(لا يا عمر: حتى أكون أحب إليك من نفسك) فقال: (والله لأنت يا رسول الله أحب إليَّ من كل شيء حتى من نفسي)، فقال: (الآن يا عمر)، وعن بعض المفسرين معناه: النبي أولى من بعضهم ببعضهم في وجوب طاعته عليهم، (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ): في التوقير وتحريم نكاحهن على التأبيد لا في النظر والخلوة والأصح أن لا يقال هن أمهات المؤمنات، وفي الشواذ وهو أبٌ لهم، (وَأُولُو الْأَرْحَامِ): ذوو القرابات، (بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ): في الميراث، (فى كتابِ اللهِ): في حكمه، أو في اللوح المحفوظ، (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ) صلة لـ أَوْلَى أي: هم بحق القرابة أولى بالميراث منهم بحق الإيمان والهجرة قال الزبير: أنزل الله فينا معشر قريش والأنصار خاصة وذلك لما قدمنا المدينة قدمنا ولا مال لنا فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فواخيناهم وأورثناهم حتى أنزل الله فينا هذه الآية فرجعنا إلى مواريثنا، (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا) الاستثناء منقطع أى: لكن فعلكم إلى أحبائكم معروفًا جائز يعني: ذهب الميراث وبقي البر والإحسان والوصية، (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) أي: هذا الحكم في الكتاب القديم(3/338)
الذي لا يبدل مَسْطُورًا وإن كان تعالى شرع خلافه في وقت لما له من الحكمة البالغة، (وَإِذْ أَخَذْنَا) أي: اذكره، (مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ): في إقامة دينه وإبلاغ رسالته والتعاون والإنفاق، (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)، صرح بأسماء أولي العزم الخمسة من بينهم وقدم ذكر خاتم الأنبياء لشرفهم وشرفه عليهم الصلاة والسلام، (وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)، عهدًا شديدًا مؤكدًا، (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) أي: فعلنا ذلك ليسأل الله الذين صدقوا عهدهم من الأنبياء عن تبليغهم تبكيتًا للكفار وقيل عن تصديقهم إياهم، (وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا)، عطف على ما دل عليه ليسأل كأنه قال فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)(3/339)
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ) يعني الأحزاب لما اجتمع المشركون وأَهل الكتاب كـ يدٍ واحدٍة لعداوة المؤمنين أمر عليه(3/340)
السلام بحفر الخندق بشورى سلمان فنزلوا وحاصووا المدينة قريبًا من شهر، (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا) أي الصَّبَا، (وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا): من الملائكة أرسل تعالى بعد مدة من المحاصرة في ليلة مظلمة باردة ريحًا صرصرًا فنسفت التراب في وجوههم وأطفأت نيرانهم، وقلعت خيامهم فماجت خيولهم بعضها ببعض فقذف في قلوبهم الرعب وكبرت الملائكة في جوانبهم فارتحلوا خائفين خائبين، (وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ): من حفر الخندق، (بَصِيرًا إِذْ جَاءوكم) بدل من جاءتكم، (مِّن فوْقِكُمْ): من أعلى الوادي من قبل المشرق، (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ): من قبل المغرب، (وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ) مالت أبصار المسلمين عن سنتها حيرة لشدة الأمر، (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ): رعبًا وهذا مثل في الاضطراب، قيل: إذا انتفخت الرئة من فزع أو غضب ارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة وهي منتهى الحلقوم، (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ(3/341)
صفحة فارغة(3/342)
الظُّنُونَا)، حتى قال بعض المنافقين: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر والآن لا نقدر أن نذهب إلى الغائط، والألف زيدت تشبيهًا للفواصل بالقوافي، (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ): اختبروا فظهر المخلص من المنافق، (وَزُلْزِلُوا): أزعجوا، (زِلْزَالًا شَدِيدً وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شبهة لم تطمئن قلوبهم على الإيمان، (مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا): وعدًا لا وفاء له، (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ) وهم المنافقون: (يَا أَهْلَ يَثْرِبَ) كان اسمًا للمدينة أي: أهل المدينة، (لاَ مُقَامَ لَكُمْ): لا موضع قيام لكم هاهنا أي عند النبي المصطفى في مقام المرابط، (فارْجِعُوا): إلى بيوتكم، (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ) للرجوع فإنه كان عليه السلام خارجًا من المدينة بحيث أسند المسلمون ظهورهم إلى سلع ووجوههم نحو العدو والخندق بينهم، (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ): غير حصينة نخاف عليها السراق، (وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ): فإنها حصينة، (إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا): من القتال، (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا) يعني: لو دخلت هذه العساكر المدينة من جوانبها، (ثُمَّ سُئِلُوا): سألت هذه العساكر من قال إن بيوتنا عورة، (الفِتْنَةَ): الردة ومحاربة المسلمين، (لَآتَوْهَا) لأعطوها، (وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا): بالفتنة، (إِلَّا يَسِيرًا): تلبثًا يسيرًا قدر سؤال وجواب فأسرعوا الإجابة، (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ): من قبل(3/343)
تلك المحاربة، (لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ): لا يفرون من الزحف، (وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولًا): عن الوفاء به، (قُل لن يَنفَعَكُمُ الفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ القَتْلِ) فإنه لابد لكل من الموت حتف أنفه أو قتل في وقتٍ معينٍ، (وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ): بعد الفرار، (إِلَّا قَلِيلاً): زمانًا قليلاً يعني: لو فرضتم أنه ينفعكم لا ينفعكم إلا قليلاً، (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا): مصيبة، (أَوْ أَرَأدَ بكُمْ) عطف على من ذا تقديره أو من ذا الذي يصيبكم بسوء إن أراد بكم، (رَحْمَةً) أو عطف على أرادوا العصمة بمعنى المنع مجازًا ولا حذف، (وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا): ينفعهم، (وَلَا نَصِيرًا): يدفع ضرهم، (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ): الذين يعوقون المسلمين عن معاونة النبي - عليه السلام -، (مِنكُمْ)، وهم المنافقون، (وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ) من ساكني المدينة: (هَلُمَّ إِلَيْنَا): قربوا أنفسكم إلينا فنحن في ظلال وثمار وراحة في بيوتنا، عن مقاتل: أرسلت اليهود إلى المنافقين فخوفوهم وقالوا: هلموا إلينا والمنافقون كانوا يخوفون المؤمنين يقولون انطلقوا معنا إلى إخواننا، أي: اليهود، (وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ): الحرب مع المؤمنين، (إِلَّا قَلِيلًا): يخرجون ولا يبارزون إلا شيئًا قليلاً، أو معناه لا يحضرون إلا زمانًا قليلاً ثم يعتذرون ويرجعون قيل هذا من تتمة قولهم يعني؛ الذين قالوا لإخوانهم هلموا إلينا، والمؤمنون لا يحاربون الكفار إلا زمانًا قليلاً فيغلبون، (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) بخلاء بالشفقة أو بالنفقة أو فى الغنائم نصب على الحال من فاعل لا يأتون وهو حال من ضمير القائلين أو هما حالان من ضمير القائلين، (فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ): وقت الحرب، (رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ)، في أحداقهم، (كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ) أي: كدوران عين(3/344)
من يغشى عليه، (مِنَ الْمَوْتِ): من معالجة سكراته، (فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ): ضربوكم، (بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ): لأجل الغنيمة وغيرها، (أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ) بخلاء على الغنيمة، أو ليس فيهم خير فهم جمعوا بين البخل والجبن وقلة الحياء وعدتم الوفاء، (أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ): أبطل جهادهم وصلاتهم وصيامهم ومثل ذلك، (وَكَانَ ذَلِكَ): الإحباط، (عَلَى اللهِ يَسِيرًا): هينًا، وهذا كما في الحديث " ومن تشعبت به الهموم لم يبال الله في أي واد أهلكه "، (يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا): يحسب هؤلاء المنافقون لجبنهم أن الأحزاب لم ينهزموا وقد انهزموا، (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ): كرة ثانية مع ما رأوا من كيفية فرارهم وعدم ظهورهم وقرارهم، (يَوَدُّوا): تمنوا، (لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ): خارجون إلى البدو، (فِي الْأَعْرَابِ): حاصلون فيهم، (يَسْأَلُونَ): الناس، (عَنْ أَنْبَائِكُمْ) يعني: يتمنون أن لم يكونوا بينكم ويسألون الناس عما جرى عليكم، (وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ)، هذه الكرَّة ولم يفرُّوا ولم يرجعوا إلى المدينة، (مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا): رياء.
* * *
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ(3/345)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
* * *
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ): هو من باب التجريد جرد من نفسه الزكية شيئًا يسمى قدوة يقتدى به سيما في مقاساة الشدائد وثبات القلب في الحرب، (لمَن كَان) صلة لحسنة لا لأسوة لأنها قد وصفت أوصفة لها أو بدل بعض من لكم، (يَرْجُو اللهَ) أي: لقائه، (وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي: نعيمه أو يخاف عذابهما، (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ(3/346)
وَرَسُولُهُ) عن ابن عباس وغيره يعنون قوله تعالى: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم " [البقرة: 214]، (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ): في الوعد، (وَمَا زَادَهُمْ) ذلك البلاء والضيق، (إِلَّا إِيمَانًا) باللهِ، (وَتَسْلِيمًا): انقيادًا لأوامره، (مِنَ الُمؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهدُوا اللهَ عَلَيْهِ) فثبتوا وقاتلوا، يقال: صدقه الحديث أي: قال له الصدق في الحديث والعاهد إذا وفي بالعهد فكأنه قال له الصدق، (فَمِنْهُم مَّن قَضىَ نَحْبَه)، النحب: المدة أي: استشهد كحمزة وأنس بن النضر، (وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ) أي: الشهادة، كعثمان - رضى الله عنهم - أو معناه، ومنهم من قضى نذره فإن أنس بن النضر لما غاب عن غزوة بدر نذر وقال: لئن أراني الله مشهدًا فيما بعد ليرين الله ما أصنع، فقاتل يوم أحد حتى قتل، ووجد فيه بضع وثمانون ضربة سيف وطعنة رمح ورمية، (وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا): ما غيروا العهد شيئًا من البديل، والتغيير فيه تعريض على المنافقين بالتبديل، (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)، اللام متعلق بمعنى قوله: " ولما رأى المؤمنون الأحزاب " كأنه قال: إنما ابتلاهم الله برؤية هذا الخطب ليجزي الصادقين، ويعذب المنافقين، أو متعلق بما بدلوا مع ما يفهم منه بالتعريض، كأنه قال: ما بدل المؤمنون وبدل المنافقون ليجزي، الآية، (إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا): فيقبل توبة من تاب، (وَرَدَّ اللهُ الَّدينَ كَفَرُوا) أي: الأحزاب، (بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خيْرًا) هما حالان أي: المتغيظين غير ظافرين، (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ) بالريح والملائكة، (وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا) على إيجاد ما شاء، (عَزِيزًا): غالبًا مطلقًا، (وَأَنزَلَ)(3/347)
الله، (الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ): عاونوا الأحزاب، (مًنْ أَهْلِ الكِتَابِ) يعني: بني قريظة نقضوا عهد رسول الله صلى الله كليه وسلم مع أن أباءهم نزلوا الحجاز قديمًا طمعًا في اتباع النبي الأمي المكتوب في التوراة، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، (مِن صيَاصِيهِمْ): حصونهم، (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْب): الخوف، (فَرِيقًا تَقْتُلُونَ): رجالهم، (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا): نساءهم وذراريهم، لما انهزمت الأحزاب رجع رسول الله إلى المدينة، وكان على ثناياه نقع الغبار جاء جبريل وقال: أو قد وضعت السلاح؟! لا والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح، اخرج إلى بني قريظة، وقاتلهم فخرجوا إلى حصونهم وحاصروهم خمسة وعشرين ليلةً ثم نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم وتقسيم أموالهم، (وَأَوْرَثكُمْ أَرْضَهُمْ): مزارعهم، (وَدِيَارَهُمْ): حصونهم، (وَأَمْوَالَهُمْ)، من النقود والمواشي، (وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا): خيبر أو مكة أو فارس والروم، أو كل أرض تفتح إلى القيامة، (وَكانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شيْءٍ قَدِيرًا).
* * *(3/348)
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لله وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا): السعة والمال، (وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ): أعطيكن متعة الطلاق، (وَأُسَرِّحْكُنَّ): أطلقكن، (سَرَاحًا جَمِيلًا): طلاقًا من غير ضرار، (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ(3/349)
الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ) من: للتبيين (أَجْرًا عَظِيمًا) يستحقر دونه الدنيا برمتها، نزلت حين سألن ثياب الزينة، وزيادة النفقة بغيرة بعضهن على بعض، فلما نزلت بدأ بعائشة فاختارت الله ورسوله ثم خير سائرهن فاخترن كما اختارت، وأكثر أهل العلم على أنه لم يكن تفويض الطلاق فلم يقع بنفس الاختيار، بل لو اخترن الدنيا طلقهن، ثم الأكثرون على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لا يقع شيء ولو اختارت نفسها يقع واحدة رجعية عند الشافعي بائنة عند أبي حنيفة، (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ): كبيرة، (مُبَيِّنَةٍ): ظاهر قبحها، عن ابن عباس هي النشوز وسوء الخلق، (يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ): ضعفي عذاب غيرهن، فإن الذنب أقبح من العارفين والشرط لا يقتضي الوقوع قال تعالى: " قل إن كان للرحمن ولد " [الزخرف: 81]، (وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا) هينًا، لا ينظر إلى كونهن نساء نبيه، بل هو السبب (وَمَن يَقْنُتْ): يطع، (مِنْكُنَّ لله وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ): مثلي ثواب غيرها، وتعمل بالتاء وبالياء محمول على معنى من وعلى لفظه، (وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا)، في أعلى(3/350)
عليين من الجنة، (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) أي: لستن كجماعةٍ واحدة من جماعات النساء، وأصل أحد وحد بمعنى: واحد، ثم وضع في النفي العام مستويًا فيه التذكير والتأنيث والواحد وما وراءه، (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ): راعيتنَّ التقوى، (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ): لا تكلمن كلامًا لينًا خنثًا، يعني لابد لكن من الغلظة في المقالة مع الأجانب، (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ): فجور أو نفاق، (وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا) يرتضيه الدين والإسلام من غير خضوع، (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) من وقر أو من قرَّ، والأمر منه اقْرُرْنَ أو اقْرَرْنَ حذفت الأولى من الرائين بعد نقل حركتها إلى ما قبلها كظلن وظللن، (وَلاَ تَبَرَّجْنَ) التبرج: إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال، (تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى): جاهلية الكفر، والجاهلية الأخرى: جاهلية الفسوق في الإسلام، أو الأولى لا أخرى لها كما قيل في أهلك عادًا الأولى، أو الأولى: زمن داود وسليمان أو زمن نمرود، فإن المرأة تلبس درعًا من لؤلؤ وتخرج عارضة نفسها على الرجال، (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ) في جميع ما أمركن ونهاكن، (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ): خبائث القلب، أو ما ليس لله فيه رضا، (أَهْلَ البَيْتِ) نصب على النداء أو على المدح، (وَيُطَهِّرَكُمْ) عن الذنوب، (تَطْهِيرًا) في مسلم (إن عليًا وفاطمة وحسنًا وحسينًا جاءوا فأدخلهم النبي - صلى الله عليه وسلم -(3/351)
في كساء من شعر أسود كان عليه، ثم قال: " إنما يريد الله ليذهب عنكم " الآية، وفي مسند الإمام أحمد وغيره بروايات عن أم سلمة: " أنه عليه السلام كان في بيتها، فجاء علي وفاطمة وابناهما وجلس عنده على كساءٍ خيبري فأنزل الله هذه الآية، فأخذ فضل الكساء وغطاهم به ثم أخرج يده وألوى إلى السماء، وقال: اللهم هؤلاء أهل بيني فأذهب الرجس عنهم، وطهرهم تطهيرًا، قالت: فأدخلت رأسي البيت فقلت: وأنا معكم يا رسول الله، فقال: (إنك إلى خير، إنك إلى خير) "، والأحاديث التي هى أصرح في هذا المعنى كثيرة، والأصوب أن أزواجه المطهرات من أهل بيته، وإذا كان أزواجه من أهل بيته فهؤلاء أحق وأولى بهذه التسمية، وهذا مثل ما نقلنا في آية " لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى " [التوبة: 108]، (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) أمرهن أن لا ينسين النعمة الجليلة القدر، وهي ما يتلى في بيوتهن من الْكِتَاب الجامع بين أمرين، (إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) فلذلك خيركن ووعظكن.
* * *
(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ(3/352)
فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
* * *
(إِن المُسْلِمِينَ): المنقادين لأمر الله، (وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ): المصَدقين بما يجب التصديق به، (وَالْمُؤْمناتِ وَالْقَانِتِينَ): المداومين على الطاعة، (وَالْقَانِتَاتِ(3/353)
وَالصَّادِقِينَ) في جميع الأحوال، (وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ): على المصائب، (وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ): المتواضعن لله، (وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ): المحسنين إلى الناس، (وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ) عن سعيد بن جبير من صام بعد الفرض ثلاثة أيام من كل شهر دخل في الصائمين، (وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ) عن الحرام، (وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ) في الحديث " من أيقظ امرأته من الليل فصليا ركعتين كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات "، (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً)، لذنوبهم، (وَأَجْرًا عَظِيمًا) عن أم(3/354)
سلمة أنها قالت: " قلت يا نبي الله ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال، فنزلت "، (وَمَا كانَ): ما صح، (لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) أي: أن يختاروا من أمر الله ورسوله ما شاءوا، بل يجب عليهم اتباع اختيار رسول الله وترك رأيهم، وجمع ضمير لهم علي المعنى فإن المؤمن والمؤمنة وقعا تحت النفي، (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) لما خطب النبي عليه السلام زينب بنت جحش ابنة عمته لمولاه زيد بن حارثة فامتنعت نزلت ثم أجابت، (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ): بالإسلام، (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ): بالعتق وهو زيد اشتراه في الجاهلية وأعتقه وتبناه، (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) زينب حين قال: أريد أن أطلقها، (وَاتَّقِ اللهَ) فيها ولا تطلقها، (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) أي: شيئًا الله مظهره، وهو علمه بأن زيدًا سيطلقها وهو ينكحها، فإن الله قد أعلمه بذلك أو ميل قلبه إليها وإلى طلاقها، فإن نفسه الأقدس مالت إليها بعد أن تزوجها زيد (1)، (وَتَخْشَى النَّاسَ): تكره
__________
(1) المختار الرأي الأول وهو ما أظهره القرآن في قوله تعالى {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} ولا يلتفت إلى غير ذلك مما ذكره بعض المفسرين -غفر الله لنا ولهم- من أمور لا تليق بمقام الحبيب الشفيع - صلى الله عليه وسلم. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(3/355)
قالتهم وتعييرهم، (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) فلا تأمر بما تعلم يقينًا أنه لا يتم، أو فلا تظهر بلسانك ما تحب بقلبك غيره، فإن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بتساوي الظاهر والباطن، (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ منْهَا وَطَرًا): حاجة، (زَوجْنَاكَهَا) بعد طلاقها وانقضاء عدتها بلا ولي من بشر ولا شاهد ولا مهر، ولهذا تقول افتخارًا: زوجني الله من فوق سبع سماوات والسفير جبريل، (لِكَي لَا يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاج أَدْعِيَائِهِمْ) بالبنوة، (إِذَا قَضَوْا مِنْهُن وَطَرًا) أي: دخلوا عليهن، قيل قضاء الوطر: كناية عن الطلاق يعني لئلا يظن أن حكم الأدعياء حكم الأبناء، فإنه جاز أن يتزوج موطوءة دعيه، (وَكَان أَمْرُ اللهِ): قضاءه، (مَفْعُولًا): مكونًا لا محالة، (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَج فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ): قدر وقسم له، (سُنَّةَ اللهِ): سن ذلك سنة، (فِى الذينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ) من الأنبياء أي: كثرة الأزواج سنة الأنبياء وطريقتهم من قبل، (وَكَان أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا): قضاءه قضاء مقضيًّا، (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ)، صفة مادحة للذين خلوا، (وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ) فلا يمنعهم شيء من الإبلاغ بوجه فيه تهييج، بأن يسلك هو عليه السلام طريقتهم، ولذلك قالت عائشة: لو كتم محمد عليه السلام شيئًا من(3/356)
الوحي لكتم " وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ "، (وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا): كافيًا للمخاوف، (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ من رِّجَالِكُمْ) حتى يثبت بينه وبينه ما بين الوالد والولد من حرمة المصاهرة وغيرها، والمراد ولده لا ولد ولده، وأما قاسم وإبراهيم وطاهر مع أنَّهم لم يبلغوا مبلغ مبلغ الرجال، فما كانوا من رجالهم، (وَلَكِن رسُولَ اللهِ) أي: ولكن كان رسول الله، (وَخَاتَمَ النَّبِيّينَ): آخرهم، وعيسى عليه السلام ينزل بدينه مؤيدًا له، (وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) فهو أعلم حيث يجعل رسالته.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ(3/357)
يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا)، في الحديث (أكثروا ذكر الله حتى يقال مجنون)، وعن ابن عباس رضى الله عنه: ما فرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حدًّا معلومًا، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر، (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً): أول النهار، (وَأَصِيلًا) وآخره خصوصًا، وعن بعض: المراد صلاة الصبح والعصر أو(3/358)
العصر والعشائين، (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ): يتعطف الله وملائكته عليكم ويترحمون، فإن استغفارهم تعطف سيما وهم مستجابوا الدعوة، (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ): من ظلمات الكفر والمعاصي، (إِلَى النُّورِ): نور الإيمان والطاعة، (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا تَحِيَّتُهُمْ) إضافة المصدر إلى المفعول، (يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ) في الجنة أو عند الموت، (سَلامٌ) أي: يسلم الله عليهم وعن قتادة تحية بعضهم بعضًا في الدار الآخرة (سلام)، (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا): الجنة ونعيمها، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا) لله بالوحدانية أو على الناس بأعمالهم في القيامة، وهو على الثاني حال مقدرة، (وَمُبَشِّرًا) للمؤمنين، (وَنَذيرًا)، للكافرين، (وَدَاعِيًا) للخلق، (إِلَى اللهِ): إلى توحيده وطاعته، (بِإِذْنِهِ): بتيسيره قيد الدعوة به، إيذانًا بأنه أمر صعب لا يتيسر إلا بإعانته، (وَسِرَاجًا مُنِيرًا): بينًا أمره يستضاء به عن الجهالة، (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على محذوف، مثل: فراقب أحوال الناس، وصفه بخمسة أوصاف وحذف مقابل الأول لأن الباقي كالتفصيل له، فيكون وبَشِّرِ في مقابلة مبشرًا، (بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلًا كَبِيرًا) كتضعيف الحسنات، (وَلاَ تُطِع الكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) دم واثبت على ما أنت عليه، وهو مع قوله، (وَدَعْ أَذاهُمْ) مقابل لـ نذيرًا أي: دع إيذاءهم إياك اصبر عليها ولا تغتم به، أو إيذاءك إياهم ولا تجازيهم، (وَتَوَكلْ عَلَى اللهِ) مقابل لـ داعيًا، فإن من توكل على الله يسر عليه كل عسير، (وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا): موكولاً إليه الأمور وهو مقابل لـ سراجًا فإن من جعله برهانًا جدير بأن يكتفى به، وجاز أن يكون دع في مقابلة داعيًا، فإن الداعي للخلائق لابد له من الصبر، والمواساة حتى يتم له الأمر، وتوكل في مقابلة سراجًا وكفى بالله تأييد وتأكيد(3/359)
للتوكل، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ): تجامعوهن، (فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا): تستوفون عددها، وقوله: (المؤمنات) تحريض على نكاحهن، وظاهر الآية إن العدة بعد الجماع لا بمجرد خلوة، وأن الطلاق بعد النكاح، وعليه جمهور السلف، (فَمَتِّعُوهُنَّ) بنصف الصداق إن كان لهن صداق، وإلا فالمتعة على قدر حاله، وعن بعض المتعة غير النصف وهو أمر ندب، وعن بعض أمر وجوب، (وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً) من غير ضرار ومنع حق، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ): مهورهن وتعجيل إعطاء المهر سنة، (وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكَ): مما غنّمك الله من دار الحرب، (وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ(3/360)
وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ) لا كالنصارى فإنهم لا يتزوجون امرأة بينه وبينها سبعة أجداد، ولا كاليهود يتزوج أحدهم ابنة أخيه وأخته، (اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ) إلى المدينة لا يحل له غير المهاجرات، وعن بعض معناه: اللاتي أسلمن، (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً) دون غيرها، نصبها بـ أحللنا لأن معنى أحللنا قضينا أو أعلمنا حلها، فلا ينافي الماضي الشرط المستقبل، أو نقول أحللنا جواب الشرط بحسب المعنى والحقيقة، فهو أيضًا مستقبل، (إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا) أي: طلب نكاحها يعني هبتها نفسها منه لا توجب حلها إلا بإرادته نكاحها، فإنها جارية مجرى القبول، عدل إلى الغيبة ثم إلى الخطاب بقوله: (خَالِصَةً لكَ مِن دُون الُمؤْمِنِين) للإيذان بأنه مما خص به لشرف النبوة والخطاب أدخل في التخصيص، والاسم في التعظيم والأصح أنه ينعقد في حقه عليه السلام بلفظ الهبة من غير ولي وشهود ومهر، وعند بعض لا ينعقد في حقه أيضًا إلا بلفظ الإنكاح واختصاصه في ترك المهر فقط، ونصب خالصة على المصدر المؤكد لمضمون جملة " امرأة مؤمنة " إلخ، أو على الحال من ضمير " وهبت " أو تقديره: هبة خالصة لك (قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ)، من حصرهم في أربع نسوة واشتراط عقد ومهر وشهود، (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ)، من توسيع الأمر فيها، (لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ)، متعلقه خالصة أي: اختصصتك بأشياء في التزوج لئلا يكون عليك ضيق فقوله: " قد علمنا " إلى " أَيْمَانُهُمْ " معترضة بين خالصة ومتعلقها، (وَكَانَ اللهُ غَفُورًا) للزلات، (رحِيمًا) بالتوسعة، (تُرْجِي) تؤخر، (مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ): من نسائك ومن الواهبات، (وَتُؤْوِي): تضم، (إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ): من نسائك والواهبات، يعني: أنت بالخيار في أمرهن قد(3/361)
حطَّ عنك القسم فلا يجب عليك بعد، وفي أمر الواهبات إن شئت قبلت وإن شئت رددت، (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ): طلبت وأردت إصابتها، (مِمنْ عَزَلْتَ): من النساء اللاتي عزلتهن عن القسمة، (فَلاَ جُنَاحَ عَيكَ) في ذلك، (ذَلِكَ) التفويض إلى مشيئتك من غير وجوب القسم، (أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) أي: أقرب إلى قرة عيونهن، وقلة حزنهن ورضاهن جميعًا، فإنه إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج في القسم، ثم مع هذا أنت تقسم لهن اختيارًا فرحن به، وحملن جميلتك في ذلك واعترفن بعدلك وكمال إنصافك في قسمك، وإن رجحت بعضهن علمن أنه بفسحة من الله لك ورضاه، فتطمئن نفوسهن، وعن بعض معناه تطلق من تشاء منهن، وتمسك من تشاء، ومن ابتغيت ممن طلقت بالرجعة فلا إثم، والتفويض إلى رأيك أقر لرضاهن، لأنك لو لم تطلقهن حملن في ذلك جميلتك " وكلهن " تأكيد لفاعل " يرضين "، (وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) من الميل إلى بعضهن مما لا يمكن دفعه، (وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَلِيمًا) فلا يؤاحذكم بما في قلوبكم، (لاَ يَحِل لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ)، من بعد هؤلاء التسع فلا يجوز لك العشرة فما فوقها، (وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِن مِنْ أَزْوَاج): بأن تطلق واحدة من هؤلاء وتتزوج بدلها أخرى، (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسنهُنَّ) أي: مفروضًا إعجابك بهن، حال من فاعل تبدل، وعن(3/362)
كثير من السلف: لما خيرن بين الدنيا والآخرة فاخترن الآخرة كما تقدم جازاهن الله بتحريم التزويج لغيرهن، ثم نسخ حكم هذه الآية كما دل عليه الأحاديث الصحاح وأباح له التزوج أي عدد أراد لكن لم يقع منه بعد ذلك لتكون المنة له عليه السلام وعن بعض معناه: لا يحل لك النساء من بعد الأجناس الأربعة التي مر ذكرها في قوله: " إنا أحللنا " الآية، فلا يحل له عربية غير بنات عمه وعماته وخاله وخالاته، ولا غير مهاجرة وإن كانت قريبة، ولا غير مؤمنة فقوله " ولا أن تبدل بهن " على هذا تأكيد بخلافه في المعنى الأول، (إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ) استثناء متصل من النساء المتناول للأزواج والإماء، أو منقطع، (وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا) فلا تتخطوا عما حدَّ لكم.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ(3/363)
وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) أي: إلا وقت أن يؤذن لكم أو إلا مأذونًا، أو إلا بأن يؤذن لكم، (إِلَى طَعَامٍ) متعلق بـ يؤذن لتضمينه معنى يدعى، (غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ): غير منتظرين إدراكه أو وقته، حال من ضمير لكم، نهى عن جميع الأوقات إلا وقت وجود الإذن المقيد، يعني: لا ترقبوا طبخ الطعام حتى إذا قارب الاستواء تعرضوا للدخول فإنه مذموم، (وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا): اخرجوا من بيته ولا تمكثوا فيه، (وَلاَ مُسْتَئْنِسِينَ(3/364)
لِحَدِيثٍ) أي: لحديث بعضكم بعضًا عطف على ناظرين، (إنْ ذلِكُمْ) المكث، (كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ): من إخراجكم، (وَاللهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) أي: الله لا يمتنع ولا يترك الحق ترك الحيي منكم، يعني: إن إخراجكم حق ينبغي أن لا يتسحيي منه، نزلت حين تزوج زينب، وأولم، فلما طعموا جلس ثلاثة منهم متحدثين، فخرج عليه السلام من منزله ثم رجع ليدخل وهم جلوس، وكان عليه السلام شديد الحياء فرجع، (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا): حاجة، (فَاسْأَلُوهُنَّ) المتاع، (مِن وَرَاءِ حِجَابٍ)، أي: ستر، هذه آية الحجاب نزلت في ذي القعدة من السنة الخامسة أو الثالثة من الهجرة، (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) من وساوس الشيطان والريبة، (وَمَا كَانَ): ما صح، (لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) بوجه، (وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا) نزلت في رجل من الصحابة همَّ أن ينكح بعض نسائه إن قبض، واختلف في المطلقة بعد الدخول، هل تحل؟ على قولين، أما مطلقته قبل الدلخول فلا نزاع في حلها، (إِنَّ ذَلِكُمْ) إيذاءه ونكاح نسائه، (كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا إِن تُبْدُوا شَيْئًا) كنكاحهن على ألسنتكم، (أَوْ تُخْفُوهُ)، في صدوركم، (فَإِنَّ اللهَ كَانَ بكُلّ شَيْءٍ عَلِيمًا)، قيل: لما نزلت الحجاب قال رجل: ما لنا نمنع من الدخول على بنات أعمامنا، فنزل قوله: (إن تبدوا شيئًا) الآية، (لاَ جُنَاحَ) لا إثم، (عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ) أي: في ألا يحتجبن من هؤلاء سئل عكرمة والشعبي: عن سبب ترك ذكر العم والخال؟ فقالا: لأنهما يصفانها لبنيهما، وقيل: لأنهما بمنزلة الوالدين فلا حاجة، (وَلاَ نِسَائِهِنَّ) أي: المؤمنات، (وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ):(3/365)
من العبيد والإماء، وقد مر بسطه في سورة النور، (وَاتَّقِينَ اللهَ) في السر والعلانية، (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا) لا يخفى عليه شيء (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ): يترحمونه ويعظمونه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) قولوا: اللهم صل على محمد وسلم، (إِن الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ) فينسبون إليه ما لا يليق بكبريائه كقولهم: (يد الله مغلولة) [المائدة: 64]، (وَرَسُولَهُ) بالطعن فيه وفيما يتعلق به، أو المراد من إيذائهما فعل ما يكرهانه، (لَعَنَهُمُ اللهُ): أبعدهم من رحمته، (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا)، يعني: عذابًا جسديَّا وروحانيًّا، (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الُمؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا): بغير جناية واستحقاق للأذى، (فقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانا وَإِثْمًا مُّبِينًا) عن مقاتل: نزلت فى الذين يؤذون علي بن أبي طالب، ويسبونه، وفي الترمذي " قيل: يا رسول الله ما الغيبة؟، قال: (ذكرك أخاك بما يكره) قال: أفرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: (إن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته ".(3/366)
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) الجلباب: رداء فوق الخمار تستر من فوق إلى أسفل، يعني يرخينها عليهن ويغطين وجههن وأبدانهن، (ذلِكَ أَدْنَى): أقرب، (أَنْ يُعْرَفْنَ) أنهن حرائر ويميزن من الإماء، (فَلَا يُؤْذَيْنَ) بالتعرض لهن، كان ناس من الفساق يتعرضون للإماء حين كانت تخرجن في الليالي، فأُمرت الحرائر بإرخاء الجلباب لتتميز الحرائر من الإماء، (وَكَانَ اللهُ غَفُورًا) لما سلف من ترك التستر، (رحِيمًا) بعباده حيث يأمرهم بجزئيات مصالحهم، (لَئِن لَمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ): عن نفاقهم، (وَالذِينَ فِي قُلُوبِهِم(3/367)
مَّرَضٌ): ضعف إيمان، وهم الزناة عن فجورهم، (وَالْمُرْجِفون): المخبرون على غير حقيقة عن فعلتهم، (فِي الْمَدِينَةِ) وهم الذين يخبرون عن سرايا المسلمين بأخبار سوء، (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ): نسلطنك عليهم ونأمرنك بقتالهم، (ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا): في المدينة عطف على لنغرينك بـ ثم، كأنه قال: لئن لم ينتهوا ليحصل لهم خطبان عظيمان الثاني أعظم عليهم فإن الجلاء من الأوطان أعظم المصائب، (إِلَّا قَلِيلًا): زمانًا قليلاً وذلك بأن يضطروا إلى الجلاء، (مَلْعُونينَ) نصب على الذم، وقيل: حال من فاعل يجاورون بأن دخل إلا على الظرف والحال معًا يعني: لا يجاورن فى زمن من الأزمنة وفي حال من الأحوال إلا قليلاً ملعونين وفيه ضعف، (أَيْنمَا ثُقِفُوا): وجدوا، (أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا) وهذا الحكم فيهم على جهة الأمر، وكأن المنافقين والفجار والمرجفين كانوا قومًا واحدًا هم المنافقون، ذكرهم الله بثلاث خصائلهم، (سُنَّةَ اللهِ) أي: سن الله سنته، (فِى الَّذينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ) في الذين ينافقون الأنبياء، أن يقتلوا حيث وجدوا، (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا): تغييرًا، فإنه لا يغير سنته، (يَسْألكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ): عن وقت قيامها؟ (قُل إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ) لم يطلع عليه أحدًا، (وَمَا يُدْرِيكَ)؟ أي شيء يعلمك وقتها، (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونَ قَرِيبًا)، تذكير قريبًا لأن الساعة بمعنى اليوم، أو لأنه صفة محذوف،(3/368)
أى: شيئًا أو زمانًا قريبًا، أو لأنه بوزن فعيل الذي يستوى فيه الصيغ، (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا): نارًا شديدة الإيقاد، (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا): يحفظهم، (وَلَا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ): تصرف من جهة إلى جهة كلحمة تدور في القدر إذا غلت، أو المراد طرحها في النار مقلوبين منكوسين، (يَقُولُونَ) هو ناصب يوم: (يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا): هم الذين لقنوهم الكفر، (فَأَضَلونَا السَّبِيلاْ رَّبنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذَاب) أي: من عذابنا، أو من هذا العذاب الذي عذبتهم به، فإنهم أحقاء لزيادة لعذاب، (وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا): هو أشد اللعن وأعظمه.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
* * *(3/369)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى) حين نسبوه إلى برص وأدرة لفرط تستره حياء، أو حين نسبوه إلى قتل أخيه هارون، (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا)، بأن أظهر براءته من مضمون مقولهم مؤداه بمعجزة، (وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا) ذا وجاهة ومنزلة، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا): قاصدًا إلى الحق عدلاً صوابًا، (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) بالقبول يعني يتقبل حسناتكم أو يوفقكم للأعمال الصالحة، (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) فإن حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير، (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)، أظفر بالخير كله، (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ)، الطاعة والفرائض، (عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ(3/370)
وَالْجِبَالِ)، بأن قلنا لهن: هل تحملن الأمانة وما فيها؟ قلن بعد أن أنطقهن الله: وأى شيء فيها؟، قلنا: إن أحسنتن أثبناكن، وإن أسأتن عوقبتن، قلن: لا طاقة لنا ولا نريد الثواب، (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ): خفن، (مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ): آدم لما عرضنا عليه، (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا) لنفسه بتحمله ما يشق عليها، (جَهُولًا) بوخامة عاقبته، عن كثير من السلف: ما كان بين قبول الأمانة، وبين خطيئته إلا قدر ما بين العصر إلى الليل (1)، ذكر الزجاج وبعض العلماء أن الأمانة في حق السماوات والأرض والجبال الخضوع والانقياد لمشيئة الله وإرادته، وفي حق بني آدم الطاعة والفرائض، ومعنى " أبين أن يحملنها " على هذا: أدَّين الأمانة ولم يخنَّ فيها، وخرجن عن عهدتها، وحملها الإنسان خان فيها وما خرج عن عهدتها، يقال: فلان حامل الأمانة ومحتملها، أي لا يؤديها إلى صاحبها، وقد نقل عن الحسن مثل ذلك، والظلومية والجهولية باعتبار الجنس، قال الإمام الرازى: أي من شأنه الجهل والظلم،
__________
(1) كلام يفتقر إلى سند صحيح، ولا نسلم أن قوله تعالى {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} يراد به آدم - عليه السلام - وكيف يصح وصفه بصيغة المبالغة في الظلم وهو نبي والجهل وقد قال الله في حقه {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} والذي تطمئن إليه النفس أن - آدم - عليه السلام - وإن تحمل الأمانة فإنه قد أداها كما أمر الله تعالى ثم انتقلت الأمانة منه إلى الذرية فكان أكثرهم ظلومًا جهولاً. والله أعلم.(3/371)
كما تقول: الماء طهور والفرس جموح، (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) تعليل للعرض يعني عرضناها ليظهر نفاقهم فيعذبهم ويظهر إيمانهم فيتوب عليهم، ويعود بالرحمة والغفران عليهم إن حصل منهم تقصير وللإشارة إلى تقصير الأكثرين، قال: " ويتوب الله " أو تعليل للحمل واللام للعاقبة، (وَكَانَ اللهُ غَفورًا رحِيمًا)، حيث يقبل التوبة ويثيب.
والحمد لله على لطفه وفضله.
* * *(3/372)
سورة سبأ مكية
قيل إلا قوله (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) الآية
وهى أربع وخمسون آية وست ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
* * *(3/373)
(الْحَمْدُ لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأرْضِ) كلها منه نعمة وفضلاً، فهو الحقيق بالحمد وحده في الدنيا، (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) لأن ما في الآخرة أيضًا خلقه، وهم المنعم عليه فيها بلا وساطة أحد، (وَهُوَ الْحَكِيَمُ الْخَبيرُ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ) يدخل، (فِى الأرْضِ): كالدفائن والأموات والبذور، (وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا): كالحيوان والنبات، (وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّماء)، كالمطر والملك والأرزاق، (وَمَا يَعرُجُ فِيهَا) كالملك والأعمال الصالحة، (وَهُوَ الَرَّحِيمُ الْغَفُورُ): للمقصرين في شكر تلك النعم، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ): القيامة، إنكارًا للبعث، (قُلْ بَلَى وَرَبِّي) إثبات لما نفوه بآكد وجه، (لَتَأْتِيَنَّكُمْ): الساعة، (عَالِمِ الْغَيْبِ)، بالجر صفة ربي، وبالرفع على تقدير هو عالم وصفه بهذه من بين الصفات لأن السَاعة من أدخل المغيبات في الخفية، (لا يَعْزُبُ): لا يبعد، (عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرة فِي السَّمَاوَاتِ ولا فِي الأرْضِ): مقدار أصغر نملة، (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مبينٍ) هو كلام منقطع عما قبله بالرفع، أو الفتح كلا حول ولا قوة إلا بالله، (لِيَجْزِيَ): الله، (الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِِ) متعلق بقوله: " لتأتينكم " (أُولَئِكَ لَهُمْ مَغفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ): في الجنة بلا تعب ومنَّة، (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا): بالإبطال، (مُعَاجِزينَ): مفوتين على زعمهم يحسيون أنَّهم يفوتوننا، (أُولَئِكَ(3/374)
لَهُمْ عَذَابٌ منْ رِجْزٍ): سيئ العذاب، (أَلِيمٌ): مؤلم، (وَيَرَى): يعلم، (الذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)، كمؤمني أهل الكتاب، أو كالصحابة ومن تبعهم، (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي: القرآن، (هُوَ الْحَقَّ)، ثاني مفعولي يرى والضمير فصل، وقراءة الرفع على أنهما مبتدأ وخبر والجملة ثاني مفعوليه، قيل ويرى عطف على ليجزي أي: ليرى أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق عيانًا كما علموه الآن برهانًا، (وَيَهْدِي): القرآن، أو الذين أوتوا العلم، (إِلَى صِرَاطِ الْعَزيز الْحَمِيدِ) هو دين الإسلام، (وَقَالَ الذِينَ كَفرُوا) أي: بعضهم لبعض، (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ) يعنون أصدق الصادقين - عليه الصلاة والسلام (يُنَبِّئُكُمْ): يحدثكم بمحال عجيب، (إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ): فرقتم وقطعتم كل تفريق وتقطيع ولما كان ما بعد إن لا يعمل فيما قبله فعامل إذا محذوف يدل عليه قوله: (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي: تنشأون خلقًا جديدًا بعد أن تكونوا ترابًا، (أَفْتَرَى) أي: أفترى، (عَلَى اللهِ كَذِبًا): اختلق عليه قاصدًا للكذب، (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ): فيتفوه بما لا يعقله وجاز أن تكون منقطعة كأنَّهم قالوا: دعوا حديث الافتراء فإن ها هنا ما هو أهم منه فإن العاقل لا يفتري المحال، بل جنونه يوهمه ذلك، (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ): عن الصواب ولذلك يترددون في أنه مفتر أو مجنون، ولولا ذلك لعلموا أنه أصدق وأعلم الصادقين والعالمين وصف الضلال بما هو صفة للضال حقيقة للإسناد(3/375)
المجازي، (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ) أي: أعموا فلم ينظروا إلى أن السماء والأرض محيطتان بهم لا يستطيعون الخروج من أقطارهما ولم يخافوا أن نخسف بهم أو نسقط عليهم قطعة من السماء لكفرهم؟ (إِنَّ فِي ذَلِكَ): فيما يرون من السماء والأرض، (لَآيَةً): دلالة، (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ): راجع إلى ربه مطيع لكثرة تأمله.
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ(3/376)
وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا) جمع له بين النبوة والملك والجنود والمعجزات الظاهرة، (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) أي: قلنا يا جبال رجِّعي معه التسبيح، أو النوحة أي: سبِّحي معه إذا سبَّح بدل من " آتينا " (وَالطَّيْرَ)، عطف على محل جبال أو مفعول معه لـ أَوِّبِي كان إذا سبَّح تسبِّح معه الجبال والطير وتجاوبه بأنواع اللغات، (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ): كالطين والشمع يصرفه بيده من غير نارٍ ولا ضرب مطرفة، (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ) أي: أمرناه أن اعمل دروعًا واسعات، (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ): لا تجعل المسامير دقاقًا ولا غلاظًا قيل أي: قدر في نسجها تناسب حلقها فإن دروعه لم تكن مسمرة، (وَاعْمَلُوا) أي: داود وآله، (صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ): فلا يضيع عمدكم، (وَلِسُلَيْمَانَ) أي: وسخرنا له، (الرِّيحَ)، وقراءة رفع الريح على تقدير(3/377)
ولسليمان الريح مسخرة، (غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ): مسيرها بالغداة إلى انتصاف النهار مسيرة شهر وبالعشي كذلك ففى اليوم الواحد تجري مسيرة شهرين، (وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ): أسال معدن النحاس فينبع كما ينبع الماء من العين، (وَمِنَ الْجِنِّ)، حال متقدمة أو خبر لقوله: (مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ)، والجملة عطف على الريح، (بِإِذْنِ رَبِّهِ): بأمره، (وَمَنْ يَزِغْ): يعدل، (مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا): الذي هو طاعته، (نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ) يدركه الصاعقة فتحرقه أو المراد عذاب الآخرة، (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ)، البناء الرفيع والمساجد والقصور، (وَتَمَاثِيلَ): صور الملائكة والأنبياء واتخاذها مباح في شريعتهم، (وَجِفَانٍ)، جمع جفنة أي: قصعة، (كَالْجَوَابِ)، جمع جابية وهي الحوض الكبير، (وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ): ثابتات كالجبال أثافيها منها قيل كان يأكل في جفنة ألف رجل (اعْمَلُوا) حكاية ما قيل لهم، (آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) أي: الجن يعملون لكم فاعملوا أنتم شكرًا، والشكر على ثلاثة أضرب بالقلب وباللسان وبالجوارح فقال:(3/378)
" اعملوا " لينبه على التزام الأنواع الثلاثة أو مصدر لاعملوا لأن فيه معنى اشكروا، أو معناه اعملوا طاعة الله للشكر أو شاكرين، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ): المبالغ الباذل وسعه فيه، (فَلَمَّا قَضيْنَا عَلَيْهِ) أي: على سليمان، (الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ) أي: الجن، (عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ): الأرضة، (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ): عصاه، (فَلَمَّا خَرَّ): سليمان، (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ)، كان من عادته أنه يعتكف في مسجد بيت المقدس سنة وسنتين وأقل وأكثر، فلما علم قرب أجله قال: اللهم غم موتي على الجن حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، ثم دخل المحراب واتكأ على عصاه وقبضه ملك الموت والجن يرونه قائمًا يحسبونه حيًّا وهم في أعمالهم الشاقة، فلما أكلت الأرضة عصاه خرَّ سليمان فعلمت الجن أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة نحوًا من سنة فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في أي موضع هي فيه، وتبين إما بمعنى ظهر لازم فيكون أن مع صلتها بدل اشتمال من الجن كما تقول تبين زيد جهله أي: ظهر جهل الجن للإنس، وإما متعدٍ أي: علموا أنَّهم كانوا كاذبين في ادعاء علم الغيب، ولو علموا(3/379)
لعلموا موته حين وقع فلم يلبثوا في الأعمال الشاقة التي هي العذاب المهين بعد مدة، (لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ): اسم قبيلة، (في مَسْكَنِهِمْ): موضع سكناهم، وهو باليمن أو مسكن كل واحدٍ منهم، (آيةٌ): دالة على وجود قادر مختار على ما يشاء، (جَنَّتَانِ)، بدل من آية أو خبر محذوف هو هي، (عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ) أي: جماعتان من البساتين جماعة عن يمين بلدهم وأخرى عن شمالها، وكل واحدة منهما في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة والآية قصتهما، (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ)، حكاية ما قال لهم الأنبياء أو لسان الحال، (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ)، كانت أرخص البلدان أو أطيبها في الهواء، ولم يكن فيها ذباب ولا شيء من الهوام، (وَرَبٌّ غَفُورٌ): لمن شكره استئناف لبيان موجب الشكر أي: هذه بلدة طيبة، وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رَبٌّ غَفُورٌ، (فَأَعْرَضُوا): عن الشكر إلى عبادة الشمس، وكذبوا الأنبياء (قَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) العرم: الوادي أو الماء الغزبر أو الصعب أو الجُرَذ، وهو نوع من الفأر الذي نقب عليهم السد (وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ): أراك قيل: كل شجر ذي شوك أو كل نبت مر فهو خَمْطٍ، والأكل الثمر وأصله أُكُل أُكُلٍ خَمْطٍ فأقيم المضاف إليه مقام المضاف، (وَأَثْلٍ) هو الطرفاء أو(3/380)
شجر يشبهه عطف على أكل، فإن الأثل لا أكل له، (وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) هو أجود أشجارهما وتسمية البدل جنة للمشاكلة، وفيه من التهكم، كان قدام قريتهم سد عظيم يجتمع خلفه الماء فيستعملونه على قدر حاجتهم، فلما كذبوا الرسل سلط الله عليه الجرذ فنقبه وغرقهم، (ذَلِكَ جَزَيْناهُمْ بِمَا كفَرُوا): بكفرهم أو بكفرانهم (وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ): هل يعاقب إلا البليغ في الكفر، أو الكفران أو هل نجازي بمثل هذا الجزاء إلا الكفور، (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا)، هى قرى الشام، (قُرًى ظَاهِرَةً): متواصلة يرى بعضها من بعض بحيث أن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل ماء وزاد، (وَقَدَّرنَا فيهَا السَّيرَ): بحيث يقيلون من اليمن إلى الشام فى قرى ويبيتون في أخرى، (سيرُوا) أي: قلنا لهم: سيروا، (فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ): لما مكنوا من السير في رغدٍ وأمن كأنهم أمروا بذلك وأذن لهم إن شاءوا في الليل، وإن شاءوا في النهار فإن الأمن في كلا الوقتين حاصل، (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)، لما بطروا النعمة وملوا العافية طلبوا مفاوز يحتاجون في قطعها إلى زاد ورواحل وسيرٍ في حرور ومخاوف ويمكن أن يكون ذلك لئلا يتمكن الفقراء من تلك السفرة، فيتطاولون عليهم وهذا كما طلب بنو إسرائيل الفوم والعدس بدل المن والسلوى، (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ): بالبطر، (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ): لمن بعدهم فصاروا ضرب مثل يقال: تفرقوا أيدي سبأ، (وَمَزَّقْنَاهُمْ): فرقناهم في الأرض، (كُلَّ مُمَزَّقٍ): كل تفريق بعض إلى الشام، وبعض إلى عمان، وبعض إلى العراق، وهكذا، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ): عن المعاصي، (شَكُورٍ): على النعم وهو المؤمن(3/381)
فإنه إذا أُعطي شكر وإذا ابتلي صبر، (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) أي: حقق ظنه فيهم، وأما على قراءة تخفيف الدال فبتقدير في ظنه أو يظن ظنه نحو فعلته جهدك أو لأن صدق نوع من القول عدى إليه بنفسه كصدق وعده، وكلام السلف دال على أن ضمير عليهم لبني آدم لا لأهل سبأ خاصة عن بعضٍ منهم أن إبليس لما قال: لأضلنهم ولأغوينهم، لم يكن مستيقنًا أن ما قاله يتم فيهم، وإنما قاله ظنًّا فلما أطاعوه صدق عليهم ما ظنه، (فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) من بيانية أي: فريقًا هم المؤمنون، وقيل للتبعيض والمراد غير العاصين منهم، (وَمَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ) أي: ما كان تسليطنا إياه عليهم بالوسوسة والإغواء، (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ): ليتميز المؤمن من الشاك، أو لنعلم علمًا وقوعيًّا فإنه كان معلومًا بالغيب أو ليتعلق علمنا تعلقًا يترتب عليه الجزاء، فالمراد من حصول العلم حصول متعلقه مبالغة، (وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ): محافظ.
* * *
(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ(3/382)
شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
* * *
(قلِ): يا محمد لمشركي قومك، (ادعُوا الذِينَ زَعَمتمْ) أي: زعمتموهم آلهة، (مِنْ دون اللهِ): من الملائكة، والأصنام ليكشفوا عنكم ضركم ويعينوكم ويرزقوكم، (لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ): من خير وشر، (فِى السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ)، جملة لا يملكون إما استئناف جواب عن المشركين لأنه أمر متعين لا يقبل المكابرة وإما حال عن الذين زعمتم، (وَمَا لَهُمْ فيهِما مِنْ شِرْكٍ): من شركة، (وَمَا لَه): لله، (منْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ): من عوين، فإنه هو المستقل في جميع الأمور لا شريك ولا معين له، (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ) أي: شفاعة شافع لمشفوع، (إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ): أن يشفع، أو أن يشفع له، (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قلُوبِهِمْ): أزيل الفزع(3/383)
وكشف عنها، (قَالُوا مَاذا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ)، توجيهه على رأى المتأخرين أن حتى غاية لما فهم من السابق من أن ثمة انتظارًا وتربصًا للإذن، كأنه قيل: يتربصون فزعين حتى إذا كشف الفزع عن قلوبهم بكلمة تكلم بها رب العزة قال بعضهم لبعض - على وجه السؤال: ماذا قال ربكم؟ قالوا: قال القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى، وأما كلام السلف هو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي أرعد أهل السماوات من الهيبة، فيلحقهم كالغشى فإذا جلى عن قلوبهم سأل بعضهم بعضًا: ماذا قال ربكم؟(3/384)
قالوا: القول الحق، أي: المطابق للواقع يعني: أخبر بعضهم بعضًا بما قال الله من غير زيادة ونقصان، وفي البخاري والترمذي وابن ماجه أحاديث صريحة في هذا المعنى، وعلى هذا طباق الآية مشكل ويمكن أن يقال: إن المشركين يعبدون الملائكة زاعمين أنهم شفعاء لهم فبين سبحانه مقام عظمته وجبروته أن لا يجترئ أحد منهم أن يشفع لأحد إلا بإذنه فهم خلف سرادق الهيبة متحيرون متربصون حتى إذا أزيل عنهم الفزع قالوا: (ماذا قال ربكم) الآية، كأنه قال: لا تنفع الشفاعة إلا لمن لا يثبت عند سماع كلام الحيِّ ولا يقدر التكلم حتى إذا أزيل الفزع وعن بعض السلف معناه: حتى إذا نزع الغفلة عن قلوب المشركين عند الاحتضار ويوم القيامة قالت الملائكة لهم: ماذا قال ربكم في الدنيا بالوحي؟ قالوا " الحق " فأقروا حين لا ينفعهم الإقرار، وعلى هذا أيضًا توجيهها مشكل اللهم إلا أن يقال معناها: قل يا محمد للمشركين ادعوا آلهتكم أي: اعبدوهم، فيكون الأمر للتهديد، حتى إذا نزع الغفلة عن قلوبهم، ويكون حتى غاية لعبادتهم، ويكون قوله عن قلوبهم التفات من الخطاب، والله أعلم، (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ): له العلو والكبرياء، (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قلِ الله): إذ لا يجحد ذلك إلا معاند، (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ):(3/385)
أي أحد الفريقين ممن يتوحد الرازق بالعبادة، وممن يشرك به الجماد لعلى أحد الأمرين إما مستعل على ذروة الهدى أو منغمس في حضيض الضلال، وليس هذا على سبيل الشك، بل على الإنصاف في الحجاج، وهو أبلغ من التصريح في هذا المقام، (قُلْ لا تُسْألونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا): من الصغائر والزلات، (وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ): من الكفر والمعاصي وهذا أيضًا من الإنصاف في غايته، حيث أسند الإجرام إلى نفسه، والعمل إليهم، (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا): في المحشر، (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ): يفصل ويَحْكُم، (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) أي: أروني بأي صفة ألحقتموهم بالله حال كونهم شركاء على زعمكم، وهذا استفسار شبهتهم بعد إلزام الحجة، (كَلَّا) ردع عن المشاركة، (بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ): فاين هؤلاء الأذلاء عن هذه الصفات، وضمير هو لله أو للشأن، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ): إلا إرسالة عامة، نحو: ما قمت إلا طويلاً، والأظهر ما(3/386)
اختاره ابن مالك من أنه حال عن المجرور، ولا بأس بالتقديم لأن استعمال الفصحاء وارد عليه، (بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ): القيامة، أو المبشر به والمنذر عنه، (إِن كُنتمْ صَادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ)، الإضافة بيانية، (لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ)، إذا فاجأكم، وهذا جواب إنكارهم القيامة لوحظ في الجواب المقصود من سؤالهم لا ما يعطيه ظاهر اللفظ.
* * *
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)
* * *(3/387)
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ): كالتوراة والإنجيل، أو المراد منه يوم القيامة، (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ): للحساب، (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ). في التلاوم، والجدال لرأيت العجب، فجواب لو مقدر، (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا): الأتباع، (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا): المتبوعين، (لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ): فإنكم أضللتمونا، (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) أنكروا أنهم أضلوهم، وأتبتوا أنهم آثروا الضلال باختيارهم، (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)، إضراب عن إضرابهم أي: بل مكركم بنا بالليل، والنهار هو السبب في ضلالنا والإضافة على الاتساع، (إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا) أي: أضمر الفريقان التابع والمتبوع، أو أظهروا فإن الهمزة تصلح للإثبات والسلب، (النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا): في أعناقهم لكفرهم، (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي: إلا على أعمالهم، فهو بنزع الخافض، (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا): أغنياؤها ورؤساؤها، وهذا تسلية لنبيه - عليه السلام - وإثبات لمبادرة الأغنياء بالإنكار، فهم المضلون، (إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)، زعموا أن(3/388)
ذلك من محبة الله لهم، فلا يعذب المحب حبيبه، (قُلْ): ردًّا لحسبانهم، (إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ): يضيق لمن يشاء، فلا البسط للرضى ولا التضييق للسخط، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ): فيحسبون كثرة الأموال والأولاد شرفًا على البت.
* * *
(وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
* * *(3/389)
(وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي) أي: بالخصلة التي، (تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى): فإنها خصلة واحدة هي التقوى أو ما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم بالتي تقربكم قربة، (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا)، كلام السلف يدل على أن الاستثناء منقطع أي: لكن من آمن وعمل صالحًا، (فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ): أن يضاعف حسناتهم إلى عشر إلى سبعمائة ضعف، فهو من إضافة المصدر إلى المفعول، والجزاء يتعدى إلى مفعولين، (بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ): غرفات الجنة، (آمِنُونَ): من المكاره قيل: الاستثناء متصل من مفعول تقربكم أي: ما جماعة الأموال والأولاد بالتي تقرب أحدًا إلا من آمن فإن أموال المؤمن الصالح تصرف بوجوه الخير، وأولاده بتربية أبيه يعلمون الدين، أو من أموالكم وأولادكم على حذف المضاف، أي: إلا مال وولد من آمن، (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا): بردها، (مُعَاجِزِينَ): يحسبون أنهم يعجزوننا، (أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ): يوسع عليه تارة، َ (وَيَقْدِرُ لَهُ): تارة أخرى، (وَمَا أَنْفَقْتمْ مِن شَيْءٍ): في رضى الله، (فهوَ يُخْلِفُهُ) يعوضه في الدارين، أو في أحدهما، (وَهو(3/390)
خَيْرُ الرَّازقِينَ) فإنه هو رازق بلا غرض وعوض، بل هو الرزاق وحده والغير وسط في الإيصال، (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ): الكفار، (جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاِئكَةِ): توبيخًا للكفرة، (أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ)، فإن كثيرًا من الكفار يدعون عبادة الملك، (قَالُوا سُبْحَانَكَ): من أن نثبت لك شريكًا، (أَنْتَ وَلِيُّنَا): أنت الذي نواليه، (مِنْ دُونِهِمْ): لا موالاة بيننا وبينهم، فلا نرضى بمحبتهم وعبادتهم، (بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ): فإنَّهم مطيعون للشياطين في الشرك، فيعبدونهم، (أَكْثَرُهُمْ): أكثر الإنس، (بِهِمْ): بالشياطين، (مُؤْمِنُونَ فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْض نَفْعًا وَلا ضَرًّا) إذ الأمر كله في ذلك اليوم ظاهرًا وباطنًا بيد الله، (وَنَقُولُ)، عطف على " لا يملك " (لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ(3/391)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا): القرآنية، (بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا) أي: محمد، (إِلا رَجُلٌ يريدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ): يمنعكم، (عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا) أي: القرآن، (إِلَّا إِفْكٌ) غير مطابق للواقع، (مُفْتَرًى): على الله، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ) أي: القرآن، (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، ينسبونه إلى الاختراع والكذب، ثم الى السحر لما فيه من الإعجاز الدال على الصدق، (وَمَا آتيْنَاهُمْ) أي: قريشًا، (مِنْ كتُبٍ يَدْرُسونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ)، وكانوا يقولون: لو جاءنا نذير، وأنزل علينا كتاب لكنا أهدى من غيرنا، قيل معناه ليس لهم كتاب ولا رسول قبلك حتى يقولوا نحن نتبع كتابنا ونبينا ولا نتبعك، فليس لهم عذر باطل أيضًا في عدم اتباعك، (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ): من الأمم الماضية، (وَمَا بَلَغُوا): هؤلاء، (مِعْشَارَ مَا آتيْنَاهُمْ): من طول الأعمار وكثرة الأموال وقوة الإجرام، (فَكَذَّبُوا رُسُلِي)، عطف على كذب عطف مقيد على مطلق أي: فعلوا التكذيب، فكذبوا رسلي كما يقول: أقدمت على الضرب فضربته، قيل: عطف على ما بلغوا والضمير لأهل مكة أي: ما بلغوا معاشرهم فكذبوا رسلي ونفي(3/392)
رسول واحد نفي جميع الرسل كما تقول: ما بلغت معشار علم زيد، فتفضل عليه، (فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) النكير: تغيير المنكر، أي: فحين كذب الذين من قبلهم رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير فكيف كان نكيري لهم فليحذر هؤلاء عن مثل ما وقع عليهم.
* * *
(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
* * *
(قل إنما أعظكم): أرشدكم، (بواحدة): بخصلة واحدة، (أن تقوموا لله)، المراد بالقيام لله الانتصاب في الأمر والنهوض فيه بالهمة، والفكر خالصًا له من غير هوى ولا عصبية عطف بيان أو بدل من واحدة أو خبر لمحذوف أي: هي أن تقوموا،(3/393)
(مَثْنى وَفُرَادَى): اثنين اثنين أو واحدًا واحدًا فإن الازدحام يشوش الفكر، (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا): في أمر محمد، (مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ)، كلام مستأنف للتبيه من الله على جهة النظر قيل: معناه تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم جنون، وقيل: ما استفهامية، أى: تتفكروا أي شيء به من آثار الجنون، (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ): قدام، (عَذَابٍ شَدِيدٍ)، عن مقاتل معناه: ثم تتفكروا في خلق السَّمَاوَات والأرض حتى تعلموا وحدانيته، ثم ابتدأ وقال " ما بصاحبكم من جنة " (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ)، أي: أي شيء سألتكم من أجر التبليغ وأدعى استحقاقه؟! (فَهُوَ لَكُمْ) أي: فذلك الشيء ملككم، وأنا معترف بذلك كما تقول: إن أعطيتني شيئًا فخذه، فالمراد نفي الطمع بالكلية أو ما موصولة، أي: الذي سألتكم فهو لنفعكم قال تعالى " قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى " [الشورى: 23] " قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا " [الفرقان: 57] (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ(3/394)
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ): فيعلم صدقي، (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ): يرمي به ويلقيه على من يشاء من عباده قال تعالى " يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده (عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، صفة لـ رَبِّي تابع لمحله، أو خبر بعد خبر، أو خبر لمحذوف أو بدل من ضمير يقذف، َ (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ) القرآن والإسلام، (وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ) أي: الكفر، (وَمَا يُعِيدُ) أي: هلك الكفر بالكلية، فإن من خاصة صفات الحي إما أن يبدئ فعلا أو يعيده، فإذا لم تكن له تلك الصفة لم تكن له الحياة، وعن بعض السلف: إن الباطل إبليس أي: هو لا يبدئ أحدًا ولا يعيده، بل المبدئ والباعث هو الله، وقيل: لا يبدئ الباطل لأهله خيرًا ولا يعيده يعني: لا ينفعهم في الدارين، (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي): وبال ضلالي عليها، لأنها هي السبب للضلال، (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي): فإن الخير كله من الله، ولولا توفيق الله لما حصل الاهتداء، فإن النفس والشيطان لا يأمران إلا بالشر، (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ): فيسمع قول ضال ومهتد، (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا): في القيامة، أو عند البعث، أو عند عذابهم في الدنيا لرأيت أمرًا هائلاً، فجواب لو مقدر، (فَلَا فَوْتَ): لهم منا ولا نجاة، (وَأُخِذُوا)، عطف على لا فوت على معنى إذ فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا، (مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ): من الموقف إلى النار، أو من القبور، أو من ظهر الأرض إلى(3/395)
بطنها قيل: هو كناية عن سهولة الأمر، أي: أخذناهم أخذًا يسيرًا علينا، (وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ): بالله أو بمحمد أو بيوم القيامة عند البعث، أو عند العذاب، (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ): من أين لهم تناول الإيمان؟ (مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ)، فإن التوبة والإيمان لا يكونان إلا في الدنيا، وهم في الآخرة، وهو تمثيل لطلبهم ما لا يكون فإن التناوش تناول سهل لشيء قريب، فإذا كان الشيء بعيدًا يستحيل الوصول إليه، وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - طلبوا الرجعة إلى الدنيا، (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفونَ بِالْغَيْبِ): يرمون بالظن بما لم يظهر لهم، (مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ): وهو بعدهم عن علم ما يقولون كأنهم رموا إلى شيء بعيد في ظلمة ثم يزعمون أنَّهم ضربوه يعني: وقد كفروا وظنوا ظنونًا واعتقدوها، (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ): الإيمان أو من شهواتهم الدنيوية، (كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ): بأشباههم، (مِنْ قَبْلُ): من كفرة الأمم السالفة، (إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ): مشكل فيه مبالغة كما لا يخفى، والله أعلم.
* * *(3/396)
سورة فاطر مكية
وهى خمس وأربعون آية وخمس ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لله فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
* * *
(الْحَمْدُ لله فَاطِرِ): مبدع، (السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا): بينه وبين أنبيائه، قيل: بينه وبين خلقه بإيصال آثار صنعه إليهم، (أُولِي): ذوي، (أَجْنِحَةٍ): متعددة، (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ): يسرعون نحو ما أمرهم الله به، صفات(3/397)
لـ (أَجْنِحَةٍ)، (يَزِيدُ في الْخَلْقِ) أي في خلق الأجنحة، وغيرها كحسن الصوت والعقل، (مَا يَشَاءُ)، في الحديث: " رأى ليلة المعراج جبريل عليهما السلام وله ستمائة جناح بين كل [جناحين] كما بين المشرق والمغرب "، (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَا يَفْتَحِ اللهُ): ما يرسل ويطلق، (لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ): كهداية ورزق ومطر، (فَلا مُمْسِكَ لَهَا): يمنعها، (وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَه): يطلقه لما فسر الشرطية في الأول بالرحمة لبيان رحمته وأبهم في الثاني أنث الضمير في الأول دون الثاني، (مِنْ بَعْدِهِ): بعد إمساكه، (وَهُوَ الْعَزِيزُ): الغالب، (الْحَكِيمُ): فى أفعاله، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا): احفظوا واشكروا، (نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُم هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ) أنكر أن يكون لغيره في النعم مدخل يستحق أن يشرك في الشكر، وقراءة رفع غير بأن يكون صفة تابعًا للمحل، أو فاعل خالق، أو خبره، وخبر خالق محذوف على الأولين، (يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ)، كلام مبتدأ أو صفة بعد صفة، (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ): فهو الخالق الرازق وحده، (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ): فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد؟ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ): فليس ببدع، (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ): عظام محترمون، (مِنْ قَبْلِكَ): فاصبر كما(3/398)
صبروا، (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ): فيجازي كلًّا بما يستحقه، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ): بالحشر وغيره، (حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا): فيذهلنكم التلذذ بمنافعها عن العمل للآخرة، (وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ): الشيطان، فيحثكم على المعاصي بإنكار الآخرة، وبوعد التوبة والمغفرة، (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ): من قديم الزمان، (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا): ولا تغتروا بأمانيه، (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ): أشياعه، (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ): لأن يشاركوه في المنزل والمنزلة، (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)، بيان لحال موافقيه ومخالفيه.
* * *
(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلله الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ(3/399)
سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
* * *
(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا): رأى الباطل حقًّا، (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ): لا تهلكها (عَلَيْهِمْ)، متعلق بـ لا تذهب، (حَسَرَاتٍ)، مفعول له وجواب " أفمن زين " محذوف تقديره كمن وفق فرأى الحق حقًّا والبَاطل باطلاً، ويدل عليه قوله: " فإن الله يضل " إلى آخره، أو تقديره ذهبت نفسك عليهم للحسرة، فيدل عليه قوله: فلا تذهب إلخ، (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ): ليس بغافل عن صنيعهم، وهو الذي أراده فاصبر على مراد الله تعالى، (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ)، صيغة المضارع حكاية للحال الماضية استحضارًا لتلك الصورة البديعة، ونعم ما قيل اختلاف الأفعال للدلالة على استمرار(3/400)
الفعل، (سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا)، التفت إلى ما هو أدخل في الاختصاص لما فيهما من مزيد الصنع، (به): بالمطر، وهو مفهوم من الكلام أو بالسحاب، فإنه السبب أيضًا، (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ)، في الحديث " ينزل من تحت العرش مطر فيعم الأرض جميعًا، وينبت الأجساد من قبورها كما ينبت الحب في الأرض "، (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلله الْعِزَّةُ جَمِيعًا): فيطلبها منه بطاعته، فإن كلها له قال تعالى " وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا " [مريم: 81]، (إِلَيْهِ): إلى الله، (يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ): الذكر والدعاء والتلاوة، (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ): أداء الفرائض، (يَرْفَعُهُ) أي: يرفع العمل الصالح الكلم الطيب، ويجعله في محل القبول ولولاه لم يقبل، أو يرفع الكلم الطيب العمل الصالح لا يقبل عمل بدون كلم التوحيد، أو العمل الصالح أي: الخالص الله(3/401)
يرفعه، (وَالذِينَ يَمْكُرُون) هم المراءون والمنافقون يوهمون أنَّهم في طاعة الله، وعن بعض نزل فيمن تشاور ومكر في حبس رسول الله، وإخراجه، وقتله، (السَّيِّئَاتِ) أى: المكرات والسيئات، أو مفعول به لتضمين يمكرون معنى يعملون، (لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ): يبطل، ويفسد ويظهر من يخسر عن قريب، (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ): بخلق آدم منه، (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ): بخلق ذريته منها، (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا): ذكرانًا وإناثًا، (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ): إلا معلومة لله حال من أنثى فاعل تحمل، (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ): ما يمد في عمره من مصيره إلى الكبر، (وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ): لغيره بأن يعطى لأحد عمر ناقص من عمر معمر، أو الضمير للمنقوص وإن لم يذكر لدلالة مقابله عليه أو الضمير للمعمر على التسامح المشهور اعتمادًا على فهم السامع نحو: لك عندي درهم، ونصفه قيل: معناه لا يطول ولا يقصر عمر إنسان إلا في كتاب، فإنه مكتوب في اللوح: إن فلانًا إذا حج -مثلاً- فعمره ستون -مثلاً- وإلا فأربعون، وإذا حج فقد عمر، وإلا فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو ستون، (إِلَّا فِي كِتَابٍ): صحيفة كتب في بطن أمه أو اللوح المحفوظ، (إِنَّ ذَلِكَ): الحفظ، أو الزيادة والنقصان (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ)، هذا بيان قدرة أخرى عظيمة، (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ): يكسر(3/402)
العطش، (سَائِغٌ): مريء، (شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ): يحرق بملوحته، (وَمِن كُلٍّ): من البحرين، (تَأكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا): السمك، (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً): اللآلئ، (تَلْبَسُونهَا): الحلية من الأجاج لا من العذب، ولا يلزم من عطف تستخرجون على تأكلون أن يكون الاستخراج من كلٍّ قيل: البحران مثلان للمؤمن، والكافر، ثم إن قوله " ومِن كُلٍّ " إلخ إما استطراد أو تتميم لتفضيل المشبه به على المشبه، ونظيره قوله: " وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار " [البقرة: 74]، (وَتَرَى الْفُلْك فيهِ): في كلِّ، (مَوَاخرَ): شواق للماء بجريها، (لِتَبْتَغُوا)، متعلق بمواخر، (مِنْ فَضْلِهِ): من فضل الله بالتجارة، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): نعمه، (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ): يزيد من هذا في ذاك ومن ذاك في هذا، (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى): إلى يوم القيامة، (ذَلِكُمُ اللهُ ربُّكُمْ) أى: ذلك الموصوف بتلك الصفات المذكورة الله، (لَهُ الْمُلْكُ): وحده، (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ): من ملك أو صنم، (مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ): القشرة الرقيقة الملتفة على النواة، (إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ): فإنهم جماد، (وَلَوْ سَمِعُوا): على الفرض، (مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ): لعجزهم عن الإنفاع، (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ): يتبرءون منكم قائلين: ما كنتم إيانا تعبدون، (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ): لا يخبرك بالأمر مخبر مثل خبير عالم به، ولا عالم أعلم من الله وهو الذي أخبركم.
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ(3/403)
كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، زيادة قيد الحميد ليعلم أنه جواد منعم فإن الغنى بدون الجود غير محمود، (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ): فإنه غير محتاج إليكم، (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) غير عاصين مطيعين، (وَمَا ذلِكَ عَلَى الله بعَزِيزٍ): بعسير، (وَلا تَزِرُ): لا تحمل، (وَازِرَةٌ): نفس آثمة، (وِزْرَ): نفس، (أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا) أي: وإن تدع نفس أثقلتها أوزارها أحدًا من الآحاد إلى أن يحمل بعض ما عليها، (لَا يُحْمَلْ مِنْهُ): من وزره، (شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ): المدعو، (ذَا قُرْبَى): من أب وأم وابن وأخ وغيرهم، (إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ(3/404)
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ): غائبين عن الناس في السر، أو غائبين عن عذابه، أو حال عن المفعول، (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ): فهم المنتفعون بالإنذار، (وَمَنْ تَزَكَّى): عن دنس المعاصي، (فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى): يتطهر، (لِنَفْسِهِ): نفعها لها، (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ): فيجزيه، (وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى): الكافر، (وَالْبَصيرُ): المؤمن، (وَلَا الظُّلُمَاتُ): الباطل، (وَلا النُّورُ): الحق، (وَلَا الظِّلُّ): الثواب والجنة، (وَلا وَلَا الْحَرُورُ): العقاب والنار، والحرور: السموم، وتكرير لا على الشقين لمزيد التأكيد، (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ): المؤمنون، (وَلَا الْأَمْوَاتُ): الكفار، تمثيل آخر لهما،(3/405)
وقيل المراد العلماء، والجهال، (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ): سماع قبول، (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي: الكفار المصرين فإنهم كالأموات في عدم الانتفاع بالموعظة، (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ): فما عليك إلا الإنذار، (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ) أي: محقًّا أو محقين، وقيل: إرسالاً مصحوبًا بالحق، (بَشِيرًا): للمؤمنين، (وَنَذِيرًا): للكافرين، (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ): أهل كل عصر، (إِلَّا خَلَا): مضى، (فِيهَا نَذِيرٌ): نبي ينذرهم من عقاب الله، ومتى بقيت آثار النذارة صدق أن تلك الأمة لم تخل عن نذير، ولهذا لما اندرست آثار نذارة عيسى بعث الله سيد الكونين - عليهما الصلاة والسلام (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ): فلا تحزن لأنه ليس ببدع، (فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ)، من باب التنازع والعمل للثاني، (بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ): الكتب، (وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ): الواضح المبين، العطف لتغاير الوصفين، (ثُمَّ أَخَذْتُ): أهلكت، (اَلذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ): إنكاري، وتغييري لهم بالعقوبة.
* * *
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)(3/406)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
* * *
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا): هيآتها كالصفرة والخضرة، أو أجناسها كالرمان والتفاح، (وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ) أي: ذو جدد أي خطط، وطرائق جملة من مبتدأ وخبر، (بِيضٌ): كالعروق، (وَحُمْرٌ) يعني: بعضها أبيض، وبعضها أحمر، (مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا): أجناسها بالشدة والضعف، (وَغَرَابِيبُ سُودٌ) يقال: أسود غربيب أي: شديد السواد عطف على بيض أصله سود غرابيب حذف الموصوف ثم فسر به، وعن عكرمة: هي الجبال الطوال السود،(3/407)
(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ) أي: الأمر كذلك كما بين ولخص، أو مختلف ألوانه اختلافًا كذلك أي: كاختلاف الثمار والجبال، (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)، لما قال ألم تعلم إنزال المطر وآثاره، واختلاف هيئات الأجناس الذي هو من آثار صنع الله، أتبع ذلك كذلك " إنما يخشى الله " إلخ، كأنه قال الأمر كما ذكر لكن إنما ينجع الخطاب ويؤثر فيمن في يخشى الله بالغيب، فوضع موضعه إنما يحشى الله من عباده العلماء تعريضًا لجهل الكفرة، ومن يدعي العلم ولم يخش الله وتنويها برفع منزلة العلماء العاملين ويلزم من الجمع المحلى باللام المفيد للعموم أن من لم يخش لم يكن عالمًا قال مسروق: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلا، (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ): فيتمكن من الانتقام، (غَفُورٌ): للعصاة فحقه أن يخشى ويرجى، (إِن الّذِينَ يَتْلُونَ كتَابَ اللهِ): يداومون قراءته أو متابعته، (وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً): في جميع أحوالهم، (يَرْجُونَ تِجَارَةً): يطلبون ثواب طاعة وهو خبر إن، (لَنْ تَبُورَ): لن تهلك بالخسران، (لِيُوَفِّيَهُمْ):، علة للتلاوة والإقامة والإنفاق، أو متعلق بـ لَنْ تَبُورَ، (أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ): على الأجر مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، (إِنَّهُ غَفُورٌ): لفرطاتهم،(3/408)
شَكُورٌ): لطاعاتهم، (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ)، من للتبيين يعني القرآن، (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ): من الكتب السماوية، (إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ): عالم بالبواطن والظواهر، ولهذا اجتباك وأنزل عليك هذا الكتاب، (ثُمَّ أَوْرَثْنَا): حكمنا بتوريثه منك أو عبر بالماضي عن المضارع لتحققه، (الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا): آلك وأصحابك ومن بعدهم من أمتك، (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ): لتقصيرهم في العمل به، وهم يحبسون في طول المحشر حتى يصيبهم الهم الطويل، ثم يدخلون الجنة، وفي الحديث " هم الذين يقولون الْحَمْدُ لله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ " ويدل على ما فسرنا الأحاديث الكثيرة، (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ): لأنَّهُم يعملون به في أغلب أحوالهم، وهم يحاسبون حسابًا يسيرًا، (ومِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ): بالطاعات هم الأولياء والأبرار، (بِإِذْنِ اللهِ): بأمره، وإرادته وهم يدخلون الجنة من غير حساب، أخر السابقين لقلتهم، وللترقي من الأدنى، وعن عائشة حين سأل عقبة عن تلك الآيات " يا بني كلهم في الجنة أمَّا السابق فمن مضى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهد له بالجنة، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه، وأما الظالم فمثلي ومثلكم "، وهذا منها - رضى الله عنها - من باب التواضع، وهضم النفس(3/409)
وعن بعض الظالم لنفسه كافر أو منافق فحينئذ ضمير منهم للعباد لا للذين اصطفينا والأول أصح، (ذَلِكَ): التوريث، وقيل السبق، (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ): العظيم، (جَنَّاتُ عَدْنٍ)، مبتدأ، (يَدْخُلُونَهَا)، والضمير للمصطفين، وفي الشواذ جنات بالنصب على شريطة التفسير، (يُحَلَّوْنَ فِيهَا)، خبر بعد خبر، أو حال مقدرة من حلية المرأة إذا جعلت لها حليًّا، (مِنْ أَسَاوِرَ) جمع سوار، ومن للتبعيض، (مِنْ ذَهَبٍ)، بيان لأساور، (وَلُؤْلُؤًا) بالنصب عطف على محل من أساور، (وَلبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ): هموم الدارين، (إِن رَبَّنَا لَغَفُور): للذنوب، (شَكُور): للطاعة، (الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ): الإقامة، (مِنْ فَضْلِهِ): إذ لا يجب عليه شيء، (لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ): تعب، (وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ): كلال، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا)، مقابل للذين اصطفينا، (لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ): بموت فيها، (فَيَمُوتُوا)، جواب النفي منصوب بإضمار أن، (وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ): مثل ذلك الجزاء، (نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ): مبالغ(3/410)
في الكفر أو الكفران، (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ) من الصراخ وهو الصياح بجهد وشدة، (فِيهَا): قائلين: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا) أي: عملاً صالحًا، (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، بدل أو صفة وفائدته التحسر، والاعتراف بالذنب، (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ)، جواب من الله لهم، (مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ)، ما موصولة، ومن فاعل يَتَذَكَّرُ والأصح الذي يدل عليه الأحاديث أنه ستون سنة وعن زين العابدين: إنه سبع عشر سنة، وعن كثير: إنه أربعون، (وَجَاءَكُمُ)، عطف على معنى أو لم نعمركم كأنه قال عمرناكم وجاءكم، (النَّذِيرُ): الرسول، أو الشيب، (فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ).
* * *
(إِنَّ اللهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا(3/411)
خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
* * *
(إِنَّ اللهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): فلا يخفى عليه أحوالهم، (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)، تعليل له أي: إذا علم مضموات الصدور فكيف يخفى عليه شيء آخر؟! (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ) جمع خليفة أي: خلفاء قوم آخرين أورثكم أرضهم وملككم مقاليد التصرف، وسلطكم فيها، (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ): لا يضر غيره، (وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًاا): أشد البغض، وهم يحسبون أن آلهتهم شفعاءهم، (وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا): وهم(3/412)
يحسبون أنَّهم على شيء إلا أنَّهم هم الخاسرون، (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي) بدل من أرأيتم أو تأكيد أرأيتم لأنه بمعنى أخبروني عن شركائكم، (مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ): هل استبدوا بخلق شيء حتى استحقوا العبادة؟! (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَات): شركة مع الله في خلقها، (أَمْ آتيْنَاهُمْ) أى: الأصنام، أو المشركين، (كِتَابًا): بأَنهم شركائي، (فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ): حجة واضحة، (مِنْهُ): من ذاك الكتب، الظاهر أنه للترقي فإن الاستبداد بخلق جزء من الأرض أقل دلالة من أن يكونوا شركاء في خلق السماوات، ثم إيتاء كتاب من الله أدل وأدل، وأم منقطعة، (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ)، بدل من " الظالمون "، (بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا)، فإن الأخلاف والأتباع اعتمدوا على قول الرؤساء والأسلاف بأنهم شفعاء عند الله، (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا) أي: كراهة الزوال، أو يمنعها من الزوال، أو يمنعها من الزوال فإن الإمساك منع، (وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ)، الجملة المنفية ساد مسد الجوابين، و " من " الأولى زائدة والثانية ابتدائية، (إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا): لا يعاجل بالعقوبة مع تلك القدرة التامة،(3/413)
(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ): قبل مبعث محمد عليه السلام، (جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ)، مفعول مطلق أى قسمًا غليظًا، (لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ): نبي، (لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ): أى من الأمة التي هي إحدى الأمم أي: أفضلهم وأهداهم تقول: فلان واحد القوم وأوحدي العصر، ولهذا قال الضحاك: معناه من جميع الأمم الذين أرسل إليهم الرسل أو من اليهود والنصارى وغيرهم، (فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ): مجيئه، (إِلَّا نُفُورًا): عن الحق، (اسْتِكْبَارًا)، بدل من نفورًا أو مفعول له وقيل استكبروا استكبارًا، (فِى الأرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ)، من إضافة الموصوف إلى الصفة بدليل قوله: (وَلَا يَحِيقُ): يحيط، (الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ): بالماكر، (فَهَلْ يَنْظُرُونَ): ينتظرون، (إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ): سنة الله فيهم بتعذيب المكذبين جعل استقبالهم لذلك انتظارًا له منهم، (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا): فيصل العذاب ألبتَّة، ويصل إليهم لا إلى غيرهم، (أَوَلَمْ يَسِيَرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ): فإنه يشاهد آثار العذاب من آثارهم، (وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ): ليسبقه، ويفوت عنه، (مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا): ظهر الأرض، (مِنْ دَابَّةٍ): بشؤم معاصيهم، وقيل:(3/414)
المراد من الدابة الإنس وحده، (وَلَكِنْ يُّؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مسمًّى): يوم القيامة أو إلى أجلهم القدر المعين، (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا): فيجازيهم على ما علم من عملهم.
اللهم عاملنا معاملة فضلك لا عدلك، والحمد لله حقَّ حمده.
* * *(3/415)
سورة يس مكية
وهِى ثلاث وثمانون آية وخمسُ ركوعَاتٍ
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
* * *
(يس) أي: يا إنسان، أو هو من أسماء الله (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ): ذي الحكمة، وهو قسم (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ): إلى جميع الثقلين (عَلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ): دين قويم(3/416)
وشرع لا عوج له خبر بعد خبر، أو حال (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) أي: هو منزل، وقراءة النصب بتأويل نزل تنزيلاً، أو أعني ولتُنذِرَ " متعلق بـ تَنْزِيلَ (قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ) أي: قومًا غير منذر آباؤهم الأولون، قيل: ما مصدرية، فيكون مفعولاً مطلقًا أو موصولة، فيكون مفعولاً ثانيًا أي: لتنذرهم الذي أُنذر آباؤهم الأقدمون (فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ): كلمة العذاب (عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا) يعني: في أعناقهم لا أيديهم، فإن الغل لا يكون إلا في العنق دون الأيدي (فَهِيَ) أي: الأغلال (إِلَى الأَذْقَانِ) أي: واصلة إليها (فَهُم مقْمَحُونَ) المقمح: الذي يرفع رأسه ويغض بصره (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ): غطينا على أبصارهم غشاوة (فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) مثل تصميمهم على كفرهم، وأنه لا سبيل إلى تجاوزهم عنه، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، وكالحاصلين بين السدين لا يبصرون قدامهم ولا خلفهم في أنَّهم متعامون عن النظر في آيات الله، غير متأملين في مبدئهم ومعادهم. عن ابن عباس - رضى الله عنهما - إن الأول مثل بخلهم عن الإنفاق في سبيل الله، قال تعالى: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) [الإسراء: 29] وعن محيي السنة وغيره إنَّهَا في أبي جهل حين أخذ حجرًا؛ ليدمغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رفعه لصقت يده إلى عنقه، ولزق الحجر بيده حتى عاد إلى قومه، فقام آخر بأني أقتله بهذا الحجر فأتاه وهو عليه السلام يصلي، فأعمى الله بصر الكافر، يسمع صوته ولا يراه (وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) سبق في أول سورة البقرة (إِنَّمَا تُنذِرُ) أي: إنذارًا نافعًا يترتب عليه البغية (منِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ): القرآن(3/417)
بالتأمل والعمل (وَخَشِي الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ): غائبًا عنه الرحمن فلا يراه، أو غائبًا عن عذاب الرحمن (فَبَشِّرْهُ بِمَغفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ): حسنًا (إِنَّا نَحْنُ نُحْيي الْمَوْتَى): عند البعث (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا): من أعمالهم الصالحة والطالحة التي باشروها بأنفسهم (وَآثَارَهُمْ): ما سنوا من سنة حسنة أو سيئة، فعمل بها أحد اقتداء بهم، فيجزون عليها أيضًا، وقريب منه ما قال بعض السلف المراد: ما أرّثوا من الهدى والضلال، أو المراد آثار خطاهم إلى الطاعة والمعصية، وفي الطبراني عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد، فأرادوا أن يتحولوا إلى قرية فنزلت " سنكتب ما قدموا وآثارهم " فثبتوا في منازلهم، وهذا المعنى رواه غير الطبراني، وفيه إشكال لأنَّهُم صرحوا بأن السورة بكمالها مكية (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ): اللوح المحفوظ.
* * *
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ(3/418)
أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
* * *
(وَاضْرِبْ): [ومَثَّلَ] (لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَريةِ) أي: مثلها بيان أو بدل من مثلاً، أو هما مفعولا اضرب، لما فيه من معنى الجعل، وقدم المفعول الثاني (إِذْ جَاءهَا) بدل اشتمال من أصحاب (الْمُرْسَلُون): رسل الله أو رسل عيسى بأمر الله (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ): وادَّعيا الرسالة (فَكَذبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا): قويناهما (بِثَالِثٍ) برسول ثالث (فَقَالُوا) أي: الرسل الثلاثة (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ): من ربكم، أو من رسول ربكم(3/419)
(قَالُوا مَا أَنتمْ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا) وإنما الرسول ملك، وهذا شبهة أكثر الكفرة أن الرسول لابد أن يكون ملكًا (وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمنُ مِن شَيْءٍ) أي: وحيًا ورسالة (إِن أَنتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ): في ادعاء الرسالة (قَالُوا ربنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرسَلُونَ) استشهدوا بما هو يجرى مجرى القسم وهو علم الله (وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ): التبليغ الظاهر المبرهن بالمعجزات (قَالُوا إِذَا نَظَيرْنَا): تشاءمنا (بِكُمْ) فإنه لم يدخل مثلكم على قرية إلا وعذب أهلها (لَئِن لمْ تَنتَهُوا): عن مقالتكم (لَنَرْجُمَنَّكُمْ): بالحجارة أو بالشتم (وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُوا طَائِرُكُمْ): شؤمكم (مَعَكُمْ) فإن قبائحكم التي لا تفارقكم سبب الشؤم (أَئِن ذكرتم) جوابه محذوف، أي: أئن وُعِظتم تطيرتم بالواعظ ووعدتموه بالتعذيب؟! (بلْ أَنتمْ قَوْمٌ مسْرِفُونَ): قوم عادتكم الإسراف في الضلال، ولذلك تتطيرون بواعظ من الله (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى): يسرع شفقة على الرسل اسمه حبيب يعمل الحبال أو كان(3/420)
نجارًا أو قصارًا، ويتعبد في غارٍ بقرب بلدهم، وكان كثير الصدقة سقيمًا، لما سمع همهم بقتل رسلهم جاء لنصح قومه ونصرة رسل الله (قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا): من لا غرض له (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) فقيل له: أنت تصدق هؤلاء وتذم ديننا فقال: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ): بعد الموت، فيحازيكم بأعمالكم، فاعبدوا أنتم أيضًا إياه، ووحدوه وصدقوا رسله (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ): من دون الله (آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا): لا تمنع شفاعتهم عني شيئًا من العذاب (وَلاَ يُنقِذُونِ): ولم يقدروا على إنقاذي (إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ): إن أعدل عن عبادة قادر نافع ضار إلى عاجز (إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ): الذي كفرتم به (فَاسْمَعُونِ) أي: قولي أو الخطاب للرسل، ومعناه: اشهدوا لي بذلك عند ربكم، فوطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره، أو رجموه حتى قتلوه، فلما قتلوه (قِيلَ) أي: قال الله له: (ادْخُلِ الجَنَّةَ): بشره وأذن له فى الدخول، فلما رأى عناية الله (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي) ما مصدرية أو موصولة، والباء صلة يعلمون، وقيل الباء صلة غفر وما استفهامية أي: يعلمون أنه غفر لي بأي شيء أراد الإيمان بالله، والمصابرة بإعزاز دينه (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ): تمني علمهم بحاله؛ ليعلموا أنه على الحق فيردعوا عن الكفر، أراد نصح قومه في حياته ومماته (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ): قوم [حبيب] (مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ منَ(3/421)
السَّماءِ): لإهلاكهم ونصرة رسلنا، ولم نحتج في إهلاكهم إلى جند، بل الأمر أيسر (وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ) الجند من السماء في إهلاك الأمم المكذبة، فإنزال الجند من السماء لنصرة نبيه المصطفى عليه أكمل الصلوات وأفضل التسليمات من خاصته لشرفه، أو معناه، وما صح في حكمتنا إنزال جند عليهم، لأنا قدرنا على إهلاكهم بأهون وجهٍ، وعن بعض معناه: وما أنزلنا على قومه من بعده برسل أخرى برسالة من السماء إليهم (إِن كَانتْ) أي: العقوبة (إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً): من جبريل بعثه الله فأخذ بعضادتي باب بلدتهم، فصاح (فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ): ميتون كالرماد لم يبق في البلدة روح يتردد في جسد، واعلم أن بعض السلف وأكثر المتأخرين على أنَّهم رسل عيسى، وأسماءهم يحيى، ويونس، وشمعون، والقرية أنطاكية، وذكروا أن ملك القرية وأكثر أهلها آمنوا بعد تقويتهما بثالث وظهور معجزاتهم، ومن بقى على الكفر أهلكوا، وكلام بعض السلف دال على أنَّهم رسل الله وأسماؤهم صادق، وصدوق، وشكوم، وهو ظاهر القرآن انظر إلى قوله " مَا أَنتمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا " وأيضًا ذكر المؤرخون أن أول مدينة آمنت برسل عيسى هو أنطاكية، وفي القرآن أن هذه القرية أهلكوا لكفرهم، وأيضًا صرح كثير من السلف في قول الله (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا(3/422)
أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى) [القصص: 43] أن الله ما أهلك من الأمم عن آخرهم بالعذاب بعد إنزال التوراة، بل أمر المؤمنين بقتال المشركين، فكيف يكون هلاك قرية رسل عيسى والله أعلم (يا حَسْرَةً عَلَى العبادِ) نداء للحسرة، كأنه قيل تَعَالي فهذه من أحوالك التي حقك أن تحضري، والظرف إما لغو أو صفة (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ أَلَمْ يَرَوْا): يعلموا (كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) علق ألم يروا عن العمل لفظًا فيما بعده، لأن كم لا يكون معمولاً لما قبله (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ) بدل الكل من جملة كم أهلكنا على المعني، فإن عدم الرجوع والإهلاك واحد (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) إن نافية ولما المثقلة بمعنى إلا، والظرف لجميع بمعنى مجموع أو لمحضرون أي: ما كلهم إلا مجموعون لدينا يوم الحشر محضرون.
* * *
(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ(3/423)
وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
* * *
(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ): اليابسة التي لا نبات فيها (أَحْيَيْنَاهَا) بالمطر استئناف لبيان كونها آية أو آية لهم مبتدأ وخبر وأحييناها خبر الأرض، والجملة تفسير الآية، ولا يبعد أن يكون أَحْيَيْنَاهَا، لا بتقدير قد (وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا) أي: جنسه (فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ): من ثم المذكور، قيل الضمير لله، فإن ثمر الله بخلقه (وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) أي: الثمر لم تعمله أيدي الناس، بل خلق الله، ولهذا قال (أَفَلَا يَشْكُرُونَ) وعن بعض أن ما ما موصولة عطف على ثمره، والمراد ما يتخذ منه كالدبس (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ): الأنواع (كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ): الذكر والأنثى (وَمِمَّا(3/424)
لَا يَعْلَمُونَ): من مخلوقات شتى لا يعرفون، فكأنه قال: الأزواج قسمان معلوم وغير معلوم (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ): نزيل (مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ): داخلون في الظلام (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَر لَّهَا) اسم مكان وفسر النبي المنزل عليه القرآن أن مستقرها تحت العرش تذهب وتسجد هناك، وإذا كان العرش كرة محيطة فتحتيتها باعتبار مكان خاص من العرش الله ورسوله أعلم به، وظاهر بعض الأحاديث دال على أنه قبة ذات قوائم تحمله الملائكة فوق هذا الجانب من الأرض، فحينئذ يكون وقت الظهيرة أقرب ما يكون إلى العرش، وفي نصف الليل أبعد فحينئذ تسجد وتستأذن في الطلوع، وعن بعض أنه اسم زمان أي الوقت الذي تستقر فيه، وتنقطع جريها وهو يوم القيامة (ذَلِكَ) الجري الخاص (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ) نصب بشريطة التفسير (قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ) هي ثمانية وعشرون ينزل كل ليلة في واحد، فإذا كان في آخر منازله(3/425)
دق واستقوس (حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ): كالعذق وهو العود المعوج الذي عليه الثمر (الْقَدِيمِ): العتيق اليابس (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا) يصح لها، وَيَتَسَهَّلُ عليها (أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ): فتجتمع معه في وقت واحد وتداخله في سلطانه، فتطمس نوره (وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) أي: ولا يطلع القمر بالنهار، وله ضوء يطمس نور الشمس فسلطانها بالنهار وسلطانه بالليل لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر قبل القيامة، فعلى هذا المراد من الليل والنهار آيتاهما وهما النيران، أو المراد لا يدخل النهار على الليل قبل انقضائه ولا يدخل الليل على النهار. أيضًا يتعاقبان بحساب معلوم إلى يوم القيامة، أو المراد أنها لا تجتمع معه في فلك واحد، ولا يتصل ليل بليلٍ لا يكون بينهما نهار (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي: وكلهم، والضمير لهما ولسائر النجوم، فإن ذكرهما مشعر بها أو لهما وهما لاختلاف مطالعهما كأنهما شموس وأقمار، ولإطلاق السباحة التي هي للعقلاء جُمعا بالواو والنون (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) المراد سفينة نوح، فإنها مشحونة مملوءة من الأمتعة والحيوانات، والمراد ذرياتهم التي في أصلاب آبائهم، أي: حملنا فيها آباءهم الأقدمين، وفي أصلابهم ذرياتهم، وتخصيص الذرية؛ لأنه أبلغ في الامتنان، وأدخل في التعجب مع الإيجاز، وقيل: حملنا صبيانهم أو(3/426)
أولادهم الذين يبعثونهم إلى التجارة، فالمراد السفن مطلقًا (وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مّثلِهِ مَا يَرْكَبُون): من السفن التي بعد سفينة نوح، أو المراد الإبل فإنها سفينة بر (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ): مغيث (لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ): ينجون من الغرق (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) أي: لا ينجو لجهة إلا لرحمة منا، ولتمتيع بالحياة إلى أجل مقدر (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) أي من الوقائع التي مضت (وَمَا خَلْفَكُمْ) من أمر الساعة، أو المراد ما تقدم من الذنوب وما تأخر، أي: من مثلها (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ): لتكونوا على رجاء رحمة، وجواب إذا مقدر، وهو مثل أعرضوا عنه، ويدل عليه ما بعده (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي: أمروا بالإنفاق على فقراء الصحابة (قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ): فمن لم يرزق الله(3/427)
مع قدرته لا نعطيه؛ لنوافق مشيئة الله (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) حيث اتبعتم محمدًا، وأمرتمونا بالإنفاق على من أراد الله فقره قيل: هذا قول الله للكفار (وَيَقُولونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ)، يعنون البعث (إِن كنتُمْ صَادِقِينَ مَا يَنظُرونَ): ما ينتظرون (إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً) هي النفخة الأولى (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ): مشتغلون في متاجرهم بخصوماتهم، لا يخطر ببالهم القيامة (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ): لمفاجأة القيامة فيموتون في مكان يكونون فيه، ولا يتمكنون من الرجوع إلى بيوتهم.
* * *
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ(3/428)
وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)
* * *
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ): نفخة البعث (فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ): القبور (إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ): يسرعونَ (قَالُوا يَا وَيْلَنَا) تَعال فهذا أوانك (مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا) يرفع الله عنهم العذاب بين النفختين، فيحسبون أنهم كانوا نيامًا (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) من كلام المؤمنين أو الملائكة في جوابهم كأنه قيل: بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث وأنبأكم به الرسل، أو من كلامهم ردًا على أنفسهم وتحسرًا، وما إما مصدرية أي وعده وصدقهم، أو موصولة أي: الذي وعده الرحمن، وصدقه بمعنى صدق فيه المرسلون (إِنْ كَانَتْ) أي: الفعلة (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ): بمجرد تلك الصيحة، وليس الأمر فيها بعسير (فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا): من الظلم (وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) هذا حكاية ما يقال لهم في ذلك اليوم (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ): يوم القيامة بعد دخول الجنة (فِي شُغُلٍ): عظيم لا يحيط به الأفهام (فَاكِهُونَ): متلذذون خبر بعد خبر، أو الأول ظرف للثاني (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ) من أشجار الجنة وقصورها (عَلَى الْأَرَائِكِ) هي السرر فى الحجال (مُتَّكِئُونَ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ): جمع أنواعها (وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ) يدعون به لأنفسهم، فهو من الدعاء، أو يتمنون من قولهم: ادع عليَّ ما شئت، بمعنى: تمنه عليَّ (سَلَامٌ) أي: لهم سلام الله، أو بدل مما يدعون (قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) يقال لهم(3/429)
قولاً من جهته، أي: يسلِّم الله عليهم بغير واسطة، تعظيمًا لهم، وهذا غاية مناهم (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ): انفردوا عن المؤمنين (أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ): الكافرون عن الضحاك لكل كافر بيت من النار، يُردم بابه بالنار، يكون فيه أبدًا، لا يرى ولا يُرى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) العهد: الوصية، أي: ألم أوصيكم بلسان أنبيائي، وهذا من جملة ما يقال لهم تقريعًا (يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) أن مفسرة أو مصدرية (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي) عطف على أن لا تعبدوا (هَذَا صِرَاطٌ مسْتَقِيمٌ): بليغ في استقامته، إشارة إلى عبادته (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا): خلقَا (كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ): فتدركوا إضلاله وعداوته، يعني أنه أمر واضح لمن له أدنى عقل في الحديث " إذا كان يوم القيامة أمر الله جهنم، فيخرج منها عنق ساطع مظلم، ثم يقول: " ألَمْ أعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِى آدَمَ " إلى قوله: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا): ادخلوها وذوقوا عذابها (الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ): بكفركم في الدنيا (الْيَوْمَ نَخْتِمُ(3/430)
عَلَى أَفوَاهِهِمْ): نمنعها عن التكلم عن السلف، إنه يدعى الكافر والمنافق للحساب، فيعرض عليه عمله فيجحد، ويقول: أي ربّ وعزتك لقد كتب عليَّ الملك ما لم أعلمه فيقول له الملك عملت كذا في يوم كذا؟ فيقول: لا وعزتك أي رب فحينئذ ختم على فيه، ويشهد عليه جوارحه (وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ): بإنطاق الله إياها (بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ): من المعاصي (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا): تعفية شق العين حتى تعود ممسوحة (عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا) أي: ابتدروا (الصِّرَاطَ) أي: الطريق الذي اعتادوا سلوكه نصبه بالمفعولية، لتضمنه معنى ابتدروا، أو بنزع الخافض يعني إلى (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) أي لا يبصرون الطريق (وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ) قردة وخنازير أو حجارة أو أَزْمَنَّاهم (عَلَى مَكَانَتِهِمْ) أي: مكانهم (فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ) أي لا ذهابًا ولا رجوعًا، ولفواصل الآي قال: ولا يرجعون أو معناه، ولا يرجعون إلى ما كانوا عليه وحاصله أنَّهم أحقاء بالطمس والمسخ، ونحن قادرون لكنا نمهلهم لحكمة ورحمة منا.
* * *
(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ(3/431)
فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
* * *
(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ) نطل عمره (نُنَكِّسْهُ) نقلبه (فِي الْخَلْقِ): فتنقص جوارحه بعد الزيادة، وتضعف بعد القوة (أَفَلا يَعْقِلُون): أن القادر على ذلك قادر على البعث، أو على الطمس والمسخ (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ) ردٌّ لما قال قريش: إن محمدًا لشاعر (وَمَا يَنْبَغِي لَهُ): الشعر، عن ابن عباس وغيره: ما ولد عبد المطلب ولدًا ذكرًا، ولا أنثى إلا يقول الشعر إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأما نحو: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)(3/432)
فهو اتفاقي بحسب سليقته من غير قصد إليه (إِنْ هُوَ) أي: ليس الذي أتى به (إِلا ذكْرٌ): عظة من الله (وَقُرْآنٌ مبِينٌ): واضح الدلالة على أنه من الله (ليُنذرَ): الرسول (مَن كَانَ حَيًّا): حيَّ القلب والبصيرة فإنه المنتفع به (وَيَحِق الْقَوْلُ): كلمة العذاب (عَلَى الْكَافِرِينَ): المصرين على الكفر (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا): مما عملناه نحن بلا شريك، وإسناد العمل إلى الأيدي استعارة تفيد المبالغة في التفرد بالإيجاد (أَنْعَامًا) مفعول خلقنا (فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) أي: خلقناها لهم، وملكناها إياهم فهم لها مالكون متصرفون مختصون بالانتفاع (وَذَلَّلْنَاهَا): صيرناها منقادة (لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ): مركوبهم (وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ): من الجلود والأصواف وغيرهما (وَمَشَارِبُ) من اللبن جمع مشرب اسم مكان، أو مصدر (أَفَلاَ يَشْكُرُونَ): ربَّ هذه النعم (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ): طمعًا في أن يتقوا بهم، والأمر بالعكس لأنهم (لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ): لأصنامهم (جُنْدٌ مُحْضَرُونَ): في الدنيا يغضبون للآلهة ويحفظونها أو في الآخرة عند الحساب أي: الأصنام لعبادها جند محضرة عند الحساب؛ ليكون أبلغ في خزيهم؛ لأنَّهُم في هذا اليوم أعداء (فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ): تكذيبهم وكفرهم (إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ): فنجازيهم (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ) أخس(3/433)
شيء وأمهنه (فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ): بين الخصومة لا يتأمل في بدء أمره، ولا يستحي، نزلت إلى آخر السورة حين جاء أبي بن خلف أو العاص بن وائل معه عظم رميم، وهو يذره في الهواء، ويقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ فقال عليه السلام: (نعم يميتك الله ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار). (وَضَرَبَ لنا مَثَلاً)؛ أمرًا عجيبًا (وَنَسِيَ خَلْقَهُ): ابتداء خلقنا إياه (قَالَ) بيان للمثل: (مَنْ يُحْييِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ): بالية اسم لما بلى من العظام غير صفة، قيل: هو كـ بغيًّا في " وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا " [مريم: 20] في أنها معدولة عن فاعلة فإسقاط الهاء؛ لأنها معدولة عن باغية (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ): يعلم كيف يخلقه، لا يتعاظمه شيء (الَّذِي جَعَلَ لَكم مِّنَ الشًّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا) مع مضادة الماء النار، والمراد الزِّنار التي تورى بها الأعراب، وأكثرها من شجري المرخ والعفار الخضراوين (فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) فمن كان قادرًا على هذا، كيف لا يقدر على إعادة الغضاضة فيما كان غضًّا فيبس؟! قيل معناه: الذي بدأ خلق الشجر من ماء حتى صار خضرًا نضرًا، ثم أعاده إلى أن صار حطبًا يابسًا يوقد به النار، قادر كذلك على كل شيء (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ): مع عظم شأنهما (بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم): في الصغر فإن خلق الصغير أسهل عندكم أو مثلهم في أصول الذات، والصفات وهو المعاد (بَلَى) جواب من الله، وفيه إشعار بأنه لا جواب سواه (وَهوَ(3/434)
الْخَلَّاقُ): كثير المخلوقات (الْعَلِيمُ): كثير المعلومات (إِنَّمَا أَمْرُهُ): شأنه (إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ): تَكَوَّن (فَيَكُونُ) فيحدث أي: لا يعسر عليه شيء، ولا يمنع دون إرادته، وقراءة نصب فيكون للعطف على يقول (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) يعني هو المالك المتصرف فيه (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ): للجزاء.
والحمد لله أولاً وآخرًا.
* * *(3/435)
سورة والصافات مكية
وهي مائة وإحدى وثمانون وقيل: اثنتان وثمانونَ آية وخمس ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
* * *
(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) أقسم سبحانه بطوائف الملائكة الصافات (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا): الملائكة الذين يزجرون السحاب سوقًا، أو الآيات القرآنية التي تنهي وتزجر عن القبيح(3/436)
(فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا) أي: الملائكة الذين ينزلون بكلام، ويتلونه على أنبيائه، والعطف بالفاء؛ للدلالة على ترتب الصافات في التفاصيل قيل: أقسم بالذين يصفون في مقابلة العدو الذين يزجرون الخيل للجهاد، ويتلون القرآن مع ذلك، لا يشغلهم عنه تلك الشواغل (إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ): جواب للقسم (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) خبر بعد خبر أو خبر لمحذوف (وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ): مشارق الكواكب أو مشارق الشمس في السنة، واكتفى بذكر المشارق عن المغارب لدلالتها عليها (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) قراءة تنوين زينة مع جر الكواكب يؤيدان الإضافة للبيان، والزينة اسم وقراءة نصب الكواكب يؤيدان الإضافة إلى المفعول، والزينة مصدر أي: بأن زان الله الكواكب، وحسنها والكواكب، وإن كان بعضها في غير سماء الدنيا لكن بأسرها زينة للسماء الدنيا زيناها للناظرين يرونها كجواهر مشرقة على سطحها الأزرق (وَحِفْظًا) أي: وحفظناها حفظًا، أو عطف على بزينة من حيث المعنى، كأنه قيل: إنا خلقناها زينة وحفظًا (مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ): خارج عن الطاعة إذا أراد استراق السمع أتاه شهاب ثاقب فأحرقه (لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى) التسمع: تطلب السماع، ولتضمنه معنى الإصغاء عُدِّي بإلى، والملأ الأعلى الملائكة، وهو كلام منقطع لبيان حالهم، أو صفة و " لا " محذور معنى؛ لأن معناها: لا يمكنون من التسمع، كما لا يخفى أو استئناف،(3/437)
معناها: لا يمكنون من التسمع، كما لا يخفى أو استئناف، والسؤال عما يكون عند الحفظ وكيفيته، لا عن سببه (وَيُقْذَفُونَ): يرمون (مِنْ كُلِّ جَانِبٍ): من جوانب السماء حين صعدوا للاستراق (دُحُورًا): للدحور وهو الطرد أو مدحورين (وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ) مستمر فِي الآخرة (إلا مَنْ خَطِفَ): اختلس (الْخَطْفَةَ) استثناء من فاعل، لا يسمعون بدل منه (فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ): أي لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي يختلس ويأخذ كلام الملائكة بسرعة، فيتبعه كوكب مضيء، فيحرقه وسيأتي تفصيل ذلك في سورة " قل أوحي " إن شاء الله (فاسْتَفتِهِمْ): استخبر مشركي مكة (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا) أي: سلهم أخلقهم أصعب أم خلق الملائكة والسماء والأرض، وما بينهما، والمشارق والكواكب والشهب الثواقب؟ فإذا اعترفوا أنها أصعب فَلِمَ ينكرون البعث؟! والبعث أسهل (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ): لاصق لازق بعضه ببعض، فمن أين لهم أن ينكروا إعادتهم وهم تراب (بَلْ عَجِبْتَ): يا محمد من إنكارهم للبعث، أو من قدرة الله على هذه(3/438)
الخلائق العظيمة (وَيَسْخَرُونَ): منك ومن تعجبك، وقراءة (عَجِبْتُ) بضم التاء بمعنى(3/439)
عجبت من إنكارهم البعث، أو بلغ كمال قدرتي أني تعجبت منه، والعجب من الله تعظم تلك الحالة (وَإِذَا ذُكِّرُوا) وعظوا بشيء (لاَ يَذْكُرُونَ) لا يتعظون به (وَإِذَا رَأَوْا آيةً) كانشقاق القمر (يَسْتَسْخِرُونَ) يبالغون في السخرية (وَقَالُوا إِنْ هَذَا) أي: ليس ما نراه (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) تكرار الهمزة للتأكيد في نفي البعث (أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ) عطف على محل إن واسمها، أو على ضمير لمبعوثون، وجاز للفصل بالهمزة (قُلْ نَعَمْ) تبعثون اكتفى به في الجواب؛ لظهوره مع ما يدل عليه من المعجزات والدلائل (وَأَنْتُمْ دَاخرُون) صاغرون أذلاء (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ) أي: إذا كان ذلك فإذا هي أي: البعثة صيحة واحدة، وهي النفخة الثانية، فالفاء جواب الشرط مقدر (فإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ) أحياء يبصرون، وينتظرون أمر الله (وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا) احضر فهذا أوانك (هَذَا يَوْمُ الدِّينِ) يوم الجزاء (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ) بين الحق والباطل (الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ): وهذا من كلام الملائكة، والمؤمنين تقريعًا لهم وتوبيخًا.
* * *
(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)(3/440)
مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)(3/441)
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
* * *
(احْشُرُوا الذِينَ ظَلَمُوا) هذا من أمر الله للملائكة (وَأَزْوَاجَهُمْ): أشباههم يعني احشروا عابدي الصنم بعضهم مع بعض، وعابدي الكواكب كذلك، وعن عمر صاحب كل ذي ذنب مع صاحب ذلك الذنب أو قرناءهم من الشياطين أو نساءهم المشركات (وَمَا كَانُوا يَعبدُونَ مِن دُونِ اللهِ): من الأصنام (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ): عرفوهم طريقها ليسلكوها (وَقِفُوهُمْ): في الموقف (إِنَّهُم مسْئُولُونَ): عن عقائدهم وأعمالهم (مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ): لا ينصر بعضكم بعضًا، وهذا للتوبيخ (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ): منقادون لعجزهم (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ): يسأل بعضهم بعضًا على طريق اللوم (قَالُوا): الأتباع للرؤساء، أو الكفار للشياطين (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ): عن قبل الخير فزينتم الباطل فحسبناه حقًا، فإن من أتاه الشيطان من جانب اليمين، أتاه من قبل الدين، فلبس عليه الحق، أو عن القوة، والقهر فألجأتمونا على الضلال. قيل: اليمين الحلف، فإن رؤساءهم يحلفون أنهم على الحق (قالُوا) أي: الرؤساء، أو الشياطين في جوابهم (بَل لمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِين) أي: الكفر من قبل أنفسكم (وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطانٍ): تسلط (بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ): ضالين (فَحَقَّ عَلَيْنَا): جميعنا (قَوْلُ رَبِّنَا): كلمة العذاب (إِنَّا لَذَائِقُونَ): العذاب (فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ) أي: أحببنا أن تكونوا مثلنا، فلا تلومونا، فقوله: إنا مستأنفة للتعليل (فَإِنَّهُمْ): كلهم (يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ(3/442)
مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلِكَ) مثل ذلك الفعل (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمين): بالمشركين (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهم): في الدنيا (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ): عن أن يقولوها وَيَقُولُونَ (وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ) أرادوا به أصدق الخلائق وأعقلهم عليه أكمل الصلاة، وأفضل السلام (بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) يعني: أتى بما أتى به الأنبياء ذوو المعجزات (إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي: مثله (إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) عن كدر الكفر، والنفاق استثناء متصل إن كان الخطاب في أنكم، وفي ما تجزون لجميع المكلفين (أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ): خصائصه من طيب الطعم والرائحة وحسن المنظر أو وقته، قال تعالى: (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) [مريم: 62] (فوَاكه) بدل الكل أو خبر محذوف، ورزق أهل الجنة ليس إلا للتلذذ (وَهُم مُّكْرَمُون): بخلاف الكفرة (في جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ظرف أو حال، أو خبر بعد خبر (عَلَى سُرُرٍ متَقَابِلِينَ): ناظرين بعضهم بعضًا، وعلى سرر ظرف مقدم، أو حال أو خبر (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ) تسمى الخمر نفسها كأسًا (مِنْ مَعِينٍ): من نهر جارٍ على وجه الأرض كما يجري الماء (بَيْضَاء): لا كدرة فيها (لَذةٍ للشارِبِينَ) كأن الخمر نفس اللذة وعينها أو تأنيث لذّ بمعنى لذيذ، وهما صفتان للكأس (لَا فِيهَا غَوْلٌ) غائلة، وفساد من فولتج ونحوه كخمر الدنيا (وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ): يسكرون هو من عطف الخاص على العام،(3/443)
يعني لا فيها فساد أصلاً سيما أعظم المفاسد، وهو زوال العقل (عِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ): نساء عفيفات قصرن أبصارهن على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم (عِينٌ): حسان الأعين جمع عيناء (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) شُبهن ببيض النعام المصون من الغبار ونحوه. قيل: أحسن ألوان البدن بياض مخلوط بأدنى صفرة، أو المراد القشعر الذي بين قشرة العليا ولباب البيضة. نقله ابن جرير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) عطف على يطاف عليهم أي: يشربون فيتحادثون على الشراب بأحوال مرت بهم في الدنيا (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ): في أثناء المكالمة (إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ): جليس كافر (يقُولُ): الجليس تعجبًا أو توبيحًا (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ): بالبعث عن بعض المراد منهما الرجلان اللذان في سورة(3/444)
الكهف " واضرب لهم مثلاً رجلين " [الكهف: 32]، (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ): مجزيون (قَالَ) الله لهم أو ذلك القائل (هَلْ أَنتم مطلِعُون): إلى النار لأريكم ذلك القرين (فَاطَّلَعَ): هذا القائل (فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ) وسطها، ولاستواء الجوانب سمي وسط الشىء سواء، وعن كعب الأحبار: إن في الجنة كوى إذا أراد أحد ان ينظر إلى عدوه في النار، اطلع عليها، فازداد شكرًا (قَالَ): القائل لقرينه (تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ): لتهلكني بالإغواء (وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي): بالهداية (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ): معك في النار (أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) أي: نحن مخلدون منعمون، فما نحن بالذين شأنهم الموت فالهمزة للتقرير، والفاء عطف على محذوف مقول آخر للمؤمن على سبيل الابتهاج (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى): التي كانت في الدنيا، منصوب بمفعول مطلق من اسم الفاعل (وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ): كالكفار عن ابن عباس لما قال الله لأهل الجنة (كلوا واشربوا هنيئًا) أي: بلا موت فعندها قالوا: " أفما نحن بميتين " إلخ قال الله تعالى: لا. قالوا (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وأما قوله: (لِمِثْلِ هَذَا): النعيم المقيم (فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) فهو إما من كلام الله وعليه الأكثرون، أو من كلام أهل الجنة تحدّثًا بنعمة الله وتبجحًا، ثم قال لهم: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا) منصوب على التمييز أو الحال، وفيه دلالة على أن لهم غير ذلك من نعم الله(3/445)
(أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) هي نزل أهل النار (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ): ابتلاء في الدنيا، فإنهم كذبوا الرسل، وقالوا: كيف يكون في النار شجرة؟! قال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) [الإسراء: 60] (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ): منبتها قعرها، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها كما أن شجرة طوبى ما من دار في الجنة إلا وفيه منها غصن (طَلْعُهَا): ثمرها (كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ) في تناهي قبح منظره، وهو تشبيه تخييلي، فإن المركوز في طباع الناس أن أحسن الصور صورة الملك، وأقبحها صورة الشيطان قيل: العرب تسمي الحية القبيحة المنظر شيطانًا، وقيل هي شجرة قبيحة مرة منتنة، تسميها العرب رءوس الشياطين (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا): من طلعها (فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ): لغلبة الجوع أو يكرهون على تناولها، فهم يتزقمون، وفي الحديث (لو أن قطرة من الزقوم قطرت على بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم) (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا): على الزقوم بعد ما شبعوا منها، وغلبهم العطش (لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ): لشرابًا من ماء مغلي أو مشوبًا ممزوجًا من حميم يمزج لهم الحميم بما يسيل من فروج الزناة، وعيون أهل النار (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) ذلك لأنَّهُم يوردون الحميم لشربه، وهو خارج من النار أو الحميم في طرف منها وجانب، والمرجع بعد الشرب إلى أصلها (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا) أي: وجدوا (آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ) تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد (فَهُمْ(3/446)
عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُون): يسرعون كأنهم في غاية مبادرتهم إلى طريق آبائهم مضطرون إلى الإسراع (وَلَقَدْ ضَل قَبْلَهُمْ): قبل أمتك (أَكْثَرُ الأَولِينَ) من الأمم الماضية (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم منذِرِينَ): أنبياء أنذروهم بأس الله (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُنذَرِينَ): تأمل عاقبتهم، فإن عاقبتهم هلاك وفظاعة " إلا عِبَادَ الله الْمُخْلَصِينَ) كأنه قال تأمل فإن عاقبة جميعهم الهلاك إلا من أخلص دينه لله وحَّده، والمقصود خطاب الأمة وأخبار الأمم كانت مسطورة في كتب أهل الكتاب مشهورة منهم في العرب.
* * *
(وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا(3/447)
تَنْحِتُونَ (95) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
* * *
(وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ): حين أيس من إيمان قومه. فقال: (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر: 10] (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أي فأجبناه أحسن إجابة، ووالله لنعم المجيبون نحن (وَنَجيَّنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكرْبِ الْعَظِيمِ): أذى قومه (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ) مات من كان معه في السفينة، سوى أولاده وأزواجهم، وأولاده ثلاثة: سام، وهو أبو(3/448)
العرب، وفارس والروم، ويافث، وهو أبو الترك وسقالبة، ويأجوج ومأجوج، وحام وهو أبو القبط والسودان والبربر (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْاَخِرِينَ): من الأمم (سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ) مفعول تركنا، وهو من كلام المحكي، كقرأت سورة أنزلناها، أي: يسلم جميع الأمم عليه تسليمًا (في الْعَالَمِينَ) متعلق بما تعلق على نوح به، والغرض ثبوت هذا الدعاء في كل خلق كما تقول: السلام عليك في كل زمان ومكان، وقيل: مفعول تركنا محذوف أي: الثناء الجميل، والجملة بعده استئناف يدل عليه (إِنَّا كَذَلِكَ): مثل هذه التكرمة (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ): من أحسن في العبادة (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) علة للإحسان، ومنه علم أن الإيمان هو القصارى في المدح (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) كفار قومه (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ): أهل دينه، وهو من على منهاجه وسنته (لإبْرَاهيمَ) وبينهما هود، وصالح وفي جامع الأصول أن بينهما ألفًا ومائة واثنتين وأربعين سنة (إِذ جَاء ربَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) من الشك، أو من العلائق، ظرف للشيعة لما فيها من معنى المشايعة أي: ممن شايعه على طريقه حين جاء أو تقديره اذكر إذ جاء (إِذْ قَالَ) بدل من الأول أو ظرف لـ سليم أو جاء (لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ): أنكر عليهم عبادة الأصنام (أَئِفْكًا(3/449)
آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) أي: تريدون آلهة دونه للإفك، أو آفكين أو تريدون الإفك، وآلِهَةً بدل منه ففيه مبالغة لا تخفى (فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ): إذا لقيتموه ماذا يفعل بكم، وقد عبدتم غيره، أو حتى تركتم عبادته (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ): خرج قومه إلى عيدهم، وأرادوا خروجه معهم، فقال: لا أخرج لأني سقيم، أراد التورية أي سأسقم أو سقيم النفس من كفرهم، ولما كان غالب أسقامهم الطاعون خافوا السراية، وخلوه، وكان قومه نجامين أوهمهم استدلاله على مرضه بعلم النجوم، أو المراد أنه تفكر فقال: إني سقيم، والعرب تقول لمن تفكر نظره إلى النجوم كذا قال كثير من السلف (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ): هاربين إلى عيدهم خوفًا عن سراية الطاعون (فَرَاغَ): ذهب بخفية (إِلَى آلِهَتِهِمْ) بعد ما ذهبوا (فَقَالَ):(3/450)
للأصنام سخرية (أَلا تَأكُلُونَ): من الأطعمة التي حواليكم، فإن قومه يضعون الأطعمة بين أيديهم ويرجعون ويأكلون للتبرك (مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ): تعديته بعلى للاستعلاء وأن الميل لمكروه (ضَربًا بِالْيَمِينِ) مصدر لراغ عليهم؛ لأنه بمعنى ضربهم أو لمحذوف أو حال بمعنى ضاربًا ضربهم باليد اليمني، لأنه أشد، وقيل بالقسم الذي سبق منه، وهو " تالله لأكيدن أصنامكم " (فأَقْبَلُوا إِلَيْهِ) إلى إبراهيم بعد ما رجعوا ورأوا إهلاك آلهتهم، وبحثوا عن كاسرها، وظنوا أنه هو (يَزِفُّونَ): يسرعون (قَالَ): لهم إبراهيم (أَتَعبدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) أي: وما تعملونه بقرينة ما تنحتون يعني: هل المخلوقات لخالق واحد يعبد أحدهما الآخر، وكلمة ما عامة تتناول ما يعملونه من الأوضاع والحركات والمعاصي والطاعات وغيرها، والمراد بأفعال العباد المختلف فيها هو ما يقع بكسب العبد، ويستند إليه مثل الصوم والصلاة والأكل، والشرب ونحوهما مما يسمى الحاصل بالمصدر لا نفس الإيقاع الذي هو من الاعتبارات العقلية كما تقول: يفعلون الزكاة يقيمون الصلاة يعملون الصالحات والسيئات، ولما غفل عن هذه النكتة كثير من الفضلاء بالغوا في نفي كون ما موصولة والإنصاف أن الآية محتملة لما قررنا ولأن يكون المراد ما تعملونه من الأصنام فلم يبعد الاستدلال مع الاحتمال والله أعلم (قَالُوا ابنوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ): في النار الشديدة بنوا له حائطًا من الحجر طوله ثلاثون وعرضه عشرون، وأوقدوا فيه النار بملئه، وطرحوه فيه (فأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا): شرًّا (فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفَلِينَ): الأذلين بإبطال كيدهم وتفصيل القصة في سورة الأنبياء (وقالَ): بعد خروجه من النار (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى ربي): إلى مرضاة ربي (سيَهْدِينِ): إلى صلاح داري، فهاجر إلى الشام (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أي: بعض الصالحين يعني(3/451)
الأولاد (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) فيه بشارة أنه ابن ينتهي في السن إلى أن يوصف بالحلم، وهو إسماعيل على الأصح نقلاً ودليلاً فإن إسماعيل هو الذي وهب له إثر الهجرة ولأن البشارة بإسحاق بعد معطوفة على هذه البشارة، وكيف لا وإسماعيل هو الذي كان بمكة والمناسك، والذبح ما كانتا إلا فيها قال بعض العلماء: من(3/452)
تحريفات اليهود أنه إسحاق؛ لأنه أبوهم وإسماعيل أبو العرب، ومن زعم من السلف أنه إسحاق، وهو الذي سمع ذلك من كعب الأحبار حين يروي من الإسرائيليات، وليس فيه حديث غير ضعيف، والرواية عن علي، وابن عباس - رضى الله عنهما - مختلفة (فَلَمَّا بَلَغَ): الغلام (مَعَهُ السَّعْيَ) يعني سنًّا يسعى مع أبيه في أعماله، أو في الطاعات يعني شب وأطاق ما يفعله أبوه من العمل، ويتصرف معه، ويعينه، ومعه(3/453)
ظرف للسعي المقدر عند من لم يجوز تقدم الظرف أيضًا على المصدر (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) ورؤيا الأنبياء وحي، ولما تكرر رؤياه ثلاث ليال قال: أرى بلفظ المضارع (فانظُرْ مَاذَا تَرَى): من المصلحة هو من الرأي، لا يطلب إلا مفعولاً واحدًا هو ماذا، اختبر صبره من صغره على طاعة الله فشاوره (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) أي: ما تؤمر به، يعني: ليس هذا من مقام المشاورة، فإن الواجب إمضاء أمر ربك (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ): على حكم الله (فَلَمَّا أَسْلَمَا): انقاد لأمر الله، وعن بعض المفسرين: تشهد أو ذكرا اسم الله؛ إبراهيم على الذبح وإسماعيل شهادة الموت (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ): أكبَّهُ على وجهه؛ ليذبحه من قفاه، لئلا يرى وجهه عند الذبح فيكون أهون عليه (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ) أن مفسرة (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا): بجزم عزمك وجواب لا محذوف أي: لما أسلما وكذا وكذا كان ما كان من وفور الشكر والسرور لهما والثناء الحسن (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ): ليس من تتمة النداء، بل تم الكلام ثم قال: هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره، ونجعل لهم من أمرهم فرجًا (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ): الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ) لذبح اسم بها يذبح (عَظِيمٍ) يعني: عظيم القدر، أو عظيم الجثة، والأصح أنه كبش أملح أقرن، وعن كثير من السلف(3/454)
أنه كبش قربه ابن آدم فتقبل منه، وكان في الجنة فأتى به جبريل، والمنقول أن قريشًا توارثوا قرني الكبش الذي فدي به أبوهم خلفًا عن سلف، وجيلاً عن جيل، وكان في الكعبة إلى أن بعث الله نبينا صلى الله عليه وسلم (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) قد مر تفسيره في هذه السورة (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ) أي: بوجوده (نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) حالان مقدرتان أي: بشرناه به مقدرًا نبوته، وكونه من الصالحين وعند من يقول: الذبيح إسحاق، فالبشارة الثانية بوجوده مقيدًا بنبوته، والمقصود الأصلي في هذه المرة البشارة بالنبوة، وأما الصلاح بعد النبوة، فلتعظيم شأن الصلاح، وأنه الغاية والمقصود الأصلي (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ): على إبراهيم في أولاده (وَعَلَى إِسْحَاقَ) فإن كثيرًا من الأنبياء من نسله (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ): إلى نفسه بالإيمان والطاعة (وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ): بالكفر (مُبِينٌ): ظاهر ظلمه.
* * *
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ(3/455)
لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
* * *
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ): أنعمنا بالنبوة وغيرها عليهما (وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ): تغلُّب فرعون (وَنَصَرْنَاهُمْ) أي: هما والقوم (فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ): على القبط (وَآتيْنَاهُمَا الْكِتَابَ): التوراة (الْمُسْتَبِينَ): البليغ في بيانه (وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) سبق في هذه السورة تفسيره (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) عن(3/456)
بعض: هو إدريس، وعن بعض: هو نبي من أنبياء بني إسرائيل من أسباط هارون بن عمران (إِذ قَاْلَ) ظرف لمن المرسلين (لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُون): عذاب الله (أَتَدْعُون): تعبدون (بعْلاً): ربًّا، والبعل الرب، قاله ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، والسدي بلغة اليمن، أو هو اسم لصنم كان لأهل " بك " من الشام، وهو المسمى حينئذٍ ببعلبك، وقيل: امرأة اسمها بعل يعبدونها (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ): تتركون عبادته (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) وقراءة النصب بالبدل (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ): في العذاب (إِلا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء من فاعل كذبوه، لا من ضمير محضرون (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ) لغة في إلياس، كميكال، وميكائيل، وقيل: جمع منسوب إليه بحذف ياء النسبة كأعجمين، والأشعرين، وقراءة آل ياسين، قيل: ياسين هو أبو إلياس، فآل إلياس، وقيل ياس هو الاسم، والياء، والنون زائدة في لغة السريانية، فعلى هذا الآل مقحم، كآل موسى، وهارون، والمراد من ياسين إلياس، وقيل: آل محمد وهو بعيد جدًّا (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ) أي: وقعت في الباقين في العذاب (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) قد مرَّ تفسيره (وَإِنَّكُمْ): يا أهل مكة (لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ): على منازلهم في طريقكم إلى الشام (مُصْبِحِينَ): داخلين في الصباح (وَبِاللَّيْلِ) يعني نهارًا وليلاً (أَفَلَا تَعْقِلُونَ): أليس لكم عقل فتعتبرون بهم.
* * *(3/457)
(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
* * *(3/458)
(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ): هرب (إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ): المملوء (فَسَاهَمَ): فقارع أهل الفلك (فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ) صار من المغلوبين بالقرعة، وذلك لأن البحر اشتد عليهم، فقالوا: فينا من بشؤمه اشتد البحر فتساهموا على من يقع عليه القرعة يلقى في البحر، فوقعت عليه ثلاث مرات، فألقى عليه السلام نفسه في البحر (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ): ابتلعه (وَهُوَ مُلِيمٌ) أي: ما يجب أن يلام عليه، أو مليم نفسه (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ): لولا ما تقدم له من العمل في الرخاء، أو من المصلين في بطن الحوت، قد نقل أنه لما استقر في بطنه، ظن أنه قد مات، فحرك رجليه فإذا هو حيٌّ، فقام وصلى، وهو في بطنه، أو من المسبحين بقوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) بأن يطول عمر الحوت، ويكون بطنه سجنًا له (فنَبَذْنَاهُ): طرحناه (بِالْعَرَاء): الأرض الخالية التي لا نبات فيها على جانب دجلة، وقيل: بأرض اليمن (وَهُوَ سَقِيمٌ):(3/459)
كفرخ ليس عليه ريش، ومدة لبثه في بطنه، ثلاثة، أو سبعة، أو أربعون، أو يوم واحد (وَأنبَتْنَا عَلَيْهِ) أي: فوقه (شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ): شجرة الدباء ليتظلل بها، وعن بعض كل شجرة لا ساق لها، فهو يقطين، وعن بعض هو كل شجرة تهلك من عامها (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ) هم قومه الذين هرب عنهم، والمراد إرساله السابق، أو إرسال ثانٍ إليهم أو إلى غيرهم (أَوْ يَزِيدُونَ): بل يزيدون، أو يزيدون على تقديركم، وظنكم كمن يرى قومًا فيقول: هؤلاء مائة أو أكثر (فَآمَنُوا): المرسل إليهم (فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ): إلى وقت آجالهم (فَاسْتَفْتِهِمْ) أي: سل أهل مكة، وهو سؤال توبيخ عطف على قوله (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا)، الذي وقع فِي أول السورة ساق الكلام موصولاً بعضه ببعض، ثم أمره ثانيًا باستفتائهم (أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ) حيث قالوا: إن الملائكة بنات الله (وَلَهُمُ الْبَنُونَ) لزم من كفرهم هذا التجسيم، فإن الولادة للأجسام، وتفضيل أنفسهم على ربهم، حيث جعلوا أرفع الجنسين لهم، واستهانتهم بالملائكة (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ): خلقنا إياهم بحضرتهم، فإن الأنوثة مما تعلم بالمشاهدة (أَلا إِنَّهُم منْ إِفْكِهِم): بهتانهم (لَيَقولُونَ وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ): فإنه محال على الله سبحانه (أَصْطَفَى(3/460)
الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) استفهام استبعاد، وأما قراءة كسر الهمزة فعلى حذف همزة الاستفهام لدلالة أم بعدها عليها، وقيل بدل من ولد الله، أو بتقدير القول أي: لكاذبون في قولهم أصطفى (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) بمثل هذا (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) إنه سبحانه مقدس عن مثل ذلك (أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ): حجة واضحة من السماء على ما تقولون (فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ): الذي أنزل عليكم هذا (إِنْ كنتُمْ صَادِقِينَ وَجَعَلُوا بَينَهُ): بين الله (وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا) قالوا الملائكة بنات الله. فقال أبو بكر رضي الله عنه: من أمهاتهن؟! قالوا: سروات الجن أو زعموا عليهم لعائن الله أن الله سبحانه، وإبليس أخوان، أو المراد من الجنة الملائكة سُمُّوا جنة؛ لاجتنانهم عن الأبصار (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُون) أي: الجن يعلمون أن القائلين بهذا، أو أن الجنة لمحضرون والعذاب يعني: الكفار يسوّون الجن باللهِ، والجن يعلمون كذبهم، وعلى قول من فسر الجنة بالملائكة معناه: ولقد علمت الملائكة أن الكافرين القائلين بذلك لمحضرون في العذاب (سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفون): من الولد والنسب (إِلا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) منقطع من المحضرين أي: لكن المخلصون ناجون، أو متصل من ضمير جعلوا أو يصفون إن فسر بما يعمهم (فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ) أي أنتم وأصنامكم ما أنتم بفاتنين على الأصنام يعني: لا تُغوون، ولا تضلون أنتم أحدًا إلا من هو في علم الله أنه يدخل الجحيم،(3/461)
قيل: ضمير عليه لله، والخطاب في أنتم لهم، ولآلهتهم على تغليب المخاطب، أي: ما أنتم على الله بمفسدين الناس بالإغواء إلا من سبق في علمه شقاوته، وقيل وما تعبدون سادّ مسد الخبر ككل رجل وضَيْعَتَهُ، أي: إنكم وآلهتكم قرناء، ثم ابتدأ فقال: " ما أنتم عليه " إلخ (وَمَا مِنَّا): أحد (إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ): في السماوات يعبد الله فيه لا يتجاوزه، أو في القربة، والمعرفة، وهذا حكاية اعتراف الملائكة بالعبودية ردًّا على عبدتهم، وقيل من قوله: سبحان الله من كلام الملائكة كأنه قال: ولقد علمت الملائكة أن القائلين بذلك معذبون قائلين سبحان الله عما يصفون، لكن عباد الله المخلصين برآء مما يصفونه، ثم التفتوا إلى الكفرة، وجاءوا بالفاء الجزائية أي: إذا صح أنكم مفترون، والله منزه فاعلموا أنكم وآلهتكم لا تقدرون على أن تفتنوا على الله عباده إلا أشقياء مثلكم، ثم رجعوا من الاحتجاج وأظهروا العبودية واعترفوا بها (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ): في طاعة الله (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ): الله عما لا يليق به، أو المصلون (وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ) أي: وإن الشأن كان المشركون ليقولون: (لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا): كتابًا (مِّنْ الأَوَّلِينَ): من كتبهم (لَكُنَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ)(3/462)
لأخلصنا العبادة له، ولم نخالفه كما خالفوا (فَكَفَرُوا بِهِ) أي: بالذكر لما جاءهم (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة كفرهم (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا): وعدنا بالنصر (لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ) وهذه الكلمة هي قوله: (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ): في الدارين، أو في الآخرة، عن ابن عباس: إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة (فَتَوَلَّ): أعرض (عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ): إلى وقت مؤجل ومدة يسيرة يأتيك نصرك (وَأَبْصِرْهُمْ): حينئذ كيف يذلون (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) عزك ونصرك، وسوف للوعد لا للتبعيد (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ) روي أنه نزلت حين قالوا عند نزول قوله فسوف يبصرون: متى يكون هذا؟ (فَإِذَا نَزَلَ) أي: العذاب (بِسَاحَتِهِمْ) بفنائهم (فَسَاءَ): بئس (صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ): صباحهم، واللام للجنس، والمراد من الصباح اليوم أو الوقت الخاص فإن البلايا يطرقن أسحارًا شبهه بجيش أنذر بعض نصاح القوم بهجومه قومه، فلم يلتفتوا إليه، وما دبروا تدبيرًا حتى أناخ بغتة بفنائهم (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) وعد إلى وعد ووعيد إلى وعيد، قيل: الأول عذاب الدنيا، والثاني عذاب الآخرة، وفي إطلاق أبصر ويبصرون عن التقييد بالمفعول فائدة، وهي أنه يبصر وأنَّهم يبصرون ما لا يحيط به الوصف من أنواع المسرة وأجناس المساءة (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ) فإن العزة له تعالى يعز من يشاء (عَمَّا(3/463)
يَصِفُونَ) أي: المشركون (وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) الذين سبقت الكلمة لهم لا عليهم (وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ): على ما أنعم، وهذا تعليم للمؤمنين عن علي - رضي الله عنه -: من أحبَّ أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر، فليكن في آخر كلامه من مجلسه سبحان ربك رب العزة إلى آخر السورة، وقد رفع هذا المعنى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهين، وروي الطبراني عنه عليه السلام أنه(3/464)
قال: (من قال دبر كل صلاة سبحان ربك رب العزة ... ) إلخ، ثلاث مرات فقد اكتال بالمكيال الأوفى من الأجر).
والحمد لله على ما هدانا.
* * *(3/465)
سورة ص مكية
وَهِى ثمانٍ وثمانونَ آيةً وَخَمْسُ ركوعَاتٍ
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)
* * *
(ص وَالْقُرْآنِ) إن كانت اسمًا للسورة فتقديره: هذه صاد، ومضمون هذه الجملة، هو المقسم عليه بناء على ما يتضمنه من الأنباء عن الإعجاز والاشتهار به كما تقول: هذا حاتم والله أو معناه صدق الله، أو صدق محمد - عليه السلام -، وعلى كل وجه جواب القسم مقدم، وقيل: قسم حذف حرفه، والواو للعطف، والجواب محذوف أي: إنه لمعجز حق (ذِي الذِّكْرِ) أي: ذي الشرف، والشهرة، أو ذي التذكير والعظة (بَلِ(3/466)
الذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ): استكبار عن الحق (وَشِقَاقٍ): خلاف لله ورسوله، والتنوين فيهما للتعظيم، والإضراب عما يتضمنه الكلام من وجوب الإذعان، كأنه قيل هو معجز والله والكفار لا يقرون، بل يصرون على العناد (كمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ) وعيد لهم على عدم الإذعان (فَنَادَوْا) استغاثة وتوبة عند حلول العذاب (وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ): لا مشبهة بليس، أو للجنس زيدت عليها التاء للمبالغة، كما في ثم ورب، وخُصَّتْ بلزوم الأحيان، وحذف أحد المعمولين، أي: ليس الحين حين فرار ونجاة وتأخر أو لا من حين مناص لهم، قال البغوي: لات بمعنى ليس بلغة اليمن (وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذرٌ منْهُمْ): رسول بشر من أنفسهم (وَقَالَ الْكافِرُونَ) أي: فقالوا لكفرهم (هَذَا سَاحِرٌ) لمعجزاته (كَذابٌ) لما ينسب إلى الله تعالى (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا) نسب الألوهية التي للآلهة لاله واحد فيقول: لا إله إلا الله (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) بليغ في التعجب، نزلت حين اجتمعت سراة قريش عند أبي(3/467)
طالب قائلين: اقض بيننا وبين ابن أخيك بأن يرفض ذكر آلهتنا ونذره وإلهه، فأجاب - عليه من الله أشرف صلاة وألطف سلام - بعد ما جاء وأخبره عمه عنهم: (يا عم أفلا أدعوهم إلى كلمة واحدة يدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم) فقال -من بين القوم- أبو جهل: ما هي لنعطينكها وعشر أمثالها، فقال: (قولوا لا إله إلا الله) فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم، وذلك قوله تعالى: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ): الأشراف (مِنْهُمْ) من القوم عن محضر أبى طالب قائلين بعضهم لبعض: (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا): اثبتوا (عَلَى آلِهَتِكُمْ): على عبادتها وأن مفسرة؛ لأن إطلاقهم يدل على القول فإن المنطلقين عن مجالس التقاول يتكلمون حال الانطلاق في ذلك الأمر الذي كان فيه تقاولهم بحسب جري العادة (إِنَّ هَذا لَشَيْء يُرَادُ) أي: هذا الذي يدعوننا إليه لشيء يريده محمد ويتمناه لكن لا يصل إليه، أو لشيء من ريب الزمان بنا فلا مرد له (ما سَمِعْنَا بِهَذا): الذي يقوله (في الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ): في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا أو ملة عيسى، فإن ملة عيسى عند قريش آخر الملل وهم مثلثة، وقيل: في الملة حال من اسم الإشارة، كأنه قال: ما سمعنا أحدًا من أهل الملل، ولا الكهان يقول بالتوحيد كائنًا في الملة المترقبة (إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ): كذب اختلقه (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا) وليس له علينا مزيد شرف، فكيف يختص بهذا الشرف؟! (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي): من القرآن في أنه حق أو باطل، وأما قولهم إن هذا إلا اختلاق، وهذا ساحر كذاب، وأمثاله، فلا يتفوهون به إلا عنادًا من غير اعتقاد في صميم قلوبهم (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ): لم يذوقوا عذابي، فإذا ذاقوه زال عنهم الشك من العناد والحسد وحين(3/468)
العذاب لم يبق عناد (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ): بل أعندهم خزائن رحمته حتى يعطوها من أرادوه، ويصرفوا عمن لم يريدوا، فيتخيروا للنبوة التي هى أعلى رحمة من أرادوا من صناديدهم؟! وإنما رحمته بيده يعطيها من يشاء (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا): إن كان لهم ذلك (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ): فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء من أبوابها وطرقها من سماء إلى سماء، وليأتوا منها بالوحي إلى من يستصوبون، وهذا تهكم بهم، وأي تهكم (جندٌ ما) أي: هم جند ما من الكفار، وما مزيدة للتقليل (هنالِكَ مَهْزُومٌ): مكسور (مِّنَ الأَحْزَابِ): هنالك ظرف لمهزوم الذي هو صفة جند، وهنالك إشارة إلى بدر، فإنه مصارعهم أو صفة أخرى لجند، وفيه تحقيرهم (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ): ذو الملك الثابت، وعن الكلبي له أوتاد يعذب الناس عليها إذا غضب، وعن قتادة وعطاء له أوتاد وأرسان يلعب بها بين يديه (وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ) وهم قوم شعيب (أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ) مبتدأ وخبر أي: الأحزاب الذين جعل الجند الهزوم بعضًا منهم هم هؤلاء الذين أخبر عنهم بأنه وجد منهم التكذيب (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ): ما كل واحد منهم مخبرًا عنه بخبر إلا(3/469)
مخبرًا عنه بأنه كذب جميع الرسل، لأن الرسل يصدق كل منهم الكل، فتكذيب واحد منهم تكذيب للكل (فَحَقَّ عِقَابِ): فوجب عقابي عليهم.
* * *
(وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
* * *(3/470)
(وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاء) أي: أهل مكة (إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً) هي نفخة الفزع (مَّا لَهَا مِن فوَاقٍ): من رجوع أي: نفخة واحدة لا تُثنَّى ولا تردَّد أو ما لها من توقف مقدار فواق، وهو ما بين الحلبتين (وَقَالُوا رَبنا عَجِّل لنا قِطَّنَا): نصيبنا من العذاب الذي يعد من يدعي النبوة، أو كتابنا الذي فيه أعمالنا ننظر فيه، أو نصيبنا من الجنة التي بعدها (قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) قالوا ذلك استهزاء، فإنهم غير مؤمنين بالجنة ولا بالنار ولا بيوم الحساب (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ): من السخرية (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ) أي: اصبر واذكر قصته كيف لقي من توبيخ الله تعالى بسبب زلة يسيرة (1)، فصُنْ نفسك عن أن تزل فيما أمرتك من تحمل أذاهم، وقيل معناه: اصبر وعظم أمر معصية الله تعالى في أعينهم بذكر قصة داود (ذَا الأَيْدِ): ذا القوة في الطاعة (إِنَّهُ أَوَّابٌ): رجاع إلى الله تعالى في أموره وشئونه (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ) أي مسبحات معه (بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ) وقت الإشراق حين تشرق الشمس وهو وقت الضحى (وَالطيْرَ) عطف على الجبال (محْشُورَةً): مجتمعة محبوسة إليه من كل جانب (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ): مطيع أو رجاع إلى التسبيح كلما رجع داود إلى التسبيح، فهذه الأشياء كانت ترجع إلى تسبيحها (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ): قويناه بالهيبة وكثرة الجنود (وَآتيْنَاهُ
__________
(1) عبارة فيها سوء أدب مع نبي الله داود - عليه السلام - وأين هذه الزلة والآيات تفتتح بالثناء عليه - عليه وعلى نبينا أزكى الصلاة وأتم التسليم.(3/471)
الْحِكْمَةَ): الفهم والعقل والإصابة في الأمور أو النبوة (وَفَصْلَ الْخِطَابِ): الفاصل من الخطاب بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) الخصم في الأصل مصدر، فلذلك أطلق على غير واحد، والمراد من هذا الاستفهام التشويق إلى استماعه (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ): تصعدوا سور الغرفة ونزلوا إليه، وإذ ظرف للنبأ على حذف مضاف أي: قصة نبأ الخصم، أو متعلق بمحذوف أي: نبأ تحاكم الخصم، أو بالخصم لما فيه من معنى الفعل (إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ) بدل من إذ تسوروا، أو ظرف لتسوروا (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) إذ دخلوا بغير إذنٍ في غير وقت دخول الخصوم، فإن له يومًا معينًا للقضاء (قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ) أي: نحن خصمان، والتحاكم بين ملكين تصورا في صورة خصمين من بني آدم، والظاهر أن معهما غيرهما فمعناه: نحن فوجان متخاصمان (بَغَى): ظلم (بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ) وهذا(3/472)
تمثيل منهم، وتعريض بحال داود، وما صدر عنه، وتصوير للمسألة، وفرض لها (فاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ): لا تجر في الحكومة (وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ): إلى وسطه وهو العدل (إِنَّ هَذَا أخي): في الصداقة (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) هي الأنثى من الضأن كناية عن المرأة (1) (وَلِى نعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا): ملكنيها واجعلني أكفلها (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ): غلبني: في مخاطبته إياي، لأنه أقدر على النطق فقهرني (قَالَ): داود لما اعترف الخصم الآخر: (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ) في السؤال تضمين كأنه قال: بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه الطلب، وقصته أن عين داود وقعت على امرأة رجل فأعجبها، فسأله النزول عنها، فذنبه مجرد أنه التمس النزول عن امرأته، وعن بعضهم ذنبه أن زوجها قتل في بعض الغزوات، فلم يغتم داود اغتمامه بالشهداء، فتزوج امرأته، وما يذكره القصاص ليس له أصل يعتمد عليه، بل منقول عن علي - رضى الله عنه - أنه قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين (وَإِن كَثِيرًا مِّنْ
__________
(1) وإن وردت به اللغة لكنه ليس مرادا في هذا المقام، وقد أصاب وأجاد المؤلف - رحمه الله - عندما حكم على كلام القصاص بالبطلان وعدم الصحة.(3/473)
الْخُلَطَاءِ): الشركاء (لَيَبْغِي) يظلم (بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) ما مزيدة للإبهام، وفيه تعجب من قلتهم (وَظَنَّ) أي: علم (دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ) ابتليناه ذكر أنه لما قضى بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه، فضحك فصعدا إلى السماء، فعلم أنه تمثيل بحاله (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ): من ذنبه (وَخَرَّ رَاكِعًا) سمي السجود ركوعًا، لأنه مبدأه، أو معناه خر للسجود حال كونه راكعًا أى: مصليًا (وَأَنَابَ) رجع إلى الله تعالى بالتوبة، وذُكِرَ أنه استمر ساجدًا أربعين يومًا (فَغَفَرنا لَهُ ذَلِكَ وَإِن لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى): لقربة (وَحُسْنَ مَآبٍ): مرجع ومنقلب (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً): استخلفناك على الملك (فِى الأَرْضِ) أو خليفة ممن قبلك من الأنبياء (فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بالْحَقِّ): الذي هو حكم الله تعالى (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى) هوى النفس في قضائك (فَيُضِلَّكَ): اتباع الهوى (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) طريقه المستقيم (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ): بسبب نسيانهم يوم القيامة فلم يعملوا له، وقيل ظرف متعلق بلهم، ومفعول نسوا متروك.
* * *(3/474)
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
* * *
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا): خلقًا باطلاً، بل لأمر صحيح، وحكمة بالغة أو للباطل والعبث الذي هو متابعة الهوى (ذلِكَ) أي: خلقنا إياهن باطلاً (ظَنُّ) أي: مظنون (الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ للَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) أم في الموضعين منقطعة، والهمزة لإنكار التسوية فإنها من(3/475)
لوازم خلقهما باطلاً، والإنكار الثاني غير الأول باعتبار الوصف، أو باعتبار الذات، أى: بين المتقين من المؤمنين، والفجار منهم وفي الآية إرشاد إلى المعاد، فإنه ربما يكون المفسد والفاجر أحسن حالاً في الدنيا فلابد من دارٍ أخرى (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ) يعني: القرآن (مُبَارَكٌ): كثير النفع (لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ): يتفكروا فيها (وَلِيَتَذَكَّرَ): يتعظ به (أُولُو الْأَلْبَابِ) ذوو العقول السليمة الظاهر أن ضمير يدبروا لأولي الألباب على التنازع وإعمال الثاني (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ): سليمان (إِنَّهُ أَوَّابٌ): رجاع إليه بالتوبة، وهو تعليل للمدح (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ) ظرف لأواب، أو لنعم (بِالْعَشِيِّ): بعد الظهر (الصَّافِنَاتُ) الصافن من الخيل: القائم على ثلاثة قوائم، وقد أقام الرابعة على طرف الحافر، وهذه صفة محمودة في الخيل (الْجِيَادُ) جمع جواد وهو المسرع في سيره (فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) أي: آثرت حب الخيل بدلاً عن ذكر ربي، أو يكون عن متعلقًا بأحببت لتضمين معنى أنَبْتُ، والخير: المال، وأراد به ها هنا الخيل (حَتَّى تَوَارَتْ) أي الشمس، ومرور ذكر العشي دال على الشمس (بِالْحِجَابِ) أي حتى غربت (رُدُّوهَا) أي: الصافنات (عَلَيَّ فَطَفِقَ): جعل يمسح السيف (مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) أي: بسوقها وأعناقها، والسوق جمع ساق أي: يقطعهما؛ لأنها شغلته عن ذكر الله تعالى يقال: مسح علاوته، إذا ضرب(3/476)
عنقه ذكر أن له عشرين فرسًا، أو عشرين ألف فرس ذات أجنحة تعرض عليه للجهاد، فنسي صلاة العصر حتى غربت الشمس، كما وقع على نبينا عليهما الصلاة والسلام يوم الخندق؛ فاغتم لذلك فطلبها فعقرها غضبًا لله تعالى، وكان ذلك مباحًا له، وقيل: ذبحها وتصدق بها، والذبح على ذلك الوجه مباح في شريعته، فعوضه الله تعالى بما هو خير منه، وهو الريح التي تجرى بأمره، وعن بعضهم كوى سوقها، وأعناقها بكي الصدقة، وحبسها في سبيل الله تعالى، وعن بعضهم يمسحها بيده لكشف الغبار حبًّا لها، وهو قول ضعيف بعيد عن مقتضى المقام (1) (وَلَقَدْ فَتَنَّا): ابتلينا (سُلَيْمَانَ) بأن سلبنا الملك منه أربعين يومًا، وقيل أكثر (وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ): وسلطنا على ملكه (جَسَدًا): شيطانًا (جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ) رجع إلى ملكه أو تاب، ثم اعلم أنه لم يصح حديث في تفصيل تلك القصة، وما نقل عن السلف، فالظاهر أنه من الإسرائيليات التي
___________
(1) بل هو الحق والصواب إن شاء الله تعالى
وقد روي عن ابن عباس - رضى الله عنهما -، والزهري، واختاره ابن جرير قال: إنه لم يكن ليعذب حيوانًا ويهلك مالاً من ماله بلا ذنب منها، ولا شك في بعد هذا القول، والله أعلم.(3/477)
لا نصدقها، ولا نكذبها (1)، والمنقول عن مجاهد وغير واحد من أئمة السلف أن ذلك الجني لم يتسلط على نسائه، بل عصمهن منه تشريفًا له - عليه الصلاة والسلام -، وأما سبب ابتلائه، فقيل: لأنه أحب امرأة مات أبوها، وهي تجزع أشد جزع، فأمر سليمان عليه السلام الشياطين، فصوروا لها تمثال أبيها تسكينًا لها، فهي مع ذلك التمثال كعابدة صنم، فعوتب سليمان على ذلك، وسلط الله تعالى شيطانًا سرق منه خاتمه الذي فيه ملكه وسلطانه، وجلس مقامه يخيل أنه سليمان حتى مضى أيام ابتلائه، وقيل فيه غير ذلك، والله تعالى أعلم (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي): ذنبي (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) كان معجزة زمانه الملك، فسأل من الله تعالى معجزة خاصة، لا يكون له فيها شريك إلى يوم القيامة، والظاهر أنه سأل أعلى المراتب، ولذلك
قال: (لا ينبغي لأحد من بعدي) أي: هب لي ملكًا أنا حقيق به وحدي، وما قال (2)
___________
(1) بل نكذبها، لكونها لم تأت من وجه يعتبر، وقد قال أبو شهبة في هذه القصة وأضرابها: نحن لا نشك في أن هذه الخرافات من أكاذيب بني إسرائيل وأباطيلهم. وقد سبق إلى التنبيه إلى ذلك الإمام القاضى عياض في " الشفا ": لا يصلح ما نقله الإخباريون من تشبه الشيطان به، وتسلطه على ملكه، وتصرفه في أمته بالجور في حكمه؛ لأن الشيطان لا يسلط على مثل هذا، وقد عصم الأنبياء من مثله " وكذلك الإمام الحافظ الناقد ابن كثير فى تفسيره. (الإسرائيليات والموضوعات ص 272).
(2) هذه أيضًا من جملة القصص التي نبهنا على كذبها.
قال النسفى في المدارك: وأما ما يروي من حديث الخاتم والشيطان وعبادة الوثن في بيت سليمان فمن أباطيل اليهود انتهى.
وقال الخازن: قال القاضى عياض وغيره من المحققين لا يصح ما نقله الإخباريون من تشبيه الشيطان به وتسليطه على ملكه، وتصرفه في أمته بالجور في حكمه، وإن الشياطين لا يسلطون على مثل هذا انتهى.(3/478)
لم تعط أحدًا غيري، وعن بعض السلف معناه: ملكًا لا تسلبنيه بعد ذلك وتعطيه غيرى كما سلبته مني، وأعطته شيطانًا، والتفسير الأول هو الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة، فهو الصحيح (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ): وهو من جملة ما وهبنا له خاصة (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً): لينة لا تُزعزِعُ (حَيْثُ أَصَابَ): أراد وقصد سليمان (وَالشَّيَاطِينَ) عطف على الريح (كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) بدل منه أشغل بعضهم في المحاريب، والتماثيل وجفانٍ كالجواب، وبعضهم في استخراج اللآلئ من البحر (وَآخَرِينَ) عطف على كل، كأنه جعل الشياطين قسمين عَمَلة ومَردة (مُقَرَّنِينَ): قرن بعضهم مع بعض (فِي الْأَصْفَادِ): في السلاسل (هَذَا): التسليط (عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ): فأعْطِ ما شئتَ لمن شئتَ (أَوْ أَمْسِكْ): أو احرم من شئتَ (بِغَيْرِ حِسَابٍ) من غير حرج عليك في الإعطاء والإمساك فهو حال من فاعل الأمر، وقيل(3/479)
صلة للعطاء أى إنه عطاء غير متناهٍ، وعن عطاء معناه: امنن على من شئت من الشياطين بالإطلاق وأمسك في وثاقك من شئت منهم، لا تَبِعَةَ عليك (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى): لقربة ورتبة في الآخرة (وَحُسْنَ مَآبٍ) هو الجنة.
* * *
(وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
* * *(3/480)
(وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ) عطف بيان لعبدنا (إِذ نَادَى رَبَّهُ) بدل من عبدنا (أنِّي) أي: بأنِّي (مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ): بتعب (وَعَذَابٍ): ألم، ابتلاه الله تعالى بجسده وماله وولده حتى لم يبق فيه مغرز إبرة سليمًا سوى قلبه، ولم يبق له من الدنيا شيء يستعين به غير أن زوجته تخدم الناس بالأجر، وتطعمه نحوًا من ثماني عشرة سنة، ورفضه القريب والبعيد حتى آل به الحال أن ألقي على مزبلة من البلدة هذه المدة، فلما طال واشتد الحال، تضرع إلى ربه تعالى، فقال: " مسني الشيطان " إلخ، فهذه حكاية لكلامه (1)، وأسند إلى الشيطان؛ لأنه سببه (ارْكُضْ): اضرب (بِرِجْلِكَ): الأرض وهذا حكاية لما أجيب بِهِ (هَذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ): أي فضربها فنبعت عين قيل له هذا مغتسل، أي: اغتسل، واشرب منه تزول منك داءك (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ
__________
(1) لم يصح في ذلك شيء.(3/481)
مَّعَهُمْ رَحْمَةً) أي: الرحمة (مِّنَّا): عليه (وَذِكْرَى): تذكرة (لِأُولِي الْأَلْبَابِ) ليصبروا، وينتظروا الفرج، وقد مرَّ في سورة الأنبياء شرحه (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا) حزمة صغيرة من الحشيش (فَاضْرِبْ بِهِ) أي: امرأتك (وَلَا تَحْنَثْ) روي أنها قطعت ذُوَيبتَها، وباعت بخبز، فأطعمته فلامها على ذلك، وحلف لئن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة ضربة، وقيل بغير ذلك من الأسباب (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ): أيوب (إِنَّهُ أَوَّابٌ): مقبل بكليته على الله تعالى (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ(3/482)
وَيَعْقوبَ) من قرأ عبدنا يكون وإسحاق، ويعقوب عطفًا على عبدنا (أُوْلِي الأَيْدِي): ذوي القوة في العبادة (وَالْأَبْصَارِ): في معرفة الله تعالى (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ): جعلنهم خالصين لنا (بِخَالِصَةٍ) بسبب خصلة خالصة (ذِكْرَى الدَّارِ) أى: ليس في قلوبهم همٌّ سوى الآخرة، لا يشوب بهمِّ الدنيا، وهو بدل من خالصة على قصد التفسير والبيان، أو تقديره هي ذكرى الدار، وقراءة إضافة خالصة تكون بيانية، وأما إضافة ذكرى فإضافة المصدر إلى مفعوله، وقيل: باء خالصة صلة لأخلصناهم بمعنى: وفقناهم لاكتسابها (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ) جمع خَيْرٍ أو خيِّرٍ (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ) أي: كلهم (مِنَ الْأَخْيَارِ) وقد مر قصصهم في سورة الأنبياء (هَذا ذكْرٌ) أي: هذا الذي مر شرف لهم، أو هذا نوع من الذكر أي: من القرآن، ثم شرع في نوع آخر من الكلام، وهو بيان ما أُعدَّ لأمثالهم (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ): مرجع (جَنَّاتِ عَدْنٍ) عطف بيان (مفَتَّحَةً) حال من فاعل الظرف (لَهُمُ الأَبْوَابُ) مرفوع بأنه معمول مفتحة، وحرف التعريف عوض عن الضمير، أو تقديره الأبواب منها (مُتَّكِئِينَ فِيهَا) حال من ضمير لهم (يَدْعُونَ) إما حال أو استثناء (فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) من غير أزواجهن (أَتْرَابٌ): مساويات في السن (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ) أي:(3/483)
لأجله، فإن الحساب سبب الوصول إلى الجزاء (إِنْ هَذَا لَرِزْقُنَا): الذي رزقناهم (مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ): انقطاع (هَذَا) أي: هذا كما ذكر أو الأمر هذا (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ) عطف بيان لشر مآب (يصْلَوْنَهَا): أي حال كونهم يدخلونها (فَبِئْسَ الْمِهَادُ): جهنم، شبه ما تحتهم من النار بمهاد يفترشه النائم (هَذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ): انتهى حره (وَغَسَّاقٌ) انتهى برده، أو هو عين تسيل من صديد أهل النار، وحميم خبر هذا وما بينهما اعتراض نحو: زيد -فافهم- رجل صالح، أو تقديره العذاب هذا، وفليذوقوه مترتب على تلك الجملة بمنزلة الجزاء لشرط محذوف، وحميم خبر محذوف أى: هو جهنم أو هذا منصوب بمضمر تفسيره ما بعده على طريقة ربك فكبر (وَآخَرُ) أى: عذاب آخر (مِن شَكْلِهِ) أي: من شكل ما ذكر من العذاب في الشدة (أَزوَاجٌ): أصناف يحتمل أن تكون صفة لآخر بتأويل كونه ضروبًا، وآخر إما عطف على حميم، أو تقديره: ولهم آخر (هَذَا فَوْجٌ) كلام خزنة النار للقادة حين يدخل بعدهم الأتباع (مُّقْتَحِمٌ): داخل في النار (مَعَكُمْ) ظرف لمقتحم، أو حال، والمعية تفيد المقارنة في الحكم لا في الزمان، فقالت القادة: (لَا مَرْحَبًا بِهِمْ): بالأتباع، والرحب السعة أي: ضاقت عليهم الأرض (إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ) لأنَّهُم داخلوها، وقيل: هذا حكاية لكلام بعض الطاغين مع بعض (قالُوا): الأتباع للقادة (بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ) أي: العذاب (لَنَا): بإغوائكم إيانا (فَبِئْسَ الْقَرَارُ) أي: المقر جهنم (قَالُوا): الأتباع (رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا): مضاعفًا أي: ذا ضعف(3/484)
(فِي النَّارِ وَقَالُوا) أي: الطاغون (مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ) في الدنيا (مِنَ الْأَشْرَارِ) وهم فقراء المسلمين (أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا) إما بكسر همزة اتخذنا، فصفة أخرى لـ (رجالاً) أو تقديره: أتخذناهم بحذف همزة الاستفهام، وإما بفتح همزته فيكون استفهامًا (أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ) وحاصله أن (أم) معادلة الهمزة أي: أي الأمرين واقع أئنا اتخذناهم سخريًّا، وهم في نفس الأمر معظمون أحقاء بالتعظيم، فلم يدخلوا النار أم هم أحقاء بما فعلنا بهم، ودخلوا النار، لكن زاغت أبصارنا عنهم فلا نراهم، أو قوله: (أم زاغت عنهم الأبصار) كناية عن تحقيرهم، أي: فعلنا بهم الاستسخار منهم، أم تحقيرهم في الدنيا على معنى إنكار الأمرين على أنفسهم، ولذلك قال الحسن: كل ذلك قد فعلوا، أو الهمزة لإنكار سخريتهم، وأم بمعنى بل، ففيه تسلية لأنفسهم بما لم يكن يعني هم في النار، لكن نحن لا نراهم أو معناه: بل زاغت أبصارنا، وكلت أفهامنا حتى خفي عنا مكانهم، وإنهم على الحق المبين، أو معادلة لما لنا أن جعلنا اتخذناهم صفة أى: ما لنا لا نراهم في النار كأنهم ليسوا فيها، بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها (إِنَّ ذَلِكَ): ما ذكرنا عنهم (لَحَقٌّ): واقع بلا مرية (تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) أي: هو تخاصم، أو خبر بعد خبر.
* * *
(قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ(3/485)
الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
* * *
(قُلْ): للمشركين (إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ): أنذركم عقاب الله تعالى (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ الْوَاحِدُ): الذي لا يقبل الشركة عطف على إنما أنا منذر (الْقَهَّارُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ): الغالب (الْغَفَّارُ): لمن أراد (قُلْ هُوَ) أي: القرآن، أو ما أنبأتكم به من رسالتي وتوحيد الله تعالى (نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) وعن بعض المراد من النبأ آدم (مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ): مبيّنٌ لنبأ [عظيم]، أو حجة لنبوته، وإذ متعلق بعلم (إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أى: لم يوح إليَّ إلا لأني منذر مبين، كما تقول: فوضت الأمر إليك، لأنك عالم مبين، فما بعد إلا منصوب بنزع الخافض، والجار والمجرور قائم مقام الفاعل أو معناه لم يوح إليَّ إلا أن أُنذر وأٌُبين ولم أؤمر إلا بالإنذار والتبليغ فعلى هذا ما بعد إلا قائم مقام الفاعل (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ) بدل من إذ يختصمون مبيِّنٌ له، والمقاولة بين(3/486)
الملائكة وآدم وإبليس وهم الملأ الأعلى، ومقاولة الله بلسان ملك في شأن الاستخلاف مع الكل ومع إبليس في شأن السجود (إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ): عدلت خلقته (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي): فأحييته (فَقَعُوا لَهُ): خرّوا له (سَاجِدِينَ): تعظيمًا له وتكرمة (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ) أي: في علم الله أو صار (مِنَ الْكَافِرِينَ): بالاستكبار والاستنكار (قَالَ) الله تعالى: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) أوجدته بنفسي من غير واسطة (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ) أي المانع مجرد التكبر أو إنك أعلى وأعظم، فلا يستحق سجودك، وقيل: أستكبرت بنفسك، فأبيت السجود أم كنت من القوم المتكبرين فتكبرت؟ (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) أجاب باختيار الشق الثاني على التوجيه الأول (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ): لطيف (وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ): كثيف (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا): من الجنة أو السماء (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ): مطرود (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي): أمهلني (إِلَى يَوْمِ يُبعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ(3/487)
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ): سلطانك (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وقد مر مرارًا الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة، والأعراف وغيرهما (قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) أي: ولا أقول إلا الحق (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ): من بني آدم (أَجْمَعِينَ) الحق الأول قرئ بالنصب بحذف حرف القسم أي: فبالحق، وبالرفع أي: فالحق قسمي فهو مقسم به على الوجهين، وجوابه لأملأن وما بينهما اعتراض، أو تقديره على النصب، فأحق الحق، أو أُلزم الحق، وعلى الرفع فالحق مني، أو أنا الحق (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ): على التبليغ (مِنْ أَجْرٍ): جُعْلٍ (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) في نظم القرآن، فإنه من عند الله تعالى لا من تلقاء نفسي حتى أتكلف في نظمه (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ): عظة من الله تعالى لِلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ): من حقية القرآن وصدقه (بَعْدَ حِينٍ) عند الموت أو بعده، أو عند ظهور الإسلام.
* * *(3/488)
سورة الزمر مكية
إلا قوله: (قل يا عبادى) الآية
وهي خمس أو اثنتان وسبعون آية وثماني ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لله الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ(3/489)
إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لله أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
(تَنْزِيلُ الْكِتَابِ)، أي: هذا تنزيل الكتاب، (مِنَ اللهِ)، ظرف للتنزيل، أو خبر ثان، أو حال، أو تنزيل الكتاب مبتدأ، ومن الله خبره، (العَزِيزِ الحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ(3/490)
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ)، أي: متلبسًا به، (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ)، من الشرك الجلي، والخفي، (أَلَا لله الدِّينُ الْخَالِصُ): هو الذي يختص بالطاعة الخالصة ويستحقها، (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ): وهم الكفرة، (مَا(3/491)
نَعْبُدُهُمْ)، أي: قائلون ما نعبد أولياء، وهم غير الله تعالى، كالملائكة، والأصنام، (إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى)، اسم أقيم مقام المصدر، أي: تقريبًا، (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ)، أي: بين الذين اتخذوا، وبين مقابليهم، وهم الموحدون، وهو استئناف، (فِى مَا هُمْ فيهِ يَخْتَلِفُونَ): من أمر الدين، وجاز أن يكون خبر (والذين) (إن الله يحكم بينهم)، وقوله: " ما نعبدهم " بتقدير: قائلين، حال من فاعل اتخذوا، (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ): لا يرشد إلى الهداية من قصد الافتراء على الله(3/492)
تعالى، وقلبه كافر بآياته، (لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا)، كما زعم المشركون، (لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ)، أي: لو أراد لاختار الأفضل لا الأنقص، وهو الإناث، لكن لم يرد، فلا ولد له من الذكر والأنثى، أو معناه: لو أراد أن يتخذ ولدًا لاتخذ من المخلوقات الأفضل منها، كالبنين لا البنات كما زعمتم، لكن اللازم محال لاستحالة كون المخلوق من جنس الخالق لتنافي الوجوب، والإمكان بالذات، فكذا الملزوم وهو إرادة الاتخاذ فضلاً عن الاتخاذ، (سُبْحَانهُ هُوَ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ): فإنه هو الواحد الفرد، الذي دانت له الأشياء فلا يماثله ولا يناسبه أحد، (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) التكوير: اللف، وإذا غشى كل منهما مكان الآخر، فكأنما لف عليه كلف اللباس على اللابس، (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى): مدة معينة عند الله تعالى، (أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ): الغالب، (الْغَفَّارُ)، فلا يعاجل بالعقوبة على من نسب إليه ما لا يليق به، (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ): آدم، (ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا): حواء عن الضلع الأسفل، وثم للتراخي الرتبي، فإن خلق حواء مقدم في الوجود على تشعيب الذرية من نفس آدم، (وَأَنزَلَ لَكُم): وقضى لكم فإن قضاياه توصف بالنزول من السماء، (مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)، كما هو مسطور في سورة الأنعام، (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ): حيوانًا من بعد عظام من بعد مضغ من بعد علق من بعد نطف، (فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ): ظلمة البطن، والرحم، والمشيمة، (ذَلِكُمُ)، مبتدأ، (اللهُ)، خبره، (رَبُّكُم)، بدل، (لَهُ الُملْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ(3/493)
فَأَنَّى تُصْرَفُونَ): يُعدَل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره، (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)، مع أنه كان بإرادته فلا يجري في ملكه إلا ما يشاء، ويقابل الرضاء بالسخط، والإرادة بالكراهة، أو المراد من العباد المخلصون كما في قوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) [الإسراء: 65] وحينئذ معنى الرضاء الإرادة، (وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ): يرضى الشكر، (لَكُمْ)، فإنه سبب فوزكم، (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ): لا تحمل نفس وازرة، (وِزْرَ أُخْرَى)، أي: وزر نفس أخرى، (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ): بالمجازاة، (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ): فلا يخفى عليه شيء، (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا): راجعًا، (إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ): أعطاه وأملكه، (نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ): نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه، أو ما بمعنى من، وفي يدعو(3/494)
تضمين معنى التطوع، أي: نسي الكاشف بضر المضطرين الذي كان يتضرع إليه، (مِن قَبْلُ): من قبل النعمة، (وَجَعَلَ لله أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ)، اللام لام العاقبة، أي: ليفيد وينتج الإضلال والضلال، (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا)، أمر تهديد، (إِنَّكَ مِنْ أَصْحَاب النَّارِ)، استئناف على سبيل التعليل، (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ): قائم بالطاعات، (آناءَ) ساعات (اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا)، حالان من ضمير قانت، (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ)، جملة حالية، (وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ)، أم متصلة تقديره أهذا الذي نسي خير أم من هو قانت؟! أو منقطعة، أي: بل أمن هو قانت كغيره، (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُون)، وهم القانتون، وفي هذه أدلة واضحة على أن غير العامل كأنه ليس بعالم، (وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُون)، وقيل هذا على سبيل التشبيه، أي: كما لا يستوي العالمون والجاهلون، كذلك لا يستوي القانتون والعاصون، (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ): يتعظ بوعظ الله تعالى، (أُولُو الْأَلْبَابِ).
* * *
(قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ(3/495)
دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
* * *
(قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ)، عن معاصيه، (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا): بالطاعة، (فِي هَذِهِ الدُّنْيَا)، ظرف لأحسنوا، (حَسَنَةٌ)، في الآخرة، وهي الجنة، (وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ)، فهاجروا إلى أرض ما دعيتم فيها إلى المعصية، (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُون): على بلاء الله تعالى، ومفارقة المستلذات الداعية إلى المعاصي، (أَجْرَهُمْ(3/496)
بِغَيْرِ حِسَابٍ)، لا يوزن لهم، ولا يكال إنما يغرف لهم غرفًا، قيل: نزلت في جعفر بن أبي طالب، وأصحابه حيث لم يتركوا دينهم، وصبروا حين اشتد بهم البلاء، (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ)، أي: بأن أعبد، (مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ)، من هذه الأمة، واللام زائدة، كما تقول: أمرت لأن أفعل، وقيل: معناه أمرت بذلك لأجل أن أكون مقدم المسلمين في الدارين (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي)، مع أني نبي مقرب، (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ): لعظمة ما فيه، نزلت حين دعى إلى دين آبائه، (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ)، أمر توبيخ، (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ)، مع أنها رأس مالهم، (وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ): الذين هم في الجنة لهم من حور وغلمان، وغيرهما فإن لكل منزلاً وأهلاً في الجنة، فمن عمل بالمعاصي دخل النار، وصار المنزل والأهل لغيره أو خسروا أهليهم الذين لهم في الدنيا، لأنَّهُم إن كانوا من أهل النار، فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابًا أبديًا، (أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ): أطباق من النار هي ظلل الآخرين، (ذلِكَ): العذاب، (يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ)، ولا تتعرضوا لمعصيتي، (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ): الأوثان، نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر وسلمان الفارسي رضى الله تعالى عنهم، (أَن يَعبدُوهَا)، بدل اشتمال، (وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ): إلى عبادته، (لَهُمُ البُشْرَى)، في الدنيا والآخرة، (فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ)، أي: القرآن وغيره، (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)، أي: القرآن، أو المراد من يسمع حديثًا فيه محاسن(3/497)
ومساوئ، فيحدث بأحسن ما سمع، ويكف عما سواه، أو يستمعون القول من العزائم، والرخص فيتبعون العزائم، وضع الظاهر موضع المضمر، فإن الظاهر أن يقال: فبشرهم لأن يصفهم بهذه الصفة أيضًا، (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ): العقول السليمة، (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ)، الفاء عطف على محذوف تقديره: أأنت مالك أمرهم؟ فمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه، والهمزة في الجزاء كررت لتوكيد معنى الإنكار، أي: لست بقادر على إنقاذ من أراد الله تعالى شقاوته، (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ): محكمة عالية، كالأسافل بخلاف الدنيا فإن أسافلها أحكم من أعاليها، (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا)، أي: الغرف، (الأَنْهَارُ وَعْدَ اللهِ)، مصدر مؤكد لنفسه، (لاَ يُخْلِفُ اللهُ المِيعَادَ)، أي: الوعد، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ): نظمه، (يَنَابِيعَ): عيونًا، ومجاري، نصب على الظرف، (فِي الأَرْضِ)، صفة ينابيع، (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ): بالماء، (زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ): أصفر،(3/498)
وأحمر وأخضر، أو أنواعه من بر وشعير وحمص، (ثُمَّ يَهِيجُ): يتم جفافه، (فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا): خشبة مسودة، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى): لعظة، (لِأُولِي الْأَلْبَابِ)، فيعرف أنه مثل الحياة الدنيا، ويستدل به على كمال حكمته وقدرته.
* * *
(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
* * *
(أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ): وسَّعه لقبول الحق، (فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ): يهتدي به إلى الحق، وخبره محذوف، أي: كمن أقسى الله قلبه، ويدل عليه قوله: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ)، أي: غلظ وجفا عن قبول ذكره،(3/499)
كما تقول: أتخمت من طعام، وعن طعام أكلت، (أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مبِينٍ اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ)، أي: القرآن، (كتَابًا)، بدل أو حال، (متَشَابِهًا): يشبه بعضه بعضًا في الفصاحة، أو صحة المعنى من غير مخالفة، (مَثَانِيَ) جمع مثني مفعل، من التثنية بمعنى الإعادة، والتكرير، فإن قصصه وأحكامه ومواعظه ووعده ووعيده مكرر معاد صفة لـ كتابًا، وهو في الحقيقة صفة ما يتضمنه الكتاب من السور، والآيات، وعن بعضهم: إن سياق الكلام إذا كان في معنى واحد يناسب بعضه بعضًا فهو(3/500)
المتشابه، وإن كان يذكر الشيء وضده كذكر المؤمنين، ثم الكافرين، والجنة، ثم النار، كقوله تعالى: " إن الأبرار لفى نعيم وإن الفجار لفى جحيم " [الانفطار 13، 14] فهو من المثاني، (تَقْشَعِرُّ): تضطرب وتشمئز، (منه): من القرآن، لأجل خشية الله، (جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ)، وفي الحديث: " إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تعالي، تحاتت منه ذنوبه كما يتحات عن الشجر اليابسة ورقها " (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ)، لما يرجون من رحمته، ولطفه، فهم بين الخوف والرجاء، ولتضمين معنى السكون عداه بإلى، (ذلِكَ)، أي: الكتاب، أو الخوف والرجاء، (هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ): شدته، (يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، ظرف ليتقي، وخبره محذوف، أي: كمن يأتى آمنًا يوم القيامة، والإنسان إذا لقى مخوفًا استقبله بيده، ويقي بها وجهه الذي هو أعز أعضائه، والكافر الغلول لا يتهيَّأ له أن يتقي النار إلا بوجهه، (وَقِيلَ)، حال بتقدير قد، (لِلظَّالِمِينَ)، أي: لهم، (ذُوقُوا): وبال، (مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ): القرون الماضية، (فَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيثُ لاَ يَشْعُرُونَ): من الجهة التي هم آمنون منها، أي: على حين غفلة، (فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ): الذل، (فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ): المعد لهم، (أَكبَرُ)، من عذاب الدنيا، (لَو كَانُوا يَعلَمُون)، لو كانوا من أهل العلم لعلموا ذلك، (وَلَقَدْ(3/501)
ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ)، محتاج إليه في الدين، (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآنًا)، حال موطئة من هذا، ثم وصفه بما هو المقصود بالحالية، (عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ): اختلال بوجه من الوجوه، (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، علة أخرى مترتبة على الأولى، (ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا)، للمشرك والمخلص، (رَجُلًا)، بدل من(3/502)
مثلاً، (فِيهِ شُرَكَاءُ)، مبتدأ وخبر، (مُتَشَاكِسُونَ): متنازعون، صفة لشركاء، والجملة صفة رجلاً، أي: مثل المشرك كعبد يتشارك فيه جمع، يختلف كل منهم في أنه عبد له، فيتداولونه في مهامهم، فهو متحير لا يدري أيهم يرضي، وعلى أيهم يعتمد إذا سنح سانح، (وَرَجُلاً سَلَمًا): ذا خلوص، (لرَجُلٍ): واحد، يعرف أن له سيدًا واحدًا يخدمه خالصة، ويتكل عليه في حاله وماله، (هَلْ يَسْتَوِيَان)، هذان الرجلان، (مَثَلاً)، تمييز، أي: صفة وحالاً، (الحَمْدُ لله): لا حمد لغيره، فإنه هو المنعم وحده، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، فيشركون به غيره، (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)، أي: أنتم في عداد الموتى، فإن ما هو كائن، فكأنه قد كان، (ثُمَّ إِنَّكُمْ)، فيه تغليب المخاطب، (يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)، أي: إنك وإياهم تختصمون، فتحتج أنت عليهم بما لا شبهة فيه، ويعتذرون بما لا طائل تحته، وأكثر السلف حمل ذلك على اختصام الجميع حتى الروح والجسد.
* * *
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ(3/503)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
* * *
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ): بإضافة الولد، والشريك إليه، (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ): بما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، (إِذْ جَاءَهُ)، من غير تفكر، (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى): منزلاً، (لِلْكَافِرِينَ)، واللام يحتمل العهد والجنس، (وَالذِى جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ)، أي: الفريق الذي جاء به إلخ، فيدخل فيه الرسول وأتباعه، ويكون المعطوف والمعطوف عليه صلة واحدة على التوزيع، فينصرف المعطوف عليه إلى الرسول، والمعطوف إلى الصحابة، أو إلى المؤمنين أجمعين، أو المراد من الذي جاء بالصدق، وصدق به الرسل عليهم السلام، (أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا): يسترها عليهم بالمغفرة، يُعْلم من تخصيص الأسوأ أن غير الأسوأ أولى(3/504)
بالتكفير، وقيل: بمعنى السيئ، (وَيَجْزِيَهُمْ): يعطيهم، (أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)، فيعد لهم محاسن أعمالهم، بأحسنها في زيادة الأجر وعظمه، (أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)، لما خوفت قريش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزلت، وفي بعض القراءات " عباده "، فالأولى أن يراد من عبده الجنس، (وَيُخَوِّفُونَكَ)، أي: قريش، (بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ): بأصنامهم أي: من دون الله، يقولون: إنك لتعيبها وستصيبك بسوء، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ)، فيخوف حبيب الله بحجر لا يضر ولا ينفع، (فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ): غالب منيع، (ذِي انْتِقَامٍ)، من أعدائه، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ)، لا سبيل لإنكارهم تفرد خالقيته، (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ) عني، وهذا بيان أنها لا تنفع ولا تضر فلا خوف منها، (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ): كافي في إصابة النفع ودفع البلاء، إذ قامت الحجة على تفرده فيهما، (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ): على طريقتكم، اسم للمكان استعير للحال، (إِنِّي عَامِلٌ)، أي: على منهجي، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأتِيهِ عَذَابٌ)، معمول تعلمون، (يُخْزِيهِ)، صفة عذاب، أي في الدنيا كما أخزاهم يوم بدر، (وَيَحِلُّ)، عطف على يأتيه، (عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ): دائم في الآخرة، (إِنَّا(3/505)
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ): لأجل نفعهم، (بِالْحَقِّ): متلبسًا به، (فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ): يعود نفعه إلى نفسه، (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا): وبال الضلال راجع إليها، (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ): فنجبرهم على الهداية، إنما أنت نذير.
* * *
(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
* * *(3/506)
(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ): يستوفيها ويقبضها، (حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي)، أي: ويستوفي الأنفس التي، (لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا)، فتجتمع النفوس كلهن في الملأ الأعلى كما ورد بذلك الحديث المرفوع الذي رواه ابن مندة، وغيره وفي الصحيحين ما يدل على ذلك، (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ): فلا يردها إلى الجسد، (وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى)، أي: النائمة إلى جسدها، (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى): وهو وقت(3/507)
الموت، (إنَّ في ذَلكَ)، أي: التوفي والإمساك والإرسال، (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، فى عجائب قدرته، (أَمِ اتَّخَذُوا): بل اتخذ قريش، (مِنْ دُونِ اللهِ): من دون إذنه، (شُفَعَاءَ): عند الله تعالى بزعمهم الفاسد، (قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا)، أي: قل أيشفعون؟! ولو كانوا إلخ فالواو للحال، والعامل يشفعون المقدر بعد الهمزة، (وَلاَ يَعْقِلُونَ): فإنهن جمادات لا تقدر، ولا تعلم، (قُلْ لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا): هو مالكها، لا يستطيع أحد أن يشفع إلا بإذنه، ولا تنفع إلا لمن أذن له، (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، فيحكم بالعدل، (وَإِذَا ذُكرَ اللهُ وَحْدَهُ)، أى: قيل: لا إله إلا الله، (اشْمَأَزَّتْ): انقبضت ونفرت، (قُلُوبُ الذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَة وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ)، أي: الأوثان، (إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)، سواء ذكر اللهَ تعالى معهم أو لم يذكر، وعن مجاهد ومقاتل، وذلك حين قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم فألقى الشيطان في أمنيته: تلك الغرانيق العلى، ففرح الكفار كما مر ذكره في سورة الحج (1)، واعلم أن من قال العامل في إذا الشرطية مضمون الجواب فلابد أن يقول: العامل في إذا الثانية الشرطية، وإذا المفاجأة معنى المفاجأة المتضمنة هي إياه، إذ لا يعمل الفعل الذي بعده فيما قبله، أي: فاجأوا في وقت الذكر، وقت الاستبشار، (قُلِ اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ
__________
(1) رواية الغرانيق باطلة من جميع الوجوه.(3/508)
وَالشَّهَادَةِ)، أي: التجئ إلى الله تعالى لما تحيرت في كفرهم، (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا): وهم المشركون، (مَا فِي الأَرْضِ)، اسم أنَّ، (جَمِيعًا وَمثْلَة مَعَهُ لافتَدَوا بِهِ)، أي: بمجموع ما في الأرض، والمثل، (مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا): ظهر، (لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ): ما لم يخطر ببالهم من الوبال والنكال، (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا)، أراد بالسيئات أنواع العذاب، كأنه قيل: سيئات سيئاتهم، نحو: جزاء سيئة سيئة، أو معناه ظهر لهم سيئات أعمالهم التي كانت خافية عليهم، حين تعرض صحائفهم، كما قال الله تعالى: (أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) [المجادلة: 6]، (وَحَاقَ): أحاط، (بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ)، أي: جزاؤه، (فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ)، أي: جنسه باعتبار الغالب، (ضُرٌّ دَعَانَا)، عطف على قوله: (وإذا ذكر الله وحده) بالفاء ليدل على التسبب، والدلالة على تعكيس الكافر الأمر، وجعله ما هو أبعد الأشياء عن الالتجاء وسيلة إليه، كأنه قال: هم مشمئزون عند ذكر الله تعالى وحده، ومستبشرون بذكر آلهتهم، فإذا مسَّ أحدهم مصيبة دعا من اشمئزَّ من ذكره، وترك من استبشر به، وما بين المعطوفين أعني، قوله: " قل اللهم " إلى قوله تعالى: " يستهزءون " اعتراض مؤكد لإنكار ذلك عليهم، (ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ): أعطناه، (نِعْمَةً مِنَّا): تفضلاً، (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ)، أى: شيئًا من النعمة، (عَلَى عِلْمٍ)، أي: على علم مني بأني سأعطاه لاستحقاقي، أو على علم من الله تعالى باستحقاقي، ولولا أني عند الله حقيق ما خولني هذا، فهو حال من أحد معمولي أوتيته، أو خبر، إن جعلت ما موصولة لا كافة، أو معناه أوتيته على خير وفضل عندي، كقولك: أنعمت عليك على كمالك، أي: هو السبب، (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ): اختبار، أيشكر، أم يكفر؟ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، أنها امتحان، (قَدْ قَالَهَا)، أى: هذه المقالة، وهي " إنما أوتيته على علم "، (الَّذِينَ مِن قَبْلهِمْ): الأمم السالفة، كقارون، قال: (إنما أوتيته على علم عندي) [القصص: 78]، (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ):(3/509)
عن عذاب الله تعالى، (مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، أي: من أموال الدنيا، أو من أعمالهم وعقائدهم، (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ)، أي: وبال، (مَا كَسَبُوا)، أو جزاء سيئات ما كسبوا، (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ)، مشركي قريش، ومن للبيان، (سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ): بفائتين، (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ): ويقتر على من يشاء، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، بأن الكل من الله تعالى.
* * *
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)
* * *
((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ): بارتكاب المعاصي، أي معصية كانت، (لَا تَقْنَطُوا): لا تيأسوا، (مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)،(3/510)
يعني: ليس ذنب لا يمكن أن تتعلق به مغفرة الله تعالى، لكن جرت عادة الله تعالى أنه لا يغفر الشرك من غير توبة، أما سائر المعاصي فيغفر مع التوبة بتًا وبدونها إن أراد، وما نقل من أسباب نزول تلك الآية لا يدل على خلاف ما فسرناها به مع أن العبرة(3/511)
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كيف وقد وردت بيانًا لسعة رحمته تعالى، مع تعليل النهي عن القنوط بأنه يغفر الذنوب بصيغة الجمع مع التأكيد، نزلت في أناس من المشركين حين قالوا: إن ما تدعونا إليه يا محمد لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، أو نزلت في وحشي قاتل حمزة رضى الله عنه، أو في جماعة من المرتدين، وعن بعض السلف: إن الله تعالى لما سلط إبليس على آدم عليه السلام، شكى آدم إلى ربه فقال الله تعالى: " لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه من قرناء السوء، فقال: يا رب زدني، فقال: الحسنة بعشر، والسيئة بمثلها، أو أمحوها، قال: زدني، قال: باب التوبة مفتوح ما كان الروح في الجسد، قال: يا رب زدني، فقال: " يا عبادى الذين أسرفوا " الآية، (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنيبُوا): ارجعوا، (إِلَى رَبِّكُمْ)، تحريض بالتوبة فإنها جاعلة للمعاصي كالعدم، موثوق معها بالنجاة، (وَأَسْلِمُوا لَهُ): أطيعوا، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ)، الآية نزلت في شأن الكفار، (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)، أي: القرآن فإنه أحسن من جميع الكتب السماوية، قيل: الأحسن العزائم دون الرخص، أي: اتبعوا ما هو أنجى، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً)، حال أو مصدر، (وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)، بمجيئه فتداركون، أو فيكون أشد، (أَنْ تَقُولَ)، أي: أنذركم، وآمركم، وأرشدكم باتباع الأحسن، كراهة أن تقول، (نَفْسٌ)، أي: بعض النفوس، وهي النفس الكافرة، أو تقول هي عام لأنها في سياق النفي معنى لأن، معناه لئلا تقول نفس، (يَا حَسْرَتَى)، أي: أقبلي(3/512)
فهذا أوانك، (عَلَى مَا فَرَّطْتُ): قصرت، (فِي جَنْبِ اللهِ): جانبه، أي: حقه، أي: طاعته، وقيل في قربه، (وَإِنْ كُنْتُ)، إن هي المخففة، والواو للحال، (لَمِنَ السَّاخِرِينَ): المستهزئين بدينه، (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي): علمني الخير، وأرشدني، (لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً): رجعة إلى الدنيا، ولو للتمني، َ (فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، في العقائد، والأعمال، وأو للدلالة على أنه لا يخلو من هذه الأقوال، ولا يبعد أن يقال: أن تقول بدل اشتمال من أن يأتيكم العذاب، أي: من قبل أن تقول نفس إلخ، وقد رأيته منقولاً عن بعض أئمة النحاة، (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ)، رد لما تضمنه قوله: " لو أن الله هداني "، من معنى النفي، وفصل بين الجواب وهو يلي، وبين ما هو جواب له وهو لو أن الله هداني، لئلا ينتثر النظم الحاصل بالجمع بين القرائن الثلاث بتخلل شيء بينها، ولئلا يقدم في الكلام ما هو مؤخر في الوجود، فإن تمني الرجعة آخر الأمر، (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ)، كإضافة الولد والشريك إليه تعالى، (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ)، جملة تفسيرية إيضاحًا للمقصود مما وقعت الرؤية عليه، (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى): مقام، (لِلْمُتَكَبِّرِينَ)، عن طاعة الله تعالى، (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ)، أي: بسبب فلاحهم وسعادتهم، أو متلبسين بفلاحهم، (لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، يوم القيامة عند الفزع الأكبر، جملة مستأنفة على الوجه الأول، ومبينة للفلاح على الثاني، (اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ): أي: كل ما هو موجود في زمان، (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)، فهو(3/513)
المتصرف فيه، (لَهُ مَقَالِيدُ): مفاتيح، وأصل الكلمة فارسية، أي: أو خزائن، (السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، يعني: أزِمَّة جميع الأمور بيده، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ): وجحدوا وحدته وتفرد تصرفه، (أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).
* * *
(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
* * *
(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ)، نصب غير بـ أعبد، وتعلق أعبد بـ تَأْمُرُونِّي على وجه المفعولية، أي أن أعبد، فحذف أن ورفع المضارع، لكن هذا عند من يجوز تقديم معمول ما بعد أن، عند حذف سيما، إذا زال أثره الذي هو النصب، وأما عند من لم يجوز التقديم أو لم يجوز حذف، أن، بحيث لا يبقى أثره، فنصبه إما بما يتضمنه مجموع تَأْمُرُونِّي أن أعبد من معنى الفعل، أي: أفغير الله تعبدونني، وتجعلونني عابدًا بمعنى تقولون لي: اعبد، وإما بأعبد، لكن " تأمروني " اعتراض بين المعمول، والعامل غير متعلق بـ أعبد ليحتاج إلى تقدير إن نزلت حين قالوا: استلم بعض آلهتنا فنعبد إلهك، (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ): من الرسل، (لَئِنْ أَشْرَكْتَ)، إفراد الخطاب باعتبار كل واحد، أَي: أوحى إليك وإلى كل واحد منهم،(3/514)
لئن أشركت، (لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) المراد: خسران الآخرة بشرط الموت على الردة، أي: لئن أشركت، وبقيت على الشرك، أو المراد: خسران حبوط العمل، وهو حاصل بكل حال، أو الحكم مختص بالأنيياء، فإن شركهم لا شك أقبح، وهذا خطاب مع الأنبياء، والمراد منه غيرهم، أو كلام على سبيل الفرض، وفائدته تهييج الرسل وإقناط الكفرة، وأدب للأنبياء، وتهديد للأمة، (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ)، يعني: لا تعبد ما أمروك، بل اعبده وحده، فهو ردٌّ لما أمروه به، ونصبه بفعل يفسره ما بعده عند من لم يجوز تقديم ما في حيز الفاء، (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)، لإنعامه عليك، (وَمَا قَدَرُوا اللهَ)، أي: عظمته في أنفسهم، (حَقَّ قَدْرِهِ): حق تعظيمه حيث جعلوا له شريكًا، (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، هذا إخبار عن عظمته، وسهولة(3/515)
الأفعال العظام في جنب قدرته، والقبضة المرة من القبض، مصدر بمعنى المقبوضة، أو تقديره: ذات قبضته، وجميعًا حال من المستتر في قبضته إذا قلنا: إنَّهَا بمعنى مقبوضته، أو من العامل المحذوف على طريق الحال المؤكدة، أي: والأرض أعنيها، أو أثبتها مجموعة ذات قبضته، وهو تأكيد لشمول الإفراد، أي الأرضون السبع، أو لشمول الأجزاء، ونحن على طريقة السلف لا نأول اليد، والقبضة، والأصبع، ونؤمن بها، ونكل علمها إلى الله سبحانه وتعالى وهي أقرب من السلامة، وأبعد من الملامة، (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ)، من الكل، الذي هو ضد النشر، (بِيَمِينِهِ)، متعلق بمطويات، وفي الحديث (يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول أنا الملك، أين ملوك الأرض؟)، (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)، ما أبعد وأعلا من هذه قدرته، عما ينسب إليه من الشركاء، أو عن إشراكهم، (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ): هي النفخة الثانية، إذ النفخة الأولى ريح باردة من قبل الشام، فيموت كل من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، ويبقى شرار الناس يعبدون الأوثان في رغد من العيش، ثم ينفخ فى الصور، (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ)(3/516)
المراد: بعض الملائكة المقربين فإنهم لا يصعقون عند هذه النفخة، بل يقبض الله تعالى أرواحهم بعدها، حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، فلا ييقى إلا الله تعالى، فيقول: لمن الملك اليوم؟، ثلاث مرات، ثم يجيب نفسه بنفسه، فيقول: لله الواحد القهار، وقد ورد في حديث أن المراد منهم الشهداء، فإنهم متقلدون أسيافهم حول عرشه، وقد مر فى سورة النمل، (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ): في الصور، (أُخْرَى)، مرفوع بأنه فاعل نفخ، كما يقال: جاءتني أخرى، أو منصوب بمصدر أي: نفخة أخرى، ونفخ مسند إلى الجار والمجرور، (فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ): قائمون من مهلكهم، (يَنْظُرُونَ)، إلى الجوانب كما كانوا قبل ذلك، أو ينتظرون أمر الله تعالى فيهم، (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ): أضاءت أرض القيامة، (بِنُورِ رَبِّهَا)، الذي خلقها من غير وساطة جرم، وذلك حين تجليه سبحانه للخلق لفصل القضاء، أو معناه أضاءت بما يقام فيها من العدل، كقولك: أضاءت الدنيا بقسطك، (وَوُضِعَ الْكِتَابُ): كتاب الأعمال للجزاء، واكتفى باسم الجنس، (وَجِيءَ بالنبيِّينَ)، يشهدون على الأمم، أنَّهم بلغوهم رسالة الله تعالى، (وَالشُّهَدَاءِ)، من الملائكَة، الحفظة على أعمال العباد، أو الذين يشهدون للرسل بالتبليغ، وهم أمة محمد عليه الصلاة والسلام، (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ): بالعدل، ولكل من الطرفين صلاحية أن يقوم مقام الفاعل، (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ): فلا يزاد في سيئاتهم، ولا ينقص من حسناتهم، (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ)، أي: جزآءه، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ)، فلا يفوته شيء مما عملوا.
* * *(3/517)
(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
* * *
(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ)، كما يفعل بالأسارى يساقون إلى حبس وقتل، (زُمَرًا): أفواجًا، بعضها على إثر بعض، (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا): السبعة التي كانت مغلقة قبل ذلك، (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا)، توبيخًا وتنكيلاً، (أَلَمْ يَأتِكُمْ رُسُلٌ منكُمْ): من جنسكم، (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا)، أي: وقتكم هذا، أو هو وقت دخولهم النار، َ (قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ): وجبت، (كَلِمَةُ الْعَذَابِ)، في قوله: " لأملأن جهنم من الجنة والناس " [هود: 119]، أو المراد حَكَمَ اللهُ تعالى بشقاوتهم، (عَلَى الْكَافِرِينَ)، من وضع المظهر بدل المضمر، أي: علينا، (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ)، حال مقدرة، (فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ): جهنم، (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ)، أي: عن الكفر به، يشعر به مقابلته بالذين كفروا، وذلك الإسراع بهم إلى النعيم، والمراد سوق مراكبهم، (إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا): فوجًا بعد فوج على تفاوت رتبتهم في(3/518)
الشرف، (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا): الثمانية، قيل: الواو للحال، أي: وقد فتحت، فهو يدل على أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم، بخلاف أبواب جهنم، (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ): طاب لكم المقام، أو طهرتم من خبث الخطايا، أو كنتم طيبين في الدنيا، (فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)، أي: مقدرين الخلود، وحذف جواب إذا، إشارة إلى أنه شيء لا يحيط به الوصف، كأنه قال: إذا جاءوها، وكذا وكذا سعدوا وفازوا وفرحوا، (وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ): بالثواب، (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ)، أي أرض الجنة، نتصرف فيها تصرف الوارث لميراثه، فإن ملكية الميراث أتم، (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ): ننزل حيث نريد، وقد أغنى الله تعالى كلا منهم عن منازل غيرهم، (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ): الجنة، (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ): محيطين، وهو حال؛ لأن ترى من رؤية البصر، (مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ)، قيل: مزيدة، وقيل متعلق بـ ترى، وقيل لابتداء الغاية، (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)، أي: متلبسين بحمده تسبيح تلذذ لا تعبد، (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ): بين الخلائق، (بِالْحَقِّ): بالعدل، (وَقِيلَ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ): على عدله، القائل الملائكة، أو المؤمنون وأما إذا كان القائل بالحمد حينئذ المؤمنين، والكافرين، ولهذا لم يسند إلى قائل، فحمد الكافر لمعاينة عدله، كما ترى ظالِمًا استوفى عادلٌ منه حق جنايته، يأخذ في مدح العادل، التكرار من المؤمنين، فالحمد الأول: على صدق الوعد، وإيراث الجنة، والثاني: على القضاء بالحق.
والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *(3/519)
سورة المؤمن مكية
وآياتها خمس وثمانونَ آية وتسع ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
* * *
(حم) الكلام على الحروف المقطعة قد تقدم، وقيل: حم اسمٌ من أسماء الله تعالى(4/3)
وقيل معناه: قُضي ما هو كائن فيكون من حُم بالضّم وتشديد الميم (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ) مبتدأ وخبر، (الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ)، عطف هذه الصفة من بين الصفات يدل على زيادة ارتباط وجمعية أو الواو دال على نوع مغايرة وليست في الموصوف، فيعتبر في المتعلق أي: غافر الذنب لمن شاء وقابل التوب لمن تاب (شَدِيدِ الْعِقَابِ) هذه الإضافة لفظية ألبتَّة؛ لأنها من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها؛ فالأولى أن نقول إن الصفات كلها أبدال ليندفع خلل تخلل بدل بين النعوت فيلزم أن البعض من الأوصاف مقصود والبعض غير مقصود والمتبوع مقصود غير مقصود أو هو أيضًا نعت والأصل الشديد العقاب فحذف اللام للازدواج (ذِي الطَّوْلِ): ذي السعة والغناء، أو ذي النعم والفواضل (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)، فيجازى كلًّا بعمله، (مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ اللهَ): بالباطل من الطعن فيها والقصد إلى إطفاء نورها (إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ): تصرفهم في البلاد للتجارات وسلامتهم وربحهم، فإنها لا تدل على حسن عاقبتهم، بل عاقبتهم كعواقب كفار الأمم السوالف، ثم بين حالهم فقال: (كَذبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ): الذين تحزبوا على رسلهم بالتكذيب، (مِن بَعْدِهِمْ): كعاد وثمود، (وَهَمَّتْ كُل أُمَّةٍ): من هؤلاء (بِرَسولِهِمْ لِيَأخُدوهُ):(4/4)
ليأسروه فيقتلوه أو يعذبوه، (وَجَادلوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا): ليزيلوا (بِهِ الْحَقَّ فأَخَدتُهُمْ): أخذ إهلاك جزاء لهمِّهم وفعلهم (فَكَيْفَ كَان عقَابِ)، هذا الاستفهام بكيف حمل على الإقرار وفيه تعجيب للسامعين (وَكَذَلِكَ) أي: كما وجب إهلاك الأمم (حَقَّتْ) وجبت (كَلِمَتُ رَبِّكَ) أي: كلمته بالعذاب، (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا): من قومك (أَنَّهُمْ) أي: لأنَّهُم، (أَصْحَابُ النَّارِ): أو أنَّهم أصحاب النار بدل من كلمة ربك وحينئذ معناه كما وجب عذابهم في الدنيا بالاستئصال وجب عذابهم في الآخرة بالنار، فالمراد من الذين كفروا الأمم السالفة (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) وَمَنْ حَوْلَهُ): من الملائكة المقربين الذين هم الكروبيرن (يُسَبِّحُونَ) متلبسين(4/5)
(بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ)، فائدة إثبات الإيمان لهم إظهار فضل الإيمان والترغيب فيه، كإثبات الصلاح والصدق للأنبياء (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)، لما بينهم من المناسبة بالإيمان، (رَبَّنَا) أي: يقولون ربنا، (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا) أصله وسعت رحمتك كل شيء، فنصب الفاعل بالتمييز وأسند الفعل إلى صاحب الرحمة للمبالغة، كأن ذاته رحمةٌ واسعة كلَّ شيء (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا) أي: لمن علمت منه التوبة (وَاتَّبَعُوا سَبيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ): إياها، (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائهِمْ)، عطف على مفعول أدخل (وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي: أدخلهم وهؤلاء، وساو بينهم في المنزلة، لتُتم سرورهم وتُقر أعينهم. عن سعيد بن جبير إن المؤمن إذا دخل الجنة سأل عن أقاربه أين هم؟ فيقال: إنهم لم يبلغوا طبقتك في العمل فيقول: إني إنما عملت لي ولهم، فيلحقون به في الدرجة، ثم تلا هذه الآية وهذا معنى قوله تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان) الآية [الطور: 21] (إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ): الغالب القادر على كل شيء، (الْحَكِيمُ): فى جميع أفعالك (وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ) أي: العقوبات أو وبال السيئات، وهو تعميم بعد تخصيص (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ) أي: تقه (يَوْمَئِذٍ): يوم القيامة (فَقَدْ رَحِمْتَهُ)، وجاز أن يراد من السيئات في الموضعين المعاصي، فيكون معناه ومن تقه في الدنيا عن المعاصي، فقد رحمته يوم القيامة (وَذَلِكَ): الرحمة والوقاية، (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا(4/6)
اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لله الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوَا يُنَادَوْنَ): في القيامة ويقال لهم (لَمَقْتُ اللهِ): إياكم، (أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ) أي: لمقت الله تعالى أهل الضلالة حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا فأعرضوا أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا العذاب في القيامة، فإنهم أبغضوا أنفسهم ومقتوها غاية المقت عند غمرات النيران لسبب ما اكتسبوا من الآثام، الموجبة للعذاب المخلد، ثم من يجوز الفصل في الظرف لسعته بأجنبي وهو الخبر بين المصدر ومعموله يجوز أن يكون إذ تدعون ظرفًا للمقت(4/7)
الأول، ومن لم يجوز فعنده أنه منصوب بمقدر، هو اذكروا، أو مصدر آخر أي: مقته إياكم إذ تدعون، وقيل متعلق بمقتكم، أو أكبر على سبيل العلية والسببية، ومعناه بغض الله تعالى إياكم أكبر من بغض بعضكم بعضًا، لأنكم كنتم تدعون إلى الإيمان في الدنيا فكنتم تكفرون (قَالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) أي: إماتتين وإحياءتين وذلك لأنَّهُم في أرحام أمهاتهم نطف، لا حياة فيهم، فأحيوا في الدنيا ثم أميتوا عند آجالهم ثم أحيوا للبعث وهذا هو الصحيح الذي عليه ابن عباس وابن مسعود وكثير من السلف رضي الله عنهم وهذا إقرار منهم بالبعث، والقدرة التامة التي أنكروها في الدنيا، (فَاعْتَرَفْنَا بذُنوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ): من النار، (مِنْ سَبِيلٍ) فنسلكه فأجيبوا بقوله: (ذَلِكُمْ) أي: ما أنتم فيه من العذاب، (بِأنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ) أى: منفردًا بالذكر (كَفَرتمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا): بالإشراك (فَالْحُكْمُ لله): حيث حكم بالعذاب السرمد عليكم (الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ): من أن يشرك به (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ) الدالة على توحيده وكمال قدرته، (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ(4/8)
رِزْقًا): أسباب رزق أي: المطر، (وَمَا يَتَذَكَّرُ): بالآيات، (إِلَّا مَنْ يُنِيبُ): يرجع إلى الله تعالى، فإن المنكر المعاند لا ينظر فيما ينافي مقصوده (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ): أخلصوا له العبادة (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ): إخلاصكم (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ) كناية عن علو شأنه، أو درجات الجنة للمؤمنين، خبر ثانٍ لهو أو خبر لمحذوف (ذُو الْعَرْشِ): مالك أصل العالم الجسماني ومدبره (يُلْقِي الرُّوحَ)، خبر رابع، والروح الوحي فإنه محيي القلوب من موت الكفر أو المراد جبريل (مِنْ أَمْرِهِ): من قضائه ومن ابتدائية متعلقة بـ يلقى أو حال من الروح " قل الروح من أمر ربي " [الإسراء: 85] (عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، فيجعله نبيًا (لِيُنْذِرَ): الضمير لمن (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ): يوم القيامة يلتقي فيه الخالق والمخلوق، وأهل السماء والأرض، والظالم والمظلوم، والعباد وما عملوا من خير وشر، (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ): ظاهرون لا يسترهم شيء بدل من يوم التلاق الذي هو مفعول به، ويوم مضاف إلى جملة " هم بارزون " (لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) من أعمالهم وأحوالهم وذواتهم (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم حين إفناء الخلق (لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)، حكاية لما يجاب به، لا أحد يجيبه فيجيب نفسه، وقيل: الجواب للعباد كلهم، والسؤال عنهم (الْيَوْمَ تُجْزَى كُل نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ): يجزى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته (لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ)، فإنه سبحانه عادل متفضل حَرَّم الظلم من فضله على نفسه (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)،(4/9)
لأنه لا يشغله حساب أحد عن حساب آخر، (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ): القيامة الآزفة القريبة (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ): من الخوف زالت عن مقارها فلا هي تعود ولا تخرج فيموتوا أو يستريحوا (كَاظِمِينَ): ممتلئين كربا، أو ساكتين والكظوم السكوت وتعريف القلوب والحناجر عوض أي: قلوبهم لدى حناجرهم، فـ " كاظمين " حال من المضاف إليه في حناجرهم، والعامل ما في الظرف من معنى الفعل أو من الضمير في " لدى " الراجع إلى القلوب (مَا لِلظَّالِمِينَ): الكافرين (مِنْ حَمِيمٍ): محب مشفق (وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ): فيشفع ويكون للشفاعة فائدة، (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ) أى: خيانتها كلحظة المرأة الحسناء إذا غفل الناس وغمزها، أو الخائنة صفة للنظرة (وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) أي ما تخفيه، وجملة يعلم خائنة الأعين مستأنفة كالتعليل لقوله
تعالى: " وأنذرهم " (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) لا يظلم مثقال ذرة (وَالَّذِينَ(4/10)
يَدْعُونَ) أي: المشركون إياهم (مِنْ دُونِهِ) كالأصنام (لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) لأنهن جمادات ففيه تهكم لأنه لا يقال في الجماد يقضي أو لا يقضي (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وعيد للمشركين وتقرير لإحاطة علمه.
* * *
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)
* * *
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) فإنه يظهر من مساكنهم علامات سوء عاقبتهم (كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) قدرة وتمكنًا، وهم ضمير الفصل والأصوب أن يُجعل هم مبتدأ لا فصلاً (وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ) مثل الحصون والقصور (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) ولم تنفعهم قوتهم (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ وَاقٍ) يقيهم من عذابه فمن زائدة وواقٍ اسم كان (ذلِكَ) الأخذ (بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ): الدالة على صدقهم، (فَكَفَرُوا(4/11)
فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ): لا عجز له أصلاً، (شَدِيدُ الْعِقَابِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ): حجة ظاهرة، (إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ): وزير فرعون (وَقَارُونَ) أغنى الناس في ذلك الزمان (فقَالُوا): هو (سَاحِرٌ كَذابٌ)، وفي هذه الحكاية تسلية وبشارة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْحَقِّ): الدليل على نبوته، (مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ): للخدمة وهذا أمر من فرعون بإعادة ما كانوا يفعلون بهم، فإنه كان قد أمسك عن قتل أبناءهم ولما بعث موسى أعاد القتل عليهم، (وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ): ضياع وزوال (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى) كان فيهم من يمنعه نصحًا عن قتله خوفًا من العذاب، (وَلْيَدْعُ): موسى، (رَبَّهُ): الذي يزعم أنه أرسله فيقيه منا، وفيه دليل على أن قوله ذروني تمويه وتورية، فإن ظاهره الاستهانة به وباطنه الخوف من دعائه ربه (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ): الذي أنتم عليه إن لم أقتله (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ): من الفتن والتهارج والخلاف أراد يبدل دينكم أو دنياكم (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) حقيقة وهو الله تعالى (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) أظهر التوكل على الله وعلَّمهم.
* * *(4/12)
(وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
* * *
(وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ): من أقاربه وهو ابن عمه، وعن بعض السلف أنه إسرائيلي، وعنده إن قوله: " من آل فرعون " متعلق بقوله: (يَكْتُمُ إِيمَانَهُ):(4/13)
من فرعون، (أَتَقتلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ) أي: لأن يقول: (رَبِّيَ اللهُ): وحده، (وَقَدْ جَاءكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ): المعجزات على صدقه، (مِنْ ربِّكُمْ)، هذا إظهار لإيمانه وإرشاد ثم أخذ في الاحتجاج فقال: (وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ): وبال كذبه على نفسه لا يتخطاه، (وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ) أي: لا أقلَّ من أن يصبكم (بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ)، ففيه إظهار الإنصاف وكمال الشفقة فإنه بنى الكلام في النصح على التنزل (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)، كلام ذو وجهين يعني لو كان مسرفًا لما هداه الله إلى البينات، ولو كان كاذبًا فهو غير مهتد، فخلوا سبيله ولا تعظموا شأنه وكان فيه تعريضًا لفرعون بالإسراف والكذب (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)، وهذا من تتمة نصحه (ظَاهِرِينَ في الْأَرْضِ): غالبين في مصر، (فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللهِ): عذابه، (إِنْ جَاءنَا)، فلا تتعرضوا لبأس الله بقتله، (قَالَ فِرْعَوْنُ): حين منع من قتله: (مَا أُرِيكُمْ): من الرأي، أي: لا أشير عليكم، (إِلَّا مَا أَرَى): من المصلحة يعني قتله، (وَمَا أَهْدِيكُمْ)، بهذا الرأى: (إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ): طريق صلاحكم، (وَقَالَ الَّذِى آمَنَ) من قوم فرعون: (يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ)؛ يوم وقائع الأمم الماضية، (مِثْلَ دَأْبِ)(4/14)
عطف بيان لمثل الأول (قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي: مثل جزاء عادتهم من الكفر وتكذيب الرسل، ترك جمع اليوم والدأب لعدم الإلباس فإن لكل منهم يومًا ودأبًا (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ)، فلا يعاقبهم من غير استحقاق، (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ): يوم القيامة سمي بذلك لكثرة النداء فيه بالسعادة والشقاوة، ونداء بعضهم بعضًا خوفهم عن عذاب الدنيا أولاً ثم عن عذاب الآخرة، (يَوْمَ تُوَلُّونَ): عن الموقف، (مُدْبِرِينَ): فارِّين عن النار ذاهبين، (مَا لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ): يعصمكم من عذابه، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَلَقَد جَاءَكم يُوسُفُ مِنْ قبْلُ): يوسف بن يعقوب بعثه الله تعالى من قبل موسى رسولاً يدعو القبط إلى طاعة الله وحده فما أطاعوه تلك الطاعة، نعم أطاعوه لمجرد الوزارة والجاه الدنيوي وهذا أيضًا من كلام مؤمن آل فرعون، (بِالْبَيِّنَاتِ): المعجزات، (فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ): من الدين، (حَتَّى إِذَا هَلَكَ) مات، (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا): جزمتم بأن لا رسول بعده مع الشك في رسالته (كَذَلِكَ): مثل ذلك الإضلال (يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ): في معصيته، (مُرْتَابٌ): شاك في دينه المبين بالحجج (الذِينَ يُجَادِلُون)، بدل من " من هو مسرف "، وهو في معنى الجمع أو تقديره هم الذين (في آيَاتِ اللهِ): ليبطلوه، (بِغَيْرِ سُلْطَانٍ): حجة، (أَتَاهُمْ)، بل بمجرد تشهيهم (كَبُرَ)، فاعله ضمير راجع إلى من والحمل على المعنى أولاً ثم على اللفظ ثانيًا، جائز من غير ضعف أو إلى الجدال المدلول(4/15)
عليه بقوله يجادلون، (مَقْتًا): بغضًا تمييز، (عِنْدَ الله وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ): مثل ذلك الطبع، (يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ): يختم عليه فلا يعي خيرًا، ولا يفقه الرشاد، (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا): قصرًا عاليًا ظاهرًا، (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ) أي: الطرق أو الأبواب (أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ) أبهمه ثم أوضحه تعظيمًا وتشويقًا إلى معرفته، (فأَطَّلِعَ) من قرأ بالنصب فبجواب الترجي، تشبيهًا بالتمني من جهة إنشاء التوقع (إِلَى إِلَهِ مُوسَى)، فهو جاهل، أو متجاهل، يلبس على قومه، فإن الوصول إلى السماء بالبناء محال، (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا): في أن(4/16)
له إلهًا في السماء (وَكَذَلِكَ) مثل ذلك التزين، (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ): عن طريق رشاده ومن قرأ صَدَّ فمعناه صَدَّ فرعونُ الناسَ عن الحق بأن أوهم رعاياه بأنه يعمل شيئًا يتوصل به إلى العلم بكذبه (وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ) خسار لا ينفعه كيده.
* * *
(وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)(4/17)
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
* * *
(وَقَالَ الَّذِي آمَنَ) مؤمن آل فرعون: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ): أدلكم عليه، (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَياةُ الدُّنيَا) أي: ما هذه الحياة، إلا (مَتَاعٌ): تمتع قليل تذهب عن قريب، (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ): فإنها لا تزول، (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ): بغير تقدير لا كالسيئة فإنها بموازنة العمل وما هذا إلا من سعة فضله ورحمته (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ): إلى ما هو سبب لها (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ)، وهذا المنادى عطف على قوله يا قوم اتبعوني لا على يا قوم إنما هذه؛ لأن الثاني كالبيان للأول ولهذا تراه بغير عطف بخلاف الثالث (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ)، بيان للثاني، والدعاء كالهداية في التعدية بإلى واللام (وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ): شيئًا ليس لي بربوبيته حجة وبرهان أي ما ليس بإله (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ): الغالب القادر المطلق (الْغَفَّارِ لَا جَرَمَ أَنَّمَا(4/18)
تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ): لا ردّ لما دعوه إليه وجَرَمَ فعل بمعنى حق وما بعده فاعله أي: حق، وثبت أن الذي تدعونني إليه باطل ليس له ثبوت أصلاً في زمان، أو بمعنى كسب، وفاعله ضمير إلى ما قبله وما بعده مفعول أي: كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوة ما تدعونني إليه، أي: ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته، أو اسم بمعنى القطع ولا لنفي الجنس وما بعده خبره أي لا قطع ولا انقطاع لبطلان دعوة الأصنام، ومعنى ليس له دعوة أنا ليس له دعوة إلى نفسه ومن شأن المعبود الحق أن يدعو العباد إلى طاعته أو معناه ليس له استجابة دعوة فيكون من تسمية أثر الشيء وثمرته باسم ذلك الشيء (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى الله): مرجعنا إليه، (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ): المشركين، (هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ): من النصح وتتحسرون على عدم القبول (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ): فيعصمني عن كل سوء، (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)، وذلك حين أوعدوه بمخالفة دينهم (فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا)، فما وصل إليه آثار مكرهم، ونَجَا مع موسى (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ): بفرعون وقومه واستغنى بذكرهم عن ذكره للعلم بأنه أولى بذلك (سُوءُ الْعَذَابِ) الغرق في الدنيا ثم النقلة منه إلى النار (النَّارُ يُعْرَضُونَ(4/19)
عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) مبتدأ وخبر أو النار بدل من سوء العذاب، ويعرضون حال، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ)، قيل لهم، (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)، في الصحيحين " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أَهل الجنة، فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن أهل النار فيقال: هذا مقعدك حتي يبعثك الله إليه يوم القيامة "، وهذه الآية أصل في استدلال عذاب القبر وعليه سؤال وهو أن الآية لا شك في أنها مكية، وفي مسند الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين أن يهودية في المدينة كانت تعيذ عائشة عن عذاب القبر، فسألت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " كذب يهود لا عذاب دون يوم القيامة "، فلما مضى بعض أيام نادى عليه السلام محمرًا عيناه بأعلى صوته: " أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر، فإنه حق " فقيل في جوابه: إن الآية دلت على عذاب الأرواح في البرزخ وما نفاه أولاً ثم أثبته عليه السلام عذاب الجسد فيه، والأولى أن يقال الآية دلت على عذاب الكفار فيه وما نفاه ثم أثبته عذاب القبر للمؤمنين ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن يهودية قالت: أشعرت أنكم تفتنون في القبور فلما سمع عليه الصلاة والسلام قولها ارتاع وقال: " إنما يفتن اليهود " ثم قال بعد ليال: " أشعرت أنه أوحي إليَّ أنكم تفتنون في القبور "، ثم كان بعده يستعيذ من عذاب القبر (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ)، واذكر وقت تخاصمهم (فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا): في الدنيا جمع تابع كخدم (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ): نصيبًا مفعول اسم الفاعل بتضمين مغنون معنى دافعون (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا): نحن وأنتم وكفانا(4/20)
ما علينا (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) فأعطى كلًّا ما يستحقه (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ)، وعذاب جهنم غير منحصر في النار، (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ) أي: قدر يوم، ومن العذاب بيانه، أو بعضًا من العذاب في يوم من الأيام (قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) أي: أكنتم غفلتم عن هذا ولم تك تأتيكم؟ إلخ، (قَالُوا بَلَى): جاءوا بها، (قَالُوا) الخزنة: (فَادْعُوا): أنتم لأنفسكم فنحن لا ندعوا لكم وفيه إقناط لهم، (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ): ضياع لا نفع له.
* * *
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
* * *(4/21)
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا): بظهور حجتهم والانتقام من أعدائهم والنصرة بهذا المعنى عام لكل رسول والمؤمنين وقيل: الخبر عام وأريد به الأكثرون فإن بعضًا منهم قد قتل، كيحيى وزكريا وغيرهما، (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ): فإن الملائكة يشهدون للرسل وعلى الكفار، والجمهور على أن فاعلاً لا يجمع على أفعال، وفي الصحاح أنه جمع شَهْدٍ بالسكون وفي المرزوقي جمع شهود (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ)، بدل (الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ)، وإن رخصوا في الاعتذار (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ): يعني جهنم، (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى): ما يهتدى به في أمر الدين، (وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ): تركنا عليهم من بعده التوراة (هُدًى وَذكرَى)، مفعول أو حال، هاديًا ومذكرًا (لِأُولِي الْأَلْبَابِ فَاصْبِرْ): على أذاهم، (إِنَّ وَعْدَ اللهِ): في نصرتك، (حَقٌّ)، واستشْهِدْ بحال موسى (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)، لفرطاتك ليُعْلى درجتك، وليصير سنة لأمتك (وَسَبِّحْ): متلبسًا، (بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ): أواخر النهار وأوائله أو صلِّ العصر والصبح (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ): برهان (أَتَاهُمْ): يردون الحجج بالشبه، (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ). إلا تكبر عن اتباع الحق يريدون إبطاله، (مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ):(4/22)
بواصلي مقتضيه (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) في إطفاء نارهم، وعن كعب وأبي العالية - رضي الله عنهما - نزلت حين قالت اليهود: إن صاحبنا الدجال يخرج، فنملك به الأرض فأمر الله تعالى أن يستعيذ من شره، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ): أعظم وأشق في نظر العقل، (مِنْ خَلْقِ النَّاسِ): إعادتهم (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، فلهذا ينكرون الإعادة مع الاعتراف بخلق الأعظم من غير أصل وهذا رد لجدالهم في رد البعث، ومن قال: الأمر بالاستعاذة من الدجال، فهذا رد لمقال الدجال من دعوى الألوهية، وإنكار البعث (وَمَا يَسْتَوِى الأَعْمَى وَالبصِيرُ(4/23)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) مزيد لا للمبالغة في نفي مساواته للمحسن، والأولان مثلان للغافل والمستبصر، والآخران للمحسن والمسيء لتغاير وصفيهما أو كأنه قال لا يستوي الأعمى والبصير فكذلك المحسن والمسيء فشبه حالهما فى عدم الاستواء بحالهما، (قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ) أي: تذكرون تذكرًا قليلاً، (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا): لأن من تأمل في أطوار الخلق يعلم أنه لابد من معاد يجازى المحسن والمسيء، ولاتفاق كلمة الأنبياء عليهم السلام مع ظهور معجزتهم عليها، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ): لا يصدقون بها لغفلتهم وجهلهم (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي): سلوني، (أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي): عن دعائي، والدعاء مخ العبادة، وفي الحديث " من لم يدع الله " وفي رواية " لم يسأل الله يغضب عليه "، أو معناه اعبدوني أثبكم، (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) صاغرين ذليلين.
* * *(4/24)
(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (63) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
* * *
(اللهُ الذِى جَعَلَ): أنشأ، (لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ): وتستريحوا من تعب النهار، (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا): الإبصار في الحقيقة لأهل النهار، فأثبته له مجازًا أو مبالغة(4/25)
وجعله حالاً، ولم يقل لتبصروا فيه لتلك الفائدة، (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُو) وفي التكرير تخصيص لكفران النعمة بهم، حيث أوقع على صريح اسمهم الظاهر الموضوع موضع المضمر الدال على أن ذلك كأنه شأن الإنسان وخاصيته (ذَلِكُمُ): المختص بتلك الأفعال، (اللهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أخبار مترادفة أي: هو الجامع لتلك الأوصاف (فَأَنَّى) فكيف ومن أي وجه؟! (تُؤْفَكُونَ): تصرفون عن عبادته (كَذَلِكَ) أي كما أفكوا (يُؤْفَكُ) فعل المضارع للاستحضار، والمعنى على المضي، (الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أى: من غير دليل ولا تأمل، (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا): مستقرًّا، (وَالسَّمَاءَ بِنَاءً): قبة على الأرض، (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ): خلقكم في أحسن صورة، فإحسان الصورة بعد التصوير بحسب الاعتبار، وإن لم يكن تعدد بحسب الوجود، (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ): من اللذائذ، (ذَلِكُمُ): المخصوص بتلك الأفعال، (اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)، هذا دليل آخر على وحدته (هُوَ الْحَيُّ): المتفرد بالحياة الذاتية الدائمة، (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ): موحدين له، (الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي: قائلين له عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: من قال لا إله إلا الله فليقل على إثرها الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (قُلْ): يا محمد حين يدعونك إلى دين قومك، (إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ): الأدلة على وحدانيته (مِنْ رَبِّي) جواب " لما " يدل عليه ما قبله، (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ): أنقاد (لِرَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ): من بطون أمهاتكم، (طِفْلًا) وحده لإرادة الجنس أو على تأويل كل واحد، (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) أي: ثم يبقيكم لتبلغوا سن(4/26)
الشباب، (ثُمَّ لِتَكُونُوا) أي ثم يبقيكم لتكونوا، (شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) أي: من قبل هذه الأحوال (وَلِتَبْلُغُوا) أي: ويفعل ذلك لتبلغوا، (أَجَلًا مُسَمًّى) هو أجل الموت المقدر، وقيل: يوم القيامة، (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ): وحدته، عطف على لتبلغوا أجلاً (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى): أراد (أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ): لا يحتاج إلى مادة ومدة وآلة وعدة.
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ): كيف يصرفون عن الحق إلى الجهل؟!، (الَّذِينَ كذَّبُوا بِالْكِتَابِ): بالقرآن، (وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا):(4/27)
من سائر الكتب، أو المراد من الكتاب جنس الكتب ومن ما أرسلنا رسلنا الشرائع (فَسَوْفَ يَعلَمُونَ): وباله، (إذِ الْأَغلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ)، جعل المتوقع في حكم الموجود لتيقنه، ولهذا جمع بين سوف وإذ فإنه ظرف ليعلمون (وَالسَّلَاسِلُ)، عطف على الأغلال (يُسْحَبُونَ)، حال من ضمير أعناقهم أي: يجرون (فِي الْحَمِيمِ)، وقيل: تقديره يسحبون بها، فيكون السلاسل مبتدأ، والجملة خبره، (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ): يحرقون، ويصيرون وقود النار (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ) أي: الذي تشركون به، (مِنْ دُونِ اللهِ) أي: الأصنام (قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا)، فقدناهم وذلك قبل أن يقرن آلهتهم بهم أو معناه ضاعوا عنا أي: ما كنا نتوقع منهم، (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا): جحدوا شركهم كما قالوا: (وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام: 23]، أو ضاعت عبادتنا لها كما يقول من ضاع عمله ما كنت أعمل شيئًا أي العمل كلا عمل، (كَذلِكَ): مثل ذلك الإضلال (يُضِلُّ اللهُ الْكَافِرِينَ) حتى لا يهتدوا إلى ما ينفعهم في الآخرة بوجه (ذَلِكُمْ): الإضلال، أو العذاب، (بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) الشرك والضلال (وَبِمَا كُنتمْ تَمْرَحونَ): تتوسعون في الفرح أو تفسدون (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ): السبعة المقسومة لكم (خَالِدِينَ): [مقدرين] الخلود (فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ): منزل(4/28)
المتكبرين عن الحق جهنم، (فَاصْبِرْ): يا محمد، (إِنَّ وَعْدَ اللهِ): بنصرك وإعلاء كلمتك (حَقٌّ): كائن (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ): كالقتل، والأسر، وإن شرطية وما زائدة، وجزاؤه محذوف مثل فذاك، أو فهو المقصود (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ): قبل أن يحل ذلك بهم (فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ): فنجازيهم في القيامة، وهذا جواب للثاني أو هو جواب لهما أي: إن نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فإنا نعذبهم في الآخرة عذابًا شديدًا، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ)، وفي مسند الإمام أحمد عن أبي ذر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن جملتهم مائة ألف وأربع وعشرون ألفًا، الرسل من ذلك ثلاث مائة وخمسة عشر، (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ): ليس لهم اختيار في إتيان مقترح أممهم، (فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللهِ) قضاؤه بين الأنبياء والأمم، (قُضِيَ بِالْحَقِّ): فنجَّى المؤمنين، (وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ): الكافرون، وقيل: أمر الله تعالى القيامة، والمبطلون المعاندون باقتراح الآيات.
* * *
(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي(4/29)
الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
* * *
(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ): إنشاء الإبل والبقر والغنم (لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ): من الصوف والدَّرِّ والوبر (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ): من حمل أثقالكم إلى بلد والغنم للأكل وله المنافع والباقي من الأنعام يصلح للكل (وَعَلَيْهَا): في البر، (وَعَلَى الْفلْكِ): في البحر، (تُحْمَلُونَ) دخول اللام في بعض دون بعض للفرق بين العين والمنفعة، والأظهر أن الأنعام هاهنا الإبل ولما كان العمدة في منافعها الركوب والحمل، أدخل اللام عليهما وأما الأكل والانتفاع بالألبان والأوبار وإن كان يصلحان للتعليل أيضًا، لكنهما قاصران عنهما فجعلا مكتنفين لما بينهما من غير دخول لام عليهما وتقديم المعمول في منها تأكلون، وعليها وعلى الفلك لرعاية الفاصلة وزيادة الاهتمام، ومنها تأكلون عطف على جعل لكم الأنعام عطف جملة على جملة بتقدير وجعل لكم الأنعام منها تأكلون، حتى لا يلزم عطف الحال على العلة وكذلك وعليها وعلى الفلك (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ) الدالة على كمال القدرة والرحمة، (فَأَى آيَاتِ اللهِ): أي آية منها (تُنْكِرُونَ)، هو العامل في(4/30)
أي (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) عددًا (وَأَشَدَّ قُوَّةً): فإنهم أجسم، (وَآثَارًا فِي الأَرْضِ): كقصورهم، ومصانعهم (فَمَا أَغْنَى)، ما نافية، أو استفهامية منصوبة بـ أغني ودخل الفاء، لأنه كالنتيجة بمعنى أنه ترتب عليه وإن كان عكس المطلوب (عَنْهُمْ): العذاب وسوء العاقبة، (مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ): كسبهم أو مكسوبهم (فَلَمًا جَاءتْهُمْ)، الفاء تفسير وتفصيل لما أبهم، وأجمل من عدم الإغناء (رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا): رضوا، (بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ): بزعمهم أو سماه علمًا سخرية، وهو قولهم: نحن(4/31)
صفحة فارغة(4/32)
أعلم لا بعث ولا عذاب وهذا في الحقيقة جهل، وقيل: معناه استهزءوا بما عند الأنبياء من العلم، وقيل: رضوا بما عندهم من علم الدنيا ومعرفة تدبيرها واكتفوا بها (وَحَاقَ بِهِمْ): وبال (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ)، قيل: فيه إشعار إلى المعنى الثاني (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا): عاينوا وقوع العذاب، والفاء لمجرد التعقيب (قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ): منفردًا بالإيمان، (وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ): من الأصنام، (مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ) أي: لم يصح أن ينفعهم (إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) أي: سنَّ الله تعالى ذلك سنة ماضية فهي من المصادر المؤكدة (وَخَسِرَ هُنَالِكَ)، استعير اسم مكان للزمان أي: وقت البأس، (الْكَافِرُونَ) أي: ظهر لهم خسرانهم.
والحمد لله على نعمائه.
* * *(4/33)
سورة حم السجدة مكية
وهي ثلاث أو أربع وخمسون آية وست ركوعات
* * *
سورة فصلت
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
* * *
(حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) تنزيل خبر حم إن كان اسمًا للسورة؛ وإلا فهو خبر محذوف، أو مبتدأ مخصص خبره قوله (كِتابٌ)، وعلى الأولين إما خبر بعد خبر، أو بدل أو خبر محذوف (فُصِّلَتْ): ميزت وبينت (آيَاتُهُ قُرْآنًا) نصب على المدح أو حال، (عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ): لقوم صفة أخرى لـ قرآنًا، أو متعلق بـ فصلت أى: هذا التفصيل للعلماء، فإنهم هم العالمون به (بَشِيرًا): للمؤمنين (وَنَذِيرًا): للكافرين (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ): عن تأمله، (فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ): سماع قبول،(4/34)
(وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ): أغطية (مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ): فلا نفقه ما تقول (وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ): صمم، (وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَاب) يعني نحن في ترك القبول عنك بمنزلة من لا يفهم، ولا يسمع، وبينه -مع ما هو عليه- وبين داعيه -مع ما هو عليه- حجاب غليظ، فلا تلافى ولا ترآى، وفائدة من أن الحجاب ابتدأ منا ومنك، فيدل على استيعاب ما بين الطرفين بالحجاب (فاعْمَلْ): على دينك، (إِنَّنَا عَامِلُونَ): على ديننا، (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) أي: لست بجنيٍّ ولا بملك أتكلم بما لا تفهمون، (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ): وجهوا إليه وجوهكم، وأخلصوا له العبادة (وَاسْتَغْفِرُوهُ): من سالف الذنوب (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ): لا يطهرون أنفسهم، (قد أفلح من زكاها) [الشمس: 9]، (قد أفلح من تزكى) [الأعلى: 14]، أو المراد زكاة أموالهم، وأصلها مأمور به في ابتداء البعثة وأما مقدارها وكيفيتها فبين أمرها بالمدينة. ولفظ الإيتاء يساعد المعنى الثاني، بل كالصريح، لكن الأول منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ): غير مقطوع وأما المنة فلله على أهل الجنة، (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ) [الحجرات: 17].
* * *
(قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ قَالُوا(4/35)
لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
* * *
(قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) أي في حقيقة يومين معلومين عند الله، لا نعرف كيفيتهما أو في قدر يومين لأن الظاهر من قوله: " رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها " [النازعات: 28 - 29]، أن حدوث اليوم والليلة بعد خلق السماء وعن كثير من السلف أن اليومين: الأحد والاثنان وفيه إشكال، اللهم إلا أن يقال: إن الله تعالى لما خلق الأزمان عى أول يومه السبت ثم الأحد ثم الاثنان ثم وثم، وخلق السماء والأرض وما بينهما في مقدار ستة أيام قبل حدوث الزمان متصل بحدوثه بمعنى أنه لو كان الزمان حين الخلق موجودًا لكانت مدة الخلق ستة أيام يكون أوله يوم الأحد ألبتَّة، وآخره يوم الجمعة (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ): القادر العظيم، (رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا): في الأرض، (رَوَاسِيَ): جبالاً ثوابت وهو عطف على محذوف، أي خلقها وجعل، وقيل: عطف على خلق والفصل بالجملتين كلا فصل؛ لأن الأولى بمنزلة الإعادة لتكفرون، والثانية اعتراضية كالتأكيد لمضمون الكلام، (مِنْ فَوْقِهَا): مرتفعة ليظهر على الناظرين (وَبَارَكَ فِيهَا): بخلق المنافع فيها، (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا): أقوات أهلها، أو قدر في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى، (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أي: تتمتها لقوله: " خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام "(4/36)
[السجدة: 4]، واليومان الثلاثاء والأربعاء (سَوَاءً) أي: استوت استواءً بلا زيادة ولا نقصان، والجملة صفة أيام (لِلسَّائِلِينَ) أي: هذا الحصر للسائلين عن مدة خلقها، أو متعلق بـ قدَّر أي: قدر فيها للمحتاجين أقواتها (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ): قصد نحوها، (وَهِيَ دُخَانٌ): ارتفع من الماء الذي عليه عرشه، (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا): ما أمركما أي: افعلاه واستجيبا لأمرى، كما يقال: ائت ما هو الأحسن قيل: إتيان السماء حدوثها، وإتيان الأرض أن تصير مدحوة. عن ابن عباس - رضي الله عنه - أطلعي شمسك وقمرك ونجومَك يا سماء وشققي أنهارك فأخرجي ثمارك ونباتك يا أرض (طَوْعًا أَوْ كَرْهًا): طائعتين أو مكرهتين أي: شئتما أو أبيتما ذلك (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ): استجبنا لك منقادين لما خاطبهما وأقدرهما على الجواب أجراهما مجرى العقلاء عن بعض السلف أن المتكلم موضع الكعبة، ومن السماء ما يسامنه (فَقَضَاهُنَّ): خلقهن، وأحكمهن الضمير إلى السماء على المعنى (سَبْعَ سَمَاوَاتٍ)، حال (فِي يَوْمَيْنِ): يوم الخميس والجمعة، وهذه الآيات مشعرة بأن خلق الأرض ودَحْوَها مقدم على خلق السماوات، وهو مخالف لما في سورة النازعات (والأرض بعد ذلك دحاها) [النازعات: 30]، فلابد أن نقول أن ثم في (ثم استوى إلى السماء) للتراخي(4/37)
الرتبي لا الزماني، وسنذكره في سورة النازعات (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا) قرر ورتب شأنها أي: خلق ما يحتاج إليه من الملك، وما لا يعلمه إلا الله تعالى (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ): الكواكب كلها ظاهرة عليها، (وَحِفْظًا) مصدر لمحذوف أي: وحفظناها من استراق السمع حفظًا (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ فَإِنْ أَعْرَضُوا): مع هذا البيان عن الإيمان (فَقلْ أَنْذَرتُكَمْ صَاعِقَةً): مهلكة، (مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ)، حال من صاعقة عاد أو ظروفها لما فيها من معنى الفعل أي: صعقوا إذ جاءتهم (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) أي: من القرى القريبة من(4/38)
بلادهم (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) القرى البعيدة كما قال: (وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه) [الأحقاف: 21]، وقيل: من كل جانب وعملوا فيهم كل حيلة كما قال الشيطان: (لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم) [الأعراف: 17]، وقيل: أنذروهم من مثل الوقائع المتقدمة ومن العذاب المتأخر أي: عذاب الآخرة (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) أن بمعنى أي (قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا): إرسال الرسل، (لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً): برسالته فإنما أنتم لستم بملائكة (فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ): على زعمكم، (كَافِرُونَ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ): بغوا وعتوا، (وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، اغتروا بقوتهم ومزيد قدرتهم وحسبوا أنها تغنيهم عن العذاب، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً): أزيد قدرة منهم، (وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) أي: يعلمون وينكرون عطف على فاستكبروا (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا): شديدة الصوت من الصرير وشديدة البرد من الصِّرِّ (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ): مشئومات عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما (لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ): الذل وصف به العذاب مع أنه فى الأصل صفة المعذب على الإسناد المجازي للمبالغة (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ): دللناهم على طريق الحق، بلسان نبيهم صالح - عليه السلام (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى): اختاروا الضلالة (عَلَى الْهُدَى)، وهذا لا ينافي كون الضلال بمشيئة الله تعالى، وإنما ينافيه لو كان معنى هديناهم أردنا منهم(4/39)
الهدى (فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ): صيحة ورجفة؛ وهي الذل والهوان والإضافة إلى العذاب ووصفه بالهوان للمبالغة (بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ): من القبائح (وَوَنَجَّيْنَا): من تلك الصاعقة، (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).
* * *
(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
* * *
(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ) أي اذكره (فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبس أولهم على آخرهم (حَتَّى إِذَا مَا جَاءوهَا) ما مزيدة لتأكيد ظرفية للشهادة أي: إنما تقع فيه(4/40)
ألبتَّة (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُونَُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ): من المعاصي، (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ)، خص الجلود بالسؤال لأن الشهادة منها أعجب إذ ليس شأنها الإدراك بخلاف السمع والبصر (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا): لأي علة؟! وبأي موجب؟! (قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي: كل شيء ينطق فما شهدنا اختيارًا، بل اضطرارًا، والأعضاء في القيامة هي الناطقة بالحقيقة وفيها القدرة والإرادة، لا كنطق ينسب إلى الجملة، واللسان مجرد آلة حتى إن إسناد النطق إليه ربما يعد مجازًا (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، الظاهر أنه من تتمة كلام الجلود عن ابن عباس - رضي الله عنهما - إن الكافر يجحد شركه ويحلف كما يحلفون لكم فتشهد من أنفسهم جوارحهم ويختم على أفواههم ثم يفتح لهم الأفواه فتخاصم الجوارح فتقول أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو الذي خلقكم أول مرة وإليه ترجعون، فتقر الألسنة بعد الجحود (وَما كُنتمْ تَسْتَتِرُونَ): عند المعاصي، (أَنْ يَشْهَدَ): لأن يشهد (عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ) أي: ليس استتاركم عند المعاصي خيفة شهادة الجوارح، فإنكم ما تصدقون بشهادتها لإنكاركم الحشر والبعث (وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي: لكنكم(4/41)
إنما استترتم لظنكم أن الله لا يعلم الخفيات، فهو بالحقيقة استدراك من المفعول له أي: ليس استتاركم لخوف الشهادة، بل لظن أن الله تعالى لا يعلم (وَذلِكُمْ)، مبتدأ (ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ) خبر أو بدل (أَرْدَاكُمْ)، خبر ثان أو هو الخبر أي: أهلككم، (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، قد صرح بعض المفسرين أن كلام الجلود إلى قوله: (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، (فَإِنْ يَصْبِرُوا): ولا يسألوا شيئًا، (فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ): لم ينفعهم الصبر، (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا): يسترضوا، (فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ)، فلم يرضوا تقول استعتبته فأعتبني أي: استرضيته فأرضاني أو إن سألوا الرجوع عن الآخرة إلى الدنيا لم يجابوا، (وَقَيَّضْنَا): قدرنا، (لَهُمْ): للمشركين، (قُرَنَاءَ): من الشياطين، (فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) أي: أحْسَنوا لهم أعمالهم الماضية والآتية فلم يروا أنفسهم إلا محسنين أو أمر الدنيا واتباع شهواتها، وأمر الآخرة وإنكارها (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ): كلمة العذاب، (فِي أُمَمٍ) أي: كائنين في جملتهم حال من عليهم (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ) استئناف تعليل (كَانُوا خَاسِرِينَ).
* * *(4/42)
ْ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
* * *
ْ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ): كان بعضهم يوصي بعضًا إذا رأيتم محمدًا يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر واللغو وكلموا فيه وعيِّبوه أو بالمكاء والصفير، أو أكثروا الكلام والصياح ليختلط عليه (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ): محمدًا على قراءته فيترك (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كفَرُوا) أي: نذيقنهم (عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي: نجزينهم جزاء أسوء أعمالهم من الاستهزاء، وتحقير القرآن (ذَلكَ): الأسوأ (جَزَاءُ أَعدَاء اللهِ) مبتدأ وخبر (النَّارُ) عطف بيان للخبر (لَهُمْ فِيهَا): في النار، (دَارُ الْخُلْدِ): في النار مواضع واسعة، ولهم فيها مكان يخلدون فيه (جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كفَرُوا(4/43)
رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي: شيطاني النوعين وعن علي - رضي الله عنه - إن مرادهم إبليس، فإنه سن الكفر، وقابيل فإنه سن القتل (نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا): أسفل منا في العذاب، ليكون عذابهما أشد (لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) أي: فى الدرك الأسفل (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ): أقروا بوحدانيته، (ثُمَّ اسْتَقَامُوا): على التوحيد، ولم يشركوا به شيئًا، أو على أمر الله تعالى فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ) عند الموت أو عنده وفي القبر عند البعث (أَلَّا تَخَافُوا) بمعنى أي: أو بأن لا تخافوا مما تقدمون عليه من أمر الآخرة (وَلَا تَحْزَنُوا) على ما خلفتموه من أمر الدنيا (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ): على لسان أنبيائكم (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا): وفقناكم على الخير وحفظناكم من الشر بإذن الله تعالى (وَفِي الْآخِرَةِ) نؤنس منكم وحشة القبر، ونوصلكم إلى الجنة (وَلَكُمْ فِيهَا): في الآخرة، (مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ): ما تطلبون، والثاني أعم من الأول (نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)، النزل طعام النزيل، وهو حال من الضمير المستكن في خبر ما تدعون لا من مفعول تدعون.
* * *
(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ(4/44)
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لله الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
* * *
(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ): إلى طاعته (وَعَمِلَ صَالِحًا)، لا من الذين لا يوافق قولهم عملهم (وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، جعل الإسلام دينه ومذهبه، أو تكلم بذلك تفاخرًا، والآية عامة في كل مهديٍّ هادٍ ولعل مراد من قال: إن المراد به(4/45)
المؤذنون أنَّهم أولى وأدخل لا أنها نزلت فيهم، فإن الآية مكية والأذان شرع بالمدينة (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ)، لا الثانية لتأكيد النفي، (ادفَعْ): السيئة، (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ): وهي الحسنة استئناف كأنه قيل: كيف أصنع؟ قال: ادفع والمراد من الأحسن الزائد مطلقًا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أمر بالصبر عند الغضب، وبالعفو عند الإساءة. معناه لا تستوي الحسنات، بل يتفاوت إلى الحسن والأحسن، وكذلك السيئات فادفع السيئة التي ترد عليك بحسنة هي أحسن من أختها، مثلاً تحسن إلى من أساءك ولا تكتفي بمجرد العفو عنه (فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ) أي: إذا فعلت ذلك يصير العدو (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ): صديق شفيق، (وَمَا يُلَقَّاهَا) أي: تلك الخصلة يعني مقابلة الإساءة بالإحسان (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا): على مخالفة النفس، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ): من كمال النفس (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ) أى: يفسدك فساد. حال كون الفساد من الشيطان يعني يصرفك عن الدفع بالتي هي أحسن، فيكون من قبيل جَدَّ جِدُّه، ومن الشيطان حال مقدم (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ): حتى يوفقك على دفعه، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ): باستعاذتك (الْعَلِيمُ): بما في ضميرك، (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لله الَّذِي خَلَقَهُنَّ)، الضمير للأربعة نحو: الأيام مضين (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ): فإن عبادته مع عبادة غيره غير مقبولة، (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا): عن الامتثال (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) أي: الملائكة (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) أي: دائمًا، (وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ): لا يملون وهذا مثل قوله: (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) [الأنعام: 89] (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً): متذللة(4/46)
استعارة عن يبسها، (فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ): تحركت بالنبات، (وَرَبَتْ): زادت وعلت، (إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْييِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): فيقدر على الإعادة، (إِن الذِينَ يُلْحِدُونَ): يميلون عن الاستقامة (فِي آيَاتِنَا): يضعون في غير مواضعها (لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا)، فيه وعيد شديد (أَفَمَنْ(4/47)
يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ): يعني جزاء الإلحاد فيها النار (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ)، تهديد على تهديد (إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ): فيجازيكم، (إِن الذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ): بالقرآن، (لَمَّا جَاءَهُمْ)، جملة مستأنفة، وحذف خبر إن للتهويل أي: يكون من أمرهم ما يكون، أو يهلكون أو الجملة بدل من إن الذين يلحدون إلخ (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ): أعزه الله (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ): ليس للبطلان إليه سبيل، أو لا يبطله الكتب المتقدمة ولا يأتيه كتاب بعده يبطله، (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ): في ذاته وإن لم يحمده الحامدون، (مَا يُقَالُ لَكَ) أي: لا يقول لك قومك (إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) أي: إلا مثله أي:(4/48)
فاصبر كما صبروا ولا تجزع (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ): لمن تاب، (وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ): لمن أصر على التكذيب وقيل: معناه لا يقول الله لك إلا مثل ما قال لهم، وهو إن ربك لذو مغفرة، فقوله: " إن ربَّك " بدل مما قد قيل (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا): بغير لغة العرب، (لَقَالُوا لَوْلَا) أي: هلا، (فُصِّلَتْ آيَاتُهُ): بينت بوجه نفهمه، (أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) أي: أكلام أعجمي ومخاطب عربي؟! فالهمزة للإنكار، ومن قرأ بلا همزة فهو إخبار وعن بعضهم أن معناه حينئذٍ هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجميًا وبعضها عربيًا، لينتفع بها القبيلتان، يعني هم على أي حال تجدهم في عنادٍ واعتراض متعنتين. نقل البغوي عن مقاتل أنها نزلت حين قال المشركون: يعلم يسارٌ محمدًا القرآن وهو غلام يهودي، أعجمي يكني أبا فكيهة، (قُلْ): يا محمد (هُوَ): القرآن، (لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى): إلي الحق، (وَشِفَاءٌ): من الجهل، (وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)، عطف على المجرور باللام (فِى آذَانِهِمْ وَقْرٌ)، عطف على هدى، والمحققون يجوزون مثل ذلك العطف " وفي آذانهم " حال من الضمير في الذين لا يؤمنون، ووقر أي: ذو وقر أو كوقر أو الذين كفروا مبتدأ، وخبره في آذانهم وقر بتقدير مبتدأ أى: هو يعني القرآن في آذانهم وقرٌ فيكون من عطف الجملة على الجملة (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) أي: ذو عمى أو كعمى فلا ينتفعون به أصلاً (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) لهذا تمثيل أي: مثلهم مثل من يصيح به من مسافة بعيدة، لا يسمع من مثلها إلا مجرد نداء، مثل الذين كفروا، كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء وعن الضحاك ينادون يوم القيامة من مكان بعيد بأشنع أسمائهم.
* * *(4/49)
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ): بالتصديق والتكذيب، كما اختلف قومك في كتابك (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ): في تأخير العذاب وأجل مسمى، (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ): عجل لهم العذاب، (وَإِنَّهُمْ) أي: المشركين (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ): من القرآن (مُرِيبٍ): موقع لهم في الريبة أو أن اليهود لفى شك من التوراة (مَنْ عَمِلَ(4/50)
صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ): فلا يعذب أحدًا إلا بعد الاستحقاق. (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ): ما يعلمها إلا الله، (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ)، ما نافية ومن زائدة للاستغراق (مِنْ أَكْمَامِهَا)، جمع كِم بالكسرة، وهو وعاء الثمرة، (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ): مقرونًا بعلمه (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ) أي: اذكر يوم ينادي الله تعالى المشركين (أَيْنَ شُرَكَائِي) بزعمكم؟ (قَالُوا آذَنَّاكَ) أعلمناك (مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ): من أحد يشهد أن لك شريكًا إذ تبرءوا عنهم لما عاينوا الحال والسؤال توبيخ (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ): من الأصنام، (مِنْ قَبْلُ): قبل القيامة فلا ينفعهم، (وَظَنُّوا): أيقنوا (مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ): مهرب، (لَا يَسْأَمُ): لا يمل، (الْإِنسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ): كالمال والصحة، (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ): كالفقر والمرض، (فَيَئُوسٌ): من فضله، (قَنُوطٌ): من رحمته، وما هذا إلا حال الكافر فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، (وَلَئِنْ أَذقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ): بتفريجها عنه، (لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي): حقي وصل إليَّ، أو لا يزول عني، (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي): على فرض أن تقوم القيامة كما يزعمون (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى):(4/51)
معدٌ لي عند الله الحالة الحسنى من النعمة يتمنى على الله تعالى مع إساءة عمله، وهو جواب القسم ساد مسد جواب الشرط (فَلَنُنَبِّئَنً الذِينَ كَفَرُوا): نخبرنهم، (بِمَا عَمِلُوا): بحقيقة أعمالهم فيعلموا أنها تستوجب ندامة لا كرامة (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَإِذَا أَنعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ): نسي المنعم، ولم يأتمر بأوامره (وَنَأَى بِجَانِبِهِ): أذهب نفسه وتباعد عنه تكبرًا، والجانب مجاز عن النفس (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ): كثير دائم لأنه إذا كان عرضه واسعًا فما بالك بطوله فإنه أطول الامتدادين استعير ما هو من صفة الأجرام للدعاء (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ): القرآن، (مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ): خلاف وعداوة (بَعِيدٍ): عن الطريق المستقيم، أي: من أضل منكم؟ فوضع موضعه، ليكون تعليلاً لكمال الضلال، وهو في موقع مفعولي أخبروني على طريق التعليق،(4/52)
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا): الدالة على حقية القرآن، (فِي الْآفَاقِ): كوقائع لا تتعلق بخاصتهم، مثل ظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان (وَفِي أَنْفُسِهِمْ): كالوقائع التي حلت بهم، كوقعة بدر وفتح مكة (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ): القرآن، (الْحَقُّ): المنزل من عند الله تعالى أو معناه سنريهم آياتنا في الآفاق، كالشمس والقمر وغيرهما، وفى أنفسهم من عجائب الصنع المركب منها الإنسان حتى يتبين أن الله هو الحق وكل شيء سواه باطل، زائل لا يستحق الألوهية (أَوَلَمْ يَكْفِ) أي: أليس الأمر كذلك؟ ولم يكف (بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي: ألم يكف شهادته على كل شيء؟ وهو يشهد على صدق محمد فيما أخبر به عنه أو ألم يكف في حقية الله تعالى اطلاعه على جميع الأشياء؟ فـ بربك فاعل كفى، وما بعده بدل منه قيل: أو لم يكفك ربك؟ فإنه عالم بكل شىء فيعلم حالك (أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ): شك (مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ): بالبعث، (أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ): الكل تحت علمه وقدرته فإقامة الساعة يسير عليه.
والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *(4/53)
سورة حم عسق وتسمى سورة الشورى مكية
وهى ثلاث وخمسون آية وخمس ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
* * *
(حم عسق) قيل: فصل بينهما ليطابق سائر الحواميم (كَذَلِكَ يوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ الله الْعَزِيز الْحَكِيمُ) أي: مثل ما في هذه من المعاني أوحى(4/54)
الله تعالى إليك، وإلى من قبلك من الرسل. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس من رسول إلا وقد أوحي إليه حم عسق (1)، فعلى هذا " كذلك " إشارة إليه، وذكر المضارع للاستمرار وبيان العادة، وكذلك في موقع المصدر أو المفعول به، ومن قرأ " يُوحَى " بصيغة المجهول، فالله مرفوع بمحذوف كأن قائلاً قال: من يوحي فقال: الله (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ): يتشققن من عظمته، أو من قولهم: (اتخذ الرحمن ولدًا) [يونس: 68، مريم: 88، الأنبياء: 26] (مِنْ فَوْقِهِنَّ) أي: يبتدي الانفطار من جهتهن الفوقانية، فإن أعظم آياته الدالة على جلاله، وهي العرش والكرسي وغيرهما من تلك الجهة (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ) متلبسين (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ): من المؤمنين،
__________
(1) فيه نظر.(4/55)
كما قال تعالى: (يستغفرون للذين آمنوا) [غافر: 7]، وقيل: الاستغفار طلب هدايتهم التي هي موجب الغفران، فيعم الكافر (أَلَا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) شركاء (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ): رقيب على أعمالهم، يحصيها ويجزيهم (وَمَا أَنْتَ) يا محمد (عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ): بموكل بهم، (إنما أنت نذير) [هود: 12] (وَكَذَلِكَ) أي: مثل ذلك الإيحاء البين (أَوْحَيْنَا إِلَيكَ قُرْآنًا) مفعول أوحينا (عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى): مكة، أي: أهلها (وَمَنْ حَوْلَهَا) قرئ الأرض كلها، أو المراد العرب، وترك المفعول الثاني لقصد العموم أي: بأنواع الإنذار (وَتُنْدرَ يَوْمَ الجمع) يقال: أنذرته النار وبالنار. وترك المفعول الأول للعموم أيضًا، أى: لتنذر كل أحد عن هول يوم القيامة، الذي يجمع فيه الأولون والآخرون (لَا رَيْبَ فيهِ) اعتراض لا محل له (فرِيقٌ) أي: منهم فريق يعني مشارفين للتفريق، والضمير للمجموعين الدال عليه يوم الجمع (فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) والجملة حال من مفعول الجمع، ولذلك قدرنا الجار والمجرور مقدمًا؛ لأنه إذا كانت الجملة الاسمية حالاً بغير واو، ولم يكن فيما صدرته الجملة ضمير إلى ذي الحال، لكان ضعيفًا (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً): على دين واحد (وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ) بالهداية (وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ): يدفع عنهم العذاب وينصرهم، وتغيير المقابلة للمبالغة في الوعيد، وتكثير الفائدة (أَمِ اتَّخَدوا) بل اتخذوا(4/56)
الهمزة للإنكار (مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ) أي: إن أرادوا وليًّا، فالله هو الولي بالحق عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فالله هو وليك، وولي من تبعك (وَهُوَ يُحْييِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
* * *
(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ(4/57)
أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)
* * *
(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) لإرادة العموم أتى بهذا البيان (فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) هذا كقوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) [النساء: 59]. وهذا حكاية لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على طريقة التعليم لقوله: (ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ): أرجع (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) خبر آخر لذلكم، أو مبتدأ خبره قوله: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ) أي: من جنسكم (أزْوَاجًا): نساء (وَمِنَ الْأَنْعَامٍ أَزْوَاجًا): وخلق للأنعام من جنسها أزواجًا، أو خلق لكم من الأنعام أصنافًا (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ): يكثركم في ذلك الطريق والتدبير، وهو جعلكم أزواجًا يكون سببًا للتوالد (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ): قولنا: ليس كذاته، وليس كمثله،(4/58)
عبارتان عن معنى واحد إلا أن الأولى صريحة والثانية: كناية مشتملة على مبالغة، وهي أن المماثلة منفية ممن يكون مثله وعلى صفته، فكيف عن نفسه. وهذا لا يستلزم وجود المثل، وقيل: الكاف أو المثل: صلة (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ): مفاتيح، أو خزائن (السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ): ويضيق (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى) أي: أظهر وسنَّ لكم من الدين، دين نوح وهو أول أنبياء الشريعة، ومحمد وهو آخرهم، ومَنْ بينهما مِنْ أولي العزم (أَنْ أَقِيمُوا(4/59)
الدِّينَ) بدل من مفعول شرع، أو " أن " مفسرة بمعنى: أي (وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) المراد إقامة دين الإسلام وعدم الاختلاف فيه، أي: في التوحيد والطاعة ونحو ذلك من الأصول، لا الشرائع العملية المختلفة باختلاف مصالح الأمم (كَبُرَ): عظم وشق (عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من ترك الشرك (اللهُ يَجْتَبِي): يصطفي (إِلَيْهِ): إلى اللهَ (مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ): من يُقْبِلُ إليه، وقيل: يجتبي من جبي الخراج أي: جمعه؛ لأن الكلام في عدم التفرق يناسب الجمع والانتهاء إليه، وضمير إليه للدين (وَمَا تَفَرَّقُوا) أهل الأديان، أو أهل الكتاب (إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) بأن الفرقة ضلالة، أو المراد من العلم الكتب السماوية (بَغْيًا): لعداوة وعناد (بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ): بالإمهال (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى): يوم القيامة، أو آخر أعمارهم (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بأن جزيناهم بما يستحقون في أسرع وقت (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) إنجيل المتأخر بعد القرون الأولى (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ): من دينهم أو من القرآن (مُرِيبٍ): مدخل في الريبة (فَلِذَلِكَ) أي: إلى ما أوحينا إليك وإلى غيرك (فَادْعُ) الناس. يقال: دعوت له وإليه، وقيل: لأجل ذلك التفرق ادع الناس إلى الاتفاق على دين الإسلام (وَاسْتَقِمْ) على عبادة الله تعالى (كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ) لا كمن آمن ببعض، وكفر ببعض (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ): لأن أعدل في الحكم (بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنَا(4/60)
وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) وكل يجازى بعمله (لَا حُجَّةَ): لا خصومة (بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) وهذا قبل نزول آية السيف فإن السورة مكية. وقيل: لا إيراد حجةٍ بيننا، فإنه قد ظهر الحق (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا): يوم المعاد (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فيفصل بيننا (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ): يجادلون (فِى اللهِ): في دينه (مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ) أي: بعد ما استجاب الناس لله تعالى ودخلوا الإسلام، وقيل: بعد ما استجاب الله تعالى لرسوله بإظهار دينه، وقيل: بعد ما استجاب أهل الكتاب له وأقروا بنبوته (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ): باطلة زائلة (عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ) جنسه (بِالْحَقِّ) متلبسًا بعيدًا من الباطل (وَالْمِيزَانَ): العدل وهو شرعه، أو إنزال العدل عبارة عن الأمر به، أو المراد إنزال الميزان على الحقيقة، كما سنذكره في سورة الحديد من أنه نزل إلى نوح وأمر أن يوزن به (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ): التي هي يوم الجزاء، ووضع الميزان والعدل (قَرِيبٌ) فواظب على العدل، وتذكير قريب، لأن الساعة بمعنى البعث، أو لأن تقديره: لعل مجيء الساعة (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا): استهزاء (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ): خائفون (مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ): الكائن ألبتَّة فيستعدون لها (أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ): يجادلون (فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) عن طريق الصواب (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ): بار بالبر والفاجر (يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ) أي: يرزق من يشاء ما يشاء على مقتضى حكمته (وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ): القادر المطلق الذي لا يغلب.
* * *
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ(4/61)
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)
* * *
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ) بعمله (حَرْثَ الْآخِرَةِ) أي: زرعها. سمي عمله زرع الْآخِرَةِ؛ لأن الفائدة تحصل فيها، كما يقال: زرع الصيف (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) بتضعيف ثوابه (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ) بعمله (حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا): شيئًا منها بقدر ما قسمنا له (وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) نصيب من عمله، إذ لكل امرئٍ ما نوى (أَمْ(4/62)
لَهُمْ شُرَكَاءُ): بل ألهم آلهة وهم الشياطين، والهمزة للتحقيق والتثبيت (شَرَعُوا): أظهروا (لَهُمْ مِنَ الدِّينِ) غير دين الإسلام (مَا لَمْ يَأذَنْ بِهِ اللهُ) وهذا إضراب عن قوله: " شرع لكم من الدين " [الشورى: 13] إلخ (وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ): القضاء السابق بتأجيل العذاب إلى القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُم) بين المؤمنين والكافرين في الدنيا (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ) في القيامة (مُشْفِقِينَ): خائفين (مِمَّا كَسَبُوا): من وباله (وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ) لا محالة (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ): أحسن بقاعها (لَهُمْ مَا يَشَاءونَ عِنْدَ ربِّهِمْ) ظرف لـ " لَهُم " أي: حصل لهم عنده وفي كرمه، أو حال (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذَلِكَ) الثواب (الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عبادَهُ) أي: به، حذف الجار ثم العائد (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ): على التبليغ (أَجْرًا):(4/63)
نفعًا منكم (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى): إلا أن تحبوني في حق قرابني منكم ومن أجلها، أو إلا أن تحبوا أهل قرابتي وتجعلوهم مكان المودة، فالظرف حال، وعن الإمام أحمد قال عليه الصلاة والسلام للعباس: " لا يدخل قلب امرئٍ إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي "، أو إلا أن تحبوا الله في تقربكم إليه بطاعته (وَمَنْ يَقْتَرِفْ): يكتسب (حَسَنَةً) طاعة (نَزِدْ له فِيهَا): في الحسنة (حُسْنًا) بأن نضاعف أجرها (إِنَّ اللهَ عفُورٌ شَكُورٌ) يقبل الطاعة وإن قَلَّت (أَمْ يَقُولُونَ) بل أيقولون: إضراب آخر أشد من قوله: " أم لهم شركاء " إلخ (افْتَرَى) محمد (على اللهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللهُ) أي: خذلانك اللازم للافتراء (يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) فلا تعي القرآن ولا تفهم الوحي، ويسلبك ما أتاك من الله تعالى، أو فتجترئ على الافتراء عليه، وهذا رد واستبعاد لافترائه على الله تعالى. وعن مجاهد: يربط على قلبك بالصبر فلا يشق عليك أذاهم (وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ) كلام ابتدائي عطف جملة على جملة لا على الجزاء، ولهذا أعاد اسم الله تعالى، ورفع يحق وحذف الواو من يمحو في اللفظ لالتقاء الساكنين، وفى الخط في بعض المصاحف على خلاف القياس كما في " ويدع الإنسان " [الإسراء: 11] وهذا عدة بمحو الباطل الذي هم عليه، وإثبات الحق الذي عليه المؤمنون بحججه أو بالقرآن أو بقضائه، وقيل: حاصله أن من عادته محو الباطل وإثبات الحق، فلو كان مفتريًا لمحقه وأثبت الحق (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) فيعلم ضميرك(4/64)
وضميرهم، فيجري الأمر على حسب ذلك (وَهُوَ الذِى يَقْبَلُ التَّوبةَ عَنْ عِبَادِهِ): بالعفو عما تاب عنه، وعدم المؤاخذة به (وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) من شأنه قبول التوبة والعفو عن الذنوب، والظاهر من لفظ العفو وعطفه على يقبل التوبة، أن هذا في غير التائب، (وَيعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) فيثبت ويعاقب (وَيَسْتَجِيبُ الذِينَ آمَنُوا) أي: يجيب الله تعالى دعاءهم ويثيبهم (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) عما استحقوا، وفى الحديث في تفسير " ويزيدهم " قال - عليه الصلاة والسلام: " الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا ". وعن بعض السلف في قوله: " ويستجيب الذين آمنوا "، قال: يشفعون في إخوانهم وفي قوله: (ويزيدهم من فضله) قال: يشفعون فى إخوان إخوانهم (وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ) بأن أغناهم جميعًا ووفر الدنيا للكل (لَبَغَوْا): أفسدوا (فِي الْأَرْضِ) بطرا أى: ولم يبسط لئلا يعم البغي ولا يغلب الفساد على الصلاح (وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ) أي: ينزل ما يشاء من أرزاقهم بتقدير وتعيين، وفي الحديث " إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإن منهم من لا يصلحه إلا الفقر(4/65)
ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه " (إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) فيقدر لهم ما يناسبهم (وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ): المطر، قيل: هو المطر النافع (مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا): أيسوا منه (وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ): يبسط منافع الغيث، أو ينشر سائر رحمته (وَهُوَ الْوَلِيُّ): المتصرف للأمور (الْحَمِيدُ): المستحق للحمد (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ) أي: نشر، وما موصولة عطف على السماوات (فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ): من حي، ذكر اللزوم وأراد اللازم، أو في السماء دواب من مراكب أهل الجنة وغيرها، وقيل: فيهما، أي: في بينهما يدب على الأرض (وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ) للحشر (إِذَا يَشَاءُ) أي وقتٍ شاء (قَدِيرٌ).
* * *
(وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ(4/66)
شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
* * *
(وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) من الجرائم فأنتم السبب، والفاء لتضمين " ما " معنى الشرط، ومن قرأ بغير الفاء فمن غير تضمين (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) فلا يعاقبكم لا في الدنيا ولا في الآخرة بها " ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا " [فاطر: 45] وعن علي - رضي الله عنه - قال: ألا أخبركم بأفضل آية حدثنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ " ما أصابكم من مصيبة " الآية قال: وسأفسرها لك يا علي ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا، فبما كسبت أيديكم والله أحلم من أن يثني عليهم العقوبة في الآخرة، وما عفى الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه " (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) فيصل إليكم لا محالة ما قدر الله تعالى لكم (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) فإنه هو المتولي والناصر وحده (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ) أي: السفن كالجبال في(4/67)
العِظَم، والظرف متعلق بما يتعلق به " من آياته " وكالأعلام حال من ضميره (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ): يصرن (رَوَاكِدَ): ثوابت (عَلَى ظَهْرِهِ) أي: ظهر البحر (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ): لكل مؤمن سافر في البحر ورأى عجائبه، فإنه صبر على شدائد البحر وشكر عند الخلاص، والكافر يجزع فلا يشكر (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بمَا كَسَبُوا): يهلك أهلهن بالغرق بسبب ذنوبهم، عطف على يسكن الريح (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) تقديره: أو إن يشأ يعصف الريح، فيوبق بعضًا من أهلهن، وينج بعضًا على العفو عنهم (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا) لإبطالها (مَا لَهمْ مِنْ مَحِيصٍ): مهرب من عذابه المقدر، ومن قرأ بنصب " يعلم " فعنده عطف على تعليل محذوف، أي: يوبقهن لينتقم منهم ويعلم (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ(4/68)
الدُّنْيَا) لا يبقى بعد الموت (وَمَا عِندَ اللهِ) من الثواب (خَيْرٌ وَأَبْقَى) لما كانت سببية كون الشيء عند الله تعالى لخيريته أمرًا مقررًا في العقول، غنيًّا عن الدلالة عليه بحرف موضوع له، بخلاف سببية كون الشيء عندكم لقلته وحقارته أتى بالفاء في الأول دون الثاني (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) قيل: نزلت في أبي يكر - رضى الله عنه - حين تصدق بجميع ماله ولامه الناس (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ) عطف على (لِلَّذِينَ)، والأصح أن الكبائر: كل ما ورد فيه وعيد شديد في الكتاب والسنة (وَالْفَوَاحِشَ): تزايد قبحه، أو ما يتعلق بالفروج، تخصيص يعد تعميم (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) سجيتهم الصفح لا الانتقام (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ): أجابوه حين دعاهم إلى الطاعة بلسان رسوله - عليه الصلاة والسلام (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ): ذو شورى، لا يبرمون أمرًا حتى يتشاوروا فيه (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغيُ): الظلم (همْ يَنْتَصِرونَ) يعني: يعفون فى محل العفو، وينتقمون في محل الانتقام، ليسوا أذلة عاجزين (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) عقب وصف الانتقام بهذا إشارة إلى منع التعدي، وسمى الثانية سيئة للازدواج (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ) بينه ويبن عدوه (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أبهم الجزاء للتعظيم (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ): الذين يبدءون بالظلم (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) من إضافة المصدر إلى المفعول، أي: بعد ظلم الظالم إياه (فأُولَئِكَ) إشارة إلى معنى " من " (مَا(4/69)
عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) بعقوبة ومؤاخذة (إِنَّمَا السَّبِيلُ) أي: ما السبيل بالمعاقبة إلا (عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) لا على من ينتصر (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ) على الأذى (وَغَفَرَ) ولم ينتصر (إِنَّ ذَلِكَ) إشارة إلى صبره، لا إلى مطلق الصبر، فلا يحتاج إلى تقدير ضمير (لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ): لمن الأمور المشكورة، والأفعال الحميدة.
* * *
(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ(4/70)
عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
* * *
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ): من ناصر يتولاه (مِنْ بَعْدِهِ): من بعد إضلال الله إياه (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) في القيامة (يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبيلٍ): هل طريق إلى رجعة إلى الدنيا؟! (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا): على النار (خَاشِعِينَ): خاضعين (مِنَ الذُّلِّ): مما يلحقهم من الذل (يَنْظُرُونَ): إلى النار (مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ): مسارقة فإن الكاره لشيء، لا يقدر أن يفتح أجفانه عليه (وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بالضلال (وَأَهْلِيهِمْ) بالإضلال، وقيل: خسروا أهليهم بأن فرقوا بين أنفسهم وبينهم، لأنَّهُم في النار وأهليهم فى الجنة (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ظرف لخسروا، وقال: على التنازع. وهذا القول من المؤمنين حين رأوا أن العذاب أحاط بهم، والماضي من باب ونادى أصحاب الأعراف) [الأعراف: 48]، أو هذا القول منهم في الدنيا (أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ) تصديق من الله تعالى أو تتمة كلامهم (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) إلي الهداية والجنة (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) أي: أجيبوا أمره وداعيه (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) من متعلق بمتعلق له لا بـ مَرَدَّ أي: لا يرده الله تعالى بعد ما حكم به، وقيل: متعلق بـ يأتي(4/71)
(مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ): إنكار لأعمالكم، وجاز أن يراد إنكار لوعد الله تعالى ووعيده (فإِنْ أَعْرَضُوا) عن الإجابة (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَليهِمْ حَفِيظًا): رقيبًا تحفظ أعمالهم (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ) أي: جنسه (مِنَّا رَحْمَةً) كصحة وغني (فَرِحَ بِهَا) فأشر وبطر (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بسبب قبائحهم (فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ): بليغ الكفران ينسى النعمة رأسًا ويقنط، علق الحكم بصريح اسم الجنس دون الضمير العائد إلى مثله، تسجيلاً على أن هذا الجنس موسوم بالكفران (لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فيقسم(4/72)
الرحمة والسيئة كيف يشاء (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا) وإن لم يشأها (1) (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذكورَ) تأخير الذكور؛ لأن سياق الكلام في إطلاق مشيئة الله تعالى من غير اختيار لغيره، والإناث مما لم يشأه الوالدان، وأيضًا للمحافظة على الفواصل، ولذا عرَّفَه، أو لجبر التأخير أني قدمهن توصية برعايتهن لضعفهن، لا سيما وكُنَّ قريبات العهد بالوأد (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ) أي: المولودين (ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) في موضع الحال من المفعول، وذكر هذا القسم بلفظه أو من غير ذكر المشيئة؛ لأنه ليس قسيمًا على حدة، بل تركيب من السابقين؛ كأنه قيل: يهب لمن يشاء إناثًا منفردات وذكورًا كذلك أو مجتمعين (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِي) فيفعل ما يعلم صلاحه (وَمَا كانَ): ما صح (لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلى وَحْيًا): وهو الإلهام أو المنام (أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ): يسمع كلامه ولا يراه، كما لموسى عليه الصلاة والسلام (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا): ملكًا (فيُوحِيَ) ذلك الرسول إلي المرسل إليه
__________
(1) أي الأب أو الخلق.(4/73)
(بِإِذْنِهِ) أي: الله (مَا يَشَاءُ) أي: الله، ووحيًا وأن يرسل بمعنى: موحيًا ومرسلاً، ويقدر مُسْمِعًا قبل من وراء الحجاب، وكل منها حال، أو الكل مصدر، فإن الوحي والإرسال نوعان من التكلم، ويقدر قبل من وراء حجاب إسماعًا، أو تقديره: بأن يوحي أو يُسمِع من وراء حجاب، أو يُرْسل فنصبه بنزع الخافض (إِنَّهُ عَلِيٌّ) عن مماثلة خلقه (حَكِيمٌ) فيفعل ما يقتضيه حكمته (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) يا محمد (رُوحًا) أي: وحيًا، فإن حياة القلوب بما أوحى إليه (مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) على التفصيل الذي عرفت بعد الوحي، وعن بعضهم المراد من الإيمان ها هنا الصلاة، كقوله: " وما كان الله ليضيع إيمانكم " [البقرة: 143] (وَلَكِن جَعَلْنَاهُ) الكتاب أو الإيمان (نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللهِ) بدل (الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) فيحكم فيها بمقتضى عدله وفضله.
والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *(4/74)
سورة الزخرف مكية
قيل إلا قوله (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا)
وهى تسع وثمانونَ آية وسبع ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)
* * *
(حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) أقسم بالكتاب المُظْهِرِ طرق الهدى، أو الظاهر الجلي(4/75)
معناه، والواو إما للقسم وحم أيضًا قسم، فهو من نمط التعديد، أو للعطف على القسم، أو معناه بحق الكتاب المبين أنه حُمَّ الأمر وقُضي، ثم ابتدأ بقوله: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا): صيرناه عربيًا بلغتكم (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ) عطف على " إنا " (فِي أُمِّ الْكِتَابِ): اللوح المحفوظ (لَدَيْنَا): عندنا (لَعَلِيٌّ): ذو مكانة وشرف (حَكِيمٌ): ذو حكمة بالغة، والظرف الأول في موقع الحال، والثاني بدل، أي حال كون ذلك متحققا في اللوح ثابتاً عندي، كقولك: زيد عندي كامل الشجاعة، أو هما بيان محل الحكم، أي هذا في أم الكتاب لدينا، وقيل: الأول متعلق بـ (لَعَلِيٌّ)، واللام غير مانع (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكرَ)، نبعد وننحيه عنكم ونترك إنزاله ونعرض عنه (صَفْحًا): إعراضًا، مصدر من غير لفظه؛ لأن تنحية الذكر إعراض أو حال بمعنى معرضين (أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ) أي: لئن كنتم، والفاء عطف على محذوف، أي: أنهملكم ونترك(4/76)
إنزال القرآن لأنكم مسرفون؟! وعن كثير من السلف معناه ألا نذكركم قط ونخليكم ونعرض عنكم ولا نعذبكم ولا نجازيكم لأنكم تركتم أمرنا وأسرفتم؟ كما تقول أحبك أن كنت شتمتني، ومن قرأ " إن كنتم " بالكسر، فمن باب جعل المحقق منزلة المشكوك، ابتناءًا على أن المخاطب كأنه متردد شاك في ثبوت الشرط، قصدًا إلى نسبته إلى الجهل (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ) أي: من القوم المسرفين، وهم قومك (بَطْشًا): قوة، وقيل معناه: فأهلكنا أشد المستهزئين من الأولين بطشًا (ومَضَى) سلف في القرآن (مَثَلُ الْأَوَّلِينَ): قصتهم وحالهم العجيبة، وعن بعضهم معناه مضى عبرتهم، أى: جعلناهم عبرة لمن بعدهم فيه تسلية ووعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووعيد للمكذبين (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أنكروا قدرته بالبعث وعبدوا غيره، بعد ما أقروا بكمال قدرته وعزته وعلمه (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا) تستقرون فيها، وهذا قول الله - تعالى - من غير حكاية وصفًا منه لذاته في سياق واحد (وَجَعَلَ): خلق (لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ): إلى مقاصدكم من بلد إلى بلد، أو إلى كمال حكمته فتؤمنون (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ): بمقدار معلوم (فَأَنْشَرْنَا): أحيينا، فيه التفات (بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا) البلدة بمعنى: المكان، فذكر صفته (كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) من قبوركم(4/77)
(وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ): الأصناف (كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ) أي: تركبونه، جعل السفينة كالدابة فعدى الفعل إليها بنفسه، فإنه يقال: ركبت في الفلك (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ) أي: ظهور ما تركبون (ثُمَّ تَذْكُرُوا) بقلبكم (نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا) بلسانكم (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ): مطيقين (وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ): منصرفون راجعون، يذكر ركوب النفس بالبدن وسير العمر، وعن طاوس: حق على كل مسلم إذا ركب دابة أو سفينة، أن يقول ذلك، ويتذكر انقلابه في آخر عمره على مركب الجنازة إلى الله تعالى (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا)، يعني بعد اعترافهم بأن الخالق هو الله تعالى، جعلوا له ولدًا، فإن الولد بضعة وجزء لوالده، فقالوا: الملائكة بنات الله، وقيل معناه: جعلوا جزءًا من عباده، فإنَّهم جعلوا بعض أنعامهم لله تعالى وبعضها لطواغيتهم (إِنَّ الْإِنْسَانَ) جنسه (لَكَفُورٌ مُبِينٌ) ظاهر الكفران.
* * *
(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي(4/78)
الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
* * *
(أَمِ اتَّخَد مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ) أي: اتخذ ربكم لنفسه البنات (وَأَصْفاكُمْ): أخلصكم (بِالْبَنِينَ) فالهمزة للإنكار والتعجب من عدم اكتفائهم بنسبة الولد، حتى نسبوا له الجزء الأخس (وَإِذَا بُشِّرَ) الجملة حالية (أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ) بالجنس الذي جعله (لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا): شبهًا فإن الولد شبه الوالد (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) من الحزن (وَهُوَ كَظِيمٌ): مملوء قلبه من الغيظ (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ): يتربى (فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ): في المجادلة (غَيْرُ مُبِينٍ) ليس له بيان أي: تنسبون له من هو ناقص الظاهر -يستكمل نقصه بالحلي- والباطن -لا يقدر على إيراد الحجة على من يخاصمه- وتقديره: أو اتخذ من يُنَشَّأُ، عطف على أم اتخذوا، والهمزة بين المعطوفين لمزيد الإنكار، وفي الخصام متعلق بـ مبين؛ لأن غير في معنى النفي، فجاز تقديمه عليه، وقيل: من مبتدأ حذف خبره، أي: أمن هذا حاله وَكَّده، أو عطف على ما يخلق (وَجَعَلُوا): سموا (الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا) فهذا كفر آخر منهم، ومن قرأ " عند الرحمن " فمعناه: قربتهم ورتبتهم (أَشَهِدُوا): حضروا (خَلْقَهُمْ): خلق(4/79)
الله تعالى إياهم فشاهدوا (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ) على الملائكة (وَيُسْأَلُونَ) عنها يوم القيامة (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ) أن لا نعبد الملائكة (مَا عَبَدْناهُمْ) كفر آخر، فإنهم أرادوا أن كفرهم بمشيئة الله تعالى، فلا يكون منكرًا منهيًّا عنه، بل مأمورًا به، فرأيهم رأي القدرية من أن كل مأمور به مراد، وكل منهي عنه غير مراد (مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يعني: أنَّهم جاهلون كاذبون، مصيبين في استصوابه، معذورين في ارتكابه (أَمْ آتيْنَاهُمْ كِتابًا مِنْ قَبْلِهِ): قبل القرآن، بأن يعبدوا غير الله تعالى، وينسبوا إليه الولد، ويقولوا هو راضٍ عنا (فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) نسبهم إلى الكذب أولاً، ثم أضرب عنه إلى إنكار سندهم من جهة النقل (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آباءَنَا عَلَى أُمَّةٍ): دين (وإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) جعلوا من جهلهم تقليد جهلتهم اهتداءًا (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَريةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلى قَالَ(4/80)
مُتْرَفُوهَا) متنعموها (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) فهذه شِنشِنتهم القديمة ليست مخصوصة بقومك (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا(4/81)
وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ) الظاهر أن قل حكاية أمر ماض أوحي إلى نبينا عليه السلام، ويؤيده قراءة " قال " أي: أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى؟! (قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَانْتَقَمْنَا منْهُمْ) بأنواع من العذاب (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).
* * *
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
* * *(4/82)
(وإِذْ قَالَ) أي: واذكره (إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ) مصدر مستوٍ فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث (مِمَّا تَعْبُدُونَ) أي بريء من معبودكم (إِلا الذِي فَطَرَني) منقطع أو متصل، فإنهم كانوا معترفين بأن الله تعالى هو الإله الأصلي المعبود، و (ما) تعم أولي العلم أو غلَّب غيره؛ لأن أكثر معبودهم الأصنام غير العقلاء (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) الأظهر أن السين لمجرد التأكيد والتسويف، والمضارع للاستمرار (وَجَعَلَهَا) أي: جعل الله تعالى، أو إبراهيمُ كلمة التوحيد (كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) في ذريته لا يزال فيهم من يوحد الله تعالى (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الضمير للبعض من العقب، أو لهم بحذف المضاف، أي: لعل مشركهم (بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ) أي: قومك، فإنهم من عقب إبراهيم (وَآبَاءَهُمْ) في الدنيا فاغتروا بها (حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ) القرآن (وَرَسُول مُبِينٌ): ظاهر رسالته (وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ) إحدى (الْقَرْيَتَيْنِ) مكة والطائف (عَظِيمٍ) بالجاه والمال أرادوا [الوليد] بن المغيرة من مكة، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف، أو غيرهما فإنهما من الأعاظم، ولا يليق تلك الرتبة العظيمة إلا بمثلهما (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) أي ليس الأمر مردودًا إليهم، بل إنه يعلم حيث يجعل رسالته، [فإنه] لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلبًا ونفسًا، وأشرفهم وأطهرهم وأظهرهم بيتًا وأصلاً، لا على أكثرهم مالاً وجاهًا (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا) فجعلنا البعض غنيًّا والبعض فقيرًا (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) بالمال، ودرجات إما تمييز أو بدل (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) لِيُسَخَّر الأغنياء الفقراء بأموالهم، ويستخدموهم فينتظم العالم، وليس هذا من شرف في الغني ونقص في الفقير (وَرَحْمَتُ(4/83)
رَبِّكَ) بخلقه (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ): من الأموال ومن حطام الدنيا (وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) أي: لولا كراهة اجتماع الخلق على الكفر لرغبة النفس في الدنيا (لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا) لبيوتهم بدل اشتمال من " لمن يكفر "، وجاز تعلقه بـ سقفًا، كما تقول: جعلت لك لوحًا لكتابك (مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ): سلالم ومصاعد منها (عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ): يعلون السطوح، لحقارة الدنيا فيغتروا بها أكثر مما اغتروا (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا): من فضة (عَلَيْهَا) أي: على السرر (يتَكِئونَ وَزًخْرُفًا): ذهبًا، عطف على محل من فضة، والزخرف: الزينة، فعطف على سقفًا، وروي الترمذي وقال: حسن صحيح " لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافرًا شربة ماء أبدًا " (وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) إن نافية، و (لَمَّا) بمعنى إلا، ومن قرأ (لَمَا) بالتخفيف فإن مخففة، واللام هي الفارقة، وما صلة (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) أي: خاصة لمن هو متقي عند الله وفى عمله، أو حاصل عند الله تُعَدُّ لهم.
* * *
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ(4/84)
ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
* * *
(وَمَنْ يَعْشُ): يعرض (عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ) نسبب له ونسلط عليه (شَيْطَانًا) يزين له الغواية، ويصده عن الهداية (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ): لا يفارقه (وَإِنَّهُمْ) أى: الشياطين (لَيَصُدُّونَهُمْ) جمع الضميرين للمعنى (عَنِ السَّبِيلِ): عن طريق الحق (وَيَحْسَبُونَ) أي: الكفار (أَنَّهُمْ) أي: أنفسهم (مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا) الكافر (قَالَ) للشيطان (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) بعد المشرق من المغرب، فغلب وأضاف البعد إليهما بعد التثنية (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) أنت (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ) هذا قول الله تعالى أو الملك لهم (ذْ ظَلَمْتُمْ) أي: إذ يتبين ظلمكم أنفسكم في الدنيا فإذ لتحقق الوقوع، والمعنى على الاستقبال كما في (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا)(4/85)
[الأنعام: 27، 30] وجاز أن يكون بدلاً من اليوم (أنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) أي: لا ينفعكم اشتراككم واجتماعكم في العذاب؛ لأن لكل نصيبه الأوفر، فإنكم فاعلُ لن ينفعكم، وفاعله ضمير يرجع إلى التمني المستفاد من قوله: " يا ليت " وإنكم علة أى لأنكم في العذاب مشتركون (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ) همزة الإنكار، فإنه عليه السلام يتعب روحه في إهدائهم (أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أي ليس هذا في وسعك، والقادر على ذلك هو الله تعالى وحده (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) فإن قبضناك قبل أن نعذبهم، وما زائدة للتأكيد بمنزلة لام القسم في استجلاب نون التأكيد (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) بعد موتك (أَوْ نُرِيَنَّكَ) أي: إن أردنا أن نريك (الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ) من العذاب (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) من الشرائع (إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ) أي: الذي أوحي إليك (لَذِكرٌ): لشرف (لَكَ وَقِوْمِكَ) حيث إنه أنزل بلغتهم، فينبغي أن يكون أقوم الناس، أو لتذكير لك ولقومك وتخصيصهم بالذكر لا ينفي من سواهم (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) عن حقه (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا) السؤال عن الرسل سؤال عن أممهم، ويدل عليه قراءة ابن مسعود " واسئل الذين أرسلنا إليهم قبلك رُسلَنا " (أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) أي: هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد، ومعنى الأمر به التقرير لمشركي قريش أنه لم يأت رسول ولا كتاب بعبادة غير الله تعالى، وعن بعض السلف: جمع له الرسل ليلة أسري به وأمر أن يسألهم، فلم يشك ولم يسأل.
* * *(4/86)
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ) فاجئوا بالاستهزاء بالآيات (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا) أي: صاحبتها التي كانت قبلها، أو هو تمثيل باتصاف الكل بالكمال، بحيث لا يظهر التفاوت ويظن عند النظر بكل واحد أنه أفضل(4/87)
من البواقي (وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَاب) كالطوفان والجراد وغيرهما (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لكي يرجعوا عن الكفر (وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ) أي: العالم الكامل وهذا تعظيمه منهم، فإن السحر عندهم فضيلة لا نقيصة، أو لفرط حيرتهم سبق لسانهم إلى ما تعودوا به (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) بكشف العذاب عنا (بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ): بسبب عهده عندك أن يجيب دعوتك، أو بحق ما عندك من عهد الله تعالى وهو النبوة، أو بحق الإيمان، أو بسبب ما عهده الله تعالى من كشف العذاب لمن آمن (إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ): مؤمنون (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ) فاجئوا نكث العهد (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) أمر بالنداء، أو هو نادى بنفسه في مجمع عظمائه (قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ) أنهار النيل عطف على ملك مصر (تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) تحت قصري أو أمري، جملة حالية، أو خبر لهذه الأنهار، والواو للحال (أَفَلَا تُبْصِرُونَ) ذلك (أَمْ أَنَا خَيْرٌ): بل أنا خير، والهمزة للتقرير والتحقيق، وقيل: أم متصلة حاصله، أفلا تبصرون أم تبصرون، من إقامة المسبب موقع السبب، فإن إبصارهم سبب لقولهم: أنت خير (مِنْ هَذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ): حقير (وَلَا يَكَادُ يُبِينُ): يفصح ويعرب عما في ضميره، لما في لسانه من اللكنة (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) أي: هلا ألقى رب موسى عليه أسورة إن كان سيدًا مطاعًا، فإنهم إذا كانوا سودوا رجلاً، سوروه بسوار وطوقوه بطوق من ذهب، يكون ذلك دلالة(4/88)
لسيادته (أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ): مقرونين يصدقونه، أو متتابعين يشهدون له مرة بعد أخرى (فَاسْتَخَفَّ) أي فرعون (قَوْمَهُ) حملهم على الخفة والجهل (فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) فأطاعوا فساقا (فَلَمَّا آسَفُونَا): أغضبونا (انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ) في اليم (أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا): متقدمين، ليتفكروا المتأخرون فيهم ويتعظوا (وَمَثَلًا): قصة عجيبة (لِلْآخِرِينَ).
* * *
(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)
* * *(4/89)
(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا) لما نزل " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " [الأنبياء: 89] جادل ابن الزبعري وقال: رضينا، إن آلهتنا مع عيسى فجعلوه مثلاً حجة سائدة، أو مقياسًا ومثالاً في بيان إبطال ما ذكر من أنكم وما تعبدون (إِذَا قَوْمُكَ): قريش (مِنْهُ يَصِدُّونَ): يضجون فرحًا بأنه أسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن قرأ بضم الصاد فمعناه: من أجل هذا المثل يعرضون عن الحق، وعن الكسائي: هما لغتان كـ يعرُش ويعرِش، قال الواحدي: إذا قومك المؤمنون يضجون من هذا يعني غمًّا وشكًّا (وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ) عندك (أَمْ هُوَ) أي: عيسى فإن كان هو حصب جهنم فليكن آلهتنا كذلك (مَا ضَربوهُ) أي: المثل (لَكَ إِلَّا جَدَلًا) لأجل الجدل فإنه معلوم لكل من له نظر، أن المراد مما تعبدون: الأصنام، سيما إذا جعل(4/90)
(مَا) لغير العقلاء على ما هو المتبادر إلى الفهم عند الإطلاق (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) فهذا رد الله تعالى عليه إجمالاً، وتفصيله في موضع آخر، حيث قال: " إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى " كالملائكة وعيسى وعزير (أولئك عنها مبعدون) (إِنْ هوَ): عيسى (إِلَّا عَبْدٌ أَنعَمْنَا عَلَيْهِ) بالنبوة (وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا): أمرا عجيبًا (لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ) بدلكم (مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) أي: يخلفونكم في الأرض يعبدونني، فالملائكة وعيسى لا يستحقون الألوهية، وقيل: معنى لجعلنا منكم لولدنا منكم يا رجال ملائكة، كما ولدنا عيسى من غير فحل، لتعرفوا أن الملائكة مثلكم أجسام، وأن الله تعالى قادر على كل شيء (وَإِنَّهُ): عيسى (لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أي: علامتها، فإن نزوله من أشراطها وقيل ما وضعت على يديه من إحياء الموتى وغيرها، كفى به دليلاً على علم الساعة وقيل: الضمير للقرآن فإن فيه الدلالة عليها، (فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا): لا تشكن فيها، (وَاتَّبِعُون) أي: شرعي وما أخبركم به، (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ): أي ما أدعوكم إليه صراط لا يضل سالكه، (وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ): عن اتباعه، (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ): النبوة، (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ) هو من عطف الجملة أي: جئتكم بالحكمة وجئتكم لأبين لكم، وجاز عطفه على محذوف عام، أي: جئتكم بالحكمة لمصالحكم ولأبين، (بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي: بعضًا توضيحه صلاح دينكم، أو بعض ما أنتم تختلفون فيه من أحكام التوراة فإن الذي لم يختلفوا فيه لما احتاج إلى تبيين، (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) الفرق المتحزبة، منهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله، ومنهم من يدعي أنه ولد الله أو هو الله ومنهم من يدعي أنه كذاب، (فَوَيْلٌ(4/91)
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هَلْ يَنْظُرُونَ): ينتظرون، (إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ): إلا إتيان الساعة، وأن تأتيهم بدل من الساعة، (بَغْتَةً): فجأة، مفعول مطلق، (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) لإنكارهم، أو لانهماكهم في دنياهم، يعني: أنها تأتيهم لا محالة، فكأنهم ينتظرونها، (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) يومئذ ظرف، عدو والفصل بالمبتدأ غير مانع، (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) فإن محبتهم تبقى.
* * *
(يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)(4/92)
سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
* * *
(يَا عِبَادِ): حكاية لما يُنَادَى به المتحابون المتقون، (لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ): منصوب على المدح، (آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ): المؤمنات، (تُحْبَرُونَ)، تسرون، (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ): جمع صحفة (مِنْ ذَهَبٍ وَأَكوَابٍ): جمع كوب وهو كوز لا عروة له، (وَفِيهَا): في الجنة، (مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ): بمشاهدته، وكأنه لم يعتد بمستلذات السمع والشم والذوق في جنب مستلذات العين فلم يذكرها، (وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وهو من أتم النعم، (وَتِلْكَ): الجنة المذكورة، (الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، والجنة إما خبر، والَّتِي أُورِثْتُمُوهَا صفة لها، أو صفة(4/93)
والتي خبر، أو هما صفتان والظرف خبر، (لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ): يبقى بعضها، أبدًا لا تجد شجرة عريانة من الثمرة، (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ): لا يخفف ولا ينقص، (وَهُمْ فِيهِ)، في العذاب، (مُبْلِسُونَ): ساكتون سكوت يأس، (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ): على أنفسهم، (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ): من قضى عليه، إذا أماته وهو تمني الموت من فرط شدتهم وحيرتهم، وهذا الكلام والنداء قبل الإبلاس وقبل أن يقال لهم: (اخسئوا فيها ولا تكلمون) [المؤمنون: 108]، (قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ): المكث يشعر بالانقطاع ولا انقطاع ففيه استهزاء، (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ): جواب من الله تعالى بعد جواب الملك، أو في قال ضمير يرجع إلى الله تعالى، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ أَمْ أَبْرَمُوا): أحكموا، (أَمْرًا)، في رد الحق بحيل ومكر، (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ): كيدَنا في مجازاتهم، (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ): ما يخفون من الغير، (وَنَجْوَاهُمْ): ما تكلموا به فيما بينهم، (بَلَى): نسمعهما، (وَرُسُلُنَا): أي الحفظة، (لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ): ذلك، (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ(4/94)
الْعَابِدِينَ)، لذلك الولد جعل ثبوت الولد ملزومًا لأمر منتف محال في اعتقاده، وهو عبادته للولد، لكن اللازم منتف فكذا الملزوم، والغرض نفي الولد على أبلغ وجه قال تعالى: " لو أراد الله أن يتخذ ولدًا " [الزمر: 4] وعن بعضهم معناه: إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول الموحدين لله تعالى فإن من عبد الله تعالى فقد دفع أن يكون له ولد، أو معناه: فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد، المنكرين لما قلتم، يقال: عَبِد يَعْبَد: إذا اشتد أنفه أو إن نافية، أي: ما كان له ولد، فأنا أول من قال بذلك (1)، (سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ): من كونه ذا ولد، (فَذَرْهُم يَخُوضُوا): في الباطل، (وَيَلْعَبُوا): في الدنيا، (حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي: القيامة، (وَهُوَ الذِى فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِى الْأَرْضِ إِلَهٌ) أي: هو إله فيهما، فالظرف متعلق بأل لما فيه من معنى الوصفية، أو لأنه بمعنى المعبود بالحق، (وَهُوَ الْحَكِيمُ): في التدابير، (الْعًلِيمُ)، بكل شيء فلا يحتاج إلى ولد، (وَتَبَارَكَ
__________
(1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه:
اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ ظَنُّوا أَنَّ قَوْلَهُ قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ لَوْ أَجْرَيْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي وُقُوعَ الشَّكِّ فِي إِثْبَاتِ وَلَدٍ لله تَعَالَى، وَذَلِكَ مُحَالٌ فَلَا جَرَمَ افْتَقَرُوا إِلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ مَا يُوجِبُ الْعُدُولَ عَنِ الظَّاهِرِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ وَالْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ قَضِيَّتَيْنِ خَبَرِيَّتَيْنِ أَدْخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا حَرْفَ الشَّرْطِ وَعَلَى الْأُخْرَى حَرْفَ الْجَزَاءِ فَحَصَلَ بِمَجْمُوعِهِمَا قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَمِثَالُهُ هَذِهِ الْآيَةُ فَإِنَّ قَوْلَهُ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ قَضِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ قَضِيَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: قَوْلُهُ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ، وَالثَّانِيَةُ:
قَوْلُهُ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ ثُمَّ أَدْخَلَ حَرْفَ الشَّرْطِ وَهُوَ لَفْظَةُ إِنَّ عَلَى الْقَضِيَّةِ الْأُولَى وَحَرْفَ الْجَزَاءِ وَهُوَ الْفَاءُ عَلَى الْقَضِيَّةِ الثَّانِيَةِ فَحَصَلَ من مجموعهما قضية الأولى واحدة، وهو الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ لَا تُفِيدُ إِلَّا كَوْنَ الشَّرْطِ مُسْتَلْزِمًا للجزاء، وليس فيه إِشْعَارٌ بِكَوْنِ الشَّرْطِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَوْ بِكَوْنِ الْجَزَاءِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، بَلْ نَقُولُ الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ الْحَقَّةُ قَدْ تَكُونُ مُرَكَّبَةً مِنْ قضيتين حقيتين أَوْ مِنْ قَضِيَّتَيْنِ بَاطِلَتَيْنِ أَوْ مِنْ شَرْطٍ بَاطِلٍ وَجَزَاءٍ حَقٍّ أَوْ مِنْ شَرْطٍ حَقٍّ وَجَزَاءٍ بَاطِلٍ، فَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ الْحَقَّةُ مُرَكَّبَةً مِنْ شَرْطٍ حَقٍّ وَجَزَاءٍ بَاطِلٍ فَهَذَا مُحَالٌ.
وَلْنُبَيِّنْ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، فَإِذَا قُلْنَا إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ حَيَوَانًا فَالْإِنْسَانُ جِسْمٌ فَهَذِهِ شَرْطِيَّةٌ حَقَّةٌ وهي مركبة من قضيتين حقيتين، إِحْدَاهُمَا قَوْلُنَا الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ، وَالثَّانِيَةُ قَوْلُنَا الْإِنْسَانُ جِسْمٌ، وَإِذَا قُلْنَا إِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا كَانَتْ مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ فَهَذِهِ شَرْطِيَّةٌ حَقَّةٌ لَكِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ قَوْلِنَا الْخَمْسَةُ زَوْجٌ، وَمِنْ قَوْلِنَا الْخَمْسَةُ مُنْقَسِمَةٌ بِمُتَسَاوِيَيْنِ وَهُمَا بَاطِلَانِ، وَكَوْنُهُمَا بَاطِلَيْنِ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ اسْتِلْزَامُ أَحَدِهِمَا للآخر حقا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَضِيَّةَ الشَّرْطِيَّةَ لَا تُفِيدُ إِلَّا مُجَرَّدَ الِاسْتِلْزَامِ وَإِذَا قُلْنَا إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ حَجَرًا فَهُوَ جِسْمٌ، فَهَذَا جِسْمٌ، فَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ لَكِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ شَرْطٍ بَاطِلٍ وَهُوَ قَوْلُنَا الْإِنْسَانُ حَجَرٌ، وَمِنْ جُزْءٍ حَقٍّ وَهُوَ قَوْلُنَا الْإِنْسَانُ جِسْمٌ، وَإِنَّمَا جَازَ هَذَا لِأَنَّ الْبَاطِلَ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ فرض وقوعه وقوع حق، فإنا فَرَضْنَا كَوْنَ الْإِنْسَانِ حَجَرًا وَجَبَ كَوْنُهُ جِسْمًا فهذا شرط باطل يستلزم جزءا حَقًّا.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ تَرْكِيبُ قَضِيَّةٍ شَرْطِيَّةٍ حَقَّةٍ مِنْ شَرْطٍ حَقٍّ وَجَزَاءٍ بَاطِلٍ، فَهَذَا/ مُحَالٌ، لِأَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُ الْحَقِّ مُسْتَلْزِمًا لِلْبَاطِلِ وَذَلِكَ مُحَالٌ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُ الْبَاطِلِ مُسْتَلْزِمًا لِلْحَقِّ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُحَالٍ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْآيَةِ فَنَقُولُ قَوْلُهُ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ حَقَّةٌ مِنْ شَرْطٍ بَاطِلٍ وَمِنْ جَزَاءٍ بَاطِلٍ لِأَنَّ قَوْلَنَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ بَاطِلٌ، وَقَوْلَنَا أَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لِذَلِكَ الْوَلَدِ بَاطِلٌ أَيْضًا إِلَّا أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَاطِلًا لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ اسْتِلْزَامُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ حَقًّا كَمَا ضَرَبْنَا مِنَ الْمِثَالِ فِي قَوْلُنَا إِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا كَانَتْ مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا امْتِنَاعَ فِي إِجْرَائِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لِذَلِكَ الْوَلَدِ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ إِذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَكَمَا يَجِبُ عَلَى عَبْدِهِ أَنْ يَخْدِمَهُ فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْدِمَ وَلَدَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِإِثْبَاتِ وَلَدٍ أَمْ لَا.
وَمِمَّا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] فَهَذَا الْكَلَامُ قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ وَالشَّرْطُ هُوَ قَوْلُنَا فِيهِما آلِهَةٌ وَالْجَزَاءُ هُوَ قولنا لَفَسَدَتا فَالشَّرْطُ فِي نَفْسِهِ بَاطِلٌ وَالْجَزَاءُ أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا آلِهَةٌ، وَكَلِمَةُ لَوْ تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ بِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ لِأَنَّهُمَا مَا فَسَدَتَا ثُمَّ مَعَ كَوْنِ الشَّرْطِ بَاطِلًا وَكَوْنِ الْجَزَاءِ بَاطِلًا كَانَ اسْتِلْزَامُ ذَلِكَ الشَّرْطِ لهذا الجزاء حقا فكذا هاهنا، فإن قالوا الفرق أن هاهنا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الشَّرْطِيَّةَ بِصِيغَةِ لَوْ فَقَالَ: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ وَكَلِمَةُ لَوْ تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهَا إِنَّمَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى كَلِمَةَ إِنْ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ لَا تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ، بَلْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ تُفِيدُ الشَّكَّ فِي أَنَّهُ هَلْ حَصَلَ الشَّرْطُ أَمْ لَا، وَحُصُولُ هَذَا الشَّكِّ لِلرَّسُولِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، قُلْنَا الْفَرْقُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّ مَقْصُودَنَا بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ من كون الشرطية صادقة كون جزءيها صَادِقَتَيْنِ أَوْ كَاذِبَتَيْنِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ أَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ لَفْظَةَ إِنْ تُفِيدُ حُصُولَ الشَّرْطِ هَلْ حَصَلَ أَمْ لَا، قُلْنَا هَذَا مَمْنُوعٌ فَإِنَّ حَرْفَ إِنْ حَرْفُ الشَّرْطِ وَحَرْفُ الشَّرْطِ لَا يُفِيدُ إِلَّا كَوْنَ الشَّرْطِ مُسْتَلْزِمًا لِلْجَزَاءِ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ مَعْلُومُ الْوُقُوعِ أَوْ مَشْكُوكُ الْوُقُوعِ، فَاللَّفْظُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ، فَظَهَرَ مِنَ الْمَبَاحِثِ الَّتِي لَخَّصْنَاهَا أن الكلام هاهنا مُمْكِنُ الْإِجْرَاءِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِيهِ الْبَتَّةَ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ لِذَلِكَ الْوَلَدِ وَأَنَا أَوَّلُ الْخَادِمِينَ لَهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ بَيَانُ أَنِّي لَا أُنْكِرُ وَلَدَهُ لِأَجْلِ الْعِنَادِ وَالْمُنَازَعَةِ فَإِنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْوَلَدِ كُنْتُ مُقِرًّا بِهِ مُعْتَرِفًا بِوُجُوبِ خِدْمَتِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْوَلَدُ وَلَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِهِ الْبَتَّةَ، فَكَيْفَ أَقُولُ بِهِ؟ بَلِ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ قَائِمٌ عَلَى عَدَمِهِ فَكَيْفَ أَقُولُ بِهِ وَكَيْفَ أَعْتَرِفُ بِوُجُودِهِ؟ وَهَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرٌ كَامِلٌ لَا حَاجَةَ بِهِ الْبَتَّةَ إِلَى التَّأْوِيلِ وَالْعُدُولِ عَنِ الظَّاهِرِ، فَهَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَنُقِلَ عَنِ السُّدِّيِّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا مُمْكِنٌ وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَالتَّقْرِيرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي/ قَالَهُ هُوَ الْحَقُّ، أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ من التأويل فَقَدْ ذَكَرُوا وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ كَثُرَتِ الْوُجُوهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْأَقْوَى أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فِي زَعْمِكُمْ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أَيِ الْمُوَحِّدِينَ لله الْمُكَذِّبِينَ لِقَوْلِكُمْ بِإِضَافَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِنْ يَثْبُتْ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَأَنَا أَوَّلُ الْمُنْكِرِينَ لَهُ أَوْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ إِنْ يثبت لكم ادعاء أن لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا فَأَنَا أَوَّلُ الْمُنْكِرِينَ لَهُ، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الرَّسُولِ مُنْكِرًا لَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنْ كَانَ الشَّيْءُ ثَابِتًا فِي نَفْسِهِ فَأَنَا أَوَّلُ الْمُنْكِرِينَ يَقْتَضِي إِصْرَارَهُ عَلَى الْكَذِبِ وَالْجَهْلِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالرَّسُولِ، وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّهُمْ سَوَاءٌ أَثْبَتُوا لله وَلَدًا أَوْ لَمْ يُثْبِتُوهُ لَهُ فَالرَّسُولُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ الْوَلَدِ، فَلَمْ يَكُنْ لِزَعْمِهِمْ تَأْثِيرٌ فِي كَوْنِ الرَّسُولِ مُنْكِرًا لِذَلِكَ الْوَلَدِ فَلَمْ يَصْلُحْ جَعْلُ زَعْمِهِمْ إِثْبَاتَ الْوَلَدِ مُؤَثِّرًا فِي كَوْنِ الرَّسُولِ مُنْكِرًا لِلْوَلَدِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالُوا مَعْنَاهُ: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ الْآنِفِينَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ عَبِدَ يَعْبَدُ إِذَا اشْتَدَّتْ أَنَفَتُهُ فَهُوَ عَبِدٌ وَعَابِدٌ، وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ (عبدين).
واعلم أن السؤال المذكور قائم هاهنا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَأَنَا أَوَّلُ الْآنِفِينَ مِنَ الْإِقْرَارِ بِهِ، فَهَذَا يَقْتَضِي الْإِصْرَارَ عَلَى الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فِي زَعْمِكُمْ وَاعْتِقَادِكُمْ فَأَنَا أَوَّلُ الْآنِفِينَ، فَهَذَا التَّعْلِيقُ فَاسِدٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَنَفَةَ حَاصِلَةٌ سَوَاءٌ حَصَلَ ذَلِكَ الزَّعْمُ وَالِاعْتِقَادُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّعْلِيقُ جَائِزًا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَالَ بعضهم إن كلمة إن هاهنا هِيَ النَّافِيَةُ وَالتَّقْدِيرُ مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ لَا وَلَدَ لَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْتِزَامَ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْبَعِيدَةِ إِنَّمَا يَكُونُ لِلضَّرُورَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ الْبَتَّةَ فَلَمْ يَجُزِ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ (مفاتيح الغيب 27/ 645 - 647)(4/95)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)، لا عند غيره، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ): للجزاء، (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دونِهِ) أي: آلهتهم، (الشَّفَاعَةَ): كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله، (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ): بالتوحيد، (وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، حقيقة ما شهدوا به ولا يكونون منافقين، والاستثناء متصل، أي: لا يملكها أحد من المعبودين إلا الموحدين كالملائكة، وعيسى، فإن لهم الشفاعة بإذنه لمن ارتضى أو منقطع أي: متعلق الذين بالأصنام، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ): يصرفون من عبادته إلى عبادة غيره، (وَقِيلِه): بالنصب مفعول مطلق أي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيله أي: شكى إلى ربه شكواه من قومه فقال: (يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ)، أو عطف على سرهم ونجواهم أو على معنى وعنده علم الساعة أي: يعلم الساعة، و " قيله " وبالجر عطف على الساعة أي: عنده علم قيله، (فَاصْفَحْ): أعرض، (عَنْهُمْ)، ولا تجادلهم بمثل ما يخاطبونك من الكلام السيء، (وَقُلْ سَلَامٌ) أي: أمري وشأني تَسلُّم ومسالمة منكم، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ): غِبَّ ما فعلوا، فهذا وعيد أكيد لهم، ومن قرأ بالتاء فهو أيضًا من مقول قل.
والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *(4/96)
سورة الدخان مكية
إلا قوله: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ)
وهى سبع أو تسع وثلاثون آية وثلاث ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)(4/97)
فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)
* * *
(حم وَالْكِتَابِ المبينِ)، الواو للعطف، إن كان حم مقسمًا بها بإضمار حرف القسم، والجواب قوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ)، أي: الكتاب المبين، (فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)، قال تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) [القدر: 1] أنزل فيها جملة واحدة من اللوح إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم أنزل مفصلاً بحسب الوقائع، وعن بعض: هي ليلة النصف من شعبان، (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ): محذرين بإنزال الكتاب، مستأنفة تبين(4/98)
فائدة الإنزال، (فيهَا): في تلك الليلة، (يفْرَقُ): يفصل ويثبت (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ): محكم لا يبدل من الأرزاق والآجال وجميع أمرهم إلى [السنة]، الآية، قال تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) [القدر: 4]، (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا)، نصب على الاختصاص، أي: أعني به أمرًا حاصلاً من عندنا، أو حال من كل، أو من ضمير حكيم، (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)، إلى الناس يتلو عليهم آياتنا، بدل من إنا كنا منذرين، أي: أنزلنا القرآن، لأن من عادتنا إرسال الرسل، (رَحْمَةً مِّن ربِّكَ)، مفعول له، وقيل " إنا كنا " علة ليفرق، ورحمة مفعول به، أي: يفصل الأمور فيها، لأن من شأننا إرسال الرحمة، وفصل الأمور من باب الرحمة، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، للأقوال والأحوال، والرب لا بد أن يكون كذلك، (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنينَ): في إقراركم بأن الله خالق السماوات والأرض، تعرفون مضمون ما ألقى إليكم من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وتعترفوا به، فإن الكفرة معترفون بأن خالق الأشياء هو الله، أو معناه إن كنتم مريدين اليقين فاعلموا ذلك، (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ)، في الدنيا، رد لكونهم موقنين، (فَارتقِبْ): انتظر لهم، (يَوْمَ)، مفعول به لارتقب، (تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ): هو الدخان الموعود، الذي هو من علامة قرب القيامة البين الواضح، الذي يراه كل أحد، وإليه ذهب حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما وكثير من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم مع الأحاديث من(4/99)
الصحاح والحسان، (يغشَى النَّاسَ): يحيط بهم، أما المؤمن فيصيبه كالزكام، وأما الكافر فهو كالسكران، يخرج من منخريه وأذنيه ودبره، (هَذَا عَذَابٌ أَلِيم رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ)، أي: قائلين هذا عذاب إلى مؤمنون، (إِنَّا مُؤْمِنُونَ)، وعد بالإيمان إن كشف عنهم، كأنه قيل: إن تكشف فإنا مؤمنون، (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى): من أين لهم التذكر؟ (وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ)، قال بعضهم: يعلمه غلام أعجمي، (مَّجنونٌ)، وقال بعضهم: مجنون، يعني: لا يتأتى منهم التذكر بهذا السبب، فإنه قد جاءهم أسباب أعلى من هذا، وما التفتوا إليها، (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا): زمانًا قليلاً يكشف الله تعالى الدخان، قيل: بعد أربعين يومًا فيرتدون، ولا يفون بوعدهم، (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ): في الكفر، ولا يلزم أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم بالكلية، ثم عادوا إليه، قال تعالى حكاية عن شعيب: (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا) [الأعراف: 89] ولم يكن شعيب قط على ملتهم، قال قتادة: إنكم عائدون إلى عذاب الله تعالى، (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى)، هو يوم القيامة، (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ)، منهم، والعامل في " يوم "(4/100)
فعل دل عليه " إنا منتقمون "، لأن إن مانع من عمله فيما قبله، أو بدل من " يوم تأتي "، وعن ابن مسعود رضي الله عنه وبعض آخر من السلف أن المراد من الدخان الظلمة التي في عام القحط من قلة الأمطار، وكثرة الغبار، أو ما يرى الجائع كهيئة الدخان من المجاعة من ضعف بصره، حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتجئوا وقالوا: ادع الله تعالى لئن يكشف عنا لنؤمن لك، فدعا وكشف ولم يؤمنوا، فانتقم الله تعالى منهم يوم بدر، وهو البطشة الكبرى، (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ): قبل قريش، (قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ)، على الله، (أَنْ أَدُّوا)، أن مفسرة، (إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ): بني إسرائيل، وأرسلوهم معي ولا تعذبوهم، (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)، على الوحي، (وَأَن لَا تَعْلُوا): لا تتكبروا، (عَلَى اللهِ)، بترك طاعه، (إِنى آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مبِين): حجة ظاهرة على صدق قولي، (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ): التجأت إلى الله تعالى، (أَن تَرْجُمُونِ): تقتلوني، أو تشتموني فإنه الرجم باللسان، (وَإِن لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُون): كونوا بمعزل مني، لا تتعرضوا إلى بسوء، (فَدَعَا رَبَّهُ)، شاكيًا بعد ما كذبوه، (أَنَّ هَؤُلاءِ)، أي: بأنَّهم، (قَوْمٌ مجْرِمُونَ فَأَسْرِ(4/101)
بِعِبَادِي)، أي: قال الله تعالى، إذا كان الأمر كذلك فأسر ببني إسرائيل، (لَيْلاً): قبل الصبح، (إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ): يتبعكم القبط، (وَاتْرُكِ البَحْرَ رَهْوًا)، أي: اتركه حين قطعته، وعبرت ساكنًا كهيئته، ولا تأمره بأن يرجع إلى ما كان، وذلك لما جاوز أراد أن يضرب بعصاه، حتى يعود كما كان ليصير حائلاً بينهم وبين فرعون، فأمر الله تعالى أن يتركه على حاله، (إِنَّهُمْ جُندٌ مغْرَقُونَ كَمْ تَرَكُوا)، كثيرًا تركوا، (مِن جَنَّات وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ)، في مصر وقراه، (وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ): متنعمين، (كَذَلِكَ): مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها، (وَأَوْرَثناهَا)، عطف على الفعل المحذوف، (قَوْمًا آخَرِينَ)، بني إسرائيل، (فمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ)، لكل مؤمن باب في السماء ينزل منه رزقه، ويصعد فيه عمله، فإذا مات أغلق بابه فقد بكا عليه، وإذا فقده مصلاه من الأرض بكت عليه وليس لقبط عمل صالح فما بكت، وكلام بعض السلف: على أن بكاء الباب المذكور لكل مسلم، وأما بكاء السماء مطلقًا فما بكت منذ كانت الدنيا إلا على اثنين يحيى بن زكريا، وحسين بن عليٍّ عليهما السلام (1) لما قتلا احمرت السماء وبكت، وقيل: مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم، قالت العرب في موت عظيم: بكته الريح وأظلمت له الشمس، (وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ): ممهلين لتوبة وغيرها.
* * *
__________
(1) هذا من كلام زيد بن زياد، وهو يفتقر إلى ما يؤيده.(4/102)
(وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
* * *
(وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ): قتل الأبناء واستخدام النساء، (مِن فِرْعَوْنَ)، حال من ضمير المهين، أو بدل من العذاب، (إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ): في الشرارة، (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ)، بني إسرائيل، (عَلَى عِلْمٍ): عالمين بأنَّهم أحقاء، (عَلَى الْعَالَمِينَ): على عالمي زمانهم، (وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ)، على يدي موسى، (مَا فِيهِ بَلاءٌ): اختبار أو نعمة، (مُبِينٌ إِنْ هَؤُلاءِ) قريشًا والكلام فيهم، وحكاية القبط لتذكيرهم، (لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى)، التي هي بعد الحياة الدنيا، وليست بعدها موتة القبر، فلا حياة فيه، (وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ): من القبور، نفوا أولاً بقوله: إلا موتتنا الأولى الإحياء في القبر بنفي الإماتة فيه، ثم نفوا البعث والإحياء بعد القبر، وهي ضمير مبهم يفسره الخبر، أو ما نهاية الأمر إلا الموت الذي بعد حياة الدنيا، يعني: ليس بعده إلا الفناء المحض، ولهذا(4/103)
صرحوا بقولهم: وما نحن بمنشرين، (فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، أي: إن صدقتم أنه يمكن النشور بعد الموت، فاسألوا ربكم إحياء من مات من آبائنا، حتى نعلم صدق ما تقولون، (أَهُمْ): قريش، (خَيْرٌ)، في القوة، والمنعة، (أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ): وهم سبأ، أهلكهم الله تعالى، وخرب ديارهم وفرقهم شذر ومذر، وتبع اسم لمن [ملك] فيهم، كما أن كسرى لمن ملك الفرس، وقيصر للروم، وفرعون لمصر، والنجاشي للحبشة، وهو الذي بنى سمرقند، وفي الحديث (لا أدري أتبع كان نبيًا أم لا) وقد ورد أيضًا (لا تسبوا تبعًا، فإنه كان قد(4/104)
أسلم) وهو كان في زمن موسى - عليه السلام، (وَالذِينَ مِن قَبْلِهِمْ): من الأمم الكافرة، (أَهْلَكنَاهُمْ)، هدد بهم قريشًا، (إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ)، كقريش، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا): بين الجنسين، (لاعِبِينَ): لاهين، (مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ): بسبب الحق وهو البعث والجزاء وغيرهما، (وَلَكِن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الفَصْلِ): فصل الحق والمحق عن الباطل والمبطل، (ميقَاتُهُمْ): وقت وعدهم، (أَجْمَعِينَ يَوْمَ لَا يُغْنِي)، بدل عن يوم الفصل، (مَوْلًى)، أي مولىً كان من قرابة أو غيرها، (عَنْ مَوْلًى)، أي مولىً كان، (شَيْئًا)، من الإغناء مصدر، (وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)، الضمير إما للمولى " الأول، أي: هم ليسوا بناصر، ولا بمنصور، وجاز عوده إلى الثاني، أو إليهما، (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ)، بدل من واو " ينصرون "، أو نصب على الاستثناء منه، فإنه جاز النصب، والمختار البدل، والمراد(4/105)
المؤمنون، (إِإِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ)، الغالب الذي لا يُغْلَب، (الرَّحِيمُ)، لمن كان أهل الرحمة.
* * *
(إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
* * *
(إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ)، سبق في الصافات بيانه، (طَعَامُ الأَثِيمِ): كثير الإثم أي: الكافر لأن الكلام فيه، (كَالْمُهْلِ): دُرْدِي الزيت، وقيل: هو ذائب الفضة والنحاس، (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ)، ومن قرأ " يَغْلِي " بالياء فباعتبار أن الشجرة طعام الأثيم، (كَغَلْيِ الْحَمِيمِ)، غليانًا مثل غليان الماء الشديد الحرارة، (خُذُوهُ)، أي: قلنا للزبانية: خذوا الأثيم، (فَاعْتِلُوهُ): سوقوه بعنف، (إِلَى سَوَاءِ الجَحِيمِ): وسطها، (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ)، الملك يضربه بحديد فيفتح دماغه، ثم(4/106)
يصب الحميم على رأسه فيسلت ما في بطنه من الأمعاء، فيتمزق على كعبيه، أعاذنا الله تعالى من ذلك، (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)، أي: قولوا له ذلك سخرية وتقريعًا، وعن عكرمة: أنه عليه السلام قال لأبي جهل: (أمرني الله تعالى أن أقول لك أولى لك فأولى)، فقال: ما تستطيع لي ولا صاحبك من شيء إنى أمنع أهل بطحاء وأنا العزيز الكريم، فقتله الله قعالى يوم بدر وأذله وعيره بكلمته، وأنزل: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)، وذكر غير واحد من السلف: أن المراد من الأثيم أبو جهل، (إِنَّ هَذَا): العذاب، (مَا كنتُم بهِ تَمْتَرُونَ): ما تشكون فيه، (إِنَّ الُمتقِينَ فِي مَقَامٍ): موضع إقامة، (أَمِين): يَأمن صاحبه عن كل مكروه، (فِي جَنَّاتٍ)، بدل من مقام، (وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ)، خبر ثان، أو حال، أو استئناف، (مِن سنُدُسٍ): ما رَقَّ من الحرير، (وَإِسْتبْرَقٍ): ما غلظ منه، (مُّتَقَابِلِينَ)، لا يجلس أحد منهم وظهره إلى غيره لأنس بينهم، (كَذَلِكَ)، أي: الأمر كذلك، أو أثبناهم مثل ذلك، (وَزَوجْنَاهُم بحُورٍ): قرناهم بهن، والحور: النساء النقيات البياض، (عِينٍ): عظيمة العينين، (يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ): يأمرون بإحضار أنواع الفواكه، (آمِنينَ)، من كل مكروه، (لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ)، بل حياتهم أبدية، (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى)، لكن ذاقوا الموتة الأولى في الدنيا، قيل الاستثناء للمبالغة، فإن الغرض من إعلام أنَّهم لا يذوقون الموت أصلاً، كأنه قال: لو فرضنا ذوق الموت في(4/107)
الجنة لما ذاق إلا الموتة الأولى وذوق تلك الموتة محال، لأنها ماضية، فالذوق محال، (وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)، أي: أعطي كل ذلك تفضلاً، (من ربكَ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ): سهلنا القرآن، (بِلِسَانِكَ)، فإنه بلغتك، (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ): لكي يفهمونه فيتعظون به، (فَارْتَقِبْ): انتظر الفتح أو ما يحل بهم، (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ): ما يحل بك من الدوائر.
فالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *(4/108)
سورة الجاثية مكية
وهى سبع أو ست وثلاثون آية وأربع ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
* * *
(حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ)، إن كان حم اسمًا للسورة مبتدأ، فلابد من تقديرٍ أي: تنزيل حم تنزيل الكتاب، إذ السورة نفسها ليست بتنزيل، فإن كان المراد من الكتاب(4/109)
السورة، ففيه إقامة الظاهر مقام المضمر، كما تقول: شعرُ نابغة شعره، وإن كان المراد القرآن فالمعنى على التشبيه، أي: تنزيل حم كتنزيل سائر القرآن في البيان، والهداية والإعجاز والحكمة، (مِنَ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ)، وقيل: حم قسم وتنزيل صفته، وجوابه قوله تعالى: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ للْمُؤْمِنِينَ)، كالكواكب والحيوان والمعادن، (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ)، عطف على خلقكم، (مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)، من قرأ برفع (آياتٌ) فمحمول على محل اسم إن، ومن قرأ بنصبها فعلى لفظه، (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ)، أي: المطر، فإنه سبب الرزق، (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ(4/110)
الرِّيَاحِ): جنوبًا وشمالاً وغيرهما، (آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، في (آيات) قراءتان، وعلى الوجهين عطف على معمولي عاملين مختلفين، إلا أن تقول اختلاف عطف على في السماوات، بتقدير: في لا أنه عطف على السماوات، (تِلْكَ): الآيات، (آيَاتُ اللهِ): دلائله (نَتْلُوهَا عَلَيْكَ)، حال عاملها معنى الإشارة، (بِالْحَقِّ)، متلبسين، أو متلبسة به، (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ): أي بعد حديثه، (وَآيَاتِهِ): دلائله أو كتابه، فيكون العطف لمغايرة الوصفين، أو هو كقولهم: أعجبني زيد وكرمه، أي: أعجبني كرمه، فمعنى بعد الله وآياته بعد آياته، وتقدم اسم الله تعالى للتعظيم، (يُؤْمِنُونَ وَيُلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ): كذاب كثير الإثم، (يَسْمَعُ آيَاتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ)، على كفره، وثم لاستبعاد الإصرار بعد السماع، (مُسْتَكْبِرًا)، عن الانقياد، (كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا)، أي: كأنه، والجملة حال، أي: يصر مثل غير السامع، (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا)، أي: علم شيئًا أنه من الآيات،(4/111)
(اتَّخَذَهَا هُزُوًا)، مقتضى الظاهر ضمير المذكر الراجع إلى شيئًا فأنثه لأن الشيء للآية أو لأنه راجع إلى الآيات، بمعنى إذا علم شيئًا أنه من جملة الآيات، تجاوز في الاستهزاء إلى جميع الآيات إجمالاً، (أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مهِينٌ مِن وَرَائِهِمْ): من خلفهم، (جَهَنَّمُ)، فإنه بعد آجالهم، أو من أمامهم، (وَلاَ يُغْنِي): لا يدفع، (عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئًا)، من العذاب، (وَلاَ مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ)، أي: الأصنام، (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ هَذَا): القرآن، (هُدًى): كامل في الهداية، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ ربهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ من رِّجْزٍ): هو أشد العذاب، (أَلِيمٌ).
* * *
(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)(4/112)
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)
* * *
(اللهُ الَّذِي سَخرَ لَكُمُ البَحْرَ لِتَجْرِيَ الفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِه): بتسخيره، (وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ)، بالتجارة وغيرها، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، هذه النعم، (وَسَخرَ لَكُم مَّا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الْأَرْضِ)، مسخران لنا من حيث أنا ننتفع بهما، (جَمِيعًا مِنْهُ)، منه حال من ما، أي: كائنًا من الله تعالى، وجميعًا حال من فاعل منه، أو تقديره هى من الله جميعًا، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ قُل للَّذِينَ آمَنُوا يَغفِرُوا)، حذف المقول لدلالة الجواب عليه، أي: قل لهم: اغفروا، إن تقل لهم: اغفروا يغفروا أى: يعفوا، (لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ)، لا يخافون وقائعه ونقمته، كانوا في الابتداء مأمورين بالصبر على أذى المشركين، ثم نزلت آية القتال، وعن بعضهم: أنها نزلت في عمر رضي الله عنه، حين هم أن يبطش من شتمه بمكة وأمر بالعفو، فعلى هذا لم تكن الآية منسوخة، (لِيَجْزِيَ قَوْمًا بمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، أي: اعفوا أنتم عنهم ليجزيهم الله تعالى سوء أعمالهم، ويكون تنكير قومًا للتحقير، وقيل المراد من القوم المؤمنون الذين صبروا حينئذ، المراد بما كانوا يكسبون: المغفرة والعفو، فالتنكير للتعظيم، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)، فيجازيكم، (وَلَقَدْ آتيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ)، الحكمة،(4/113)
أو فصل الخصومات، (وَالنُّبوَّةَ)، إذ فيهم كثير من الأنبياء، (وَرَزَقْناهُم مِّن الطيِّبَاتِ): كالمنِّ والسلوى، (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)، عالمي زمانهم، (وَآتيْنَاهُم بَينَاتٍ منَ الأَمْرِ)، أدلة من أمر الدين، (فَمَا اخْتَلَفُوا): في الأمر، (إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ)، الموجب لزوال الخلاف، (بَغْيًا): حسدًا أو عداوة، (بَينَهمْ)، وعن بعض: معناه آتيناهم أدلة على مبعث محمد عليه السلام، فما اختلفوا إلا بعد القرآن حسدًا، (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ): يا محمد، (عَلَى شَرِيعَةٍ): سنة وطريقة، (مِّنَ الأَمْرِ): من الدِّين، (فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ): آراء، (الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغنوا): يدفعوا، (عَنكَ مِنَ اللهِ): من عذابه، (شَيئًا)، إن اتبعتهم، (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)، لا توالهم، فإنما يوالي الظالين من هو مثلهم، وأما المتقون فوليهم الله تعالى وهم موالوه، (هَذَا): القرآن، (بَصَائِرُ(4/114)
لِلنَّاسِ): يبصرهم رشدهم، (وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ): يطلبون اليقين، (أَمْ حَسِبَ): بل أحسب، فالهمزة لإنكار الحسبان، (الَّذِينَ اجْتَرَحُوا): اكتسبوا، (السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ): نصيرهم، (كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، أي: مثلهم، (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ)، بدل من ثاني مفعولي نجعل، والضمير للمسيئين، ومحياهم ومماتهم مرفوع على الفاعلية، أي: مستويًا محيا المسيئين ومماتهم، ومحياهم رغد ومماتهم نكد، أو الضمير لهم وللمحسنين، أي: مستويًا محيا الفريقين، وهم في طاعة وهؤلاء في معصية، ومماتهم وهم في البشرى بالرحمة، وهؤلاء في اليأس منها، فهم أكرم فى الدنيا والآخرة، أو منصوب بتقدير أعني، وقيل حال من المفعول الأول، أي: مستويًا فى البعد عن الرحمة، أو من المفعول الثاني، أي: مستويًا في القرب عن الرحمة، ومن قرأ برفع (سَواءٌ) فالجملة بدل أيضًا كما تقول: حسبت زيدًا أبوه منطلق، (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)، أي: بئس حكمهم هذا.
* * *
(وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)
* * *(4/115)
(وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ)، أي: كيف يستوي، وقد خلقهما بالحق المقتضي للعدل، (وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفسٍ بِمَا كَسَبَتْ)، عطف على معنى بالحق، فإنه بمعنى خلقهما للعدل والصواب لا للعبث، أو عطف على علة محذوفة، (وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون)، فإذا استوى المسيء والمحسن فلا يكون للعدل والجزاء، ويكون المحسن مظلومًا، (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)، من لا يطاوع ربه، بل يطاوع هواه فهواه ربه، (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ)، حال من الفاعل، أي: عالمًا بضلاله في الأزل، أو من المفعول، أي: بعد بلوغ العلم وقيام الحجة عليه، (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِه وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً)، فلا يتعظ، ولا ينظر بعين الاعتبار، (فَمَن يَهْديهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ)، من بعد إضلاله، أو من غير الله تعالى، (أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَقَالُوا مَا هِيَ)، الحياة، (إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا)، أي: يموت بعضنا ويحيا بعض، أو المراد نفى المحيي والمميت، وعلى هذا يكون قوله: (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)، مبين له أي: لا نموت إلا بطول العمر ومر الزمان، وقيل: هذا إثبات التناسخ، فإنه عقيدة أكثرهم، (وَمَا لَهُم بِذَلِكَ): الذي يقولون، (مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)، إذ لا دليل لهم(4/116)
بوجه، (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا)، التي تدل على خلاف معتقدهم، (بَيِّنَاتٍ): واضحات الدلالة، (مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ)، متشبثهم في المعارضة، (إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا)، الأموات، حتى نستدل بالبعث، أو حتى يشهدوا، (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ)، من العدم، (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ)، في القبر، (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ): في يوم القيامة، فإن من قدر على الإيجاد من العدم -الذي هم مقرون به، أو هو جلي ظاهر لا ينكره إلا غبي- قدر على الإعادة بطريق الأولى، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، لقصور نظرهم.
* * *
(وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلله الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
* * *(4/117)
(وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ): القيامة، (يَوْمَئِذٍ)، تأكيد للأول، (يَخْسَرُ المُبْطِلُونَ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً): باركة على الركب، حتى إبراهيم عليه السلام لشدة اليوم، أو مجتمعة للحساب، (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا): الذي فيه أعمالها، ومن قرأ بنصب كل فهو بدل من الأول، (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، أي: يقال لهم ذلك، (هَذَا كِتَابُنَا)، أي: ديوان الحفظة الذي كتبوا بأمرنا، (يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ): يشهد عليكم بلا زيادة، ولا نقصان، (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ): نأمر الملائكة بنسخ، (مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، عن ابن عباس - رضي الله عنه - وغيره - رضي الله عنهم - إذا صعد الملائكة بالأعمال إلى السماء يؤمرون بالمقابلة على ما في اللوح فلا يزيد ولا ينقص، ثم قرأ " إنا كنا نستنسخ " الآية، (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ)، عطف على محذوف، أي: فيقال لهم ألم تأتكم رسلي فلم تكن (آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ وَإِذَا قِيلَ)، أي: لكمِ، (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ)، أي: موعوده كائن، أو متعلق الوعد كائن، (وَالسَّاعَةُ لاَ ريْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ)، أي شيء هي، (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا)، أي: ما نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا حقيرًا، أو ما نعتقد إِلَّا ظَنًّا لا علمًا، ونحوه، (وَمَا نَحْن بِمسْتَيْقِنِينَ)، أنها كائنة، وأما جزمهم في إنكارها فلعله حين عتوهم في العناد، أو هذا كلام بعضهم، (وَبَدَا): ظهر، (لَهُمْ سَيِّئَاتُ)، أي: قبائح، (مَا عَمِلُوا): أو جزاء سيئات أعمالهم، (وَحَاقَ): أحاط، (بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ)، أي: جزاؤه، (وَقِيلَ اليَوْمَ نَنسَاكمْ): نعاملكم معاملة الناسى، فنترككم في العذاب، (كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَومِكُمْ هَذا)، أي: لقاء ما فيه من الجزاء وتركتم العمل له، جعل الظرف مجرى المفعول به وأضاف اللقاء إليه، (وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)، فنسيتم حياة الآخرة،(4/118)
(فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا): من النار، (وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ): لا يطلب منهم أن يرضوا ربَّهم ويزيلوا العتب، (فَلله الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ): العظمة، (فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيز): الغالب، (الحَكِيمُ)، فيما أراد وقضى، وهذا الإخبار كأنه كناية أو مجاز عن الأمر بالحمد.
فله الحمد والثناء والعظمة والكبرياء.
* * *(4/119)
سورة الأحقاف مكية
وهي أربع أو خمس وثلاثون آية وأربع ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
* * *(4/120)
(حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)، قد مر تفسيرها في التي قبلها، (مَا خَلَقْنا السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مسَمًّى)، أي: إلا خلقًا متلبسًا بما يقتضيه الحكمة، وبتقدير مدة معينة تنتهي إليها السماوات والأرض، وهو إشارة إلى فنائها وقيل: خلقها بمدة معينة وهي قوله: " فى ستة أيام " [الأعراف: 54]، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا)، من هول ذلك اليوم، (مُعْرِضُونَ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ أَرُونِي)، بدل من أرأيتم، (مَاذَا خَلَقُوا مِن الأَرْضِ أَمْ لَهم شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ)، أي: أخبروني عما تدعون من دون الله وتجعلون له شريكًا، أخبروني أي جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله تعالى؟! أم لهم مع الله تعالى شركة في خلق السماوات؟! (ائْتُونِي بِكِتَابٍ من قَبْلِ هَذَا)، الإشارة إلى القرآن، (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ): بقية من علم بقيت من علوم الأولين تدل على صحة ما أنتم عليه من الشرك، (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)، في دعواكم، (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)، أي: لا أضل(4/121)
ممن يعبد من لا يستجيب له لو سمع دعاءه أبدًا، ويتجاوز عن عبادة سميع مجيب خبير، (وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)، لأنهم جمادات صم لا تبصر ولا تعقل، (وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانوا لَهُمْ أَعْدَاءً)، أي: كان الناس للمعبودين أعداء، لأنهم بسببها وقعوا في الهلكة، (وَكانوا)، أي: العابدون، (بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ): جاحدين، يقولون: (والله ربنا ما كنا مشركين) [الأنعام: 23]، أو كان المعبودون للناس أعداء، وكانوا جاحدين لعبادتهم يقولون: " تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون "، (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ)، أي: قالوا لأجل الآيات الواضحات وفي شأنها، (لَمَّا جَاءَهُمْ)، من غير تأمل، (هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ أَمْ يَقُولُونَ): بل يقولون، (افتَرَاهُ)، إضراب عن ذكر تسميتهم إياه سحرًا إلى ما هو أشنع، فالهمزة للإنكار والتعجب، (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ)، على الفرض، (فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئًا): لا تقدرون على دفع عقاب الافتراء، فكيف اجترئ عليه من أجلكم؟! (هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ): تخوضون، (فِيهِ)، من القدح، (كَفَى بِهِ): كفى باللهِ، (شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ): يشهد بصدقي وبلاغي، وبكذبكم وإنكاركم، (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)،(4/122)
لمن تاب وآمن فلا إقناط من رحمته، (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ): بديعًا غريبًا آمركم بما لا يأمرون به، (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ): لا أدري إلى ما يصير أمري وأمركم في الدنيا وعن بعض: معناه لا أدري حالي وحالكم في الآخرة، ثم نزل بعده " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " [الفتح: 2] فقال الصحابة: هنيئًا لك، وعلمنا ما يفعل الله تعالى بك فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالي: (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات) الآية [الفتح: 5]، وعن بعضهم معناه: لا أدرى بماذا نؤمر وبماذا ننهي بعد ذلك؟ أو لا أدري حالى وحالكم في الدارين على التفصيل إذ لا أدعي علم الغيب، (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)، لا أبتدع من عندي شيئًا، (وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)، قيل: هو جواب عن اقتراحهم الإخبار عن الغيب، أو عن استعجال المسلمين أن يتخلصوا من أذى المشركين، (قُلْ أَرَأَيتمْ إِن كَانَ): القرآن، (مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، هو عبد الله بن سلام، صرح به جماعة لا يحصى من السلف، وعليه حديث البخاري ومسلم، فهذه الآية مستثناة من كون السورة مكية، كما صرح به في تفسير الكواشي وقد يأول بأن المراد، ويشهد شاهد فيكون على طريقة (ونادى أصحاب الأعراف) [الأعراف: 48] فالآية في حقه الحكم بأنه يشهد بعد ذلك، (عَلَى مِثْلِهِ)، أي: على مثل ما أخبر القرآن به، وقيل: المثل صلة، (فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ)، فعطف كفرتم على كان، وعطف واستكبرتم على شهد، وعطف جملة شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله، فآمن واستكبرتم على جملة كان من عند الله وكفرتم وجواب الشرط محذوف، أي: ألستم ظالمين؟ ويدل عليه قوله: (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
* * *
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
* * *(4/123)
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا)، أي: لأجلهم، (لَوْ كَانَ)، أي: الإيمان، (خَيْرًا ما سَبَقُونَا إِلَيهِ)، فإنهم فقراء، وعبيد، وإماء، ونحن أشرف والأشرف للأشرف، (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ)، أي: بالإيمان، (فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ)، كما(4/124)
قالوا: أساطير الأولين والعامل في إذ محذوف، والفاء مسبب عنه، أي: ظهر عنادهم فسيقولون، وقيل: السين لمجرد التأكيد، والمضارع للاستقرار أو بحيث يتناول الماضي فلا حاجة إلى تقدير، (وَمِن قَبْلِهِ)، أي: قبل القرآن، (كِتابُ مُوسَى)، مبتدأ، وخبر، (إِمَامًا وَرَحْمَةً)، نصب على الحال، (وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ)، للكتب السماوية، (لِسَانًا عَرَبِيًّا)، نصب على الحال، (لِيُنْذِرَ)، النبي، أو الكتاب علة مصدق، (الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ)، عطف على محل لينذر، (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا): أقروا بواحدانيته ثم استقاموا على التوحيد، وثم لتراخي مرتبة الاستقامة، فإن لها الشأن كله، (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)، مما يستقبلون، (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، على ما خَلَّفوا، (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الجَنةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً)، أي: جُوزوا جزاء، (بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ)، لما ذكر التوحيد عطف عليه بالوصية بالوالدين كقوله تعالي: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا [إِلَّا إِيَّاهُ]) الآية [الإسراء: 23]، وقوله: (أن اشكر لي ولوالديك) [لقمان: 14]، (إِحْسَانًا)، منصوب بـ وصينا بأنه بمعنى ألزمناه الحسن في أبويه، (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا(4/125)
وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا)، نصب على الحال، أي: ذات كره، أو صفة لمصدر، أي: حملاً ذا كره ومشقة، (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ)، أي: مدتهما، والفصال: الفطام، (ثَلاُثونَ شَهْرًا)، فأقل مدة الحمل ستة أشهر لأنه إذا حط عنه حولان كاملان لمن أراد أن يتم الرضاعة بقي ذلك، وفي سورة لقمان " وفصاله في عامين " [لقمان: 14] وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا وضعت بعد تسعة أرضعت إحدى وعشرين، وإذا وضعت بعد ستة أرضعت أربعة وعشرين، (حَتَّى إِذَا بَلغَ أَشُدَّهُ): استحكم قواه واكتهل، قيل: هو ما بين ثماني عشر إلى أربعين، وقيل: ثلاث وثلاثون إلى أربعين، وهو غايته، (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي): ألهمني، (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ)، والنعمة: الهداية والإسلام، (وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي)، اجعل لي الصلاح ساريًا فيهم، (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، قيل: نزلت في أبى بكر رضي الله عنه، اجتمع له إسلام أبويه وأولاده(4/126)
جميعًا، ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة، وهذا إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد الإنابة إلى الله تعالى: فقد ورد " من بلغ الأربعين، ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار " (1)، (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا) أي: طاعاتهم فإنها أحسن من المباح، (وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ): كائنين معدودين فيهم، (وَعْدَ الصِّدْقِ)، مصدر مؤكد لأن يتقبل ويتجاوز وعد، (الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)، بلسان الأنبياء، وعن علي رضي الله عنه من الذين قال الله تعالى فيهم: " أولئك الذين نتقبل عنهم " الآية قال: والله عثمان وأصحاب عثمان قالها ثلاثًا، (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا)، هو صوت يعلم منه أن قائله متضجر، واللام للبيان أي: هذا التأفيف لكما خاصة، لما ذكر تعالى حال البارّين بهما عقب بحال العاقين لهما، (أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ)، من قبري حيًا، (وَقَدْ خَلَتِ): مضت (الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي)، ولم يبعث منهم أحد، (وَهُمَا): الوالدان، (يَسْتَغِيثَانِ الله): يسألانه أن يغيثه بالهداية، وقيل: الغياث بالله منك، (وَيْلَكَ آمِنْ): يقولان له ذلك دعاء عليه بالهلاك، والمقصود التحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك نصب على المصدر، (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ)، الولد: (مَا هَذَا)، الذي تدعونني إليه، (إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ): أباطيلهم التي كتبوها، (أُولَئِكَ)، خبر لقوله: " والذي قال "، فالمراد " بالذي " الجنس القائل ذلك القول حتى جاز أن يكون خبره مجموعًا، (الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ): كلمة العذاب وأنهم أهل النار، (فِي أُمَمٍ)، كائنين معدودين فيهم، (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ)، في الدنيا، والآية في كل كافر عاق، وفي الآية أدلة على ضعف قول من قال: إنَّهَا في شأن عبد الرحمن بن أبى بكرٍ قبل
__________
(1) " موضوع " ذكره ابن الجوزي في " الموضوعات "، (1/ 178)، والسيوطي في " اللآلئ المصنوعة "، (1/ 71).(4/127)
إسلامه، وفي النسائي لما بايع معاوية لابنه قال مروان: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن: سنة هرقل وقيصر، فقال مروان: هذا الذي أنزل الله تعالى فيه: " والذي قال لوالديه " الآية، فبلغ عائشة رضي الله عنها فقالت: والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي أنزل الله فيه لسميته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان فى صلبه فمروان فضض من لعنة الله تعالى، (وَلِكُلٍّ)، من الفريقين، (دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا): مراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر، وتسمية الدركات درجات للتغليب، (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ)، أي: جزاءها، ومعلله محذوف، أي: وقدر لهم درجات ليوفيهم، (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ): بزيادة عقاب ونقص ثواب، (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ)، من باب القلب للمبالغة، أي: يعرض النار عليهم، أو معناه يعذبون عليها، (أَذْهَبْتُمْ)، أي: يقال لهم يوم القيامة ذلك، (طَيِّبَاتِكُمْ): لذائذكم، (فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا)، فلم يبق لكم منها(4/128)
شيء، (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ): الذل، (بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)، فإن التكبر يمكن أن يكون بحق، (وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ)، رأى عمر رضى الله عنه في يد جابر لحمًا فقال: ما هذا؟ فقال: لحمًا اشتريته، فقال: أو كل ما اشتهيت اشتريت، أما تخاف هذه الآية " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ".
* * *
(وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (26)
* * *
(وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ)، أي: هودًا، (إِذْ أَنْذَرَ)، بدل من أخا عاد، (قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ): منازلهم فهم ساكنون بين رمال، جمع حقفٍ، وهو الرمل الكثير، (وَقَدْ(4/129)
خَلَتِ النُّذُرُ)، حال من مفعول اذكر، أو معترضة بين أنذر وبين أن لا تعبدوا، (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ): قبله، (وَمِنْ خَلْفِهِ): بعده فأنذروا كما أنذر، (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ)، أن مفسرة، أو بألا تعبدوا، فإن النهي عن شيء إنذار عن مضرته، (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا): تصرفنا، (عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا)، من العذاب، (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا العِلْمُ عِندَ اللهِ)، هو يعلم متى يأتيكم العذاب، ولا مدخل لي في الاستعجال، (وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ): فما على الرسول إلا البلاغ، (وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ)، لأنكم تستعجلون بعذاب يحتمل الوقوع، (فَلَمَّا رَأَوْهُ)، الضمير مبهم يفسره قوله: (عَارِضًا)، وهو إما تمييز، أو حال، أو الضمير لما طلبوا إتيانه يعني سحابًا عرض في أفق السماء، (مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ): متوجه أوديتهم، والإضافة لفظية، ولذا وقع صفة لنكرة، (قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)، وكذا هذه الإضافة لفظية، استبشروا لأنه قد حبس عنهم المطر، (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ)، من العذاب، أي: قال هود بل هو، أو الإضراب من الله تعالي، ولا قول ثمة، بل هو عبارة عن سرعة استئصالهم كقوله تعالي: " فقال لهم الله موتوا " بعد قوله: " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم " [البقرة: 243] فإن معناه فأماته الله، (رِيحٌ)، أي: هي ريح، (فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تدَمِّرُ): تهلك، (كُلَّ(4/130)
شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى)، أي: جاءتهم الريح ودمرتهم، فأصبحوا بحيث لو حضرتهم لا ترى، (إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)، قيل: كانوا تحت الرمال ثمانية أيام ولهم أنين، ثم قذفتهم الريح في البحر، (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ)، أي: في الذي ما مكناكم فيه من المال والقوة والعمر، فإن نافية، وقيل: شرطية محذوفة الجواب، أي: في شيء إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر، وقيل: صلة، (وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ): شيئًا من الإغناء، أو ما دفع عنهم شيئًا من العذاب، (إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ)، ظرف جرى مجرى التعليل، (وَحَاقَ): أحاط، (بِهِم مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ)، أي: العذاب، فإنهم استهزءوا به.
* * *
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ(4/131)
إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
* * *
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ)، يا أهل مكة، (مِنَ الْقُرَى)، كحجر ثمود، وقرى قوم لوط، (وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ): بيناها مكررًا، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، عن ضلالتهم، (فَلَوْلاَ): فهلا، (نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ قُرْبَانًا آلِهَةً)، أي: الذين اتخذوهم متجاوزين الله تعالى آلهة متقربًا بهم، كما قالوا: (هؤلاء شفعاؤنا) [يونس: 18] فـ قربانا حال من المفعول الثاني، أي: آلهة، أو مفعول له، (بَل ضَلوا عَنْهُمْ)، لم ينفعهم عند نزول العذاب، (وَذلِكَ)، أي: ضلالهم عنهم، (إِفْكُهُم)،(4/132)
أي: أثر صرفهم عن الحق، (وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)، وافترائهم، وهذا كمن أدب أحدًا فلم يتأدب، وظهر منه سوء أدب، فيقال له تقريعًا: هذا تأديبك، (وَإِذ صَرَفنا): أملنا، (إِلَيْكَ نَفَرًا)، هو ما دون العشرة، (مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ)، وهو عطف على قوله: (أخا عادٍ)، أي: واذكر إذ صرفنا، (فَلَمَّا حَضَرُوهُ): القرآن أو رسول الله صلى الله عليه وسلم، (قَالُوا)، بعضهم لبعض: (أَنْصِتُوا): نستمع القرآن، (فَلَمَّا قُضِيَ): فرغ عن قراءته، (وَلَّوْا): رجعوا، (إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)، إياهم بما سمعوا، والأحاديث الصحاح والحسان بطرق مختلفة، تدل على أنه عليه السلام ذهب إلى الجن قصدًا فتلا عليهم، والأظهر كما قاله كثير من العلماء: أن استماعهم القرآن ليس مرة واحدة ولا يمكن توفيق الأحاديث المتضادة إلا بذلك، فمرة في طريق الطائف،(4/133)
ومرة في شعاب مكة، ومرة في بوادي المدينة، (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى)، لم يذكروا عيسى لأن الإنجيل فيه مواعظ، وقليل نادر من الأحكام، فهو كالمتمم للتوراة، وقيل: لأنَّهُم كانوا يهودًا، (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ)، من كتب الله، (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)، أي: بعضها، فإن المظالم لا تغفر في حق الذمي بالإيمان بخلاف الحربي، فإنه لا تبقى عليه تبعة، (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ)، لا يعجز الله تعالى فيفوته، (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ)، ينصرونهم، (أوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مبِينٍ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الله الَّذِي خَلَقَ السمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ): لم يتعب، (بِخَلْقِهِنَّ)، ولم يضعف عن إبداعهن، (بِقَادرٍ)، خبر أن، والباء لاشتمال النفي على أن وما في حيزها كأنه قال: " أليس الله بقادر "، (عَلَى أَن يُحْيي المَوْتَى بَلَى)، مقررة للقدرة الواقعة بعد ليس تقديرًا، (إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ): يعذبون عليها، (أَلَيْسَ هَذا بِالْحَقِّ)، أي: قال لهم في ذلك اليوم أليس هذا، تقريعًا،(4/134)
(قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ): بسببه، (فَاصْبِرْ)، يا محمد، (كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ)، أي: أولو الثبات والجد منهم، والأشهر أنَّهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتم النبيين عليهم الصلاة والسلام، (مِنَ الرُّسُلِ)، حال، ومن للتبعيض وعن بعضهم: إن جميع الأنبياء أولو العزم، فمن للتبيين، (وَلاَ تَسْتَعْجِل)، بالعذاب، (لَهُمْ): لقريش، (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ)، أي: يحسبون يوم القيامة أن مدة لبثهم في الدنيا ساعة فإنه نازل بهم لا محالة، (بَلَاغٌ)، أي: هذا يعني القرآن، أو ما وعظتم به بلاغ كفاية، أو تبليغ من الرسول، (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ): الخارجون عن الاتعاظ: والطاعة.
* * *(4/135)
سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - مدنية وقيل مكية
وهى ثماني أو تسع وثلاثون آية وأربع ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)
* * *
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا): أعرضوا، أو منعوا الناس، (عَنْ سَبِيلِ اللهِ): عن الدخول فى الإسلام، (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ): أبطلها، وما جعل لها ثوابًا كتصدقهم وصلة(4/136)
أرحامهم، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) تخصيص بعد التعميم تعظيمًا لشأنه، وأكده بالجملة الاعتراضية يعني قوله: (وَهُوَ الْحَقُّ مِن ربِّهِمْ)، الظرف حال من ضمير الحق، (كَفرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ): حالهم وأمرهم، (ذَلِكَ) أي: الإضلال والتكفير، (بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ): الشيطان، (وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ): القرآن، (مِنْ ربهِمْ)، حال من الحق، (كَذَلِكَ): مثل ذلك الضرب، (يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) أي: لأجل الناس أمثال الفريقين، أو أمثال الناس للناس بأن جعل اتِّباع الباطل والإضلال مثلا للكفار، واتباع الحق والتكفير مثلاً للمؤمنين، (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا): حاربتموهم، (فَضَرْبَ الرِّقَابِ) أي: فاضربوا رقابهم ضربًا قدم المصدر مضافًا إلى المفعول بعد حذف فعله، والمراد منه القتل بأي وجه كان، (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ): أغلظتم قتلهم، وجعلتموه كثيرًا كثيفًا قال تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال: 67] (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ) أي: فأسروهم، والوثاق ما يوثق به، (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) أي: تمنون منًّا بعد الأسر، أو يفدون فداء أراد التخيير بين الإطلاق بلا عوض وبين العوض، وعند بعض السلف أنها منسوخة بقوله " فاقتلوا(4/137)
المشركين حيث وجدتموهم " الآية [التوبة: 5]، والأكثرون على أنها محكمة، ثم قال بعضهم التخيير بين القسمين فلا يجوز قتله، والأكثرون منهم وهو قول أكثر السلف على التخيير بين المنِّ والمفاداة والقتل والاسترقاق، (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْب أَوْزَارَهَا): أثقالها وآلاتها أي: لا يبقى حرب، وهو بأن لا يبقى كافر، (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله) [الأنفال: 39] قيل: حتى تضع الحرب آثام أهلها بأن يتوبوا، أو شرك أهلها وقبائحهم، (ذَلِكَ) أي: الأمر ذلك، (وَلَوْ يَشَاءُ الله لانتَصَرَ): لانتقم، (مِنْهُمْ): بأن أهلكهم من غير قتال، (وَلَكِنْ) شرع لكم الجهاد، (لِيَبْلوَ): الله تعالى، (بَعْضَكمْ بِبَعْضٍ): فيمحص ويخلص المؤمنين بالجهاد، ويمحق الكافرين فهو من البلية، أو من الابتلاء أي: الاختبار قال تعالى: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم اللهُ " الآية [آل عمران: 142]، (وَالَّذِينَ قُتِلُوا): جاهدوا، (فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ): يضيع، (أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ): إلى سبل السلام، (وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ): حالهم فيما بقي من عمرهم، وفي الآخرة، (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ): بينها لهم لكل منهم يعرف منزله، وفي البخاري " والذي نفس محمد بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله كان في الدنيا " وعن بعض: طيبها لهم من العَرْف وهو طيب الرائحة قيل: عرفها لهم في الدنيا حتى اشتاقوا إليها، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ)(4/138)
أي: في دينه، (يَنصُرْكُمْ): على عدوكم، (وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ): في الجهاد والطاعات، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ)، مفعول مطلق وجب حذف فعله أي: تعس أو أتعسه الله تعالى تعسًا أي: أهلكه إهلاكًا، والجملة خبر الذين كفروا كأنه قال والذين كفروا أهلكهم الله (وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)، عطف على ناصب تعسًا، (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ): القرآن، (فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ): استأصل، (اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) أي: ولمطلق الكافرين أمثال تلك العاقبة، فيه وعيد لقريش، (ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى): ناصر، (الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ): لا ناصر لهم، ولكن هو مولاهم بمعنى مالكهم.
* * *
(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ(4/139)
فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
* * *
(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ): في الدنيا بها، (وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ): لا يهتمون بالحل، والحرمة، ولا بالقلة والكثرة لا شكر ولا حمد، (وَالنَّارُ مَثْوًى): منزل، (لَهُمْ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي: وكم من أهل قرية، (هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ): مكة، أي: من أهلها، (الَّتِي أَخْرَجَتْكَ): كانوا سبب خروجك، (أَهْلَكْنَاهُمْ): بأنواع العذاب، (فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ)، معناه على المضي أي: لم يكن لهم ناصر فهو كالحال المحكية نزلت حين قال - عليه السلام - في الغار ملتفتًا إلى مكة: " أنت أحَبُّ بلاد الله إلى الله وأَحَبُّ بلاد الله إليَّ ولولا أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك "،(4/140)
فأعدى الأعداء من عدا على الله في حرمه، أو قتل غير قاتله، (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ): حجة، (مِنْ رَبِّهِ): كالقرآن والدلائل، (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا)، جمع الضمير باعتبار المعنى، (أَهْوَاءَهُمْ): لا حجة لهم أصلاً، (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي: وعدها، (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ): غير متغير طعمه ولا ريحه، (وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ): لم يصر حامضًا ولا قارصًا، (وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ): طيبة الطعم والرائحة لا فيها غول، وهي تأنيث لَذ، وهو اللذيذ أو مصدر وصف به للمبالغة، (وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى): من الشمع والوسخ، (وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) أي: بعضه، (وَمَغْفِرَةٌ)، عطف على معنى من كل الثمرات، (مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ): من شدة الحرارة، واعلم أن " مثل الجنة " مبتدأ خبره " كمن هو خالد " بتقدير في الخبر والمبتدأ على حاله أي: كمثل جزاء من هو خالد أو في المبتدأ، أو الخبر على حاله أي: مثل أهل الجنة كمن هو خالد وقوله " فيها أنهار " إما صلة لا بعد صلة، أو استئناف، أو مثل مبتدأ، وفيها أنهار خبره من غير احتياج بتقدير أي: صفتها هذه،(4/141)
أو مبتدأ خبره محذوف أي: فيما قصصنا عليكم مثل الجنة ثم أخذ يبين، وعلى هذين الوجهين كمن هو خالد خبر محذوف أي: المنفي الذي له تلك الجنة كمن هو خالد، والقرينة وعد المتقون، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ): المنافقون يحضرون ويسمعون كلامه الأشرف، (حَتى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ): علماء الصحابة، (مَاذَا قَالَ): محمد، (آنِفًا): الساعة استهزاءً وإعلامًا بأنا ما كنا ملتفتين إليه مستمعين له، وآنفًا ظرف بمعنى أول وقت يقرب منا، (أُولَئِكَ الذِينَ طَبَعَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ): ختم عليها فلا يدخل فيها الهدى، (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ): الله، أو قول الرسول، (هُدًى): وفقهم على تكثير الحسنات وتقليل السيئات، (وَآتاهُمْ تَقْوَاهُمْ): أعانهم على التقوى أو أعطاهم ثواب التقوى أو بين لهم ما يتقون، (فَهَلْ يَنظُرُون): ينتظرون، (إِلا السَّاعَةَ) أي: لا يؤخرون الإيمان إلا لانتظار القيامة، (أَنْ تَأتِيَهُمْ بَغتَة)، بدل اشتمال من الساعة، (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) كالعلة كأنه قال لا ينتظرون إلا إتيانها بغتة؛ لأنه قد جاء أشراطها، وبعد مجيء الأشراط لابد من وقوع الساعة، ومن أشراطها مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم (فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ): فمن أين لهم التذكر والاتعاظ إذا جاءتهم الساعة؟ يعني حينئذ لا تنفعهم، (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) أي: إذا علمت حال الفريقين فاثبت على التوحيد، (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)، ذكره(4/142)
للتوطئة والتمهيد لقوله: (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)، فالمقصود الاستغفار لهم، وأمره به لتستن به أمته، (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ). متصرفكم بالنهار، (وَمَثْوَاكُمْ):(4/143)
مستقركم في الليل، أو متقلبكم في الدنيا ومثواكم في الآخرة، أو متقلبكم من ظهر إلى بطن، ومثواكم مقامكم في الأرض أو في القبور.
* * *
(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)(4/144)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)
* * *
(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا): هلا، (نزِّلَتْ سُورَةٌ): تأمرنا بالجهاد، (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ): غير منسوخة، (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ): الأمر به، (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ): من كان له ضعف دين، (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ): عند الموت، (نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي: كنظر من أصابته الغشية عند الموت من رعبهم وجبنهم، (فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي: كان الأولى بهم طاعة الله، وقول معروف بالإجابة، أو معناه فالويل لهم من الولي، وأصله أولاه الله ما يكرهه، واللام مزيدة أي: هذا الويل لهم، ثم قال (طاعة) أي: أمرهم طاعة أو طاعة(4/145)
خير لهم، (فَإِذَا عَزَمَ): جد، (الأمْرُ): وفرض القتال، (فَلَوْ صَدَقُوا الله): في الإيمان والطاعة، (لَكَانَ): الصدق، (خَيْرًا لَهُمْ)، وعن بعضهم إذا عزم الأمر حضر القتال فلو صدقوا الله: أخلصوا له النية لكان خيرًا لهم، (فهَلْ عَسَيتُمْ): يتوقع منكم، (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ): بمعنى الإعراض أي: أعرضتم عن الدين أو رجعتم عن الجهاد، (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ): أن تعودوا إلى أمر الجاهلية، أو بمعنى الولاية أي: تأمرتم أن تظلموا ولم تعدلوا فدخلت هل على ما يتضمنه عسى من معنى التوقع يعني: هم لضعف دينهم بحيث يتوقع من عرفهم ذلك منهم، ويقول لهم هل عسيم، (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ): فلا يستمعون الحق ولا يهتدون، (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ): فيتعظون بمواعظه، (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) أي: أم يتدبرون لكن عليها القفل، فلا يدخل فيها الحق، وتنكير قلوب للتهويل كأنه قيل لا يقادر قدرها في القسوة والإقفال، أو لأن المراد قلوب بعض، وإضافة الأقفال للدلالة على أقفال مناسبة لها لا تجانس الأقفال المعهودة، وقيل: أم منقطعة والهمزة للتقرير، (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ): رجعوا إلى كفرهم وهم المنافقون، (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى): بالمعجزات، أو هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمد - عليه الصلاة والسلام - بعد ما عرفوه من كتابهم، (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ): زين وسهل، (لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ): مد لهم في الآمال، أو أمهلهم الله تعالى، وقراءة أُملِي على فعل المتكلم يدل على الثاني أي: وأنا أمهلهم ولا أعجلهم بالعقوبة، (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ): المنافقين، (قَالُوا): سرًّا، (لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ)، هم المشركون، أو كفار أهل الكتاب، أو قال كفار أهل الكتاب للمشركين: (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ): بعض أموركم في عداوة الإسلام، (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ): أفشا الله تعالى أسرارهم وأفضحهم، (فَكَيْفَ): يعملون، (إِذَا تَوَفتْهُمُ الْمَلائكَةُ يَضْرِبُونَ(4/146)
وُجُوهَهمْ وَأَدْبَارَهُمْ): ليستخرجوا أرواحهم بالقهر، (ذلِكَ): التوفي الموصوف (بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ): من الكفر وعداوة الإسلام، (وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ): ما يرضاه، (فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ): حسناتهم التي عملوا.
* * *
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
* * *(4/147)
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ): نفاق، (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ): يبرز ويظهر، (أَضْغَانَهُمْ): أحقادهم، وأم منقطعة، والهمزة للإنكار، (وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ): عرَّفناهم بأشخاصهم، (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ): بأن جعلنا على المنافقين علامة تعرفهم بها، لكن لم يفعل سترًا منه على خلقه، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - ما خفي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية أحد من المنافقين يعرفهم بسيماهم، فكأنه - رضي الله عنه - حمله على أنه وعد بالوقوع دال على الامتناع فيما سلف " ولام الجواب كررت في المعطوف، (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) هو إزالة الكلام عن جهته إلى تورية فكان بعد ذلك ما تكلم منافق عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا استدل بفحوى كلامه على فساد باطنه، وهو جواب قسم محذوف، والواو لعطف القسمية على الشرطية، (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ): نعاملكم معاملة المختبر بالتكاليف، (حَتَّى نَعْلَمَ): نرى ونميز، (الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ): على مشاقها، (وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ): نعلم أو [نُظْهِر] أحوالكم وأعمالكم أو نختبر أخباركم عن الإيمان أنه عن صدق القلب أو عن اللسان وحده، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا): الناس، (عَنْ سَبيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ): خاصموه، (مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّوا الله شَيْئًا): من المضرة إنما يضرون أنفسهم، (وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ): ثواب حسناتهم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكمْ): بالردة، والنفاق أو بالرياء والمنِّ والأذى أو بالكبائر،(4/148)
وعن أبي العالية: كنا معاشر الصحابة نرى أنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت " ولا تبطلوا أعمالكم "، فخفنا أن يبطل الذنب العمل، وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قريب منه، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)، دل بمفهومه على أنه قد يغفر الذنوب لمن لم يمت على الكفر، (فَلا تَهِنُوا): تضعفوا، (وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ): ولا تدعوهم إلى الصلح حال كونكم الأغلبين، (وَاللهُ مَعَكُمْ): بالنصر، (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)، منصوب بنزغ الخافض أي: لن يفردكم الله منها بأن يضيع، أو بالمفعول لتضمين معنى السلب، (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ): لا أصل لها ولا ثبات، (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ): ثواب أعمالكم، (وَلا يَسْأَلْكُمْ): ربكم، (أَمْوَالَكُمْ) أي: شيئًا منها، فإنه غني عنها، والأمر بالصدقات لنفعكم ما أريد منهم من رزق، أو جميع أموالكم، بل يسأل شيئًا يسيرًا منها، (إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ): يطلب منكم جميعه، (تَبْخَلُوا): فلا تُعطوا، (وَيُخْرِجْ): الله، (أَضْغَانَكُمْ): عداوتكم على من يطلب منكم، (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ)، مبتدأ وخبر أي: أنتم هؤلاء الموصوفون وحنيئذ قوله: (تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا)، استئناف مقرر لذلك، أو هؤلاء موصول، وتدعون صلته، (فِي سَبِيلِ اللهِ): طرق الخير، (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ): ضرر البخل راجع إليها، (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ): فلا يأمركم إلا بما يسد احتياجكم، (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا)، عطف على وإن تؤمنوا، (يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ): يقم مقامكم قومًا آخرين، (ثُمَّ لَا يَكُونُوا(4/149)
أَمْثَالَكُمْ): في التولي؛ بل سامعين طائعين، وفي الحديث " من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب عليه السلام يده على كتف سلمان، ثم قال: هذا وقومه، ولو كان الدِّين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس " وعن الحسن: هم العجم، وعن عكرمة: فارس والروم.
ولله الحمد والمنَّة.
* * *(4/150)
سورة الفتح مدنية
وهي تسع وعشرون آية وأربع ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلله جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلله جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
* * *
(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) الفتح: صلح الحديبية، وما فتح الله تعالى على باطنه(4/151)
الأشرف، وروي محيي السنة أنه لما نزل قال عمر - رضي الله عنه - أو فتح هو يا رسول الله؛ قال: " نعم، والذي نفسى بيده " وهو صلح بسببه خير الدنيا والآخرة فيه بيعة الرضوان، وظهور الإسلام، وانتشار العلم، وهو سبب لفتح مكة نزلت في طريق الرجوع إلى المدينة، (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ): لما كان ذلك الفتح متضمنًا لأمور عظيمة القدر عند الله تعالى كان سببًا للغفران، فجمع له عز الدارين، (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ): من يجوز الصغائر على الأنبياء فمعناه ظاهر، وإلا فجميع ما فرط منك، ويفرط وسماه ذنبًا تغليظًا، وعن بعض ما تقدم في الجاهلية، وما تأخر مما لم يعمله كما تقول مبالغة: ضرب من لقيه ولم يلقه، وعن بعض ما تقدم أي: ذنوب أبويك آدم وحواء وما تأخر ذنوب أمتك بدعوتك، (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًاا): يثبتك عليه، أو في تبليغ الرسالة، (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا): فيه عز، (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ): الطمأنينة والوقار، (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ): كما أنزل على الصحابة يوم الحديبية، واطمأنت قلوبهم بالصلح فانقادوا لله تعالى (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ): يقينًا مع يقينهم، وإيمانًا بما أمر النبي عليه السلام - ورآه من المصلحة مقرونًا مع إيمانهم باللهِ ورسوله، (وَلله جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): هو المدبر والمتصرف فيهم، (وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا): فما أمر رسوله من الصلح لمصلحة وحكمة، (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا(4/152)
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا)، في الصحيحين " لما نزل " ليغفر لك الله " إلخ قالوا: هنيئًا مريئًا يبن الله تعالى ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت إلى قوله تعالى: " فوزًا عظيمًا " فعلى هذا الظاهر أنه أيضًا علة " لـ إنَّا فتحنا "، أو لجميع ما ذكر، وقيل: لما دل عليه " ولله جنود السَّمَاوَات والأرض " من معنى التدبير أي: دبر ما دبر وسكن قلوبهم ليعرفوا نعمه ويشكروها، فيدخلوا الجنة، ويعذب المنافقين والكافرين لما غاظهم من ذلك وكرهوا، (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزًا عَظِيمًا)، و " عند " حال من الفوز مقدم، (وَيُعَذِّبَ)، عطف على يدخل، (الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ): يظنون أن لن ينصر الموحدين أي: ظن(4/153)
الشيء السوء، (عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ) أي: عليهم خاصة ما يظنونه بالمؤمنين يحيط بهم إحاطة الدائرة بما فيها، والإضافة بمعنى من، (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا): جهنم، (وَلله جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا): فلا أحد يمنعه من الانتقام الذي فيه الحِكَم، (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا): على أمتك في القيامة، (وَمُبَشِّرًا): للمؤمنين، (وَنَذِيرًا): للكافرين، (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ)، الضمير للأمة على أن جعل خطابه في " إنا أرسلناك " منزلاً منزلة خطابهم، (وَتُعَزِّرُوهُ): تعظموه، (وَتُوَقِّرُوهُ): تجلوه، (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا): تنزهوه غدوة وعشيًّا، (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ): في الحديبية، وهي بيعة(4/154)
الرضوان، (إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ)، نحو (من يطع الرسول فقد أطاع الله) [النساء: 80] (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) استئناف مؤكد له على سبيل التخييل يعني: يد رسوله يده، وعن بعض: نعمة الله تعالى عليهم بالهداية فوق ما صنعوا من البيعة، أو كناية عن أن كمال القدرة والقوة لله تعالى فيكون مقدمة لقوله: (فَمَنْ نَكَثَ): نقض العهد، (فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ): عليه وباله، (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).
* * *
(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ قُلْ لَنْ(4/155)
تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
* * *
(سَيَقولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ): الذين وعدوا أن يرافقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة عام الحديبية فتثاقلوا وأخلفوا الوعد، (شَغَلَتْنَا): عن الوفاء بالوعد، (أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا): إذ ليس لنا من يقوم بأمرهم إذا خرجنا، (فَاسْتَغْفِرْ لَنَا): على التخلف (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ): تكذيب لهم من الله تعالى، (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا) أي: لا أحد يدفع ضره ولا نفعه فليس الشغل بالأهل والمال عذرًا، فلا ذاك يدفع الضر إن أرادوه، ولا ملاقاة العدو تمنع النفع إن أراد بكم نفعًا، واللام في لكم للبيان أو للصلة، (بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا): فيعلم قصدكم في التخلف، (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا): قالوا: هم أكلة رأس لقريش، فهم يستأصلونهم، (وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) أي: إنهم أكلة رأس، (وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا): هالكين عند الله تعالى أو فاسدين لسوء العقيدة، (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ) أي: لهم، (سَعِيرًا)،(4/156)
التنكير للتهويل، (وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): له الاختيار المطلق في الأشياء، (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ). لا يجب عليه شيء، (وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا): لمن تاب وآمن فالغفران من دأبه، (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُون): المذكورون، (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا) أي: غنائم خيبر، (ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ): إلى خيبر، (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ): فإن الله تعالى وعد أهل الحديبية أن ييسر لهم [خيبر]، ويعوضهم من مكة مغانم خيبر لا شريك لهم فيها، (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا): في خيبر، نفي بمعنى النهي، (كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) أي: من قبل أن تسألوا الخروج معهم، فإنه حكم بأن تكون غنيمته لأهل الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب، (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا): في أن نصيب الغنائم، وليس أمرًا من الله تعالى، (بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا): إلا فهمًا قليلاً، وهو فهمهم لبعض أمر دنياهم، ردٌ من الله تعالى لهم، (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ)، كرر تسميتهم بهذا الاسم للشناعة، (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ): هوازن وثقيف، وذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بني حنيفة وأصحاب مسيلمة، وذلك في خلافة أبى بكر - رضي الله عنه - أو أهل فارس، وذلك في خلافة عمر - رضي الله عنه - (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) أي: أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإسلام جملة مستأنفة للتعليل والأصح أن لا تقبل الجزية من(4/157)
المشركين، وقيل الإسلام الانقياد، فيشمل الجزية، (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ): عام الحديبية، (يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ)، لما أوعد على التخلف نفى الحرج عن هؤلاء، (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا).
* * *
(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ(4/158)
يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
* * *
(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ)، وهم ألف وأربعمائة على الأصح، (إِذْ يُبايِعُونَكَ): بالحديبية على أن يكونوا متفقين على قتال قريش، فإنهم هَمُّوا [بقتل] عثمان - رضي الله عنه - وهو رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم (تَحْتَ الشَّجَرَةِ)، أي: سمرة (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ): من الإخلاص، (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ): الطمأنينة، (عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ): جازاهم، (فَتْحًا قَرِيبًا)، هو الصلح، وما هو سبب له من فتح خيبر ومكة ثم فتح سائر البلاد، (وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا): عقار خيبر وأموالها، (وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا): غالبًا، (حَكِيمًا): مراعيًا للحكمة، (وَعَدَكمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأخُذُونَهَا)، هي الفتوح إلى يوم القيامة (فَعَجَّلَ لَكُمْ(4/159)
هَذِهِ): غنيمة خيبر، أو صلح الحديبية، (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ)، هم لما خرجوا إلى خيبر همت اليهود أن يغيروا على عيال المسلمين بالمدينة، فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب، أو المراد أيدى قريش، لأجل صلح حديبية، (وَلِتَكُونَ): هذه الكفة وسلامة عيالكم والغنيمة المعجلة، (آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ): على صدقك، عطف على محذوف أي: لتكون سببًا للشكر، ولتكون آية، (وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا): التوكل وتفويض الأمور إليه، (وَأُخْرَى)، عطف على هذه، وهي مكة أو فارس والروم، أو خيبر، وهذا على قول من فسر " عجل لكم هذه " بصلح [الحديبية]، (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا): لشوكتهم، (قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا): استولى، ففتحها لكم، وجاز أن يكون أخرى مبتدأ، ولم تقدروا صفتها، وقد أحاط خبرها، (وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا): من أهل مكة عام الحديبية، (لَوَلَّوُا الأدْبَارَ): لانهزموا، (ثمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا): يحرسهم وينصرهم، (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) أي: سن الله تعالى سنة الأنبياء المتقدمين أن عاقبة أعدائهم الخزي والهزيمة، (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ): كفار مكة، (عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ): مَنَّ الله تعالى بصلح الحديبية، وحفظ المسلمين عن أيدي الكافرين، وعن القتال بمكة، وهتك حرمة [المسجد] الحرام، وأما ظفرهم على المشركين فهو أن سبعين أو ثمانين أو ثلاثين رجلاً متسلحين هبطوا من جبل التنعيم يريدون غرة النبي - عليه الصلاة والسلام - فدعا عليهم فأخذوا، وعفا(4/160)
عنهم فأطلقوا، وأما ما ذكر أن ابن أبي جهل خرج في عسكر يوم الحديبية، فبعث خالد بن الوليد، فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة، ففيه شيء، وكيف لا وخالد بن الوليد لم يكن أسلم!؛ بل كان طليعة للمشركين يومئذ كما ثبت في صحيح البخاري وغيره، (وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا): فيجازيكم، (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ): منعوكم عن الزيارة ومنعوا الهدى، وهى سبعون بدنة (مَعْكُوفًا): محبوسًا، (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ): مكانه الذي يحل فيه نحره، (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ) أي: المستضعفون بمكة، (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ): لم تعرفوهم لاختلاطهم بالمشركين، (أَنْ تَطَئُوهُمْ): أن توقعوا بهم وتقتلوهم في أثناء القتال بدل اشتمال من رجال ونساء، أو من مفعول لم تعلموهم، (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ): مكروه كوجوب الدية، والتأسف عليهم، وتعيير الكفار بأنَّهم قتلوا أهل دينهم، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي: تطئوهم غير عالمين بهم، وجواب لولا محذوف، والمعنى: لولا مؤمنون لم تعلموا وطأتهم وإهلاكهم وأنتم غير عالمين بإيمانهم، لما كفَّ أيديكم عنهم، والفعل بهم ما لا يدخل تحت الوصف ولا يقاس، أو معناه معرة حاصلة من غير سبق علم وتوجه ذهن، (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) أي: (تأخر العقوبة، وكف) أيديكم عنهم ليخلص من بين أظهرهم المؤمنين، وليرجع كثير منهم إلى الإسلام، ثم قال: (لَوْ تَزَيَّلُوا): لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم، (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) قيل: هذا جواب لولا، و " لو(4/161)
تزيلوا " كالتكرير لـ (لولا رجال)؛ لأن مرجعهما واحد، (إِذْ جَعَلَ الذِينَ كَفَرُوا) ظرف لعذبنا، أو صدوكم، (في قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ): الأنفة، (حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ): التي تمنع قبول الحق، (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ): وقاره، (عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ): حتى صالحوهم، فلم يدخلهم ما دخلهم من الحمية، فيعصوا الله تعالى في قتالهم، فإنه قد هم المؤمنون أن يأبوا كلام رسول الله في الصلح، ودخلوا من ذلك في أمر عظيم كادوا أن يُهلَكوا، ويدخل الشك في قلوب بعضهم حتى إنه قال - عليه السلام - ثلاث مرات: قوموا وانحروا، ثم احلقوا، وما قام منهم رجل ثم أنزل الله تعالى السكينة عليهم فاطمأنوا، (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى): اختار كلمة الشهادة لهم، أو بسم الله الرحمن الرحيم، فإنه لما أمر - عليه الصلاة والسلام - عليًّا - رضي الله عنه - أن يكتب في كتاب الصلح " بسم الله الرحمن الرحيم " قالوا: لا نعرف هذا اكتب باسمك(4/162)
اللهم، (وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا): من غيرهم، (وَأَهْلَهَا): وكانوا أهلها في علم الله تعالى، (وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا).
* * *
(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
* * *
(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا) أي: في رؤياه، فهو من نزع الخافض، وذلك أنه - عليه الصلاة والسلام - رأى في المنام قبل الحديبية أنه وأصحابه يدخلون المسجد الحرام آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين غير خائفين، فأخبر أصحابه ففرحوا فلما صدوا عن البيت شق ذلك عليهم فنزلت، (بِالْحَقِّ)، حال من الرؤيا أي: متلبسة بالحق، فإنها كائنة لا محالة، وتحقيقها في العام المقبل، (لتَدْخُلُنَّ)، جواب قسم محذوف، (الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ)، الاستثناء، لأجل تعليم العباد لا للشك، (آمِنِينَ)، حال، والشرط معترض، (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) أي: محلقًا بعضكم،(4/163)
ومقصرًا آخرون حال مقدرة لأن الدخول ما كان في حال الحلق، (لَا تَخَافُونَ)، حال مؤكدة، (فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا): من الحكم والمصالح، (فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ) أى: من دون دخولكم المسجد، (فَتْحًا قَرِيبًا) هو [صلح] الحديبية على الأصح كما ذكرنا في أول السورة، أو هو فتح خيبر، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى): متلبسًا بالعلم النافع، (وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ): ليعليه، (عَلَى الدِّينِ): على جنسه، (كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا): إنك مرسل بالحق، أو إن ما وعده كائن، (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)، جملة تامة مبينة للمشهود به، أو تقديره هو محمد، ويكون قوله: (وَالَّذِينَ مَعَهُ): الصحابة، (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، جملة معطوفة على جملة، أو محمد مبتدأ، أو رسول الله عطف بيان، والذين معه عطف على محمد، و " أشداء " إلخ خبرهما، أي: يغلظون على المخالفين يتراحمون فيما بينهم، (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) أى: علامتهم في وجوههم، و " من أثر " إما حال من ضمير في الخير، أو بيان(4/164)
لسيما أي: يوم القيامِة يكونون منوري الوجوه، أو المراد خشوعهم وتواضعهم، أو صفاؤهم أو صفرة اللون من السهر أو أثر التراب على الجباه فإنَّهم كانوا يسجدون على الأرض من غير حائل، (ذَلِكَ): المذكور، (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) أي: صفتهم العجيبة في الْكِتَابين، (كَزَرْعٍ) أي: هم كزرع أو " مثلهم في الإنجيل " مبتدأ وهو خبره أو ذلك إشارة مبهمة، وهو تفسيرها، (أَخْرَجَ شَطْأَهُ): فِراخه، (فَآزَرَهُ): قَوَّاه، (فَاسْتَغْلَظَ): صار من الدقة إلى الغلظ، أو المراد المبالغة في الغلظ كما في استعصم، ونظائره، (فَاسْتَوَى): فاستقام، (عَلَى سُوقِهِ): على قصبه، (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ): لحسن منظره، وعن قتادة: مثل أصحابه في الإنجيل أنهم يكونون قليلاً، ثم يزدادون، وعن بعض: إن أصل الزرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والشطء الصحابة - رضي الله عنهم - (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)، علة للتشبيه، أو تقديره قواهم ليغيظ، وقيل: علة لقوله: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ) أي: مِن الصحابة، ومن للبيان، (مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا).
والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *(4/165)
سورة الحجرات مدنية
وهى ثماني عشرة آية وفيها ركوعان
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
* * *(4/166)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي: لا تتقدموا بين يدي أمرهما وفيهما، ولا تقطعوا أمرًا قبل حكمهما به؛ بل كونوا تابعين لأمر الله تعالى، ورسوله، يقال: تقدم بين يدي أمه وأبيه أي: عجل بالأمر والنهي دونهما، فهو لازم، وقراءة " لا تَقدموا " بفتح التاء يؤيده، أو المفعول محذوف أي: أمرًا عن ابن عباس - رضى الله عنهما - لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، (وَاتَّقُوا اللهَ): في التقدم، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ): لأقوالكم، (عَلِيمٌ): بأحوالكم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ): لا تجاوزوا أصواتكم عن صوته، (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ): جهرًا، (كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)، بل اجعلوا أصواتكم معه أخفض من أصوات بعضكم من بعض، أو لا تخاطبوه باسمه وكنيته، بل خاطبوه بالنبي والرسول، كقوله (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) [النور: 63] نزلت في أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - حين تماريا في محضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ارتفعت أصواتهما، فكان أبو بكر وعمر بعد ذلك يُسرَّانه، (أَنْ تَحْبَطَ)(4/167)
أي: كراهة أو خشية أن تحبط، (أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ): بحبطها، وفي الصحيح " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يكتب له بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض " (1) وقد مر، (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ): يخفضون، (أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى): أخلصها، فلم يبق لغير التقوى فيها حق يقال: امتحن الذهب إذا أذابه وأخرج خبثه، أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن لأجل حصول التقوى، أو كناية عن صبرهم، وثباتهم على التقوى التي جَرَّبها ومرنها عليها، (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ): عظيمة، (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)، الجملة خبر ثان لـ إنَّ أو استئناف، (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ) أي: من جهة وراء حجرات نسائه (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقلُونَ) إذ العقل يقتضي الأدب سيما مع مثله، (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا): لو ثبت صبرهم، (حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ): الصبر، (خَيْرًا لَهُمْ): من الاستعجال، (وَاللهُ عفُورٌ رَحِيمٌ)، حيث يقتصر على النصح لمسيء الأدب، ولو تاب ليغفره نزلت في وفد بني تميم أتوا وقت الظهيرة، ونادوا على الباب حتى استيقظوه، وقالوا: يا محمد اخرج إلينا، فإن مدحنا زين، وذمنا شين، أو
__________
(1) نصه في البخاري [إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ]. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(4/168)
في وفد بني العنبر حين سبيت ذراريهم، وأتى بهم فجاء رجالهم يفدون الذراري، وقدموا وقت الظهيرة، فجعلوا يصيحون، وينادون: يا محمد اخرج إلينا حتى أيقظوه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا): تفحصوا صدقه، وقراءة " فتثبتوا " معناه توقفوا إلى أن يتبين الأمر (أَنْ تُصِيبُوا) أي: كراهة إصابتكم، (قوْمًا): بُرآء، (بِجَهَالَةٍ): جاهلين بحالهم، (فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، نزلت في الوليد بن عقبة بُعث إلى بني المصطلق لأخذ زكاتهم، فرجع من الطريق لخوف منهم للعداوة التي بينه وبينهم في الجاهلية، وقال: إنهم منعوا الصدقة وهموا بقتلي، فقصد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغزوهم فجاء وفد منهم وكذبوه، (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) أي: واعلموا أن فيكم لا في غيركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حال لو أطاعكم في كثير من آرائكم لوقعتم في جهد ومصيبة، نزَّلهم منزلة من لا يعلم أنه بين أظهرهم، وجملة " لو يطيعكم " حال إما من الضمير المستتر، أو البارز في " فيكم " (وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ)،(4/169)
ولذلك تطيعونه أنتم لا هو يطيعكم، فلا تُوقعون في عنت، (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)، وعن بعض المفسرين: إن قوله " ولكنَّ اللهَ " استثناء لقوم آخرين صفتهم غير صفتهم، كأنه قال فيكم الرسول على حال يجب تغييرها، وهي إرادتكم أن يتبعكم، ولو فعل لعنتم، ولكن بعضهم الموصوفين بأن الله تعالى زين الإيمان في قلوبهم لا يريدون أن يتبعهم أولئك هم الذين أصابوا [الطريق] السوي، وعن بعضهم: إن معناه إن فيكم الرسول فعظموه، ولا تقولوا له باطلاً، ثم لما قال ما دل على أنَّهم جاهلون بمكانه مفرطون فيما يجب من تعظيم شأنه اتجه لهم أن يسألوا ماذا فعلنا حتى نسبنا إلى التفريط، وماذا ينتج من المضرة فأجاب إنكم تريدون أن يتبعكم، ولو اتبعكم لعنتم، فعلى هذا جملة " لو يطيعكم " استئنافية، (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَة) نصب على أنه مفعول له لـ حَبَّبَ، أو لـ كَرَّه أو مفعول مطلق لهما فإن التحبيب فضل، (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا): تقاتلوا، (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا): بالنصح نزلت حين قال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله أطيب ريحًا منك، في جواب عبد الله بن أبي حين قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو راكب الحمار: إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك، فاستبا، فتقاتل الصحابة قوم ابن أبي، بالجريد، والنعال، أو في الأوس، والخزرج لما بينهما من القتال بالسعف أو في رجلين من الأنصار تقاتلا بالنعال، (فَإِنْ بَغَتْ): تعدت، (إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي): الطائفة التي(4/170)
صدرت منها البغي، (حَتَّى تَفِيءَ): ترجع، (إِلَى أَمْرِ اللهِ): حكمه، (فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ)، قيد بالعدل هاهنا لأنه مظنة الحيف لما أنه بعد المقابلة، (وَأَقْسطُوا): اعدلوا في الأمور، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة): من حيث الدين، (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)، عدل من بينهم إلى بين أخويكم للدلالة على أن المصالحة بين الجماعة أوكد وأوجب إذا لزمت بين الأقل، فبين الأكثر ألزم، (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون).
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ(4/171)
لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ)، القوم للرجال خاصة، (عَسَى أَنْ يَكُونوا): المسخور بهم، (خَيْرًا مِنْهُمْ): من الساخرين استئناف علة للنهي، واكتفى " عسى " بالاسم عن الخبر، (وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ): عند الله، (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ): لا يعب بعضكم بعضًا، وإن عيب أخيه عيب نفسه، أو لأن المؤمنين كنفس واحدة، واللمز الطعن باللسان، (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ): لا يدعوا بعضكم بعضًا باللقب السوء والنبز مختص باللقب السوء عرفًا، (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) يعني: إن السرية واللمز والتنابز فسوق، وبئس الذكر الذي هو الفسوق بعد الإيمان يعني: لا ينبغي أن يجتمعا، فإن الإيمان يأبى الفسوق، أو كان في شتائمهم: يا يهودي، يا فاسق، لمن أسلم فنهوا عنه، وقال: بئس تشهير الناس بفسق كانوا فيه بعدما اتصفوا بضده، (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ): عما نهى عنه، (فَأُولَئِكَ هُمُ(4/172)
الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ): وهو ظن السوء بأخيك المسلم، (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ): فكونوا على حذر حتى لا توقعوا فيه، (وَلَا تَجَسَّسُوا): لا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم، (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)، والغيبة ذكرك أخاك بما يكره، مع أنه فيه، فإن لم يكن فيه، فبهتان، (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ)، تمثيل لما ينال من عرضه على أفحش وجه، (مَيْتًا)، حال من اللحم، أو الأخ، (فَكَرِهْتُمُوهُ)، الفاء فصيحة أي: إن عرض عليكم هذا فقد كرهتموه، فهو تقرير وتحقيق للأول، (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ): بليغ في قبول التوبة، (رَحِيمٌ)، روى الإمام أحمد، والبيهقي أنه قيل: يا رسول الله فلانة وفلانة صائمتان وقد بلغتا الجهدَ، فقال: " ادعها "، فقال لإحداهما: " قيئي "، فقاءت لحمًا ودمًا عبيطًا وقيحًا، وللأخرى مثل ذلك، ثم قال عليه الصلاة والسلام إن هؤلاء صامتًا عما أحل الله، وأفطرتا عما حرم الله عليهما أتت إحدهما للأخرى، فلم تزالا تأكلان لحوم الناس حتى امتلأت أجوافهما قيحًا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى): آدم وحواء فأنتم متساون في النسب، فلا تفاخروا به، (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا)، الشعب بالفتح رءوس القبائل، والطبقة الأولى، والقبائل تشعبت منه، (وَقَبَائِلَ)، هي دون الشعب(4/173)
كتميم من مضر، (لِتَعَارَفُوا): ليعرف بعضكم بعضًا لا للتفاخر، وفي الحديث " لتعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحاكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل "، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)، بين الخصلة التي بها فضل الإنسان غيره، (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ): ببواطنكم. في الحديث " لينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان " ومن ذلك ذهب من ذهب إلى أن الكفاءة في النكاح لا يشترط سوى الدين، (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا)، قيل: نزلت في قوم منافقين أظهروا الإيمان لأن يعطوا الصدقة، (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا): يعني كذبتم، (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا)، فإن الإسلام انقياد وإظهار للتوحيد، (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي(4/174)
قُلُوبِكُمْ)، حال من فاعل قولوا كأنه قال، لا تقولوا آمنا؛ بل قولوا حال كون قلوبكم لم يواطئ ألسنتكم أسلمنا، وزيادة ما في المعنى التوقع، فإن هؤلاء قد آمنوا بعد، (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ): سرًّا وعلانية، (لَا يَلِتْكُمْ): لا ينقصكم، (مِنْ أَعْمَالِكُمْ): من جزائها، (شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وعن ابن عباس، والنخعي، وقتادة، واختاره ابن جرير: إن هؤلاء الأعراب ليسوا منافقين، لكن مسلمون ادعوا لأنفسهم أول ما دخلوا في الإسلام مقام الإيمان الذي هو أعلى من الإسلام، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم، فأدبهم الله، وأعلمهم أن ذلك مرتبة تتوقع منهم، ولم يصلوا إليها بعد، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا): لم يشكوا في الرسالة، وثم للتراخي الزماني أي: آمنوا، ثم لم تحدث ريبة كما تحدث للضعفاء بعد زمان، أو للتراخي الرتبي، (وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ): في ادعاء الإيمان، (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ): أتخبرون الله به بقولكم: " آمنا "، (وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) أي: بأن أسلموا نزلت في بني أسد حين قالوا: يا رسول الله أسلمنا، وقاتلتك العرب ولم نقاتلك، (قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ) أي: بإسلامكم، فنزع الخافض، أو منصوب بتضمين الاعتداد أي: لا [تعدُّوا] عليَّ إسلامكم، (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): في ادعاء الإيمان أولاً نفى الإيمان عنهم وأثبت الإسلام، وأنكر منَّتهم عليه بالإسلام، ثم قال: بل لو صح(4/175)
ادعاؤهم الإيمان الذين هو أعلى من الإسلام فلله المنة عليهم بالهداية له، (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): ما غاب فيهما، (وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ): فكيف يخفى عليه دينكم؟!.
والحمد لله والمنة.
* * *(4/176)
سورة ق مكية
وهى خمس وأربعون آية وثلاث ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
* * *
(ق)، مثل ص، وقد مر وقيل: من أسماء الله تعالى، أو معناه: قضي الأمر، أو مفتاح أسماء الله تعالى التي في أوائلها " ق " كـ القدير، وغيره، (وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ): ذي(4/177)
المجد والشرف، وجواب القسم مثل ما مر في ص، (بَلْ عَجِبُوا): الكافرون، (أَن جَاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، فإنهم قالوا: الرسول إما ملك، أو من معه ملك، أو بشر لا يحتاج إلى كسب المعاش، (فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ)، وضع الظاهر موضع المضمر للشهادة على أنَّهم في هذا القول مقدمون على الكفر، وهذا إشارة إلى مبهم يفسره ما بعده، وهو قوله: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا) أي: أنرجع حين نموت [ونبلى]؟! (ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ): عن العادة والإمكان، (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ): ما تأكل الأرض من أجساد موتاهم، ومن كان كذلك فهو قادر على رجعهم، (وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ): حافظ لتفاصيل كل شيء، أو محفوظ من التغيير، وهو اللوح المحفوظ، (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ): القرآن، (لَمَّا جَاءَهُمْ) كأنه قال، بل جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم، وهو إنكار القرآن من غير تأمل وتوقف، (فَهمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ): مضطرب، فمرة قالوا: شعر ومرة: سحر، (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا): حين أنكروا البعث، (إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ) أي: كائنة فوقهم، (كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا): بالكواكب، (وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ): من فتوق، بل ملساء لا فتق فيها ولا خلل، (وَالأرْضَ)، عطف على محل السماء، أو نصب بما أضمر عامله وتقديره، ومددنا الأرض فلينظروا إليها، (مَدَدْنَاهَا): بسطناها، ووسعناها قيل: فيه إشعار بأنها غير كُرّية، (وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ): جبالاً ثوابت، (وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْج): صنف، (بَهِيجٍ): حسن، (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى)، مفعول له للأفعال المذكورة كأنه قال جمعت بين ذلك تبصرة، (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ): راجع إلى ربه متفكر في بدائعه،(4/178)
(وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ): أشجارًا، (وَحَبَّ الْحَصِيدِ): حب الزرع الذي يحصد كالحنطة والشعير، (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ): طوالاً شاهقات، حال مقدرة، (لَهَا طَلْعٌ) هو أول ما يظهر قبل أن ينشق، (نَضِيدٌ): منضود بعضه على بعض في أكمامه، والمراد كثرة ما فيه من الثمر، (رِزْقًا لِلْعِبَادِ)، مفعول له لـ أنبتنا، (وَأَحْيَيْنَا بِهِ): بالماء، (بَلْدَةً مَيْتًا): أرضًا لا نماء فيها، (كَذَلِكَ الْخُرُوجُ): من القبور، (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ)، أراد قومهم، (وَإِخْوَانُ لُوطٍ) أي: قومهم، وسماهم إخوانه لقرابته القريبة، (وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ)، سبق في الدخان، (كُلٌّ) أي: كل واحد من هؤلاء، (كَذَّبَ الرُّسُلَ): من كذب رسولاً فقد كذب جميع الرسل، (فَحَقَّ وَعِيدِ): وجب عليهم عذابي، (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) أي: إنا أنعجز كما علموا عن بدء الخلق حتى نعجز عن الإعادة، (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي: هم لا ينكرون قدرتنا، بل هم في شبهة من البعث.
* * *
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ(4/179)
مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
* * *
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ): ما يخطر بضميره، " ما " موصولة والباء صلة لـ توسوس أي: الذي تحدث نفسه به أو مصدرية، والباء للتعدية والضمير للإنسان، (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) المراد قرب علمه منه فتجوز بقرب الذات،(4/180)
لأنه سبب أو المراد قرب الملائكة منه، (مِنْ حَبْلِ): عرق، (الْوَرِيدِ): عرق العنق،(4/181)
والإضافة بيانية، (إِذ يَتَلَقَّى): يتلقن بالحفظ، (الْمُتَلَقِّيَانِ): الملكان الحفيظان، إذ ظرف لأقرب، وفيه إشعار بأنه تعالى غني عن استحفاظ المَلكين لكن إقامتهما لحكمة، أو إذ تعليل لقرب الملائكة، (عَنِ الْيَمِينِ): قعيد، (وَعَنِ الشِّمَالِ قعيدٌ)، حذف المبتدأ من الأول لدلالة الثاني عليه، وقيل: الفعيل للواحد والجمع، (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ): لدى القول، أو الإنسان، (رَقِيبٌ): ملك يرقبه، (عَتِيدٌ): حاضر، وهو يكتب كل شيء؟ فيثبت في القيامة ما كان فيه من خير أو شر وألقى سائره، أو لا يكتب إلا الخير والشر؟ فيه خلاف بين السلف، والقرآن يشعر بالأول، ولو قيل: المراد من قوله إلا لديه رقيب ملك يسمعه لا يحفظه، ويكتبه فقلنا: فالمناسب رقيبان، لأن السماعَ لا يختص بواحد، (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ): شدته، (بِالْحَقِّ)، الباء للتعدية أي: أتت بحقيقة الأمر الذي كنت تمتري فيه، (ذلِكَ): الحق، (مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ): تميل فلم تقربه، لما ذكر إنكارهم البعث، واحتج عليهم بشمول علمه وقدرته أعلمهم أن ما أنكروه يلاقون عن قريب فنبه على الاقتراب بلفظ الماضي، أو معناه جاءت سكرته متلبسة بالحكمة ذلك الموت مما كنت تفر منه، (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) أي: نفخة البعث، (ذلِكَ): النفخ أي: وقته، (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ): من الملك يسوقه إلى الله تعالى، (وَشَهِيدٌ): منه يشهد عليه بأعماله فمعه ملكان، وعن بعض المراد من الشهيد جوارحه، وكل نفس وإن كان نكرة صورة، لكن معرفة معنى، لأنه بمعنى النفوس فجاز أن يكون ذا الحال، (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا) أي: يقال لكل نفس، فإن الآخرة بالنسبة إلى الدنيا يقظة، (فَكَشَفْنَا(4/182)
عَنْكَ غِطَاءَكَ): حتى عاينته، (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ): نافذ لزوال الحاجب، وعن بعض الخطاب للكفار، والمراد من الغفلة الإنكار، (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) أي: قال الملك -الموكل عليه: هذا ما لدي من كتاب أعماله حاضرًا، وقال ملك- يسوقه: هذا شخص لدى حاضر قيل: القرين الشيطان، ومعناه هذا شيء عندي، وفي ملكتي عتيد لجهتم هيأته بإغوائي لها، وعتيد خبر بعد خبر إن جعلت ما موصولة وصفة لما إن جعلتها موصوفة، قيل: هذا إشارة إلى مبهم يفسره جملة " ما لدي عتيد " (أَلْقِيَا): يا أيها السائق، والشهيد، وقيل: الخطاب للملكين من خزنة النار، ومن قال: الشهيد جوارحه يقول: هو خطاب الواحد بلفظ التثنية على عادة العرب خليلي صاحبي، (فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ): معاند، (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ): لما يجب عليه من الزكاة، أو لجنس الخير أن يصل إلى أهله، (مُعْتَدٍ): ظالم، (مُرِيبٍ): شاك في التوحيد، (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ) " الذي " مبتدأ، أو " فألقياه " خبره أو بدل من " كل كَفَّار " والعذاب الشديد نوع من عذاب جهنم، فكان من باب عطف الخاص على العام، (قَالَ قَرِينُهُ): الشيطان الذي قيض له، (رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ): ما أضللته، هذا جواب لقول الكافر، هو أطغاني، (وَلَكِنْ(4/183)
كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ): عن الحق يتبرأ منه شيطانه كما قال تعالى حكاية عنه: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) [إبراهيم: 22] (قَالَ) الله تعالى: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ)، الواو للحال أي: لا تختصموا عالمين بأني أوعدتكم على الطغيان بلسان رسلي، والباء مزيدة، أو للتعدية على أن قدم بمعنى تقدم، (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ): لا تبديل ولا خلف لقولي، وقيل: لا يغير القول على وجهه، ولا يمكن الكذب عندي وإني أعلم الغيب، (وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)؛ فأعذبهم بغير جرم، قيل: جملة " ما يبدل " مفعول قدمت، و " بالوعيد " حال أي: قدمت إليكم هذا موعدًا لكم.
* * *
(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ(4/184)
وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
* * *
(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ)، نصبه بتقدير نحو: اذكر، أو بظلام، (هَلِ امْتَلاتِ وَتَقُولُ) جهنم: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)، تطلب المزيد، وفي الصحيح لا تزال جهنم يلقى فيها، وتقول هل من مزيد حتى يضع ربُّ العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض، فتقول: قط قط "، أو تستبعد الزيادة لفرط كثرتهم فالاستفهام حينئذ للإنكار، أي: قد امتلأت، وعلى هذا إنما هو بعد ما يضع الرب فيها قدمه فينزوي، والسؤال والجواب على حقيقته، (وَأُزْلِفَتِ): قربت، (الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ)، نصب على الظرف أي: مكانًا غير بعيد بمرأى منهم بين يديهم أو حال، ومعناه التوكيد كعزيز غير ذليل، والتذكير لأن البعيد على زنة المصدر، أو لأن الجنة بمعنى البستان، (هَذَا) أي: يقال لهم هذا، (مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ): رجاع إلى الله تعالى، (حَفيظٍ): حافظ لأمر الله تعالى ولكل بدل من للمتقين (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ)، بدل بعد بدل أو بتقدير أعني أو(4/185)
هم، (بِالْغَيْبِ): غائبًا عن الأعين أي: خاف الله تعالى في سره أو غائبًا عن عقابه لم يراء أو حال من المفعول أي: خشى عقابه حال كون العقاب غائبًا، (وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ): راجع إلى الله تعالى خاشع، (ادخُلُوهَا) أي: يقال لهم ذلك، (بِسَلام): سالمين من المكاره، أو مسلمين من الله تعالى وملائكته، (ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُود): يوم تقدير الخلود، (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا): مما لم يخطر ببالهم، (مَزِيدٌ وَكَمْ أَهْلَكنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ): جماعة من الناس، (هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشَّاَ): قوة، (فَنَقَّبُوا): تصرفوا، (فِى الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ): مفر لهم من قضاء الله تعالى، وهل نفعتهم القوة فأنتم أيضًا لا مفر لكم، أو معناه: فبحثوا وطلبوا، وفتشوا في البلاد هل من محيص من الموت، فلم يجدوا قيل: معناه فنقبوا وساروا أي: أهل مكة في أسفارهم في بلاد القرون، فهل رأوا لهم محيصًا حتى يتوقعوا لأنفسهم، وقراءة الشاذة " فنقبوا " بصيغة الأمر تدل على هذا الوجه (إِنَّ فِي ذَلِكَ): المذكور في هذه السورة، (لَذِكْرَى): تذكرة، (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ): واع متفكر فإن من لا يعي فكأنه(4/186)
لا قلب له، (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ): أصغى [للقرآن]، (وَهُوَ شَهِيدٌ): حاضر بذهنه، فإن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)، مر تفسيره، (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ): تعب وإعياء، وهذا رد قول اليهود: إن الله تعالى فرغ من الخلق يوم الجمعة واستراح يوم السبت، ويسمونه يوم الراحة، (فَاصْبرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ): المكذبون، (وَسَبِّحْ): نزهه، (بِحَمْدِ ربِّكَ): متلبسًا بحمده، (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) يعني: الفجر والعصر فإنهما وقتان فاضلان، (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ): أعقاب الصلاة، والمراد التسبيح دبر الصلوات، أو المراد صلاة الفجر وصلاة العصر، وصلاة التهجد، وفي بدء الإسلام قبل الإسراء الفرائض هذه الثلاثة، ثم نسخت بخمس صلوات في ليلة الإسراء، والمراد من أدبار السجود الركعتان بعد المغرب، وعليه عمر، وعلي، والحسن، وابن عباس، وغيرهم - رضي الله عنهم (وَاسْتَمِعْ): يا محمد لما أخبرك به من أحوال يوم القيامة، (يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ): إسرافيل، (مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ): من السماء، وهي صخرة بيت المقدس أقرب أجزاء الأرض من السماء ينادي: أيتها العظام البالية، واللحوم المتمزقة إن الله تعالى يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء، ونصب يوم بمقدار، أي: يخرجون من القبور، والدال عليه ذلك يوم الخروج، ويمكن أن يكون " واستمع " عطفًا على اصبر، أي: اصبر اليوم على مقالاتهم، واستمع يوم القيامة عجزهم وندامتهم، (يَوْمَ يَسْمَعون)، بدل من " يناد "، (الصَّيْحَةَ): نفخة البعث، (بِالْحَقِّ)، متعلق بالصيحة، (ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ): من القبور بدل بعد بدل (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ): للجزاء، (يَوْمَ تَشَقَّقُ) أي: تتشقق بدل بعد بدل، أو ظرف للمصير، (الأرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا): مسرعين، (ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا): لا على غيرنا، (يَسِيرٌ):(4/187)
فإنه لا يتيسر لغير من هو كامل القدرة، (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ)، تهديد للكفار، وتسلية له - عليه الصلاة والسلام (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ): فتجبرهم على الهداية إنما أنت منذر، (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ): فإن من أصرَّ على الكفر لا ينتفع به.
اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعودك.
* * *(4/188)
سورة الذَّارِيَاتِ مكية
وهي ستون آية وثلاث ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
* * *
(وَالذَّارِيَاتِ) أي: الرياح، فإنها تذرو التراب، وغيره، (ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ): السحاب، فإنها تحمل المطر، (وِقْرًا): حملا، (فَالْجَارِيَاتِ): السفن التي تجري في(4/189)
البحر، (يُسرًا) أي: جريًا ذا يسرٍ، أي: ذا سهولة، وعن بعض هي النجوم تجري بسهولة في أفلاكها، (فَالْمُقَسِّمَاتِ): الملائكة، (أَمْرًا): يقسمون الأمور بين الخلائق، (إِنَّمَا تُوعَدُونَ) أي: البعث جواب للقسم، وما مصدرية، أو موصولة، (لَصَادِقٌ)، هو كعيشة راضية، (وَإِنَّ الدِّينَ): الجزاء، (لَوَاقِعٌ): حاصل، (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ): الحسن والبهاء، أو لها حبك كحبك الرمل إذا ضربته الريح، وحُبكِ شعر الجعد، ولكنها لا يرى لبعدها، أو ذات الشدة، أو الصفاقة، أو النجوم، (إِنَّكُمْ): أيها المشركون، (فَي قَوْلٍ مختَلِفٍ): مضطرب لا يلتئم ولا يجتمع في أمر الدين جواب للقسم، (يُؤْفَكُ): يصرف، (عَنْهُ): عن الدين، أو عن ما توعدون، (مَنْ أُفِكَ): من صرف أي: يصرف عنه من صرف الصرف الذي لا أشد منه، والمبالغة من إسناد الفعل إلى من وصف به، وهو قريب من قوله: (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ) [طه: 78] أو يصرف عن الهداية بسبب قول مختلف من صرف، فعن بمعنى السبب، والأجل، والضمير للقول، فإنهم كانوا يتلقون من يريد الإيمان يقولون: إنه ساحر مجنون كذا وكذا، فيصرفونه عن الإيمان، (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ): الكذابون ممن يختلف قولهم، والمراد من هذا الدعاء اللعن، (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ): جهل يغمرهم، (سَاهُونَ): غافلون، (يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي: متى وقوع يوم(4/190)
الجزاء، (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفتَنونَ): يحرقون، ونصب يوم على الظرف أي: يقع يوم، (ذُوقُوا) أي: يقال لهم ذلك، (فِتْنَتَكمْ): عذابكم، (هَذَا الَّذِي كُنتمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُون) أي: تستعجلون به في الدنيا سخرية.
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّات وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ): من النعيم راضين به، (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ) أي: في الدنيا، (مُحْسِنِينَ): قد أحسنوا أعمالهم، (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ): ينامون، فما زائدة، ويهجعون خبر كان، وقليلاً إما ظرف أي: زمانًا قليلاً، ومن الليل إما صفة، أو متعلق بـ يهجعون، وإما مفعول مطلق أي: هجوعًا قليلاً، ولو جعلت ما مصدرية فما يهجعون فاعل قليلاً ومن الليل بيان، أو حال من الصدر، ومن للابتداء، وأما جعلها نافية أي: الهجوع في قليل من الليل منتف بمعنى إن عادتهم إحياء جميع أجزاء الليل، فلا نوم لهم أصلاً، أو إن عادتهم التهجد في جميع الليالي، فلا يمكن أن يناموا جميع ليل واحد فجائز عند من يجوز تقديم معمول ما النافية إذا كان ظرفًا، (وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفرُونَ وَفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ): نصيب، (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ): هو من ليس له في بيت المال سهم، ولا كسب له(4/191)
ولا حرفة، أو من لا يسأل الناس فيحسب غنيًّا، أو المصاب ماله، (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ): دلائل على قدرته وصنعه لا يدركها إلا من يطلب اليقين، لما ذكر المبين أحوال المصدقين بالبعث وأوصافهم عاد إلى ما كان فيه من إثبات القيامة والبعث، (وَفِي أَنْفُسِكُم): آيات هي عجائب ما في الآدمي، (أَفَلَا تُبْصِرُونَ): بنظر الاعتبار، (وَفي السَّمَاءِ رِرقُكُمْ): المطر الذي هو سبب الرزق من جانب السماء، (وَمَا تُوعَدُون): الجنة، وقيل: الرزق في الدنيا والثواب في العقبى كله مقدر في السماء، (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ) أي: ما توعدون، أو المذكور من الآيات والرزق وغيرهما، (لَحَقٌّ): واقع، (مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أي: مثل نطقكم، صفة لحق، ومن نصب مثل أراد حقًّا مثل نطقكم فكما أن نطقكم متحقق فهذا أيضًا كذلك.
* * *(4/192)
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
* * *
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ)، فيه تعظيم لشأن الحديث، وتنبيه على أنه إنما عرفه بالوحي، (الْمُكْرَمِينَ): عند الله تعالى، وعند إبراهيم - عليه السلام - والضيف للواحد، والجمع؛ لأنه في الأصل مصدر والحكاية قد تقدمت في سورة " هود "، و " الحجر " (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ)، ظرف للحديث، أو بتقدير اذكر، (فَقَالُوا سَلَامًا):(4/193)
نسلم عليكم سلامًا، (قَالَ سَلامٌ) أي: عليكم سلام عدل إلى الرفع، ليدل على الثبات، فعمل بقوله تعالى: (فحيوا بأحسن منها) [النساء: 86]، (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي: أنتم قوم لا نعرفكم، (فرَاغَ): ذهب، (إِلَى أَهْله): بخفية، فمن أدب المضيف أن يخفي إتيانه بالضيافة عن الضيف، (فَجَاءَ بِعِجْلٍ) مَشوي، (سَمينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ): منه، ذكره بصيغة العرض تلطفًا في العبارة، (فأَوْجَسَ): أضمر، (مِنْهُمْ خِيفَةً): خوفًا، لما رأى أنَّهم لا يأكلون (قَالُوا لا تَخَفْ): إنا رسل الله تعالى، (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)، هو إسحاق، (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) أي: جاءت صارة صائحة، أو أخذت في الصيحة كقولك: أقبل يشتمني، ولا إقبال ولا إدبار، ْ (فَصَكَّتْ): لطمت، (وَجْهَهَا): تعجبًا كما هو عادة النساء من الأمر الغريب، (وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي: أنا (قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ ربُّكِ) أي: قال الله مثل ما بشرناه فواقع ألبتَّة، فكذلك مفعول قال، (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ قَالَ) إبراهيم: (فَمَا خَطْبُكُمْ): ما شأنكم؟ (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ): قوم لوطِ، (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طينٍ) أي: السجيل، (مُسَوَّمَةً): معلمة مكتوبًا على كل حجر اسم من يهلك به، (عنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا): في قرى قوم لوط، (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ): بلوطٍ، (فَمَا وَجَدْنا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ): أهل بيت، (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) هم لوط، وأهل بيته إلا امرأته، ولو قلنا إن كل مؤمن مسلم من غير عكس لصح معنى الآية، فلا يستدل عليها باتحاد مفهوميهما، (وَتَرَكْنَا فِيهَا): في القرى، (آيَةً): علامة، (لِلَّذِينَ يَخَافُونَ(4/194)
الْعَذَابَ الْأَلِيمَ): وقد بقي فيها آثار العذاب، (وَفِي مُوسَى)، عطف على فيها أي: وجعلنا في موسى آية، فهو من قبيل علفتها تبنًا وماءً باردًا وقيل: عطف على وفي الأرض، (إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ): معجزة ظاهرة، (فَتَوَلَّى): أعرض، (بِرُكْنِهِ)، الباء للتعدية، أي: أعرض به نحو: نأى بجانبه، أو للسببية أي: بسبب جنوده وملكه، (وَقَالَ سَاحِرٌ): هو ساحر لما يظهر منه خارق العادة، (أَوْ مَجنونٌ): لما يدعي خلاف العقل، (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ): طرحناهم، (فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ): حال كونه آت بما يلام عليه من الكفر والفجور، (وَفِي عَادٍ): آية، (إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرّيحَ الْعَقِيمَ): المفسدة التي لا تنتج نفعًا، (مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ): مرت، (عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ): كالشيء البالي المتفتت، (وَفِي ثَمُودً): آية، (إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ)، وذلك حين عقروا الناقة قيل لهم: (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) [هود: 65] وعلى هذا فالفاء في قوله: (فَعَتَوْا عَنْ أَمْر ربِّهِمْ) مرتب على تمام القصة، كأنه قيل: وجعلنا فِي ذلك الزمان آية، ثم أخذ في بيانه، فقال: (فعتوا). فلا يرد أن ما قيل لهم: تمتعوا، مؤخر عن استكبارهم، أو المراد من قوله: " إذ قيل لهم " إلخ فيهم آية، إذ متعناهم في الدنيا مدة وهديناهم، فعصوا واستحبوا العمى على الهدى (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) بعد ثلاثة أيام (وَهُمْ يَنْظُرُونَ): إليها عيانًا، (فَمَا(4/195)
اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ) فيهربوا من عذاب الله تعالى، (وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ): ممتنعين منه، (وَقَوْمَ نُوحٍ)، عطف على محل في عاد، وقراءة الجر يؤيده، أو نصب بمقدر أي: أهكلنا، أو اذكر، (مِنْ قَبْلُ): من قبل هؤلاء، (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ).
* * *
(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
* * *
(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ): بقوة، (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ): لقادرون، أو وسعنا السماء، (وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا): بسطناها ومهدناها لعبادي، (فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ): نحن، (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ): من الأجناس، (خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ): نوعين كالسماء والأرض، والليل(4/196)
والنهار، والشمس والقمر، والبر والبحر، والموت والحياة، (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون)، مرتب على مجموع بناء السماء وغيره، (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أي: فقل لهم فروا إليه من عقابه بطاعته، (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ): ما يجب أن يحذر، أو بين كونه منذرًا من الله بالمعجزات، (وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)، كرر للتأكيد، (كَذَلِكَ) أي: الأمر مثل ما أخبرتك من تكذيب الأمم رسلهم، (مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا) في شأنه: (سَاحِرٌ أَوْ مَجنون أَتَوَاصَوْا بِهِ) أي: أوصى بعضهم بعضًا بهذا القول حتى اتفقوا على كلمة واحدة؟ (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ): تشابهت قلوبهم، ولهذا اتفقوا على تلك الكلمة لا لتواصيهم، (فَتَوَل): أعرض، (عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ): على الإعراض بعد ما بلغت رسالتك، (وَذَكِّرْ): لا تدع الوعظة، (فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أي: من هو مؤمن فِي علم الله تعالى أو من آمن بزيادة بصيرته، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي: إلا لأجل العبادة فإنهم خلقوا بحيث يتأتى منهم العبادة، وهدوا إليها، فهذه غاية كمالية(4/197)
لخلقهم وتعوق البعض عن الوصال إليها لا يمنع كون الغاية غاية، وأما قوله: (ذرأنا لجهنم) [الأعراف: 179] فلام العاقبة نحو: لدوا للموت، أو إلا لنأمرهم بالعبادة، أو ليقروا بي طوعًا أو كرهًا أو المراد منهم المؤمنون، (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) أي: يُطْعِمُونِي أي: ليس شأني مع عبادي كشأن السادة مع العبيد، وقيل إن يرزقوا أنفسهم، أو أحدًا من خلقي وإسناد الإطعام إلى نفسه، لأن الخلق عيال الله تعالى وإطعام العيال إطعامه، وفي الحديث القدسي " استطعمته فلم يطعمني " (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ): لجميع خلقه، (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ): المتين المبالغ فِي القوة، (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا): نصيبًا من العذاب، (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ): من الأمم السوالف، (فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ)، كما قالوا: (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ): يوم القيامة.
والحمد لله على الهداية.
* * *(4/198)
سورة والطور مكية
وهى تسع وأربعون آية وفيها ركوعان
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
* * *(4/199)
(وَالطورِ) أقسم بجبل كلم الله تعالى موسى عليه السلام عليه بالأرض المقدسة، وأرسل منه موسى، (وَكَتابٍ مَسْطُورٍ): مكتوب، (فِي رَقٍّ): صحيفة، (مَنْشُورٍ): مبسوط، والمراد اللوح المحفوظ، أو ما كتبه الله تعالى لموسى من الألواح، أو دواوين كرام الكاتبين، والتنكير للتعظيم، (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ): بيت في السماء السابعة بحيال الكعبة يطوف به ملائكتها، وفي كل سماء بيت يتعبد فيه أهلها، والذي في السماء الدنيا اسمه بيت العزة، (وَالسَّقْفِ الْمَرْفوعِ) أي: السماء، أو العرش، (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ)، هو بحر تحت العرش منه ينزل مطر يحيا به الأجساد فى قبورها يوم المعاد، أو البحر الذي في الدنيا، وهو مسجور أي: موقد يصير نارًا يوم القيامة محيطة بأهل الموقف أو مملوء، أو ممنوع مكفوف أي: عن الأرض أن يغرق، وفى مسند الإمام أحمد قال - عليه السلام: " ما من ليلة إلا والبحر يشرف ثلاث مرات يتأذن الله تعالى أن ينفضح عليهم فيكفه الله تعالى "، (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ): نازل على الكافرين، (مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ): من أحد يدفعه، (يَوْمَ تَمُورُ): تضطرب، (السَّمَاءُ مَوْرًا) يعني لأجل التشقق ظرف لواقع، (وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا): فتصير(4/200)
هباءً منبثا، (فَوَيْلٌ) أي: إذا وقع العذاب فويل، (يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) أي: يلعبون في الخوض في الباطل، أو هم في خوض في الباطل يلعبون بدينهم، (يَوْمَ يُدَعُّونَ): يدفعون ويساقون، (إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا): دفعًا بعنف، (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ): يقال لهم ذلك تقريعًا، (أَفَسِحْرٌ هذَا) أي: يقال لهم ذلك كنتم تقولون للوحي المنذر عن هذه النار هذا سحر، فهذا الذي هو مصداقه سحر أيضًا دخلت الهمزة بين المعطوفين، والمشار إليه النار، وذكر لأنه فى تأويل المصداق، (أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ): لهذا كما كنتم لا تبصرون ما يدل عليه، وهذا تهكم وتقريع، (اصْلَوْهَا): ادخلوها، (فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا): فإنه لا محيص ولا مناص، (سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ)، خبر محذوف أي: الأمر أن الصبر وعدمه مستو عليكم في عدم النفع، (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي: لأن الجزاء واقع لا محالة، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ): متلذذين، (بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ): أعطاهم (وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)، عطف على ما أتاهم بشرط أن تجعل ما مصدرية، وإلا فحال بإضمار قد، (كُلُوا وَاشْربوا هَنيئًا) أي: يقال لهم كلوا أكلاً أو طعامًا واشربوا شربًا أو شرابًا هنيئًا لا تنغيص فيه، (بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ): بدله، أو بسببه، (مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ): موضوعة بعضها إلى جنب بعض، (وَزَوَّجْنَاهُمْ(4/201)
بحُورٍ عِينٍ)، الباء لمعنى الوصل في التزويج، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)، يخبر تعالى عن كمال إحسانه إلى المؤمنين بأن الأولاد إذا اتبعوا آباءهم في الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة، وإن لم يبلغوا عملهم لتقر أعينهم بهم، فيجمع بينهم بأن يرفع ناقص العمل بالكامل لا ينقص ذلك من عمله، ومنزلته ليساوي بينه وبين ذلك، ولهذا قال: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ): نقصناهم، (مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ): شيئًا من النقص، وفي الطبراني قال - صلى الله عليه وسلم: " إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه، وزوجته، وولده فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك، فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به "، وعن بعض معناه: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان أي: البالغون ألحقنا بهم ذريتهم الذين لم يبلغوا الإيمان، وماتوا بالصغر بإيمان آبائهم، وفي الحديث: " سألت خديجة عن ولديه ما بالهما في الجاهلية؟ فقال - عليه السلام: " في النار "، قالت: فولدي منك، قال: " فى الجنة "، ثم قال: " إن المؤمنين وأولادهم في الجنة وإن المشركين وأولادهم في النار، ثم قرأ (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم) " الآية، فعلى هذا الذين آمنوا مبتدأ وقوله: " ألحقنا بهم ذريتهم " خبره، (كل امْرِئٍ بمَا كَسَبَ رَهِينٌ): مرهون بعمله عند الله تعالى إن عمل صالحًا فكَّها، وإلا أهلكها، (وَأَمْدَدْنَاهُمْ): زدناهم وقتًا بعد وقت، (بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ يَتَنَازَعُونَ): يتعاطون ويأخذ بعضهم من بعض، (فِيهَا كَأْسًا): خمرًا، (لَا لَغْوٌ): لا يتكلمون بلغو الحديث، (فِيهَا): في أثناء شربها، (وَلَا تَأْثِيمٌ): ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله،(4/202)
(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ): بالخدمة، (غِلْمَانٌ لَهُمْ): مماليك لهم، (كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ): مصون في الصدف من صفائهم وبياضهم، (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ): عن أحوالهم التي كانت لهم في الدنيا يتذاكرون ويتحدثون بما مضى عليهم، (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا): في الدنيا، (مُشْفِقِينَ): خائفين من عذاب الله تعالى، (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا): بالرحمة، (وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ): حرارة نار جهنم، (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ): في الدنيا، (نَدْعُوهُ): نتضرع إليه ونعبده، (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ): المحسن، (الرَّحِيمُ).
* * *
(فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ(4/203)
مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
* * *
(فَذَكِّرْ): يا محمد، (فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ) أي بإنعام الله عليك حال من ضمير (بِكَاهِنٍ): كما يقولون، (وَلَا مَجْنُونٍ): فلا تبال بكلامهم، ولا تذر عن التذكير (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ)، بل أيقولون، والهمزة لإنكار أنه لشاعر، (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ): حوادث الدهر، فيهلك كما هلك الشعراء قبله فنستريح، والمنون الدهر أو الموت، (قُلْ تَرَبَّصُوا): انتظروا هلاكي، (فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ): هلاككم، (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُم): عقولهم، (بِهَذَا): الذي يقولون فيك من الأقوال الباطلة المتناقصة، (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغون): مجاوزون الحد فهو الذي حملهم على فيك الأقوال، فالهمزة هاهنا للتقرير، وفي البواقي كلها للإنكار، (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ): اختلق القرآن من عند نفسه متعمدًا، (بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ): فينسبونه إلى تلك الأشياء، (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ): القرآن (إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ): إن محمدًا تقوله،(4/204)
(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ): من غير ربٍّ، ومحدثٍ أي: لا خالق لهم، أو من أجل لا شيء أي: عبثًا، (أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ): لأنفسهم، فلذلك لا يسمعون كلام خالقهم ولا رسالته، (أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ): يشكون حين يقولون الله خلقهن، فإنهم لو أيقنوا لما أعرضوا عنه، (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ ربِّكَ): خزائن قدرته، (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ): الغالبون على الأشياء المحاسبون للخلائق، (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ): منصوب إلى السماء، (يَسْتَمِعُونَ) أي: ما يجري في السماء، (فِيهِ) أي: صاعدين فيه فيعرفون حقية ما هم عليه، (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ): حجة(4/205)
ظاهرة على صحة الاستماع، (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ)، فيه تسفيه لأحلامهم على آكد وجه، (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا): على الرسالة، (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ): محملون الثقل من التزام غرم، فلذلك لم يتبعوك، والمغرم أن يلتزم ما ليس عليه، (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ): اللوح المحفوظ، (فَهُمْ يَكْتُبُونَ): ما فيه، ويخبرون به الناس أو علم الغيب، فهم يحفظونه، (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا): مكرًا بك، الهمزة هاهنا أيضًا للتقرير، (فَالَّذِينَ كَفَرُوا): من وضع الظاهر موضع المضمر، أو أراد كل الكافرين، (هُمُ الْمَكِيدُونَ): الذين يحيق بهم الكيد ويعود وباله عليهم، (أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ): ينصرهم، (سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكونَ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا): قطعة، (مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا): لعذابهم، (يَقُولُوا): عنادًا، (سَحَابٌ مَرْكُومٌ)، هذا سحاب تراكم بعضها على بعض، وهذا جواب قولهم (فأسقط علينا كسفًا من السماء) [الشعراء: 187]، (فَذَرْهُمْ): في غمرتهم، (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيه يُصْعَقُونَ): يوم القيامة عند النفخة الأولى، (يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا): من الإغناء، (وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا): من وضع الظاهر موضع المضمر، أو أراد العموم، (عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ): دون عذاب الآخرة في الدنيا، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُون): (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة: 21]، لكن لا يعلمون أن المصائب للتنبيه، فلا ينيبون، (وَاصْبِرْ(4/206)
لِحُكْمِ رَبِّكَ): ما قدر لك من وصول المكروه، (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا): بحيث نراك، ونحفظك ونرعاك، وجمع العين لجمع الضمير، (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ): إلى الصلاة، " سبحانك اللهم، وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك " أو من نومك أو من كل مجلس (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ): اذكره بالعبادة والصلاة، (وَإِدْبَارَ النُّجُومِ): إذا أدبرت النجوم، والمراد ركعتي الفجر.
* * *(4/207)
سورة النَّجْمِ مكية
وهي إحدى أو اثنتان وستونَ آية وثلاث ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلله الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)
* * *
(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) أقسم بالثريا إذا غاب، أو بجنس النجم إذا انقض، ورمي به الشياطين، أو بالقرآن وقد نزل منجمًا إذا نزل من السماء، أو بالنجوم إذا انتثرت يوم القيامة، وعن السلف: الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي أن يقسم إلا بالخالق، (مَا ضَلَّ): ما عدل عن الطريق المستقيم، (صَاحِبُكُمْ): صلى الله عليه(4/208)
وسلم، (وَمَا غَوَى): وما اعتقد باطلاً كما تزعمون، (وَمَا يَنْطِقُ): بالقرآن، (عَنِ الْهَوَى) أو ما يقول قولاً عن هوى وغرض، (إِنْ هُوَ): ليس ما ينطق به، (إِلا وَحْيٌ): من الله تعالى، (يُوحَى): إليه، وفي الحديث أنه قال - عليه السلام: " لا أقول إلا حقًّا "، (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى): جبريل فإنه شديد قواه، (ذُو مِرَّةٍ): ذو قوة شديدة، ومنظر حسن أو إحكام في العقل، (فَاسْتَوَى): جبريل واستقام على صورته التي خلقه الله تعالى عليها، وما رآه غيره من الأنبياء على صورته، (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى): أفق السماء قد سد الأفق، وهذا قبل الإسراء، (ثُمَّ دَنَا): جبريل إلى محمد، وهبط إلى الأرض بعدما رده الله تعالى إلى صورة آدمي، (فَتَدَلَّى): تعلق به وليس المراد منه الإسراء، وكأن هذه الرؤية في أوائل البعثة بعد أن جاء إليه في حراء قيل: فى " فتدلى " إشارة منه إلى أنه ما تجاوز عن مكانه فإنه استرسال مع تعلق كتدلي الثمرة، (فَكَانَ): جبريل، (قَابَ): مقدار، (قَوْسَيْنِ)، يعني مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين، (أَوْ أَدْنَى): على تقديركم، والغرض نفي ما زاد عليه، (فَأَوْحَى): جبريل، (إِلَى عَبْدهِ): إلى عبد الله تعالى، (مَا أَوْحَى): جبريل فيه تفخيم للموحى به، أو المعنى فأوحى الله تعالى إلى عبده ما أوحى بواسطة جبريل، وحاصل المعنى متحد، (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) أي: فؤاد محمد - صلى الله عليه وسلم - ما رآه ببصره من صورة جبريل، أو ما كذب الفؤاد ما رآه بفؤاده أي: الله تعالى، وفي الحديث " رأيته بفؤادي(4/209)
مرتين ثم قرأ (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) (أَفَتُمَارُونَهُ): تجادلونه من المراء، (عَلَى مَا يَرَى): من صورة جبريل، ولتضمينه معنى الغلبة عدى بعلى، (وَلَقَدْ رَآهُ): جبريل في صورته، (نَزْلَةً أُخْرَى): مرة أخرى، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - وجم غفير من السلف أنه رأى جبريل في صورته مرتين والمرة الأخيرة ليلة الإسراء نصب بالمفعول فيه، (عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى): هي شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش إليها ينتهي علم الخلائق لا يعلم أحد ما وراءها، (عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى)، فيه تعظيم لما يغشاها، وفي الحديث " أنه غشاها نور الربِّ، وألوانًا لا يدري ما هي، والملائكة مثل الغربان يعبدون " ما يغشى فاعل يغشى، وإذ ظرف لـ رآه أو لما زاغ عند من يجوز تقديم ما بعد ما إذا كان ظرفًا، (مَا زَاغَ): ما مال، (الْبَصَرُ) أي: بصر النبي - صلى الله عليه وسلم - عما رآه (وَمَا طَغَى): ما تجاوزه، وهذا وصف أدبه - صلى الله عليه وسلم - (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ ربِّهِ): بعض عجائبه، (الْكُبْرَى)، صفة الآيات، أو هو المفعول ومن آيات ربه حال مقدم، ثم اعلم أنه قد ورد في الصحيحين أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: أنا أول من سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله " ولقد رآه بالأفق المبين "، " ولقد رآه نزلة أخرى " فقال: " إنما ذاك جبريل لم يره في صورته إلا مرتين "، وفي مسلم عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل رأيت ربَّك؟ قال: [نُورٌ] أَنَّى أَرَاهُ "، وفي(4/210)
رواية لغير مسلم " رأيت نورًا "، وكان سؤال عائشة بعد الإسراء، فلا يمكن أن يقال كأن نفي الرؤية قبل الإسراء، وما قيل إنه - عليه الصلاة والسلام - خاطبها على قدر عقلها فخطأ مردود قال الشيخ عماد الدين ابن كثير: لا يصح في أنه رأى ربه ببصره شيء عن الصحابة، وأما ما قال البغوي: ذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه، وهو قول أنس والحسن وعكرمة، ففيه نظر، والحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال عليه الصلاة والسلام: " رأيت ربي عز وجل " فهو مختصر من حديث المنام كما رواه الإمام أحمد أيضًا، وقد ثبت عن كثير من السلف نفي رؤية البصر، والله أعلم، (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ): صخرة بيضاء عليها بيت بالطائف له(4/211)
سدنة يعظمونه اشتقوا اسمها من لفظ الله يعنون مؤنثه - تعالى الله عن ذلك، (وَالْعُزَّى)، من العزيز شجرة عليها بناء وأستار بنخلة بين مكة والطائف، (وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى)، كانت بين مكة والمدينة يهلون منها للحج أفرد هذه الثلاثة بالذكر وإن كان في جزيرة العرب طواغيت كثيرة عليها بيوت يعظمونها كتعظيم الكعبة، لأنها أشهر من غيرها، وأعظم عندهم، والأخرى ذم وهي المتأخرة في الرتبة، و " أفرأيتم " عطف على أفتمارونه، وإدخال الهمزة لزيادة الإنكار يعني: أبعد هذا البيان تستمرون على المراء فترون اللات والعزى ومناة أولاد الله أخس أولاد أي الإناث وقوله: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى)، دال على ثاني مفعولي أفرأيتم، ومعناه أتختارون لأنفسكم الذكر من الأولاد، وتجعلون لله، وتختارون له البنات فإنهم يقولون: الملائكة وهذه الأصنام بنات الله - تعالى عن ذلك، (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى): جائرة، ومن قرأ بالهمزة، فهو من ضأزه إذا ظلمه، (إِنْ هِيَ): ما الأصنام، (إِلا أَسْمَاءٌ): ليس لها في الحقيقة مسميات، لأنكم تدعون الألوهية لها، (سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ): بهواكم، (مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ): برهان تتعلقون به، (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ): أنفسهم، (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى): الرسول(4/212)
والقرآن فتركوه، (أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى)، الهمزة للإنكار أي: بل ليس له كل ما يتمناه كما يتمنون شفاعة الآلهة، (فَلله الْآخِرَةُ وَالْأُولَى): يعطي ما يشاء لمن يشاء.
* * *
(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
* * *
(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ) أي: كثيرًا منهم مع علو رتبتهم، (لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا): من الإغناء، (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ): في الشفاعة، (لِمَنْ يَشَاءُ): من الناس، أو من الملائكة، (وَيَرْضَى) ترجون شفاعة الأنداد الجماد(4/213)
عند الله، (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى): قائلين هم بنات الله، (وَمَا لَهُمْ بهِ): ما يقولون، (مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ): من العلم، (شَيْئًا): فإن العقائد والمعارف اليقينية، لا تدرك بالظن أصلاً، (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى): أعرض، (عَنْ ذِكْرِنَا): فلم يتدبر، ولم يتأمل، (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا): ولا تجادله ولا تدعه إلى الهدى، (ذَلِكَ): أمر الدنيا، (مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ): لا يتجاوزونه، وفي الدعاء المأثور " اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا " (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ): فلا يجيب، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى): فيجيب تعليل للأمر بالإعراض، (وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ): خلقًا، (لِيَجْزِيَ)، علة لقوله: (وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) أي: خلق العالم لهذا أو علة لقوله: " وهو أعلم بمن ضل " إلخ، فإن نتيجة العلم بهما جزاءهما، وقوله: (وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ) إلح معترضة بيان لكمال قدرته، (الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا) أي: بعقابه، أو بسببه، (وَيَجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى): بالمثوبة الحسنى، أو لسبب الأعمال الحسنى، (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ)، هي ما عليه وعيد شديد، (وَالْفَوَاحِشَ): من الكبائر خصوصًا،(4/214)
(إِلَّا اللَّمَمَ) (1) أي: الصغائر، فالاستثناء منقطع أو إلا بمعنى غير صفة وحرف التعريف في الموصوف للجنس، فهو في حكم النكرة، وقد ورد أنه قال - عليه الصلاة والسلام: " إن تغفر اللهم اغفر جما فأيُّ عبد لك ما ألَمَّا " أو اللمم من الكبائر، والمعنى يجتنبون من الكبائر كلها مطلقًا إلا القليل منها بمعنى أنه يلم بها مرة أو مرتين، فيتوب عن قريب فلا يجعلها عادة، وهو قول كثير من السلف، (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ): فلا تيأسوا بكثرة المعاصي، (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ): في ابتداء خلق أبيكم من تراب، (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ)، جمع جنين، (فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ): لا تمدحوها، ولا تنسبوها إلى الطهارة، ولا تعجبوا بطاعاتكم، وفي صحيح مسلم عن ابن
___________
(1) في النسخة المطبوعة سطر مكرر تمَّ حذفه. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(4/215)
عطاء قال: سميت ابنتي برة، فقالت زينب بنت أبى سلمة إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هذا الاسم، فقال: " لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم " (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى): فربما تنسبون أحدًا إلى التقوى، والله يعلم أنه ليس كذلك، وكذلك ورد في الحديث الصحيح " إذا كان أحدكم مادحًا صاحبه لا محالة، فليقل: أحسب فلانًا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدًا أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك ".
* * *
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا(4/216)
مِنْ دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لله وَاعْبُدُوا (62)
* * *
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى): أعرض عن الحق، (وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى): أنفق قليلاً وبخل بالباقي، (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ) بأن إنفاقه ينفد ما في يده، (فهُوَ يَرَى): عيانًا ويعلم ذلك، (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى): أقام بجميع الأوامر، وترك جميع النواهي، وبلغ الرسالة على التمام، والكمال قال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) [البقرة: 124] وتقديم صحف موسى لأنها أشهر، (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) أي: لا تؤاخذ نفس آثمة بمأثم نفس أخرى، ولا يحمله عنها أحد وإن مخففة من المثقلة بدل ما في صحف، أو تقديره أعني أن لا تزر، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ(4/217)
إِلَّا مَا سَعَى): لا يثاب أحد بفعل غيره أيضًا، ومن هذه استنبط الإمام الشافعي أن ثواب القراءة لا تصل إلى الموتى، وأما من سنَّ سنة حسنة، أو سيئة فله أجرها وأجر من(4/218)
عمل بها ووزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، فلأنه سببها ودل عليها، وفي الصحيح " من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا "، أو معناه لا يملك شيئًا غير ذلك، وإن كان قد يحصل له بفضل الله، وبدعاء الغير، وصدقته له نفع لكن هو لا يملك ذلك، (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى): في ميزانه، (ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) أي: يجزى الإنسان سعيه الجزاء الأوفر، فليس له أن يبخل، وينقص العمل، والضمير المرفوع للإنسان والمنصوب للسعي، ونصب الجزاء بأنه مفعول مطلق، أو بنزع الخافض أي: بالجزاء الأوفى كما يكون صفة للمجزي يكون صفة للحدث أي: المصدر لملابسته له قيل نزلت في [الوليد بن المغيرة] آمن فعيره المشركون، فقال: أخشى عذاب الله، فضمن أحد من المشركين أن يتحمل عنه العذاب إن أعطاه كذا مالاً فارتدَّ وأعطى بعض ما شرط، وبخل بالباقي، ومعنى (أعنده علم الغيب فهو يرى) أنه يعلم تمكين الله تعالى إياه عن أن يحمل عنه العذاب وباقي الآية ظاهر الملائمة حينئذ، (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى): المرجع، (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ): في الدنيا أو الآباء، (وَأَحْيَا): في الآخرة أو الأبناء في الدنيا أيضًا، (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى): تدفق في الرحم، (وَأَنَّ عَلَيْهِ): وفاء بوعده، (النَّشْأَةَ الْأُخْرَى): الإحياء بعد الموت، (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى): بإعطاء المال، (وَأَقْنَى): أعطى القنية هي أصول مال اتخذه لنفسه لا للبيع أي: ملكهم المال، وجعله عندهم مقيمًا لا يحتاجون إلى بيعه، وقيل: أفقر، وكان من أخذ مالاً لا للبيع فهو فقير لا يبيع ولا يشترى، (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى): كوكب وقاد خلف الجوزاء [كانت] (1) تعبد في الجاهلية، (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى): قوم هود وعاد الأخرى إرم، (وَثَمُودَ)، عطف على عادًا، (فَمَا أَبْقَى): أي: الفريقين، (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ): من قبل عاد وثمود، (إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ): من الفريقين، (وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى) أي: إنه أسقط إلى الأرض القرى المنقلبة، وهي قرى
__________
(1) زيادة يتطلبها السياق. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(4/219)
قوم لوط، (فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى): من العذاب كأنه لا يمكن أن يوصف، (فَبِأَى آلاءِ رَبِّكَ): أيها الإنسان، (تَتَمَارَى): تتشكك، (هذَا): الرسول، (نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى): من جنس الأنبياء المتقدمين، أو القرآن إنذار من جنس الإنذارات المتقدمة، (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ): قربت الموصوفة بالقرب، وهي القيامة، (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ): أي: نفس كاشفة أهوالها إذا غشيت الخلائق أو مبينة متى تقوم لا يجليها لوقتها إلا هو، (أَفَمِنْ هَذَا الْحَديث): القرآن، (تَعْجَبُونَ): إنكارًا، (وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ): لاهون أو مستكبرون أو مغنون لتشغلوا الناس) عنه، (فَاسْجُدُوا لله وَاعْبُدُوا) أي: ما عبدوه دون الآلهة.
والحمد لله على التوحيد.
* * *(4/220)
سورة القمر مكية
وهى خمس وخمسون آية وثلاث ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
* * *(4/221)
(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) انشقاقه من علامات قرب القيامة، وقد انشق فى عهده - عليه الصلاة والسلام - حين التمسوا آية، وعن بعض أن ذلك وقع مرتين، (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا): عن الإيمان بما، (وَيَقُولُوا): ما شاهدنا، (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ): مار ذاهب مضمحل باطل، أو محكم، أو مطرد دائم، وذلك لما رأوا تتابع المعجزات، (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)؛ الباطلة، (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ): منتهٍ إلى غاية، فهو [تدليل] جارٍ مجرى المثل، أو كل أمر من خير وشر يستقر بأهله، (وَلَقَدْ جَاءهُمْ): في القرآن، (مِنَ الأنْبَاءِ): أخبار الأمم السالفة، (مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ): ازدجار يقال: ازدجرته نهيته عن السوء قلبت تاء الافتعال دالاً، (حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ): تامة بلغت الغاية خبر محذوف، أو بدل من ما (فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ)، ما نافية والنذر جمع نذير،(4/222)
أو استفهامية للإنكار أي: فأي غناء يغني المنذرون (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)، قيل: منسوخ بآية القتال، (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) أي: الداعى، وهو إسرافيل، ونصب يوم إما يخرجون، أو بمقدار نحو: انتظر او اذكر، (إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ): منكر فظيع لم ير مثله هو هول القيامة، (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ) أي: يخرجون من القبور حال كون أبصارهم ذليلين من الهول، أو حال مقدرة من مفعول يدع المحذوف، ومن قرأ خاشعًا فلأن فاعله ظاهر مؤنث غير حقيقي، (كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ): في الكثرة، والحيرة يقعون كما يقع الجراد، (مُهْطِعِينَ): مسرعين مادِّي أعناقهم، (إِلَى الدَّاع يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ كَذبَتْ قَبْلَهُمْ): قبل قريش، (قَوْمُ نُوحٍ): نوحًا، (فَكَذبوا عَبْدَنَا): نوحًا تفصيل بعد إجمال قيل: معناه كذبوا فكذبوا أي: ما تركوا التكذيب قرنًا بعد قرن، (وَقَالُوا): هو، (مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ): وازدجروه، ومنعوه عن الدعوة، وقالوا: " لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين " [الشعراء: 116] قيل: ازدجرته الجن، فيكون من جملة المقول، (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي): بأني، (مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ): فانتقم لي منهم، (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ(4/223)
مُنْهَمِرٍ): منصب، وعن علي - رضي الله عنه - حين سئل عن المجرة هي باب السماء، ومنها فتحت السماء بماء منهمر، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - ماء ذلك من السماء لا من السحاب، (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا): جعلناها كلها كأنها عيون تتفجر، (فالْتَقَى الْمَاءُ): ماء السماء والأرض، (عَلَى أَمْرٍ)، حال، (قَدْ قُدِرَ): قضي في الأول، أو على أمر قدره الله تعالى وهو إهلاكهم، (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذاتِ أَلْوَاحٍ): أخشاب عريضة، (وَدُسُرٍ): مسامير جمع دسار، والمراد السفينة، وعن بعض الدسر صدر السفينة، فإنها يدسر، ويرفع الماء، (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا): بمرأى منا، والمراد الحفظ يقال للمودع " عين الله عليك " (جَزَاءً)، أي: فعلنا كل ذلك جزاء، (لِمَن كَانَ كفِرَ): لنوح، فإنه نعمة، ورحمة كفروها، (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا): السفينة، أو الفعلة، (آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ): معتبر، (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ): إنذاري، والاستفهام لتعظيم الوعيد، (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ): سهلنا لفظه ومعناه، (لِلذِّكْرِ): للاتعاظ أو للحفظ، (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ): متعظ، وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد أن يتكلم بكلام الله، (كَذبَتْ عَادٌ) قوم هود، (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا): شديدة البرد، (فِي يَوْمِ نَحْسٍ): شؤم عليهم، (مُسْتَمِرٍّ): عليهم نحسه فإنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي، أو على جميعهم صغيرهم وكبيرهم، (تَنْزِعُ النَّاسَ): تقلعهم، فترمي بهم على رءوسهم، (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ): أصول، (نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ): منقلع ساقط نقل أن الريح تقلع رءوسهم من أجسادهم فالمطروح(4/224)
أجساد بلا رءوس كأصول نخل، (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ)، التكرار للتهويل، (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).
* * *
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
* * *
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ): بالإنذار الذي جاءهم به صالح، (فَقَالُوا أَبَشَرًا)، نصب بفعل يفسره نتبعه، (مِنَّا) من جنسنا، (وَاحِدًا): منفردًا لا تبع له، أو واحدًا من الآحاد لا من الأشراف، (نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ): جنون، أو عذاب، (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ): أنزل، (عَلَيْهِ): الوحي، (مِنْ بَيْنِنَا): وفينا من هو أفضل وأحق،(4/225)
(بَلْ هُوَ كَذابٌ أَشِرٌ): متكبر يريد الترفع، (سَيَعْلَمُونَ غَدًا) أي: سريعًا، (مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ): أصالح أم من كذبه؟ (إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ) أي: قلنا لصالح إنا مخرجوها من الصخرة، (فِتْنَةً): امتحانًا، (لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ): انتظرهم، (وَاصْطَبِرْ): على أذاهم، (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ): يوم للناقة ويوم لهم، ففيه تغليب، (كُلُّ شِرْبٍ): نصيب، (مُحْتَضَرٌ): يحضره من كانت نوبته فيتصرف، أو كل شرب من الماء، واللبن تحضرونه أنتم، (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ): الذي عقر الناقة اسمه قدار، (فَتَعَاطَى): الناقة، أو السيف، أو فاجترأ على تعاطي قتلها، (فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً): صيحة جبريل، (فَكَانُوا كَهَشِيمِ): كشجر اليابس المتكسر، (الْمُحْتَظِرِ): الذي يعمل الحظيرة، (وَلَقَدْ يَسَّرنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ(4/226)
مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ): بالمواعظ، (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا): ريحًا تحصبهم، (إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ): في سحر، (نِعْمَةً): إنعامًا، (مِنْ عِنْدِنَا)، علة لـ نجينا، (كَذَلِكَ): مثل ما أنعمنا على آل لوط، (نَجْزِي مَنْ شَكرَ): فآمن، (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ): لوط، (بَطْشَتَنَا): أخذتنا بالعذاب، (فَتَمَارَوْا): كذبوا، (بِالنُّذُرِ): متشاكين، (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ): طلبوا أن يسلم إليهم أضيافه للفجور، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل في صورة مرد حسان، (فَطَمَسْنَا): مسخنا، (أَعْيُنَهُمْ): صيرناها كسائر الوجه لا يرى لها شق، (فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ) أي: قلنا لهم ذلك على ألسنة الملائكة، (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً): أول النهار، (عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ): ثابت لا يزول عنهم أبدًا، (فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ): كرره في كل قصة للتنبيه على أن كل واقعة لابد أن يتأمل فيها، ويعتبر منها، ولا يغفل عنها.
* * *
(وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
* * *(4/227)
(وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ): المنذرون أو الإنذار، (كَذبُوا بِآيَاتِنَا كلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ): لا يغالب، ولا يعجزه شيء، (أَكُفارَكُمْ): يا معشر العرب، (خَيْرٌ): أكثر قوة وعدة، (مِنْ أُولَئِكُمْ): الكفار المذكورين، (أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ): من عذاب الله تعالى، (فِي الزُّبُرِ): في الكتب المنزلة من السماء، (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ): جماعة ينصر بعضنا بعضًا، فلا نغالب، (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ): الأدبار أي: ينهزمون، فالإفراد لإرادة الجنس، وهذا يوم بدر، (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ): للعذاب، (وَالسَّاعَةُ أَدْهَى): أشد داهية، وهي نازلة لا يهتدى لدوائها، (وَأَمَرُّ): مما نزل عليهم في الدنيا، (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ): في الدنيا، أو في الآخرة لا يهتدون إلى الجنة، (وَسُعُرٍ): نيران في الآخرة، (يَوْمَ يُسْحَبُونَ): يجرون، (فِى النَّارِ عَلَى وُجوهِهِمْ)، يقال لهم: (ذُوقُوا مَسَّ): حر، (سَقَرَ): جهنم، (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍرٍ): أي خلقنا كل شيء(4/228)
بتقديرنا، وهو مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ): إلا كلمة واحدة وهي قول " كن " أو إلا مرة واحدة لا يحتاج إلى تكرار وتأكيد، (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ): في اليسر والسرعة وعدم المراجعة قيل: وما أمرنا في مجيء الساعة إلا كلمح البصر نزلت حين خاصم مشركوا قريش في القدر، (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ): أشباهكم من الكفرة السالفة، (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ): متعظ، (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ): مكتوب في كتب الحفظة، (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ): من الأعمال، (مُسْتَطَرٌ): مكتوب، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ): أنهار الجنة من خمر ولبن(4/229)
وماء وعسل اكتفى باسم الجنس لرءوس الآي، وقيل: في سعة وضياء، (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ): مجلس حق مرضي لا لغو ولا تأتيم، (عِنْدَ مَلِيكٍ): مقربين عند ملك عظيم، (مُقْتَدِرٍ): لا شيء إلا وهو تحت قدرته عن جعفر الصادق - رضي الله عنه - مدح الله تعالى المكان بالصدق، فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق.
اللهم اجعلنا بفضلك منهم.
* * *(4/230)
سورة الرَّحْمَن مكية أو مدنية أو متبعضة
وهى ثمان وسبعون آية وثلاث ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)
* * *
(الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ): نبيه لا أنه يعلمه بشر، أو علمه عباده بأن يسر حفظه، وفهمه، ولما كانت السورة في تعداد النعم صدرها بالرحمن، (خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ): النطق، والتعبير عما في الضمير، (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ): يجريان،(4/231)
(بِحُسْبانٍ): بحساب مقدر في بروجهما، ومنازلهما يعلم منهما السنون والحساب، (وَالنَّجْمُ): الكواكب أو النبات الذي لا ساق له، (وَالشَّجَرُ يَسْجُدَان): (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) الآية جرد هاتين الجملتين عن ما يدل على اتصال وربط بالرحمن، ولم يقل بحسبانه ويسجدان له، لأن وضوح اتصاله يغني عن البيان، وذكر الجمل الأولى على نهج التعديد، ثم أدخل العاطف، ورد إلى المنهاج الأصلي، (وَالسَّماءَ رَفَعَهَا): فوق الأرض، (وَوَضَعَ الْمِيزَانَ): كل ما يوزن به الأشياء من الميزان والمكيال وغيرهما خلقه موضوعًا على الأرض، أو المراد من الميزان العدل كما قال تعالى (وأنزلنا معهم الكتاب والميزان) الآية، (أَلَّا) أي: لئلا، (تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ): لا تعتدوا فيه، (وَأَقِيمُوا الْوَزنَ بِالْقِسْطِ)، عطف بحسب المعنى على أَلَّا تَطْغَوْا أي: ولأن تقيموه بالعدل، (وَلا تخْسِرُوا): لا تنقصوا، (الْمِيزَانَ): وتكرير الميزان للمبالغة في التوصية، (وَالأرْضَ وَضَعَهَا): خفضها مدحوة، (لِلأنَامِ): للخلق، (فيهَا فَاكِهَةٌ): أنواع ما يتفكه به، (وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ): أوعية الثمر التي يطلع فيها القنو، ثم تنشق، أو المراد الليف (وَالْحَبُّ):(4/232)
كالحنطة وغيرها، (ذُو الْعَصْفِ): هو ورق النبات، (وَالرَّيْحَانُ): الرزق يقال: خرجت أطلب ريحان الله تعالى، أي: رزقه يعني: الحب ذو علف أنعام، وطعام إنسان، ومن قرأ بالرفع، فعلى تقدير، وذو الريحان بإقامة المضاف إليه مقام المضاف ليوافق القراءتان، وقيل (الريحان) هو المشموم، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا): أيها الثقلان، (تُكَذِّبَانِ خَلَقَ الْإِنْسَانَ): آدم، (مِنْ صَلْصَالٍ): طين يابس له صلصلة، (كَالْفَخَّارِ): الخزف، (وَخَلَقَ الْجَانَّ): أبا الجن، قيل هو إبليس، (مِنْ مَارِجٍ): من صاف، (مِنْ نَارٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ): مشرقي الشتاء والصيف، (وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ): فإن اختلاف المشارق، والمغارب سبب لمصالح العباد، (مَرَجَ) أرسل، (الْبَحْرَيْنِ): العذب والملح،(4/233)
(يَلْتَقِيَانِ): يتجاوران ويتلاصقان، (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ): حاجز، (لا يَبْغِيَانِ): لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة، أو لا يتجاوزان حديهما قد مر بيانه في سورة الفرقان مفصلاً، قيل المراد بحر الروم، وفارس يلتقان في المحيط لأنهما ينشعبان منه، وقيل بحر السماء، والأرض، فإن اللؤلؤ يتولد من ماء السماء، وأصداف بحر الأرض، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ): كبار الدر، وصغاره، أو المرجان الخرز الأحمر يخرجان من المالح، لكن لما كان يلتقيان فيصيران واحدًا يصدق أنهما يخرجان منهما، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَلَهُ الْجَوَارِ): السفن، (الْمُنْشَئَاتُ): المرفوعات الشرع، (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ): كالجبال في العظم، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ).
* * *
(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42)(4/234)
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍءَانٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
* * *
(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا): من على الأرض، (فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ ربِّكَ): ذاته، (ذُو الْجَلالِ): الاستغناء المطلق، (وَالإكْرَامِ). الفضل الشامل، أو المراد يفنى كل ما في الأرض من الأعمال إلا ما هو لوجه الله تعالى، وهو كما قال (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ): فإن فناء الكل، وبقاءه سبحانه مع أنه غني ذو فضل عام سبب لإيجاد المعاد، والجزاء بأتم وجه، (يَسْأَلُهُ): الرزق، والمغفرة، والعافية، وكل ما يحتاج إليه، (مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) قال - صلى الله عليه وسلم - من شأنه أن يغفر ذنبًا ويفرج كربًا، ويرفع قومًا ويضع آخرين والمراد من اليوم الوقت، وهو ظرف لشأن قيل هو رد لليهود قالوا إن الله لا يقضي يوم السبت شيئًا، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ)، تهديد وليس المراد الفراغ عن شغل فإنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن، فهو مجاز كأنه فرغ عن كل شيء، فلم يبق له شغل غيره فيدل على التوفر في النكاية، والانتقام أو لما وعد أهل التقوى، وأوعد غيرهم قال، سنقصد لحسابكم، وجزاءكم، وذلك يوم القيامة (أَيُّهَ الثَّقَلَانِ): الإنس، والجن(4/235)
لثقلهما على الأرض أو لرزانتهما وقدرهما، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا): أن تخرجوا، (مِنْ أَقْطَارِ) جوانب، (السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): فارِّين من قضاء الله تعالى، (فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ): لا تقدرون على الخروج، (إِلَّا بِسُلْطَانٍ): بقوة وقهر، ومن أين لكم هذا، أو إلا بأمر من الله تعالى، وإذن منه، وتقديم الجن، لأنهم أقوى، وهذا في المحشر حين أحاطت الملائكة بالخلانق سبع صفوف من كل جانب (يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ)، وعن بعض معناه إن استطعتم أن تعلموا ما فيهما فاعلموا لكن لا تعملونه إلا ببينة نصبها الله تعالى، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا): في ذلك اليوم، (شُوَاظٌ): لهب لا دخان فيه، (مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ): دخان لا لهب له، ومن قرأ بجر نحاسٍ فمعناه، وشيء من نحاس فحذف الموصوف لدلالة ما قيل عليه، أو هو صفر مذاب يصب على رؤسهم (فَلَا تَنْتَصِرَانِ): لا تمتنعان من الله تعالى، وحاصل الكلام لو هربتم يوم القيامة لردتكم(4/236)
الملائكة، والزبانية بإرسال اللهب من النار، والنحاس لترجعوا، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ): فإنه مع عجزكم، وجهلكم دلكم على ما يخلصكم من هذه النوائب، وتجارة تنجيكم من عذاب أليم مع أن التهديد، والانتقام من الكفار، والتمييز بين المطيع، والعاصي من الآلاء، (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً) أي: حمراء كوردة، (كَالدِّهَانِ): يذوب، ويتلون كالأدهان، وذلك من هول القيامة، وعن بعض الوردة: الخيول الوردة، فإن الفرس الورد في الربيع أصفر، وفي أول الشتاء أحمر، وفي اشتداد الشتاء أغبر، وعن بعض الدهان الأديم الأحمر، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَيَوْمَئِذٍ): يوم الإنشقاق، (لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) أي: لا يسأل إنسٌ عن ذنبه، ولا جانٌّ، وذلك في موطن خاص، هذا يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون، ثم يسألون، " فوربك لنسألنهم أجمعين " [الحجر: 92]، أو سؤال علم؛ بل سؤال توبيخ، أو لأنَّهُم يعرفون بسيماهم، وهذا بعد ما يؤمر بهم إلى النار (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بسيمَاهُمْ): كاسوداد وجوههم، وزرقة عيونهم، (فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ) يجمع بينهما في سلسلة من وراء ظهره، ويطرح في النار، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَذِهِ) أي: يقال لهم هذه (جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا). بين النار، (وَبَيْنَ حَمِيمٍ): ماء شديد الحرارة، (آنٍ): بالغ النهاية في الحر يؤخذ، فيحرك بناصيته في الحميم فيذوب اللحم يسحبون في الحميم، ثم في النار يسجرون، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ).
* * *(4/237)
(وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
* * *
(وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ): موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب، أو المقام مقحم للتعظيم كأخاف جانبه والسلام على مجلسه، (جَنَّتَانِ): لكل من الإنسان جنتان(4/238)
للمقربين من ذهب، قيل: جنة للإنسي، وجنة للجني، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ): أنواع النعم جمع فن، أو أغصان جمع فنن، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَان): تحت تلك الأشجار، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ): صنفان صنف رأيتم، وصنف ما رأيتم، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ)، حال من " من خاف "، فإنه في معنى الجمع، (عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا): الذي يلي الأرض، (مِنْ إِسْتَبْرَقٍ): ديباج ثخين إذا كان هذه البطائن، فما ظنكم بالظاهر، وعن بعض ظواهرها من نور جامد، (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ): ثمرهما، (دَانٍ): قريب يجني منه القاعد والراقد، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ): في(4/239)
أماكن الجنتين، أو في الفرش، (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ): نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى الغير تقول لبعلها: والله ما أرى في الجنة أحسن منك لا أحب إليَّ منك الحمد لله الذي جعلك لي وجعلني لك، (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ): لم يجامعهن، (إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ): في حمرة الوجنة، أو في الصفاء، (وَالْمَرْجَانُ): اللؤلؤ في البياض، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ): أحسنوا في الدنيا، فأحسن إليهم في الآخرة، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَمِنْ دُونِهِمَا): سوى تينك الجنتين للمقربين، (جَنَّتَانِ): لمن دونهم لأصحاب اليمين من الوَرِق، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَامَّتَانِ): سوداوان من شدة خضرتهما لريهما، وصف الأوليين بكثرة أشجارهما، وهاتين بالخضرة لما بينهما من التفاوت، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ): فوارتان بالماء، والجري أقوى من النضخ، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ): أفردهما بالذكر لفضلهما، فإن الرطب فاكهة، وغذاء،(4/240)
والرمان فاكهة ودواء، وصف الأولين بأن فيهما من كل فاكهة صنفين، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ): خيِّرات الأخلاق خُفِّفَ كَهيْنٍ في هيِّنٍ وليِّنٍ، (حِسَانٌ): حسان الخلق، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ): مخدرات مستورات، أو مقصورات الطرف على أزواجهن وصفهن في الأولى بقاصرات الطرف التي تدل على أنهن بالطبع قد قصرت أعينهن عليهم، وهي أتم من المقصورات التي فيها إشعار بقسر القصر، (فِي الْخِيَامِ): كل خيمة من زبرجد وياقوت، ولؤلؤة واحدة فيها سبعون بابًا من الدر، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، زاد في وصف الأوائل كأنهن الياقوت والمرجان، (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ): مجالس فوق الفرش، أو وسائد، أو رياض الجنة، (وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ): كل شيء نفيس من الرجال وغيره يسمى عند العرب عبقريًا قيل تزعم العرب أن عبقر اسم بلد من بلاد الجن فينسبون إليه كل شيء عجيب، نعت بطائن فرش الأولين، وسكت عن ظهائرها إشعارًا بأن وصفها متعذر، فأين هذا من ذاك، (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ): تعالى اسمه؛ لأنه مطلق على ذاته فما ظنك بذاته؟ (ذِي الْجَلَالِ): أهل أن يجلَّ فلا يعصى،(4/241)
(وَالْإِكْرَامِ): وأهل أن يكرم فيعبد، ويشكر، ولا يكفر، وفي الحديث " من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وذي السلطان، وحامل القرآن غير الغالي فيه، ولا الجافي منه " (1).
والحمد لله حقَّ حمده.
* * *
__________
(1) رواه أحمد.(4/242)
سورة الْوَاقِعَة مكية
وهى ست وتسعون آية وثلاث ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)(4/243)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38)
* * *
(إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) أي: اذكر إذا قامت القيامة، (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا): لمجيئها، (كَاذِبَةٌ) أي: كذب، بل هي واقعة صادقة نحو جملة صادقة، أو ليس لأجل وقعتها نفس كاذبة، فإن من أخبر عنها صدق، قيل: لا تكون حين تقع نفس تكذب على الله تعالى، فإن كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة، (خَافِضَةٌ): تخفض قومًا، (رَافِعَةٌ): ترفع آخرين، (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ): حركت تحريكًا شديدًا ظرف لخافضة، أو بدل من إذا وقعت، (رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ): فتت حتى تعود كالسويق، أو سيرت، (بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً): غبارًا، (مُنْبَثًّا): منتشرًا، (وَكُنتمْ أَزْوَاجًا): أصنافًا، (ثَلَاثةً) أي: ينقسم الناس يومئذ إلى ثلاثة أصناف، (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ): الذين هم عن يمين العرش، أو كانوا عن يمين آدم عند إخراج الذرية من ظهره أو الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، أو أصحاب المنزلة السنية، أو أصحاب اليُمن، (مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ)، جملة استفهامية تعجبية خبر للمبتدأ، (وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ)، مقابل الميمنة بالمعاني، (مَا(4/244)
أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ): إلى الهجرة، أو إلى إجابة الرسول أو إلى الخيرات، (السَّابقُونَ)، خبر للمبتدأ نحو شعري شعري، (أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ): قربت درجاتهم في الجنة، وقيل: حال من ضمير المقربون، أو خبر بعد خبر، (ثُلَّةٌ) أي: هم جماعة كثيرة، أو خبر آخر لأولئك، (مِنَ الْأَوَّلِينَ): الأمم الماضية، من آدم إلى محمد - عليهما الصلاة والسلام - (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) من هذه الأمة، فإن السابقين منهم أقل من مجموع السابقين من سائر الأمم أو هم كثير من متقدمي هذه الأمة، وقليل من متأخريها، وكثير من السلف على ذلك، وعليه بعض الأحاديث، (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ): منسوجة بالذهب مشبكة بالجواهر خبر آخر للضمير المحذوف، (مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ): وجوه بعضهم إلى بعض ليس أحد وراء أحد حالان من ضمير على سرر، (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ): للخدمة، (وِلْدَانٌ): غلمان، (مُخَلدُونَ): لا يشيبون ولا يتغيرون، (بِأَكوَابٍ): إناء لا عروة ولا خرطوم(4/245)
له، والباء للتعدية، (وَأَبَارِيقَ): الجامع للوصفين، (وَكَأسٍ مِنْ مَعِينٍ): من خمر جار، (لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ): لا ينشأ عنها صداعهم، ولا ذهاب عقلهم، (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ): يختارون، (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ) أي: وفيها حور عين، أو عطف على ولدان، ومن قرأ بالجر فعطف على جنات أي: أولئك في صحبة حور عين، أو على بأكواب بحسب المعنى، فإن حاصل معناه ينعمون بأكواب، وكذا وكذا أو بحسب اللفظ أيضًا أي: يطوف الغلمان بالحور العين عليهم في خيامهم وخلواتهم، (كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ): المصون عما يَضُرُّ به، (جَزَاءً) أي: يفعل ذلك كله بهم للجزاء، (يِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا): عبثًا باطلاً، (وَلَا تَأْثِيمًا): ولا ما يوقع في الإثم أو لا نسبة إلى الإثم أي: لا يقال لهم أثمتم، (إِلَّا قِيلًا): قولاً، (سَلَامًا سَلَامًا) أي: إلا التسليم منهم(4/246)
بعضهم على بعض بدل من قيل أو مفعول به، والمستثنى إما متصل أي: لا لغوا إلا السلام، ومعلوم أن السلام ليس بلغو، فلا لغو، (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ): هم الأبرار دون المقربين، (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ): لا شوك له، أو مَثنْيُّ الغصن من كثرة الحمل، (وَطَلْحٍ): أم غيلان له أنوار طيب الرائحة، وظل بارد، أو موز ويؤيد الأول ما روي عن بعض السلف أن المسلمين نظروا إلى " وج " وهو واد بالطائف فأعجبهم ظلال أشجارها، وأشجارها سدر، وطلح فنزلت، (مَنْضُودٍ): متراكم قد نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه، (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ): منبسط، أو دائم، وفي الحديث " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها واقرءوا إن شئتم " وظل ممدود "، (وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ): مصبوب يجري على الأرض من غير أخدود، (وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ): في زمان، (وَلَا مَمْنُوعَةٍ): من أحد، (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) في الحديث " ارتفاعها كما بين السماء والأرض " أو رفيعة القدر، أو مرفوعة بعضها فوق بعض، وقيل: نساء رفعن بالجمال والفضل على نساء الدنيا، والعرب تسمي المرأة فراشًا ولباسًا، (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ)، الضمير لما دل عليه السياق، وهو ذكر الفرش على النساء أي: أعدنا إنشاءهن، (إِنْشَاءً): جديدًا، (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا): عواشق(4/247)
لأزواجهن، أو مغنوجة، أو كلامهن عربي، (أَتْرَابًا): مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين، أو مستويات في الأخلاق لا تباغض ولا تحاسد كما في ضرائر الدنيا يأتلفن ويلعبن جميعًا، وفي الحديث " هن اللواتي قُبِضْنَ عجائز، خلقهن الله بعد الكبر فجعلهن عذارى متعشقات على ميلاد واحد أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة، ومن يكون لها أزواج في الدنيا تخير فتختار أحسنهم خلقًا "، (لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ)، متعلق بـ أنشأنا، أو صفة لأبكارًا أو خبر لمحذوف.
* * *
(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)(4/248)
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
* * *
(ثُلَّةٌ): هم جماعة كثيرة، (مِنَ الْأَوَّلِينَ): الأمم الماضية غير هذه الأمة، (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ): من هذه الأمة، أو ثلة من المتقدمين من هذه الأمة، وثلة من المتأخرين منهم، وعلى التفسير الأول يلزم أن المقربين من هذه الأمة قليلون بالنسبة إلى جميع الأمم الماضية، ولا يلتزم قلتهم، ولكن الأبرار كثيرون بالنسبة إليهم أيضًا، (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ): حر نار، (وَحَمِيمٍ): ماء في غاية الحرارة، (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ): دخان أسود، (لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ): حسن المنظر، أو نافع، (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ): في الدنيا، (مُتْرَفِينَ): منهمكين في الشهوات، (وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ): الذنب، (الْعَظِيمِ)، وهو الشرك، أو اليمين الغموس، (وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)، همزة الإنكار كررت لمزيد الإنكار، والعامل في إذا ما دل عليه مبعوثون، (أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ) عطف على محل إن واسمها، أو على ضمير مبعوثون، وجاز للفصل بالهمزة أي: أيبعث آباؤنا أيضًا، فإنهم أقدم؟! فبعثهم أبعد، (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ): إلى ما وُقِّتَتْ به الدنيا، وحُدَّت من يوم معين(4/249)
عند الله تعالى، (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ)، من للابتداء، (مِنْ زَقُّومٍ)، من للبيان، (فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ): يسجرون حتى يأكلوا ملأ بطونهم، (فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ)، تأنيث الضمير في منها، وتذكيره في عليه على المعنى ولفظه (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ): مثل شرب الإبل التي بها الهيام داء تشبه الاستسقاء، وعن بعض الهيم الإبل المراض تمص الماء مصًّا، ولا تُرَوى، وكل من المعطوف والمعطوف عليه أخص من الآخر فحسن العطف، (هَذَا نُزُلُهُمْ): رزقهم الذي يعد لهم تكرمة لهم، (يَوْمَ الدِّينِ): يوم الجزاء، وإذا كان هذا نزلهم فما ظنك بما يعد لهم من بعد، (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ): بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا، (فَلَوْلا تُصَدِّقُون) أي: فهلا تصدقون بابتداء الخلق كأن أعمالهم خلاف ما يقتضيه التصديق، فحضهم عليه، (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ): تصبون في الأرحام من النطف؟! (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ)، فعلم أن الابتداء منا، (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ): مغلوبين عاجزين، (عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ): نغير صفاتكم جمع مثل، (وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ): في صفات لا تعلمونها أي: فما نحن بعاجزين عن الإعادة، وهي تبديل الصفات إلى صفات أخرى، أو ما نحن بعاجزين على أن نأتي بخلق مثلكم بدلاً عنكم، وعلى أن نخلقكم فيما لا تعلمونه من الصور كالقردة، والخنازير، فعلى هذا الأمثال جمع مثل بسكون الثاء، وفي الآية الثانية والثالثة ما يشعر، ويلائم هذا المعنى، وهو قوله: " لو نشاء لجعلناه حطامًا "،(4/250)
" ولو نشاء جعلناه أجاجًا "، أو يكون معنى الآية، نحن خلقناكم ابتداء، فهلا تصدقون بالبعث، ثم استدل، وقال أما ترون المني فكيف تجمع أولاً في الرجل، وهو منبث في أطراف العالم، ثم نجمع في الرحم بعدما كان منبثا في أعضاء الرجل، ثم نكون الحيوان منه، فإذا افترق بالموت مرة أخرى ألم نقدر على جمعه وتكوينه مرة أخرى؟! (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ): فهلا تذكرون أن من قدر عليها قدر على النشأة الأخرى، (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ) تبذرون حبة، (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ): تنبتونه؟! ولذلك قال عليه السلام: " لا يقولن أحدكم زرعت، وليقل غرثت " (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا): هشيمًا لا ينتفع به، (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ): بالمقالة تنتقلون بالحديث، (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ): استئناف مبين لمقالتهم، أي: يقولون إنا لمعذبون مهلكون، أو لملزمون غرامة ما أنفقنا، والمغرم الذي ذهب ماله بغير عوض، (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ): محدودون ممنوعون، وعن الكسائي: التفكه من الأضداد يستعمل في التنعم والتحزن، (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ): السحاب جمع مزنة، (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا): شديد الملوحة، (فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ): تقدحون، (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ)، للعرب شجرتان المرخ والعفار تحك أحد غصنيهما(4/251)
بالآخر فيتناثر منهما شرر النار، (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذكِرَةً): لنار جهنم، (وَمَتَاعًا): منفعة، (لِلْمُقْوِينَ): الذين ينزلون القواء، أي: المفازة، فإن انتفاعهم بالزند أكثر من انتفاع الحضريين، أو الجائعين، فإن أصل القواء الخلو، (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ): فجدد التسبيح، ونزهه عن النقائص باستعانة ذكر اسمه العظيم، أو اسم ذاته العظيم تنزيهًا عما يقولون، أو تعجبًّا أو شكرًا.
* * *
(فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
* * *(4/252)
(فَلَا أُقْسِمُ)، لا مزيدة لتأكيد القسم، أو رد لقول الكفار أنه سحر وشعر، ثم استأنف القسم، (بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) أي: نجوم القرآن، ومواقعها أوقات نزولها، أو بمغارب نجوم السماء، أو منازلها، أو انتشارها يوم القيامة، (وَإِنَّهُ): هذا القسم الذي أقسمت به، (لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ): لو تعلمون اعتراض بين الموصوف والصفة، (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ)، جواب القسم، (كَرِيمٌ): كثير النفع، (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ): مصون من الشياطين وهو اللوح، (لَا يَمَسُّهُ) أي: الكناب المكنون الذي في السماء، (إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أي:(4/253)
الملائكة، وعن بعض زعمت قريش أن القرآن تنزلت به الشياطين فردهم الله تعالى بقوله: " لا يمسه إلا المطهرون " كما قال: " وما تنزلت به الشياطين " [الشعراء: 210] أو لا يمس القرآن إلا المطهرون من الجنابة والحدث، والمراد من القرآن حينئذ المصحف كما نُقِلَ " نهى - عليه الصلاة والسلام - أن يسافر بالقرآن أي: المصحف إلى [أرض] العدو "، ويكون نفيًا بمعنى النهي أو لا يجد طعمه ونفعه إلا المطهرون من الشرك، (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، صفة أخرى للقرآن، وفيها مبالغة، (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ) أى: القرآن، (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ): متهاونون مكذبون، (وَتَجْعَلونَ رِزْقَكمْ): الرزق بمعنى الشكر في لغة أو تشكر رزقكم الذي هو المطر، (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ): بمعطيه، وتقولون: مطرنا بنوء كذا، أو تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن تكذيبكم، (فَلَوْلا): هلا، (إِذَا بَلَغَتِ): النفس، (الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ): يا أهل الميت، (حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ): حاله أو أمري وسلطاني ولا تقدرون على دفعه، والواو للحال، (وَنَحْنُ أَقْرَبُ)، المراد الملائكة كما قال تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ(4/254)
حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ .. ) الآية [الأنعام: 61]، أو نحن أعلم، (إِلَيْهِ): إلى المحتضر، (مِنْكُمْ): أيها الحاضرون، (وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ): قربنا، ولا تعرفون قدرتنا، (فَلَوْلا): فهلا، (إِنْ كُنتمْ غَيرَ مَدينينَ): محاسبين مجزيين في القيامة (تَرْجِعُونَهَا): النفس إلى مقرها بعدما بلغت الحلقومَ، (إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ): إنه لا بعث ولا حساب لولا الثاني تأكيد للأول، والعامل في الظرف ترجعونها، وهو المحضض عليه أي: هلا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين صادقين في ذلك، وجواب الشرط يدل عليه السياق، وحاصله أنكم تنسبون إلى الافتراء كتابي، وإلى الساحر رسولي، وإلى غيري رحمتي ومطري، وتزعمون أن لا بعث ولا حساب، ولا إله يجازي فنفيتم قدرتي واختياري، فما لكم لا تردون روح من يعز عليكم إذا بلغ الحلقوم، وأنتم ناظرون إليه، وما يقاسيه من شدة النزع، فإذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن فوقكم قادر مختار بيده الأمر لا عجز ولا تعطيل، (فَأَمَّا إِنْ كَانَ): المتوفَّى، (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ): فله راحة، (وَرَيْحَانٌ): رزق حسن، وعن بعض من السلف: إنه لا يفارق أحد من المقربين حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيقبض روحه فيه، وفي الحديث " ينطلق إلى وليِّ الله ملك الموت مع خمس مائة من الملك معهم ضبائر الريحان أصل الريحان واحد وفي رأسها عشرون لونًا لكل لون ريح سوى ريح صاحبه، (وَجَنَّتُ نَعِيمٍ): ذات تنعم، أي: يبشر بهذه الثلاثة، (وَأَمَّا إِنْ كَانَ): المحتضر، (مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ) أي: فيقال له سلام لك يا صاحب اليمين، (مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ): من إخوانك، أو(4/255)
حصل لك سلامة من العذاب حال كونك من أهل اليمين يبشر بالبشارتين، وعن بعض المفسرين: فسلامة لك يا محمد منهم لا تهتم لهم فإنهم في سدر مخضود، (وَأَمَّا إِنْ كَانَ): المحتضر، (مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ): أصحاب الشمال، (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) أي: فله ذلك، (وَتَصْلِيَةُ): إدخال، (جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا): الذي ذكرت، (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ): حق هو اليقين لا مرية فيه، أو اليقين اسم للعلم الذي لا لبس له، والإضافة بمعنى اللام، (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)، قيل: الباء زائدة، وقد ورد لما نزلت قال - عليه السلام - " اجعلوها في ركوعكم " ولما نزلت " سبح اسم ربِّك الأعلى " قال: " اجعلوها في سجودكم ".
والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *(4/256)
سورة الحديد مدنية وقيل: مكية
وهي تسع وعشرون آية وأربع ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(سَبَّحَ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلله مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
* * *(4/257)
(سَبَّحَ)، جاء في مفتتح السور بلفظ الماضي، والمضارع، والمصدر، والأمر إشعارًا بأن الموجودات من الابتداء إلى الانتهاء مقدسة لذاته طوعًا أو كرهًا (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)، (لله): هذا الفعل عدى بنفسه، وباللام أيضًا، (ما في السَّمَاوَات والأرضِ): من الموجودات، ولكن لا تفقهون تسبيحهم، (وهو العزيز الحكيم): فيستحق التسبيح، (له ملك السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): هو الخالق المتصرف، (يُحْيِي وَيُمِيتُ)، استئناف، أو حال، (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الْأَوَّلُ): فليس قبله شيء، (وَالْآخِرُ): فليس بعده شيء يبقى بعد فناء الممكنات، (وَالظَّاهِرُ): الغالب من ظهر عليه إذا غلبه، أو ظاهر لأن جميع الكائنات دليل ذاته، (وَالْبَاطِنُ) الذي بطن كل شيء أي: علم باطنه أو باطن لأنه غير مدرك بالحس، وفي الحديث " أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك(4/258)
شيء، وأنت الباطن فليس دونك شىء " وفي الترمذي (1) عدَّ عليه الصلاة والسلام سبع أرضين بين كل أرضين خمسمائة سنة ثم قال: " والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله ثم قرأ هو الأول والآخر " الآية، (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ): قد مر تفسيره في سورة الأعراف، وغيرها، (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ): كالحب والقطر، (وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا): كالشجر والنبات، (وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ): كالملك، والمطر، (وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا): كالأرواح، والأعمال، والملك والأبخرة، (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ): لا ينفك علمه عنكم، (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ):
__________
(1) " ضعيف " ضعفه الشيخ الألباني في " ضعيف الترمذي ".(4/259)
فيجازيكم عليه، (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، هو كالمقدمة للإعادة والإبداء فلذا كرره، (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمُورُ): َ فيحكم في خلقه ما يشاء، (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ): فيطول النهار، (وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ): فيطول الليل، (وَهُوَ عَلِيمٌ بذَاتِ الصُّدُورِ آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ): الله تعالى، (مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أي: مستخلفين ممن كان قبلكم بتوريثه إياكم، أو جعلكم الله خلفاء في التصرف، وهو في الحقيقة لله تعالى، فلا تبخلوا، (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ): فالإيمان، والإنفاق لا ينفعان إلا أنفسكم، (وَمَا لَكُمْ)، متبدًا أو خبر، (لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ)، حال، (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ)، الواو للحال فهما، حالان متداخلان يعني: أي عذر لكم في ترك الإيمان، والرسول يدعوكم، (لِتُؤْمِنُوا(4/260)
بِرَبِّكُمْ) أي: إلى هذا الأمر الجليل اليسير، (وَقَدْ أَخَذَ): الله، (مِيثَاقَكُمْ): حين أخرجكم من ظهر آدم أو بإقامة الحجج، (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ): بحجة ودليل، وعن بعض المفسرين الميثاق بيعة الرسول - عليه الصلاة والسلام، فإن الخطاب مع المؤمنين على سبيل التوبيخ، (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ): القرآن، (لِيُخْرِجَكُمْ): الله، أو العبد، (مِنَ الظلُمَاتِ): الجهالات، (إِلَى النُّورِ): العلم، (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا): في أن لا تنفقوا الظاهر أن هذا خطاب للمؤمين، والأول للكافرين، (فِي سَبِيلِ اللهِ وَلله مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): هو يتصرف في كل شيء وحده فإنكم ميتون تاركون لأموالكم، (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ): فتح مكة، (وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ): بعد فتح مكة، (وَقَاتَلُوا): فإنه كان الأمر قبل الفتح شديد، أو الناس في ريب في أمر الرسالة لكن بعد الفتح ظهر الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وققت الحاجة إلى الإنفاق، (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى) أي: وعد كلاً من النفقين من قبل ومن بعد الجنة، (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ): فلا يضيع عنده عمل عامل.
* * *
(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى(4/261)
وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
* * *
(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا): من أنفق المال رجاء ثواب الله كمن يقرضه، وهو عام لكل إنفاق هو لله تعالى، (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ): يعطي أجره أضعافًا، وقراءة النصب على جواب الاستفهام، والرفع على العطف على يقرض، (وَله أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي: وذلك الأجر المضموم إليه الإضعاف كريم محمود في نفسه يعني: كما أنه زائده في الكم بالغ في الكيف، وهو جملة حالية، (يَوْمَ تَرَى) ظرف لله، أو ليضاعف، أو اذكر، (الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ): وذلك دليلهم إلى الجنة على قدر أعمالهم، وأدناهم نورًا من كان في إبهامه فيطفو مرة، ويَقِدُ أخرى عبر عن جميع الجهات بالجهتين، وجملة يسعى حالية، (بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ): يقول(4/262)
الملائكة لهم ذلك، (جَنَّاتٌ) أي: دخول جنات (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ)، بدل، (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا): انتظرونا، (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ): نستضيء منه، (قِيلَ ارْجعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا)، القائل المؤمنون، أو الملائكة أي: ارجعوا إلى المكان الذي قسم فيه النور، واطلبوا فيه نورًا، فلا يستضيئون من نورهم كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير، (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ): المؤمنين والمنافقين، (بِسُورٍ): حجاب، (لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ): باطن السور أو الباب، (فيهِ الرحْمَةُ): لأنه يلي الجنة، (وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ): من جهته، (الْعَذَابُ): فإنه يلي النار، (يُنَادُونَهُمْ): المنافقون المؤمنين، (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ): في الدنيا نوافقكم في أعمالكم؟ (قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ): بالنفاق والمعاصي، (وَتَرَبَّصْتُمْ): انتظرتم في شأن المؤمنين الدوائر، وعن بعض أخرتم التوبة، (وَارْتَبْتُمْ): في الدين، (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ): أمنيتكم الباطلة غرتكم، (حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ): الموت، (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ): الشيطان، فيقول: اعملوا فالله تعالى عفو، (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ): لا يقبل، (مِنْكُمْ فِدْيَةٌ): فداء، (وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ): النار، (مَوْلاكُمْ): أولى بكم، أو النار ناصركم، فلا ناصر لكم، (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ): النار، (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ(4/263)
تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) أي: ألم يأت وقت الخشوع؟ (وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ): القرآن أي: عند ذكر الله، والموعظة وسماع القرآن، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - إن الله تعالى استبطأ قلوب المهاجرين، فعاتبهم بهذه الآية على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن، وعن بعض: مل الصحابة ملة، فقالوا: حدثنا يا رسول الله، فأنزل الله تعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف: 3] ثم ملوا، فقالوا: حدثنا، فنزل (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) [الزمر: 23]، ثم ملوا فقالوا حدثنا، فأنزل الله تعالى الآية، (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ): كاليهود: والنصارى عطف على تخشع، أو نهى عن مماثلة أهل الكتاب، وفيه التفات، (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ): الزمان بينهم وبين أنبيائهم، (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ): مالو إلى الدنيا، وأعرضوا عن مواعظ الله تعالى، (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ): خارجون من الدين، (اعْلَمُوا أَنْ الله يُحْي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا): فلا تيأسوا من أن يلين القلوب بعد قسوتها قيل: تمثيل لإحياء الأموات، فيكون معناه الزجر والتحذير عن القساوة، (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ): المتصدقين، وقراءة تخفيف الصاد معناه الذين صدقوا الله تعالى، (وَأَقْرَضُوا اللهَ)، عطف على صلة الألف واللام، لأنه بمعنى إن الذين اصدقوا أو يكون نصب، والمتصدقات على التخصيص، فإن المصدقين عام للذكر والأنثى على التغليب كما إن أقرضوا عام كأنه قيل إن المصدقين، وأخص المتصدقات(4/264)
منهم، ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام: " معشر النساء تصدقن " الحديث فيكون والمتصدقات اعتراضًا على سبيل الاستطراد فلا يلزم الفصل بين أجزاء الصلة بأجنبي، ولما لم يكن الإقراض غير ذلك التصدق قيل: وأقرضوا أي: بذلك التصدق، ولم يقل والقرضين، (قَرْضًا حَسَنًا): لوجه الله تعالى، (يُضَاعَفُ) أي: ثواب القرض خبر إن، (لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ): حسن، (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) عن مجاهد كل مؤمن صديق، وعن الضحاك هم ثمانية نفر سبقوا إلى [الإسلام] أبو بكر، وعلي، وزيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وحمزة - رضي الله تعالى عنهم (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي: في جنات النعيم أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في أنهار الجنة، ثم تأوى إلى القناديل مبتدأ أو خبر، أو المراد، المؤمنون كلهم كالصديقين والشهداء عند الله تعالى، فيكون والشهداء عطفًا على الصديقون، وفي الحديث " مؤمنوا أمتي شهداء، ثم تلا هذه الآية " ويدل عليه قوله تعالى (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) [النساء: 69] (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) أي: أجر كل منهم مقصور عليهم وكذا نورهم، أو للمؤمنين مثل أجر الشهداء ونورهم ولا يلزم منه المماثلة من جميع الجهات، (وَنورُهُمْ): الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ): ملازموها لا ينفكون عنها.
* * *
(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ(4/265)
يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
* * *
(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ): ما هي إلا أمور خالية كملاعب الصبيان لا فائدة، ولا غاية تترتب عليها سوى إتعاب البدن، (وَلَهْوٌ): تلهون به عما ينفعكم، (وَزِينَةٌ): تتزينون بها، (وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ): يفتخر به بعضكم على بعض، (وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ)، مباهاة بكثرة الأموال والأولاد، ثم قرر ذلك بقوله: (كَمَثَلِ غَيْثٍ)، مستأنفة أي: مثله كمثله أو خبر بعد خبر أي: ما هي إلا كمثله، (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ): الزراع، أو الكافرون فإنهم أشد عجابًا بخضرة الدنيا، (نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ): ييبس بعاهة، (فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا): هشيمًا متفتتًا، (وَفِى الْاَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ): فلا تنهمكوا في شهواتها، (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ(4/266)
وَرِضوَانٌ): فاطلبوا ما هو خير وأبقى، (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ): كمتاع يدلس به على المشترى ويغر حتى يشتريه ثم يتبين له فساده، (سَابقُوا): سارعوا مسارعة السابقين في المضمار، (إِلَى مَغفِرَةٍ): موجباتها، (مِنْ رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ)، قد مر في سورة آل عمران، (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ): فلا يجب عليه شيء، (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ): فارتقبوا فضل الله تعالى وإن جل، (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ): كالقحط، (فِي الأرْضِ): صفة لمصيبة، (وَلا فِي أَنفُسِكُمْ): كالأمراض، (إِلا فِي كِتَابٍ): في اللوح حال يعني مسطورًا فيه، (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا): نخلق المصيبة أو الأرض والأنفس، (إِنَّ ذَلِكَ): ثبته في كتاب، (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا) أي: أعلمكم أنها مثبتة لئلا تحزنوا (عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ): الله من متاع الدنيا، فإن من علم أن كل ما قدر له لم يكن ليخطئه، وكل ما(4/267)
لم يقدر لم يكن ليصيبه ليس من شأنه الفزع والفرح، بل النظر إلى تقليبه الله تعالى ظهرًا وبطنًا إن رضي فله الرضاء، وإن سخط فله السخط، والمراد من الحزن الجزع، ومن الفرح ما يلهي عن الشكر ويفضي إلى البطر والأشر، ولذلك قال: (وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ) أي: متكبر، (فَخُورٍ): على الناس بمتاع الدنيا عن جعفر الصادق - رضي الله عنه - يا ابن آدم ما لك تتأسف على مفقود لا يرده إليك الفوت، وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت، (الذِينَ يَبْخَلُون)، بدل من كل مختال فإن أكثرهم بخلاء، (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ): يعرض عن الإنفاق والطاعة (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ): فإنه غني عنه، وعن إنفاقه وطاعته محمود في ذاته لا يضره كفر ولا ينفعه شكر، (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ): المعجزات، (وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكتَابَ)، جنس الكتاب، (وَالْمِيزَانَ) أي: العدل أو الميزان المعروف قيل:(4/268)
نزل جبريل - عليه السلام - بالميزان إلى نوح - عليه السلام -، وقال: مُرْ قومك يزنوا به، (لِيَقُومَ النَّاسُ بالْقِسْطِ) أي: ليتعاملوا بالعدل، (وَأَنْزَلْنَا): أنشأنا، وأحدثنا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ثلاثة أشياء نزلت مع آدم السندان والكلبتان والمطرقة، (الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْس شَدِيدٌ): هو القتال به مع من عاند الحق، (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) إذ هو آلة لأكثر الصنائع، (وَلِيَعْلَمَ اللهُ)، عطف على معنى فيه بأس شديد ومنافع فإنه حال يتضمن تعليلاً أي: أنزلناه للبأس وللنفع وليعلم وقيل: عطف على ليقوم الناس، (مَنْ يَنْصُرُهُ) أي: دينه، (وَرُسُلَهُ): باستعمال آلات الحرب مع أعداء الله تعالى، (بِالْغَيْب): غائبًا عن الله تعالى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - يبصرونه ولا ينصرونه، (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ): في أمره، (عَزِيزٌ): في ذاته لا يحتاج إلى نصرة ناصر.
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
* * *(4/269)
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ): لم يرسل بعدهما نبي إلا من ذريتهما، (فَمِنْهُمْ): من الذرية، (مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ): خارجون عن الطاعة، (ثُمَّ قَفْيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ): آثار نوح وإبراهيم عليهما السلام، ومن عاصرهما، (بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا): هم، (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) أي: عيسى، (رَأْفَةً): رقة شديدة، (وَرَحْمَةً): كانوا متوادين رحماء، (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا)، منصوبة على شريطة التفسير أي: وابتدعوا رهبانية يعني جاءوا بالرياضة الشاقة، والانقطاع عن الناس من عند أنفسهم، (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ): ما أمرناهم بها، (إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ): لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله تعالى (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا): ذم بوجهين الابتداع في دين الله تعالى، وعدم القيام بما التزموا مما زعموا أنه قربة، (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ): وهم الثابتون على دين عيسى - عليه السلام - والرهبانية، (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ): الذين غيروا دين عيسى عن ابن مسعود قال - عليه الصلاة والسلام: " هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية؟ قلت: الله ورسوله أعلم،(4/270)
قال " ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بالمعاصي فغضب أهل الإيمان، فقاتلوهم فهزم المؤمنون ثلاث مرات، فلم يبق منهم إلا القليل، فقالوا: تعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا عيسى يعنون: محمدًا صلى الله عليه وسلم -، فتفرقوا في غيران الجبال، وأحدثوا رهبانية، فمنهم من تمسك بدينه، ومنهم من كفر، ثم تلا هذه الآية "، وفي رواية " فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم الذين آمنوا بي، وكثير منهم فاسقون الذين كذبوني "، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ)، الخطاب لمؤمني أهل الكتاب، (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ): محمد - عليه الصلاة والسلام (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ): نصيبين، (مِنْ رَحْمَتِهِ): للإيمان بنبيكم، وللإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك لمن بقى على دين عيسى - عليه السلام - ولم يغير، (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ): على الصراط، (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ): وكثير من السلف على أن هذه الآية لما افتخر أهل الكتاب بأنَّهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله تعالى في شأن هذه الأمة المرحومة، ففضلهم على أهل الكتاب بالنور والمغفرة، (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ): الذين لم يؤمنوا، (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي: يعطيكم الله تعالى نصيبين من رحمته، لأن يعلم الكافرون منهم أنه لا يتمكنون من نيل شيء من فضل الله تعالى، فلا مزيدة، (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)، وعلى التفسير الثاني معناه أعطيناكم يا أمة محمد كفلين من رحمته(4/271)
كما أعطى المؤمنون من أهل الكتاب أجرين ليعلم المؤمنون من أهل الكتاب أن فضل الله تعالى ليس بيد أحد، فلو أعطاهم أجرين لأجل إيمانين أعطى المؤمنين كفلين لأجل الإيمان الواحد بفضله قيل: (لا) غير مزيدة، والمعنى لئلا يعلم أهل الكتاب عجز المؤمنين ونقصانهم.
والحمد لله على كل حال.
* * *(4/272)
سورة المجادلة مدنية سوى العشر الأول
وَهِى اثنتانِ وَعشرونَ آية وثلاثُ ركوعَات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
* * *
(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا): تراجعكما الكلام (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) نزلت في خولة، ظاهر منها(4/273)
زوجها أوس بن الصامت، وكان الظهار طلاقًا، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " حرمت عليه " فحلفت إنه ما ذكر طلاقًا، فقال: " حرمت عليه " فقالت: أشكو إلى الله فاقَتي، وجعلت تراجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترفع رأسها إلى السماء وتشكو إلى الله تعالى (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) كانت عبارتهم في الظهار: أنت كظهر أمي، أي ما هن أمهاتهم على الحقيقة (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ): المظاهرين (لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ): لا يعرف في شرع (وَزُورًا) باطلاً محرَّفا عن الحق (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) فغفر عما سلف. (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) أي: يتداركون ما قالوا، والمتدارك عائد إليه، ومنه المثل: عاد غيث ما أفسد، أي: تداركه بالإصلاح، عن ابن عباس رضي الله عنهما: العود الندم، قال الفراء: عاد فلان لما قال أو فيما قال، أي رجع عما قال، وهو إمساكها عقيب الظهار زمانًا يمكنه الطلاق، ولم يطلق أو المراد العزم على [الوطء] (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي: فعليهم أو فالواجب إعتاق رقبة، والشافعي حمل ما أطلق على ما قيد في كفارة القتل بالإيمان؛ لاتحاد الموجب (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) من قبل أن يجامع المظاهِرُ المظاهَرَ منها، فلا يجوز(4/274)
الوطء قبل الكفارة، والأكثرون على أنه لا يحرم سائر الاستمتاع قبل الكفارة، وعن بعضهم التماس الاستمتاع مطلقًا (ذَلِكُمْ): الحكم بالكفارة (توعَظُونَ بِهِ) كي تنزجروا به عن الظهار (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَمْ يَجدْ) الرقبة (فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا) ولا يجوز الجماع في ليالي الشهرين، فلو فعل ففي الاستئناف خلاف (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) الصوم لمرض أو كبر أو فرط شهوة (فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) وعن مالك: من يكفر بالإطعام يجوز له الوطء قبله؛ لأنه غير مقيد بقوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) وبيان كمية الإطعام لكل مسكين قد مر في أواخر سورة المائدة (ذلِكَ) أي فرض لك الذي بَيَّنَّا (لتُؤْمِئُوا) لتصدقوا (بِالله وَرَسولِهِ) في قبول شرائعه وترك بدع الجاهلية، (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) لا يجوز تعديها، (وَلِلْكَافرِينَ) عن ابن عباس رضي الله عنهما: لمن جحده وكذبه (عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ) يعادون ويعاندون شرعه (وَرَسُولَهُ كُبِتُوا) أخزوا ولعنوا (كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ككفار الأمم الماضية (وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) تدل على صدق ما جاء به الرسول (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ) ظرف لـ مهين، أو مفعول لـ اذكر (جَمِيعًا) مجتمعين (فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا) من خير وشر (أَحْصَاهُ اللهُ) ضبطه عليهم (وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
* * *(4/275)
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
* * *(4/276)
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ) ما يقع سر ثلاثة نفر وتناجيهم (إِلَّا هُوَ) أي الله (رَابِعُهُمْ) بالعلم والاستثناء من أعم الأحوال (وَلَا خَمْسَةٍ) أي ولا نجوى خمسة (إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ) وتخصيص العددين قيل لخصوص الواقعة، فإنها نزلت لتناجي المنافقين، أو لأن أهل النجوى لا يكونون إلا قليلين غالبًا من الاثنين إلى ما دون العشرة، فآثر الثلاثة ليكون قوله (وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ) دالاًّ على الاثنين وهو عدد لا يمكن التناجي بأقل منه، والخمسة أيضًا ليكون " ولا أكثر " دالاً على السبعة (وَلَا أَدْنَى) أقل (مِنْ ذَلِكَ) كالاثنين (وَلَا أَكْثَرَ) كالسبعة، ولا لنفي الجنس (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) بالعلم وفي قراءة " وَلَا أَكْثَرُ " بالرفع هو عطف على محل من نجوى، أي ما يكون أدنى ولا أكثر (أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ) كانت اليهود والمنافقون يتناجون، ويتغامزون بأعينهم لإغضاب المؤمنين فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عادوا لمثله (وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) بما هو إثم لهم، وعدوان للمؤمنين (وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) تواصٍ بمخالفته(4/277)
(وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) يقولون: سام عليك، والسَّام: الموت (وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ) فيما بينهم سرًّا (لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ) أي لو كان هو نبيًّا فهلا يعذبنا الله بشتمنا إياه (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) عذابًا (يَصْلَوْنَهَا) يدخلونها (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) جهنم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) كاليهود والمنافقين (وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى) بما يتضمن نفعكم ونفع غيركم (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا النَّجْوَى) أي ذلك النجوى الذي هو بالإثم (مِنَ الشَّيْطَانِ) فإنه الآمر به (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ليوهمهم أن عليهم شرًّا (وَلَيْسَ) الشيطان أو التناجي (بِضَارِّهِمْ شَيْئًا) من الضرر (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فإنه هو حسبهم وكافيهم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا) توسعوا (فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا) فى المكان (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) يوسع عليكم في الدارين، نزلت حين جاء بعض من أهل [بدر] إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يوسع الصحابة لهم فَكَرِهَ عليه الصلاة والسلام ذلك كرامة لأهل بدر فأقام عليه الصلاة والسلام بعضًا، وأمر أهل بدر أن يجلسوا مكانهم، فشق على البعض ذلك، وفي الصحيحين: " لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا ". (وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا)(4/278)
انهضوا وقوموا لأكرمكم (فَانْشُزُوا) فقوموا، وإذا قيل انهضوا للصلاة أو للجهاد أو إلى خير فلا تثاقلوا، أو إذا قيل لكم قوموا واخرجوا فإنَّهم إذا كانوا في بيته عليه الصلاة والسلام كل منهم يحب أن يكون آخرهم خروجًا فربما يشق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم لما له من حاجة، فأمروا أنَّهم إذا أمروا بالانصراف يأتمروا سريعًا (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) بطاعتهم لرسوله (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) أي ويرفع الله تعالى العلماء منهم خاصة، ونصب درجات بالبدل من الذين آمنوا والذين أوتوا العلم، أو بالتمييز، والمعنى: لا يحسب أحدكم أنه إذا تفسح، أو أمر بالخروج فخرج يكون نقصًا في حقه، بل هو رفعة ومرتبة عند الله تعالى (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) نزلت حين كثرت مجالسة الأغنياء ومناجاتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشق عليه ذلك، فأمر الله تعالى الخلائق بالصدقة أمام مناجاته فانتهوا عن كثرة المناجاة. عن علي رضي الله عنه: هذه آية لم يعمل بها أحد قبلي، ولا أحد يعمل بها بعدي، كان عندي(4/279)
دينار فصرفته بعشرة دراهم، فكنت إذا جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقت بدرهم، فنسخت فلم يعمل بها غيري (ذلِكَ): التصدق (خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) هذا رخصة مناجاتهم للفقراء بلا تصدق (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ): أي: أخفتم تقديم الصدقة لما يعدكم الشيطان عليه من الفقر، وجمع الصدقات لجمع المخاطبين (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) ما أمرتم به (وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) عذركم ورخص لكم في أن لا تفعلوه (فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) فلا تفرطوا فيهما (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في أوامره ونواهيه، ليكون كالجابر (وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ(4/280)
الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ): المنافقين (تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) اليهود، كان المنافقون ينقلون إليهم أسرار المؤمنين (مَا هُمْ مِنْكُمْ) لأنَّهُم منافقون (وَلَا مِنْهُمْ) من اليهود أيضًا؛ لأنَّهُم مذبذبون (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) وهو ادعاء الإسلام (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن [المحلوف] عليه كذب (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) يعني هذا العذاب؛ لإصرارهم على سوء العمل (اتَّخَدوا أَيْمَانَهُمْ) التي حلفوا بها (جُنَّةً) وقاية من القتل والنهب (فصَدُّوا) الناس (عَن سَبِيلِ اللهِ) يعني بالحلف الكذب، يقون أنفسهم ويأمنون وفي خلال أمنهم يصدون الناس عن الدين الحق (فَلَهُمْ عَذَاب مهِينٌ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا) أي من عذابه، أو شيئًا من الإغناء (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) نزلت(4/281)
ْحين قال عليه الصلاة والسلام: سيأتيكم إنسان (1) ينظر بعيني شيطان، فإذا ناداكم فلا تكلموه، فجاء رجل أزرق فقال له عليه الصلاة والسلام: علامَ تشتمني أنت وفلان، فانطلق الرجل، فدعاهم وحلفوا له، واعتذروا إليه (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا)، ظرف لن تغني (فَيَحْلِفُونَ لَهُ) لله تعالى على أنَّهم ما كانوا مشركين (كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ) كذبا في الدنيا أنَّهم منكم (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ) حسبوا أن الأيمان الكاذبة تروج الكذب في الآخرة، كما روجت في الدنيا (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ اسْتَحْوَذَ) استولى (عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ) فلا يذكرون الله تعالى أصلاً ولا يصلون (أُولَئِكَ حِزْبُ) جنود (الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ) يعادونه (وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) في جملة من لهم ذل فى الدارين.
(كَتَبَ اللهُ) حكم وقرر (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) إما بالحجة وإما بها وبالسيف (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون) [الصافات: 171 - 172] الآية (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) يعني لا يجتمع الإيمان ومحبة أعداء الله تعالى (وَلَوْ كَانُوا) أي من حاد الله (آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أقاربهم (أُولَئِكَ) الذين لم يوادوهم (كَتَبَ) الله (فِى قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ): أثبته فيها (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ): من عند
___________
(1) رواه أحمد وغيره، ولا شبهة أن هذا الرجل من المنافقين. [وقال الشيخ أحمد شاكر في " تعليقه على المسند " (2407): وإسناده صحيح].
بدأ بالآباء لأن الواجب على الأولاد طاعتهم فنهاهم عن توادهم ثم ثني بالأبناء لأنه أعلق بالقلوب ثم ثالثًا بالإخوان لأن لهم التعاضد ثم رابعًا بالعشيرة لأن بهم التناصر والمقاتلة / 12 وجيز.(4/282)
الله تعالى وهو النصر على العدو أو نور القلب (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ) حال مقدرة (فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) لما سخطوا على القرائب لله تعالى عوضهم بالرضا عنهم وأرضاهم عنه بما أنعم عليهم من الفضل العظيم (أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ) أنصار دينه (أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بخير الدارين.
اللهم اجعلنا منهم.
* * *(4/283)
سورة الحشر مدنية
وهي أربع وعشرون آية، وثلاث ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(سَبَّحَ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلله وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ(4/284)
هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
* * *
(سَبَّحَ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) [الإسراء: 44] (الَّذِى أَخْرَجَ الذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) بني النضير (مِن دِيَارِهِمْ) لما نقضوا العهد أحل الله بهم بأسه فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم الحصينة التي ما طمع بتسخيرها أحد إلى أذرعات من أعمال الشام وهي أرض المحشر ولذلك قال: (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي: لابتداء: الحشر صرح به ابن عباس رضي الله عنهما وكثير من(4/285)
السلف، وعن الحسن رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام لبني النضير: " هذا أول الحشر وأنا على الأثر " قيل: هم أول من أُجلي من جزيرة العرب فهم أول المحشورين فإن الحشر إخراج جمع من مكان إلى آخر (مَا ظَنَنتُمْ) أيها المؤمنون (أَنْ يَخْرُجُوا) لشدتهم وشدة حصونهم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) أي: زعموا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله تعالى فـ حصونهم مبتدأ ومانعتهم خبره، أو حصونهم فاعل مانعتهم، لاعتماده فإنه في الحقيقة خبر المبتدأ وفي هذا النظر دلالة على فرط وثوقهم بحصونهم واعتقادهم أنهم في عزة بسببها (فأَتَاهُمُ اللهُ) عذابه (فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) من حيث لم يخطر ببالهم (وَقَذَفَ) ألقى (فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ) الجملة حال (بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) فإنَّهم يقلعون الأبواب وما استحسنوه من السقوف ويحملون معهم والباقي يخربه المؤمنون واليهود عرَّضت المؤمنين لذلك وكانت السبب فيه فهم خربوا ديارهم بأيدي المؤمنين (فَاعْتَبِرُوا) فاتعظوا (يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) ولا تتبعوا أعمالهم وعقائدهم (وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء) الخروج من الوطن (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا) أي: لأنزل عليهم بلاء آخر كالقتل والسبي فإنه قد كتب أنه سيعذبهم في الدنيا (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ) أي هذا لهم حتم لازم على أي حال (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا) عاندوا وخالفوا (اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ مَا قَطَعْتُمْ) ما منصوب بـ قطعتم أي: أي شيء (مِنْ لِينَةٍ) هي نوع خاص من النخل أجودها في ألوان التمر أو سوى العجوة والبرني أو(4/286)
جميع أنواع النخل (أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا) فائدة هذا القيد أنه يعلم منه أنهم كانوا يستأصلون ما يقطعون من أصوله وبنيانه ولا يخلون ساقها (فَبِإِذْنِ اللهِ) بأمره ورضائه. نزلت لما حاصرهم وأمر عليه الصلاة والسلام بقطع نخيلهم إرغامًا لقلوبهم، قالوا إنك تنهى عن الفساد ثم تفسد في الأرض فحاك ذاك في صدور المؤمنين (وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) علة لمحذوف أي: أذن لهم في قطع بعض وإبقاء بعض ليخزيهم على فسقهم بمزيد حسرتهم وغيظهم (وَمَا أَفَاءَ) ما منصوب بـ أفاء أي: الذي رده (اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) من تلك اليهود من الأموال (فَمَا أَوْجَفْتُمْ) ما نافية أي ما أجريتم (عَلَيْهِ) على تحصيله (مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ) والركاب ما يركب من الإبل، يعني إنما مشيتم على أرجلكم لقربهم منكم ولا تعبتم بالسفر والقتال (وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا تطمعوا أن يكون مال الفيء كمال الغنيمة أربعة أخماسها لكم بل ما هو لكم من الغنيمة هو من الفيء للنبي صلى الله عليه وسلم ولذلك ما أعطى الأنصار منه إلا ثلاثة نفر منهم (مَا أَفَاءَ اللهُ(4/287)
عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) جميع البلدان الذي يفتح (فَلله وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) جملة ما أفاء الله بيان للجملة السابقة، ولذلك لم يعطف، كأنه لما قيل: ما خول الله برسوله من أموال بني النضير شيء لم يحصلوه بالقتال، فلا يقسم قسمة الغنائم. قيل: كيف يقسم؟ قيل: " ما أفاء الله " الآية. فعلم أن مال الفيء، وهو مال أخذ من الكفار من غير قتال، ولا إيجاف خيل وركاب ليس للجنود فيه نصيب، بل هو مختص للرسول، ولذي القربى، والثلاثة الباقية. وعلم من الحديث أنه ينقسم بخمسة؛ أربعة أخماس لخاصة النبي - صلى الله عليه وسلم - والخمس الباقي ينقسم على هؤلاء الخمسة، وبيان المصارف قد مر في سورة الأنفال فلا نعيده (كَيْ لَا يَكُونَ) الفيء (دُولَةً) ما يتداول (بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) فلا يصيب الفقراء كأيام الجاهلية (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ) أي: ما أمر به (فَخُذُوهُ) تمسكوا به (وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ) عن إتيانه (فَانْتَهُوا) عنه أو ما أعطاكم من المال فاقبلوا وما نهاكم عن أخذه فانتهوا (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) لمن خالف (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ) بدل من المساكين، أو من لذي القربى، وما عطف عليه (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ) فإن كفار مكة أخذوا أموالهم (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا) جملة حالية (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في دعوى(4/288)
الإيمان (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ) جعلوا الإيمان مستقرًا لهم كما جعلوا المدينة كذلك أي: لزموا المدينة والإيمان، وتمكنوا فيهما والتعريف في الدار؛ للتنويه، كأنها الدار التي تستحق أن يسمى دارًا (مِنْ قَبْلِهِمْ) من قبل هجرتهم، وهم الأنصار (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ) في أنفسهم (حَاجَةً) كحسدٍ وغيظ (مِمَّا أُوتُوا) أي لا يجدون من مال أعطى المهاجرون في أنفسهم حقدًا وغرضًا، فإنه قد قسم مال بني النضير بين المهاجرين دون الأنصار (وَيُؤْثِرُونَ) يقدمون المهاجرين (عَلَى أَنْفُسِهِمْ) فيما عندهم من الأموال (وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) حاجة إلى ما عندهم نزلت حين انطلق رجل من الأنصار برجل، قال عليه الصلاة والسلام في شأنه: " رحم الله من يضيفه الليلة إلى بيته "، ولم يكن في بيته سوى قوت صبيانه، فنومهم وأطعمه قوتهم، فبات هو وعياله جائعين. فقال عليه الصلاة والسلام: " ضحك الله من فلان " (ومَن يُوقَ لشُحَّ نَمسِهِ) من سلم من الحرص الشديد الذي(4/289)
يحمله على ارتكاب المحارم (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ) المراد التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا) في الدين (الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا) حقدًا (لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) واعلم أن للفقراء لا يمكن أن يكون بدلاً من الله وللرسول؛ لأن الرسول أيضًا لا يسمى فقيرًا، فهو بدل من لذوي القربى وما بعده، ومن لم يشترط في ذوي القربى الفقر، يقول: إن للفقراء ليس للقيد، بل بيانًا للواقع من حال المهاجرين، وإثباتًا لمزيد اختصاصهم، وأن قوله: وَ (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ) عطف على الفقراء، لا على المهاجرين، سيما وقد ثبت فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل الخلفاء رضي الله عنهم(4/290)
من بعده أنهم يعطون الأغنياء من ذوي القربى وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قرأ هذه الآية إلى قوله: (رَءُوفٌ رَحِيمٌ) قال: استوعبت هذه المسلمين وليس أحد إلا له حق، وقد خطر بخاطري أن الله تعالى سمى جميع المهاجرين والأنصار والتابعين فقراء، وإن كانوا أغنياء؛ لأنه لو كان المراد فقراءهم؛ لناسب أن يقول لفقراء المهاجرين بطريق الإضافة. وعن بعض المفسرين أن قوله: " للفقراء " ليس بدلاً بل تقديره اعجبوا لهم فإن السياق في مدحهم، فإنه لما أمر باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - عجّب الناس اتباع هؤلاء، والذي يؤيده قوله: " ألَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا " مُصَدَّرًا بقوله: " ألَمْ تَر " وهي كلمة للتعجب، فإن ذكرهم جاء مقابلاً لذكر أضدادهم.
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
* * *(4/291)
(أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) هم بنو قريظة والنضير (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من المدينة (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) نوافقكم ونرافقكم (وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ) في إخلاف ما وعدناكم وفي قتالكم (أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ) وقد وقع كذلك فإن ابن أبي وأصحابه عاهدوهم على ذلك ثم أخلفوهم (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) على الفرض (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ) لَينهزمون (ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ) بعد ولا ينفعهم نفاقهم. قيل: معناه لينهزمن اليهود، ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً) مرهوبية مصدر فعل المجهول؛ لأنَّهُم مرهوب منهم لا راهبون (فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) لأن نفاقهم من خوفكم، ولو خافوا من الله لتركوا النفاق (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) فإنه لو كان لهم دراية، لعلموا أن الله هو الحقيق بأن يخشى (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ) اليهود (جَمِيعًا) مجتمعين (إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ) لا يبرزون لقتالكم لفرط خشيتهم منكم وإن كانوا مجتمعين (بَأْسُهُمْ) شدتهم في الحرب (بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ)، يعني إذا حارب بعضهم بعضًا فيشتد بأسهم لكن إن قاتلوكم لم يبق لهم تلك الشدة (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا) متفقين (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) متفرقة وأصل الحرب الاتفاق (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) فإن العقل هو الداعي إلى الاتحاد والاتفاق، وعن بعض تحسبهم أي: اليهود والمنافقين (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا أي: مثل اليهود كمثل الذين استقروا من قبلهم في زمان قريب، وهم أهل بدر(4/292)
أو يهود بني قينقاع، فقد أجلاهم رسول ألله صلى الله عليه وسلم قبلهم (ذاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ) سوء عاقبة كفرهم في الدنيا (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذَابٌ أَلِيمٌ كَمَثَل الشَّيْطَانِ) أي: مثل المنافقين في إغراء اليهود كمثل الشيطان (إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) تبرأ عنه في العاقبة، كما فعل براهب حمله على الفجور، ثم على سجوده، ثم تبرأ منه. وكما قال يوم بدر: (وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) [الأنفال: 48] (إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ).
* * *(4/293)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
* * *
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد) انظروا ما ادخرتم ليوم القيامة (واتقوا الله) تكرير للتأكيد (إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله) نسوا حقه (فأنساهم) الله (أنفسهم) حق أنفسهم فلم يفعلوا ما ينفعهم (أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) الكاملون في الفسق (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ) الذين نسوا الله فلم يتق بها (وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) الذين عرفوا حق الله فاتقوا (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ) وخاطبناه بالأمر والنهي(4/294)
وفهمناه الحكم والمثل (لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا) متشققا (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ) التي في القرآن (نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) والمراد توبيخ الإنسان على عدم تخشعه وقلة تدبره وعدم الاتعاظ بالقرآن (هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ) ما غاب عنا (وَالشَّهَادَةِ) وما حضر (هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللهُ الَّذِى لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) الطاهر البليغ في النزاهة عن كل نقصان (السَّلَامُ) ذو السلامة من كل نقص (الْمُؤْمِنُ) واهب الأمن أو المصدق للمؤمنين والكافرين في وعدهم ووعيدهم (الْمُهَيْمِنُ) الرقيب المطلع على السرائر (الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ) العظيم أو الذي جبر خلقه على مراده أو جبر حالهم(4/295)
وأصلحها (الْمُتَكَبِّرُ) الذي تكبر عن كل نقص وأصل الكبرياء الامتناع (سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللهُ الْخَالِقُ) المقدر (الْبَارِئُ) المبرز الموجب لما قدر (الْمُصَوِّرُ) الممثل للمخلوقات الموجد لصورها (لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) بلسان قاله أو حاله (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وفي مسند الإمام أحمد والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ الثلاث الآيات من آخر سورة الحشر، وكَّلَ الله به سبعين ألف ملك، يصلون عليه حتى يمسى، فإن مات ذلك اليوم مات شهيدًا، ومن قالها حين يمسى كان بتلك المنزلة ".
* * *(4/296)
سورة الممْتَحَنَة مدنية
وآياتها ثلاَثَ عَشْرة، وفيهَا ركوعَانِ
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
* * *(4/297)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) نزلت في حاطب بن أبى بلتعة، لما كتب إلى كفار مكة، حين أراد عليه الصلاة والسلام الخروج إلى مكة - إن المؤمنين قد جاءوكم فاحذروا، وأرسل بيد امرأة، فبعث عليه السلام عليًّا وعمارًا وغيرهما، وأخذوا منها الكتاب، فخاطب عليه السلام حاطبًا فقال: يا رسول الله، والله إني لمؤمن بالله ورسوله، لكن كنت امرءًا ملصقًا في قريش، عندهم أهلي ومالي، ولم يكن من أصحابك أحد إلا وله بمكة من يمنع أهله وماله، فكتبت إليهم بذلك. فقال عليه السلام: " صدق حاطب، لا تقولوا له إلا خيرًا " (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ) أخبار المؤمنين (بِالْمَوَدَّةِ) بسببها أو تفضون إليهم بالمودة، فيكون من باب التضمين، لا أن الباء زائدة والجملة حال أو صفة لأولياء (وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) حال من الفاعل (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) أي: من مكة استئناف أو حال من كفروا (أَنْ تُؤْمِنُوا) أي: بأن تؤمنوا (بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) من الأوطان (جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي) جواب الشرط ما يدل عليه لا تتخذوا (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) مثل تلقون إليهم بالمودة، والجملة استئناف، كأنه قيل: لم لا نتخذ؟ فقيل تسرون إلى آخره، يعني توادونهم سرًّا، وأنا مطلع على سركم ومطلع عليه رسولي، فلا طائل (وَأَنَا أَعْلَمُ) منكم (بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ) أي: الاتخاذ (مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) طريق الصواب (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) يظفروا بكم ويغلبوكم (يَكُونُوا لَكمْ أَعدَاء) ولا ينفعكم إلقاء المودة (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ) كالقتل والضرب والشتم (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) تمنوا ارتدادكم ولو للتمني، يعني(4/298)
لا توادوهم فإنهم معكم في غاية العداوة (لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ) قراباتكم (وَلَا أَوْلَادُكُمْ) الكفار (يوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) فيدخل المؤمن الجنة والكافر النار، أو لا ينفعكم إلا طاعة الله لا الأقارب والأولاد، فإنه يوم يفرق بينكم؛ بأن يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) أي فيهم خصلة من حقها أن يؤتسى بها، ويتبع (إِذْ قَالُوا) ظرف لخبر كان (لِقَوْمِهِمْ) الكفار (إِنَّا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ) بدينكم ومعبودكم (وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) فإنه حينئذ ينقلب العداوة والبغضاء موالاة ومحبة (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي لكم فيه خصلة من حقها الاتباع إلا هذا قال تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ)، إلى قوله (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة: 113 - 114]، (وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) من تمام قوله لأبيه (رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا) من تمام الأسوة الحسنة (وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(4/299)
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب آخر فيقولوا لو كانوا على الحق ما أصابهم ذلك فيفتنوا أو لا تسلطهم علينا فيفتنونا (وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) كرر لمزيد الحث والتأكيد ولهذا صدره بالقسم وجعل قوله: (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) بدل بعض من لكم وعقبه بقوله: (وَمَن يَتَوَلَّ) عن الاقتداء ويتولَّ الكفار (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فلا يضر الله بل لا يضر إلا نفسه.
* * *
(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ(4/300)
وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
* * *
(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ) أي مشركي مكة (مَوَدَّةً) بأن يهديهم فألف بين قلوبكم (وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لما فرط منكم من الموالاة ومنهم حين الكفر (لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الذِينَ) أي عن الإحسان إلى الكفرة الذين (لَمْ يُقَاتِلُوكُم فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَروهُمْ) بدل اشتمال من الذين (وتُقسِطُوا إِلَيْهِمْ) تفضوا إليهم بالعدل (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) نزلت حين جاءت أم أسماء بنت أبي بكر بهدايا فأبت أسماء أن تقبل وأن تدخل بيتها؛ لأن أمها مشركة (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا) اتفقوا وأعانوا (عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) بدل من الذين (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا(4/301)
جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) كان النبي عليه السلام يحلفهن أنهن ما خرجن إلا لحب الإسلام لا لفرار من أزواجهن ولا لعشق أحد (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ) بظهور الأمارات وسماه علما ليعلم أن الظن الغالب في مثل هذا المقام كالعلم (فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) لأن المسلمة لا تحل للكافر وفي العبارة تأكيد ومبالغة لا يخفى ومنه علم أنه حصلت الفرقة ولا يجوز استئناف النكاح (وَآتُوهُم) أي: أزواجهن الكفار (مَّا أَنفَقُوا) عليهن من المهر (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ) فإن الإسلام أبطل الزوجية (إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) مهورهن هذا القيد ليعلم أن ما أعطى أزواجهن لا يقوم مقام مهرهن بل لابد من إصداق، وقد تقدم أن صلح الحديبية على أن من جاءنا منكم رددناه إليكم فهذه الآية مخصصة لعهدهم نقض الله العهد بينهم في النساء خاصة، وقد كان في ابتداء الإسلام جائز أن يتزوج المشرك مؤمنة، وهذه الآية ناسخة، والأكثرون على أنها متى انقضت العدة ولم يسلم الزوج انفسخ نكاحها(4/302)
منه، ويحكم بالانفساخ من حين إسلامها (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) جمع عصمة أى: ما اعتصم به من عقد ونسب، والكوافر جمع كافرة، هذا التحريم من الله على المؤمنين نكاح المشركات والاستمرار معهن أيضًا ولذلك لما نزل طلق عمر رضي الله عنه امرأتين مشركتين له بمكة (وَاسْأَلُوا) أيها المؤمنون من الكفار (مَا أَنْفَقْتُمْ) من صداق نسائكم اللاحقات بالكفار (وَلْيَسْأَلُوا) أي: المشركون (مَا أَنْفَقُوا) من صداق المهاجرات، أمر المؤمنين بأن يكون العهد بينكم كذا فتطالبوهم بصداق المرتدات ويطالبوكم بصداق المهاجرات المؤمنات (ذلكُمْ حُكْمُ اللهِ) إشارة إلى جميع ما ذكر فى الآية (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) استئناف (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكيمٌ) والأمر برد الصداق إلى الكفار لأجل العهد وإلا لم يجب (وَإن فَاتَكُمْ) انفلت منكم (شيْء مَنْ أَزْوَاجِكُمْ) أحد منها أي: من كانت (إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ) جاءت نوبتكم من العقبة وهي النوبة أو أصبتم من الكفار العقبى أي: الغنيمة وعليه كلام الأكثرين والحديث يؤيده (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ) إلى الكفار (مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) مما في ذمتكم من مهر المهاجرات، أو من مال الغنيمة تزلت حين نزلت الآية المتقدمة وأبى المشركون أن يؤدوا مهر الكوافر، وحاصله: إن لم يؤدوا مهر المرتدة المنفلتة منكم فلا تؤدوا أنتم أيضًا إلى الكفار مهر المهاجرة المنفلتة منهم، حين جاءت نوبتكم، بل أعطوا زوج المرتدة منكم مثل مهرها، مما في ذمتكم من مهر المهاجرات، أو أعطوا زوجها مثل مهرها من مال الغميمة (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ(4/303)
الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا) عن بعض السلف أنها نزلت في يوم الفتح، وكلام الأكثرين على أنها قبل الفتح (وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ) فإن وأد البنات من شكيمتهن (وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ) بأن تلتقط مولودًا وتقول لزوجها: هذا منك، فإن الولد إذا وضعت سقط بين يديها ورجليها (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) وهو لا يأمر إلا بالمعروف، لكن قيد به للتنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق، ولو فرض أنه رسول - الله صلى الله عليه وسلم - في معصية الخالق (فَبَايِعْهُنَّ) هو العامل في إذا جاءك (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) نهي عن موالاة الكافرين مطلقًا أو اليهود منهم في آخر السورة، كما نهى في أولها (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) لإنكارهم الحشر ولعلمهم بأنَّهم على الضلال فإن اليهود من المعاندين (كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ) الأحياء (مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) أي: من الاجتماع مع الأموات فإنهم منكرو الحشر، أو كما يئس الكفار الذين هم أصحاب القبور من كل خير؛ لأنهم علموا شقاوتهم.
اللهم لا تجعلنا في زمرتهم.
* * *(4/304)
سورة الصف مكية
وَهِي أربع عَشْرة آيةَ، وفيهَا ركوعَانِ
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(سَبَّحَ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
* * *
(سَبَّحَ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قد مَرَّ مِرَارًا تفسيره (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ) حذف ألف ما الاستفهامية إذا كانت مع حرف الجر أكثر من إثباتها (تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا) المقت أشد البغض منصوب(4/305)
بالتمييز (عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا) فاعل كبر (مَا لَا تَفْعَلُونَ) في هذا الأسلوب من الكلام ما لا يخفى من المبالغة نزلت في جماعة قالوا: لوددنا أن الله دلنا على أحب الأعمال إليه، فنعمل به. فأخبر الله نبيه أنه الجهاد، فلما فرض نكل عنه بعضهم، وكرهوا، أو نزلت لما التمسوا الجهاد فابتلوا به، فولوا يوم أحد مدبرين، أو في قوم قالوا: قاتَلْنا طعنّا ضرَبّنا صَبرنا، وهم كاذبون، أو في المنافقين يعدون نصر المؤمنين ولا يفون، وعلى أي ففيه وعيد شديد لمخلف الوعد والعهد (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) مصطفين (كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) قد رص بعضه ببعض فليس فيه فرجة حال من ضمير صفا (وَإِذْ قَالَ مُوسَى) أي اذكر للتسلية (لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) لظهور المعجزات (فَلَمَّا زَاغُوا) صرفوا عن الحق مع علمهم (أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن الهدى وأسكنها الشك والحيرة (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) أي: من سبق في علمه أنه فاسق (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا) منصوب بما في الرسول من معنى الإرسال أي: أرسلت في حال تصديقي وتبشيري (بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ(4/306)
أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَات قَالُوا هَذَا) إشارة إلى ما جاء به (سِحْرٌ مبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ) أي: لا أحد أظلم ممن افترى على الله حال كونه مدعوًّا بلسان نبيه إلى سعادة الدارين وهي الإسلام (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا) أصله أن يطفئوا فزيدت اللام تأكيدًا لمعنى الإرادة كما في لا أبا لك تأكيدًا لمعنى الإضافة (نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) إتمامه (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى) بالقرآن والمعجزة (وَدِينِ الْحَقِّ لِيظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلهِ) ليعلي دين الحق على سائر الأديان أو رسوله على أهل الأديان (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشركُونَ) قد فسرنا الآيتين في سورة براءة.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى(4/307)
تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) عذاب الله مطلقًا (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) استئناف مبين للتجارة فإنَّهم قالوا: دلنا يا رب (ذَلِكُمْ) أي الإيمان والجهاد (خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لستم جاهلين (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) جواب للأمر المذكور بلفظ الخبر للمبالغة قيل: جواب للشرط أي: إن تؤمنوا وتجاهدوا يغفر لكم والجنة العدن قد مرَّ (وأخْرَى) أي: ولكم نعمة أخرى (تُحِبُّونَهَا) فإن أمور العاجل محبوبة إلى النفوس (نَصْرٌ مَنَ اللهِ) بدل أو بيان (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) عاجل (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) يا محمد بثواب الدارين عطف على تؤمنون؛ لأنه بمعني آمنوا فإن قوله: " يا أيها الذين آمنوا " متناول للنبي عليه السلام وأمته فقد دل على تجارته وتجارتهم، أو يكون جوابًا للسؤال وزيادة، كأنهم قالوا: دلنا يا ربنا، فقيل: آمنوا؛ يكن لكم كذا، وبشرهم يا محمد [بثوابه]، وقيل: عطف على محذوف، أي: قل يا أيها الذين آمنوا، وبشر أو أبشر وبشر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ(4/308)
لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إلَى اللهِ) أي: من جندي متوجهًا إلى نصرة الله (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ) يعني كونوا أنصاره، مثل كون الحواريين أنصار الله وقت قول عيسى: من أنصاري إلى الله، فما مصدرية، وهي مع صلتها ظرف، وهو كقولهم: ما رأيت رجلاً كاليوم. أي: كرجل رأيته اليوم. حذف الموصوف مع صفته، واكتفى بالظرف عنهما، وهذا من توسعاتهم في الظروف، وقيل تقديره: قل لهم كما قال عيسى (فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) بعيسى (وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ) (لدنا الَّذِي) بالغلبة والاستيلاء (فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) غالبين وذلك بعد رفع عيسى ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال السلف: لم يزل دين عيسى طامسًا، حتى بعث الله محمدًا، فآمن المؤمنون بعيسى وبمحمد عليهما الصلاة والسلام، فصاروا ظاهرين إلى آخر الأمر، فيقاتل المسيح الدجال.
والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *(4/309)
سورة الجمعة مكية
وَهِى إِحْدىَ عَشرة آية، وَفيهَا ركوعَانِ
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(يُسَبِّحُ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لله مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
* * *
(يُسَبِّحُ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) العرب فإن أكثرهم لا يقرءون ولا يكتبون (رَسُولًا مِنْهُمْ (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) مع أنه أمي أيضًا (وَيُزَكِّيهِمْ) من العقائد الرديَّة والأعمال(4/310)
القبيحة (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) القرآن (وَالْحِكْمَةَ) السنة (وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مبِينٍ) لأنهم مشركون وإن هي المخففة بدلالة اللام (وَآخَرِينَ مِنْهمْ) عطف على الأميين وهم من جاءوا بعد قرنه إلى يوم الدين وكل من أسلم صار منهم فإن المسلمين كلهم أمة واحدة، أو المراد أهل فارس ومنهم صفة الآخرين لأن أول وآخر لا يستعمل بمن مع أن الجمع من أفعل التفضيل مطلقًا لا يستعمل بمن (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) لم يدركوهم فإنهم بعدهم قيل: لم يلحقوا بهم في الفضل (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذلِكَ) الذي أعطاه من النبوة العظيمة وما خص به أمته (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ) علموها وكلفوا العمل بها (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا) لم يعملوا ولم ينتفعوا بها (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) كتبًا كبارًا أو يحمل إما حال والعامل معنى المثل، أو صفة؛ لأن التعريف في الحمار للجنس (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ) حذف المضاف من المخصوص، أي: مثل الذين، أو المخصوص محذوف أي مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله هو(4/311)
والضمير إلى مثل الذين حملوا (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لله مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) قد ذكرنا في سورة البقرة وجهين في معناه (وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بسبب ذنوبهم وعلمهم بها (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) فيجازيهم (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) وتخافون المباهلة لأجله أو تخافون أن تتمنوه باللسان (فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) لا محالة والفاء لتضمن الذي معنى الشرط والجملة خبر إن (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) السر والعلانية (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بأن يجازيكم عليه.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ) أذن لها عند قعود الإمام على المنبر (مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ) من بيان وتفسير لإذا وقيل: بمعنى في (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ(4/312)
اللهِ) أي: اهتموا في سيركم إليها كي لا يفوت منكم وليس المراد هاهنا المشي السريع ففى الصحيحين " إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا " (وَذَرُوا الْبَيْعَ) المعاملة فإنها حرام (ذَلِكمْ) السعي إليه (خَيْرٌ لكمْ) من المعاملة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إن كنتم من أهل العلم (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ) فرغتم منها (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) لقضاء حوائجكم (وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ) رزقه وهذا أمر إباحة بعد الحظر عن بعض السلف من(4/313)
باع واشترى بعد الجمعة بارك الله له سبعين مرة (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا) في حال انتشاركم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا) نزلت حين قدمت عير المدينة أيام الغلاء والنبي عليه السلام يخطب فلما سمع الناس الطبل لقدومها انصرفوا إليها إلا اثني عشر رجلاً، قيل: تقديره إليها وإليه فحذف إليه للقرينة وقيل: أفرد التجارة لأنها المقصودة إذ المراد من اللهو طبل قدوم العير (وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) في الخطة وكان ذلك في أوائل وجوب الجمعة حين كانت الصلاة قبل الخطبة مثل العيد كما روى أبو داود في كتاب المراسيل (قُلْ مَا عِندَ اللهِ) من الثواب (خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لمن توكل عليه، فلا تتركوا ذكر الله في وقته.
والحمد لله حقَّ حمده.
* * *(4/314)
سورة الْمُنَافِقُونَ مدنية
وَهِيَ إِحْدى عشرة آية وَفيهَا ركوعانِ
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلله خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
* * *
(إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) أي: عند أنفسهم، وهذا هو الكذب الشرعي اللاحق به الذم، ولذلك لا ينسبون المجتهدين إلى الكذب، وإن نسبوا إلى الخطأ، أو لأنَّ(4/315)
الشهادة هو ما وافق فيه اللسان والقلب وشهادة الزور كإطلاق البيع على الفاسد تجوزًا، أو لأن الشهادة يفهم منها عرفًا المواطأة، كيف لا وقد أكده بـ إن واللام (اتخذُوا أَيْمَانَهُمْ) حلفهم الكاذب (جُنَّةً) وقاية عن المضرة (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) جاز أن يكون الصد متعديًا ولازمًا (إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ذلِكَ) النفاق والكذب (بِأَنَّهُمْ آمنوا) بلسانهم (ثُمَّ كَفَرُوا) بقلوبهم أو ظاهرا ثم كفروا سرًّا أو حين رأوا آية (فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) ثم كفروا فاستحكموا في الكفر (فهُمْ لَا يَفْقَهُون) صحة الإيمان وحقيقته أو لا يفقهون أنَّهم طبع على قلوبهم ويحسبون أنَّهم على الحق (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ) فإنهم أشكال حسنة (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لفصاحتهم (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) أي: تسمع لما يقولون مشبهين بأخشاب منصوبة إلى حائط في الخلو عن الفهم والنفع، فإن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو غيره من مظان الانتفاع، وما دام متروكًا أسند إلى الحائط فلا ينتفع به (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيهمْ) أي: واقعة عليهم لجبنهم فهم أجسام لا قلوب لهم، أو لأنهم على وجل من أن ينزل الله أمرًا يهتك أستارهم (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) لا تأمنهم (قَاتَلَهُمُ اللهُ) دعاء عليهم وطلب من ذاته أن يلعنهم، أو تعليم للمؤمنين (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يصرفون عن الهدى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ) أمالوها إعراضًا ورغبة عن الاستغفار (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) يعرضون (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) أي: استغفارك وعدمه سواء عليهم، بأن لا يلتفتوا إليه (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) لأن الله لا يغفر لهم لشقاوتهم (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) في الأزل وفي علم الله (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ) للأنصار (لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) يتفرقوا(4/316)
(وَلله خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) بيده الأرزاق فهو الرزاق لهم لا الأنصار (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا) من المدينة (الْأَذَلَّ) جرى بين بعض المهاجرين وابن سلول جدال في غزوة بني المصطلق، فقال لعنه الله ما قال، وأراد من الأعز نفسه، ومن الأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبارك عليه، ثم قال: لا تنفقوا على المهاجرين يا جماعة الأنصار حتى ينفضوا. فلما سمع عليه السلام مقالته، جاء وحلف بأنه كذبٌ وَصَلَ إليك، فنزلت " إذا جاءك المنافقون " الآية. فقيل لابن سلول: قد نزل فيك آي شداد، فاذهب إليه لعله يستغفر لك، فلوى رأسه. فقال: أمرتموني بالإيمان فآمنت، ثم بالزكاة فأعطيت، فما بقي إلا أن أسجد له (وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ).
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ(4/317)
وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ) لا تشغلكم (أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) الصلوات الخمس وسائر العبادات والمراد نهيهم عن اللهو بها (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ) أي الشغل بالدنيا عن الدين (فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ولا تسمعوا قول المنافقين لا تنفقوا على من عند رسول الله (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا) هلا (أَخَّرْتَنِي) أمهلتني (إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) مدة أخرى يسيرة (فَأَصَّدَّقَ) أتصدق (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) بالتدارك وكل مفرط يندم عند الاحتضار ويسأل الإمهال، للتدارك وقراءة أكن عطف على محل (فَأَصَّدَّقَ)؛ فإن موضع الفاء مع الفعل جزم بخلاف أكون فإنه عطف على ما بعد الفاء (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) فَمُجَازٍ عليه.
* * *(4/318)
سورة التَّغَابُنِ مُختلَف فيهَا
وآياتها ثماني عشرة، وفيها ركوعان
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(يُسَبِّحُ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
* * *
(يُسَبِّحُ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ) مقدر كفره (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) مقدر(4/319)
إيمانه ومثله في الإجمال والتفصيل قوله: (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) الآية. (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيعاملكمِ بما يناسبه (خَلَق السَّمَاواتِ وَالْأَرْص بِالْحَقِّ) بالحكمة (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَركُمْ) من بين ما خلق فيهما وفيه إشارة إلى أن الغرض من خلقهما الإنسان (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فأحسنوا السرائر (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) فلا يخفى عليه شيء من الأشياء السماوية ولا الأرضية ولا النفسية (أَلَمْ يَأتِكُمْ) أيها الكفار (نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) الأمم السالفة (فذَاقُوا وَبَال أَمْرِهِمْ) ضرر كفرهم وهو أنواع العقوبات التي حلَّت عليهم في الدنيا (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذَابٌ أَلِيمٌ ذَلِكَ) العذابان (بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا) على سبيل الإنكار: (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا) والبشر يطلق على الجمع أيضًا (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا) أعرضوا عن آيات الله (وَاسْتَغْنَى اللهُ) عن طاعتهم (وَاللهُ غَنِيٌّ) عن كل شيء (حَمِيدٌ) يَدُل على حمده كل مخلوق (زَعَمَ الذِينَ كَفَرُوا أَن لن يُبْعَثُوا قُلْ) يا محمد: (بَلَى) تبعثون (وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ) بالمجازاة (وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) لقدرته الشاملة (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا) القرآن (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فلا يضيع عنده عمل عامل (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ) ظرف لـ لَتُنَبَّؤُنَّ أو مقدر بـ اذكر (ليَوْمِ الْجَمْعِ) لأجل ما في يوم الجمع جمع الملائكة والثقلين (ذلِك يَوْمُ التَّغَابنِ) تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ، يظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان، وكل مؤمن بتقصيره في الإحسان (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ(4/320)
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) ملازموها (خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) النار.
* * *
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
* * *
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بإرادته (وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ) اللهُ (قَلْبَهُ) لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فيسلم لقضائه ويسترجع (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَأَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) فلا عليه (فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) لأن عليه التبليغ وقد بلغ (اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) لأن الله هو النافع الضار وحده والمؤمنون يؤمنون بأن لا إله إلا هو (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ) أي: بعضهم (وَأَوْلَادِكُمْ(4/321)
عَدُوًّا لَكُمْ) يشغلكم عما ينفعكم (فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا) عن ذنوبهم (وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا) بإخفاء معايبهم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيغفر لكم ويتفضل أو فيغفر لهم ما فرط عنهم من شغلكم عن الله. نزلت حين أراد الهجرة بعض من آمن بمكة فمنعهم أهلهم وقالوا: صبرنا على إسلامكم ولا نصبر على هجركم فتركوا الهجرة حينئذ فلما أتوا المسلمين رأوهم قد فقهوا في الدين فهمُّوا عقاب أهلهم (إِنَّمَا أمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) اختبار لكم يعني بعضهم أعداء لكن كلها اختبار يبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدود الله (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لمن صبر على حدود الله فيهم، أو معناه ليس الأموال، ولا الأولاد إلا بلاء ومحنة، والأجر العظيم هو ما عند الله، فأغمضوا عن محبتهم، واطمعوا فيما عند الله (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعتُمْ) أي: جهدكم وطاقتكم، وعن كثير من السلف أنه لما نزلت (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) [آل عمران: 102] اشتد عليهم العمل، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرحت جباههم،(4/322)
فأنزل الله قوله: (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) تخفيفًا فيكون ناسخة لما في آل عمران (واسْمَعُوا) مواعظه (وَأَطِيعُوا) أوامره (وَأَنفِقُوا) في مصارف الخير (خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ) تقديره ائتوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ فهو كالفذلكة للأوامر السابقة، أو تقديره يكن خيرًا فيكن جوابًا للأوامر ومعناه أنفقوا لأنفسكم خيرًا من أموالكم (وَمَن يُوقَ) وقاه الله (شُحَّ) حرص (نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إِن تُقْرِضُوا اللهَ) بصرف المال فيما أمر (قَرْضًا حَسَنًا) من مال حلال بإخلاص (يُضَاعِفْهُ لَكُمْ) أي أجره أضعافًا كثيرة (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ) يعطي الجزيل بالقليل (حلِيمٌ) فيقبل ولا يرد ويصفح ويتجاوز عن الذنوب (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *(4/323)
سورة الطلاق مدنية
وَهِى إِحْدى عَشرة أَوِ اثنتا عَشرة آية، وفيهَا ركوعَانِ
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لله ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو(4/324)
سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) أي أردتم تطليقهن خصه عليه السلام بالنداء، وعم الخطاب، لأنه إمام أمته، فنداؤه نداؤهم، أو لأن الكلام معه والحكم يعمهم (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أي: وقتها، وهو الطهر، أي: لطهرهن الذي يحصينه من عدتهن، وعن أكثر السلف أنه الطهر الذي لم يجامعها فيه، فطلاق السنة أن يطلقها طاهرًا من غير جماع في ذلك الطهر، والبدعي أن يطلقها في الحيض أو في طهر قد جامعها فيه. نزلت حين طلق عليه السلام حفصة فقيل له: " راجعها فإما صوامة قوامة، وهي من أزواجك في الجنة "، وطلق ابن عمر امرأته حائضًا فقال عليه السلام: " ليراجعها "، وقال: " إذا طهرت فليطلق أو يمسك " وقرأ الآية (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) اضبطوها ابتداءها وانتهاءها للعلم ببقاء زمن الرجعة ولغير ذلك (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) في ذلك (لَا تُخْرِجُوهُن مِن بُيُوتِهِنَّ) البيوت التي سكن فيها حتى تنقضي عدتهن (وَلَا يَخرُجْنَ) من بيوت كُنَ فيها عند الفراق في مدة العدة فإن خرجت أثمت (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) استثناء من الأول والفاحشة الزنا فإنها تخرج لإقامة الحد أو إلا أن تَبْذُوَ على(4/325)
أهل الزوج وآذتهم في الكلام والفعال لأنها كالنشوز في إسقاط الحق (وَتِلْكَ) الأحكام المذكورة (حُدُودُ اللهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) فإنه عرضها للعقاب (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ) أي الطلاق (أَمْرًا) وهو أن يقلب قلبه من الرغبة عنها فيندم يعني أمرنا بعدم إخراجها مدة العدة لأنه ربما يندم، ومن ذلك ذهب كثير من السلف ومن تابعهم كالإمام أحمد إلى أنه لا يجب السكنى للبائنة وكذا المتوفاة عنها، وبعض الأحاديث يدل على مذهبه صريحًا (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) قاربن انقضاء العدة (فَأَمْسِكُوهُنَّ) بالرجعة (بِمَعْرُوفٍ) بالإحسان إليها (أَوْ فَارِقُوهُنَّ) اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فتقع المفارقة الكلية والبينونة (بِمَعْرُوفٍ) من غير مقابحة ولا مشاتمة ولا تعنيف (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) على الرجعة والفراق وهو أمر ندب عند بعض كأشهدوا إذا تبايعتم (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ) أيها الشهود عند الحاجة (لله) خالصًا لوجهه (ذَلِكُمْ) جميع ما في الآية (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ) مفعول يوعظ (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) من كل مكروه(4/326)
(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسبُ) وعن ابن عباس والضحاك وغيرهما: مَنْ طَلَّق وراجع كما أمره الله، جعل اللهُ له من الكرب -سيما عند الموت- مخرجًا، ورزقه من حيث لا يرجو، وأكثر العلماء على أنها نزلت حين جاء صحابي أُسِرَ ابنه، وشكا إليه عليه السلام هذا والفاقة. فقال عليه السلام: " اتق واصبر، وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله "، ففعل الرجل إذ جاء ابنه بإبل وغنم، وعن بعض إن فيها تسلية ووصية للنساء عند الفراق، فإنهن مضطرات غالبًا للغيرة والاحتياج والعجز (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) كافيه (إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) يبلغ ما يريد لا يعجزه مطلوب فهو منفذ أمره (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) تقديرًا [وتوقيتًا] فتوكلوا عليه (وَاللَّائِي يَئِسْنَ) للكبر (مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ) إن أشكل عليكم حكمهن (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ) أي: فهذا حكمهن (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) بعد كذلك وهن الصغائر
__________
(1) في الأصل [وتوفيقا] اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(4/327)
(وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ) مطلقة أو متوفى عنها زوجها للحديث الصحيح الصريح (أَجَلُهُنَّ) منتهى عدتهن (أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) وقد روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما: إن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها أبعد الأجلين، عملاً بهذه الآية والتي في سورة البقرة (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) الآية [البقرة: 240] (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) في أحكامه (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) آتاه اليسر في أموره (ذَلِكَ) الإحكام (أَمْرُ اللهِ أَنزَلَه إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللًّهَ) فيه (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) بالمضاعفة (أَسْكِنُوهُنَّ) المطلقات (مِنْ حَيثُ سَكَنتُم) أي بعض مكان سكنتم (مِّن وُجْدِكُمْ) وسعكم وطاقتكم عطف بيان لقوله من حيث سكنتم كأنه قال أسكنوهن مكانًا من مسكنكم ما تطيقونه (وَلَا تُضَاروهُنَّ) في السكنى (لتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) حتى تضطروهن إلى الخروج، وعن بعض هو أن يطلقها فإذا بقي يومان يراجعها ليضيق عليها أمرها (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) عن كثير من السلف هذه من البوائن، أَنفق عليها إن كانت حاملاً حتى تضع، بدليل أن الرجعية تجب نفقتها حاملاً أو حائلاً. وقال آخرون: نص على الإنفاق على الحامل الرجعية؛ لأن السياق كله في الرجعيات؛ لأن الحمل ربما يطول مدته، فيتوهم أنه تجب النفقة بمقدار مدة عدة الحامل (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) وهن طوالق (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) على الإرضاع (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ) ليأمر بعضكم بعضًا (بِمَعْرُوفٍ) بجميل في الإرضاع والأجر (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ) تضايقتم (فَسَتُرْضِعُ لَهُ) للصبي مرضعة (أُخْرَى) سوى أمه ولا تكرهوا أمه على الإرضاع (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) على مرضعة ولده (وَمَنْ قُدِرَ) ضيق (عَلَيْهِ(4/328)
رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ) على قدر ذلك (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا) في النفقة (إِلَّا مَا آتَاهَا) قدر ما أعطاها من المال (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) تطيب لقلب المعسر، ووعد له باليسر، لما ذكر الأحكام وأخبر عما حل بالأمم السالفة بسبب مخالفة أوامره ونواهيه فقال:
* * *
(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
* * *
(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) وكم من أهل قرية (عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا) تمردت واستكبرت عن اتباع أمر الله (وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا) حاسبها بعملها فى الدنيا، وأثبتها في صحائف الحفظة (وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا) منكرًا، وهو ما أصيبوا به من أنواع المصائب، أو المراد بالحساب والعذاب في الآخرة، والتعبير بلفظ الماضي لتحققه (فَذَاقَتْ) القرية (وَبَالَ أَمْرِهَا) عقوبة معاصيها (وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا) لا ربح فيها أصلاً (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) على التوجيه الثاني تكرير(4/329)
للوعيد (فَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة أمره لكي لا يصيبكم مثل ما أصابهم (يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا) بدل من أُولِي الْأَلْبَابِ أو صفة أو منادى بحذف يا أيها للقرينة (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا) القرآن (رَسُولًا) بدل اشتمال؛ لأنه مبلغه، وموصوف بتلاوة الآيات أو الذكر الشريف، فالبدل بدل الكل، كأنه في نفسه شرف، فالمراد من الإنزال الإرسال، إلا أن يقال: المراد من الرسول جبريل، أو تقديره أرسل رسولاً، فيكون استئنافًا (يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ ليُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِِ) أي: من هو في علم الله مؤمن (مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) من الضلالة إلى الهدى أو ليحصل لهم ما عليهم الآن من الإيمان والعمل الصالح (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقًا) وهو ما أعد للمتقين في الآخرة (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) أخبر عن عظيم سلطانه؛ ليكون باعثًا على تعظيم ما شرع (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) في العدد (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) أي أمر الله وحكمه، ففي كل أرض من(4/330)
أرضه، وسماء من سمائه خلق من خلقه، وقضاء من قضائه (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ) علة الخلق (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم، وكفركم تكذيبكم بها.
اللهم علمنا حقائق القرآن آمين.
* * *(4/331)
سورة التحريم مدنية
وَهِي اثنتا عَشْرة آية، وفيهَا ركوعَانِ
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ) من العسل، ففى الصحيحين وغيرهما، عن عائشة أنه عليه السلام كان يمكث عند زينب، ويشرب عسلاً، فتواطئتُ أنا(4/332)
وحفصة، أنا نقول له: نجد منك ريح مغافير، فدخل على أحدهما. فقالت له ذلك، فقال: " لا بل شربت عسلاً عند زينب، ولن أعود له، وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدًا "، وكان يبتغي بذلك مرضاة أزواجه، فنزلت. ومغافير: شبيه بالصمغ، لها رائحة كريهة (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) مستأنفة أو حال (وَاللهُ غَفُورٌ رحِيمٌ) فلم يؤاخذك بما صدر منك (1) وقد روي أنه عليه السلام أصاب أم إبراهيم في بيت حفصة فعلمت فقالت: أي رسول الله في بيني وعلى فراشي، فحرَّمها على نفسه، وقال: " واللهِ لا أطؤها، ولا تذكري ذلك لأحد "، فذكرته لعائشة، فعوتب في التحريم، وأمر بالكفارة في اليمين، ذكره كثير من السلف (قَدْ فرَضَ) شرع (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) تحليلها بالكفَّارة وهي ما ذكر في سورة المائدة (وَاللهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) فلا يأمركم إلا بما هو صلاحكم (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ) منصوب بـ اذكر (إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ) حفصة (حَدِيثًا) تحريم العسل أو مارية (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أخبرت حفصةُ بالحديث عائشةَ (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) أطلع الله نبيه على إنبائها (عَرَّفَ بَعْضَهُ) أي عرف عليه السلام حفصة بعض ما فعلت (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ)
__________
(1) عبارة فيها سوء أدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكأنه - صلى الله عليه وسلم - ارتكب أمرًا عظيمًا. فالأولى الوقوف عند حدِّ الأدب - خصوصًا إذا تعلق الأمر برسول الله - صلى الله عليه وسلم. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(4/333)
ولم يعرفها بعضها على وجه التكرم. عن الحسن ما استقصى كريم قط، أو جازيها على بعضه بتطليقها، أو إرادة تطليقها، وتجاوز عن بعض، وعن بعض أسر إليها شيئين تحريم الأمة، وتبشيرها بأن الخلافة بعده في أبي بكر وعمر، فأخبرها ببعض ما أفشت، وهو تحريم الأمة، وأعرض عن ذكر الخلافة؛ كراهة الانتشار (فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ) حفصة (مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا) أي: إني قلت لأحد (قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ إِنْ تَتُوبَا) يا حفصة وعائشة (إِلَى اللهِ) خطاب لهما من الله (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) أي: إن تتوبا فقد حق لكما ذلك، فإنه قد عدلت عن الحق قلوبكما، وصدر منكما ما يوجب التوبة (وَإِنْ تَظَاهَرَا) تعاونا (عَلَيْهِ) فيما يسوءه (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) فلم يعدم هو من يظاهره من الله، وجبريل رأس الكروبيين، وصلحاء المؤمنين، فيكون جبريل عطف على محل اسم إن (وَالْمَلَائِكَةُ) أجمعون (بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) متظاهرون، جملة مستقلة معطوفة على جملة " فإن الله هو مولاه " الآية (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) عن عمر - رضى الله عنه - اجتمع - في الغيرة عليه السلام - نساؤه، فقلت: عسى ربه إن طلقكن، أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن، فنزلت هذه الآية (مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ) منقادات (قَانِتَاتٍ) مواظبات على الطاعات (تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ) قيل معناه: متذللات لأمر الرسول عليه السلام (سَائِحَاتٍ) صائمات، وفي الحديث: " سياحة هذه الأمة(4/334)
الصيام ". أو مهاجرات (ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) وسط العاطف بينهما لتنافيهما (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ) بترك المعاصي (وَأَهْلِيكُمْ) بالنصح والتأديب (نارًا وَقودُهَا) ما يوقد بها (النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) حجارة من كبريت؛ فإنها أشد وأنتن، أو حجارة الأصنام (عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ) هي خزنة النار (غِلَاظٌ شِدَادٌ) ليس في قلوبهم مثقال ذرة من الرحمة والشفقة، ومنظرهم مزعج (لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ) فيما مضى، وما أمرهم بدل من لفظ الله (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) فيما يستقبل، أو لا يمتنعون ويفعلون، فإن عدم الامتناع لا يدل على الفعل، فإنه ربما لا يقدر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يقال لهم ذلك (لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ(4/335)
الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) وصفت التوبة بالنصح بالمجاز وهو فى الحقيقة صفة التائب، فإنه ينصح نفسه بالتوبة، أو معناه خالصة، يقال: ناصح، أي خالص من الشمع، أو توبة تنصح، وتخيط ما خرق الذنب، وهي ترك الذنب، والعزم على عدم العود والندم، ثم إن كان الحق لآدمي رده. وعن الحسن هو أن تبغض الذنب كما أحببته، وتستغفر منه إذا ذكرته، وعن بعض المحققين أن عدم المؤاخذة بالذنب الذي تاب منه إذا لم يعد إليه فإذا عاد إليه فقد يؤاخذ به وفي الحديث الصحيح: " من أحسن في الإسلام، لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء فيه أخذ بالأول والآخر " (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) فيه إشعار بأن العبد ينبغي أن يكون بين الخوف والرجاء، وأنه تفضل لا يجب عليه شيء (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ) ظرف ليدخلكم (وَالَّذِينَ آمَنُوا(4/336)
مَعَهُ) عطف على النبي، أو مبتدأ خبره قوله: (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) على الصراط، يقولون حين يرون أن نور المنافقين قد طفئ (يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ) بالسيف (وَالْمُنَافِقِينَ) بالحجة وإقامة الحدود (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) جهنم (ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ) أي جعل امرأة نوح وامرأة لوط مثلاً لهم، أو مثل لهم مثلاً مثل امرأة نوح في أن قرابة أحد وإن كان نبيًّا لا ينفع مع الكفر، قيل: هذا تخويف لعائشة وحفصة (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا) بإظهار الإيمان مع إسرار الكفر لا بالفاحشة (فَلَمْ يُغْنِيَا) النبيَّان (عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا) من الإغناء (وَقِيلَ) لهما يوم القيامة (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) مع سائر الكفرة (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) في أن وصلة الكافر أي كافر كان لا تضر مع(4/337)
الإيمان (إِذْ قَالَتْ) بدل من امرأة فرعون (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ) من نفسه (وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) نقل أنه لما تبين لفرعون إسلامها أوتد لها فشد يديها ورجليها. فقالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا، فأبصرت بيتها في الجنة فضحكت فقال: ألا تعجبون من جنونها، فقبض الله روحها رضي الله عنها (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ) عطف على امرأة فرعون (الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) صانته (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) أي بواسطة جبريل كما مر في سورة الأنبياء (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا) بما أوحى الله إلى الأنبياء (وَكُتُبِهِ) جنس الكتب المنزلة (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) من الرهط المطيعين لله؛ لأن عشيرتها أهل صلاح، أو من عداد المواظبين على الطاعة، والتذكير للتغليب، وفيه إشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال الكاملين.
والحمد لله والمنة.
* * *(4/338)
سورة الملك مكية
وهى ثلاثون آية وفيها ركوعان
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
* * *(4/339)
(تَبَارَكَ): تعظم، (الَّذِى بِيَدِه المُلْكُ): التصرف في الأمور كلها، (وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ)، اختلف العلماء هل الموت صفة وجودية مضادة للحياة كما دل عليه الآية أو هو عدم الحياة فمن قال بالثاني ذكر في تفسيرها قدَّرهما أو أوجد الحياة وأزالها، وعن بعض المراد أوجد الخلق من العدم، فسمى العدم موتًا كما قال تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) [البقرة: 28] (لِيَبْلوَكُمْ): ليعاملكم معاملة المختبر، (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا): أخلصه وأصوبه، والجملة واقعة موقع ثاني مفعولي البلوى المتضمن معنى العلم، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا): مطابقة بعضها فوق بعض، فهو إما مفعول ثان، أو صفة السماوات، (مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُت): اختلاف وعدم تناسب، والجملة إما صفة، أو حال أي: ما ترى فيها، فوضع الظاهر موضع المضمر تعظيمًا لخلقهن، (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ): في معنى التسبيب أي: قد نظرت إليها مرة فانظر إليها أخرى نظر تأمل هل ترى فيها من خلل؟ والفطور الشقوق، (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ): رجعتين أخريين، وهو كَـ لبَّيْكَ في أن المراد منه التكثير والتكرير، وفعل مثل هذا المفعول المطلق واجب الحذف إذا كان المصدر(4/340)
مضافًا نحو: سعديك ولبيك، (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا): بعيدًا عن إصابة ما يهوى، (وَهُوَ حَسِيرٌ): كليل لطول التردد، وكثرة المراجعة، (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) أي: زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح بأي مصابيح لا توازيها مصابيحكم، (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ): ولها فائدة أخرى، وهي رجم الشياطين المسترقة للسمع، وكونها مراجم أن الشهب منقضة من نار الكواكب، (وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ): في الآخرة، (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ): حهنم، (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا): طرحوا في جهنم، (سَمِعُوا لَهَا): لجهنم ولأهلها لقوله: (لهم فيها زفير) [الأنبيا: 100] (شَهِيقًا)، هو أول نهيق الحمار، وهو أقبح الأصوات، (وَهِى تَفُورُ): تغلي، (تَكَادُ(4/341)
تَمَيَّزُ): تنقطع، (مِنَ الغَيْظِ): على الكفار، (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ): جماعة، (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا): سؤال توبيخ، (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ): ينذركم من عذاب الله؟ (قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أي: كذبنا وأفرطنا في التكذيب حتى نفينا الإنزال رأسا، (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ): من تتمة كلامهم للرسل على أن المعنى قال الأفواج: قد جاء إلى كل فوج منا رسول فكذبناهم، وقلنا: ما أنتم إلا في ضلال عظيم، أو الخطاب له، ولأمثاله على التغليب، (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ): كلام الرسل، (أَوْ نَعْقِلُ): الدلائل، (مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ): في عدادهم، (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ): حين لا ينفعهم، (فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ) أي: فبعدًا لهم مفعول مطلق وجب حذف فعله، (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ): غائبين عن أعين الناس أو عن الله أو يخشون عذابه غائبًا عنهم، (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ): يستوي عنده السر والجهر لأنه عليم بضمائر الصدور قبل التكلم، فيكف لا يعلم ما تكلم به؟! (أَلاَ يعْلَمُ): قول السر، والجهر، (مَنْ خَلَقَ): الأشياء، (وَهُوَ(4/342)
اللَّطِيفُ الخَبِيرُ): المتوصل علمه إلى ما ظهر وما بطن أو ألا يعلم الله مخلوقه؟ فإن كل شيء من خلق الله.
* * *
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
* * *(4/343)
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا): لينة لكي تسيروا فيها، وتزرعوا، (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا): جوانبها، أو جبالها، (وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ): من رزق الله الذي فيها من الحبوب، والثمار، أو وطرقها معناه: فسافروا فيها حيث شئتم، واطلبوا من نعم الله بالتجارة وغيرها، (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ): المرجع فكونوا على حذر في العمل، (أَأَمِنْتُمْ مَنْ(4/344)
فِي السَّمَاءِ): ملكوته وسلطانه، (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ): فيغيبكم فيها كما(4/345)
فعل بقارون، بدل اشتمال مِنْ مَنْ، والباء للتعدية؛ لأن الخسوف لازم، (فَإِذَا هِيَ تَمُورُ): تضطرب، أي: يحركها عند الخسف حتى يلقيهم إلى أسفل، والأرض تعلو عليهم، (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا): ريحًا ذات حجارة (فَسَتَعْلَمُونَ): عند معاينة العذاب، (كَيْفَ نَذِيرِ): كيف إنذاري، ولا ينفعكم العلم، (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ): إنكاري عليهم بالعذاب، (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ): باسطات أجنحتهن، وفوقهم ظرف لـ صافات، أو حال، وصافات حال من ضميره، (وَيَقْبِضْنَ): أجنحتها بعد(4/346)
البسط وقتًا بعد وقت وعدل إلى صيغة الفعل ليعلم أن القبض طارئ غير أصيل، (مَا يُمْسِكُهُنَّ): في الجو أن يسقطن، (إِلا الرَّحْمَنُ): برحمته الواسعة، (إِنَّهُ بِكُلِّ شيْءٍ بَصِيرٌ): فمن أراد حفظه يحفظه، (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ)، أم متصلة لئلا يلزم استفهامين معادلة للقرائن التي قبلها أي: أمنتم من عذاب الله؟ ألم تعلموا أن الحافظ هو الله؟ أم لكم جند ينصركم من دون الله؟ إن أراد بكم خسفًا وإرسال حاصب، أم لكم رازق يرزقكم إن أمسك الله رزقه عنكم؟ وجاء بصورة الاستفهام إشعارًا بأنَّهم اعتقدوا أن لهم ناصرًا، ورازقًا غير الله فيسأل عن تعيينه، فهذا خبر من، والذي مع صلته صفته أو بدله، وينصركم صفة جند، وإتيان اسم الإشارة للحقارة، (بَلْ لَجُّوا): تمادوا، (فِي عُتُوٍّ): عناد، (وَنُفُورٍ): تباعد عن الحق، (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ): يقال: كببته، فأكب أي: صار ذا كب نحو: قشع الله السحاب، فأقشع أي: صار ذا قشع أي: يعثر كل ساعة، ويخر لعدم علمه بالطريق الوعر، (أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا): قائمًا لا عثور له، (عَلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ): مستو غير منحرف، وهذا تمثيل الكافر والمؤمن بالسالكين، مع أنَّهم في الآخرة كذلك، فالمؤمن يمشي على الصراط قائمًا إلى الجنة، والكافر يمشي على وجهه إلى نار جهنم، وقد صح أنه قيل: يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟! قال: " الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم "، (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ): تشكرون شكرًا قليلاً لهذه(4/347)
النعم، (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ): بثكم، ونشركم، (فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ): للجزاء، (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ) أي: الحشر، (إِن كُنتُمْ): أيها النبي، والمؤمنون، (صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ): علم وقت الحشر، (عِنْدَ اللهِِ): لا يعلمه إلا هو، (وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ): منذر، (مُبِينٌ): ولا يحتاج الإنذار إلى تعيين وقت البلاء، (فَلَمَّا رَأَوْهُ) أي: الوعد، فإنه بمعنى الموعود، (زُلْفَةً): أي: ذا زلفة، يعني لما قامت القيامة ورأو أنها كانت قريبة، (سِيئَتْ): قبحت، (وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا): بأن علتها الكآبة، (وَقِيلَ): لهم تقريعًا، (هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ): من الدُّعاء أي: تطلبون وتستعجلون به، (قُلْ): يا محمد، (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ): من المؤمنين، (أَوْ رَحِمَنَا): فأخر آجالنا، (فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ): فإنه واقع بهم لا محالة مِتْنا أو بقينا، وهذا كأنه جواب لقولهم نتربص به ريب المنون أو معناه أخبروني: إنا مع إيماننا نخاف عذابه ونرجو رحمته، فأنتم ما تصنعون مع كفركم؟! (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا): لعلمنا بأن غيره لا يتأتى منه النفع والضر، (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ): منا ومنكم، (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا): غائرًا في قعر الأرض، (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ): ظاهر تناله الأيدي، والدلاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن سورة في القرآن(4/348)
ثلاثين آية شفعت لصاحبها حتى غفر له، تبارك الذي بيده الملك " وعنه - عليه الصلاة والسلام - " لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي ".
والحمد لله الذي هدانا لهذا.
* * *(4/349)
سورة ن مكية
وهى ثنتان وخمسونَ آية وفيها ركوعَانِ
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
* * *(4/350)
(ن)، عن بعضٍ: المراد منه الحوت الذي هو حامل الأرضين السبع (1)، أو الدواة، وقد نقل إن أول شيء خلق القلم، ثم النون أي: الدواة، فقال له: اكتب ما يكون من عمل، أو رزق إلى يوم القيامة، أو لوح من نور، وفيه حديث مرسل وعلى الوجوه يكون قسمًا بحذف حرفه، (وَالْقَلَمِ): الذي خط اللوح المحفوظ، أو جنس القلم كقوله تعالى (الذي علم بالقلم) [العلق: 4]، (وَمَا يَسْطُرُون) أي: الملائكة من أعمال العباد وأحوالهم أو الأقلام أسنده إلى الآلة، وجعلها بمنزلة أولي العلم، (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ)، جواب القسم أي: ما أنت بمجنون متلبسًا بنعمة ربك حال عن المستكن فى الخبر، وقيل: متعلق بمعنى النفي أي: انتفى منك بسبب نعمته الجنون، لا كما يقول الكفرة، (وَإنَّ لَكَ لأَجْرًا): على الإبلاغ وألصبر، (غَيْرَ مَمْنُونٍ): مقطوع، (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ): لأنك تحتمل من الأذى ما لا يحتمل غيرك، (فَسَتُبْصِرُ): يا محمد، (وَيُبْصِرُون): المشركون الذين رموك بالجنون، (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ)، الجنون مصدر، كالمجلود والمعقول، أو الباء زائدة، أو بمعنى: في أي: في أي
__________
(1) من الإسرائيليات المنكرة.(4/351)
الفريقين من فريقك، وفريقهم المجنون، أو المفتون: الشيطان، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ): فلا عقل لهم أصلاً، وهو المجنون حقيقة، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ): الفائزين بالعقل الكامل، (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ): صمم على معاداتهم، (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ)، من المداهنة أي: تلاينهم، (فَيُدْهِنُونَ): فيلاينونك مثل أن تعظم دينهم وآلهتهم، فيعظمون دينك وإلهك، والفاء للسببية، أي: فهم يدهنون حينئذ أو للعطف، أي: ودوا مداهنتك فمداهنتهم، (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ): كثير الحلف، (مَهِينٍ): حقير القلب والرأي، (هَمَّازٍ): مغتاب عياب، (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ): نقال للكلام سعاية وإفسادًا، (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ): يمنع نفسه عن الخير، أو الناس عنه، (مُعْتَدٍ): متجاوز عن الحد، (أَثِيمٍ): كثير الآثام، (عُتُلٍّ): غليظ جاف، وفي الحديث " هو الشديد الخلق الصحيح الجسم الأكول الشروب الواجد للطعامِ والشراب، الظلوم للناس رحيب الجوف "، (بَعْدَ ذَلِكَ): بعدما عد من النقائص، (زَنِيمٍ): دَعِيّ(4/352)
منسوب إلى قوم ليس منهم، قيل: هو [الوليد بن المغيرة]، وكان ولد الزنا، أو من له زنمة، وهي قطعة من جلد تعلق في حلق الشاة يعني: يعرف بالشر كما يعرف الشاة بزنمتها، (أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي: كذب آيتنا، لأن كان ذا مال وبنين يعني يجعل مجازاة نعمنا الكفر بآيتنا، فهو متعلق بما يدل عليه قوله " قال أساطير الأولين " لا بقال؛ لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، أو متعلق بلا تطع أي: لا تطعه لماله، وبنيه مع تلك المعايب، (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ): سنجعل على أنفه علامة، ووقعت يوم بدر، وفي لفظ الخرطوم استخفاف، فإنه لا يكاد يستعمل إلا في أنف الخنزير والفيل، أو سنلحق به شيئًا ظاهرًا لا يفارقه، ونذله غاية الإذلال، فإن صاحب المال والبنين متكبر غالبًا، أو نسود وجهه يوم القيامة، أو سنبين أمره بيانًا ظاهرًا كما يظهر السمة على الخراطيم، (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ): أهل مكة بالقحط (كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ): كما امتحنا أصحاب بستان باليمن كان لرجل يتصدق منها على الفقراء فلما مات قال أبناؤه: كان أبونا أحمق إذ كان يصرف منها شيئًا كثيرًا على الفقراء، (إِذْ أَقْسَمُوا): فحلفوا، (لَيَصْرِمُنَّهَا): ليقطعن ثمرها، (مُصْبِحِينَ): داخلين في الصبح خفية عن المساكين، (وَلَا يَسْتَثْنُونَ): لا يقولون إن شاء اللًه قيل: لا يستثنون حصة المساكين كما كان يخرج أبوهم، (فَطَافَ عَلَيْهَا): على الجنة، (طَائِفٌ): بلاءٌ طائف، (مِنْ رَبِّكَ): نزلت نار فأحرقتها، (وَهُمْ نَائِمُون): في بيوتهم، (فَأَصْبَحَتْ): الجنة، (كَالصَّرِيمِ): كالليل الأسود المظلم أو كالزرع الذي حصد يابسًا، (فَتَنَادَوْا) أي: نادى بعضهم بعضًا، (مُصْبِحِينَ): داخلين في الصباح،(4/353)
(أَنِ اغْدُوا): بأن أقبلوا غدوة، (عَلَى حَرْثِكُمْ)، فتعديته بعلى لتضمين معنى الإقبال، (إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ): قاطعين الثمر، (فَانطَلَقُوا): ذهبوا، (وَهُمْ يَتَخَافتونَ): يتسارون فيما بينهم، (أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ)، أن مفسرة بمعنى أي، والنهي عن تمكين المسكين من الدخول أي: لا تمكنوه من الدخول حتى يدخل، (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ): على جد وجهد، أو على منع المساكين، أو الحرد اسم لبستانهم أو على غيظ وغضب، والحرد في اللغة القصد والمنع والغضب، (قَادِرِينَ): عند أنفسهم على ثمارها أو على حرد متعلق بـ قادرين أي: غدوا قادرين على نكد، وحرمان لا على انتفاع، فإنه ما حصل لهم إلا الحرمان يقال: حاردت السنة، إذا لم يكن فيها مطر، وحاردت الإبل إذا منعت درها، (فَلَمَّا رَأَوْهَا): الجنة مسودة، (قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ): طريق جنتنا ليست هذه بجنتنا، (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ): يعني لما تأملوا وعلموا أنها هي رجعوا عما كانوا، وقالوا: بل نحن حرمنا لفعها، (قَالَ أَوْسَطُهمْ): أعقلهم وخيرهم، (أَلَمْ أَقُل لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ): هلا تسبحونه، وتشكرونه على ما أعطاكم، (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ): سبحوا واعترفوا بذنبهم، حيث لا ينفع فيما مضى، وعن بعض معناه: هلا تستثنون، وسمي الاستثناء تسبيحًا؛ لأنه تعظيم الله، وإقرار بأن له القدرة فنزهه عن العجز، (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْص يَتَلاوَمُونَ): يلوم بعضهم بعضًا، (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا(4/354)
كُنَّا طَاغِينَ): متجاوزين الحد، (عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا): في الدنيا، أو في الآخرة، (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ): راجون الخير، وقبول التوبة، (كَذَلِكَ الْعَذَابُ): هكذا عذاب من بدل نعمة الله كفرًا، أو كفرانًا، (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ): منه وأشق، (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ): لاحترزوا عن موجب العذاب أو لو كانوا من أهل العلم لعلموا أن عذاب الآخرة أشد.
* * *
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)(4/355)
لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
* * *
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ): عند حال من قوله: (جَنَّاتِ النَّعِيمِ): لا تنغيص فيها أصلاً، نزلت حين قالوا: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا لم يفضلونا، ولم يزيدوا علينا، (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ)، أنكر الله ما يدعون، وأبطله، ثم قال لهم - على طريق الالتفات: (مَا لَكُمْ) أي شيء لكم؟ (كَيْفَ تَحْكُمُونَ): هذا الحكم الأعوج أتحكمون من عند أنفسكم ورأيكم؟! (أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ): من الله، (فِيهِ تَدْرُسُون): تقرءون، (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ): هذا كما تقول: علمت أن في الدار لزيد، أو حاصله: هل لكم من الله كتاب تقرءون فيه أن ما تشتهونه وتختارونه لكم؟! والجملة حكاية للمدروس قيل ضمير فيه الثانية جاز رجعها إلى عند ربهم، (أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا): عهود(4/356)
مؤكدة بالأيمان، (بَالِغَةٌ): متناهية في التوكيد، (إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ)، متعلق إما بـ بالغة، أو بمتعلق لكم، (إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ)، جواب القسم، فإن حاصله أم أقسمنا لكم، (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ) أي: الحكم، (زَعِيمٌ): قائم يدعيه، ويصححه، (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ): في هذا القول من البشر؟! (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ): في دعواهم يعني: إن هذا الدعوى مهمل لا يشاركهم أحد، أو معناه أم لهم آلهة غير الله تصحح لهم ما يدعون، وتثبت فليأتوا بها حتى تصحح، (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)، مقدر بـ اذكر، أو متعلق بـ " فليأتوا "، أي: يوم يشتد الأمر، وكشف الساق مثل في ذلك، أو يوم يكشف عن حقائق الأمور وخفياتها، وفي الصحيحين سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - " يوم يكشف ربُّنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة "، وقد نقل عنه - عليه(4/357)
الصلاة والسلام - " يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ نور عظيم يخرون له سجدًّا "، (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) أي: الكافرون والمنافقون، فإن المؤمنين يسجدون بلا دعاء، (فَلاَ يَسْتَطِيعُون): السجود، لأنه صار ظهرهم طبقًا واحدًا بلا مفاصل كلما أرادوا السجود خروا لقفاهم عكس السجود، (خَاشِعَةً)، حال من فاعل يدعون، أو لا يستطيعون، (أَبْصَارُهُمْ): لا يرفعونها لدهشتهم، (تَرْهَقُهُمْ): تلحقهم، (ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ): في الدنيا، (وَهُمْ سَالِمُونَ): أصحاء، فلا يسجدون لله عن كعب الأحبار، والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات، (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ): كله إلى فإني عالم بما يستحق لا تشغل قلبك بهم، (سَنَسْنتَدْرِجُهُم): سنقربهم من العذاب درجة درجة بالإمهال، وإكمال الصحة، والنعمة، (مِّنْ حَيثُ لَا يَعْلَمُون): إنه استدراج، وهو إنعامنا عليهم بالمال، وطول العمر، والصحة، فلم يشكروا، وحسبوا أنهم أحباء الله، والثروة قد تكون نعمة، وقد تكون نقمة، والعلامة الشكر، (وَأُمْلِي لَهُمْ): أمهلهم، (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ): لا يدفع بشيء سمى الاستدراج كيدًا؛ لأنه في صورة الكيد، (أَمْ تَسْألهُمْ): يا محمد (أَجْرًا): على الهداية، (فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ): غرامة، (مُّثْقلُون): بحملها، فلذا يعرضون عنك، وأم منفصلة، والهمزة للإنكار، (أَمْ عِندَهُمُ الغَيْبُ): علم الغيب، (فهُمْ يَكْتُبُونَ): فلا يحتاجون إليك وإلى علمك، (فاصْبِرْ لِحُكْمِ ربِّكَ): بإمهالهم، (وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ): يونس - عليه السلام - في العجلة والضجر كما مرَّ في(4/358)
سورة الأنبياء، (إِذْ نَادَى): في بطن الحوت، (وَهُوَ مَكْظُومٌ): مغموم، (لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ): بقبول توبته (لَنُبِذَ): لطرح، (بِالْعَرَاءِ): بالفضاء من بطن الحوت، (وَهُوَ مَذْمُومٌ)، حال كونه مجرمًا (1) ملومًا يعني لما تداركه برحمته نبذه على حال غير حال الذم، واللوم (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ): اصطفاه، (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ): من الأنبياء، (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا)، إن مخففة، (لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ) أي: ينظرون إليك بنظر البغضاء، ويكادون يزلقون به قدمك ويزلونها كما تقول: نظر إليَّ نظرًا يكاد يأكلني، (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ): القرآن، فإنهم لم يملكوا أنفسهم حسدًا حينئذ، وعن بعض: إن فيهم العين فأرادوا أن يصيبوه بالعين، فعصمه الله، ونزلت، فمعناه يكادون يصيبونك بالعين لكن قوله، (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ): لمجيئه بالقرآن، (لَمَجْنُونٌ): يناسب الوجه الأول، لأن شأن العَيَّانين المدح لا الذم، (وَمَا هُوَ) أي: القرآن، (إِلا ذِكْرٌ): عظة، (للْعَالَمِينَ) فكيف يمكن نسبة من جاء بمثله إلى الجنون.
والحمد لله على الهداية والدراية.
* * *
__________
(1) تعبير فيه بشاعة، والأولى مراعاة الأدب مع أنبياء الله تعالى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(4/359)
سورة الْحَاقَّة مكية
وهى اثنتان وخمسون آية، وفيها ركوعَانِ
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي(4/360)
سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
* * *
(الْحَاقَّةُ)، سميت القيامة بها؛ لأنها واجبة الوقوع من حق يحق بالكسر أي: الساعة الواجبة، أو التي فيها حواق الأمور أي: ثوابتها كالحساب والعقاب، فيكون من باب تسمية الشيء باسم ما يلابسه أي: ذو الحاقة، (مَا الحَاقَّةُ)، استفهام لتفخيم شأنها، وهذه الجملة خبر للحاقة، أي: أي شيء هي؟ كقولك: زيد ما زيد؟ بوضع الظاهر موضع المضمر، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحَاقَّةُ): وأى شيء أعلمك ما هي؟ يعني لا علم لك بكنهها لعظمها، فما مبتدأ، وأدراك خبر، (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ) أي: بها وسماها قارعة لقرعها القلوب بالمخافة، (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) أي: بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة، وهي الصيحة، وعن بعض بسبب طغيانهم، فتكون مصدرا كالعافية " كذبت ثمود بطغواها " [الشمس: 11] (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ): شديدة البرد، (عَاتِيَةٍ)، أصل العتو مجاوزة الحد أي: عتت على خزانها، فخرجت بغير حساب، أو عتت على عاد، فلم يقدروا ردها، (سَخَّرَهَا): سلطها، (عَلَيْهِمْ)، استئناف، أو صفة، (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا): متتابعات أو(4/361)
نحسات، أو قاطعات جمع حاسم صفة لسبع ليال، (فَتَرَى الْقَوْمَ) أي: لو كنت حاضرًا، أو استحضار لصورهم كأنه يراهم، (فِيهَا): في تلك الأيام، (صَرْعَى): موتى جمع صريع حال، (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ): أصول، (نَخْلٍ خَاوِيَةٍ): خالية الأجواف، أو ساقطة، (فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ): من بقية أو نفس باقية، ولا يبعد أن يراد منها، هل ترى باقية من العذاب لهم؟ يعني: قد وصل العذاب غايته، (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ): من الأمم الكافرة، وقراءة كسر القاف، وفتح الباء، فمعناه من عنده من أتباعه، (وَالْمُؤْتَفِكَاتُ): قرى قؤم لوط أي: أبها، (بِالْخَاطِئَةِ): بالخطيئة، (فَعَصَوْا) أي: كل منهم، (رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً): زائدة في الشدة، (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ) أي: تجاوز عن الحد زمن نوح، (حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ): في السفينة، فكل من بقي من البشر من أصلاب مَن في السفينة، (لِنَجْعَلَهَا) أي: تلك الفعلة، وهي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين، (لَكُمْ تَذْكِرَةً): عبرة وعظة، (وَتَعِيَهَا): تحفظها، (أذُنٌ وَاعِيَةٌ) أي: من شأنها أن تحفظ ما سمعت به، ولا تضيعه بترك التفكر والعمل به، وفي الحديث " لما نزلت سألت الله أن يجعلها أذن عليٍّ " فكان(4/362)
على يقول: ما سمعت شيئًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنسيته، (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ): لا تثني في وقتها، والمراد النفخة الأولى لما ذكر حال المكذبين رجع إلى شرح أهوال القيامة، (وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ): رفعت عن أماكنها، (فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً): ضربت الجملتان بعضها ببعض ضربة واحدة، فيصير الكل هباء منثورًا، أو بسطتا فصارتا أرضًا لا عوج لها يقال: أرض دكاء، أي مستوية متسعة، (فَيَوْمَئِذٍ): حينئذ، (وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ): قامت القيامة، (وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ): من المجرة، هكذا روي عن علي - رضي الله عنه (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ): ضعيفة ساقطة القوة، (وَالْمَلَكُ)، المراد منه الجنس، (عَلَى أَرْجَائِهَا): جوانبها جمع رجا بالقصر يعني أنها تنشق، وهي مسكن الملائكة، فيأوون إلى ما حولها من حافاتها، (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ): فوق رءوس الثمانية، (يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ): من الملائكة بعد ما بين شحمة أذن ملك منها وعنقه(4/363)
بخفق الطير سبعمائة عام، وعن بعض ثمانية صفوف، وعن بعض المفسرين: المراد بالعرش عرش يوضع يوم القيامة في الأرض لفصل القضاء لا العرش العظيم، (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ): على الله لإفشاء الأحوال، وإظهار العدل، (لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ): سريرة كانت تخفى فى الدنيا، ولما كان اليوم يطلق على زمان ممتد يقع فيه النفختان، وأهوال القيامة مطلقًا صح أن يقال فيه العرض، والحساب، وفي الحديث " يعرض الناس ثلاث عرضات، فأما عرضتان، فجدال، ومعاذير وأما الثالثة، فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه وأخذ بشماله " (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ): تبجحًا، (هَاؤُمُ)، اسم فعل للجمع أي: خذوا، (اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ)، منصوب بالفعل الثاني عند البصريين، والهاء للسكت تثبت في الوقف، وتسقط في الوصل، (إِنِّي ظَنَنْتُ): علمت، (أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ) أي: أيقنت أني أحاسب، (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ)، جعل الرضا للعيش مجازًا، وهو لصاحبها أو هو كـ لابنٍ وتامرٍ أي: منسوبة إلى الرضا، (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ): رفيعة هي، وقصورها أيضًا، (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ): ثمارها قريبة يتناولها الراقد، (كُلوا وَاشْربوا)، بإضمار القول، (هَنِيئًا)، صفة مصدر محذوف، (بِمَا أَسْلَفْتُمْ) أي: بسبب ما قدمتموه من الخيرات، (فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ): الماضية في الدنيا، وقد روي عن ابن(4/364)
عباسٍ - رضي الله عنهما - إن هذا في الصائمين خاصة أي بدل ما أمسكتم في الأيام الجائعة، (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ): تحسرًا، (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا): الموتة التي متُّها، (كَانَتِ الْقَاضِيَةَ): القاطعة لأمري، فلم أبعث، أو يا ليت تلك الحالة التي أنا فيها كانت الموتة، فإنها أسهل، (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ): ما حصل لي من المال وغيره، ومفعول أغنى محذوف، أو ما على تقدير أن يكون استفهامية إنكارية، (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ): ضل عني حجتي، أو زال عني ملكي وقوتي، (خُذُوهُ): لما أمر الله بذلك ابتدره سبعون ألف ملك، وروي " لا يبقى شيء إلا دقه، فيقول: ما لي ولك، فيقول: إن الرب عليك غضبان، فكل شيء غضبان عليك (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ): لا تدخلوه إلا الجحيم، (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ(4/365)
ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا) أي: طويلة، وفي الحديث ما يدل على أنها أطول من مسافة بين السماء والأرض، (فَاسْلُكُوهُ): أدخلوه فيها، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - يدخل في استه، ثم يخرج من فيه، ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود حين يشوي، (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ)، استئناف للتعديل، (وَلَا يَحُضُّ): لا يرغب، (عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ): على إطعامه، وفيه إشعار بأن تارك الحض بهذه المنزلة، فكيف بتارك الفعل، وبأن أشنع الذمائم البخل، وكان أبو الدرداء يحض امرأته على تكثير المرق للمساكين، ويقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع نصفها بالحض؟ (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ): قريب يحميه، (وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ): دم وقيح يسيل من لحومهم، أو شجرة فيها، (لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ): أصحاب الخطايا، والمراد المشركون.
* * *
(فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)(4/366)
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
* * *
(فَلَا أُقْسِمُ)، لا مزيدة، أو رد لكلام المشركين، وقيل: لا أقسم بظهور الأمر بحيث لا يحتاج إلى القسم، (بِمَا تُبْصِرُونَ): بما في السماء، والأرض، (وَمَا لَا تُبْصِرُونَ): بما هو في علم الله، ولم يطلع عليه أحد، (إِنَّهُ): القرآن، (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ): على الله يبلغه عن الله، فإن الرسول هو المبلغ، (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ): يخيله من عند نفسه كما تزعمون، (قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ): تصدقون تصديقًا قليلاً، أو المراد من القلة العدم، (وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ): تذكرون تذكرًا قليلاً، فلذلك التبس عليكم الأمر، ولما كان عدم مشابهة القرآن للشعر أظهر ذكر الإيمان مع الأول، والتذكر مع الثاني، (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي: هو تنزيل، (وَلَوْ تَقَوَّلَ): الرسول، (عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ): يختلق، ويفتري، (لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ): بيده اليمنى(4/367)
منه ليكون أشد، فإن القتَّال إذا وقف بين يديه بحيث ينظر المقتول إلى السيف مريدًا قتله من خلفه يأخذه بيده اليمني، وإذا وقف خلفه مريدًا قتله من قفاه يأخذ بيساره، أو اليمين بمعنى القوة، (ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ): نياط القلب، وهو حبل الوريد، (فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ): دَافعين عن القتل، أو عن نفسه بأن تحولوا بيني وبينه، (وَإِنَّهُ) أي: القرآن، (لَتَذْكِرَةٌ للْمُتَّقِينَ): فإنهم المنتفعون به، (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ): فنجازيهم، (وَإِنَّهُ) الضمير للقرآن أو للتكذيب، (لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ): يوم يرون ثواب الإيمان به، (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) اليقين هو العلم الذي زال عنه اللبس، والحق هو الثابت، فالإضافة إما بمعنى اللام، أو بمعنى من أو بيانية، (فَسَبِّحْ): الله، (بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)، والعظيم إما صفة المضاف أو المضاف إليه.
والحمد لولي الحمد.
* * *(4/368)
سورة المعارج مكية
وهي أربع وأربعون آية، وفيها ركوعَانِ
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
* * *(4/369)
(سَأَلَ سَائِل) أي: دعا داعٍ، (بِعَذَابٍ وَاقِعٍ): ألبتَّة، (للْكَافِرِينَ)، هو [النضر بن الحارث] قال: إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، فالباء لتضمين معنى دعا بمعنى استدعى، وقيل: لتضمين معنى استعجل، وعن الحسن، وقتادة لما خوفهم الله تعالى العذاب قال بعضهم: سلوا عن العذاب على من يقع؟ فنزلت، فعلى هذا الباء لتضمين معنى اهتم، أو الباء بمعنى عن، كما قيل في: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) [الفرقان: 59] ويكون للكافرين خبر محذوف جوابًا للسائل، أي: هو للكافرين، (لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ): يرده صفة أخرى لعذاب على الوجه الأول، وجملة مؤكدة للكافرين على الثاني، (مِنَ اللهِ) أي: دافع من جهته، لأنه قدره، وقيل تقديره هو من الله، (ذِي الْمَعَارِجِ): ذي السماوات، فإن الملائكة تعرج فيها أو ذي الدرجات أو ذي الفواضل، (تَعْرُجُ المَلائكَةُ وَالرُّوحُ): جبريل، أو خلق أعظم من الملك يشبهون الناس، وليسوا ناسًا، وعن بعض المفسرين: المراد أرواح المؤمنين، فقد ورد أنها يصعد من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى السابعة، (إِلَيْهِ): إلى محل قربته، (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ): من سني الدنيا لو صعد غير الملك، وذلك لأن غلظ كل أرض خمسمائة(4/370)
وبين كل أرض إلى أرض كذلك، وكذا السماء، فيكون إلى محدب السماء السابعة أربعة عشر ألف عام، وبينها إلى العرش ستة وثلاثون، فيكون خمسين ألف سنة، هكذا نقل عن ابن عباس - رضي الله عنهما، أو المراد يوم القيامة أي: تعرج الملك والروح للعرض والحساب في يوم كذا جعله الله على الكافرين خمسين ألف سنة، ويخفف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا، وفي الأحاديث الصحاح " إن طول يوم القيامة خمسون ألف سنة " وقيل في يوم متعلق بواقع، وعن بعض المراد مدة الدنيا من أولها إلى آخرها خمسون ألف سنة، وعن بعض اليوم الفاصل بين الدنيا والآخرة خمسون ألف سنة (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِلاً)، على التكذيب، والاستهزاء، وذلك قبل آية القتال، (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ): العذاب، أو يوم القيامة، (بَعِيدًا): من الإمكان، (وَنَرَاهُ قَرِيبًا): من الوقوع، (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ)، ظرف لمقدر مثل يقع لدلالة المقام، أو لـ قريبًا، أو بدل عن " في يوم " على ثاني وجوهه (كَالْمُهْلِ): كدردي الزيت، وقيل: كالفلز المذاب، (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ): كالصوف المندوف، (وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا): قريب عن قريبه للشدة، (يُبَصَّرُونَهُمْ)، التبصير التعريف،(4/371)
والإيضاح أي: يبصر الأحماء الأحماء، ومع ذلك لا يسأل عنه لاشتغالهم بحال أنفسهم استئناف، أو حال وذو الحال في معنى المعرف بالاستغراق، أو صفة لـ حميما، ولما كان الحميم عامًّا جمع الضميرين، (يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي) " لو " بمعنى أن، (مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ) أي: هو بحيث يتمنى الافتداء بأقرب الناس فضلاً عن أن يهتم بحاله، ويسأل عنه، (وَفَصِيلَتِهِ): عشيرته، (الَّتِي تُؤْوِيهِ): تضمه في النسب، أو في الشدائد، أو المراد من الفصيلة الأم، (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ) أي: يود لو يفتدي، ثم لو ينجيه الافتداء، وهيهات أن ينجيه، فـ ثم للاستبعاد، (كَلَّا)، ردع للمجرم عن الودادة، (إِنَّهَا) أي: النار، أو ضمير مبهم يفسره ما بعده، (لَظَى): لهب، أو هو علم للنار، (نَزَّاعَةً لِلشَّوَى) الشوى: الأطراف، أو جمع شواة، وهي جلدة الرأس، أو لحم الساقين، أو محاسن الوجه، وأم الرأس، أو اللحم والجلد، أو الجوارح ما لم يكن مقتلا، (تَدْعُو): النار إلى نفسها بأسمائهم، (مَنْ أَدْبَرَ): عن الحق، (وَتَوَلَّى): عن الطاعة، (وَجَمَعَ): المال، (فَأَوْعَى): فأمسكه في وعائه، ولم يصرفه في الخير، (إِنَّ الْإِنْسَانَ)، التعريف للاستغراق، (خُلِقَ هَلُوعًا): شديد الحرص قليل الصبر، (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا): لم ينفق أصلاً، والأحوال الثلاثة مقدرة، أو محققة، لأنه مجبول طبيعته على الجزع، والبخل عند الفقر، والمال، (إِلَّا الْمُصَلِّينَ): إلا من قدر الله أنه من أهل التوحيد، والطاعة،(4/372)
فإنه ما خلقه كذلك، (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ): لا يتركون فريضة، (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ)، كالزكاة وغيرها، (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)، مر تفسيره في سورة " والذاريات " (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ): بيوم الجزاء، فلا يعملون السيئات، ولو عملوا نادرًا يتوبون عن قريب خوفًا عن الجزاء، (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ): خائفون، (إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ)، معترضة تدل على أن ليس لعاقل الأمن من عذاب الله، (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ)، سبق في أول سورة (قد أفلح المؤمنون) (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ): لا يخونون، ولا يغدرون، (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ(4/373)
قَائِمُونَ): محافظون عليها لا يكتمون، ولا يزيدون، ولا ينقصون، (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ): على أركانها، وواجباتها، ومستحباتها افتتح في وصفهم بذكر الصلاة، واختتم بها كما في سورة المؤمنين لشرفها، وكمال الاعتناء بها، (أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ): عند الله.
* * *
(فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
* * *
(فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ): مسرعين حولك مادِّي أعناقهم إليك، (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ): فرقًا شتى، جمع عزة نزلت فيمن يجتمع حوله - عليه السلام - يستمعونه، ويستهزئون به، وعن اليمين إما متعلق بعزين، أو هو أيضًا حال، أو بـ مهطعين، (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ)، كانوا يقولون: لو كانت جنة، فلندخلنها قبلهم، (كَلَّا)، ردع عن هذا الطمع، (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا(4/374)
يَعْلَمُونَ) أي: من تراب، ثم من نطفة، وهي جملة للتعليل، كأنه قال: ارتدعوا عن طمع الجنة، لأن الدليل دالٌّ على ضلالكم، فإنكم على استحالة البعث وهو ممكن، لأنا خلقناكم من نطفة، وكذا وكذا، ومن كان قادرًا على مثل ذلك كيف لا يقدر على الإعادة، أو معناه إنا خلقناهم من نطفة قذرة فمن أين يدعون التقدم من غير تطهير النفس بالإيمان، والأعمال؟ أو إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ): مشارق الكواكب، ومغاربها، (إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا): على أن نعيدهم يوم القيامة بأبدان خير من هذه، (مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ): عاجزين مغلوبين، أو معناه نحن قادرون على أن نهلكهم، ونأتي بدلهم بخلق خير منهم، (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)، هذا قبل وجوب القتال، (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ): القبور، (سِرَاعًا): مسرعين إلى إجابة الداعي، (كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ): يسرعون إلى النصب يبتدرون أيهم يستلمه أول(4/375)
فعلوا حين عاينوا أنصابهم في الدنيا، أو يسارعون إلى علامة وغاية منصوبة، (خَاشِعَةً): ذليلة خاضعة، (أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ): هوان، (ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ): في الدنيا.
والحمد للهِ على الإيمان.
* * *(4/376)
سورة نوح مكية
وهي تسع أو ثمان وعشرون آية، وفيها ركوعَانِ
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لله وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
* * *
(إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ): بأن أنذر، أي: بأن قلنا له أنذر، (قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ)،(4/377)
لتضمن الإنذار معنى القول جاز أن يكون أن مفسرة، (وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ): بعضها، وهو ما سبق وقيل: من زائدة، (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى): منتهى آجالكم، ولا يستعجلكم بالعقوبة، فإن الطاعة وصلة الرحم يزاد بهما في العمر، (إِنَّ أَجَلَ اللهِ): الأجل الأطول، (إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ): فآمِنوا قبْل مجيئه، أو إن الأجل المقدر إذا جاء على الوجه المقدر به أجلاً لا يؤخر، فبادروا في حين الإمهال، (لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ): من أهل العلم لعلمتم ذلك، (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا) أي: دائمًا، (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا): من الحق، (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ): إلى الإيمان، (لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ): لئلا يسمعوا دعوتي، (وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ): تغطوا بالثياب لئلا يروني، أو لئلا أعرفهم، (وَأَصَرُّوا): على ضلالهم، (وَاسْتَكْبَرُوا): عن اتباعي، (اسْتِكْبَارًا)، قالوا: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) [الشعراء: 111]، (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا) أي: دعوتهم مرة بعد أخرى بأي وجه أمكنني و " ثم " للتراخي الزماني، أو الرتبي، " وجهارًا " مصدر من غير لفظه، (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ): بالتوبة، (إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا): كثير الدرور(4/378)
حال، والمفعال مما يستوي فيه المذكر والمؤنث، (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ): بساتين، (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لله وَقَارًا): لا تخافون له عظمة، حتى تتركوا عصيانه " والله " إما حال من وقارًا، أو مفعول ترجون بزيادة اللام، و " وقارًا " تمييز كـ فجرنا الأنهار عيونًا، أو لا ترون له عظمة، أو لا تعتقدون الوقار، فيثيبكم على توقيركم، (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا): نطفة، ثم علقة، ثم وثم حال موجبة لتعظيمه وتوقيره (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا): مطابقة بعضها فوق بعض، (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ): فيهن، (سِرَاجًا): تزيل الظلمة كما يزيلها السراج، ولو كان القمر والشمس في أحدهن نورًا وسراجًا لصدق أنهما فيهن، أو إضاءتهما في السماوات كلها، وكلام ابن عباس يدل عليه، (وَاللهُ أَنْبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا) أي: أنشأكم منها، فإن آدم منها، أي: أنبتكم فنبتم نباتًا، فاختصر دلالة على سرعة نفاذ أمره، (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا): بعد الموت، (وَيُخْرِجُكمْ): من الأرض، (إِخْرَاجًا): بالحشر أكده بالمصدر كما أكد الإنشاء دلالة على أنه في التحقق كهو، (وَالله جَعَلَ لَكُم الأَرْضَ بسَاطًا): تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه، (لِتَسْلكوا): متخذين، (مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا): واسعة.
* * *
(قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا(4/379)
وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
* * *
(قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي): فيما أمرتهم به، (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا) أي: اتبعوا رؤساءهم الأخسرين بسبب الأموال والأولاد، (وَمَكَرُوا)، عطف على لم يزده وجمع الضمير باعتبار المعنى، (مَكْرًا كُبَّارًا): عظيمًا في الغاية(4/380)
لاتباعهم في تسويلهم أنهم على الحق كما يقولون في القيامة، (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا) الآية [سبأ: 33]، (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أي: عبادتها، (وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) أي: لا تذرن الآلهة سيما هؤلاء هي أسماء آلهتهم، (وَقَدْ أَضَلُّوا): الأصنام، (كَثِيرًا): من الخلق كما قال الخليل: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا) الآية [إبراهيم: 35، 36]، وعن مقاتل، وقد أضل رؤساؤهم كثيرًا، (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ)، عطف على " ربِّ إنهم عصوني " (إِلَّا ضَلَالًا)، دعاء عليهم لتمردهم وعنادهم، كما دعا موسى (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ) [يونس: 88] (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ): من أجلها وما مزيدة للتأكيد، (أُغْرِقُوا): بالطوفان، (فَأُدْخِلُوا نَارًا): فإنه يعرض عليهم النار في القبور بكرة وعشيا، أو المراد نار جهنم، والتعقيب لعدم الاعتداد لما بين الإغراق، والإدخال كأنه نومة، (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصَارًا): ما نصرهم آلهتهم، (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) أي: أحدًا يدور في الأرض، أو نازل دار، وأصله ديوار، ففعل به ما فعل بسيد، (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ): صبيانهم، (وَلَا يَلِدُوا إِلَّا(4/381)
فَاجِرًا كَفَّارًا)، قال ذلك لخبرته بهم، وتجربته لمكثه بينهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ)، كانا مؤمنين، (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ): داري، أو مسجدي، أو سفينتي، (مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ): إلى القيامة، (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا): هلاكًا.
والحمد لله الذي جعلنا من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم.
* * *(4/382)
سورة الجنِّ مكية
وهى ثمان وعشرون آية، وفيها ركوعَانِ
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لله فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
* * *(4/383)
(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ)، الضمير للشأن، (اسْتَمَعَ نَفَرٌ): جماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة، (مِنَ الْجِنِّ)، أمر الله رسوله أن يخبر قومه أن جماعة من الجن استمعوا للقرآن، فآمنوا به وصدقوه، (فَقَالُوا): حين رجعوا إلى قومهم، (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا(4/384)
عَجَبًا): في نهاية البلاغة مصدر وضع للمبالغة موضع العجيب، (يَهْدِي): الخلق، (إِلَى الرشْدِ): إلى الصواب، والسداد، (فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا)، ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك، (وَأَنَّهُ) أي: الشأن، (تَعَالَى جَدُّ): عظمة، (رَبِّنَا)، أو علا ملكه، أو غناه، وقراءة " إن " بالكسر عطف على (إنا سمعنا) من جملة المقول، وأما الفتح، فعلى العطف على " به " في " آمنا به " بحذف حرف الجر وحذفه من أن وإن كثير والأولى عندي أن يكون عطفًا [على] أنه استمع أي: أوحى إلى هذا الكلام، وهو أنه تعالى جد ربنا حكاية عن كلام الجن حتى لا يحتاج في وأنه كان رجال وغيره إلى تمحل عظيم، فتأمل، (مَا اتَخَّذَ صَاحِبَه وَلاَ وَلَدًا) بيان لقوله تعالى: " جَدُّ رَبِّنَا "، كأنه قال: تعالى عظمته عن اتخاذ الصاحبة والولد، (وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا): إبليس، أو جاهلنا، (عَلَى اللهِ شَطَطًا) أي: قولاً ذا شطط، وهو مجاوزة الحد في الظلم، (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِبً) أي: حسبنا أن أحدًا لن يفتري عليه، فكنا نصدق ما أضافوا إليه حتى تبين لنا من القرآن افتراؤهم، و " كذبا " مصدر؛ لأنه نوع من القول، (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) إذا نزلوا واديًا في الجاهلية قالوا: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، كما كانت عادتهم دخول بلاد الأعداء في جوار رجل كبير منهم، وخفارته، (فَزَادُوهُمْ) أي: الجنُّ الإنسَ، (رَهَقًا): إخافة وإرهابًا، عن عكرمة: كان إذا نزل الإنس واديًا هرب الجن منهم، فلما سمع الجنُّ يقول الإنسَ: نعوذ بأهل هذا الوادي قالوا: نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم فدنوا من الإنس فأصابوهم بالجنون، والخبل،(4/385)
أو فزاد الجن تكبرًا وطغيانًا بسبب استعاذة الإنس بهم، (وَأَنَّهُمْ): أي: الإنس، (ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ): أيها الجن، (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَدًا): بعد ذلك بالرسالة أو لا بعث، ولا حشر، وهذا قول نفر من الجن لقومهم حين رجعوا إليهم، (وَأَنَّا لَمَسْنَا): طلبنا، واللمس والمس استعير للطلب، لأن الماس طالب متعرف، (السَّمَاءَ) أي: بلوغها لاستراق السمع، (فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا)، اسم بمعنى الحراس كالخدم، (شَدِيدًا): من الملائكة، (وَشُهُبًا): من النجوم، (وَأَنَّا كُنَّا): قبل ذلك، (نَقْعُدُ مِنْهَا): من السماء، (مَقَاعِدَ): صالحة للترصد، (لِلسَّمْعِ): لاستماع أخبار السماء، (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا): راصدًا لأجله يمنعه من الاستماع، (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ): بحراسة السماء، (أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا): خيرًا، وهذا من أدبهم، حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل، ثم اعلم أن الكواكب يرمي بها قبل المبعث، لكن ليس بكثير، والأحاديث تدل عليه، وبعد مبعثه قد كثرت الشهب بحيث لم يقدر الجن بعد على استراق السمع من غير أن يأتيه شهاب، فهالَ ذلك الإنس والجن، نعم: قد يسترق كلمة فيلقيها إلى صاحبه، ثم يدركه الشهاب كما ورد في الصحيحين، وهذا هو الذي حملهم على تطلب السبب في ذلك، فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها حتى وجدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصلاة فعرفوا أن هذا هو السبب في حراسة السماء، فآمن من آمن منهم، وتمرد من تمرد، (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا): قوم، (دُونَ ذَلِكَ)، وهم الطالحون، أو المقتصدون، (كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) أي: كنا ذوي مذاهب متفرقة،(4/386)
(وَأَنَّا ظَنَنَّا) أي: علمنا، (أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ): إن أراد بنا أمرًا، (وَلَنْ نُعْجِزَهُ): إن طلبنا، (هَرَبًا): هاربين، وفي الأرض وهربا حالان وفائدة ذكر الأرض تصوير أنه مع تلك البسطة ليي فيها بمهرب من الله، (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى): القرآن، (آمَنَّا بِهِ)، كرروا ذلك للافتحار، (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ) أي: فهو لا يخاف بحذف المبتدأ للدلالة على الاختصاص، ولذلك لم يقل لا يخف، (بَخْسًا): نقصًا في الجزاء، (وَلاَ رَهَقًا): ظلمًا، (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ): الحائرون عن الحق، (فمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا): قصدوا، (رَشَدًا): عظيمًا، (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا): كما لكفار الإنس، (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا)، عطف على أنه استمع لا غير أي: وأن الشأن لو استقام الجن أو الإنس والجن، (عَلَى الطَّرِيقَةِ): الحسنى، وآمنوا كلهم، (لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا): مطرًا كثيرًا، ووسعنا عليهم في الرزق، (لِنَفْتِنَهُمْ): لنحشرهم، (فيهِ): في سقي الماء كيف يشكرونه (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت: 1، 2] أو معناه أن(4/387)
لو استقاموا على طريقتهم القديمة من الكفر لأوسعنا عليهم الرزق استدراجًا كما قال تعالى: " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم " الآية [الأنعام: 44] (وَمَن يعْرِضْ عَن ذِكْرِ ربِّه): ولم يؤمن به، (يَسْلُكْهُ): يدخله، (عَذَابًا صَعَدًا): شاقا يعلو المعذب مصدر وصف به عن ابن عباس - رضي الله عنهما - هو جبل في جهنم، (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ): مواضع بنيت للعبادة، أو المراد جميع الأرض، أو أعضاء السجود، (لله فَلَا تَدْعُوا): فلا تعبدوا أيها الإنس والجن، (مَعَ اللهِ أَحَدًا): فيها، أو بها نزلت حين قالت الجن: ائذن لنا يا رسول الله فنشهد معك الصلوات في مسجدك، أو حين قالوا: كيف نشهد الصلاة ونحن ناءون عنك؟ وعن قتادة اليهود والنصارى أشركوا بالله في كنائسهم فأمرنا الله بالتوحيد، (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) قال الجن لقومهم: لما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعبد الله ويصلي كاد أصحابه من الإنس عليه متراكمين للحرص على العبادة والاقتداء، أو كاد الإنس والجن يكونون عليه مجتمعين ليبطلوه، ويطفئوه، أو لما قام يصلي كاد الجن يكونون عليه متراكمين تعجبًا، وحرصًا على الاستماع.
* * *
(قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ(4/388)
الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
* * *
(قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا): وليس هذا بأمر منكر عجيب بدع، وهذا يؤيد الوجه الثاني في قوله: كادوا يكونون عليه لبدا، (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا) أي: لا ضرًّا ولا نفعًا، ولا رشدًا، أو غيًّا، بل الكل بيد الله إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ، (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ): إن أرادني بسوء، (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا): ملجأً أميل إليه، (إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللهِ وَرِسَالَاتِهِ) أي: لا أملك نفعًا إلا أن أبلغ عن الله، وأبلغ رسالته التي أرسلني بها، و " من الله " صفة لـ بلاغًا لا صلة له، وقوله: " قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي " معترضة تؤكد نفي الاستطاعة، أو الاستثناء منقطع أي: لكن الإبلاغ هو الذي يُجِيرَنِي من عذاب الله، (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ): ولم يؤمن، (فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا حَتَّى إِذَا رَأَوْا)، غاية لمحذوف دل عليه الحال أي: لا يزالون على ما هم عليه حتى وقيل: لقوله يكونون عليه لبدًا على التوجيه الثاني، (مَا يُوعَدُونَ) من العذاب، (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا): هو، أو هم، (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا)، غاية كأنهم قالوا متى يكون وقت ما تعدنا فقيل له، قل لا أدري أهو حال أم مؤجل، (عَالِمُ الغَيْبِ) أي: هو عالمه، (فَلاَ يُظْهِرُ):(4/389)
لا يطلع، (عَلَى غَيْبِهِ)، المختص به بدلالة الإضافة، (أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى):(4/390)
للاطلاع، (مِنْ رَسُولٍ)، بيان لمن، (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)(4/391)
أي: يجعل من جميع جوانبه حرسًا من الملائكة يحفظون الوحي من أن يسترقه الجن، فيلقيه إلى الكهنة، والرسول من أن يتشبه الشياطين في صورة الملك، (لِيَعْلَمَ): النبي - صلى الله عليه وسلم -، (أَن قَدْ أَبْلَغُوا) أي: الملائكة، (رِسَالاتِ رَبِّهِمْ)، وليس بشيطان جاء بصورة ملك،(4/392)
وعن كثير من السلف، من الله حرس على كل يخبرونه إذا جاء أحد يخبره أنه ملك من الله، أو شيطان فاحذر، أو ليعلم أن قد أبلغ الأنبياء ويتعلق علمه بتبليغهم رسالاته محروسة عن التغيير، (وَأَحَاطَ): الله، (بِمَا لَدَيْهِمْ): بما عند الرسل، عطف على أبلغوا على التوجيه الأول، (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) أي: معدودًا فهو حال، أو عددًا بمعنى إحصاء، أو أحصى بمعنى عَدَّ.
والحمد لله على وفور أفضاله.
* * *(4/393)
سورة الْمُزَّمِّل مكية
وهى تسع عشرة أو عشرون آية، وفيها ركوعَانِ
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
* * *(4/394)
(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) أي: المتلفف بثوبه أصله المتزمل، أدغم التاء في الزاء، أو أيها النائم، أو أيها المتحمل للقرآن من الزمل الذي هو الحمل، (قُمِ): إلى الصلاة، (اللَّيْلَ): كله، (إِلا قَلِيلًا)، كان قام الليل فرضًا على الكل، ثم نسخ، (نِصْفَهُ)، بدل من قليلاً، وهذا النصف الخالي عن الطاعة، وإن ساوى النصف المعمور بذكر الله في الكمية لا يساويه في التحقيق، بل هو القليل، وذلك النصف بمنزلة الكل، (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا): الضمير إلى النصف أو الليل المقيد بالاستثناء، والحاصل واحد، (قَلِيلاً)، وهو الثلث، (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ)، وهو الثلثان، وهذا هو الوجه في الإعراب، والمعنى من غير تكلف الموافقُ لكلام السلف، (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا): بينه، واقرأه على تؤدة،(4/395)
وتبيين حروف، (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا): تَلَقِّيْهِ لعظمة الكلام، وفي الحديث " ينزل عليه الوحي في يوم شديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليرفض عرقًا " وأيضًا " كان إذا أوحى إليه وهو على ناقته وضعت جرانها أي باطن عنقها، فما تستطيع أن تحرك حتى يسرى عنه " أو ثقيل العمل به على المكلفين، والجملة كالعلة لقيام الليل فإن الطاعة سيما في الليل تعين الرجل على نوائبه وتسهل عليه المصائب، (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) أي: قيامه مصدر كالعافية، أو ساعاته، فإنها تنشأ أي: تحدث واحدة بعد أخرى أو النفس الناشئة التي تنشأ وتنهض من مضجعها إلى العبادة، (هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) أي: كلفة، أو أشد ثباتًا في الخير، وأما قراءة [الوِطاء]، فبمعنى المواطأة يعني: موافقة القلب، والسمع، والبصر، واللسان بالليل أشد وأكثر، (وَأَقْوَمُ قِيلًا): وأشد مقالاً، وأصوب قراءة لسكون الأصوات فيه، (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا): تقلبًا، وإقبالاً وإدبارًا في أشغالك، وأصله سرعة الذهاب، أو فراغًا وسعة للنوم والحوائج جملة فيها حث على قيام الليل، (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ): ودم على ذكره، (وَتَبَتَّلْ): انقطع، (إِلَيْهِ): إلى الله لعبادتك، (تَبْتِيلًا)، لما لم ينفك التبتل الذي هو لازم عن التبتيل الذي هو متعد يمكن أن يؤتى بمصدر أحدهما عن الآخر، وفيه مبالغة مع رعاية الفواصل أي: انقطع وجرد نفسك عما سواه تبتيلاً، (رَبُّ) أي: هو رَبُّ، (الْمَشْرِقِ(4/396)
وَالْمَغرِبِ)، وقراءة الجر، فعلى البدل من ربك، (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا): فإن وحدته في الألوهية تقتضي التوكل عليه، (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُم هَجْرًا جَمِيلاً): بالإعراض عنهم، والمداراة معهم، وترك المكافأة، وقيل: هذا آية القتال، (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ): دعني وإياهم، فإني منتقم لأجلك منهم، (أُولِي النَّعْمَةِ): أرباب التنعم، والترفه هم صناديد قريش، (وَمَهِّلْهُمْ): زمانًا، أو إمهالاً، (قَلِيلًا إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً): قيودًا ثقالاً، (وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ): يغص في الحلق، ولا ينزل فيه بسهولة كالزقوم، (وَعَذَابًا أَلِيمًا): نوعًا آخر لا يمكن تعريفه، (يَوْمَ تَرْجُفُ): تضطرب، ظرف لمتعلق لدينا، (الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا): مثل رمل مجتمع، (مَهِيلًا): منثورًا أي: تصير كذلك بعدما كانت حجارة صمًّا، (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ): يا معشر قريش، (رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ): في القيامة (كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) أي: ذلك الرسول الذي أرسلنا إليه، (فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً): ثقيلاً، (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) أي: كيف تتقون يومًا؟ أي: عذاب يوم يجعل الولدان من شدة هوله شيبًا إن كفرتم في الدنيا، كأنه قال، هب أنكم لا تؤاخذون في الدنيا كما(4/397)
أخذنا فرعون، فكيف تتقون أنفسكم هول القيامة إن دمتم على الكفر، ومتم عليه؟ أو " يومًا " مفعول لـ كفرتم بمعنى جحدتم، أي: كيف تتقون الله إن جحدتم ذلك اليوم، وفي ذكر " إن " التي للشك إشعار بأنه لا ينبغي الشك مع إرسال هذا الرسول النور المبين، وفى الحديث " قرأ - صلى الله عليه وسلم - يوم يجعل الولدان شيئًا، قال: ذلك حين يقال لآدم: قم فابعث من ذريتك بعثًا إلى النار، قال: من كم يا رب؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين (السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ): منشق بسبب ذلك اليوم وهوله، أو الباء للآلة، أو منفطر بالله وبأمره، وتذكير منفطر على تأويل السقف، (كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا إِنَّ هَذِهِ): الآيات، (تَذْكِرَةٌ): عظة، (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا): يتقرب إليه بالطاعة.
* * *
(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
* * *
(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى): أقل، (مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ)، وفي قراءة نصب نصفه وثلثه عطف على أدنى، ويكون المراد من أدنى من ثلثي الليل الربع،(4/398)
ليكون تجاوزًا عن الأمر فيترتب عليه قوله: " فتاب عليكم "، ويكون موافقًا لتلك القراءة معنى، (وَطَائِفَةٌ)، عطف على فاعل تقوم، (مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ) أي: يقومون أقل، (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ): لا يعرف مقادير ساعاتهما إلا هو، فيعلم القدر الذي يقومون فيه، (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ): أن لن تطيقوا ما أوجب عليكم من القيام، أو لن تستطيعوا ضبط الساعات، (فَتَابَ عَلَيْكُمْ): عاد عليكم بالعفو والتخفيف، وعن غير واحد من السلف إن هذه الآية نسخت الذي كان الله أوجبه على المسلمين أولاً من قيام الليل واختلفوا في المدة التي بينهما سنة، أو قريب منها أو ستة عشر شهرًا أو عشر سنين، (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ): من غير تحديد لوقت لكن قوموا من الليل ما تيسر عبر عن الصلاة بالقراءة، ومذهب حسن البصري وبعض آخر: الواجب على حملة القرآن أن يقوموا من الليل، ولو بشيء منه، وفي الحديث ما يدل على ذلك، (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى): لا يستطيعون القيام الذي قررناه، (وَآخَرُونَ(4/399)
يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ): يسافرون للتجارة، واجتماع كلفة السفر، وكلفة إحياء الليل بالصلاة في غاية من الصعوبة، (وَآخَرُونَ يُقَاتِلونَ فِي سَبِيلِ اللهِ)، هذا إخبار عن الغيب، فإن السورة مكية، والقتال شرع في المدينة، (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ): المفروضة عن بعض: إنه نسخ قيام الليل بالصلوات الخمس، (وَآتُوا الزَّكَاةَ): الواجبة، وهذا يدل على قوله من قال: إن فرض الزكاة بمكة لكن المقادير والمصرف لم يبين إلا بالمدينة، (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا)، يريد سوى الزكاة من الصدقات، (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ)، هو ضمير الفصل، (خَيْرًا): من الذي تؤخرونه، أو من الذي أعطيتموه، وهو ثاني مفعولي تجدوه، (وَأَعْظَمَ أَجْرًا): نفعًا، وجزاء، وفي الصحيح قال - عليه السلام - " أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟ قالوا: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: اعلموا ما تقولون، قالوا: ما نعلم إلا ذلك، قال: إنما مال أحدكم ما قدم، ومال وارثه ما أخَّر "، (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *(4/400)
سورة الْمُدَّثِّر مكية
وهى ست وخمسون آية، وفيها ركوعَانِ
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)
* * *(4/401)
(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ): المتدثر، أي: لابس الدثار، الأصح بل الصحيح أنه أول سورة نزلت بعد فترة الوحي جمعًا بين الأحاديث الصحاح، وعليه الجمهور، فإن أول ما نزلت (اقرأ باسم ربك) [العلق: 1] وفي صحيح مسلم " إنه - عليه السلام - يحدث عن فترة الوحي قال: فبينما أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء، فخفت منه، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله " يا أيها المدثر قم فأنذر " وفي الطبراني " تأذى من قريش فتغطى بثوبه محزونًا، فنزلت " (قُمْ): من مضجعك، أو قم قيام جد، (فَأَنذِرْ)، ترك المفعول للتعميم، (وَربَّكَ فَكَبِّرْ): خصص ربك بالتكبير، والتعظيم، والفاء في مثله بمعنى الشرط، كأنه قال: ما يكن من شيء فكبر أنت ربَّك، (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ): لا تكن عاصيًا غارًا، والعرب تقول للفاجر: دنس الثياب، وإذا وفي، وأصلح، مطهر الثياب، أو طهر نفسك من الأخلاق الذميمة، أو طهر ثوبك من النجاسات، فإن المشركين لا يطهرون، أو أعرض عما قالوا، ولا تلتفت إليهم، (وَالرُّجْزَ): الأصنام، (فَاهْجُرْ)، أو اترك ما يؤدي إلى العذاب، (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) أي: لا تعط طالبًا لكثير نهى أن يهب شيئًا طامعًا في عوض أكثر، وهذا خاصة له عليه السلام، أو نهي تنزيه، أو لا تمنن بنبوتك على الناس طالبًا لكثرة الأجر منهم، أو لا تضعف عن الطاعة طالبًا لكثرة الخير، (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) استعمل الصبر لله، فيشمل الصبر على الأذى، وعلى الطاعات، (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ): نفخ في الصور، الفاء للسببية، كأنه قال: اصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم عسير، (فَذَلِكَ)، الفاء للجزاء، (يوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ)، إذا ظرف لما دل عليه الجزاء، لأن معناه عسر الأمر عليهم، وذلك مبتدأ خبره " يوم عسير "، و " يومئذ " إما بدل من ذلك،(4/402)
أو معمول له فإنه إشارة إلى وقت النقر أي: وقت النقر في ذلك اليوم، أو ظرف مستقر لـ يوم عسير أي: وقت النقر وقت عسير حال كون ذلك الوقت في يوم القيامة، (غَيْرُ يَسِيرٍ): عليهم تأكيد، وتعريض بحال المؤمنين، (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا): حال من الضمير المحذوف أي: خلقته حال كونه وحيدًا لا مال له، ولا ولد له، (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا): مبسوطًا كثيرًا قيل: وحيدًا حال من مفعول ذرني، أو من فاعل خلقت أي: ذرني وحدي معه، فإني أكفيكه، أو كان ملقبًا بالوحيد في قومه، فسماه الله تهكما، فيكون نصبًا بتقدير أعني، أو وحيدًا عن أبيه، فإنه ولد الزنا فالمراد منه [الوليد بن المغيرة]، وهو كما مَرَّ زنيم، (وَبَنِينَ شُهُودًا): حضورًا معه لا يغيبون للتجارة لاستغنائهم وخدمهم يتولون الأمر، وهم ثلاثة عشر، أو عشرة، أو سبعة،(4/403)
(وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا): بسطت له في المال، والجاه، وطول العمر بسطًا، (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ): على ما أوتيه، (كَلَّا)، ردع له عن الطمع، (إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا): معاندًا مستأنفة تعليل للردع قيل: ما زال بعد نزول الآية في نقصان، (سَأُرْهِقُهُ): سأغشيه، (صَعُودًا)، عقبة شاقة المصعد مثل للإلقاء في الشدائد، وفي الحديث " الصعود جبل في النار "، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - " صخرة في النار يسحب عليها الكافر على وجهه (إِنَّهُ فَكَّرَ): فيما يخيل طعنًا في القرآن مستأنفة علة للوعيد، (وَقَدَّرَ): في نفسه ما يقول فيه، (فَقُتِلَ)، دعاء عليه، (كَيْفَ قَدَّرَ)، تعجيب من تقديره نحو: قاتلهم الله أني يؤفكون، (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ)، تكرير للمبالغة، وثم للدلالة على أن النظر الثاني فيما قدر يورث تعجبًا أبلغ من الأول، (ثُمَّ نَظَرَ): في أمر القرآن مرة أخرى، (ثُمَّ عَبَسَ): قبض بين عينيه، كما هو شأن المهتم المتفكر، (وَبَسَرَ): اشتد عبوسه، (ثُمَّ أَدْبَرَ): عن الحق، (وَاسْتَكْبَرَ): عن اتباعه، (فَقَالَ): حين خطرت هذه الكلمة بخاطره من غير تلبث، والفاء يدل عليه، (إِنْ هَذَا): القرآن، (إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ): يروي عن السحرة، (إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ): كالتأكيد للأول، نقل إن [الوليد بن المغيرة] مرة سمع القرآن، فمال قلبه إليه، فلامه قومه، فقالوا: لابد أن تقول قولاً نعلم أنك منكر: قال: والله لا يشبه رجزة، ولا قصيدة، ولا أشعار الجن، ووالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، فقالوا: والله(4/404)
لا نرضى إلا أن تقول فيه، قال: دعوني حتى أفكر، فلما فكر قال: سحر يَأثِرُهُ عن غيره، فنزلت: (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ)، تعظيم لأمرها، (لاَ تُبْقِي): شيئًا يُلقى فيها إلا أهلكته، (وَلاَ تَذَرُ): بعد الإهلاك، فإنه يعاد " كلما نضجت جلودهم " الآية [النساء: 56]، (لَوَّاحَةٌ): مسودة، (لِلْبَشَرِ): للجلد، (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ): ملكًا، نزعت منهم الرحمة يدفع أحدهم سبعين ألفًا، فيرميهم في جهنم حيث أراد. لما نزلت قال أبو جهل: أنتم الدهم الشجعاء أيعجز كل عشرة منكم أن تبطشوا بواحدة من خزنتها؟ فقال أبو الأسود الجمحي: يا معشر قريش اكفوني منهم اثنين، وأنا أكفيكم سبعة عشر إعجابًا منه بنفسه، وكان قد بلغ من القوة أنه يقف على جلد بقرة ويجاذبه عشرة لينزعوه من تحت قدمه، فيتمزق الجلد، ولا يتزحزح عنه، وهو الذي قال: إن صرعتني آمنت بك، فصرعه - عليه السلام - مرارًا ولم يؤمن فنزل قوله: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً): لا رجالاً، فمن ذا الذي يغلب الملائكة، (وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي: وما جعلنا عددهم إلا عددًا قليلاً هو سبب لفتنتهم للاستهزاء به يعني إخبارى بأنَّهم على هذا العدد، (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ): بصدق القرآن، وبأن هذا الرسول حق، لأنه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية، فإخبار الله بأنَّهم على هذا العدد المخصوص علة لاستيقانهم، والوصف أعني: افتتان الكفار بهذا العدد لا مدخل له، (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا): بسبب الإيمان به، أو بتصديق أهل الكتاب، (وَلاَ يَرْتَابَ)، عطف على يستيقن (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ): في ذلك جمع لهم إثبات اليقين، ونفى الشك للتأكيد،(4/405)
والتعريض بحال من عداهم، فليس لهم يقين، ولهم ريب وشك، (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ): شك، ونفاق، (وَالْكَافِرُونَ): المشركون، وفي الآية إخبار عن الغيب، لأنها مكية فظهر النفاق في المدينة، (مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا) أي شيء أراد الله بهذا العدد؟! (مَثَلًا)، حال من هذا أو تمييز له، وسموه مثلاً لغرابته، ومرادهم إنكاره، وأنه لو كان من عند الله لما جاء بهذا العدد الناقص، (كَذَلِكَ): مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى، (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ): لا يعلم عددهم، وكمية الموكلين بأمر دون أمر إلا الله، وحكم أمثال ذلك كحكم أعداد السماوات والأرض، وغيرهما لا يطلع عليه إلا بعض المقربين، (وَمَا هِيَ): السقر التي وصفت، (إِلَّا ذِكْرَى): تذكرة، (لِلْبَشَرِ).
* * *
(كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)(4/406)
وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
* * *
(كَلَّا)، ردع لمن أنكرها، (وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ): أدبر على المضي كقبل بمعنى أقبل، وقيل: من دبر الليل النهار إذا خلفه، (وَالصُّبْحِ إِذَا أَسفَرَ): أضاء، (إِنَّهَا) أي: سقر، (لإِحْدَى الكُبَرِ): لإحدى البلايا الكبر، جمع كبرى، أسقطت ألف التأنيث كتائها، يقال: فُعَلُ في جمع فُعْلةٍ، وعن مقاتل دركات جهنم سبعة: جهنم، ولظى، والحطمة، والسعير، وسقر، والجحيم، والهاوية، وهي جواب القسم أو تعليل لـ (كلا) والقسم معترض للتوكيد، (نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ) تمييز أي: إنَّهَا لإحدى الدواهي إنذارًا كقولك: هو أحد الرجال كياسة، (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ)، بدل من البشر، (أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) مفعول شاء أي: نذيرًا لمن شاء التقدم والسبق إلى الخير، أو التأخر، والتخلف عنه، أو أن يتقدم مبتدأ، ولمن شاء خبره نحو " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " [الكهف: 29] (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ): مرهونة عند الله في القيامة مصدر كالشتيمة، فإن فعيل الصفة لا يؤنث، (إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ): فإنهم فكوا(4/407)
رقابهم بحسن أعمالهم، ونقل عن علي - رضي الله عنه - إنهم أطفال المسلمين لأنه لا أعمال لهم يرتهنون بها (فِي جَنَّاتٍ)، حال من أصحاب اليمين، (يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ) أي: يتساءلون المجرمين عن حالهم، فحذف المفعول؛ لأن ما بعده يدل عليه، (مَا سَلَكَكُمْ): ما أدخلكم، (في سَقَرَ)، بيان للتساؤل، وهذا أولى الوجوه، (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) أي: ما عبدنا ربنا، وما أحسنا إلى خلقه، (وَكنَّا نَخُوضُ): في الباطل، (مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ): أى مع هذا كله كنا نكذب بالقيامة، (حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ): الموت، (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي: لو شفعوا أجمعين لهم، وهو قول الله، (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) أي: ما لهؤلاء الكفرة معرضين عن التذكير؟ فـ " معرضين " حال من الضمير، (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) أي: كأنهم في نفارهم عن الحق حمر وحشية فرت مِنْ مَنْ يصيدها، أو من الأسد، (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً) قالوا: إنْ سرَّك أن نتبعك، فأت كلاًّ منا بكتاب من السماء أن اتبع يا فلان محمدًا فإنه رسولك، أو كل منهم يريد أن ينزل عليه كما نزل عليك قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى) الآية [الأنعام: 124]، (كَلَّا): ردع عن تلك الإرادة، (بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ)، ولهذا أعرضوا عن التذكرة، (كَلَّا)،(4/408)
ردع عن الإعراض، (إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) أي: فمن شاء اتعظ به، أو حفظه، (وَمَا يَذْكُرُونَ): وما يتعظون به، (إِلا أَن يَشَاءَ اللهُ)، ذكرهم، أو مشيئتهم، (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى): هو أهل أن يتقى، فلا يجعل معه إله، (وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ): وأهل لأن يغفر لمن اتقى أن يجعل معه إلها، كذا رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه في تفسير (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ).
والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *(4/409)
سورة الْقِيَامَةِ مكية
وهى أربعونَ آية، وفيها ركوعَانِ
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)
* * *
(لَا أُقْسِمُ)، زيادة لا النافية على القسم للتأكيد شائع، (بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) هي نفس المؤمن لم تزل تلومه: لم قلت كذا لما فعلت؟ لم تركت؟ أو(4/410)
النفس مطلقًا تلوم يوم القيامة نفسه إن عمل خيرًا لم ما استكثرته؟ وإن شرًّا لم عملته؟ وجواب القسم محذوف نحو " إنكم مبعوثون " يدل عليه قوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ): جنسه، أو الكفار منهم، (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ): بعد تفرقها لعدم قدرتنا، (بَلَى): نجمعها، (قَادِرِينَ)، حال من فاعل نجمع المقدر، (عَلَى أَن نُسَوِّيَ بَنَانَهُ): أن نجعل أصابع يديه ورجليه مستوية كخف البعير، فلا يمكنه القبض، والأخذ، وفنون الأعمال، أو على أن نضم الأنامل بعضها إلى بعض كما كانت على صغرها، فكيف بكبار العظام، (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ): ليدوم على الفجور فيما يستقبله من الأوقات، والمعنى على إنكار الحسبان، أولاً ثم الإضراب عنه بالإخبار عن حال بما هو أدخل في اللوم والتوبيخ، وفيه إيماء بأنه عالم بوقوع الحشر لكنه متغاب، (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ): متى يكون إنكارًا أو استهزاء، (فَإِذَا بَرِقَ البَصَرُ): تحير فزعًا من شدة الأهوال، (وَخَسَفَ القَمَرُ): ذهب ضوءه، (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي: جمع بعض أجزاء الشمس إلى بعض، ويلف كالحصير، وكذا القمر، أو جمع بينهما، فلا يكون كل واحد في فلك، (يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ): أين الفرار؟(4/411)
(كَلَّا)، ردع عن طلب الفرار، (لاَ وَزَرَ): لا ملجأ، (إِلَى ربِّكَ): وحده، (يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ): استقرار العباد، (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ): بأعمال أوائل عمره وأواخره، أو بما عمله وما تركه، أو بأعمالٍ عملها، وبأعمالٍ أخَّرها فعمل بها كسنة حسنة وسيئة، (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ): حجة بينة تشهد جوارحه عليه نحو: لما جاءت آياتنا مبصرة أو عين بصيرة يعني لا يحتاج إلى الإنباء، (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ): ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه جمع معذار، وهو العذر، أي: لا ينفعه عذره؛ لأن من نفسه من يكذبه، وعن بعض: ولو ألقى الستور وأخفى الذنب كل الإخفاء، وأهل اليمن يسمون الستر معذارًا، (لَا تُحَرِّكْ): يا محمد، (بِهِ): بالقرآن، (لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ): لتأخذه على عجلة قد صح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره: إنه إذا نزل جبريل بالوحي قرأ النبي - عليه السلام - قبل فراغه مسارعة إلى الحفظ، وخوفًا من الانفلات، فنزل: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ): في صدرك، (وَقُرْآنَهُ): إثبات قراءته في لسانك، (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ): بلسان الملك عليك، وأصغيته، (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ): فاتبع قراءته، وكن مقفيًا له فيه، (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ): بيان ما أشكل عليك، (كَلَّا)، ردع لإلقاء المعاذير، (بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ): تختارون الدنيا على العقبى، ولا تعملون للعقبى، والخطاب لجنس الإنسان؛ لأن فيهم من(4/412)
هو كذلك، أو الكفار وقوله: " لا تحرك " إلى قوله: " ثم إن علينا بيانه " اعتراض بذكر ما اتفق في أثناء نزول هذه الآيات مع ما فيه من إنكار العجلة، وإن كان في أمور الخير، وما قبل الاعتراض وما بعده في التوبيخ على حب العجلة، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ): يوم القيامة، (نَاضِرَةٌ)، من النضارة أي: حسنة بهيَّة مشرقة، (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ):(4/413)
تراه عيانًا حين يرى ربه لا يلتفت إلى غيره، والنظر إلى غيره في جنب النظر إليه(4/414)
لا يعد نظرًا، ولهذا قدم المفعول، والأحاديت الصحاح في تفسير تلك الآية وأقوال السلف والخلف على ذلك بحيث يعد المكابر معاندًا، (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ): شديد العبوس، (تَظُنُّ): تتوقع، (أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ): داهية تكسر فقار الظهر، فهذا ما يفعل بهم في مقابلة النظر إلى الرب لكون ذلك غاية النعمة، وهذا غاية النقمة، والظن فى البلاء أشد، والتنوين في وجوه، ونظائره كـ قلوب يومئذ واجفة للتنويع، ويقوم مقام الوصف المخصص للمبتدأ، أو كان هذا أولى مما قيل: إن بعض المذكور كناظرة وصف مخصص، وبعضه كـ إلى ربها ناظرة خبر، (كَلاَّ)، ردع عن إيثار الدنيا، (إِذا بَلَغَتِ): النفس، (التَّرَاقِيَ): أعالي الصدور، (وَقِيلَ)، القائل الملك، (مَنْ رَاقٍ): من يرقى بروحه ملك الرحمة، أو ملك الرحمة، أو ملك العذاب، أو القائل الحاضرون من يرقيه مما به، (وَظَنَّ): المحتضر، (أنَّهُ): أن ما نزل به، (الفِرَاقُ): فراق الدنيا، (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ)، الساق مثل في الشدة أي: التفت شدة فراق الدنيا بشدة إقبال الآخرة، وقيل: التوت الساق بالساق عند قلق الموت، (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ): المرجع يسوق الملك الروح إلى السماوات كما في الحديث.
* * *
(فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ(4/415)
فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
* * *
(فَلاَ صَدَّقَ) أي: الإنسان المذكور في قوله: " أيحسب الإنسان " أو المراد أبو جهل ما يجب تصديقه، (وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ): الحق،، (وَتَوَلَّى): عن الطاعة، (ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى): يتبختر افتخارًا، وسرورًا، (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)، دعاء عليه من الولى، وهو القرب أي: قاربه ما يهلكه فعل فيه ضمير الهلاك بقرينة السياق، (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى): مهملاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يجازى، (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ): فقدره الله، (فَسَوَّى): عدله، (فَجَعَلَ مِنْهُ): من الإنسان (الزَّوْجَيْنِ): الصنفين، (الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ): الذي أنشأ هذا الإنشاء، (بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)، والسنة أن يقول بعده سبحانك فَبَلى، أو بلى بغير فاء.
والحمد لله وحده.
* * *(4/416)
سورة الإنسان (الدهر) مكية
وهى إحدى وثلاثونَ آية، وفيها ركوعَانِ
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ(4/417)
مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
* * *
(هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَان): قد أتى على جنس بني آدم، (حِينٌ منَ الدَّهْرِ): طائفة من الزمن الممتد، (لَمْ يَكُنَ شَيْئًا مَّذكُورًا): لم يعرف، ولم يذكر، وعن بعض المراد آدم، فإنه ملقى أربعين سنة قبل نفخ الروح فيه، والجملة حال من الإنسان، أو وصف لحين بحذف الراجع أي: لم يكن فيه شيئًا، (إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ): بني آدم، (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ)، جمع مشج أي: أخلاط أي: من نطفة قد اختلط، وامتزج فيها ماء الرجل والمرأة، أو ألوان فما للرجل لون وللمرأة لون (نَبْتَلِيهِ): مريدين اختباره، (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا): فإنه بالسمع والبصر يتمكن من الطاعة والمعصية، (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ): بيَّنَّا له طريق الحق، (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)، حالان من أول مفعولي هدينا أي: هديناه في حاليه جميعًا، أو مقسومًا إلى الحالين بعضهم شاكر بأن سلكوا طريقًا هديناهم، وبعضهم كفور بالإعراض عنه، (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا إِنَّ الْأَبْرَارَ)، جمع بر أو بارَّ، (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ):(4/418)
من خمر، (كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا): تخلق منها رائحة الكافور، وبياضه وبرده، فكأنها مزجت بالكافور، أو تمزج لهم بالكافور، وتختم لهم بالمسك، (عَيْنًا)، بدل من محل من كأس بحذف مضاف أي: خمر عين، أو نصب على الاختصاص، أو الكافور اسم عين فى الجنة، فيكون عينًا بدلاً منه، (يَشْرَبُ بِهَا) أي: ملتذًّا بها، أو يشرب بمعنى يروى، فلذلك عدي بالباء، أو الباء زائدة، أو بمعنى من، (عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا): يجرونها حيث أرادوا من منازلهم، (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ)، مستأنفة كأنه قيل: لأي سبب رزقوا ذلك؟ وعن بعض المراد بالنذر الواجب أي: يوفون بما يجب عليهم من الصلاة، والزكاة، وغيرهما، (وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا): منتشرًا غاية الانتشار فيجتنبون عن المعاصي، (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ) الأولى أن يكون الضمير للطعام ليكون موافقًا لقوله تعالى " لن تنالوا البر " الآية [آل عمران: 92]، ولأن فيما بعده، وهو لوجه الله فَنِيَّة أن يكون تقديره على حب الله، (مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا): وإن كان من أهل الشرك أمر - عليه السلام - يوم بدر بإكرام الأسراء أو المراد المسجون من المسلمين، أو المراد الأرقاء نزلت حين نذر علي وفاطمة صوم ثلاث في مرض ولديهما إن بريا فلما صاما وأرادا الإفطار وقف عليهما مسكين فآثراه فباتا بلا عشاء، ثم وقف عليهما في الليلة الثانية يتيم، فآثراه فباتا جائعين ثم في الثالثة أسير من(4/419)
المشركين فآثراه فلم يفطرا في صوم ثلاث إلا بالماء (1)، (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ): قائلين ذلك بلسان الحال، أو المقال ليعرف الفقير أنها صدقة ليست للمجازاة، (لِوَجْهِ اللهِ): خالصًا غير مشوب بحظ النفس، (لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)، مصدر كالقعود، (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا)، مستأنفة للتعليل، (يَوْمًا) أي: عذابه، (عَبُوسًا)، مجاز أي: عبوسًا فيه أهله، أو كالأسد العبوس في الضرر والشدة، (قَمْطَرِيرًا): شديد العبوس، عن عكرمة وغيره، يعبس الكافر حتى يسيل من بين عينيه عرق كالقطران، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - العبوس الضيق، والقمطرير الطويل، (فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً)، بدل عبوس الكفار، (وَسُرُورًا)، بدل حزنهم، (وَجزَاهُم بِمَا صَبَرُوا): على ترك الشهوات، وأداء الواجبات، (جَنَّةً وَحَرِيرًا): يلبسونه، (مُتَّكِئِينَ فِيهَا)، حال من أول مفعولي جزاء، أو صفة لثاني مفعوليه على مذهب الكوفيين، (عَلَى الأَرَائِكِ): السرر في الحجال، (لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا): لا حرٌّ مزعجٌ، ولا بردٌّ مؤلم، بل هواء معتدل، (وَدَانِيةً): قريبة، (عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا)، الواو للعطف على متكئين، " ولا يرون " يحتمل أن يكون حالاً من ضمير متكئين، (وَذُلِّلَتْ): سهلت، (قُطُوفُهَا) ثمارها، (تَذْلِيلاً): لا يمتنع على قطافها في أى حال يكونون من القيام، والرقود يحتمل أن يكون الواو حالاً من ضمير عليهم
__________
(1) السورة مكية وعليٌّ - رضي الله عنه - بنى بفاطمة - رضي الله عنه - في المدينة؟؟!!! وهذه الرواية ذكرها القرطبي في تفسيره، وقال الترمذي: الحكيم أبو عبد الله في نوادر ْالأصول: فهذا حديث مزوّق مزيف قد تطرف فيه صاحبه حتى تشبه على المستمعين، فالجاهل بهذا الحديث يعض شفتيه تلهفًا ألا يكون بهذه الصفة، ولا يعلم أن صاحب هذا الفعل مذموم. وذلك لأنه بفعله هذا ضيع من يعول، حيث قال - صلى الله عليه وسلم: " كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت " [وذكره الواحدي في: " أسباب النزول " (1/ 331)].(4/420)
بحذف العائد أي: وذلك لهم، (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ)، الباء للتعدية، (مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ): أباريق بلا عروة، (كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ) أي: جامعة بين صفاء الزجاجة، وبياض الفضة، ولينها ونصب قوارير على البدل، أو بتقدير أعني، (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا)، الضمير للطائفين بها الدال عليه " يطاف عليهم " أي: قدرَ الخدمُ الآنيةَ على قدر ريهم وحاجتهم لا يزيد فيها الشراب، ولا ينقص، وهو ألذ للشارب، وقيل: مرجع هذا الضمير مرجع سائر الضمائر في الآية أي قدروها في أنفسهم، فجاءت مقاديرها، وأشكالها كما تمنوه، (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا) خمرًا (كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا عَيْنًا فِيهَا)، المعنى والإعراب كما مر في كان مزاجها كافورًا عينًا، والعرب تستطيب طعم الزنجبيل جدًا، وعن قتادة وغيره: الأبرار يمزج لهم من هذا تارة ومن ذاك أخرى، وأما المقربون فيشربون من كل منهما صرفًا، (تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا)، لسلاسة في الحلق ليس فيها إحراق الزنجبيل، ولدغه مع أن فيها طعمه، أو سميت به، لأنها تسيل عليهم في السبل، والطرق، والمنازل، (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ):(4/421)
لا يموتون، (إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا): من صفاء ألوانهم، وطراوتهم، وانبثاثهم فى منازلهم، (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ) أي: إذا وجدت الرؤية في الجنة، ترك مفعوله ليعم، (رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا): واسعًا، (عَالِيَهُمْ)، بالنصب حال من عليهم وبسكون الياء مبتدأ، وقوله: (ثِيَابُ سُنْدُسٍ)، خبره، وهو ما رقَّ من الثياب، (خُضْرٌ)، بالجر صفة سُنْدُسٍ، وبالرفع صفة ثياب، (وَإِسْتَبْرَقٌ): هو ما غلظ من الثياب، وله بريق، ولمعان بالرفع عطف على ثياب، وبالجر على سندس، (وَحُلُّوا)، عطف على ويطوف، (أَسَاوِرَ)، جمع سوار، (مِنْ فِضَّةٍ)، وهذا للأبرار، وأما المقربون فيحلون من أساور من ذهب، أو للأبرار أساور من ذهب، وفضة، (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا)، عين على باب الجنة من شرب منها نزع ما كان في قلبه من الأخلاق الرديئة، أو طاهرًا من الأقذار لم تدنسه الأيدي، والأرجل كخمر الدنيا، أو لأنه يرشح عرقًا له ريح كالمسك، (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ) أي: يقال لهم ذلك، (جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا): غير مضيَّع.
* * *
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
* * *(4/422)
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا): متفرقًا منجمًا آية بعد آية، وفي تكرير الضمير مع التأكيد بإن مزيد اختصاص التنزيل، (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ): بتأخير نصرك، (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا)، لفظ أو للدلالة على أن إطاعة كل واحد منهما قبيح، فالجمع بين الطاعتين أقبح، والآثم الكافر؛ لأن الفسوق في الأفعال يظهر من الكافر، والكفور المنافق، لأنه صفة القلب، ولا تطع الكافرين، والمنافقين، وعن بعض الآثم عتبة، فإنه ركَّاب الفسوق، والكفور الوليد، فإنه الغالي في الكفر، وهما قالا لو رجعت عن هذا الأمر لزوجناك ابنتينا بغير مهر، وأعطيناك من المال حتى ترضى، (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا): أول النهار وآخره، (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا)، كما قال: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) [الإسراء: 79] وعن بعض المراد صلاة الصبح، والعصر، والمغرب، والعشاء، والتهجد، (إِنَّ هَؤُلاء يُحِبُّونَ العَاجلَةَ): الدار العاجلة، (وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ): وراء ظهورهم، أو أمامهم، (يَوْمًا ثَقِيلًا): شديدًا، (نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ): ربطهم، وتوثيق مفاصلهم، (وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ): في شدة الأسر بعد إهلاكهم، (تَبْدِيلًا)، والمراد النشأة الأخرى، والتبديل في الصفات، أو المراد إذا شئنا أهلكناهم،(4/423)
ونأت بخلق جديد مثلهم بدلهم فالتبديل في الذوات، وحقه حينئذ إن بدل إذا لكن جيء بإذا على المبالغة كأن له وقتًا معينًا، (إِنَّ هَذِهِ) أي: السورة، (تَذْكِرَةٌ): عظة، (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا): طريقًا ومسلكًا إلى الله، (وَمَا تَشَاءُونَ): ذلك، (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ) أي: إلا وقت أن يشاء الله مشيئتكم، (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا): فيعلم من يستحق الهداية، فيقيض له أسبابها، ومن يستحق الغواية فييسر له أسبابها، وله الحكم في ذلك، (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ): بهدايته، (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)، نصب الظالمين بفعل يفسره ما بعده، مثل أعد.
اللهم أدخلنا برحمتك في رحمتك ولا تجعلنا من الظالمين.
* * *(4/424)
سورة الْمُرْسَلَاتِ مكية
وهى خمسون آية، وفيها ركوعَانِ
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
* * *(4/425)
(وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا)، أقسم سبحانه بالرياح المرسلة حال كونها متتابعات تهب شيئًا فشيئًا، أو بالملائكة حال كونهم يتبع بعضهم بعضًا وعن بعض المراد بالعرف المعروف أي: الملائكة التي أرسلت للمعروف من الأوامر والنواهي، (فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا)، وبالرياح الشديدة الهبوب، أو بالملائكة العاصفات عصف الرياح في امتثال أمر الله، (وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا)، وبالرياح التي تنشر السحاب في آفاق السماء، أو بالملائكة الناشرات أجنحتهن لنزول الوحي، أو التي نشرن الشرائع في الأرض، (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا)، وبالملائكة الفارقات بين الحق والباطل بسبب الوحي، (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا)، وبالملائكة الملقيات إلى الرسل وحيًا، (عذْرًا أَوْ نذْرا) أي: لإعذار المحققين، أو إنذار المبطلين، ويحتمل أن يكونا بدلين من ذكرا، (إِنَّمَا تُوعَدُونَ): من مجيء القيامة، (لَوَاقِعٌ)، هو جواب القسم، (فَإِذَا النُّجُومُ(4/426)
طُمِسَتْ): مُحى نورها، أو محقت ذواتها، (وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ): انشقت، (وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ): قلعت، (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ): جمعت، وعين لها الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم، (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) أي: يقال لأي يوم أخرت؟ وضرب الأجل لجمعهم، وهو تعظيم لليوم، وتعجيب منه، (لِيَوْمِ الفَصْلِ)، بين الخلائق بيان ليوم التأجيل، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ)، لعظمته لا يكتنه كنهه، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ): بذلك اليوم، هو مثل سلام عليك في العدول إلى الرفع، ويومئذ ظرف للويل، (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ): من الأمم المكذبة، (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ): نتبعهم أمثالهم من الآخرين ككفار مكة، (كَذَلِكَ): مثل ذلك الفعل، (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)، التكرير للتوكيد، وهو حسن شائع في عرف العرب ولغتهم، (أَلَمْ نَخْلُقكم مِّن مًّاء مَّهِين): نطفة ذليلة، (فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مكِينٍ)، هو الرحم، (إِلَى قَدَرٍ): مقدار، (مَّعْلُومٍ): من الوقت، (فَقَدَرْنَا): ذلك تقديرًا من التقدير لا من القدرة، (فنعْمَ القَادِرُونَ): نحن، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا)، اسم لما يكفت أي: يضم، ويجمع أي: كافتة،(4/427)
(أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا)، مفعول كفاتا، أو تقديره تكفت أحياء على ظهرها، وأمواتًا في بطنها قيل: كفاتا حال وأحياء ثاني مفعولي جعل أو بالعكس فالمراد من الأحياء ما ينبت، ومن الأموات ما لا ينبت، (وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ): جبالاً ثوابت، (شَامِخَاتٍ): طوالاً، (وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا): عذبًا من الأمطار والأنهار، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ انطَلِقُوا) أي: يقال لهم في ذلك اليوم اذهبوا، (إِلَى مَا كُنتُم بِه تُكَذِّبُون): في الدنيا، (انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ) أي: ظل دخان جهنم، (ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ): يتشعب لعظمه ثلاث شعب كما ترى الدخان العظيم يتفرق ذوائب، (لَا ظَلِيلٍ): كسائر الظلال، (وَلَا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ): وغير مغن عنهم من حر اللهب شيئًا، (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ)، هو ما تطاير من النار، (كَالْقَصْرِ): كل شررة كالقصر فى العظم، أو هو جمع قصرة أي: شجرة غليظة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - كنا نعمد إلى الخشبة، فنقطعها ثلاثة أذرع، وفوق ذلك ودونه ندخرها للشتاء، فكنا نسميه القصر، (كَأَنَّهُ) أي: الشرر، (جِمَالَتٌ صُفْرٌ)، جمع جمال جمع جمل شبه الشرر بالقصر في عظمه حين ينفض من النار، وبالجمالات في اللون، والكثرة، والتتابع، والاختلاط، وسرعة الحركة حين يأخذ في الارتفاع، والانبساط، ومن قرأ بضم الجيم فالمراد الحبال العظيمة من حبال السفن شبهه بها في امتداده، والتفافه، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هَذا يَوْمُ لَا يَنطِقُون): للقيامة حالات وأيام، ففي بعضها يخاصمون، وفي بعضها يقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون، (وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) أي: لا يحصل لهم الإذن، ولا الاعتذار عقيبه فيعتذرون عطف على يؤذن، وما جعله جوابًا لإيهام أن لهم عذرًا لكن لم يؤذن لهم فيه، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هَذا يَوْمُ الفَصْلِ): بين المحق والبطل، (جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ): حتى يمكن الفصل، (فَإِنْ كَانَ(4/428)
لَكُمْ كَيْدٌ): في الفرار مني، (فَكِيدُونِ)، تقريع وتهديد على كيدهم في الدنيا لإطفاء دين الله، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).
* * *
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
* * *
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ)، مقابل للمكذبين، (فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي: مستقرون في أنواع الترفع، (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي: مقولاً لهم ذلك، (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ): في العقيدة والعمل، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا)، كلام مستأنف خطاب للمكذبين في الدنيا، (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ)، استئناف علة لقلة التمتع، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَإِذَا قِيلَ): في الدنيا، (لَهُمُ ارْكَعُوا) أي: صلُّوا، (لاَ يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ): بعد القرآن، (يُؤْمِنُونَ) إذا لم يؤمنوا به مع أنه لا حديث يساويه أو يدانيه، فلا حديث أحق بالإيمان منه، وقد ورد " من قرأ والمرسلات عرفا " " فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ " فليقل آمنت بالله، وبما أنزل.
والحمد لله وحده.
* * *(4/429)
سورة النَّبَإِ مكية
وهي أربعون آية، وفيها ركوعَانِ
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
* * *
(عَمَّ)، حرف جر دخل على ما الاستفهامية، وحذف الألف في كثرة الاستعمال، (يَتَسَاءَلُونَ)، كان أهل مكة يتساءلون فيما بينهم عن القيامة استهزاء، ومعنى هذا(4/430)
الاستفهام التفخيم والتعظيم، (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ)، بيان للشأن المفخم، أو صلة يتساءلون، و " عم " متعلق بفعل يفسره ما بعد، وقراءة " عمه " دالة عليه، والنبأ: القيامة، وعن بعض: القرآن، (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ): بالإنكار والشك، أو ضمير يتساءلون لجنس الناس، ويكون الاختلاف بالإقرار، والإنكار، (كَلَّا)، ردع عن هذا التساؤل، والاختلاف، (سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ)، تكرير للمبالغة، و " ثم " للإشعار بأن الوعيد الثاني أشد، (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا): فراشًا، (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا): للأرض حتى لا تتحرك يعني: ومن قدر على مثل هذا كيف لا يقدر على البعث؟! (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا): أصنافًا ذكرَّاَ وأنثى، (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا): قطعًا عن الحس، والحركة استراحة للبدن أو موتًا، فإن النوم أخو الموت، (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا): غطاء يستركم عن العيون، (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا): وقت معاش تحصلون فيه ما تعيشون به، (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا): سبع سموات، (شِدَادًا): محكمات، (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا) أي: الشمس، (وَهَّاجًا): متلألئًا حارًا، (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ)، هي السحائب، التي شارفت أن تعصرها الرياح، كأعصرت الجارية،(4/431)
إذا دنت أن تحيض، أو الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب، فهمزة أعصرت للحينونة، والرياح كالمبدأ الفاعلي للمبدأ؛ لأنها تنشئ السحاب فجاز أنه منه، أو هي السماوات، فإن الماء ينزل من السماء إلى السحاب كما صح عن ابن عباس، وغيره، فالسماوات يحملن السحاب على العصر، فالهمزة للتعدية، (مَاءً ثَجَّاجًا): منصبًا لكثرته، (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا): من الحنطة، والشعير، (وَنَبَاتًا): خضرًا مما يأكل الناس، والأنعام، (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا): ملتفة بعضها ببعض، جمع لف بكسر اللام، أو بضمها جمع لفاء، فيكون جمع الجمع، أو جمع ملتفة بحذف الزوائد، (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ): في علم الله، (مِيقَاتًا): وقتًا محدودًا [تنتهي] الدنيا عنده، أو تنتهي الخلائق إليه، (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ)، بدل أو عطف بيان، (فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا): زمرًا وجماعات، (وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ): شقت، (فَكَانتْ): فصارت، (أَبْوَابًا): ذات أبواب، أو من كثرة الشقوق كان الكل أبواب، (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ): في الهواء كالهباء، (فَكَانَتْ سَرَابًا): كسراب، فإنها كانت شيئًا فالآن لا شيء، (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا)، هو الحد الذي فيه الحراس أي: موضع يرصد الكفار فيه، أو طريقًا وممرًا إلى الجنة، (لِلطَّاغِينَ مَآبًا): مرجعًا، (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا): حقبًا بعد حقب إلى ما لا يتناهى، وعن عليٍّ: كل حقب ثمانون سنة، كل(4/432)
يوم منها ألف سنة مما تعدون، (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا): روحًا ينفس عنهم حر النار، أو نومًا، (وَلَا شَرَابًا): يسكن من عطشهم، (إِلا حَمِيمًا) أي: لكن يذوقون فيها ماء في غاية الحرارة، (وَغَسَّاقًا): ماء يسيل من جلود أهل النار، وعيونهم، أو الزمهرير، ويحتمل أن قوله: " لا يذوقون " حال من ضمير " لابثين "، أو صفة " أحقابًا " على أن ضمير فيها للأحقاب، وحاصله: لابثين فيها أحقابًا غير ذائقين إلا حميمًا، وَغَسَّاقًا، وبعد ذلك يبدلون جنسًا آخر من العذاب، (جَزَاءً وِفَاقًا) أي: جوزوا بذلك جزاء ذا وفاق لأعمالهم، أو موافقًا لها، (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ): لا يخافون، (حِسَابًا): ولا يؤمنون بيوم الدين، (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا): تكذيبًا، وفعال بمعنى تفعيل شائع مطرد، (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا): في الإحصاء، والكتابة معنى الضبط، والتحصيل، فيكون كتابًا مفعولاً مطلقًا من أحصينا، لأن أحصى بمعنى كتب، أو بالعكس، وجاز أن يكون حالاً بمعنى المكتوب في اللوح، (فَذُوقُوا) أي: فيقال لهم: ذوقوا، وهو مسبب عن عدم الحوف عن الحساب، وتكذيب الآيات، (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا)، عن بعض السلف: لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه.
* * *
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)(4/433)
إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
* * *
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا): محل فوز، أو فوزًا وظفرًا بالبغية، (حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا): بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة، سيما العنب، بدل اشتمال، أو بعضٍ من مفازًا، (وَكَوَاعِبَ): نساء استدارت ثديهن، (أَتْرَابًا): مستويات في السن، (وَكَأْسًا دِهَاقًا): مملوة، (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا): كلامًا خاليًا عن الفائدة، (وَلَا كِذَّابًا): تكذيبًا أي: لا يكذب بعضهم بعضًا، (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ)، بمقتضى وعده، نصب بمصدر مؤكد لقوله: " إن للمتقين مفازا "، (عَطَاءً حِسَابًا) أي: تفضلاً كافيًا، بدل من جزاء، (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا)، بالجر بدل من (ربِّك)، وبالرفع مبتدأ، (الرَّحْمَنِ)، بالجر صفة، وبالرفع مع رفع " رب "، فيكون خبرًا له، ومع جره فتقديره: هو الرحمن أو مبتدأ خبره قوله: (لاَ يَمْلِكُونَ) أي: أهل السماوات،(4/434)
والأرض، (مِنْهُ): من الله، (خِطَابًا)، فمنه صلة يملكون، أي: لا يُمّلكهم الله خطابًا واحدًا، إشارة إلى أن مبدأ الملك منه، نعم إن أُذِنَ لهم فيقدرون على تكلّمه وخطابه، (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ)، هو بنو آدم، أو خلق أعظم من الملائكة على صورة البشر، أو جبريل، أو أشرف الملائكة يعني صاحب الوحي، أو القرآن أو ملك بقدر جمع المخلوقات، هو صنف، وسائر الخلائق صف، (وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) أي: صافين، (لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ)، ويوم ظرف لا يملكون، أو لا يتكلمون، وفيه تقرير، وتوكيد لقوله: " لا يملكون منه خطابًا "، فإن الملائكة مع أنَّهم من(4/435)
أفضل الخلائق مقربون غير عاصين إذا لم يقدروا أن يتكلموا إلا بإذنه فكيف غيرهم؟
(وَقَالَ صَوَابًا) أي: للتكلم شرطان: الإذن، والتكلم بالصواب، فلا يشفع مثلاً لغير المستحق، أو له شرطان: الإذن والتكلم بالصواب في الدنيا، فالكافر لا يتكلم يعني كلامًا ينفعهم، أو ينفع غيرهم، (ذَلِكَ اليَوْمُ الحَقُّ): الكائن لا محالة، (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا): مرجعًا بالطاعة، وأنواع القربات، (إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا): عذاب الآخرة، وكل ما هو آت قريب، مع أن مبدأه الموت، (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ): من خير وشر، والمرء عامٌّ، وقيل: الكافر، والمراد مما قدمت يداه الشر، وما إما موصولة مفعول " ينظر "، وإما استفهامية مفعول " قدمت "، قُدَّمت لصدارتها، و " يوم " بدل من " عذابًا " بحذف مضاف، أي: عذاب يوم، أو بدل اشتمال فلا يحتاج إلى تقدير، أو صفة أخرى لـ عذابًا، (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا): في هذا اليوم، وفي الحديث " يود ذلك حين يحكم الله بين الحيوانات، حتى ليقتص للشاة الجماء من القرناء، فإذا فرغ من الحكم قال لها كوني، ترابًا، فتصير الحيوانات ترابًا فعند ذلك يتمني الكافر، ويتمني أن يكون في الدنيا ترابًا، فلم أخلق، ولم أكلف ".
والحمد لله على الإسلام.
* * *(4/436)
سورة النَّازِعَاتِ مكية
وهي ست وأربعون آية، وفيها ركوعَانِ
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
* * *
(وَالنَّازِعَاتِ) أقسم سبحانه بالملائكة التي تنزع أرواح الكفار، (غَرْقًا): إغراقًا في النزع، فإنها تنزعها من أقاصي الأجساد من الأنامل والأظفار بعسر وشدة، أو المراد النجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب، وإغراقها قطع الفلك كله حتى تنحط في(4/437)
أقصى الغرب، أو المراد قسي الغزاة تنزع السهام إغراقًا في النزع، والأصح الأول، وهو قول أكثر الصحابة، (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا): الملائكة التي تنشط، أي تخرج أرواح المؤمنين، كما ينشط العقال من يد البعير بسهولة، أو النجوم التي تخرج من برج إلى آخر، أو الغزاة تخرج السهم للرمي، (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا): الملائكة التي تسبح في مضيها، وتسرع في قضاء الحوائج، أو السيارات، فكل في فلك يسبحون، أو خيل الغزاة تسبح في جريها، أو السفن، (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا): الملائكة التي سبقت ابن آدم بالإيمان والأعمال، أو أرواح المؤمنين تسبق شوقًا إلى لقاء الله، أو النجوم تسبق بعضها بعضًا في السير، أو خيل الغزاة، (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا): الملائكة التي تدبر الأمر من السماء إلى الأرض بأمر ربها، والسلف ما اختلفوا في هذا الأخير، ولم ينقل عنهم إلا قول واحد، وجواب القسم محذوف، وهو مثل (لَتُبْعَثُنَّ) وما بعده يدل عليه، (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) أي: تضطرب، وتتحرك الواقعة التي ترجف عندها الأجرام، كـ يوم ترجف الأرض، والجبال، وهي النفحة الأولى، ويوم ظرف لجواب القسم المحذوف، (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ): الواقعة التي تردف الأولى، وهي النفخة الثانية، وبينهما أربعون سنة، والجملة حال، وفي الترمذي وغيره " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب ثلث الليل، قام فقال: يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه (قُلُوبٌ) مبتدأ خصص بتنكير التنويع، (يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ): شديدة الاضطراب خائفة، (أَبْصَارُهَا) أي: أبصار أصحابها، (خَاشِعَةٌ): ذليلة من الخوف، (يَقُولُونَ) مستأنفة للتعليل، كأنه قال: لأنَّهُم يقولون في الدنيا: (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ) في الحالة الأولى: أي: الحياة بعد الموت، يقال: رجع في حافرته، أي: من(4/438)
حيث جاء، وعن مجاهد: أئِنا لمردودون إلى الحياة حال كوننا في الحافرة أي القبرة، (أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً) أي: أئذا كنا عظامًا بالية تردوا، المحذوف عامل إذا، (قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ): ذات خسران، يعني: إن صحت فنحن إذا خاسرون، وهذا منهم استهزاء، (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ)، هذا قول الله أي: لا تستصعبوها فما هيِ إلا صيحة، والمراد النفخة الأخيرة، (فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) أي: فإذا الناس أحياء على وجه الأرض، والساهرة: الأرض المستوية، وعن قتادة: هي جهنم، (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى)، وهذا تسلية من الله لرسوله، (إِذْ نَادَاهُ ربهُ بالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طوًى) اسم الوادي على الأصح، كما مر في سورة طه، (اذْهَبْ)، أي: قال له اذهب، (إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى): تكبر وتمرد، (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى): أي هل لك ميل، ورغبة إلى أن تتطهر من الشرك، والطغيان، (وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ): إلى معرفته، (فَتَخْشَى): من عقابه، (فَأَرَاهُ) أي: فذهب فبلغ فأراه، (الْآيَةَ(4/439)
الْكُبْرَى) أي: المعجزة الكبرى، (فَكَذبَ): بأنَّهَا من الله، (وَعَصَى): الله، (ثُمَّ أَدْبَرَ): أعرض عن الطاعة، (يَسْعَى): ساعيًا في الفساد، وإبطال أمره، (فَحَشَرَ): جمع جنوده، (فَنَادَى)، في المجمع، (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى): لا رب فوقي، قيل: هم يعبدون الأصنام، فأراد ربها وربكم، (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى): نكال الآخرة بالإحراق ونكال الدار الدنيا بالإغراق، وعن مجاهد نكال الكلمة الآخرة، وهي قوله " أنا ربكم الأعلى " ونكال الكلمة الأولى، وهي قوله: " ما علمت لكم من إله غيري " [القصص: 38]، وبينهما أربعون سنة، ونصب نكال، بأنه مصدر مؤكد أو مفعول له، أي: للتنكيل فيهما، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى): لمن كان من شأنه الخشية.
* * *
(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
* * *(4/440)
(أَأَنْتُمْ): يا منكرى البعث، (أَشَدُّ): أصعب، (خَلْقًا)، بعد الموت، (أَمِ السَّمَاءُ) ثم بين كيفية خلقها فقال: (بَنَاهَا)، ثم بين البناء فقال: (رَفَعَ سَمْكَهَا): جعل مقدار ذهابها في سمت العلو مديدًا رفيعًا، (فَسَوَّاهَا): عدلها مستوية بلا قطور، أو تممها وأصلحها، من سويت أمره إذا أصلحته، (وَأَغْطَشَ): أظلم، (لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا): أبرز ضوء شمسها، أضاف الليل والنهار إلى السماء، لأنهما يحدثان بحركتها، (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا): بسطها، خلق الأرض قبل السماء لكن دحوها بعدها، نقل ذلك عن ابن عباس، وفيه إشكال لأن الدحو هو البسط، وخلقُ الجبال، والأنهار، والمراعي، كما صرح ابن عباس، وقد مر في سورة " حم " السجدة أن ذلك مقدم على خلق السماء، ويدل على ذلك صريح الآية في تلك السورة، وأيضًا كثير من الصحابة صرحوا بأن خلق نفس الأرض في يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال والآكام وما بينهما في الثلائاء والأربعاء، وخلق السماء في الخميس والجمعة، قيل: فالوجه أن يجعل الأرض منصوبًا بمضمر، نحو تذكر وتدبر، أو اذكر الأرض بعد ذلك(4/441)
وإن جعل مضمرًا على شريطة التفسير، جعل بعد ذلك إشارة إلى المذكور سابقًا، من ذكر خلق السماء لا خلق السماء نفسه، ليدل على أنه متأخر في الذكر عن خلق السماء، تنبيهًا على أنه قاصر في الدلالة عن الأول، لكنه تتميم، ولو قلنا: إن " ثم " في قوله " ثم استوى إلى السماء " في سورة حم السجدة، لتفاوت ما بين الخلقين لا للتراخي في المدة، ويكون دحو الأرض بعد خلق السماء، لما يبقى مخالفة بين الآيتين، لكن مخالف لإطباق أهل التفسير، ثم خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام، ثم خلق السماء وما فيها في يومين، إلا ما نقل الواحدي في " البسيط "، عن مقاتل: أن خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلاً عن دحوها، وعلى أي وجه لا يخلو عن إشكال فلا تغفل، (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا): عيونها، ترك العطف لأنه حال بتقدير " قد " أو بيان للدحو وهو المراد منه، (وَمَرْعَاهَا): رعيها، الرعي بالكسر: الكلاء، وبالفتح: المصدر، والمرعى يقع عليهما، وعلى الموضع، (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا): أثبتها حتى لا يتحرك، (مَتَاعًا): تمتيعًا، (وَلِأَنْعَامِكُمْ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ): الداهية، التي تطم وتعلو وتغلب على الدواهى، (الْكُبْرَى): وهي القيامة، (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى): ما عمل في الدنيا، وقد نسيها بدل من إذا جاءت، (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى): أظهرت لمن له عين، (فَأَمَّا مَنْ طَغَى): تمرد، (وَآثَرَ(4/442)
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)، على الآخرة، (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) أي: هي مأواه واللام ساد مسد الإضافة للعلم به، (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ)، أي: مقامه بين يديه في الآخرة، (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى): زجرها عن اتباع شهوتها، (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)، وجواب فإذا جاءت هو قوله: " فأما " كأنه قال: فإذا جاءت، فإن الطاغي للجحيم مأواه، وإن الخائف للجنة مأواه، وزيادة إما لزيادة المبالغة، وتحقيق الترتيب، والثبوت على كل تقدير، أو جوابه محذوف كأنه قال: فإذا جاءت وقع ما وقع، وقوله، " فأما " تفصيل لذلك المحذوف، (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ): متى، (مُرْسَاهَا): إرساء بها وإقامتها، (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا): في أي شيء أنت يا محمد، من أن تذكر وقتها لهم، يعني ما أنت من تبيين وقتها في شيء، وقيل: تتمة لسؤالهم، أي: سألوا متى وقتها؟ وفي أي شيء أنت من ذكرها؟ أي: هل لك يقين أو ظن أو جهل؟ والجواب قوله: (إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا)، أي: منتهى علمها إلى الله وحده،) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا)، لا مُعِين وقتها، (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا): في الدنيا، وقيل: في القبر، (إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)، أي: ضحى تلك العشية يعني: استقصروا مدة لبثهم في الدنيا كأنها لم تبلغ يومًا كاملاً، ولكن ساعة منه إما عشية أو ضحاه كما تقول آتيك العشية أو غداتها.
والحمد لله حقَّ حمده.
* * *(4/443)
سورة عَبَسَ مكية
وهي اثنتان وأربعون آية، وفيها ركوع واحد وكذا إلى آخره
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)(4/444)
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
* * *
(عَبَسَ وَتَوَلَّى): أعرض، (أَن جَاءَهُ)، أي: لأن جاءه، (الأَعْمَى)، نزلت حين جاء عبد الله بن أم مكتوم النبيَّ - عليه السلام -، وكان ممن أسلم قديمًا، فجعل يسأل عن شيء ويلح، وهو عليه السلام يخاطب بعض عظماء قريش طمعًا في إسلامهم، فعبس في وجه عبد الله وأعرض عنه، وهو ضرير، وأقبل عليهم، (وَمَا يُدْرِيكَ)، أيُّ شيء يجعلك داريًا بحال هذا الأعمى، (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى)، يتطهر من الآثام بما يتعلم منك، (أَوْ يَذَّكَّرُ): يتعظ، (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى)، وينتهي عن المحارم، (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى): عن الله بماله، (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى): تتعرض له بالإقبال، (وَمَا عَلَيْكَ): بأس وضرر، (أَلَّا يَزَّكَّى)، في ألا يتزكى بالإسلام، فلم أعرضت عنه وتعرضت له؟!، (وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى): يسرع، هو ابن أم مكتوم، (وَهُوَ يَخْشَى): الله، (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى): تتشاغل، نقل أنه عليه السلام بعد(4/445)
ذلك يكرمه، ويقول إذا جاءه: " مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي " واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين، (كَلَّا)، ردع عن معاودة مثله، (إِنَّهَا): القرآن، وتأنيثه لتأنيث الخبر، (تَذْكِرَةٌ فمَن شَاءَ ذَكَرَهُ): اتعظ به، أو حفظه، أو أن الوصية بالمساواة بين الناس في إبلاغ العلم تذكرة، فمن شاء ذكره، (فِي صُحُفٍ)، أي: هو مثبت في صحف، أو صفة لـ تذكرة، (مُكَرَّمَةٍ)، عند الله، (مَرْفُوعَةٍ): رفيعة القدر، (مُطَهَّرَةٍ): من أيادى الشياطين، (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ)، ملائكة هم الرسل، والسفير هو الرسول، (كِرَامٍ)، على الله، (بَرَرَةٍ): أتقياء، ولعل الصحف ما بأيدي الملائكة، ينتسخون القرآن من اللوح المحفوظ، حين ينزلونه إلى السماء الدنيا، أو المراد من السفرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو القراء، والسفرة: الكتبة، فالمراد من الصحف ما بأيدي الناس من المصاحف والألواح، (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ): ما أشد كفره، دعاء على من أنكر البعث بأبلغ(4/446)
وجه وأشده، (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ): شيء حقير مهين، (خَلَقَهُ)، بيان لا أنعم عليه، (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ)، أطوارًا إلى أن تم خلقته، أو هيأه لما يصلح من الأشكال، (ثُمَّ السَّبِيلَ)، إلى الخروج من بطن أمه، (يَسَّرَهُ)، أو الطريق إلى الحق ذلل له نحو: " إنا هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا " [الإنسان: 3]، (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ)، أمره بالقبر، أو صير له قبرًا يدفن فيه، ولم يجعله ممن يلقى كالسباع تكرمة له، (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ): أحياه بعد موته، (كَلَّا)، ردع للإنسان عن الكفر، (لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ)، أي: لم يقض الإنسان أبدًا ما أمره الله من الفرائض، وفي البخاري عن مجاهد " لا يقضي أحد ما أمره به "، أي: جميع ما كان عليه، فإن الإنسان لا ينفك عن تقصير، وقيل معناه: كلا إن القيامة توجد الآن، لأنه لم يقض، ولم ينفذ ما أمره الله، وقدره من مدة حياة الدنيا وكمية بني آدم، فكأنه ردع لاستعجالهم بقولهم " أيان يوم القيامة " [القيامة: 6]، (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ)، فيه امتنان واستدلال بإحياء الأرض على البعث، (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا): المطر، وقراءة (أَنَّا) بالفتح على بدل الاشتمال من طعامه، (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا)، بالنبات، ويحتمل أن يكون المراد الشق بالكراب على البقر، وأسند الفعل إلى الموجد، والمقرر أن إسناد الفعل حقيقة لمن قام به لا لمن صدر عنه إيجادًا، (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا): في الأرض، (حَبًّا)، كالحنطة، (وَعِنَبًا وَقَضْبًا): القتّ، فإنه يقطع، ويقضب مرة بعد أخرى، أو مطلق علف الدواب، (وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا): عامًا(4/447)
لكثرة أشجارها واتساعها، أو عظم أشجارها وغلظها، (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا): مرعى من علف الدواب، (مَتَاعًا): تمتيعًا، (لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ): اسم من أسماء القيامة، صخه: ضرب أذنه، فأصمها سميت صيحة القيامة بها، لأنه تصخ الآذان من شدتها، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ)، بدل من إذا جاءت، (مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ)، حذرًا من أن يطلب منه حسنة من حسناته، لعله ينجو بها، أو لاشتغاله بشأن نفسه، أو حذرًا من مطالبتهم في التبعات، (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)، يكفيه في الاهتمام به، ويشغله عن غيره، وهو جواب (إذا جاءت) وفي الحديث (إن عائشة سألت، أينظر بعضنا عورة بعض؟ حين قال عليه السلام: يحشرون حفاة عراة غرلاً، فقال: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، أو قال: ما يشغله عن النظر)، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ): مضيئة، (ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ): فرحة بما نال من كرامة الله، (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ): كُدُوَرة، (تَرْهَقُهَا): تغشاها، (قَتَرَةٌ): سواد، وظلمة، (أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)، وكان جمع الغبرة إلى سواد الوجه لجمعهم الفجور إلى الكفر.
اللهم لا تحشرنا بحق القرآن فيهم.
* * *(4/448)
سورة التكوير مكية
وهي تسع وعشرون آية
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
* * *
(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ): جمع بعضها إلى بعض، فتُلَفّ، أو أظلمت، أو أذهبت ومحيت، أو ألقيت في جهنم، والأولى أن يكون رافع الشمس فعلاً مضمرًا يفسره ما(4/449)
بعده لأن: " إذا " طالب للفعل، (وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ): تناثرت، وتساقطت من السماء إلى الأرض، أو تغيرت فلم يبق لها ضوء، (وَإِذَا الجِبَالُ سُيِّرَتْ)، عن وجه الأرض، أو سيرت في الهواء، (وَإِذَا العِشَارُ): الحوامل من الإبل التي وصلت في حملها إلى الشهر العاشر، وهي خيار الأموال عند العرب، (عُطِّلَتْ): تركت وسيبت، أو العشار: السحاب عطلت عن المطر، أو المراد: الأرض، التي تُعَشَّر، عُطّلت عن الزرع، (وَإِذَا الوُحُوشُ حُشِرَتْ)، جمعت، فاختلط الناس والدواب والطيور، وماج بعضها في بعض، أو بعثت ليقتص بعضها من بعض، أو أميتت، عن ابن عباس: حشر كل شيء الموت سوى الجن والإنس، (وَإِذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ): أوقدت فصارت نارًا، وعن كثير من السلف: يرسل(4/450)
الله على البحر الدبور، فتسعرها فتصير نارًا، أو ملئت، وفجر بعضها إلى بعض، فتصير الكل بحرًا واحدًا أو يبست فلم يبق فيها قطرة ماء، (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ): بالأبدان، أو قرن كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله، أي: الأمثال من الناس بينهم، أو نفوس المؤمنين بالحور العين، ونفوس الكافرين بالشياطين، أو قرنت نفس الصالح مع الصالح فِي الجنة، ونفس الطالح مع الطالح في النار، (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ): البنات المدفونة حية، (سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)، وسؤالها لتوبيخ قاتلها، وتبكيته كتبكيت النصاري بسؤال (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ) [المائدة: 116]، (وَإِذا الصُّحُفُ): صحائف الأعمال، (نشِرَتْ)، للحساب، فإنها كانت مطوية، أو فرقت بين أصحابها، (وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ): كشفت وأزيلت كما يكشف الغطاء عن الشيء، (وَإِذَا الجَحِيمُ سُعِّرَتْ): أوقدت شديدًا، (وَإِذَا الجَنَّةُ أُزْلِفَتْ): قربت من المؤمنين، (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ)، من خير وشر، وهو جواب إذا، والمراد زمان ممتد من النفخة الأولى، وهي زمان التكوين إلى آخر الموقف، ونفس في معنى العموم كتمرة خير من جرادة، وقيل معناه: علمت نفس كافرة ما أحضرت، فالتنوين للتنويع، (فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ)، خَنَسَ: تأخر، واختفى، وخنس الكواكب: رجع، (الجَوَارِ الكُنَّسِ)، الجواري: السيارة، يقال كنس الوحش إذا دخل كناسه، عن عليٍّ وغيره رضي الله عنهم: هي النجوم تخنس بالنهار، وتكنس بالليل، أي: تطلع في أماكنها، أو المراد السيارات منها، سوى النيرين تجري معهما، أو ترجع حتى تختفي تحت ضوء الشمس، أو المراد الوحش تأوي إلى كناسها، وعليه ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد، (وَالليْلِ إِذا عَسْعَسَ): أقبل ظلامه، أو أدبر، والأول أولى لقوله تعالي: (والضحى والليل إذا سجى)(4/451)
[الضحى: 1، 2] (والليل إذا يغشى) [الليل: 1] والتحقيق أن الواو للعطف، والظرف في مثل هذه الموضع معمول مضاف مقدر، أي: وبعظمة الليل إذا، فإن الإقسام بالشيء إعظام له، كما صرح الزمخشري في " لا أقسم بيوم القيامة " [القيامة: 1] لا أنه معمول لفعل القسم لفساد المعنى، إذ ليس المراد أن إقسامه في الليل، وفي الصبح، أو إذا بدل كأنه قيل: والليل وقت غشيانه، ومثل هذا الشائع، (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ): إذا أضاء، (إِنَّهُ): القرآن، (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ): جبريل، قال عن الله،(4/452)
(ذي قُوَّة): شديد القوى، (عِندَ ذِي العَرْشِ مَكِين): ذي مكانة، (مُطَاعٍ ثَمَّ): في السماوات بين الملأ الأعلى، فإنه من سادة الملائكة، (أَمِينٍ)، على الوحي والأمر، (وَمَا صَاحِبُكُم): محمد عليه السلام، (بِمَجنونٍ)، كما زعمتم، وهذا أيضًا من جواب القسم، والكلام مسوق لحقيقة المنزل، ليدل على صدق ما فيه من أهوال القيامة، ووصف الآتي بالقول يؤيد ذلك، ويشد عضده، وأما وصف من أنزل عليه فلا مدخل له في هذا الغرض الذي هو حقية القرآن، ولذا وصف جبريل، واكتفى في وصف محمد عليهما السلام بنفي الجنون المزعوم المنافي لأن يكون صاحبه ممن أنزل عليه، (وَلَقَدْ رَآهُ): محمدٌّ جبريلَ على صورته، (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ): هو(4/453)
الأفق الأعلى من ناحية المشرق، (وَمَا هُوَ): محمد، (عَلَى الغَيْبِ): على كل ما اطلع عليه مما كان غائبًا عنه، [(بِضنينٍ)]: بمتهم، ومن قرأ بالضاد فمعناه ليس ببخيل عليه، بل يبذله لكل أحد ويعلمه، (وَمَا هُوَ): القرآن، (بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رجِيمٍ)، فليس بشعر، ولا كهانة وسحر، (فَأَيْنَ تَذهَبُونَ)، هذا يقال لمن ضل الطريق، مثلت حالهم بحاله في عدولهم عنه إلى الباطل، (إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ): عظة، (لِّلْعَالَمِينَ): لجميع الخلائق، (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ)، على الطريق الحق، بدل من العالمين فإن بالقرآن لم ينتفع إلا من أراد الاستقامة فكأنه لم يوعظ به غيره، (وَمَا تَشَاءُونَ)، الاستقامة، (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ): إلا وقت أن يشاء الله مشيئتكم، (رَبُّ الْعَالَمِينَ): مالك الخلق، عن سفيان الثوري: لما نزلت " لمن شاء منكم أن يستقيم " قال أبو جهل: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).
* * *(4/454)
سورة الانفطار مكية
وهي تسع عشرة آية
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله (19)
* * *
(إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ): انشقت، (وَإِذَا الكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ): تساقطت، (وَإِذَا البِحَارُ فُجِّرَتْ): فتح بعضها إلى بعض، فصارت بحرًا واحدًا، أو فتحت مجاريها فيذهب ماؤها فلا يبقى بحر، (وَإِذَا القُبُورُ بُعْثِرَتْ): قلب(4/455)
ترابها، وبعث من فيها من الموتى أحياء، (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)، جواب إذا، ومعناه ما مر في سورة لا أقسم، (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ)، أيّ شيء جرأك على عصيان من لطف بك حتى قابلت الطاعة بالمعاصي، وما عرفت أن الكرم يقتضي عدم التسوية بين المطيع والعاصي، عن ابن عباس وغيرهما: غرَّه واللهِ جهلُه، (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ): جعل أعضاءك سليمة مسواة، [(فعَدَّلَكَ)]: صيرك معتدلاً متناسبة الخلق، وقراءة التخفيف إما بمعنى التشديد، وإما بمعنى عدلك وصرفك عن صورة غيرك، وخلقك خلقة حسنة لا كالبهائم، (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ): ركبك في أي صورة شاء، فما زائدة، في الحديث (إن(4/456)
النطفة إذا استقرت في الرحم أحضر كل عرق بينه وبين آدم، ثم قرأ (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ)، وعن عكرمة وغيره: إن شاء في صورة كلب، أو خنزير، لكن بلطف الله خلقه في شكل حسن، (كَلَّا)، ردع عن الاغترار بالرب الكريم، (بَلْ تُكَذٌبُونَ بالدِّينِ)، إضراب إلى بيان حقيقة ما هو السبب في الاغترار والدين: والجزاء، (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبينَ): ملائكة كرامًا على الله يكتبون الأعمال، والأقوال، وكرامًا صفة لحافظين، (يَعْلَمُونَ مَا تَفعلُونَ)، فالجزاء ثابت محقق، وأنتم تكذّبون به، (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)، يعني: لأجل ذلك يكتبون، (يَصْلَوْنَهَا): يدخلونها، (يَوْمَ الدِّينِ وَمَا همْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ): قط بعد دخولها، بل هم مخلدون فيها، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ)، فيه تعجيب وتعظيم لشأنه، أي: لا يدرى كنهه أحد، وإن تأمله مرات، (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا): لا يقدر أحد على نفع أحد، ولا على ضره، وقراءة " يومُ " بالرفع فعلى البدل من يوم الدين، أو هو يوم لا تملك (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله): وحده لا كما ملكهم في الدنيا بعض الأمور ظاهرًا.
* * *(4/457)
سورة التطفيف مختلف فيها
وهى ست وثلاثون آية
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ(4/458)
حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
* * *
(وَيْلٌ للْمُطَفِّفِينَ)، التطفيف: البخس، والنقص في الكيل والوزن، وعن ابن عباس: لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله، فأحسنوا الكيل بعد ذلك، (الذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ): يكتالون حقوقهم من الناس، (يَسْتَوْفون): يأخذونها وافية، ولما كان اكتيالهم منهم أخذ حق عليهم عداه بعلى، قال الفراء: من وعلى يعتقبان في هذا الموضع، (وَإِذَا كَالُوَهُمْ)، أي: كالوا هم، (أَو وَزَنوَهُمْ)، أي: لهم، فهو من باب حذف الجار وإيصال الفعل، قيل: فيه حذف المضاف، أي: كالوا مكيلهم وموزونهم، (يُخسِرُون): ينقصون، وهؤلاء كأن عادتهم في أخذ حقهم من الناس الكيل دون الميزان لتمكنهم الاكتيال من الاستيفاء والسرقة بتحريك المكيال ونحوه ليسعه، وأما إذا أعطوا كالوا ووزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعًا، ولذا ما ذكر الوزن في الأول، (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ)، فإن الظن بالبعث رادع عن مثل تلك القبائح، (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ): لعظم ما فيه، (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ)، منصوب بأعني، أو مبعوثون، أو بدل من الجار والمجرور، (لِرَبِّ العَالَمِينَ): لحكمه، (كَلَّا)، ردع عن الغفلة عن البعث، وعن التطفيف، (إِنَّ كتَابَ الفُجَّارِ): الذي فيه(4/459)
أعمالهم، (لَفِي سِجِّينٍ): هي أرض السابعة، السفلى فيها الشياطين، وأرواح الكفار، وهي صخرة تحت الأرض السابعة أو بئر في جهنم، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ)، لعظمه وغاية قباحته، (كِتَابٌ مرْقُوم)، من المفسرين من جعله خبرًا ثانيًا لقوله: " إن كتاب الفجار " أو خبر محذوف، أي: هو يعني كتاب الفجار كتاب مرقوم مسطور بَيِّن [مختوم عليه]، ومنهم من قال: السجين: كتاب جامع هو ديوان الشر فيه أعمال الأشرار، وهو كتاب مرقوم، وسمي الكتاب سجينًا الذي هو الحبس، والتضييق، لأنه سبب الحبس في جهنم، أو لأنه مطروح تحت الأرض السابعة في مكان وحش، هو مسكن إبليس وجنوده استهانة، وليشهده الشيطان، وقيل: كتاب، أي: موضع كتاب بحذف المضاف، (وَيْل يَوْمَئِذٍ للْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُل مُعْتَدٍ): متجاوز عن الحد، (أَثِيمٍ): منهمك في الحرمات، (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ)، من فرط الجهل والعناد، (أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا)، ردع عن هذا القول، (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانوا يَكْسِبُون)، أي: ليس الأمر كما يقوله من أن ذلك أساطير الأولين، بل كثرة ارتكابهم الآثام، صارت سببًا لحصول الرين في قلوبهم، ولهذا تفوه بهذا المقال،
__________
(1) في الأصل هكذا [مفروع عنه] ولعلَّ ما أثبته من التفاسير يوافق الصواب إن شاء الله تعالى. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(4/460)
وكذب به، وفي الحديث (إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلوا قلبه، وذاك الران الذي ذكره الله في القرآن "كلا بل ران")، ولفظ الترمذي والنسائي، وابن ماجة (إن العبد) بدل إن المؤمن، وعن كثير من السلف: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت، والرين: الصدأ، (كَلَّا)، ردع عن الكسب الراين، (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُون): فلا يرونه، أو عن رحمته وكرامته، (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الجَحِيمِ): ليدخلونها، (ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ كَلَّا)، ردع عن التكذيب، أو تكرير للأول، (إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ)، عن كثير من السلف: هي السماء السابع، وفيها أرواح المؤمنين، أو لوح من زبرجد خضراء معلق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيه، أو قائمة العرش اليمنى، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كتَابٌ مَّرْقُوم)، الكلام فيه ما مر في نظيره بعينه، (يَشْهَدُهُ الُمقَربونَ): يحضره من كل سماء مقربوها، (إِن الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ)، أي: يوم القيامة، (عَلَى الأَرَائِكِ): على السرر في الحجال، (يَنظُرُونَ): إلى ملكهم ونعيمهم، أو إلى الله، أو إلى عدوهم كيف يعذبون، (تَعْرِفُ فِي وَجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ): بهجة التنعم ورونقه، (يُسْقَوْنَ مِن رحِيقٍ): خمر خالص، (مَخْتُومٍ): يختم أوانيه إكرامًا لهم كعادة الملوك، (خِتَامُهُ مِسْكٌ): مقطعه عن الفم، وآخره مسك، أو تختم الأواني(4/461)
بالمسك مكان الطين، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ): فليرتغب، (المُتَنَافسُونَ): المرتغبون، وفي الحديث المرفوع: (أيما مؤمن سقى مؤمنًا شربة ماء على ظمإٍ، سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم)، (وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ)، أي: تمزج تلك الخمر للأبرار من تسنيم، هو عين في الجنة، (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا المُقَربونَ): صرفًا، وتمزج للأبرار، ونصب عينًا على المدح، أو الحال، والكلام فيها كما مر في سورة " هل أتى على الإنسان "، (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا): كفار قريش، (كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُون): يستهزءون بفقراء المؤمنين، (وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُون): يشير بعضهم بعضًا بأعينهم استهزاء، (وَإِذا انقَلَبُوا): رجعوا أي: هؤلاء المجرمون، (إِلَى أَهْلِهمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ): ملتذين بالسخرية، (وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ)، نسب المجرمون المؤمنين إلى الضلال، (وَمَا أُرْسِلُوا)، قال الله تعالى: وما أرسل المجرمون، (عليهم): على المؤمنين، (حَافِظِينَ)، لأعمالهم، شاهدين برشدهم وضلالهم، (فَالْيَوْمَ)، أي: القيامة، (الذِينَ آمَنُوا مِنَ الكُفارِ يَضْحَكُونَ)، في مقابلة ما ضحكوا بهم في الدنيا، (عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ)، إليهم في النار، أو إلى الله، حال من يضحكون، (هَلْ ثُوِّبَ الكفارُ): هل جوزوا، (مَا كَانُوا يَفْعَلُون)، من السخرية، وغيرها.
والحمد لله وحده.
* * *(4/462)
سورة الانشقاق مكية
وهي خمس وعشرون آية
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
* * *
(إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)، عن علي رضي الله عنه (تنشق من المجرة)، (وَأَذِنَتْ(4/463)
لِرَبِّهَا): سمعت له في أمره بالانشقاق، وأطاعت وانقادت، (وَحُقَّتْ)، وهي حقيقة بأن تستمع وتنقاد، (وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ): مد الأديم، وبسطت فلم يبق فيها جبال، وبناء، (وَأَلْقتْ مَا فِيهَا): ما في بطنها من الأموات والكنوز، (وَتَخَلَّتْ): بلغ جهده في الخلو، حتى لا يبقى في باطنها شيء، (وَأَذِنتْ لِرَبِّهَا وَحُقتْ)، تكرار للأول، أو أذنت في الإلقاء والتخلية، وجواب إذا محذوف، يدل عليه ما بعده، (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)، أي: جاهد بالعمل إليه ساعٍ فملاقٍ لربك فيجازيك، أو فملاق لكدحك ويصل إليك جزاؤه، (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)، أي: سهلاً بلا تعسير، وفي الصحيحين عن عائشة: قال عليه السلام: (من نوقش الحساب عذب)، قالت: فقلت أليس الله يقول: " فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا "؟، قال: ليس ذاك بالحساب، ولكن ذاك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب) وفي غيرهما عنها قالت: قال عليه السلام: (إنه ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا معذبًا، فقلت) الحديث، إلخ، (وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ): فِي الجنة من الحور، والآدميات، (مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ)، يثني شماله إلى ورائه، ويعطى كتابه بها، (فَسَوْف يَدْعُو ثُبُورًا): هلاكًا يقول: يا ثبوراه، (وَيَصْلَى سَعِيرًا):(4/464)
يدخل النار، (إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ): في الدنيا، (مَسْرُورًا)، باتباع هواه، وبدنياه ليس له هم الآخرة، (إِنَّهُ ظَنَّ أَن لن يَحُورَ): لن يرجع إلى الله، (بَلَى): يرجع إلى الله، (إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا): عالمًا بأعماله، فيعيده ويجازيه، (فَلاَ أُقْسِم بِالشَّفَقِ): الحمرة بعد الغروب، وعن أبي هريرة رضي الله عنه: البياض الذي يلي الحمرة، وعن مجاهد: النهار كله، (وَالليْلِ وَمَا وَسَقَ): ما جمع، وضم من دابة وغيرها، (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ): استوى وتم بدرًا، (لَتَركَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ): حالاً بعد حال مطابقة لأختها في الشدة بعد الموت، أو حالاً بعد حال من مثل الصغر والكبر، والهرم، والغنى والفقر، والصحة والسقم، أو لتركبن ما طابق سنن من كان قبلكم، وفي الحديث (لتركبن سنن من كان قبلكم من اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، والظاهر أن (لَتَرْكَبُنَّ) بالضم على خطاب الجنس، فإن النداء له، وبالفتح على خطاب الإنسان في " يا أيها الإنسان " باعتبار اللفظ، وعن بعض من السلف: (لَتَرْكَبَنَّ) يا محمد سماء بعد سماء، أي: ليلة المعراج، أو درجة بعد درجة في الرتبة، وكان منشأ هذا قول ابن عباس كما بيناه في(4/465)
الحاشية، و " عن طبق " صفة لـ " طبقًا "، أي: طبقًا مجاوز الطبق، أو حال من ضمير تركبن، أي مجاوزين لطبق، (فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ): بالقيامة، (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ): إعظامًا وإكرامًا، (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ): به، مكان السجود والخضوع، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُون): بما يضمرون في أنفسهم، (فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِِ)، الاستثناء منقطع، وقيل متصل، أي: إلا من تاب وآمن منهم، (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ): غير مقطوع، أو منقوص، ولله المنة على أهل الجنة في كل حال دائمًا سرمدًا.
والحمد لله حقَّ حمده، والصلاة على نبيه
* * *(4/466)
سورة البروج مكية
وهي اثنتان وعشرون آية
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
* * *
(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ): النجوم العظام، أو هي البروج الاثنى عشر، أو(4/467)
البروج التي فيها الحرس، (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ): القيامة، (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ)، اختلفوا فيه، والحديث المرسل والضعيف على أنها يوم جمعة، وعرفة، وعليه كثير من السلف، أو الشاهد محمد، والمشهود: القيامة، أو الجمعة، أو الله، أو هما ابن آدم، والقيامة، أو ابن آدم، والجمعة، أو عرفة، والقيامة، أو يوم الذبح وعرفة، أو الله والخلف، أو عكسه، أو أعضاء بني آدم وبنو آدم، والجمعة والنحر، أو آدم والقيامة، أو الملك والقيامة، أو الملك وبنو آدم، أو هذه الأمة وسائر الأمم، أو الله والقيامة، (قُتِلَ): لُعِنَ، (أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ)، الأظهر أن جواب القسم محذوف،(4/468)
وهذا دليله كأنه قال: إنهم، أي كفار مكة ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود، وقيل. تقديره لقد قتل أصحاب الأخدود، وهو جواب القسم، والأخدود: الشق(4/469)
في الأرض، واختلف فيهم، لكن اتفقت كلمتهم على أن بعض الكفرة عمدوا إلى بعض المؤمنين عشرين ألفًا أو أقل أو أكثر، من أهل فارس، أو اليمن، أو الحبشة أو نجران أو الشام، وقهروهم أن يرجعوا إلى الكفر فأبوا، فحفروا لهم في الأرض أخاديد، وأججوا فيها نيرانًا، وأوعدوهم عليها فلم يقبلوا الكفر فقذفوهم فيها لعنهم الله، ورحمهم الله، (النَّارِ)، بدل اشتمال من الأخدود، (ذَاتِ الْوَقُودِ)، صفة تبين عظمتها، أي: لها كثرة ما يرتفع به لهبها، (إِذْ هُم): الكفار، (عَلَيهَا): على حافة النار، (قُعُودٌ)، يعذبون المؤمنين، (وَهُم عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ): مشاهدون لهذا التعذيب الأليم، أو يشهد بعضهم لبعض عند أميرهم وملكهم بأنه لم يقصر فيما أمر به، (وَمَا نقَمُوا): ما عابوا، وما كرهوا، (مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ)، ما هو حقيق بأن يكون سببًا للثناء، والألفة جعلوه سببًا للعيب والكراهة، (العَزِيزِ الحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، وصفه بصفات توجب الإيمان به وحده، (إِنَّ الذِينَ فَتَنُوا المؤْمِنِينَ والْمُؤمِنَاتِ)، بالإحراق، (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا)، لم يندموا عما(4/470)
أسلفوا، (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ)، لكفرهم، (وَلَهُمْ عَذَابُ الحَرِيقِ)، العذاب الزائد فِي الإحراق بما أحرقوا المؤمنين، وعن بعض لهم عذاب الحريق في الدنيا، وذلك لأن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم، أو المراد الذين بلوهم بالأذى على العموم لا أن المراد أصحاب الأخدود خاصة للفاتنين عذابان لكفرهم، ولفتنتهم، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)، المراد منهم المطروحون في الأخاديد، أو أعم، (إِنْ بَطْشَ ربِّكَ)، أخذه بالعنف لأعدائه، (لَشَدِيدٌ)، مضاعف، (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ)، الخلق، (وَيُعِيدُ)، بعد الموت، (وَهُوَ الغَفُورُ)، للمؤمنين، (الوَدُودُ)، المحب لهم، (ذُو العَرْشِ)، مالكه، (المَجِيدُ)، العظيم في الذات، والصفات، وقراءة الكسر على صفة العرش فمعناه علوه وسعته، (فعَّالٌ لمَا يُرِيدُ)، لا يزاحمه أحد، ولا شيء، (هَلْ أَتَاكَ)، يا محمد، (حَدِيثُ الجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ)، هما بدل من الجنود، والمراد من فرعون هو وقومه، وهذا تقرير لقوله: (إن بطش ربك لشديد)، (بَل الذِينَ كَفَرُوا): من قومك يا محمد، (فِي تَكْذِيبٍ)، للقرآن، ولك أي تكذيب، فلا يعتبرون بسماع قصة من قبلهم، ومعنى (بل) الإضراب عن الأمر بالإسماع، والتذكير، كأنه قال: ذكّر قومك بشدة بطش ربك، وأسمعهم حكاية فرعون وثمود لعلهم يتعظوا به، بل هم في تكذيب عظيم لا يمكن لهم الارتداع، والاتعاظ، (وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ): لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط المحيط، (بَلْ هُوَ): بل هذا الذي كذبوا به، (قُرْآنٌ مجِيدٌ): عظيم في اللفظ والمعنى، (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)،(4/471)
بالرفع صفة القرآن، أي: محفوظ من الزيادة، والنقصان، وبالجر صفة اللوح، وعن أنس بن مالك وغيره: إن هذا اللوح المحفوظ في جبهة إسرافيل، وعن مقاتل: هو عن يمين العرش، وفي الطبراني، قال عليه السلام: (إن الله قد خلق لوحًا محفوظًا من درة بيضاء وصفحاتها من ياقوتة حمراء قلمه نور، وكتابه نور لله فيه في كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة يخلق ويرزق، ويميت، ويحيي ويعز ويذل ويفعل ما يشاء).
* * *
__________
(1) أخرجه الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس - رضي الله عنهما.(4/472)
سورة الطارق مكية
وهي سبع عشرة آية
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
* * *
(وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ): الكوكب، وسماه طارقًا لأنه يظهر في الليل، فالطارق: الآتي ليلاً (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ): المضيء، أو الذي يثقب الشياطين إذا أرسل إليها، والمراد الجنس، وقيل: الثريا، أو زحل عبر عنه أولاً بوصف عام ثم فسره بعدما عظّم شأنه تعظيمًا على تعظيم (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ): ما كل نفس إلا عليها حافظ يحفظ عملها، أو يحفظها من الآفات، وقراءة " لما " بالتخفيف، فتقديره: إن الشأن كل نفس لعليها، فما صلة، وهو جواب القسم على الوجهين (فَلْيَنظرِ الإِنسَان مِممَّ خلِقَ): يتفكر في مبدأ خلقه ليعترف بصحة الإعادة، فلا يعمل ما يضره في عاقبته، لأن عليه حافظًا يحفظ أعماله، أو لما لطف عليه بأن وكَّل عليه حافظًا يحفظه من الآفات، فليتأمل هو في مبدأ خلقه ليعترف بإعادته، فلا يكون منكرًا لقول ربه، ولما أرسل لأجله المرسلين (خُلِقَ)(4/473)
جواب الاستفهام (مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ): ذي دفق كتامرٍ ولابنٍ، أو مدفوق: مصبوب، وهو الممتزج من ماء الرجل والمرأة (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ): صلب الرجل (وَالتَّرَائِبِ): ترائب المرأة، وهي عظام صدرها (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) أى: إن الله الذي خلق الإنسان من ماء كذا، القادر على رجعه، وإعادته بعد موته (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ): تتميز، وتتعرف ما أُسرَّ في القلوب من العقائد، وما أُخْفي من الأعمال، ظرف لرجعه، والفاصل غير أجنبي، لأنه عامل، أو تفسير للعامل على المذهبين، أو معناه: إن الله لقادر على رجع الماء إلى مخرجه، ثم قال اذكر يوم تبلى السرائر (فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ): يمنعه عن عقاب أراده الله (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْع): المطر، سماه به، لأنه لِرجع حينًا فحينًا، قيل: وصف السماء بالرجع لأنه يرجع في كل دورة إلى ما كان يتحرك منه (وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ): الشق بالنبات، والعيون (إِنَّهُ) أي: القرآن (لَقَوْلٌ فَصْلٌ): فاصل بين الحق والباطل(4/474)
(وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ): فإنه جد وحق كله (إِنَّهُمْ) أهل مكة (يَكِيدُونَ كَيْدًا) في إطفاء نور القرآن (وَأَكِيدُ كَيْدًا): أقابلهم بما يشبه الكيد في استدراجي لهم (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ): فلا تستعجل بإهلاكهم (أَمْهِلْهُمْ روَيْدًا): إمهالاً يسيرًا، كرر وخالف بين الفعلين لزيادة التسكين، والتصبير.
والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ
* * *(4/475)
سورة الْأَعْلَى مكية
وهي تسع عشرة آية
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
* * *
(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أي: نزه ذاته الذي هو أعلى من أن يقاس بغيره فالاسم مقحم، والأعلى صفة لربك، أو نزه أسماءه عما لا يصح فيه من المعاني،(4/476)
والأعلى إما صفة للاسم، أو للرب (الذِي خَلَقَ) كل شيء (فَسَوَّى): خلقه، ولم يأت به متفاوتًا غير ملتئم (وَالذِي قَدَّرَ): الأشياء على وجه معين (فَهَدَى): فوجهها إليه (وَالَّذِي أَخْرَجَ) من الأرض (المَرْعَى): ما يرعاه الدواب (فَجَعَلَهُ) بعد خضرته (غثَاءً): يابسًا (أَحْوَى) أسود، وقيل: أحوى حال من المرعى، أي: من شدة الخضرة أسود (سَنُقْرِئُكَ) على لسان جبريل، أو سنجعلك قارئًا (فَلاَ تَنسَى) فهذا وعد من الله (إِلا مَا شاءَ اللهُ) نسيانه بأن نسخ تلاوته، أو إلا ما شاء الله لكن لم يشأ، وعن مجاهد وغيره، كان عليه السلام يستعجل بالقراءة قبل إتمام قراءة جبريل مخافة النسيان، فنزل هذا الوعد فلم ينسَ بعد ذلك شيئًا، وقيل: نفي بمعنى النهي، أو نهي، والألف للفاصلة نحو: السبيلا، (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى): ما ظهر من الأحوال وما بطن، فلا يفعل إلا ما فيه الحكمة البالغة، (وَنُيَسِّرُكَ)، عطف على سنقرئك، أي: نُعدّلك (لِلْيُسْرَى): للشريعة اليسرى السمحة، أو نسهل عليك أفعال الخير، وقيل: معناه إنه يعلم الجهر مما تقرأه بعد فراغ جبريل، وما يخفى مما تقرأه في نفسك معه مخافة النسيان، ثم وعده وقال، نيسرك للطريقة اليسرى في حفظ الوحي (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى): عظ بالقرآن إن(4/477)
نفعت التذكير، قال على رضي الله عنه: ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم، وحاصله إن كنت جربت أن الموعظة لا تنفع فلا تتعب نفسك (سَيَذَّكَّرُ): يتعظ، وينتفع بها (مَن يَخْشَى): الله (وَيَتَجَنَّبُهَا)، أي: الذكرى، ويتباعد عنها (الأَشقَى) من الكفرة لتوغله في الكفر والعناد، أو المراد من الأشقى الكافر في علم الله (الذِي يَصْلَى النَّارَ الكُبْرَى): نار جهنم، فإنما أشد حرًّا من نار الدنيا (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا): فيستريح (وَلَا يَحْيَى): حياة يجد منها روح الحياة، فهذا للكافر، وأما المذنب ففي صحيح مسلم وغيره (إن أناسًا دخلوا النار بخطاياهم يموتون في النار، فيصيرون فحمًا، ثم يخرجون فيلقون على أنهار الجنة فيرش عليهم منها، فينبتون كالحبة في حميل السيل) (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى): تطهر نفسه من الكفر والمعصية (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) بقلبه ولسانه (فَصَلَّى): الصلوات الخمس نحو: " أقم الصلوة لذكري " [طه: 14]، وعن كثير من السلف المراد من أعطى صدقة الفطر فصلى العيد، وعلى هذا يكون النزول سابقًا على الحكم، لأن السورة مكية، ولم يكن بمكة عيد ولا فطر كما قالوا في قوله: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) كما سيجيء (بَلْ تُؤْثِرُونَ): تختارون (الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) عن ابن مسعود قال: حين وصل إلى هذه الآية، آثرناها لأنَّا رأينا زينتها، ونساءها، وطعامها، وشرابها، وزويت عنا الآخرة فاخترنا هذا العاجل، وجاز أن يكون(4/478)
الخطاب للأشْقَيْنَ على الالتفات (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا) عن كثير من السلف: الإشارة إلى أربع آيات متقدمة من قوله: " قد أفلح من تزكى "، وعن بعض منهم: الإشارة إلى جميع السورة (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى): الكتب السماوية المتقدمة (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) بدل من الصحف الأولى، وفي مسند الإمام أحمد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة.
الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *(4/479)
سورة الْغَاشِيَةِ مكية
وهي ست وعشرون آية
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
* * *(4/480)
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ): القيامة، لأنها تغشى الناس بشدائدها (وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ): ذليلة (عَامِلَةٌ): في النار، كالصعود والهبوط مع جر السلاسل فيها (نَاصِبَةٌ): تتعب في ذلك العمل، أو عملت وتعبت في أعمالٍ في الدنيا لا تنفع في الآخرة على غير طريقة السنة أو عملت في الدنيا أعمال السوء والتذت بها، فهي في نصب منها في الآخرة (تَصْلَى): تدخل (نَارا حَامِيَةً): متناهية في الحر (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنيةٍ): انتهى غليانها (لَيْسَ لَهُمْ طعامٌ إِلا مِن ضَرِيعٍ): هو اليابس من الشَّبْرِق، وهو شوك ترعاه الإبل ما دام رطبًا فإذا يبس صار سُمًّا قاتلاً، ويكون الضريع طعام هؤلاء، والزقوم وغيره طعام غيرهم، أو في بعض الأحوال ليس طعام الكل إلا هذا (لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) وفائدة الطعام أحد الأمرين (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ): ذات بهجة (لِسَعْيهَا) في الدنيا (رَاضِيَةٌ) في الآخرة، لما رأت ثوابه (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ): المحل، أو القدر (لاَ تَسْمَعُ) يا مخاطب، أو الوجوه (فِيهَا لَاغِيَةً): لغوًا، أو كلمة ذات لغو (فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ) التنكير للتعظيم (فِيهَا سُرُرٌ مرْفُوعَةٌ): رفيعة السمك إذا أراد أن يجلس عليها صاحبها تواضعت له ثم ترفع (وَأَكوَابٌ) الكوب: إناء لا عروة له (مَّوْضُوعَةٌ) بين أيديهم (وَنَمَارِقُ): وسائد (مَصْفُوفَةٌ): بعضها بجنب بعض (وَزَرَابِيُّ): بسط(4/481)
فاخرة (مَبْثُوثَةٌ): مبسوطة (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) لما كذب الكفار عجائب الجنة التي ذكرها الله في تلك السورة، فذكرهم الله صنعه، والإبل أغرب حيوان وأنفعه عند العرب، (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) بلا عمد (وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ): راسخة لا تميل لئلا تميد الأرض بأهلها (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ): بسطت، نبه العرب في بواديهم بما يشاهد من بعيره الذي هو راكب عليه، والسماء الذي فوق رأسه، والجبل الذي تجاهه والأرض التي تحته على كمال قدرة خايقه، فلا تنكر الجنة ونعيمها، والبعث وأهوالها (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) ما عليك إلا البلاغ (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ): بمتسلط فتكرههم على الإيمان (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ): لكن مَنْ تَوَلَّى وكفر (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ): عذاب جهنم، أو الاستثناء متصل أي: فذكرهم إلا من انقطع طمعك من إيمانه نحو: " فذكر إن نفعت الذكرى " [الأعلى: 9]، وقيل: لست بمتسلط عليهم إلا على من تولَّى، فإن جهادهم وقتلهم تسلط، وعلى هذا يكون وعدًا برخصة القتال، فإن السورة مكية، (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ): رجوعهم، (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ)، في المحشر، وتقدم الخبر للتخصيص والتشديد في الوعيد.
والحمد لله المجيد الفعَّال لما يريد
* * *(4/482)
سورة الْفَجْرِ مكية
وهي ثلاثون آية
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي(4/483)
إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
* * *
((وَالْفَجْرِ) أقسم سبحانه بالصبح، أو بصبح يوم النحر، أو بصلاة الفجر (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) عشر ذي الحجة، أو العشر الأول من المحرم، أو من رمضان (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) يوم النحر شفع لأنه عاشر، ويوم عرفة وتر لأنه تاسع، أو اليومان من أيام التشريق، والوتر اليوم الثالث، أو الصلاة المكتوبة منها شفع، ومنها وتر، أو الخلق والله، والقول فيهما أكثر لكن الذي أوردناه ما اتفق عليه أكثر السلف والثلاث الأول منقول بالحديث أيضًا (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ): إذا يمضي، أو إذا يُسْرَى فيه كقولهم صلَّى المقامُ، والمراد ليلة المزدلفة، أو مطلق الليالي (هَلْ في ذَلِكَ): المقسم به من هذه الأشياء (قَسَمٌ): مقسم به (لذِي حِجْرٍ): عقل،(4/484)
فالاستفهام للدلالة على استحقاقها، لأن يعظم بالإقسام بها فيدل على تعظيم المقسم عليه، وتأكيده من طريق الكناية، أو في ذلك القسم قسم له، فللدلالة على أن ذوي العقول يؤكدون بمثله المقسم، فيدل على تأكيد القسم عليه أيضًا، وجواب القسم محذوف نحو: ليعذبن إن لم يومنوا، ويدل عليه قوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ) أي: عاد الأولى، يعني أولاده سموا باسم أبيهم، وهم الذين بعث الله فيهم هودًا فكذبوه، وأهلكهم " بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال " الآية [الحاقة: 6، 7] (إِرَمَ) عطف بيان لعاد على حذف مضاف، أي: سبط إرم، فإنهم أولاد عاد بن إرم بن عوض بن سام بن نوح، أو عاد بن عوص بن إرم، أو اسم بلدتهم، أي: عاد أهل إرم علم قبيلة أو بلدة فلم ينصرف (ذاتِ العِمَادِ) هم سكان بيوت الشعر التي ترتفع بالأعمدة، أو طوال الأجسام على تشبيه قدهم بالأعمدة، أو أبنية بنوها (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ): مثل تلك القبيلة(4/485)
للقوة وعظم التركيب، وفي الحديث (كان الرجل منهم يأتي على الصخرة، فيلقيها على الحي -أي: القبيلة- فيهلكهم)، وقيل: لم يخلق مثل أبنيتهم، وأما حكاية جنة شداد بن عاد المشهورة المذكورة فِي أكثر التفاسير فعند المحققين من السلف والمؤرخين أنها من مخترعات بني إسرائيل، ولا اعتبار له (وَثَمُودَ الذِينَ جَابُوا): قطعوا (الصَّخْرَ بالْوَادِ): وادي القرى كما قال تعالى: " وتنحتون من الجبال بيوتًا " الآية [الشعراء: 149] (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ): ذي الجنود الكثيرة، أو لأنه يعذب بالأوتاد، أو له جبال وأوتاد يلعب بها عنده (الذِينَ) صفة للمذكورين (طَغَوْا فِي البِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) الإضافة بمعنى من، أي: سوطًا من المعذب به، أي: نصيبًا أو شدة عذاب، فإن السوط عندهم غاية الإهانة (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) هو مكان يترقب فيه الرصد، وهذا تمثيل لإرصاده العباد بالجزاء، وأنَّهم لا يفوتونه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما يرصد خلقه فيما يعملون، قيل: هو جواب القسم، وما بينهما اعتراض (فَأَمَّا الإِنسَانُ) هو كالمبين لقوله: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) لأنه لما ذكر أنه تعالى يرصد خلقه في أعمالهم يعد بعض ذمائمهم (إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ) أي: امتحنه بالنعمة (فَأَكْرَمَهُ) بالمال(4/486)
(وَنَعَّمَهُ) بالسعة (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) دخول الفاء في خبر المبتدأ، لما في (أما) من معنى الشرط، وإذا ظرف ليقول أي: أما الإنسان فيقول وقت ابتلائه بالغنى: ربي أكرمن (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ): اختبره بالفقر (فَقَدَرَ): ضيق (عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) أي: وأما هو فيقول وقت ابتلائه بالفقر: ربي أهانني (كَلَّا) ردع عن القطع بأن الغنى إكرام والفقر إهانة، فكثيرًا ما يكون بالعكس (بَل لا تُكْرِمون اليَتِيمَ) أي: بل فعلهم أقبح من قولهم (وَلاَ تَحَاضُّونَ): يحثون أهلهم (عَلَى طَعامِ المِسْكِينِ) أي: على إطعامه (وَتَأكُلُونَ التُّرَاثَ): الميراث (أَكْلًا لَمًّا): ذا لَمَّ، أي: جمع بين الحلال والحرام، فإنهم لا يورثون النساء والصبيان (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا): كثيرًا مع الحرص (كَلَّا) ردع لهم عن ذينك وإنكار ثم أتى بالوعيد فقال: (إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا)، أي: دكا بعد دكة حتى سويت الأرض والجبال، فلمْ يبق تلال ولا وهاد، ظرف ليتذكر الإنسان (وَجَاءَ رَبُّكَ): لفصل(4/487)
القضاء جيئة تليق بقدسه من غير حركة ونقلة (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) مصطفين محدقين بالجن والإنس (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهًّمَ) في صحيح مسلم (يؤتى بجهنم يومئذ(4/488)
لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)، (يَوْمَئِذٍ)، بدل من " إذا دكت " (يَتَذكَّرُ الإنسَانُ) معاصيه، أو يتعظ ويندم (وَأَنَّى لَهُ) أي: أنى ينفعه فإن اللام للنفع (الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ): الأعمال الصالحة (لِحَيَاتِي): هذه، أو وقت حياتي في الدنيا (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) أي: لا يعذب أحد من الزبانية أحدًا، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل تعذيب الإنسان وإيثاقه فإن عذابه أشد، فضمير عذابه للإنسان والإضافة إلى المفعول، وهذا أرجح الوجوه لكن على هذا يلزم أن عذاب بعض الكفار أشد من عذاب الشياطين، فكأنه كذلك، وكذلك معنى يعذب، ويوثق على قراءة المجهول (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الُمطْمَئِنَّةُ) أي: يقول الله للمؤمن ذلك، المطمئنة: الساكنة الدائرة مع الحق، أو المطمئنة بذكر الله، أو الآمنة من عذاب الله (ارْجِعِي إِلَى ربِّكِ): إلى جوار الله، وثوابه، يقال لها ذلك عند الاحتضار، وعند البعث، وفيه إشعار بأن النفوس قبل الأبدان كانت موجودة في عالم القدس، وعن بعض من السلف معناه: ارجعى يا نفس إلى صاحبك، أي: بدنك الذي كنت فيه (رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً): عند الله (فَادْخلِي فِي عِبَادِي) أي: في زمرة الصالحين، الذين(4/489)
هم عباد الله على الحقيقة (وَادْخُلِي جَنَّتِي) عن سعيد بن جبير: مات ابن عباس بالطائف فجاء طير لم نر على خلقته، فدخل نعشه، ثم لم ير خارجًا منه، فلما دفن تليت عليه هذه الآية على شفير القبر لا ندري من تلاها، رواه الطبراني عن غيره.
والحمد لله حقَّ حمده.
* * *(4/490)
سورة الْبَلَدِ مكية
وهي عشرون آية
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
* * *
(لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ): مكة (وَأَنْتَ حِلٌّ) يعني: في المستقبل (بِهَذَا البَلَدِ): تقاتل فيه، وتصنع ما تريد من القتل، والأسر، فهذه جملة معترضة بوعده فتح مكة، وفي الحديث: (إنَّ الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض لم يحل لأحد قبلي ولا بعدي إنما أحلت لي ساعة من نهار، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة) (1)، قيل: معناه: أقسم بمكة حال حلولك فيها، فيكون تعظيمًا للمقسم به (وَوَالِدٍ): آدم (وَمَا وَلَدَ): ذريته، أو إبراهيم وذريته، أو كل والد، وكل مولود، وعن ابن
__________
(1) أخرجه البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما.(4/491)
عباسٍ وعكرمة: الوالد العاقر، وما ولد الذي يلد وإيثار ما على من لإرادة الوصف كما في وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ " [آل عمران: 36] (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ): تعب، يكابد مصائب الدنيا والآخرة، فعلى هذا يكون تسليته عليه السلام عما يكابده من قريش، أو في استقامة واستواء، وعن مقاتل: في قوة، قيل: نزلت في كافر قوي قد ذكرناه في سورة المدثر (أَيَحْسَبُ) الضمير لبعضهم (أَن لن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ): فينتقم منه، فإن الكفار لا يؤمنون بالقيامة والمجازاة، وعلى ما فسره مقاتل، فمعناه: لأنه مغرور بقوته، يظن أن لن يقدر عليه أحد، (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا): أنفقت مالاً كثيرًا، يفتخر بما أنفقه رياء وسمعة، أو معاداة للنبي عليه السلام (أَيَحْسَبُ أَن لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ): يظن أن الله لم يره، ولا يسأله من أين كسبه وأين أنفقه (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) يبصر بهما (وَلِسَانًا) يعبر به عما في ضميره (وَشَفَتَيْنِ) يستعين بهما على النطق والأكل، وغيرهما ويكون جمالاً (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ): طريقي الخير والشر، والثديين، روى الحافظ ابن عساكر عن النبي عليه السلام: (يقول الله تعالى: يا ابن آدم إن مما أنعمت عليك أن جعلت لك عينين تنظر بهما، وجعلت لهما غطاء، فانظر بعينيك إلى ما أحللت لك، فإن رأيت ما حرمت عليك فأطبق عليهما غطاءهما، وجعلت لك لسانًا وجعلت له غلافًا، فانطق بما أحللت، فإن عرض لك ما حرمت عليك فأغلق عليك لسانك، وجعلت لك فَرْجًا،(4/492)
وجعلت له سترًا فأصب بفرجك ما أحللت لك، فإن عرض لك ما حرمت عليك، فأرخ عليك سترك يا ابن آدم إنك لا تحمل سخطي، ولا تطيق انتقامي) (فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ) اقتحم: دخل وتجاوز بشدة، جعل الأعمال الصالحة عقبة، وعملها اقتحامًا لها، لما فيه من مجاهدة النفس، أي: فلم يشكر تلك النعم بأعمال تلك الحسنات (ومَا أدرَاكَ مَا العَقَبَة) أي: لم تدْرِ كُنْهَ صعوبتها، وثوابها (فَكُّ رَقَبَةٍ) تفسير للعقبة، أي: تخليصها من الرق، وفي الحديث (من أعتق رقبة مؤمنة فهي فكاكه من النار) (أَوْ إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذي مَسْغَبَةٍ) أي: ذي مجاعة، الناس محتاجون إلى الطعام (يَتِيمًا) مفعول طعام، أو تقديره: أطعم يتيمًا (ذَا مَقْرَبَةٍ): ذا قرابة منه (أَوْ مِسْكِينًا ذا مَتْرَبَةٍ): افتقار، هو من لا بيت له ولا شيء يقيه من التراب، أو ذو عيال، أو غريب فقير، وقراءة " فَكَّ " و " أَطْعَم " على الفعل فبدل من اقتحم، ولما كان حاصل معنى " فلا اقتحم العقبة " فلا فك رقبة، ولا أطعم يتيمًا أو مسكينًا، وقع لا موقعه فإنها قلما تدخل على الماضي إلا مكررة (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) عطف على اقتحم، أي: ولا كان من المؤمنين، وثم لتباعد رتبة الإيمان(4/493)
عن العتق والإطعام (وَتَوَاصَوْا) أي: بعضهم بعضًا (بِالصَّبْرِ) على طاعة الله (وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ): بالرحمة على العباد (أوْلَئِكَ) إشارة إلى الذين آمنوا في قوله: " من الذين آمنوا " أو إلى ضد من ذمه فإنه في حكم المذكور (أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ): اليمين، أو اليمن (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ المَشْئَمَةِ): الشمال، أو الشؤم (عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ): مطبقة لا يدخل فيها رَوح، ولا يخرجون منها آخر الأبد.
* * *(4/494)
سورة الشَّمْسِ مكية
وهي خمس عشرة آية
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
* * *
(وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) أي: ضوءها إذا أشرقت، وعن قتادة هو النهار كله (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا): تبع طلوعه طلوعها، وهو أول الشهر، أو غروبها، يعني:(4/495)
حين كونه بدرًا (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا) الضمير للشمس، فإنها تنجلي تامًّا إذا انبسط النهار، أو للظلمة وإن كانت غير مذكورة للعلم بها (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) أي: الشمس، فإنها تغيب في الليل، وتحقيق عامل مثل هذا الظرف قد مر في سورة التكوير عند قوله: " والليل إذا عسعس " [التكوير: 17]، فلا تغتر بما يرى بادي الرأي (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا) أي: ومن بناها، والعدول إلى (ما) على الوصفية، والبلوغ في الغاية للإبهام فإن (ما) أشد إبهامًا (وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا): ومن بسطها (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا): من سوى خلقها، بتعديل الأعضاء، والقوى، ومنها المفكرة، أو خلقها مستقيمة على الفطرة القويمة، وفي صحيح مسلم: (إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم) وتنكير نفس للتكثير نحو: (علمت نفسٌ) (فَأَلْهَمَهَا): علمها، وبين لها (فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) وجاز أن يكون (الماءات) الثلاثة مصدرية، كما قال الفراء والزجاج، وقوله: " فألهمها " عطف على ما بعد ما كأنه قيل: ونفس وتسويتها فإلهامها فجورها، والمهلة فيها عرفية، ولا محذور (قدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا): من طهرها الله من الأخلاق الدنية، وتأنيث الضمير لأن (من) في معنى النفس، أو من طهر النفس، وإسناد الضمير إليه لقيامه به، والأول أرجح لما في الطبراني وغيره أنه عليه السلام إذا قرأ " فألهمها فجورها وتقواها " وقف ثم قال: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها)، وفي صحيح مسلم (إنه كان عليه السلام يدعوا بهذا الدعاء) وعن ابن عباس - رضي الله عنها -(4/496)
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: " قد أفلح من زكاها " أفلحت نفس زكاها الله عز وجل (وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا): دسها الله، ونقصها وعدلها عن الهدى، وأصله دسسها كـ تقضَّى وتقضض، وهو جواب القسم بحذف اللام للطول، أي: لقد أفلح، أو هو استطراد بذكر بعض أحوال النفس، تابع لقوله: " فألهمها "، والجواب محذوف، أي: لَيُدَمْدِمَنَّ الله على كفار مكة إن لم يؤمنوا كما دمدم على ثمود (كَذبَتْ ثَمُودُ بِطَغوَاهَا) بسبب طغيانها (إِذِ انْبَعَثَ) أي: كذبت حين قام (أَشْقَاهَا) أشقى ثمود، عن عمار بن ياسر قالَ: قال عليه السلام لِعَلِيٍّ: (ألا أحدثك بأشقى الناس؟ قال: بلى، قال: رجلان أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذا -يعني قرنه- حتى تبتل منه هذه- يعني لحيته-) (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ): صالح عليه السلام (نَاقَةَ اللهِ) نصب على التحذير، أي: احذروا عقرها (وَسُقْيَاهَا): وشربها في يومها، فإن لها شرب يوم، ولكم شرب يوم معلوم (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا): قتلوا الناقة (فَدَمْدَمَ): فأطبق العذاب (عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ): بسببه (فَسَوَّاهَا): فسوّى الدمدمة بينهم، ولم يفلت منهم أحد، أو فسوى ثمود بالإهلاك (وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا) أي: ولا يخافُ الله(4/497)
عاقبة الدمدمة وتبعتها، كما يخاف الملوك فيبقى بعض الإبقاء، أو لا يخاف ذلك الأشقى عاقبة فعلته، والواو للحال.
والحمد لله وحده.
* * *(4/498)
سورة اللَّيْلِ مكية
وهي إحدى وعشرون آية
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
* * *
(وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى): الخليقة بظلامه (وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى): بَانَ وظهر (وَمَا خَلَقَ) أي: ومن خلق، وقيل: مصدرية (الذكَرَ وَالأنثَى) أي: صنفيهما، أو آدم وحواء (إِنَّ سعْيَكُمْ): مساعيكم (لَشَتَّى) أي: أشتات مختلفة وأعمالكم متضادة، (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى): ماله لوجه الله (وَاتَّقَى): محارمه (وَصَدَّقَ(4/499)
بالْحُسْنَى): بالمجازاة وأيقن أن الله سيخلفه، أو بالكلمة الحسني، وهي كلمة التوحيد، أو بالجنة (فَسَنُيَسِّرُهُ) في الدنيا (لِلْيُسْرَى): للخلة التي توصله إلى اليسر، والراحة في الآخرة، يعني للأعمال الصالحة، (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ): بالإنفاق في الخيرات، (وَاستَغنَى): بالدنيا عن العقبى، (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ)، في الدنيا، (لِلْعُسْرَى): للخلة المؤدية إلى الشدة في الآخرة، وهي: الأعمال السيئة، ولهذا قالوا: من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن جزاء السيئة السيئة بعدها، (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى): هلك، أو سقط وتردى في جهنم، (إِنَّ عَلَيْنَا)، أي: واجب علينا بمقتضى حكمتنا، (لَلْهُدَى): للإرشاد إلى الحق، أو طريقة الهدى علينا فمن سلكها وصل إلينا، (وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى)، فنعطي ما نشاء لمن نشاء، ومن طلب من غيرنا فقد أخطأ، (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى): تتلهب، وفي الصحيح (إن أهون أهل النار عذابًا رجل يوضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه) (لَا يَصْلَاهَا): لا يلزمها مقاسيًا شدتها، (إِلَّا الْأَشْقَى): الكافر، (الذِي كَذَّبَ): بالحق، (وَتَوَلى): عن الطاعة، وفي الحديث: (لا يدخل النار إلا شقي، قيل: ومن هو؟ قال: الذي لا يعمل بطاعة، ولا يترك لله معصية)(4/500)
(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى): الذي اتقى عن الشرك والمعصية فلا يدخلها أصلاً، وأما من اتقى الشرك وحده فيمكن أن يدخلها، لكن لا يصلاها ولا يلزمها، (الذِي يُؤْتِي مَالَهُ): يعطي ماله ويصرفه في طاعة الله، (يَتَزَكَّى): يطلب تزكية نفسه وماله، بدل، أو حال، (وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى): فيقصد بإيتائه مجازاتها، (إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى)، أي: لكن يؤتي لطلب مرضاة الله، (وَلَسَوْفَ يَرْضَى): من ربه حين يدخله في رحمته، وعن كثير من المفسرين: إن هذه السورة في الصديق - رضي الله عنه -(4/501)
وهو الأتقى، وأمية بن خلف هو الأشقى، فيكون الحصر ادعائيًا لا حقيقيًّا، لأن غير هذا الأشقى غير ضال وغير هذا الأتقى غير مجنب بالكلية.
والحمد لله على كل حال
* * *(4/502)
سورة الضُّحَى مكية
وهي إحدى عشرة آية
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
* * *
(وَالضُّحَى): وقت الضحى، وهو صدر النهار، أو المراد النهار، (وَالليْلِ إِذَا سجى): سكن ظلامه، أو سكن أهله، (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ)، جواب القسم، أى: ما تركك ترك المودع، (وَمَا قَلَى): وما أبغضك، وحذف المفعول للعلم به، رعاية لفواصل الآي، اشتكى عليه السلام، فلم يقم ليلة أو ليلتين فأتت امرأة قيل امرأة أبي لهب، وقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا تركك، فنزلت، أو لما تأخر الوحي خمسة عشر يومًا أو أقل أو أكثر، قال المشركون: إن محمدًا قد قلاه ربه، لما رد الله كلام المشركين، ودفع عنه ما يسوءه، وعد له ما يسره فقال: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى)، في الحديث (إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا)،(4/503)
(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)، عن ابن عباس أعطاه في الجنة ألف قصر، في كل منها ما ينبغي له من الأزواج والخدم، وعنه من رضاه عليه السلام أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار، وعن الحسن وغيره المراد الشفاعة، واللام لام التأكيد عند ابن الحاجب لا لام الابتداء، دخل على الخبر بعد حذف المبتدأ، ويكون تقديره: ولأنت سوف يعطيك، (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى)، عدد عليه أياديه من أول نشئه، والمنصوبان مفعولا يجد، لأنه بمعنى العلم، أو الثاني حال، وهو بمعنى المصادفة، أي: فآواك ورباك وضمك إلى عمك، وهو مع كفره رعاك وحماك، (وَوَجَدَكَ ضَالًّا): جاهلاً، (فهَدَى): فعلمك، (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا) الآية [الشورى: 52]، وقيل: ضل في شعاب مكة وهو صغير، فهداه، وقيل: أضله إبليس في طريق الشام عن الطريق في ليلة ظلماء، فجاء جبريل فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الحبشة، ورده إلى القافلة، (وَوَجَدَكَ عَائِلًا): فقيرًا ذا عيال، (فأَغنَى): فأغناك بمال خديجة - رضي الله عنها -، ثم بالغنائم، أو فأغناك عمن سواه فجمع له بين مقامَي الفقير الصابر والغني الشاكر، (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) كما كنت يتيمًا فآواك الله، كن لليتيم كالأب الرحيم (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) كما كنت جاهلاً فعلمك، لا تزجر سائلاً مسترشدًا طَالب علم، ولما هداك إلى ما هو روحك لا تزجر من يطلب منك قوت بدنه، (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)، فاشكر مولاك الذي أغناك، فإن من شكر النعم أن يحدث بها، ومن كفرها أن(4/504)
يكتمه، " ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله " (1)، أو ما جاءك من النبوة فحدث بها وادع إليها، أو من القرآن فاقرأه أو بلغه، أو ما عملت من خير فحدث إخوانك ليتابعوك، وجاز أن يكون نشرًا مشوشًا، ويكون " أما بنعمة ربك فحدث " في مقابلة هدية الله له بعد الضلال، والمراد من التحديث تعليم الشرائع والقرآن، وكيفية العبادة والدعوة إلى الإيمان، والسنة التكبير بلفظ الله أكبر، أو بزيادة لا إله إلا الله والله أكبر، من آخر والضحى، أو من آخر الليل إلى آخر القرآن، ونقل عن الشافعي: أنه سمع رجلاً يكبر هذا التكبير في الصلاة، فقال له: أحسنت وأصبت السنة.
* * *
___________
(1) رواه عبد الله بن الإمام أحمد، وهذا المعنى رواه أبو داود أيضًا.(4/505)
سورة الانشراح مكية
وهي ثمان آيات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
* * *
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)، أي: فسحناه ونورناه ووسعناه بالنبوة والحكمة، أو إشارة إلى شق صدره في صباه، وإخراج الغل والحسد وإدخال الرأفة والرحمة، والحكاية مشهورة، والهمزة لإنكار نفي الانشراح مبالغة في إثباته، (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ): غفرنا لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، أو الخطأ والسهو، (الذِي أَنقَضَ): أثقل، (ظَهْرَكَ)، كأن الذنوب حمل يثقل الظهر، (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)، " في الدنيا والآخرة، إذا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ معي، (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ)، كضيق الصدر، والوزر، (يُسْرًا)، كالشرح، والوضع، والتنكير للتعظيم، (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)، جاز أن يكون هذا تأكيدًا، أو جاز أن يكون تأسيسًا مستأنفًا(4/506)
، وهو راجح لفضل التأسيس عليه، وكلام الله محمول على أبلغ الاحتمالين، كيف لا والمقام مقام التسلية، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لن يغلب عسر يسرين "، وذلك لأن المعرف المعاد عين الأول، والنكرة المعادة غيره وذكر أن " مع " للمبالغة في اتصال اليسر به اتصال المتقاربين، (فَإِذَا فَرَغْتَ): من أمور دنياك، أو من التبليغ، أو من الجهاد، (فَانْصَبْ): فاتعب في العبادة، أو من صلاتك واتعب في الدعاء، فإن الدعاء بعد الصلاة مستجابة، (وَإِلَى رَبِّكَ): وحده، (فَارْغَبْ): بالسؤال، أو اجعل نيتك في العبادة خالصة.
والحمد للهِ.
* * *(4/507)
سورة التِّينِ مكية
وهي ثمان آيات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّين (7) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
* * *
(وَالتِّينِ): هو المعروف، خص من بين الفواكه لأنه يشبه فواكه الجنة من حيث إنه بلا عجم، (وَالزَّيْتُونِ)، خصه، لأنه شجرة مباركة نور وفاكهة وإدام، والأول: اسم مسجد دمشق، أو الجبل الذي عندها، والثاني: مسجد بيت المقدس، (وَطُورِ سِينِينَ): الجبل الذي كلم الله عليه موسى، قيل معنى سينين: المبارك بالسريانية، وقد مر شرحه في " وشجرة تخرج من طور سيناء " الآية [المؤمنون: 20]، (وَهَذا البَلَدِ الأَمِينِ): أمانته أن يحفظ من دخله، كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه، فهو من آمن، أو المأمون من الغوائل، فهو من أمنه، والمراد: مكة، وعن كثير من العلماء أقسم بمحال ثلاثة، بعث الله في كل واحد نبيًا من أولي العزم، فالأول: كناية عن بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى، والثاني: طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى، والثالث: البلد الحرام الذي أرسل فيه نبينا محمد - عليه وعليهم الصلاة(4/508)
والسلام (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ): تعديل لشكله، وتسوية لأعضائه، وتزيين بعقله، (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)، إلى النار في شر صورة، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، استثناء متصل، وهو كقوله: " والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا " [العصر: 1 - 3]، لفظًا ومعنى، وعن ابن عباس، وبعض آخر: المراد من أسفل سافلين أرذل العمر، فيكون الاستثناء منقطعًا، أي: لكن المؤمنين العاملين، (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ): غير منقطع على طاعتهم، ويكتب لهم مثل ما كانوا يعملون في الشباب، وإن لم يعملوا في الهرم، (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ):. فأي شيء يحملك يا إنسان على هذا الكذب، ويجعلك كاذبًا بعد هذه الأقسام الأكيدة، أو الدليل الذي هو خلق البداءة في صورة حسنة، ومن قدر على هذا قدر على الإعادة، (بِالدِّينِ): بسبب الجزاء وإنكاره، يعني: أيُّ شيء يضطرك إلى أن تكون كاذبًا بسبب تكذيب الجزاء؟ فالاستفهام للتوبيخ، أو معناه، أيُّ شيء يكذبك يا محمد بعد ظهور هذه الدلائل بالجزاء والبعث؟ فالاستفهام لإنكار شيء يكذبه دلالة ونطقًا، (أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحَاكمِينَ): عدلاً وتدبيرًا لا ظلم ولا عجز له بوجه، فلا محال ويقدر على البعث والجزاء، ولابد منهما، والسنة إذا قرأ " أليس الله بأحكم الحاكمين " أن يقال: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين.
* * *(4/509)
سورة العلق مكية
وهي تسع عشرة آية
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
* * *
(اقْرَأْ) أي: القرآن (بِاسْمِ) أي: مفتتحًا باسم (رَبِّكَ الذي خَلَقَ) أي: الخلائق (خَلَقَ الإِنسَانَ): الذي هو أشرف المخلوقات (مِنْ عَلَقٍ): جمع علقة، جمعه لأن الإنسان في معنى الجمع (اقْرَأْ) تكرير للمبالغة (وَربُّكَ الأَكْرَمُ): الزائد في الكرم على كل كريم بنعم على العباد، ويحلم عنهم فلا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم، وتناهي جحودهم (الَّذِي عَلَّمَ): الحظ الذي هو من جلائل النعم (بِالْقَلَمِ(4/510)
عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) أي: ما لا يقدر على تعلمه لولا تعليم الله، وقد صح أن هذه السورة إلى هذه الآية، أول آيات نزلت في جبل حراء (كَلَّا) ردع لمن كفر بنعمه بسبب طغيانه، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه (إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى): ليتجاوز عن حده (أَنْ رآهُ): رأى نفسه، لولا أن الرؤية بمعنى العلم، لامتنع أن يكون مرجع المفعول مرجع ضمير الفاعل (استَغنَى) أي: رأى نفسه غنيًّا ذا مال، وهو ثاني مفعولي رأى (إِنَّ إِلَى ربِّكَ) يا إنسان، التفات للتهديد (الرُّجْعَى): الرجوع فيجازي طغيانك (أَرَأَيْتَ الذِي يَنْهَى) أي: أبا جهل (عَبْدًا): هو أشرف العباد - صلى الله عليه وسلم - (إِذَا صَلَّى) قال عليه اللعنة: لئن رأيته ساجدًا لأطأن على عنقه (أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى) أخبرني، يا من له أدنى تمييز عن حال من ينهى عبدًا من العباد إذا صلى، إن كان على طريقة سديدة في نهيه عن عبادة الله، أو كان آمرًا بالتقوى، فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يزعم، ألم يعلم بأن الله يرى حاله، فيجازيه؟ أخبرني عن هذا الذي ينهى المصلى إن كان على(4/511)
التكذيب للحق، والتولي عن الدين الصحيح كما نقول نحن، ألم يعلم بأن الله يرى فيجازيه، فعلى هذا " أرأيت " الثاني تكرار للأول للتأكيد، وأما الثالث فمستقل للتقابل بين الشرطين، وحذف جواب الأول لدلالة " ألم يعلم " الذي هو جواب الثالث عليه عند من يجوز أن يكون الإنشاء جوابًا للشرط بلا فاء، وعند من لم يجوز يكون جواب الأول والثالث محذوفًا بقرينة " ألم يعلم "، أو " أرأيت " الأولى فأختاها متوجهات إلى " ألم يعلم "، وهو مقدر عند الأوليين، والحذف للاختصار، أو معناه ما أعجب ممن ينهى عبدًا عن الصلاة، إن كان المنهي على الهدى آمرًا بالتقوى، والناهي مكذب متولي، أو معناه أخبرني إن كان الكافر على الهدى، أو آمرًا بالتقوى، أما كان خيرًا له؟ أو معناه أخبرني يا كافر إن كان المنهي على الهدى في فعله، أو آمرًا بالتقوى في قوله، فما ظنك وأنت تزجره؟ وعلى هذين الوجهين جواب الشرط الثاني فقط قوله: " ألم يعلم "، (كلَّا)، ردع للناهي، (لَئِن لَّمْ يَنتَهِ)، عما هو فيه، (لَنَسْفَعًا): لنأخذن، وكتابتها في المصحف بالألف على حكم الوقف، (بِالنَّاصِيَةِ): بناصيته، فلنجرنه إلى النار، (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ)، بدل من الناصية أسند الكذب والخطأ إليها، وهما لصاحبها مجاز المبالغة، (فَلْيَدْعُ(4/512)
نَادِيَهُ): أهل ناديه، يعني: قومه وعشيرته فليستعن بهم، (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ): ملائكة العذاب ليجروه إلى النار، قال عليه اللعنة: واللات والعزى، لئن رأيته يصلي لأطأن على رقبته، فلما رآه جاءه فإذا نكص على عقبيه ويتقي بيديه، فقيل له: مالك؟ قال: إن بيني وبينه خندقًا من نار، وهولاً وأجنحة، فقال عليه السلام: " لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا "، (كَلَّا)، أي: ليس الأمر على ما عليه أبو جهل، (لاَ تُطِعْهُ): يا محمد ودم على طاعتك، (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ): ودم على السجود والتقرب إلى الله حيث شئت، ولا تباله.
والحمد لله
* * *(4/513)
سورة الْقَدْرِ مكية
وهي خمس آيات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
* * *
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ)، أي: القرآن، (فِي لَيْلَةِ القَدْرِ): لعظمة شأنها، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ منْ أَلْفِ شَهْرٍ)، أي: من ألف شهر ليس فيها تلك الليلة، والعمل في تلك الليلة أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، ولذلك ثبت في الصحيحين (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه) نزلت، حين ذكر عليه السلام " رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب الصحابة من ذلك " فأعطوا ليلة خيرًا من مدة ذلك الغازي، والأصح أنها من خصائص هذه الأمة، وأنَّهَا في رمضان، وأنَّهَا في العشر الأواخر،(4/514)
وأنها في أوتارها، وأنَّهَا تختلف في السنين جمعًا بين الأحاديث، ولا خلاف بين السلف في أنها باقية إلى يوم القيامة، سميت بها لأنها ليلة تقدير الأمور والأحكام إلى السنة المقبلة، أو لمنزلتها وقدرها عند الله، (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ): جبريل، أو ضرب من الملائكة، (فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ)، مع نزول البركة، والرحمة، قال عليه السلام: (الملائكة في الأرض في تلك الليلة أكثر من عدد الحصى)، وعن كعب الأحبار: (لا يبقى بقعة إلا وعليها ملك يدعو للمؤمنين، والمؤمنات، سوى كنيسة، أو بيت نار، أو وثن، أو موضع فيه النجاسات، أو السكران، أو الجرس، وجبريل لا يدع أحدًا إلا صافحه فمن اقشعر جلده ورق قلبه، ودمعت عيناه فمن أثر مصافحته، (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)، أي: تتنزل من أجل كل أمر قُدِّر في تلك السنة، (سَلامٌ هِيَ)، ليس هي إلا سلامة لا يقدر فيها شر وبلاء، أو لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا، أو ما هي إلا سلام لكثرة سلام الملائكة على أهل المساجد، وعن مجاهد: سلام هي من كل أمر وخطر، (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)، غاية تبين تعميم السلامة، أو السلام كل الليلة، أي: وقت طلوعه، والمطلِع بالكسر أيضًا مصدر كالمرجع، أو اسم زمان كالمشرق على خلاف القياس، ويستحب أن يكثر فيها من قول اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني.
والحمد للهِ.
* * *(4/515)
سورة الْبَيِّنَةِ مختلف فيها
وهي ثمان آيات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
* * *
(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ): اليهود والنصارى، (وَالْمُشْرِكِينَ): عبدة الأوثان، (مُنفَكينَ): عن كفرهمَ، (حَتَّى تَأتِيَهُمُ البَيِّنَة)، أي: الرسول(4/516)
أتاهم بالقرآن، فبين ضلالتهم فدعاهم إلى الإيمان، فآمن بعضهم، (رَسُولٌ مِنَ اللهِ)، بدل من البينة، (يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً)، أي: ما في الصحف المطهرة، فإنه مكتوب في الملأ الأعلى في الصحف كما مر في سورة عبس، (فيهَا): في الصحف المطهرة، (كُتُبٌ قَيِّمَةٌ): مكتوبات، مستقيمة، لا خطأ فيها، (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)، أي: تفرقهم واختلافهم، بعدما أقام الله عليهم الحجج، فإنهم اختلفوا فيما أراده الله من كتبهم، قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) [آل عمران: 105]، وفي الحديث: (اختلف اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة، هي ما أنا عليه وأصحابي)، أو معناه: لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد عليه السلام حتى بعثه الله، فلما بعث تفرقوا فآمن بعض، وكفر أكثرهم، (وَمَا أُمِرُوا)، أي: بما في الكتابين، (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، أي: إلا لأجل عبادة الله على هذه الصفة نحو (وَمَا أَرْسَلْنَا(4/517)
مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25]، (حُنَفَاءَ): مائلين عن كل دين باطل، (وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ)، عطف على يعبدوا، (وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ)، لكنهم حرفوه، (وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ): أي دين الملة والشريعة المستقيمة، وقيل: هي جمع القيم، أي: دين الأمة القائمة لله، (إِنَّ الَّذِينَ كفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا)، أي: يوم القيامة، (أوْلَئِكَ هُمْ شرُّ البَرِيَّةِ): الخليقة، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ)، استدل أبو هريرة، وطائفة من العلماء على تفضيل أولياء الله من المؤمنين على الملائكة بهذه الآية، (جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)، فيه مبالغات لا يخفى على المتأمل، (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ)، استئناف، بما حصل لهم زيادة على جزائهم، (وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ)، أي: هذا الجزاء، (لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)، فاتقاه حق تقواه، وإنما يخشى الله من عباده العلماءُ.
* * *(4/518)
سورة الزلزال مكية
وقيل مدنية وهي ثمان آيات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
* * *
(إِذَا زُلْزِلَتِ): حركت، (الأَرْضُ زِلْزَالَهَا)، المقدر لها عند النفخة، (وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا): من الأموات، والكنوز، وألقاها من جوفها على ظهرها، (وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا)، تعجبًا من تلك الحالة، (يَوْمَئِذٍ)، بدل من إذا، وناصبها تحدِّث، أو عامل إذا مضمر نحو: اذكر، وعامل يومئذ تحدث، (تُحَدِّثُ): الأرض الخلق بلسان القال،، (أَخْبَارَهَا)، وفي الترمذي،(4/519)
والنسائي " قرأ عليه السلام هذه الآية قال: إن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها، أن تقول: عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا "، (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا)، أي: تحدث بسبب إيحاء الرب، وأمره بالتحديث، (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ): يرجعون عن موقف الحساب، (أَشْتَاتًا): متفرقين أصنافًا، وأنواعًا ما بين شقي وسعيد، (ليُرَوْا أَعْمَالَهُمْ)، أي: جزائها، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ): وزن نملة صغيرة، أو ما يرى في الشمس من الهباء، (خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، عن ابن مسعود رضي الله عنه: هذه أحكم آية في كتاب الله، وكان عليه السلام يسميها " الفاذة الجامعة "، وفي إحباط بعض أعمال الخير، والعفو عن بعض أعمال الشر، إشكال، اللهم إلا أن يقال: الآية مشروطة بعدم الإحباط، والعفو، وما ذكره النسائي، وابن ماجه إنه لما نزلت قال أبو بكر: إني أجزى بما عملت من مثقال ذرة من شر، فقال عليه السلام: " ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر، ويدخر الله لك مثاقيل ذر الخير حتى توفاه يوم القيامة "، فلا يخلو عن إشكال لأن قوله: " فمن يعمل " مترتب على قوله: " يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ "، فالظاهر(4/520)
أن رؤية جزاء الأعمال في الآخرة لا في الدنيا، اللهم إلا أن يقال: قد تم الكلام عند قوله: " ليروا أعمالهم "، وقوله: " فمن يعمل " ابتداء كلام وحكم على حياله، وعن سعيد بن جبير: كان المسلمون يرون أنَّهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه، وكان آخرون يرون أن لا يلامون على الذنب اليسير الكذبة، والنظرة، والغيبة وأشباهها، فرغبهم الله في القليل من الخير، وحذرهم عن القليل من الشر، فنزلت: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) إلخ.
والحمد لله.
* * *(4/521)
سورة الْعَادِيَاتِ مختلف فيها
وهي إحدى عشرة آية
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
* * *
(وَالْعَادِيَاتِ)، أقسم بالخيول التي تعدو في سبيل الله، (ضَبْحًا): تضبح ضبحًا، أو ضابحات، وهو صوت نفسه عند العدو، (فَالْمُورِيَاتِ): الخيول، التي توري النار بحوافرها، (قَدْحًا): صاكَّات بحوافرها الحجارة، (فَالْمُغِيرَاتِ): تغير على العدو، (صُبْحًا): في وقته، (فَأَثَرْنَ بِهِ): هيجن، (نَقْعًا): غبارًا، (فَوَسَطْنَ): توسطن، (بِهِ): بذلك الوقت، (جَمْعًا): من الأعداء، وعن علي رضي الله عنه: المراد الإبل حين تعدو من عرفة إلى مزدلفة، ثم جماعة توقدون(4/522)
النار في مزدلفة، ثم المسرعات منها إلى منى فإنها في الصبح، ويكون الإغارة سرعة السير، ثم إثارة النقع في الطريق، ثم التوسط متلبسات بالنقع في الجمع، وهو اسم مزدلفة، وعلى هذا الضبح الذي هو للفرس مستعار للإبل، (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ)، أي: لنعم ربه، (لَكَنُودٌ): لكفور، (وَإِنَّهُ): الإنسان، (عًلَى ذلِكَ): على كنوده، (لَشَهِيدٌ): يشهد على نفسه بلسان حاله، أو وعيد من الله، أي: إن الله على كنوده لشهيد، (وَإِنَّهُ): الإنسان، (لِحُبِّ الخَيْرِ): لأجل حب المال، (لَشَدِيدٌ): بخيل، أو لقوي بالغ، (أَفَلاَ يَعْلَمُ): الله، (إِذَا بُعْثِرَ): بعث، ظرف " يعلم "، (مَا فِي القُبُورِ): من الموتى، (وَحُصِّلَ)، أي: أظهر محصلاً، (مَا في الصُّدُورِ)، من الخير والشر، أجرى العلم مجرى اللازم، أي: أليس له العلم الكامل بما عليه الأمر في ذلك اليوم؟ ثم يؤكد ذلك بقوله: (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ): هو يوم القيامة، (لَخَبِيرٌ). لعالم فيجازيهم.
والحمد للهِ.
* * *(4/523)
سورة الْقَارِعَةِ مكية
وهي إحدى عشرة آية
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
* * *
(الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ)، مبتدأ وخبر، أي: القارعة ما هي؟ كما مر في سورة الحاقة، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ)، ظرف لما دل عليه القارعة، أي: تقرع يوم، (يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ المَبْثُوثِ): في الذلة، والاضطرار، والتطاير إلى الداعي، كتطاير الفَرَاش إلى النار، (وَتَكُونُ الجبَالُ كَالْعِهْنِ): كالصوف، (المَنفُوشِ): المندوف، في خفة سيرها وتطايرها، (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ): بترجيح قدر الحسنات، (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ): عيش، (رَّاضيَةٍ): ذات رضي، (وَأَمَّا مَنْ خَفتْ مَوَازِينُهُ): بأن ترجحت سيئاته، (فَأُمُّهُ): َ مأواه، أو أم رأسه، فإنه يطرح فيها منكوسًا، (هَاوِيَةٌ)، من أسماء جهنم، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ)، الضمير للهاوية، والهاء للسكت، (نَارٌ حَامِيَةٌ): ذات حرارة شديدة فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزء.
اللهم أجرنا منها.
* * *(4/524)
سورة التَّكَاثُر مكية
وهي ثمان آيات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
* * *
(أَلْهَاكُمُ): شغلكم، (التَّكَاثُرُ): المباهات بكثرة الأموال والأولاد عن طلب الآخرة، (حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ) أي: تمادى بكم إلى أن متم، وقبرتم، وفي الحديث: (حتى زرتم المقابر: حتى يأتيكم الموت)، وفي الترمذي عن علي رضي الله عنه " ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت " ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر " وعن عمر بن عبد العزيز حين قرأ ذلك قال: ما أدري المقابر إلا زيارة، وما للزائر إلا أن يرجع إلى منزله إلى جنة أو نار، وعن بعض معناه: تكاثرتم بالأحياء، حين قلتم: نحن أكثر عددًا وخدمًا وعشيرة، حتى إذا استوعبتم عددهم، صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات، بأن قلتم: هؤلاء قبور خدمنا، وعشائرنا، وأقاربنا، (كَلَّا)، ردع عن الاشتغال بما يضره عما ينفعه، (سَوْفَ تَعْلَمُونَ)، خطأ ما أنتم عليه، (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ(4/525)
تَعْلَمُونَ)، تكرير للتأكيد، وثم للدلالة على أن التالي أبلغ، (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ)، ما سترجعون إليه، (عِلْمَ اليَقِينِ): علمًا يقينًا، من غير تذبذب، لما ألهاكم شيء عن طلب الآخرة، فجواب " لو " محذوف، (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)، جواب قسم محذوف تأكيد للوعيد، (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا)، تكرير للتأكيد، (عَيْنَ اليَقِينِ)، أي: الرؤية التي هي نفس اليقين، (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ): عن شكر ما أنعم الله به عليكم من لذات الدنيا، وفي مسلم ومسند الإمام أحمد وغيرهما أنه عليه السلام أكل مع أبي بكر، وعمر رطبًا وماء باردًا، فقال: (هذا من النعيم الذي تسألون عنه)، وفي الحديث: (يُسئل عن كل شيء إلا من ثلاثة خرقة كف بها الرجل عورته، أو كسرة سد بها جوعته، أو جحر يدخل فيه من الحر والقر) وكلام جمهور السلف على أن السؤال عام.
والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *(4/526)
سورة الْعَصْرِ مكية
وهي ثلاث آيات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
* * *
(وَالْعَصْرِ)، أي: الدهر، أو بصلاة العصر، أو بوقته، (إِنَّ الْإِنْسَانَ): كلهم، (لفِي خُسْرٍ)، في مساعيهم، (إِلا الذِينَ آموا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، فإنهم فازوا، وربحوا، لأنهم اشتروا الآخرة الباقية بالدنيا الفانية، (وَتَوَاصَوْا): أوصى بعضهم بعضًا، (بِالْحَقِّ): بالقرآن أو بما هو الخير، (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ): على المصائب، أو عن(4/527)
المعاصي، يعني: يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويحكى عن بعض الأكابر أنه قال: فهمت معنى سورة " والعصر " عن بائع ثلج، يقول: ارحموا على من رأس ماله يذوب.
اللهم وفقنا لمرضاتك.
* * *(4/528)
سورة الهُمَزَة مكية
وهي تسع آيات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
* * *
(وَيْل لِّكُلِّ هُمَزَةٍ): من اعتاد يكسر أعراض الناس (لمَزَةٍ): من اعتاد بالطعن فيهم، وعن بعض السلف الأول: العيب بالغيب، والثاني في الوجه، وقيل: باللسان، وبالعين، والحاجب، نزلت في الأخنس بن شريق، أو غيره، وعن مجاهد: هي عامة (الذِي جَمَعَ مَالًا) بدل من كل، أو منصوب، أو مرفوع بالذم (وَعَدَّدَهُ): عده مرة بعد أخرى، أو جعله عدة وذخيرة للنوازل (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ): لفرط غروره واشتغاله بالدنيا وطول أمله، لا يخطر الموت بباله، فيعمل أعمال من يظن الخلود (كَلَّا) ردع له عن حسبانه (لَيُنْبَذَنَّ): ليطرحن (في الحُطَمَةِ): من أسماء جهنم، لأنها يحطم، ويكسر (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ): أوقدها الله (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ): تعلو على أوساط قلوبهم، فإنها ألطف ما في(4/529)
البدن، وأشد تألمًا، وعن كثير من السلف: تأكل كل جسده، حتى بلغت فؤاده جدّد خلقه (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) مطبقة (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) أي: موثقين في عمد ممدودة يعني: أرجلهم، وأيديهم في حديد كالعمود طويل، هو حال من ضمير (عليهم).
والحمد للهِ.
* * *(4/530)
سورة الْفِيلِ مكية
وهي خمس آيات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
* * *
(أَلَمْ تَرَ) يا محمد، جعل مشاهدة آثارها وسماع أخبارها بمنزلة الرؤية (كَيْفَ فَعَلَ) نصب كيف بفعل (رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ) في تخريب(4/531)
الكعبة (في تَضْلِيلٍ): في تضييع (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ): جماعات جمع إبالة، وهي الحزمة الكبيرة (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ): من طين متحجر، معرّب سنككل (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ): َ ورق زرع (مَأْكُولٍ): أكلته الدواب ورَاثَتْهُ، أو وقع فيه الإكال، وهو أن يأكله الدود، وقصته أن ملك اليمن أبرهة بنى كنيسة، وأراد صرف الحج إليها، فقصدها بعض قريش، وأحدث فيها، فلما رأى السدنة ذلك الحدث، أخبروا الملك بأن ليس هذا إلا من قريش غضبًا لبيتهم، فتوجه الملك لتخريب الكعبة انتقامًا، ومعه فيل عظيم اسمه محمود، وقيل: معه فيلة أخرى، فلما وصلوا قرب مكة تهيئوا للدخول، أرسل الله طيرًا من البحر، أمثال الخطاطيف مع كل في منقاره ورجليه ثلاثة أحجار، أصغر من حمصة، فرمتهم، فإن وقع الحجر على رأس رجل خرج من دبره، فهلكوا على بكرة أبيهم.
والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *(4/532)
سورة قُرَيْشٍ مكية
وهي أربع آيات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
* * *
(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ) عن بعض من السلف: إنه متعلق بالسورة التي قبلها، أي: أهلكهم فجعلهم كعصف مأكول ليبقى قريش، وما ألفوا من الرحلتين، وهما في مصحف أُبيٍّ سورة واحدة (إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ): رحلة في الشتاء، ورحلة نصب بإيلافهم (وَالصَّيفِ): ورحلة في الصيف، أطلق الإيلاف، ثم أبدل المقيد عنه للتعظيم (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) الأظهر أن يتعلق لإيلاف، بقوله: (فليعبدوا)، والفاء لما فيه من معنى الشرط، أي: إن لم يعبدوه لسائر نعمه عليهم، فليعبدوا لأجل إيلافهم رحلة الشتاء إلى اليمن، والصيف إلى الشام يتجرون، ويتنعمون، وهم آمنون في رحلتيهم، لا يتعرض عليهم أحد بمكروه، لأنَّهُم أهل بيت الله (الذِي(4/533)
أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ): عظيم أكلوا فيها الجيف (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ): عظيم، أبناء جنسهم واقعون فيه، فإن الناس غيرهم في حواليهم يغار عليهم، وحاصله أن الله مَنَّ عليهم بالأمن والرخص.
والحمد للهِ.
* * *(4/534)
سورة الْمَاعُون مكية وقيل مدنية
وهي سبع آيات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
* * *
(أَرَأَيْتَ) الاستفهام للتعجب (الذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ): بالجزاء والبعث (فَذَلِكَ) يعني: التكذيب بالدين، هو الذي يحمله على تلك المساوئ (الذِي يَدُعُّ): يدفع دفعًا عنيفًا (اليَتيمَ) عن ابن عباس: هو بعض المنافقين (وَلَا يَحُضُّ): لا يرغب (عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) أي: على إطعامه فضلاً عن أن يطعمه هو (فَوَيْلٌ للْمُصَلِّينَ) أى: لهم، وضع موضِع الضمير، للدلالة على معاملتهم مع الخلق والخالق (الذينَ هُمْ عَن صَلاتهمْ سَاهُون) أي: التزموا بالصلاة علانية، ويتركونها بالسر (الذِينَ هُم يُرَاءُونَ): يصلون في العلانية، لأجل أن يظن فيهم الإسلام (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ): ولا يعطون الزكاة، أو يمنعون عارية القدر، والفأس، والدلو،(4/535)
والملح، والنار، وأمثال ذلك سيما زكاة المال، وعن بعض المراد من الذي يدع اليتيم، رجل خاص من قريش، فعلى هذا ليس المراد من قوله: " فويل للمصلين " هو الذي يدع لأنه ليس من أهل الصلاة، بل لما عرف المكذب بمن هو يدفع اليتيم زجرًا لأن يحترز عنه، وعن فعله ذكر استطرادًا ما هو أقبح، يعني: إذا كان عنف اليتيم، وترك إطعام الطعام بهذه المثابة، فما بال المصلي الذي هو ساه عن صلاته،
فالاحتراز عنه وعن فعله أولى وأولى.
والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *(4/536)
سورة الْكَوْثَرَ مكية أو مدنية
وهي ثلاث آيات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
* * *
(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) في الأحاديث الصحاح (هو نهر في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب يختلج العبد منهم، فأقول: ربِّ إنه من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، وعن أكثر السلف هو الخير الكثير، ومنه ذلك النهر، والنبوة والقرآن، وعن عطاء: هو حوض في الجنة (فَصَلِّ لِرَبِّكَ): دم عليها مخلصًا شكرًا لما أعطيناك (وَانْحَرْ) أي: البدن ونحوه على اسمه وحده،(4/537)
بخلاف ما عليه المشركون من السجود لغير الله، والذبح على غير اسمه (إِنَّ شَانِئَكَ): مبغضك وعدوك، يا محمد (هُوَ الْأَبْتَرُ): الأقل الأذل، الذي لا عقب له المنقطع ذكره، نزل في بعض من المشركين يقول: دعوا محمد فإنه أبتر، فإذا هلك انقطع ذكره، وقد روي أنه إذا مات ابناه عليه وعليهما السلام قالوا: بتر محمد، فقال الله: أعداؤك متصفون بما قالوا فيك، وما أنت إلا باقٍ ذريتك الكرام إلى يوم القيامة، وحسن ثنائك على رءوس الأشهاد إلى يوم التناد.
والحمد لله.
* * *(4/538)
سورة الْكَافِرُونَ مكية
وهي ست آيات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
* * *
(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) نزلت حين قال رهط من قريش: هلم يا محمد تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، ونشركك في أمرنا كله (لاَ أَعبدُ): في المستقبل، فإن (لا) على المضارع للاستقبال (مَا تَعبدُونَ): في الحال (وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ): في المستقبل (مَا أَعبدُ): في الحال وذكر (ما) هاهنا للمطابقة، أو لأن المراد، ما أعبد الباطل، ولا تعبدون الحق (وَلاَ أَنا عَابدٌ): في الحال، أو قط (مَا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ): في الحال، أو قط (مَا أَعبدُ) لم يقل ما عبدت لأنه لم يطابق المقام؛ لأنَّهُم ينكرون ما هو عليه بعد النبوة، ويعتقدونه ويعظمونه قبلها، وعن بعض العلماء: إن المراد من لا أعبد نفي الفعل، ومن لا أنا عابد نفي الوقوع والإمكان، فلا تكرار، وعن بعض هو تكرار وتأكيد على طريقة أبلغ، فإن الثاني جملة اسمية، وعن بعض: (ما) في الأخيرين مصدرية، أي: ولا أنا عابد، وتابع عبادتكم وطريقتكم، ولا أنتم مقتدون عبادتي وطريقتي، ولهذا قال: (لَكُمْ دِينُكُمْ): الكفر (وَلِيَ دِينِ): الإسلام، لا تتركونه، ولا أترك، وهذا خطاب لمن سبق في علم الله أنَّهم لا يؤمنون.
* * *(4/539)
سورة النصر مدنية
وهي ثلاث آيات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
* * *
(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ) أي: لك على أعدائك (وَالْفَتْحُ): فتح مكة، فسر به جمهور السلف (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ) هو حال إن جعلت رأيت بمعنى أبصرت (فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا) جماعات بعد ما كان يدخل واحدًا واحدًا، أو اثنين اثنين، كانت أحياء العرب ينتظرون فتح مكة، يقولون: إن ظهر على قومه فهو نبي لأنهم أهل الحرم، وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل، يعني إذا فتحت مكة قريتك التي أخرجتك، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فقد فرغ شغلنا في الدنيا بك فتهيأ للقدوم علينا، ولذلك قال: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ): نزهه عما يقول الظالمون حامدًا له (وَاسْتَغْفِرْهُ): عما فرط منك من التقصير (1)، أو عن أمتك (إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا): لمن استغفر منذ خلق الخلق، وكان عليه السلام حين أنزلت أخذ في أشد ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة، وعن الإمام أحمد: قال عليه السلام لما نزلت: " إذا جاء نصر الله والفتح " (نُعِيَتْ إِليَّ نفسي) بأنه مقبوض في تلك السنة، وعن أكثر السلف: إنها أجله عليه السلام، وفي مسلم، والطبراني، والنسائي: إنَّهَا آخر سورة نزلت من القرآن جميعًا، وعن البيهقي وغيره: إنَّهَا نزلت في أيام التشريق بمنى في حجة الوداع، فيكون نزولها بعد فتح مكة بسنتين، فلابد أن نقول: إن " إذا " الذي هو للاستقبال سلبت عن معناه، وقيل: إن فتح مكة أم الفتوح، والدستور لما يكون بعده من الفتوحات، فهو وإن كان متحققًا في نفسه، لكنه متركب باعتبار ما يدل عليه.
* * *
__________
(1) معاذ الله أن يصدر عنه - صلى الله عليه وسلم - تقصير.(4/540)
سورة اللهب مكية (1)
وهي خمس آيات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
* * *
(تَبَّتْ): هلكت (يَدَا أَبِي لَهَبٍ): نفسه، وعادة العرب أن تجعل التعبير عن الجملة باليدين نحو: بما قدمت يداك، وقيل: المراد دنياه وأخراه (وَتَبَّ) الأول: دعاء، والثاني: خبر، أي: وقد حصل الهلاك والخسران، نزلت لما صعد عليه السلام الصفا، فقال: (يا صباحا)، فاجتمعت إليه قريش قال: " أرأيتكم لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدقوني؟ " قالوا: بلى، قال: " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد "، فقال أبو لهب: تبًّا لك، ألهذا دعوتنا جميعًا؟ (مَا أَغنَى عَنْهُ مَالُهُ): من عذاب الله (وَمَا كَسَبَ): الذي كسبه، وهو ولده، فإنه قال: إن كان ما يقول ابن أخي حقًّا، فأنا أفتدي منه نفسى بمالي وولدي، وهو مات عليه اللعنة وبعدما أنتن دفنه بعض السودان، وقد افترس أسد ولده في طريق الشام (سَيَصْلَى): سيدخل (نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ): اشتعال، أي: جهنم (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) أي: تحمل الحطب في جهنم فتلقى على زوجها ليزداد عذابه، لأنها كانت عونًا له في شره في الدنيا، فتكون في القيامة عونًا عليه في شره وعذابه، والجملة حالية (فِي
__________
(1) في الأصل (مدنية) ولعله تصحيف. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(4/541)
جِيدِهَا): عنقها (حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) أي: مما مُسِد وفتل كالحطابين، وعن ابن عباس وغيره: سلسلة من حديد فتل وأحكم منه، وروي أنها تجمع الشوك، وتطرح ليلاً في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فمعناه: إن حالها في جهنم على الصورة التي كانت عليه في الدنيا، حين تحمل الشوك على ظهرها، وقيل معناه: إن امرأته حمالة الحطب في الدنيا، في عنقها حبل من ليف، والغرض تحقيرها وتخسيس حالها، فإنها من سادة نساء قريش، فقوله: " وامرأته " إلخ من عطف الجملة، ولا تكون حالية، أو هي عامة في الدنيا حمالة الحطب بين الناس لنائرة الشر، وعن بعض إن لها قلادة فاخرة، فقالت: لأنفقها في عداوة محمد، فأعقبها الله منها حبلاً في عنقها من مسد النار.
والحمد للهِ.
* * *(4/542)
سورة الإخلاص مكية
وهي أربع آيات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1) اللهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
* * *
(قُلْ هُوَ اللهُ) نزلت حين قالوا: صف لنا ربك الذي تدعونا إليه، فالضمير لما سئل عنه، و " الله " خبره (أَحَدٌ) خبر بعد خبر، أو بدل، أو الضمير للشأن و " الله أحد " جملة هي خبره، وعند المحققين: إن الأحدية لتفرد الذات، والواحدية لنفي المشاركة في الصفات، (اللهُ الصَّمَدُ): المقصود إليه في الحوائج، أو السيد الذي قد كمل في جميع أنواع السؤدد، وعن كثير من السلف: إنه الذي لا جوف له(4/543)
لا يدخل فيه ولا يخرج منه شيء، ولذلك قالوا: ما بعده تفسيره، وتكرير لفظ الله للإشارة بأن من لم يتصف، به لم يستحق الألوهية (لَمْ يَلِدْ) لأن الولد من متجانسين، وهو الأحد الصمد الذي لا يجانسه، ولا يماثله أحد (وَلَمْ يُولَدْ) وذلك لأنه هو الله الأحد الصمد، فكيف يمكن أن يكون حادثًا محتاجًا إلى أحد مربوبًا (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) أي: لم يكن أحد يكافئه، ويماثله من صاحبة؛ لأنه أحد صمد، " وله " إما حال من كفوًا، أو ظرف لـ يكن وقدمه؛ لأن الغرض نفي المكافأة عن ذاته، تقديمًا للأهم، وقد ثبت بروايات صحيحة إن هذه الصورة تعدل ثلث القرآن، ومن [قرأها] مرة فكأنما قرأ ثلث القرآن، وفي الترمذي، والنسائي (إنه سمع رجلاً يقرأها، فقال عليه السلام: وجبت، قيل: وما وجبت؟ قال: الجنة)، وفي مسند الدارمي، قال عليه السلام: (من قرأ " قل هو الله أحد " عشر مرات بنى الله له قصرًا في الجنة، ومن قرأها عشرين بنى له قصرين، ومن قرأها ثلاثين بنى ثلاثة، فقال عمر بن الخطاب: إذًا لنكثر قصورنا، فقال عليه السلام: الله أوسع من ذلك)، وفضائل تلك السورة في كتب الحديث كثيرة.
والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *(4/544)
سورة الْفَلَقِ مختلَف فيها
وهي خمس آيات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
* * *
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) هو الصبح، أو الخلق كله، لأنه ما من شيء إلا ويفلق ويفرق ظلمة العدم عنه، أو هو بيت، أو جُبٌّ في جهنم إذا فتح صاح جميع(4/545)
أهل النار من شدة حره، وذكر الرب، لأن الإعادة من المضار تربية (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ): الليل (إِذَا وَقَبَ): دخل ظلامه، ولا شك أن المضار في الليل أكثر وأشد، أو هو القمر إذا وقب، ودخل في الكسوف، والاسوداد، وعن بعض هو الثريا إذا سقطت، ويقال: إن الأسقام تكثر عند وقوعها، ويرتفع عند طلوعها (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) أي: النساء، والجماعات السواحر، اللواتي يعقدن عقدًا، وينفثن عليها، والنفث النفخ مع ريق (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ): إذا أظهر حسده، وعمل بمقتضاه، فإنه إذا لم يظهر أثر ما أضمر، فلا ضرر منه إلا على نفسه لاغتمامه وهمه، وقد صح أن يهوديًّا سحر النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة، ودسه في بئر، فاشتكى ومرض عليه السلام لذلك أيامًا، وقد روي ستة أشهر فجاءه جبريل، وأخبره بالسحر، والساحر، وموضعه، ونزلت المعوذتان إحدى عشرة آية، فبعث عليه السلام فاستخرجها، فجاء بها فكان كلما قرأ آية، انحلت عقدة، فحين انحلت العقدة الأخيرة قام عليه السلام، كأنما نشط من عقال.
* * *(4/546)
سورة النَّاسِ مختلَف فيها
وهي ست آيات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس ِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
* * *
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) أضاف إلى الناس هاهنا، لأن وسوسة الصدر، المستعاذ منه في تلك السورة لا تكون إلا للإنسان، فكأنه قال: قل أعوذ بربي من شر موسوسي (مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ) عطفًا بيان لـ (رَبِّ النَّاسِ)، وهو من قبيل الترقي في صفات الكمال، فإن الملك أعلى من الرب لأن كل ملك رب ومالك، ولا ينعكس كليًّا، ثم الإله الذي هو أعلى وخاص لله جعل غاية للبيان (مِن شَرِّ الوَسْوَاسِ) أي: الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة، والمراد: الشيطان سمي بالمصدر مبالغة، أو المراد: ذي الوسواس (الخَنَّاسِ): الذي عادته الخنس، أي: التأخر، والرجوع عند ذكر الله تعالى (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس): إذا غفلوا عن ذكر ربِّهم (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) بيان " الذي "، أو(4/547)
" الوسواس "، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) [الأنعام: 112]، وعن بعض: هو بيان للناس، والناس يعمهما تغليبًا، ويطلق على الجن أيضًا ناس حقيقة، أو لأن المراد من الناس الناسي، ونسيان حق الله يعمهما، وفي مسند الإمام أحمد عن عقبة بن عامر إنه عليه السلام قال: " يا عقبة ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن العظيم؟ قال: قلت بلى، قال: فأقرأني " قل هو الله أحد "، و " قل أعوذ برب الفلق "، و " قل أعوذ برب الناس " (1)، فإن قلت المناسب أن يتعوذ المتعوذ بـ أعوذ برب الفلق، وأعوذ برب الناس، إلى آخر السورتين من غير لفظة " قل " كما لا يخفى؟ قلت: المقصود التعوذ بالسورتين المذكورة فيهما الاستعاذة، من حيث إنهما كلام الله المجيد، والسورة هي مجموع " قل أعوذ " إلى تمام السورة، وبدون " قل " بعض السورة، وليس الغرض التكلم بهذه الكلمات، فربما لا ينفع لو غُيِّر نظم القرآن مع أنه تكليم بجميع تلك الكلمات، فافهم، والله أعلم.
والحمد لله الأول الآخر الباطن الظاهر، أولاً وآخرًا، باطنًا وظاهرًا، كلما ذكره الذاكرون، وسها عن ذكره الغافلون حمدًا يليق بعظمة جلاله، وحسن نواله وجماله، وأستعيذ بعفوه من كل زللٍ، واستجير بصفحه، وغفوانه من كل خطأ وخطل، حمدًا يوافي نعمه، ويقابل كرمه، والحمد لله على ما وفقني ورزقني فراغ البال للاشتغال بالتأمل في آيات كتابك، ولكشف أستار غويصات خطابك، والآن أفرُّ من فيح نار الجحيم، إلى ظل ظليل قرآنه الكريم، هاربًا من سواء عدلك، ماسكًا فضلك، إنك أنت الجواد الكريم، المنعم الرحيم، وقد تَمَّ، والحمد لله على جسيم إنعامه في عام سبعين وثمانمائة، في مكة الشريفة تجاه الكعبة، زادها الله شرفًا.
وأنا حامدٌ لله مصلي على رسوله، ومسلمٌ عليه.
تَمَّ بحمدِ اللهِ
* * *
__________
(1) أخرجه أحمد في " مسنده " (4/ 148) وإسناده صحيح.(4/548)