَوْجُودَةِ في الأَرْضِ جُعِلَتْ أَقَلاَماً لِتُكْتَبَ بِهَا كَلِمَاتُ اللهِ، وَلَوْ أًَنَّ مَاءَ البَحْرِ جُعِلَ حِبْراً (مِدَاداً) ، ثُمَّ أَمَدَّتْهُ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مِنْ بَعْدِهِ، فإٍنَّ جَمِيعَ الأَقْلامِ تَتَحَطَّمُ، وَجَمِيعَ البِحَارِ تجِفُّ مِيَاهُها قَبلَ أَنْ تَنْتَهِيَ كِتَابَةُ كَلِمَاتِ اللهِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ، والمُعَبِّرَةِ عَمَّا خَلَقَ، وَعْنْ خَصَائِصِ مَا خَلَقَ. . فَاللهُ تَعَالى عَزِيزٌ لا يُضَامُ، حَكِيمٌ في خَلْقِهِ وَشَرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ.
مَا نَفِدَتْ - مَا فَرَغَتْ وَمَا فَنِيَتْ.
يَمُدُّهُ - يَزِيدُهُ وَيَنْصَبُّ فِيهِ.(1/3377)
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
{وَاحِدَةٍ}
(28) - وَليسَ خَلْقُ النَّاسِ جَمِيعِهِمْ، وَلا بَعْثُهُمْ يَومَ القِيَامَةِ بالنِّسبَةِ إٍِلى قُدْرَةِ اللهِ إِلاَّ كَخْلْقِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فالجَمِيعُ هَيِّنٌ عَليهِ (وَمَا أَمْرُنا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَر) ، واللهُ سَميعٌ لأَقوالِ العِبَادِ، بَصِيرٌ بِأَفْعَالِهِمْ.(1/3378)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)
{الليل}
(29) - أَلَمْ تَنْظُرْ يَا أَيُّها الإِنسَانُ نَظَرَ اعْتِبَارٍ وَتَأَمُّلٍ، أنَّ اللهَ جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ مُتَدَاخِلَينِ، يَتْلُو أَحَدُهُمَا الآخَرَ، يَتَنَاوَبَانِ الطّولَ والقِصَرَ، وَسَخَّر الشَّمْسَ والقَمَرَ لِمَصْلَحَةِ خَلْقِهِ، وَمَنْفَعَتِهِمْ، وَكُلٌّ مِنْهَمَا يَجري بأَمْرِ رَبِّه إِلى وَقْتٍ مَعْلُومٍ، وَاَجَلٍ مُعَيِّنٍ إِذا بَلَغَهُ إِذا بَلَغَهُ انْتَهَى أَمْرُهُ؟ واللهُ خَبيرٌ بِمَا يَعْمَلُهُ العِبَادُ مِنْ خَيرٍ وَشَرٍ.
يُولِجُ - يُدْخِلُ.(1/3379)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
{الباطل}
(30) - وَقَدْ خَلَقَ اللهُ تَعَالى الكَائِنَاتِ، وَقَدَّرَهَ، وسَخَّرَها، وَجَعَلَ لَهَا أَجْلاً مُعَيَّناً. . لأَنَّهُ الإِلهُ الحَقُّ، وَلاَ حَقَّ سِوَاهُ، وَلاَ يَسْتَوجِبُ العِبَادَةَ غَيرُهُ، وَلَمْ يَخْلُقِ الخَلْقِ لِلعَبَثِ واللَّهْوِ والتَّسْلِيَةِ، وَإِنَّما خَلَقهُمْ لِحِكْمَةٍ يُقَدِّرُهَا هُوَ، وَهَوَ تَعَالى يُظْهِرُ لِلْخَلْقِ آياتِهِ لِيَسْتَدِلُّوا بِهَا عَلَى أَنَّهُ الإِلهُ الحَقُّ، وَأَنَّ كُلَّ ما سِوَاهُ بَاطِلٌ. وَليَسْتَدِلُّوا عَلَى أنَّهُ تَعَالَى هُوَ الكَبيرُ المُتَعَالِي الذِي لاَ أَكبرَ مِنْهُ، وَلا أَعْلَى، وَأَنَّ الكُلَّ خَاضِعٌ إليهِ وَهُوَ ذَلِيلٌ حَقِيرٌ.(1/3380)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)
{بِنِعْمَةِ} {آيَاتِهِ} {لآيَاتٍ}
(31) - ألَمْ تُشَاهِدْ يَا أَيُّها الإِنسَانُ السُّفُنَ وَهي تَمْخُر عُبَابَ البَحْرِ، وَهِي تَحْمِلُ البَشَرَ والمَتَاعَ والأَنعَامَ والمُؤَنَ، مِنْ قُطْرٍ إِلى قُطْرٍ، لِيَنْتَفِعَ بِهَا النَّاسُ فِي أَقْطَارِ الأَرْضِ، وهذِهِ السُّفُنُ تَسيرُ بِقُوَّةِ الرِّياحِ التي يَُخِّرُها اللهُ، واللهُ تَعَالى هُوَ الذي يَحفَظُها مِنَ الغَرَقِ، والضَّياعِ في البَحرِ، وكُلُّ ذلِكَ من نِعَمةِ اللهِ عَلى البَشَر، وفِيهِ دَلاَلَةٌ على عَظَمَةِ اللهِ، وقدرَتِهِ، ولُطْفِهِ بِعِبَادِهِ، لِكُلِّ صَبَّارٍ عَلى الشَّدائِدِ والبِلاءِ، شَكُورٍ لرَبِّهِ عَلَى النَّعْمَاءِ.
{نَجَّاهُمْ} {بِآيَاتِنَآ}(1/3381)
وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
(32) - وَإِذَا أَحَاطَتْ بِمَنْ يَرْكَبُونَ البَحْرَ، أَمْوَاجٌ عاتِيةٌ كَالجِبَالِ أَوِ الغَمَامِ (كَالظُّلَلِ) ، يَدْعُوَ الله مُخْلِصِينَ لهُ العِبَادَةَ لأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لاَ يَقدِرُ أَحَدٌ مِنَ الخَلْقِ عَلَى نَفْعِهِم وَإِنْقَاذِهِمْ مِمّا هُمْ فيهِ. فإِذا اسْتَجَابَ اللهُ لِدُعَائِهمْ، وَأَنْقَذَهُمْ وأَوْصَلَهُمْ إِلى البَرِّ سَالِمينَ، كَانَ بَيْنَهُمْ أُنَاسٌ مُتَوَسِّطُونَ في أقوالِهِمْ وأَفْعَالِهِمْ بَينَ الخَوِفِ والرَّجاءِ، مُعْتَدِلُونَ في أعمَالِهِمْ، مُوفُونَ بما عَاهَدُوا الله عَليهِ حينَما كَانُوا في البَحرِ. وَكَانَ بينَهم أُناسٌ نَاكِثُونَ لِلعَهدِ، كُفَّارٌ بأَنعُمِ اللهِ. وَلاَ يَجْحَدُ بِأَنْعُمِ اللهِ ويْكفُرُهَا إِلاَّ كُلُّ شَدِيدِ الغَدْرِ، كَافِرٍ بالنِّعَمِ.
الظُّلَ - الغَمَامِ الذِي يُظَلِّلُ.
مُقْتَصِدٌ - سَالِكٌ لِلطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ.
الخَتَّارُ - الغَدَّارُ.(1/3382)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
{ياأيها} {الحياة}
(33) - يُحَذِّرُ اللهُ تَعالَى النَّاسَ مِنْ أَهوالِ يومِ القِيَامَةِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِتَقْوَاهُ لِينُقِذُوا أَنفُسَهُمْ مِنْ أَهْوَالِهِ، فَهُوَ يومٌ لا يستَطِيعُ فِيهِ أحدٌ نَفْعَ أحدٍ، فَلا الوَالِدُ يستَطيعُ أنْ يَفْدِيَ ابنَهُ، وَلا المَولُودُ يَستَطِيعُ أَنْ يَفْدِيَ وَالِدَهُ، أَوْ أَنْ يَنْفَعَهُ بشيءٍ، أَوْ أَنْ يَحْمِلَ مِنْ ذُنُوبِهِ شَيئاً، وَلاَ يَنْفَعُ الإِنسانَ فِي ذَلِكَ اليومِ إِلا إِيمَانُهُ برَبِّهِ، وإِخلاصُهُ العِبَادَة لَهُ، وَعَمَلُهُ الصَّالِحُ.
ثُمَّ يأمرُ اللهُ تَعَالى العِبَادَ بِأَلاَّ تُلْهِيَهُمُ الحَيَاةُ الدُّنيا بِزُخْرُفِها، وَزِينَتِهَا، وَمَتَاعِهَا، عَنِ العَمَلِ النَّافِعِ لِيَومِ القِيَامَةِ، وَيومُ القِيَامةِ هوَ وعدٌ حَقٌّ مِنَ اللهِ، واللهُ لا يُخْلِفُ وَعْدَهُ أَبَداً. كَمَا يَأْمُرُهُمْ بأَلاّ يَغُرَّهُمُ الشَّيْطَانُ فَيَحْمِلَهُمْ على المَعَاصي بِتَزْيِينِها لَهُمْ.
يَوْماً لا يَجْزِي - لاَ يَقْضِي فِيهِ شَيئْاً.
فَلاَ تَغُرَّّنّكُمْ - فَلاَ تَخْدَعَنَّكُمْ وَتُلْهِينَّكُمْ بِلَذَّاتِها.
الغَرُورُ - الشّيطَانُ وَكُلُّ مَا يَغُرُّ وَيَخْدَعُ.(1/3383)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
(34) - يَذْكُرُ اللهُ تَعَالى خَمسَةَ أَشياءٍ اخْتَصَّ نَفْسَهُ الكَريمَةَ بِعِلْمِهَا، فَلا يَعْلَمُها أَحَدٌ سِواهُ وهيَ:
- علمُ السَّاعةِ - فَلاَ يَعْلَمُ أَحَدٌ مَوعِدَ قِيامِ السَّاعَةِ.
- إِنْزالُ الغَيْثِ - فَهُوَ تَعَالى يُنْزِلُ الغَيْثَ في وَقْتِهِ المُقَدَّرِ، وَمَكَانِهِ المُعَيَّن، وَلا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ شَيئاً مِنْ ذَلِكَ.
- عِلْمُ مَا فِي الأرْحَامِ مِنْ ذَكَرِ أَوْ أُنْثَى وَمِنْ جَنينٍ تَامِّ الخَلْقِ أَوْ نَاقِصِهِ. . . وَلا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ ذَلِكَ، فِي بَدْءِ تَخَلُّقٍ الجَنينِ.
- مَا تَكسِبُهُ النَّفْسُ فِي غَدِهَا مِنْ خَيرٍ وَشَرٍّ، فَلاَ يَعْلُمُهُ أَحَدٌ غيرُ اللهِ.
- مَكَانُ الوَفَاةِ وَزَمَانُها - فَلَيسَ لأَحدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ أَنْ يَعْلَمَ أَيْنَ يَمُوتُ وَمَتَى يَمُوتُ.
والذِي يَعْلَمُ ذلِكَ كُلَّهُ هُوَ اللهُ تَعَالَى وَحْدَهُ لاَ إِله إِلاّ هُوَ العَليمُ الخَبِيرُ.(1/3384)
الم (1)
{أَلِفْ} . {لامْ} . {مِيمْ} .
(1) - اللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ
{الكتاب} {العالمين} .(1/3385)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
(2) - إِنَّ هذا القُرآنَ، الذِي أَنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ لاَ شَكَ فِي أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّ العَالمينَ، وَمَا هُوَ بِشِعْرٍ وَلاَ هُوَ مُفْتَرىً عَلَى اللهِ.(1/3386)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
{افتراه} {أَتَاهُم}
(3) - إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّداً افْتَرى القَرآنَ عَلَى رَبِّهِ، وَهذا كَذِبٌ مِنْهُمْ وَتَخَرُّصٌ، فَهُوَ الحَقُّ والصِّدْقُ مِنْ عِندِ رَبِّكَ، أَنزَلَهُ إِليكَ لِتُنْذِرَ بهِ قَوْمَكَ، وَتُخَوِّفَهُمْ مِنْ بَأْسِ اللهِ وَعَذابِهِ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ، عِقَاباً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ.
وَقَوْمُكَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ مِنْ قَبْلِكَ يُبَيِّنُ لَهُمْ سَبيلَ الرَّشَادِ فَأْرْسَلَكَ اللهُ إِلَيْهِمْ لِتُنْذِرَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَيَرْشُدُونَ.
افْتَراهُ - اخْتَلَقَ القُرآنَ مِنْ تَلْقَاء نَفْسِهِ وَنَسَبَهُ إِلى اللهِ.(1/3387)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)
{السماوات}
(4) - لَقَدْ خَلَقَ اللهُ تَعَالى السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أَيامٍ (وَهذِهِ الأيامُ لا يَعْرفُ أََحَدٌ كُنْهَهَا، وهيَ عَلَى كُلّ حَالٍ لَيْسَتْ مِنْ أيامِ الدُّنيا، لأَنها كَانَتْ قَبلَ أَنْ تُخْلَقَ الدُّنيا، وَقَبلَ أَنْ يُخْلَقَ الليلُ والنَّهَارُ) ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ، واللهُ تَعَالى هُوَ المَالِكُ لأَزِمَّةِ الأُمُورِ، وَهُوَ المُدَبِّرُ لِشْؤُونِ خَلْقِهِ، وَليسَ لِلنَّاسِ مِنْ دُونِهِ مَنْ يَلي أُمُورَهُمْ أَوْ يَنْصُرُهُمْ مِنْهُ إِنْ أَرادَ بِهِمْ ضَرّاً، وَليسَ لَهُمْ مِنَ يَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَهُ إِنْ أَرَادَ عِقَابَهُمْ عَلَى مَعَاصِيهِم. أَفَلا يُدْرِكُ الذِينَ يَعْبُدُونَ غَيرَ اللهِ هذهِ الحَقِيقَةَ فَيَعْتَبِرُ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ عَقْلٌ يُدْرِكُ بِهِ؟(1/3388)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
(5) - وَمِنْ دَلاَئِلِ عَظَمَتِهِ تَعَالى أَنَّهُ أَمْرَ الأَرضِ مِنَ السَّمَاءِ، وَتُرفَعُ إليهِ نَتَائِجُ تَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ، وَهُوَ تَعَالى في عُلاهُ، فِي يَومٍ مُقَدّرٍ بأَلفِ سَنةٍ مِنْ سِنِيِّ الدُّنيا التي تَعدُّونَها.
يَعْرُجُ إليهِ - يَصْعَدُ الأَمرُ، يَرْتَفِعُ إِليهِ.(1/3389)
ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
{عَالِمُ} {الشهادة}
(6) - ذَلِكَ المَوْصُوفُ بالخَلْقِ والتَّدْبِيرِ لهذِهِ الأُمُورِ، هُوَ العَالِمُ بِمَا يَغِيبُ عَنْ أَبصَارِكُمْ، مِمَّا تُكِنُّهُ الصُّدُورُ، وتُخْفِيهِ النُّفُوسُ، وَهُوَ العَالِمُ بِمَا تُشَاهِدُ الأَبْصَارُ وَتُعَايِنُهُ، وَهُوَ العَزيزُ الذِي قَهَرَ كُلَّ شَيءٍ، وَهُوَ الرَّحيمَ بِمَنْ تَابَ مِنْ ضَلاِلهِ وَرَجَعَ إِلى الإِيمانِ.(1/3390)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)
{الإنسان}
(7) - وَهُوَ الذِي أَحْسَنَ خَلْقِ الأَشياءِ وَأَتْقَنَها، وَأَحْكَمَهَا، وَقَدْ خَلَقَ آدمَ أَبَا البَشَرِ مِنْ طِينٍ.
أَحْسَن كُلَّ شَيءٍ - أَحْكَمَهُ وَأَتْقَنَهُ.(1/3391)
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)
{سُلاَلَةٍ}
(8) - ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَ آدمَ يَتَناسَلُونَ مِنْ نُطْفَةِ ضَعِيفَةٍ، تَخْرُجُ مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ، وَتَسْتَقِرُّ فِي رَحِمِ الأُنْثَى.
سُلاَلَةٍ - خُلاَصَةٍ.
مَهِينٍ - ضَعِيفٍ، وقليل.(1/3392)
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
{سَوَّاهُ} {الأبصار}
(9) - ثُمَّ عَدَلَهُ وَأَكْمَلَ خَلْقَهُ في الرَّحِمِ، وَصَوَّرَهُ عَلَى أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ فَظَهَرتْ فِيه آثارُ الحَياةِ، وأَنْعَمَ عَلى البَشَر بِمَنْحِهِم السَّمْعَ والأَبْصَارَ، والأَفْئِدَةَ التي يُمَيِّزُونَ بِهَا بَيْنَ الخَيرِ والشَّرِّ، وَبَيْنَ الحَقِّ والبَاطِلِ، وَمَعَ كُلِّ هذِهِ النِّعَمِ الجَلِيلَةِ فإِنَّ البَشَرَ قَلِيلوُ الشُّكْرِ للهِ تَعَالى على نِعَمِهِ التِي لا تُحْصى.
سَوَّاهُ - قَوَّمَهُ بِتَصْويرِ أَعْضَائِهِ وَتَكْمِيلِهَا.(1/3393)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
{أَإِذَا} {أَإِنَّا} {كَافِرُونَ}
(10) - وَقَالَ المُشْرِكُونَ باللهِ، المُكَذِّبُونَ بِالبَعْثِ والنُّشُورِ: هَلْ إِذا صَارَتْ لُحُومُنا وَعِظَامُنا تُراباً، وَتَفَرَّقَتْ في الأَرضِ، واخْتَلَطَتْ بِتُرابها فلم تَعُدْ تَتَمَّيزُ عَنْهُ، سَنُبْعَثُ مَرَّةً أُخْرى، ونُخْلَقُ خَلْقاً جَديداً؟ وَهؤلاءِ المُشْرِكُونَ يُنْكِرُونَ قُدرَةَ اللهِ عَلى الخَلْقِ، وَيَكْفُرُونَ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ في الآخِرةِ.
ضَلَلْنا فِي الأَرضِ - ضِعْنا فِيها وَصِرْنا تُرَاباً.(1/3394)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
{يَتَوَفَّاكُم}
(11) - قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهؤلاءِ المُشْرِكِينَ: إِنَّ مَلَكَ المَوْتِ، الذِي وُكِّلَ بِقَبْضِ أَرْوَاحِكُمْ، يَقُومُ بِمَا كُلِّفَ بِهِ، وَيَقْبِضُ الأَرْوَاحَ حِينَما تَسْتَنْفِدُ الخَلاَئِقُ آجَالَها، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى رَبَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُجازِي كُلَّ وَاحدٍ بِعَمَلِهِ.(1/3395)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
{نَاكِسُواْ} {صَالِحاً} {رُءُوسِهِمْ}
(12) - وَإِنَّكَ لَتَرى عَجَباً يَا مُحَمَّدُ لَوْ أُتيحَ لَكَ أَنْ تَرَى هؤلاءِ المُجْرِمينَ القَائِلِينَ: (أَئِذا مِتْنَا وَتَفَرَّقَتْ أَجْسَامُنا فِي الأَرضِ سَنُخْلَقُ خَلْقاً جَديداً) ، وَهُمْ وَاقِفونَ بَيْنَ يديِ اللهِ، وَهُمْ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ حَيَاءً وخَجَلاً مِنْهُ، لِمَا سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ مَعَاصٍ في الدُّنيا، وَيَقُولُونَ: رَبَّنا أَبْصَرْنَا الحَشْرَ، وَسَمِعْنا قَولَ الرَّسُولِ، وَصَدَّقْنَا بهِ، فَارْجِعْنا إِلى الدُّنيا، وَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا الحَشْرَ، وَسَمِعْنا قَولَ الرَّسُولِ، وَصَدَّقْنَا بهِ، فَارْجِعْنا إِلى الدُّنيا نَعْمَلْ صَالِحاً، فَإِنَّنا أَيْقَنَّا الآنَ مَا كُنَّا نَجْهَلُهُ في الدُّنيا مِنْ وَحدَانِيَّتِكَ، وَأَنَّهُ لاَ يَصْلُحُ لِلْعِبَادَةِ، سِوَاكَ. ولكِنَّ اللهَ تَعَالى يَعْلَمُ أنهُ لَوْ أَعَادَهُمْ إِلى الدُّنيا لَعَادُوا إِلى مَا كَانُوا فيهِ مِنَ الكُفْرِ والتَّكْذِيبِ بآياتِ اللهِ.
ناكِسُو رُؤُوسِهِمْ - مُطْرِقُوهَا خِزياً وَنَدَماً.(1/3396)
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
{لآتَيْنَا} {هُدَاهَا}
(13) - وَلَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يُلْهِمَ كُلَّ نَفْسٍ مَا تَهْتَدِي بهِ، إِلى الإِيمانِ، والعَمَلِ الصَّالِحِ، لَفَعَلَ، وَلكِنَّ تَدْبيرَهُ تَعَالى لِلْخَلقِ، وَحِكْمَتَهُ، قَضَيَا بِأَنَّ تُوضَعَ كُلُّ نَفْسٍ في المَرْتَبةِ التِي هِيَ أَهْلٌ لَها، بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِها وَقَدْ سَبَقَ الوَعيدُ مِنَ اللهِ تَعَالى بِأَنَّهُ سَيَمْلأُ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ والنَّاسِ لِعِلْمِهِ تَعَالى أَنَّ أَكْثَرَهُمْ سَيَخْتَارُونَ الضَّلاَلَة عَلَى الهُدَى.
حَقَّ القَوْلُ - ثَبَتَ وَتَحَقَّقَ وَنَفَذَ قَضَاءُ اللهِ.
الجِنَّةِ -الجِنِّ.(1/3397)
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
{نَسِينَاكُمْ}
(14) - وَيُقَالُ لأَهْلِ النَّارِ، عَلَى سَبيلِ التَّقْرِيعِ، وَالتَّوبِيخِ: ذُوقُوا هذا العَذابَ بِسَبَب كُفْرِكُمْ وَتَكْذِيبكُمْ بِهذا اليَومِ، واسْتِبْعَادِكُمْ وَقُوعَهُ. وَسَيُعَامِلُكُمْ رَبُّكُمْ مُعَامَلَةَ مَنْ نَسِيَكُمْ لأَنَّكُمْ نَسِيتُمْ رَبَّكُمْ، وَنَسِتُمْ لِقَاءَهُ فَذُوقُوا عَذاباً تَخْلُدُونَ فِيهِ أبداً، وَذلِكَ جَزَاءٌ لَكُمْ عَلى كُفرِكُمْ وَمَعَاصِيكُمْ.(1/3398)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)
{بِآيَاتِنَا}
(15) - إِنَّمَا يُصَدِّقُ بآياتِ اللهِ الذِينَ إِذا وُعِظُوا بها استَمَعوا إِليها خَاشِعين، وأَطَاعُوها مُمْتَثِلينَ، وَخُرُّوا سُجَّداً للهِ خُضُوعاً وَخَشْيَةً، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن اتِّبَاعِها، وَالانِقِيَادِ إِِليها.(1/3399)
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
{رَزَقْنَاهُمْ}
(16) - وَهُمْ يَهْجُرونَ مَضَاجِعَهُمْ لِيَقُومُوا في اللِّيلِ إِلى الصَّلاةِ والنَّاسُ نِيَامٌ، وَلِيَدْعُوا رَبَّهُمْ تَضَرُّعاً إِليهِ، وَخَوْفاً مِنْ سَخطِهِ وَطَمَعاً فِي عَفْوِهِ عَنْهُمْ، وَمَغْفِرَتِهِ لَهُمْ، وَيُنْفِقُونَ مِمَّا رَزَقَهُمُ مِنْ مَالٍ.
(وَقَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم تَتَجَافَى جنُوبَهُمْ عَنِ المَضَاجِع هِي قِيامُ العَبْدِ أَوَّلَ اللَّيلِ) .
تَتَجَافى - تَرْتَفِعُ وَتَتَنَحَّى لِلعِبَادَةِ.
المَضَاجِعِ - الفُرُشِ التي يُضْطَجَعُ عَلَيها.(1/3400)
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
(17) - وَلاَ يَعْلَمُ أَحَدٌ عَظَمَةَ مَا أَعَدَّهُ اللهُ تَعَالى لِهؤلاءِ الكِرامِ البَرَرَةِ وَأَخْفَاهُ فِي الجَنَّاتِ مِنَ النًَّعيمِ المُقِيمِ، واللذَائِذِ التِي لَمْ يَطَّلِعْ أَحَدٌ عَلى مِثْلِها، جَزَاءً وِفَاقاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لَقَدْ أَخْفَوا أَعْمَالَهُمْ فَأَخْفَى اللهُ لَهُمْ مَا لَمْ تَرَهُ عَيْنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلبِ بَشَرٍ.
مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ - مِنْ مُوجِبَاتِ المَسَرَّةِ وَالفَرَحِ.(1/3401)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)
{يَسْتَوُونَ}
(18) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالى أَنَّهُ لاَ يَسْتَوِي فِي حُكْمِهِ يومَ القِيَامَةِ مَنْ كَانَ مُؤْمِناً باللهِ مُتَّبِعاً رَسُولَهُ، مَعَ مَنْ كَانَ خَارِجاً عَنْ طَاعَةِ اللهِ (فَاسِقاً) ، مُكَذِّباً رُسُلَهُ.(1/3402)
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)
{آمَنُواْ} {الصالحات} {جَنَّاتُ}
(19) - أَمَّا الذِينَ آمَنُوا باللهِ وَرُسُلِهِ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ، وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَ اللهُ، وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ. . فَهؤلاءِ لَهُمْ الجَنَّاتُ التِي فِيها المَسَاكِنُ، والدُّورُ، وَالغُرَفُ العَالِيَاتُ (جَنَّاتُ المَأْوَى) يَحُلُّونَ فِيها نُزَلاَءَ فِي ضِيَافَةٍ وَكَرَامَةٍ، جَزَاءً لَهُمْ مِنَ اللهِ تَعَالى عَلَى إِيمَانِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ، وَصَالِحِ أَعْمَالِهِمْ.
نُزُلاً - ضِيَافَةً وَعَطَاءً وَتَكْرُمَةً.(1/3403)
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
{فَمَأْوَاهُمُ}
(20) - وَأَمَّا الذِينَ خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِمْ (فَسَقُوا) وَكَفَرُوا بِهِ وَبِرُسُلِهِ، واجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ. . فَإِنَّ مَأْوَاهُمْ سَيَكُونُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَكُلَّما حَاوَلوا الخُرُوجَ مِنَ النَّارِ يُرَدُّونَ إليها، وَيُقَالُ لَهُمْ تَوْبِيخاً وَتَقْرِيعاً: ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ، بِمَ كُنْتُم تُكَذِّبُونَ بِهِ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا، وَلا تَعْتَقِدُونَ أَنَّكُمْ صَائِرُونَ إِليهِ.(1/3404)
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
(21) - وَسَيبتَلِيهِمُ اللهُ تَعَالَى بالمَصَائِبِ في الحَيَاةِ الدُّنيا، مِنَ القَتْلِ، والأَسْرِ والثَّكْلِ، وَفَقْدِ المَالِ، وَالمَرَضَ والمَصَائِبِ الأُخْرَى، لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ إٍِلى اللهِ، وَيَثُوبُونَ إِلى رُشْدِهِمْ، وَيُقْلِعُونَ عَنِ الكُفْرِ وَالمَعَاصِي، وَهَذا العَذابُ الأَدْنى يَحِلَّ بِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إِلى العَذابِ الأَكْبَرِ في نَارِ جَهَنَّمَ.(1/3405)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
{بِآيَاتِ}
(22) - وَلاَ أَحَدَ أَكْثَرُ ظُلْماً مِنْ إِنسَانٍ ذَكَّرَهُ اللهُ تَعَالى بآياتِهِ، وَبَيَّنَها لَهُ وَوَضَّحَها، ثُمَّ جَحَدَها وَأَعْرَضَ عَنْها وَتَنَاسَاهَا كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهَا، وَلَمْ يَعْرِفْها. وَيَقُولُ اللهُ تَعَالى إِنَّهُ سَيْنَتَقِمُ مِنَ المُجْرِمينَ الذينَ كَفَروا واجتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَشَدَّ الانْتِقَامِ.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: " ثَلاَثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ أَجْرَمَ: مَنْ عَقَدَ لِواءً فِي غَيْرِ حَق، أَوْ عَقَّ وَالِدَيهِ، أَوْ مَشَى مَعَ ظَالِمٍ يَنْصُرُهُ " يَقُولُ الله تَعَالى: إِنَّا مِنَ المُجْرِمينَ مُنْتَقِمُونَ) .(1/3406)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)
{آتَيْنَا} {الكتاب} {لِّقَآئِهِ} {َجَعَلْنَاهُ} {اإِسْرَائِيلَ}
(23) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالى رَسُولَه صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ آتَى مُوسَى التَّوْرَاةَ (الكِتَابَ) ، لِتَكُونَ هُدىً وعِظَةً لِبني إِسْرائيلَ، كَمَا آتَى عَبْدَهُ مُحَمَّداً القُرآنَ، وأَمَرهُ بأَلاَّ يَكُونَ في شَكٍّ وَرِيبَةٍ مِنْ صِحَّةِ مَا آتاهُ اللهُ مِنَ الكِتَابِ، فَمُحَمَّدٌ لَيْسَ بِدْعاً في الرُّسُلِ، فَقَدْ آتى الله غَيْرَهُ مِنَ الأنبياءِ كُتُباً.
في مِرْيَةٍ - فِي شَكٍّ.
مِنْ لِقَائِهِ - مِنْ تَلَقِّيهِ إِيَّاهُ بِالرِّضَا وَالقَبُولِ.(1/3407)
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
{أَئِمَّةً} {بِآيَاتِنَا}
(24) - وَجَعَلَ اللهُ مِنْ بَني إِسْرَائيلَ أَئِمَّةً فِي الدُّنيا، يَهْدُونَ أَتْبَاعَهُمْ إِلى الخَيْرِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، لأَنَّهُم صَبَروا عَلى طَاعَتِهِ، وَعَزَفَتْ نُفُوسُهُمْ عَنْ لَذَّاتِ الدُّنيا وَشَهَواتِها، وَكَانُوا مُؤْمِنينَ بآياتِ اللهِ وَحُجَجِهِ، وَبِمَا اسْتَبَانَ لَهُمْ مِنَ الحَقِّ.(1/3408)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
{القيامة}
(25) - واللهُ تَعَالى يَقْضِي بَينَ خَلْقِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ في الدُّنيا مِنْ أُمورِ الدِّينِ والثَّوابِ والعِقَابِ. . وَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ بما يَسْتَحِقُّ.(1/3409)
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)
{مَسَاكِنِهِمْ} {لآيَاتٍ}
(26) - أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لِهؤُلاءِ المُكَذِّبِينَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ، طَريقُ الحَقِّ مِنْ كَثْرَةِ مَا أَهْلَكَ اللهُ قَبْلَهُمْ مِن الأُمَمِ السَّالِفَةِ التِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا، وَخَالَفَتْهُمْ فِيما جَاؤُوهُمْ بِهِ، فَلَمْ يُبْقِ مِنْهُمْ بَاقِيَةً. وهؤُلاءِ المُكَذِّبُونَ يَرَوْنَ بِأُمِّ أَعْيُنِهِمْ ذَلِكَ، وَهُمْ يَمْشُونَ فِي أرضِ البَائِدينَ، وَيَرَوْنَ مَسَاكِنَهُمْ خَاوِيَةً خَالِيةً، أَفَلا يَسْمَعُونَ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لِيَتَّعِظُوا وَيَعْتَبِرُوا؟
أَوْ لَمْ يَهِدِ لَهُمْ - اَغَفَلُوا وَلَمْ يَتَبَيِّنْ لَهُمْ مَآلُهُمْ.
القُرُونِ - الأُمَمِ الخَالِيَةِ.(1/3410)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
{أَنْعَامُهُمْ}
(27) - أَوْ لَمْ يُشَاهِدْ هَؤُلاَءِ المُكَذِّبُونَ بِالبَعْثِ والنُّشٌورِ، كَيْفَ يُوَجِّهُ اللهُ تَعَالى بِقُدْرَتِهِ (يَسُوقُ) إِلَى الأَرْضِ القَاحِلَةِ المُجْدِبَةِ التي لاَ نَبَاتَ فِيها (الجُرُزِ) فَتَرتَوِي وَتُنْبِتُ الزُّرُوعَ، فَيَأْكُلُ مِنْهَا الإِنْسَانُ وَالحَيَوانُ، أَفَلا يُبْصِرُونَ ذَلكَ بِأْمِّ أَعْيُنِهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ القَادِرَ عَلَى إِحْياءِ الأَرْضِ بَعْدَ مَوَاتِها، لَقَادِرٌ عَلَى إِحياءِ الأَمواتِ، وَنَشْرِهِمْ مِن قُبُورِهِمْ؟ الأَرْضِ الجُرُزِ - اليَابِسَةِ الجَرْدَاءِ.(1/3411)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28)
{صَادِقِينَ}
(28) - وَيَقُولُ هؤُلاءِ المُكَذِّبُونَ اسْتِبْعَاداً لِحُلُولِ غَضَبِ اللهِ بِهِمْ، وَنِقْمَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَتَكْذِيباً لِمَا جَاءَهُمْ بهِ رَسُولُ رَبِّهِمْ: مَتَى يَكُونُ هذا النَّصْرُ (الفَتْحُ) الذِي تَقُولُ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكَ بهِ عَلَينا، إِنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيما تَقُولُ مِنْ أَنَّنا مُعَاقَبُونَ عَلَى تَكْذِيبِنا الرَّسُولَ، وأَنَّ الله سَيَنْصُرُ دِينَه، وَيُظْهِرُ المُؤْمِنِينَ عَلَى المُشْرِكِينَ؟
هذَا الفَتْحُ - النّصْرُ عَلَينَا - الفَصْلُ فِي الخُصُومَةِ.(1/3412)
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)
{إِيَمَانُهُمْ}
(29) - قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: إِذا حَلَّ يَوْمُ الفَتْحِ الذِي سَيَنْصُرُ اللهُ فيهِ رَسُولَهُ والمُؤْمِنينَ، وَيُحِلُّ فيهِ عَذَابَهُ وَنقْمَتَهُ بِالمُشْرِكِينَ، فلا يَنْفَعُ المُشْرِكِينَ حِينَئِذٍ إِيمَانٌ يُحْدِثُونَهُ فيهِ، وَلاَ يُؤَخَّرُونَ لِيَتُوبُوا مِنْ شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَلِيَعْمَلُوا صَالِحاً غيرَ الذِي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ في الدُّنيا مِنْ أَعْمَالٍ وَلا يُمْهَلُونَ لَحْظَةً عَنِ العَذابِ الذِي يَسْتَحِقُّونَهُ.
يُنْظَرُونَ - يُمْهَلُونَ لِيُؤْمِنُوا.(1/3413)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
(30) - فَأَعْرِضْ يَا مُحَمَّدُ عَنْ هؤُلاءِ المُشْرِكِينَ المُسْتَهْزِئِينَ، وَبَلِّغْ رِسَالَتَكَ كَمَا أَمَرَكَ بهِ رَبُّكَ، وَلاَ تُبَالِ بِهِمْ، وانْتَظِرْ مَا سَيَفْعَلُه اللهُ بِهِمْ، فإِنَّ الله سَيَنْصُرُكَ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ وَعَانَدَكَ، واللهُ لا يُخْلِفُ وَعْدَهُ أَبَداً.(1/3414)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)
{ياأيها} {الكافرين} {المنافقين}
(1) - يَا أَيُّها النبيُّ اسْتَمِرَّ على ما أنْتَ عليهِ مِن تَقْوَى اللهِ، والعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، رَجَاءَ ثَوَابِهِ، وَاجْتَنَبْ مَعْصِيَتَهُ مَخَافَةَ عِقَابِهِ وعذابِهِ، ولا تُطِعِ الكَافِرينَ والمُنافِقينَ فيمَا يَطْلُبُونَهُ مِنْكَ، وَلاَ تَسْمَعْ مِنْهُمْ، ولا تَسْتَشِرْهُمْ، واللهُ تَعالى عَليمٌ بما تُضْمِرُهُ نُفوسُهُمْ، وما تَنْطَوِي عليهِ جَوانِحُهُمْ - وَهُمْ يُظْهِرُون لَك النُّصحَ - من الحِقْدِ والعَدَاوَةِ.
واللهُ تَعَالى حِكَيمٌ في شَرْعِهِ وتَدْبِيرِهِ.
(وَرُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِه الآيةِ أَنَّ بعضَ سَرَاةِ قريشٍ عَرَضُوا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُعْطُوه نِصْفَ أموالِهِمْ على أنْ يَرْجِعَ عنْ دَعْوَتِهِ، وَهَدَّدَهُ اليهودُ والمُنافقونَ بالقَتْلِ إِنْ لَمْ يَكُفَّ عَنْ هَذِهِ الدَّعوةِ، فأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى هذِه الآية) .
اتَّقِ الله - دُمْ على تَقْوَاهُ أو ازْدَدْ مِنْها.(1/3415)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)
(2) - واعْمَلْ بِمَا يُوحِيهِ إليكَ رَبُّكَ، ولا تَلْتَفِتْ إِلى أقْوَالِ الكَافِرِينَ والمُنَافِقين وتَهْدِيدَاتِهِمْ، فاللهُ خبيرٌ بما تَعْمَلُهُ أنتَ وأَصْحَابُكَ، وبِما يَعْمَلُهُ، الكُفَّارُ والمُنَافِقُون، ولا يَخْفَى عليهِ شيءٌ منْهُ، ثُمَّ يَجْزِيكُم على أَعْمَالِكُمْ يومَ القِيَامَةِ، إِنْ خَيْراً فَخَيْراً وَإِنْ شَراً فَشَرّاً.(1/3416)
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
(3) - واتَّكِلْ عَلى اللهِ وَحْدَهُ، وَاعْتَمِدْ عَلَيهِ في جَمِيعِ أُمُورِكَ وَأَحْوَالِكَ، وَكَفَى باللهِ حَافِظاً لِمَنْ يُوكِلُ إليهِ شُؤُونَهُ.
وَكِيْلاً - حَافِظاً مَفَوَّضاً إِليهِ كُلُّ أَمْرٍ.(1/3417)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
{أَزْوَاجَكُمُ} {اللائي} {تُظَاهِرُونَ} {أُمَّهَاتِكُمْ} {بِأَفْوَاهِكُمْ}
(4) - وَكَما أنَّ اللهَ تَعَالى لمْ يَجْعَلْ لإِنْسَانٍ قَلْبَينِ فِي صَدْرِه، وكَمَ أَنَّ زوْجَةَ الرجُلِ لا تَصِيرُ أُمَّهُ بمُجَرِّدِ مُظَاهَرَتِهِ منْها، وقولِهِ لَها: (أنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي) ، كَذَلِكَ لا يَصِيرُ الدَّعِيُّ ابْناًَ لمَنْ تَبَنَّاهُ، بِمُجَرَّدِ ادِّعَاءِ الرجلِ المُتَبَنِّي أَنَّ الوَلَدَ المُتَبَنَّي (الدَّعِيَّ) ابنُهُ بالتَّبَنِّي. وَقَوْلُ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِه: أنتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، ودعوةُ الرجلِ الولدَ المُتَبنّى أنَّهُ ابنُهُ، إنَّما هوَ قَولُ هؤلاءِ القَائِلين بأفَواهِهِمْ، ولا حَقيِقَةَ لَهُ في الوَاقِعِ ولا حُكْمَ، فَلا تَصِيرُ الزوجةُ أُمّاً لِزَوْجِها، ولا يَثْبُتُ بِدَعْوى البُنُوَّةِ نَسَبِ الوَلَدِ المُتَبَنَّى لمَنْ تَبَنَّاهُ. واللهُ يقولُ الحقَّ والصِّدْقَ، ويَهْدِي عِبَادَهُ إلى سبيلِ الرَّشَادِ، فَدَعُوا ما تَقُولونَ أنْتُمْ وما تَدَّعُونَ، وخُذُوا بقولِهِ تَعَالى.
تُظَاهِرُونَ منْهُنَّ - تُحَرِّمُونَهُنَّ كَحُرْمَةِ أُمَّهاتِكُمْ.
أَدْعِيَائِكُمْ - مَنْ تَتَبَنَّوْنَهُمْ من أبْنَاءِ غَيْرِكُمْ.(1/3418)
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
{لآبَآئِهِمْ} {آبَاءَهُمْ} {فَإِخوَانُكُمْ} {مَوَالِيكُمْ}
(5) - يَنْسَخُ اللهُ تَعالى في هذهِ الآيةِ حُكْم التَّبَنِّي الذِيْ كَانَ مَعْمُولاً بهِ في الجاهليةِ، فقدْ كانَ التَّبَنِّي جَائزاً وظَلَّ حُكْمُ التَّبَنِّي سَارياً في ابْتِدَاءِ أَمْرِ الإِسْلامِ، فكانَ الرَّجُلُ يتبنَّى وَلَدَ غيرِهِ، فَيُصْبِحُ حُكْمُهُ حُكْمَ الوَلَدِ مِنَ الصُّلْبِ، في أمورِ النَّسَبِ والمِيراثِ. . . ولكنَّ اللهَ تَعَالى نَسَخَ حُكْمَ التَّبَنِّي في هذهِ الآيةِ. وأمَرَ المؤمنينَ بِرَدِّ نِسْبَةِ الأدْعِيَاءِ (الأَولادِ بالتَّبَنِّي) إلى آبائِهِمْ الحَقِيقِيِّينَ، لأنَّ هذَا هُوَ العَدْلُ والقِسْطُ والبِرُّ.
(فَعَلَيْهِمْ أَن يَقُولُوا زَيْدُ بنُ حَارِثَة لا زَيْدُ بنُ محمدٍ) ، أمَّا إذا كَانَ الولدُ المُتَبَنَّى لا يُعرَفُ أبُوه لِيُنْسَبَ إليهِ، فَعَلى المؤمنينَ أنْ يَعُدُّوا هؤلاءِ الأدْعياءِ إخْوَاناً لَهُمْ في الدِّينِ - إنْ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا في الإِسْلامِ - وأنْ يَعُدُّوهُمْ موالِيَهُمْ إن كانُوا مُحَرَّرِينَ (فيُقَالُ سَالِمُ مَوْلَى أبِي حُذَيْفَةَ) .
وَلاَ حَرَجَ على المُؤْمِنِين فيما اخْطَؤُوا فيهِ من نِسْبَةِ بَعْضِ هؤُلاءِ الأَدْعياءِ إلى غَيْرِ آبَائِهِمْ، بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ الجهْدِ في البَحْثِ والاسْتِقْصَاءِ، أو فيما يَسْبِقُهُمْ بهِ لِسَانُهُمْ، ولكنَّ الحَرَجَ والإِثمَ والمُؤاخَذَةَ تَقَعُ على منْ يَفْعَلُونَهُ مُتَعَمِّدينَ بهِ الباطِلَ، واللهُ غفورٌ لذَنْبِ مَنْ تَابَ أو أخْطَأ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وهو رحيمٌ بهِ فَلا يُعاقِبُهُ مِنْ بَعْدِ التًَّوْبَةِ.
أقْسَطُ - أَعْدَلُ.
مَوالِيكُمْ - أولياؤُكُمْ في الدِّينِ.(1/3419)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
{أَزْوَاجُهُ} {أُمَّهَاتُهُمْ} {أُوْلُو} {كِتَابِ} {المهاجرين} {اأَوْلِيَآئِكُمْ}
(6) - جَعَلَ اللهُ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم أَوْلى بِالمُؤْمِنينِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَولاَيَتَهُ مُقَدَّمَةً عَلَى وِلاَيَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، لأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لاَ يَأَمُرُهُمْ إِلاَّ بِمَا فِيهِ خَيْرُهُمْ وَصَلاَحُهُمْ، أَمَّا النَّفْسُ فَأَمَّارَةٌ بالسُّوءِ، وَقَدْ تَجْهَلُ بَعْضَ المَصَالِحِ. وَجَعَلَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ فِي مَقَامِ الأُمّهَاتِ لِلْمُؤْمِنينَ فِي الحُرْمَةِ والاحتِرَامِ. وَكَانَ التَّوَارُثُ فِي بَدْءِ الإِسْلامِ بِالحِلْفِ وَالمُؤَاخَاةِ بَينَ المُسلِيِمينَ، فَكَانَ المُتآخِيَانِ يَتَوَأرَثَانِ (وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَينِ نَسَباً) دُونَ سَائِرِ الأَقْرِبَاءِ، فَأَبْطَلَ اللهُ تَعَالى هذا التَّعَامُلَ فِي هذهِ الآيةِ، وَرَدَّ المِيرَاثَ إِلى أَقْرِبَاءِ النَّسَبِ، فَجَعَلَ أُولِي الأَرْحَامِ بِحَقِّ القَرَابَةِ، أَولى بالمِيراثِ مِنَ المُؤمِنينَ بِحَقِّ الدِّينِ، والمُهَاجِرِينَ بِحَقِّ الهِجْرَةِ. واسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنْ هذا الحُكْمِ الوَصِيَّةَ (المَعْرُوفَ) ، التي يُريدُ أَحَدُهُمْ أَنْ يُوصِيَ بِها إِلى أَحَدِ المُهَاجِرِينَ والمُؤْمِنينَ (أَوْلِيَائِكُمْ) فَإِنَّهُ فِي هذِهِ الحَالِ يَسْتَحِقُّها دُونَ ذَوِي الحُقُوقِ فِي المِيراثِ مِنْ أَقْرِبَاءِ النّضسَبِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالى: إِنَّ جَعْلَ ذَوِي الأَرْحَامِ بَعْضَهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ في المِيراثِ هُوَ حُكْمٌ قَدَّرَهُ الله تَعَالَى، وَأَثْبَتَهُ فِي كِتَابِهِ الذِي لاَ يُبَدِّلُ وَلاَ يُغَيَّرُ.
أَوْلى بالمُؤْمِنينَ - أَرْأفُ بِهِمْ، وأَنْفَعُ لَهُمْ.
أَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ - مِثْلُهُنَّ في تَحْرِيمِ نِكَاحِهِنَّ وَتَعْظِيمِ حُرْمَتِهِنَّ.
أُولُوا الأَرْحَامِ - ذَوُو القَرَابَاتِ.(1/3420)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)
{النبيين} {مِيثَاقَهُمْ} {إِبْرَاهِيمَ} {مِّيثَاقاً}
(7) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أولي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ هُمْ خَمْسَةٌ: نُوحٌ وَإِبراهيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وُحَمَّدٌ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَخَذَ العَهْدَ والمِيثَاقَ عَلَى هؤلاءِ الرُّسُلِ، وَعَلَى سَائِرِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ فِي إِبلاغِ رِسَالَةِ اللهِ لِلنَّاسِ، وَإِقَامَةِ دِين اللهِ، وفي التَّعاوُنِ والتَّنَاصُر {أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} وَأَعْلَمَ اللهُ تَعَالى الرُّسُلَ والأَنبياءَ أَنَّهُ سَيَْأَلُهُمْ عَمَّا فَعَلُوهُ فِي إِبلاغِ الرِّسَالةِ {وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين} فَاعْتَبَرَ ذَلِكَ مِيثاقاً غَلِيظاً، عَظِيمَ الشَّأْنِ.
مِيثَاقَهُمْ -العَهْدَ عَلَى الوَفَاءِ بِمَا حَمَلُوا.
مِيثَاقاً غَلِيظاً - عَهْداً وَثيقاً قَوِياً عَلَى الوَفَاءِ.(1/3421)
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
{لِّيَسْأَلَ} {الصادقين} {لِلْكَافِرِينَ}
(8) - وَقَدْ أَخَذَ اللهُ تَعَالى المِيثَاقَ عَلَى الأَنبياءِ لِيَسْأَلَهُمْ عَمَّا أَجَابَتْهُمْ بِهِ الأُمَمُ التي أُرسِلُوا إِليها، وَعَمّا فَعَلَتْهُ الأُمَمُ فِيما بَلَّغَهُ المُرْسَلونَ إِليها مِنْ رِسَالَةِ رَبِّهِمْ، وَلِيَسْأَلْ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ، لِيُكَافِئَهُمْ عَلَيهِ، وَلِيَسْأَلَ الكَاذِبينَ عَنْ كَذِبِهِمْ، لِيُعاقِبَهُمْ عَلَيهِ، وَقَدْ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً فِي نَارِ جَهَنَّمَ.(1/3422)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)
(9) - وَبَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ بِتَقْوَاهُ، وَبِعَدَمِ الخَوْفِ مِنْ سِوَاهُ، ذَكَّرَ عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ بِمَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيِْهِمْ مِنْ نِعَمٍ، وَمِنْ تَحْقِيقِ مَا وَعَدَهُمْ بهِ مِنْ نَصْرٍ، وَذَلِكَ حِينَمَا جَاءَتْهُمْ جُنُودُ الأَحْزَابِ، فَأْرْسَلَ اللهُ عَلَيهِمْ رِيحاً كَفَأَتْ قُدُورَهُمْ، واقْتَلَعَتْ خِيَامَهُمْ، وأَرْسَلَ إِليهِمْ مَلائِكَةً مِنْ عِنْدِهِ - وَهُمْ جُنُودُهُ، وَلَمْ يَرَهُمْ المُسْلِمُونَ - يُوقِعُونَ الخَوْفَ والرُّعْبَ والخِذْلاَنَ في نُفُوسِ المُشْرِكينَ، فَارْتَحلُوا فِي ليلةٍ شَاتِيةٍ شَديدَةِ البَرْدِ، وَكَانَ اللهُ بَصِيراً بِأَعْمَالِ المُؤْمِنينَ، وَصِدْقِ نِيَّاتِهِمْ، فَتَوَلَّى الدِفاعَ عَنْهُمْ.
وَقِصَّةُ الأَحْزابِ كَمَا رَوَتْها كُتُبُ السِّيرَةِ كَانَتْ كَمَا يَلِي: إِنَّ نَفَراً مِنْ يَهُودِ المَدِينةِ جَاؤُوا إِلى قُرَيشٍ في مَكَّةَ، فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ لِلْهِجْرَةِ يُحَرِّضُونَ المُشْرِكِينَ عَلى حَرْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ جَاؤُوا إِلى قَبَائِل غَطْفَانَ وَقَيْسِ عَيْلاَنَ وَأَسَدٍ وَحَالَفُوهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا مَعَهُمْ عَلى الرِّسُولِ والمُسلِمينَ يَداً واحِدةً، فَخَرَجَتْ هذِهِ القَبَائِلُ إِلى المَدِينَةِ.
وَلَمَّا عَلِمَ الرَّسُولَ بِمَسِيرِهِمْ إِليهِ، اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ، فَأَشَارَ عَليهِ سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ بِحَفْرِ خَنْدَقٍ حَوْلَ المَدِينَةِ يُسَاعِدُ المُسْلِمينَ فِي مَنْعِ تَقَدَّمِ المُشركِينَ إلى دَاخِلها، فَقَامَ المُسْلِمُونَ بِذَلِكَ. وَلَمّا وَصَلَتِ القَبَائِلُ المُتَحَالِفَةُ إلى المَدِينةِ وَجَدُوا الخَنْدَقَ، فَحَاصَرُوا المَدِينَة، وَنَشِبَتْ مُنَاوشَاتٌ بينَ المُسْلِمينَ والمُشْرِكينَ. وَفي أثناءِ الحِصَارِ نَقَضَ بَنُو قُرَيْظَةَ عَهْدَهُمْ مَعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، بِمَسْعَى مِنْ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ سَيِّدِ يَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ الذِينَ أجْلاَهُمُ الرَّسُولُ إِلى خَيَبَر، فَشَّقَّ ذلكَ على المُسْلِمِينَ.
ثُمَّ جَاءَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَهُوَ مِنْ غَطْفَانَ، إِلَىرَسُولِ اللهِ يُعْلِمُهُ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَأَنَّ قَوْمَهُ لاَ يَعْلَمُونَ بإِسْلاَمِهِ، وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِمَا يَرَى فِيهِ، المَصْلَحَةَ لِلمُسْلِمِينَ. فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ إِنَّما أَنْتَ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، والحَرْبُ خُدْعَةٌ فَخَذِّلْ عَنَّا مَنِ اسْتَطَعْتَ، فَذَهَبَ إِلى بَنِي قُرَيْظَةٍ - وَكَانَ يُخالِطُهُمْ في الجَاهِلِيَّةِ - فَقَالَ لَهُمْ: لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ قُريشاً وَمَنْ مَعَها مِنَ القَبَائِلِ لَيْسَ لَهُمْ مُقَامٌ فِي المَدِينَةِ، وأَنَّهُمْ إِذا مَا عَضَّتْهُمُ الحَرْبُ انْسَحَبُوا إِلى بِلادِهِمْ، وَتَبْقَوْنَ أَنْتُم وَحْدَكُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ، وَأَنْتُمْ لاَ قِبَلَ لَكُمْ بِهِ وَحْدَكُمْ، وَالرَّأيُ أَنْ تَطْلُبُوا رَهَائِنَ مِنْ هذِهِ القَبَائِلِ التِي تُحَاصِرُ المَدِينَةَ لِكَيْلا يَنْسَحِبُوا وَيَتَرَاجَعُوا عَنْ قِتالِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ القَضَاءِ عَلَيْهِمْ، فَفَعَلُوا.
وَذَهَبَ إلى قُرَيشٍ وَغَطْفَانَ وَالقَبَائِلِ الأُخْرَى يَقُولُ لَهُمْ إِنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ نَدِمُوا عَلَى نَقْضِ عَهْدِهِمْ مَعَ مُحَمَّدٍ، وَإِنَّهُمْ وَعَدُوهُ بِأَنْ يُسَلِّمُوهُ وُجُوهَ القَبَائِلِ لِيَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، عَلَى أَنْ يَعُودَ الَعهْدُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ إِلى مَا كَانَ عَلَيهِ مِنْ قَبْلُ. فَدَبَّ الخِلافُ والخِذْلانُ، وَسَادَ التَّشَكُّكُ بَيْنَ القَبَائِلِ وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَاسْتَشْعَر كُلُّ فَريقٍ الحَذَرَ مِنَ الآخَرِ.
وفِي لَيلَةٍ شَاتِيةٍ هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدةٌ بَارِدَةٌ أَخَذَتْ تَكْفَأُ القُدُورَ، وَتَقْتَلِعُ الخِيَامَ، فَنَادَى أَبُو سُفَيَانَ بِالرَّحِيلِ في النَّاسِ فَارْتَحَلُوا.
جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ - الأَحْزَابُ يَومَ الخَنْدَقِ.(1/3423)
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
{الأبصار} {جَآءُوكُمْ}
(10) - حِينَ جَاءَتْكُمْ الأَحْزَابُ مِنْ أَعْلَى الوَادِي (مِنْ جِهَةِ المَشْرِقِ) ، وَمِنْ أَسْفَلِهِ (مِنْ جِهَةِ المَغْرِبِ) ، وَحينَ زَاغَتِ الأَبْصَارُ واضْطَرَبَتِ الرُّؤيةُ مِنَ الخَوْفِ والفَزَعِ الذي اعْتَرى المُسْلِمينَ، وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ (وَهُوَ تَعْبيرٌ عَنِ الضِّيقِ وشِدَّةِ الخَوْفِ وَالفَزَعِ واليَأْسِ الذي اعْتَرَى المُسْلِمِينَ) وَنَشَطَ المُنَافِقُونَ يُرْجِفُونَ في المَدِينةِ، وَيُثِيرُونَ الشُّّكُوكَ بالإِشَاعَاتِ الكَاذِبَةِ المُثَبِّطَةِ التِي كَانُوا يَنْشُرُونَها لإِضْعَافِ ثِقةِ المُؤْمِنينَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَبِقُدْرَتِهِمْ عَلى القِتَالِ، حَتَّى ظَنَّ بَعْضُ ضِعَافِ النُّفُوسِ والإِيمَانِ أَنَّ الأًَحزَابَ سَيَسْتَأْصِلُونَ شَأْفَةَ المُسْلِمينَ. وَقَالَ مَعْتِبُ بَنْ قُشَيْرٍ: كَانَ مُحَمَّدٌ يَعِدُنا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وأَحَدُنا لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَذْهَبَ إِلى الغَائِطِ.
أَمَّا المُؤمِنُونَ المُخْلِصُونَ فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا وَعَدَهُمُ اللهُ وَرَسُولَهُ حَقٌّ، وَأَنَّ الله سَيَنْصُرُ المُسْلِمِين، وَسَيَنْصُرُ دِينَهُ وَيُظْهِرُهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.
زَاغَتِ الأَبْصَارُ -مَالَتْ عَنْ سَمْتِهَا حِيرَةً وَدَهْشَةً.
بَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ - تَمْثِيلٌ لِشِدَّةِ الخَوْفِ.(1/3424)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)
(11) - وَفِي ذَلِكَ الحِينِ امْتَحَنَ اللهُ المُؤْمِنينَ وَمَحَّصَهُمْ أَشَدَّ التَّمْحِيصِ، فَظَهَرَ المُخْلِصُ الرَّاسِخُ الإِيمَانِ، مِنَ المُنَافِقِ المُتَزَلْزِلِ، واضْطَرَبُوا اضْطِراباً شَديداً مِنَ الخَوْفِ الذِي أَصَابِهُمْ.
ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ - اخْتُبِرُوا بالشَّدَائِدِ وَمُحِّصُوا.
زُلْزِلُوا -اضْطَرَبُوا كَثِيراً مِنْ شِدَّةِ الفَزَعِ.(1/3425)
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)
{المنافقون}
(12) - أَمَّ المُنَافِقُونَ فَظَهَرَ نِفَاقُهُمْ، فَقَالَ مُعْتِبُ بْنُ قُشَيْرٍ مَا قَالَ، وَقَالَ ضِعَافُ الإِيمَانِ وَالذِينَ فِي أًنْفُسِهِمْ رِيبَةٌ وَشَكٌ، لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بالإِسْلامِ - {الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} : {مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} ، أَيْ لَمْ يكَنْ مَا وَعَدَنا بِهِ اللهُ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفِرِ بِالعَدُوِّ إِلا وَعْداً يَغُرُّنَا وَيَخْدَعُنا.
غُرُوراً - خِدَاعاً وَبَاطِلاً.(1/3426)
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
{طَّآئِفَةٌ} {ياأهل} {يَسْتَأْذِنُ}
(13) - وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ حِينَ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ المُنَافِقينَ (كَعَبدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ وأَصْحَابِه) : يَا أَهْلَ المَدينةِ (يَثْرِبَ) لَيْسَ هذا المُقَامُ، الذي تُقِيمُونَهُ مُرَابِطِينَ مَعَ النَّبِيِّ، بِمُقَامٍ صَالِحٍ لَكُمْ، فَارْجِعُوا إِلى مَنَازِلِكُمْ لِتَحْمُوهَا، وَلِتُدَافِعُوا عَنْها وعَنْ عِيَالِكُمْ. واسْتَأْذَنَ فَريقٌ منْهُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَالِبينَ السَّمَاحَ لَهُمْ بِالعَوْدَةِ إِلى مَنَازِلِهِمْ (وَهُمْ بَنُو حَارِثَةَ) ، وَقَالُوا إِنَّهُمْ يَخَافُونَ عَلى بُيُوتِهِمِ السُّرَّاقَ، وأَ، َّ بُيُوتَهُمْ ليسَ لَهَا مَنْ يَحْمِيها (عَوْرَةٌ) .
وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالى عَلَى هؤُلاءِ قَائِلاً: إِنَّ بُيُوتِهم لَيْسَتْ عَوْرَةً، وَلاَ مُهَدَّدَةً مِنْ أَحَدٍ كَمَا يَزْعُمُونَ، وَإِنَّما يُريدُونَ الفِرَارَ وَالهَرَبَ مِنَ القِتَالِ، وَعَدَمِ إِعَانَةِ المُسْلِمِينَ فِي حَرْبِهِمْ أَعْدَاءَ اللهِ.
يَثْرِبِ - اسْمُ المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ قَدِيماً.
لاَ مُقَامَ لَكُمْ - لا إِقَامَةَ لَكُمْ هَهُنَا.
بُيُوتَنا عَوْرَةٌ - قَاصِيَةٌ، يُخْشَى عَلَيها العَدُوُّ.
فِراراً - هَرَباً مِنَ القِتَالِ مَعَ المُؤْمِنِينَ.(1/3427)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)
{سُئِلُواْ}
(14) - وَلَوْ دَخَلَ عَلَيهِمُ الأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَوانِبِ المَدِينَةِ، وكُلِّ قُطْرِ مِنْ أَقْطَارِها (وَقيلَ بَلِ المَقْصُودُ بُيُوتُهُمْ) وَطَلبُوا إِليهِم الارْتِدَادَ عَنِ الإِسْلامِ، والعَوْدَةَ إِلى الشِّرْكِ، (لَو سُئِلُوا الفِتْنَةَ) لَفَعَلُوا ذَلِكَ سَرِيعاً دُونَ تَرَدُّدِ مِنْ شِدَّةِ الهَلَعِ وَالجَزَعِ، وَهذا دَلِِيلٌ عَلَى ضَعْفِ إِيمَانِهِمْ.
مِنْ أَقْطَارِها - مِنْ نَوَاحِيها وَجَوانِبِها.
سُئِلُوا الفِتْنَةَ - طُلِبَ مِنْهُمْ مُقَاتَلَةُ المُسْلِمِينَ أَوِ الارتِدادُ عَنِ الإِسْلاَمِ.
مَا تَبَبِّثُوا بِهَا - مَا تَأَخَّرُوا عَنِ القِيَامِ بِمَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ.(1/3428)
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)
{الأدبار}
(15) - وَكَانَ هؤلاءِ المُسْتَأْذِنُونَ - وَهُمْ بَنُوا حَارِثَةَ - قَدْ هَرَبُوا مِنَ القِتَالِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَفَرُّوا مِنْ لِقَاءِ العَدُوِّ، ثُمَّ تَابُوا وَعَاهَدُوا اللهَ عَلَى أَلاَّ يَعُودُواإِلى مِثْلِها، وَلاَ يَنْكُصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَمَنْ عَاهَدَ اللهَ فإِنَّ اللهَ سَيَسْأَلُهُ عَنْ عَهْدِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَجْزِيهِ بِه.(1/3429)
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)
(16) - فَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهؤلاءِ المُسْتَأْذِنِينَ الهَارِبينَ مِنْ قِتَالِ العَدُوِّ وَلِقَائِهِ: إِنَّ الفرَارَ مِنَ القِتَالِ لَنْ يَنْفَعَكُمْ وَلَنْ يَدْفَعَ عَنْكُمْ مَا قَضَاهُ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنْ مَوْتٍ أَوْ قَتْلٍ، وَإِذا نَفَعَكُمْ الفِرَارُ فَلَمْ تُقْتَلُوا فِي سَاحَةِ الحَرْبِ، فَإِنَّ بَقَاءَكُمْ فِي الدُّنيا مَحْدُودُ الأًَجْلِ، وَمَتَاعَكُمْ فِيها مَتَاعٌ قَليلٌ، وَسَيَأْتي المَوْتُ في الموعِدِ المُحَدَّدِ لاً يَتَأَخَّرُ وَلاَ يَتَقَدَّمُ.(1/3430)
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
(17) - وَقُلْ لَهُمْ: لَيْسَ فِي الأَرْضِ أَحَدُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْنَعَ قَضَاءَ اللهِ مِنْ أَنْ يَصِلَ إِليكُمْ، فَإِنْ أَرَاد اللهُ بِكُمْ شَراً فَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَرُدَّهُ عَنْكُمْ، وَلاَ أَنْيَحُولَ دُونَ وَقُوعِهِ بِكُمْ: وَإِنْ أَرَادَ بِكُمْ خَيْراً وَرَحْمَةً، فَلا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَحُولَ دُونَ وَصُولِ ذلك إِلَيْكُمْ، فَالأَمْرُ كُلُّهُ بِيَدِ اللهِ، يُصَرِّفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ. وَلَنْ يَجِدَ هؤلاءِ المُنَافِقُونَ وَلِيّاً لَهُمْ غيرَ اللهِ، وَلاَ نَاصِراً يَدْفَعُ عَنْهُمْ مَا قَضَاهُ اللهُ، وَمَا قَدَّرَهُ عَلَيهِمْ مِنْ سُوءٍ وَبَلاَء.
يَعْصِمُكُمْ - يَمْنَعُكُمْ مِنْ قَدَرِ اللهِ.(1/3431)