البعث، (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) تقديره لا نعجلهم ولا نقضي فنذرهم إمهالاً واستدراجًا، (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ) المرض والشدة، (دَعَانَا) لإزالته ملقيا، (لِجَنبِهِ) أي: مضطجعًا، (أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا)، أي: في جميع حالاته فإن الإنسان لا يخلوا عن إحدى هذه الثلاثة، (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ) مضى واستمر على طريقته قبل الضر ونسي، (كَأَن لمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مسَّهُ) أي: كأنه لم يطلب منا كشف ضره فحذف ضمير الشأن وخفف، (كَذَلِكَ) مثل ذلك التزيين، (زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) من الانهماك في اللذات والإعراض عن الطاعات، (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ) يا أهل مكة، (لَمَّا ظَلَمُوا) بتكذيب رسلهم، (وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِِ) الحجج الدالة على صدقهم عطف على ظلموا أو حال بإضمار قد، (وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا) لأن الله طبع على قلوبهم جزاء على كفرهم، (كَذَلِكَ) مثل ذلك الجزاء وهو الإهلاك بأفضح وجه، (نجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ) أي: كل مجرم فاحذروا يا أهل مكة، (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاِئفَ فِي الأَرْضِ) استخلفناكم فيها، (مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) فنعاملكم على مقتضى أعمالكم وكيف حال عن ضمير تعملون، (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) أي: المشركون، (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا) أي: جيء من عند ربك بكتاب آخر ليس فيه عيب آلهتنا، (أَوْ بَدِّلْهُ) أنت من عند نفسك بأن تأتى بآية أخرى(2/122)
مكان آية فيها ما نكرهه، (قُلْ مَا يَكُون) ما يصح، (لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي) من قبل نفسي، (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) يعني التبديل من قبل نفسي لا يمكنني ومن جهة الوحي موقوف على الوحي لا دخل لي فيه إنما عليَّ اتباعه (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بالتبديل، (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) لما علم من جواب التبديل جواب الإتيان بقرآن آخر اكتفى به عنه، (قُل لوْ شَاءَ اللهُ) أن لا أتلوا، (مَا تَلَوتهُ عَلَيْكُمْ) أي: تلاوته من مشيئة الله تعالى وإرادته فإني رجل أمي تعرفوني، (وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ) ولا أعلمكم الله به على لساني ومن قرأ لأدراكم بلام جواب " لو " فإنه عطف على جواب " لو " لا لام الابتداء فمعناه لو شاء الله ما تلوته عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري لكنه خصني بهذه المزية ورآني أهلا لها دون غيري، (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا) مقدار أربعن سنة، (مِنْ قَبْلِهِ) أي: من قبل القرآن لا أتلوه ولا أعلمه، (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) إنه لا يكون من قبلى فإني نشأت بين ظهرانيكم وما مارست علمًا وما شاهدت عالمًا، (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا) بأن يقول: إنه من عند الله وما هو من عنده، (أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) برسوله وقرآنه ومن تأمل في أمري يظهر له صدقي فلا أحد أظلم منكم، (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا(2/123)
لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ) لأنه لا يقدر على ضر ولا نفع فإنه جماد، (وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ) الأوثان، (شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) في أمور دنيانا أو في الآخرة إن يكن بعث، (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ)، تخبرونه، (بِمَا لَا يَعْلَمُ)، وهو أن له شريكًا وأن هؤلاء شفعاء عنده وما لا يعلمه العالم بكل شيء لم يكن له ثبوت بوجه، (فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ)، حال من ضمير مقدر في يعلم يرجع إلى ما تأكيد لنفيه إذ العرف جار بأن يقال عند تأكيد النفي ليس هذا في السماء ولا في الأرض، (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)، ما مصدرية أو موصولة، (وَمَا كَانَ(2/124)
النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً)، بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، (فَاخْتَلَفُوا)، فبعضهم عبدوا الأصنام، (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ)، بأنه لا يهلك أحدًا إلا بعد قيام الحجة وأن لكل أمة جعل أجلاً معينًا، (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)، عاجلاً، (فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)، فيهلك المبطل ويبقي المحق، قال بعضهم: أي لولا أنه في حكمه أنه لا يقضي بينهم إلا في القيامة لقضى في الدنيا فيدخل المؤمن الجنة والكافر النار قبل القيامة، (وَيَقُولُونَ)، أهل مكة، (لَوْلا)، أي هلا، (أُنْزِلَ عَلَيْهِ)، على محمد، (آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ)، مثل الناقة والعصا أو مما اقترحوه من جعل الصفا ذهبًا، (فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ لله)، أي: ما تطلبونه غيب وهو القادر عليه، (فَانتَظِرُوا)، لنزول ما تطلبونه، (إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الُمنتَظِرِينَ) لما يفعل الله بكم.
* * *
(وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ(2/125)
نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
* * *
(وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) كالرخاء والصحة، (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مسَّتْهُمْ)، كالجدب والمرض، (إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا) يحتالون في طعنها وتكذيبها وإذا(2/126)
للمفاجأة جواب لـ إذا الشرطية، (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا) منكم بأن يدبر العقاب قيل إن تدبروا المكر والمكر من الله استدراج أو جزاء على المكر، (إِنَّ رُسُلَنَا) أي: الحفظة من الملائكة، (يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ) للمجازاة، (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) يمكنكم من السير ويحفظكم، (فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الفُلْكِ) في السفن، (وَجَرَيْنَ) الضمير للفلك لأنه جمع فلك، (بِهِم) عدل إلى الغيبة للمبالغة كأنه يذكرهم لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا) لاستوائها ولينها، (جَاءَتْهَا)، أي تلك السفن جواب لـ إذا، (رِيحٌ عَاصِفٌ) أي: ذات عصف يعني شديدة قيل العاصف كالحائض مخصوص بالريح فلذا لم يقل عاصفة أو الريح يذكر ويؤنث، (وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) من جميع الأطراف، (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) فلا يمكن لهم الخلاص، (دَعَوُا اللهَ) بدل اشتمال من ظنوا أو استئناف جواب ماذا صنعوا بعد هذه الحالة وما قيل هو جواب للشرط وجاءتها حال فليس بشيء، (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، مفعول مخلصين أي: تركوا الشرك فلم يدعوا إلا الله،(2/127)
(لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا)، أي: قائلين أو مفعول دعوا لأنه من جملة القول، (مِنْ هَذِهِ)، الريح والشدة، (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ)، فأجاءوا الفساد فيها، (بغيرِ الحَقِّ) لا كتخريب المسلمين ديار الكفر فإنه إفساد بحق، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ) منفعة، (الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) لا تبقى ويبقى عقابها وهو خبر بغيكم وعلى أنفسكم متعلق بالبغي أو على أنفسكم خبره أي ما وبال بغيكم إلا على أنفسكم لا يضرون به أحدًا غيركم ومتاع(2/128)
خبر محذوف، أي: ذلك متاع ومن قرأ بالنصب تقديره يتمتعون متاع، (ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تَعْمَلُونَ) بالجزاء عليه.
(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) في سرعة تقضيها واغترار الناس بها، (كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ) أي: بسببه اشتبك نبات الأرض حتى خالط بعضه بعضًا، (مِمَّا يَأكُلُ النَّاسُ) من الزرع والبقل، (وَالأَنعَامُ) من الحشيش، (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ) كعروس أخذت ألوان ثيابها وحليها فتزينت بها وأصل ازينت تزينت فأدغم، (وَظَنَّ أَهْلُهَا) أهل الأرض، (أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا) متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها، (أَتَاهَا أَمْرُنَا) وهو ضرب زرعها ببعض العاهات، (لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا) أي: زرعها، (حَصِيدًا) شبيهاً بما حصد، (كأَن لمْ تَغْنَ) أي: كأن لم يلبث ولم يكن زرعها على حذف المضاف، (بِالأَمْسِ) والأمس مثل في الوقت القريب يعني المتسبب بالدنيا المغرور بها يأتيه عذابه أغفل ما يكون ومضمون الحكاية وهو الممثل به لا الماء وحده (كَذَلِكَ) مثل ذلك(2/129)
التبيين، (نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكرُونَ) فإنهم المنتفعون بها، (وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السلامِ) هي الجنة والسلام من أسماء الله تعالى أو دار السلامة من الآفات أو دار تحيتها سلام يسلم الملائكة على من فيها، (وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاط مُّسْتَقِيمٍ) بأن يوفقه على التقوى الذي هو طريق الجنة فالدعوة عام والهداية خاص، (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) العمل في الدنيا، (الْحُسْنَى) الجنة، (وَزِيَادَةٌ) النظر إلى وجه الله الكريم وهو قول أبي بكر الصديق وكثير من السلف رضي الله عنهم وعليه أحاديث كثيرة أحدها في صحيح مسلم وابن ماجه لكن من يضلل الله من العباد فما له من هاد أو الْحُسْنَى مثل حسناتهم والزيادة عشر أمثالها إلى سبعمائة أو أكثر أو الزيادة الرضوان، (وَلاَ يَرْهَقُ) لا يغشى، (وَجُوهَهُمْ قتَرٌ) غبار أي: سواد، (وَلاَ ذِلةٌ) هوان وكآبة؛ بل لقاهم نضرة وسرورًا، (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ) مبتدأ بتقدير وجزاء الذين كسبوا السيئات، (جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا) لا يزاد عليها شيء أو عطف على الذين أحسنوا، أي: للذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها كقولك: في الدار زيد والحجرة عمرو عند من يجوزه، (وَتَرْهَقُهُمْ) تغشاهم، (ذِلَّةٌ ما لَهُم مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ) يعصمهم ويحميهم، (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا) لكمال سوادها ومظلمًا حال من الليل وهو صفة(2/130)
لـ قطعًا ومن قرأ قطْعًا بسكون الطاء فالأولي أن يكون مظلمًا صفة، (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) والآية في الكفار قسيم المؤمنين المراد من قوله للذين أحسنوا، (وَيَوْمَ) بتقدير اذكر، (نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا) المؤمن والكافر، (ثمَّ نَقول لِلذِينَ أَشْرَكوا) الزموا، (مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ) تأكيد للضمير المنتقل إلى مكانكم من عامله، (وَشُرَكَاؤُكُمْ) أي الأوثان، (فَزَيَّلْنَا) فرقنا، (بَيْنَهُمْ) وقطعنا ما كان بينهم من التواصل، (وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ) ينطق الله الأصنام فينكرون عبادتهم ويتبرأون منهم مكان شفاعتهم، (فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنكمْ إِنْ) أي أنه، (كنَّا عَنْ عِبَادَتِكمْ لَغَافِلِينَ) لأنا كنا جمادًا لا نعلم ولا نشعر فما أمرناكم بها ولا رضينا منكم بها، (هُنَالِكَ) في ذلك المقام، (تَبْلُو) تختبر وتعلم، (كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ) من عمل فتعاين نفعه وضره ومن قرأ تتلو فهو من التلاوة أي تقرأ أو من التلو أي: تتبع عمله قال بعضهم: تتبع كل أمة ما كانت تعبد، (وَرُدُّوا) أي: أمرهم، (إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ) متولي أمورهم بالحقيقة لا ما اتخذوه مولىً بالباطل، (وَضَل عَنْهم) ضاع وبطل، (مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) فيعبدونه من دون الله.
* * *
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ(2/131)
يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
* * *
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ) بالمطر، (وَالْأَرْضِ) بالنبات قيل: تقديره من أهل السماء والأرض، (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ) أي: من يملك خلقهما أو حفظهما من الآفات، (وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ) الحيوان، (مِنَ المَيِّتِ) النطفة، (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ) النطفة، (مِنَ الْحَيِّ) الحيوان وقيل: من يحيي ويميت، (وَمَن يُدَبَرُ الأَمْرَ) يلي تدبير أمر العالم، (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) إذ الأمر أوضح من أن ينكر، (فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ) الشرك مع هذا الإقرار، (فَذَلِكُمُ) إشارة إلى من هذه قدرته، (اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ) لا ما جعلتم معه شريكاً أخبار مترَادفة،(2/132)
(فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) أي: ليس بعد الحق إلا الضلال، (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) عن الحق إلى الضلال وعن عبادته إلى عبادة غيره، (كَذَلِكَ)، أي: كما حق أن بعد الحق الضلال أو أنَّهم مصروفون عن الحق، (حَقتْ كَلِمَتُ ربِّكَ) أي: حكمه السابق، (عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) تمردوا في كفرهم، (أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) بدل من كلمة، وقيل تقديره: لأنهم لا يؤمنون فالمراد منها كلمة العذاب، (قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم) أي: آلهتكم، (مَّن يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أدخل الإعادة في الإلزام وإن يكونوا قائلين بها لظهور برهانها، (قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) وأنتم تعلمون أن شركاءكم لا يقدرون على مثل هذا، (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) تصرفون عن سواء السبيل، (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ) والهداية كما يعدى بإلى يعدى باللام، (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ) أمره وحكمه، (أَمَّنْ لَا يَهِدِّي) أصله يهتدي فأدغم وكسرت الهاء لالتقاء الساكنين، (إِلَّا أَنْ يُهْدَى)، الهداية قد تجيء بمعنى النقل أي الأوثان لا ينتقل من مكان إلا أن ينقل أو يكون هذا حال أشرف شركائهم كالملك والمسيح أو لا يصح منه الاهتداء إلا أن يهديه الله بأن يجعل الجماد حيوانًا عالمًا، (فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) بما يبطله(2/133)
العقل بتا، (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) مستندًا إلى خيال باطل ووهم زائل والمراد من الأكثر الجميع أو المراد رؤساؤهم فإن السفلة مقلدون ليس لهم ظن أيضًا، (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) أي: لا يقوم مقام العلم فالمراد من الحق العلم، وشيئاً مفعول مطلق، أو مفعول به، ومن الحق حال قيل معناه: الظن لا يدفع من عذاب الحق شيئاً، (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بمَا يَفْعَلُونَ) تهديد ووعيد، (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ) أي: ما صح أن يكون القرآن مفترى من الخلق وهذا محال، (وَلَكِن): كان، (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب المتقدمة، (وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ) تبيين ما كتب وفرض من الشرائع، (لَا رَيْبَ فِيهِ) خبر ثالث أو حال أو استئناف، (مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) خبر آخر أو حال، (أَمْ يَقُولُونَ) بل أيقولون، (افْتَرَاهُ) محمد والهمزة للإنكار، (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) في البلاغة على وجه مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ الافتراء، (وَادْعُوا) إلى معاونتكم على المعارضة، (مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) من الجن والإنس، (من دُونِ اللهِ) سوى الله تعالى فإنه القادر على ذلك متعلق بـ ادعوا لا بـ استطعتم، (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أنه من عند نفسه فإنه بشر مثلكم بل تمرنكم في(2/134)
النظم والنثر أكثر فإنه أمي، (بَلْ كذبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) يعني لما رأوا القرآن مشتملاً على أمور ما عرفوا حقيقتها سارعوا بجهلهم إلى التكذيب، (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ) بعد، (تَأْوِيلُهُ) فإنهم إن صبروا يظهر لهم بالآخرة تأويله، لكن فأجاءوا الإنكار قبل أن يقضوا على تأويله، (كذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) رسلهم، (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) فيه وعيد لهم بمثل عقاب الأمم السالفة، (وَمِنْهُم) من المكذبين، (مَّن يُؤْمِنُ بِه) بعد ذلك، (وَمِنْهُم مَّن لَا يُؤْمِنُ بِهِ) بل يموت على الكفر، (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) المصرين وقيل: معناه بعضهم من يصدقه باطنًا لكن يعاند، وبعضهم لا يعلم صدقه لغباوة وأنا أعلم بالمعاند.
* * *
(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ(2/135)
يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
* * *
(وَإِن كَذَّبُوكَ) أصروا عَلى تكذيبك، (فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) أي: لي الإيمان ولكم الشرك أو لكل جزاء عمله، يعني تبرأ منهم فقد أعذرت، (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ) من الطاعة، (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) من المعاصي أو لا تؤخذون بعملي ولا أوخذ بعملكم، قال بعضهم: الآية منسوخة بآية السيف، (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) إذا قرأت القرآن لكن لا يقبلون، (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ) يعني:(2/136)
أتطمع أن تسمع الأُطْرُوشُ فإنهم بمنزلته في عدم وحيه، (وَلَوْ كَانُوا لاَ يَعْقِلُون) أي: ولو انضم إلى صممهم عدم العقل فإن الأصم العاقل ربما يتفرس، (وَمِنْهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ) ويعاينون أدلة صدقك لكن لا يصدقون، (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) أتطمع أنك تقدر على هداية فاقد البصر، (وَلَوْ كَانُوا لاَ يُبْصِرُونَ) وإن انضم إليه عدم البصيرة فإن العمى مع الحمق جهد البلاء، والآية كالتعليل للأمر بالتبري، (إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا)، من الظلم بأن يشقيهم وهم مصلحون، (وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بارتكاب أسباب الشقوة وتفويت منافع العقول أو معناه ما يحيق بهم في الآخرة عدل من الله تعالى لأنَّهُم ظلموا أنفسهم باقتراف أسبابه فعلى هذا يكون وعيدًا لهم، (وَيَوْمَ يَحْشُرهُمْ كَأَن لَمْ) أي: كأنه لم، (يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ)، يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا أو في القبر لهول المحشر وكأن لم يلبثوا حال أي: مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة، (يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ) يعرف بعضهم بعضًا كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلاً وهو متعلق الظرف أعني يوم نحشرهم أو تقديره اذكر يوم نحشرهم وعلى هذا يتعارفون بيان لقوله لم يلبثوا، (قَدْ خَسِرَ الذِينَ كَذبوا بِلِقَاءِ اللهِ) هي شهادة من الله على خسرانهم، (وَمَا كَانوا مهْتَدِينَ) لرعاية مصالح هذه التجارة،(2/137)
(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) أي: ننتقم في حياتك لتقر عينك وجوابه محذوف، أي: فذاك، (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل أن نريكه، (فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) فنريكه في الآخرة وهو جواب نتوفينك، (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ) فيعاقبهم ويجازيهم إن لم ننتقم في الدنيا ننتقم منهم في الآخرة، (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) يدعوهم إلى الحق، (فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) بالعدل وهو هلاك من كذبه ونجاة من تبعه أو لكل أمة يوم القيامة رسول فإذا جاء رسولهم الموقف قضي بينهم بالعدل، (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)، فلا ينقص ثوابهم ولا نأخذهم بغير ذنب، (وَيَقُولُونَ)، أي: المشركون استهزاء واستبعادًا، (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ) الذي تعدوننا من العذاب، (إِنْ كُنْتُمْ) أيها الرسول وأتباعه، (صَادِقِينَ قُل لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) فكيف أملك لكم فأستعجل في عذابكم، (إِلا مَا شَاءَ اللهُ) أن أملكه أو منقطع، أي: لكن ما شاء الله من ذلك كائن، (لكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) مضروب لهلاكهم، (إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) لا يتأخرون ولا يتقدمون، (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أي: أعلمتم أو أخبروني، (إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً) وقت بيات، (أَوْ نَهَارًا) وقت اشتغالكم بطلب المعاش، (مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) متعلق بـ أرأيتم ومعناه التعجب والتهويل يعني أعلمتم إن أتاكم عذابه في حين غفلة أي شيء هول شديد يستعجلون من الله تعالى وإذا كان ضمير منه للعذاب فمن للبيان(2/138)
وهذا كقولك: أعلمت ماذا جنيت؟ وجواب الشرط محذوف يدل عليه أعلمتم أي شيء يستعجلون، وعدل عن الخطاب في يستعجلون إلى ذكر فاعله لإفادة أن تعلق الحكم باعتبار وصف الإجرام أو ماذا يستعجل جواب كقولك: إن لقيت أسدًا ماذا تصنع؟ ومجموع الشرط والجزاء متعلق بـ أرأيتم أو الاستفهام ليس للتعجب فحاصله أن العذاب كله مكروه فأي شيء يستعجلون منه وليس شيء منه يوجب الاستعجال، (أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) الهمزة للتوبيخ والتقريع يعني إذا نزل العذاب آمنتم به، (آلْآنَ) بتقدير القول أي: قيل لهم بعدما نزل العذاب وآمنوا الآن آمنتم فهو استئناف أو بدل من آمنتم أو من إذا ما وقع إلى آخره، (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثمَّ قِيلَ)، عطف على قيل المقدر، (لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)، في الدنيا فلا ظلم، (وَيَسْتَنْبِئونَكَ)، يستخبرونك، (أَحَقٌّ هُوَ)، ما تقول من البعث والقيامة أو العذاب وفي إعرابه وجهان كـ أقائم زيد قيل الهمزة للإنكار والسخرية، (قُلْ إِي)، بمعنى نعم ويلزمها القسم، (وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ)، كائن ثابت، (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)، أي: ليس صيرورتكم ترابًا بمعجز الله تعالى عن إعادتكم أو بفائتين العذاب.
* * *
(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ(2/139)
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
* * *
(وَلَوْ أَنَّ)، تحقق وثبت، (لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ)، بالشرك، (مَا فِي الأَرْضِ)، من الخزائن، (لافْتَدَتْ بِهِ)، لجعلته فدية لها من العذاب، (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ)، أي: أظهروا الندامة أو أخفى روساؤهم الندامة من سفلتهم حذرًا من تعييرهم أو أخفوا لأنَّهُم لم يقدروا أن ينطقوا لشدة الأمر، (وَقُضِيَ بَيْنَهُم) بين المؤمنين والكافرين، أو بين الكفار أو بين الرؤساء والأتباع، (بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). فيقدر على العقاب والإثابة، (أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) لا خلاف فيه، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) لغفلتهم وقصور عقلهم، (هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ) في الدنيا، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالنشور، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) زجر عن الفواحش، (وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ) من سوء الاعتقاد والشكوك، (وَهُدًى) إلى الحق، (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) فيه حصل لهم النجاة من الظلمات إلى النور، (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) أصل الكلام بفضل الله وبرحمته فليفرحوا فبذلك فليفرحوا فحذف أحد الفعلين لدلالة الباقي(2/140)
عليه والفاء لمعنى الشرط كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فليخصوا الفضل والرحمة بالفرح فإنه لا مفروحاً به أحق منهما، أو تقديره قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبمجيئها فليفرحوا، أو الفضل الإيمان أو القرآن أو الإسلام ورحمته القرآن أو أنه صيرنا من أهل القرآن أو السنن أو الجنة، (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، من حطام الدنيا، (قُلْ أَرَأَيتم مَّا أَنزَلَ اللهُ)، ما مفعول أرأيتم، أي: أخبرونيه، (لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ)، الرزق مقدر من السماء محصل بأسباب منها، (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا)، المراد ما حرم المشركون من البحائر والسوائب [والوصائل] (1)، وأحلوا من الميتة وغيرها، (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ)، بالتحليل والتحريم، (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)، في نسبة ذلك إليه
__________
(1) في الأصل [والوسائل] والصواب ما أثبتناه لقوله تعالى (مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103).
وهذا موضع غفل عنه المحقق أيضًا. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(2/141)
قيل الهمزة للإنكار، وأم منقطعة، (وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: أي شيء ظنهم في ذلك اليوم أيحسبون أن لا يجازوا عليه وفي إبهام الوعيد تهديد شديد، (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) حيث لا يستعجل عقوبتهم أو فيما أباح لهم المنافع ولم يحرم عليهم إلا المضار، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ) هذه النعمة فيحرمون ويحللون بمقتضى هواهم.
* * *
(وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لله مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا(2/142)
يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
* * *
(وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ) ما نافية والشأن الأمر والخطاب لرسوله صلى الله عليه وسلم، (وَمَا تَتْلُو مِنْهُ) الضمير لله وقيل للشأن، (مِن قُرْآنٍ) من مزيدة للنفي وقيل: للتبعيض، (وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) خطاب له ولأمته، (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا) رقباء مطلعين عليها، (إِذْ تُفِيضُونَ) تخوضون، (فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ) لا يبعد ويغيب، (عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ) موازن نملة صغيرة أو هباء، (فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ) أي: في الوجود فإن العوام لا يعرفون إلا ما فيهما، (وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) جملة برأسها مقررة لما سبق و (أصغر) اسم (لا) و (فِي كِتَابٍ) خبره، (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) حين يخاف الناس عقاب الله، (وَلاَ هُمْ يَحْزنُونَ) على فوات مأمول، (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَقُونَ) بيان(2/143)
لأولياء الله، (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الرؤيا الحسنة هي البشرى يراها المسلم ويرى له، وقال بعضهم: هي بشرى الملائكة عند احتضاره بالجنة وعن الحسن هي ما يبشر الله تعالى المؤمنين في كتابه من جنته ونعيمه، (وَفِي الْآخِرَةِ) الجنة ورضوان الله تعالى قال بعضهم: المراد بشارة الملائكة في القبر، (لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ) لا إخلاف في مواعيده، (ذَلِكَ) أي: كونهم مبشرين في الدارين، (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) إشراكهم وتكذيبهم، (إِنَّ العِزَّةَ لله جَمِيعًا) استئناف بمعنى التعليل كأنه قال: لا تحزن؛ لأن العزة كلها ملك له ولا يمكلها إلا لمن(2/144)
ارتضى، (هُوَ السمِيع) لأقوالهم، (العَلِيم) لنياتهم فيجازيهم ويكافئهم، (أَلاَ إِنَّ لله) ملكًا وخلقًا، (مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ) من الملائكة والثقلين الذين هم أشرف المخلوقات، فكيف بالجمادات وهو كمقدمة ودليل على قوله: (وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكَاءَ) ما نافية، أي: ما يتبعون شركاء على الحقيقة وإن كانوا يسمونها شركاء، (إِن يَتَّبِعون إِلا الظنَّ) أو ما استفهامية وعلى هذا شركاء مفعول يدعون، أي: أي شيء يتبعون، وقيل: ما موصولة عطف على من في السماوات (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يكذبون أو يحرزون حرزًا باطلاً، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) لتستريحوا من نصب النهار، (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) مضيئًا تبصرون فيه مكاسبكم فكيف جاز عبادة غيره، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) لا للصم الذين لا يسمعون سماع انتفاع، (قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا) كما قالوا الملائكة بنات الله، (سُبْحَانَهُ) تنزيه عن التبني وتعجب من حماقتهم، (هُوَ الْغَنِيُّ) واتخاذ الولد مسبب عن الحاجة، (لَه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) مقرر لغناه، (إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا) أي: ليس عندكم دليل بهذا، بل أنتم تابعون للجهالة، (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فيه تهديد شديد ووعيد أكيد، (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) في الدنيا(2/145)
والآخرة، (مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا) لهم متاع قليل في الدنيا أو الافتراء متاع في الدنيا يقيمون به رياستهم، (ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) بالموت، (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) بسبب كفرهم.
* * *
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ(2/146)
بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
* * *
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ)، حاله مع قومه، (إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم) عظم وشق عليكم، (مَقَامِي) بين أظهركم، (وَتَذْكِيرِي) إياكم، (بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) قال بعضهم: جواب الشرط هو قوله فَأَجْمِعُوا إلخ، وقوله (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) معترضة بين الشرط والجزاء، (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) من أجمع الأمر إذا قصده وعزم عليه، (وَشُرَكَاءَكُمْ) الواو بمعنى مع أي: اعزموا أنتم وشركاءكم الذين تزعمون أن لهم اختيارًا وأثبتُّم الربوبية لهم على كيدي وإهلاَكي فإني متوكل لا أبالي ولا أخاف، (ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) مبهمًا مستورًا ليكن مكشوفًا تجاهرونني به وحاصله لتجاهدوا في كيدي وإهلاكي كل غاية في المكاشفة والمجاهرة، (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ) أدوا إلي ذلك الأمر الذي تريدون بي ووجهوا كل الشرور إليَّ، (وَلَا تُنْظِرُونِ) ولا تمهلوني، (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن تذكيرى، (فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) حتى يكون إعراضكم ضرًّا(2/147)
ونقصًا عليَّ، (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) فليس إعراضكم إلا نقصًا وضرًّا عليكم، أو معناه إن أعرضتم فما هو إلا لتمردكم وعنادكم لا لتقصير وتفريط مني، فإني ما سألت منكم أجرًا ينفركم عني وتتهموني لأجله، (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المستسلمين لأمر الله، (فَكَذبُوهُ) أصروا على تكذيبه، (فَنَجَّيْنَاهُ) من الغرق، (وَمَن مَّعَهُ فِي الفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاِئفَ) من الهالكين وأعطيناهم ملكهم، (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذبُوا بِآيَاتِنَا) بالطوفان، (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الُمنذَرِينَ) المكذبين فهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحذير لمن كذبه، (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ) من بعد نوح، (رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) المعجزات الظاهرات، (فَمَا كَانُوا) ما استقام لهم، (لِيُؤْمِنُوا) لشدة عنادهم وكفرهم، (بِمَا كَذبُوا بِه مِن قَبْلُ) أي: بما كذب به قوم نوح وقد علموا حالهم فهم وآباؤهم على منهاج واحد والباء للسببية، أي: لم يؤمنوا بسبب تعودهم تكذيب الحق قبل بعثة الرسل، (كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِي) نختم عليها فلا يدخلها رشاد ولا سداد، (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم) بعد هؤلاء الرسل، (مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ) أشراف قومه، (بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ) معتادين الإجرام، (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ) المعجزات المزيحة للشك، (مِنْ عِندِنَا قَالُوا) من فرط التمرد: (إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) واضح ظاهر، (قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ) إنه سحر فحذف محكي القول لدلالة الكلام عليه قيل: فمعناه أتعيبونه وعلى هذا لا يستدعي مقولاً ثم(2/148)
قال: (أَسِحْرٌ هَذَا) استفهام إنكار، (وَلاَ يفْلِحُ السَّاحِرُونَ) من تمام كلام موسى، أي: لو كان سحرًا لاضمحل وذل وغلب فاعله، فكيف أرتكبه وأنا أعلم أنَّهم لا يفلحون؟! (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا): لتصرفنا، (عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ) لكما العزة والملك يعني لستما بمخلصين؛ بل هذا غرضكما، (وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ) مصدقين، (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ) حاذق فيه، (فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ) أي: الذي جئتم به هو، (السَّحْر) لا ما جئت به ومن قرأ آلسحر بالاستفهام فما استفهامية، أي: أي شيء جئتم به أهو السحر؟ أو السحر بدل من المبتدأ الذي هو ما، (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) سيمحقه، (إِنَّ اللهَ لاَ يُصلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) لا يقويه ولا يثبته، (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ) يثبته، (بِكَلِمَاتِهِ) بوعده أو بقضائه السابق، (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) ذلك.
* * *(2/149)
(فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
* * *
(فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) الضمير لفرعون فإن بني إسرائيل آمنوا بموسى إلا قليلاً منهم كقارون وما آمن من القبط إلا قليل، وقال بعضهم: الضمير(2/150)
لموسى، أي: ما آمن له في مبدأ الأمر إلا شبانهم، (عَلَى خَوْفٍ من فرْعَوْنَ) أي: مع خوف منه، (وَمَلإِهِمْ) الضمير للذرية أي: أشراف آل فرعون، أو لفرعون فالمراد من فرعون هو وآله، (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) يعذبهم وهو بدل من فرعون أو مفعول خوف، (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ) لغالب، (فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) في الكبر حتى ادعى الربوبية، (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ) مستسلمين لأمره والمعلق بالإيمان وجوب التوكل والمشروط بالإسلام وجود التوكل وحصوله لا وجوبه كما يقال: إن شتمك أحد فاصبر إن قدرت، (فَقَالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي: موضع فتنة لهم يعذبوننا، أو لا تعذبنا بعذاب، فيقولون: لو كانوا على حق ما عذبوا ولا تسلطهم علينا فيحسبوا أنهم على الحق فيفتنوا بذلك، (وَنَجِّنَا) خلصنا، (بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا) أي: اتخذا مباءة يعني موضع إقامة، (لقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا) أنتما وقومكما، (بيُوتَكُمْ) أي: في بيوتكم التي اتخذتموها، (قِبْلَةً) أي: مساجد فإنهم كانوا لا يصلون إلا في كنائسهم وكانوا يخافون من فرعون فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد يصلون فيها سرًّا أو اجعلوا بيوتكم قبلة مصلى، أو متقابلة والمقصود على هذا حصول الجمعية، (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي: فيها قال بعضهم: أمروا بكثرة الصلاة كما قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)(2/151)
[البقرة: 45]، (وَبَشِّرِ) يا موسى، (الُمؤْمِنِينَ) بالنصر في الدارين، (وَقَال مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً) من اللباس والمراكب، (وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا) تكرير وتأكيد للأول، (لِيُضِلوا عَن سَبِيلِكَ) واللام لام العلة فليس بمحال أن الله يريد إضلال بعض، وهذا الكلام من موسى؛ لأنه علم بمشاهدة أحوالهم أن أموالهم سبب ضلالهم أو إضلالهم ولا حاجة إلى أن يقال اللام لام العاقبة أو لام الدعاء كقولك: ليغفر الله فهو دعاء بصيغة الأمر، (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ): أهلكها (وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ) أقسها واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان، (فَلاَ يُؤْمِنُوا) جواب للدعاء وقيل: عطف على ليضلوا وقيل: دعا بلفظ النهي، (حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ) وهذه الدعوة من موسى - عليه السلام - غضبًا لله ولدينه لقوم تبين له أنه لا خير فيهم كما تقول: لعن الله إبليس كما دعا نوح عليه السلام (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) [نوح: 26]، (قَالَ): الله، (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا) فإنه دعا موسى وأَمَّنَ هارون، (فَاسْتَقِيمَا) على أمري وامضيا له قال بعضهم: مكثوا بعد إجابة دعائهم أربعين سنة وقال بعضهم: أربعين يومًا ومن إجابة دعائهما أنه صار دنانيرهم ودراهم حجارة منقوشة كهيئة ما كانت، (وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ(2/152)
لَا يَعْلَمُونَ) طريقة الجهلة في عدم الوثوق بوعدي، (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ) أي: جوزناهم في البحر بلا سفينة وتعب، (فَأَتْبَعَهُمْ) أدركهم، (فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ) قيل: كانوا في مائة ألف أدهم سوى بقية الألوان، (بَغْيًا وَعَدْواً) للبغي أي: طلب الاستعلاء والظلم أو باغين، (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ) أي: بأنه، (لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ) أي: أتؤمن(2/153)
الآن حين يأسك عن نفسك؟ وهذا قول جبريل أو قول الله تعالى، (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) مدة عمرك، (وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ) المضلين، (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) نبعدك مما وقع فيه قومك من قعر البحر أو نلقيك بنجوة من الأرض، أي: بأرض مرتفعة، (بِبَدَنِكَ) أي: حال كونك متلبسًا بالبدن عاريًا عن الروح، أو الباء بمعنى مع والبدن الدرع وكانت له درع من ذهب يعرف بها، (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ)، لمن يأتي بعدك من بني إسرائيل وغيرهم، (آيَةً): عبرة ونكالاً عن الطغيان، (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) فلا يتفكرون فيها ولا يتعظون بها.
* * *
(وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ(2/154)
يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
* * *
(وَلَقَدْ بَوَّأْنَا) أنزلنا، (بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) منزلاً صالحًا بلاد مصر والشام مما يلي بيت المقدس ونواحيه، (وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطيِّبَاتِ) من اللذائذ، (فَمَا اخْتَلَفُوا) في أمر دينهم، (حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) الأمن بعد نزول التوراة المزيح للشك والاختلاف، أو ما اختلفوا في تصديق النبي - صلى الله عليه ولمملم - حتى جاءهم القرآن، (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فيثيب المحق ويعاقب المبطل، (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ) فيه تثبيت للأمة وإعلام لهم أن صفة نبيهم مكتوب في الكتب السماوية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره، أو لزيادة(2/155)
تثبيته وفرض الشك فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: " لا أشكُّ ولا أسأل " (1)، (فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) كعبد الله بن سلام وأصحابه، (لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) بالتزلزل عما أنت فيه ومن اليقين قيل خطاب لكل من يسمع أي: إن كنت أيها السامع في شك مما نزلنا على لسان نبينا إليك فسألهم ولا تكن من الشاكين، (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) وهو كالأول المراد به غير المخاطب، أو من باب التهييج وقطع الأطماع عنه، (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ) ثبتت، (عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) بالعذاب والسخط، قيل: هي قوله هؤلاء للنار ولا أبالي، (لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) فإن إرادة الله تعالى لا تتعلق بإيمانهم فكيف يؤمنون، (حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ) وحينئذ لا ينفعهم إيمانهم، (فَلَوْلاَ) أي: فهلا، (كَانت قَريَةٌ) من القرى التي أهلكناها، (آمَنَت) قبل معاينة العذاب، (فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا) لوقوعه في وقت الاختيار، (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) لكن قومه، (لَمَّا آمنوا) قبل معاينة العذاب في وقت الاختيار، (كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) أي: إلى
__________
(1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه:
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ: فِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا الْخِطَابِ مَنْ هُوَ؟ فَقِيلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَقِيلَ غَيْرُهُ، أَمَّا مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ: فَاخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ.
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخِطَابَ مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الظاهر، والمراد غيره كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَابِ: 1] وَكَقَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: 65] وكقوله:
يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [الْمَائِدَةِ: 116] وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الْمَشْهُورَةِ: إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ.
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ وُجُوهٌ: الأول: قوله تعالى في آخر السورة يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي [يُونُسَ: 104] فَبَيَّنَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي أول الآية على سبيل الزمر، هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ. الثَّانِي: أَنَّ الرَّسُولَ لَوْ كَانَ شَاكًّا فِي نُبُوَّةِ نَفْسِهِ لَكَانَ شَكُّ غَيْرِهِ فِي نُبُوَّتِهِ أَوْلَى وَهَذَا يُوجِبُ سُقُوطَ الشَّرِيعَةِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ شَاكًّا فِي نُبُوَّةِ نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يَزُولُ ذَلِكَ الشَّكُّ بِأَخْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ نُبُوَّتِهِ مَعَ أَنَّهُمْ فِي الْأَكْثَرِ كُفَّارٌ، وَإِنْ حَصَلَ فِيهِمْ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لَا سِيَّمَا وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَالْكُلُّ مُصَحَّفٌ مُحَرَّفٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ أَنَّ الْخِطَابَ، وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأُمَّةُ، وَمِثْلُ هَذَا مُعْتَادٌ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ الْكَبِيرَ إِذَا كَانَ لَهُ أَمِيرٌ، / وَكَانَ تَحْتَ رَايَةِ ذَلِكَ الْأَمِيرِ جَمْعٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْمُرَ الرَّعِيَّةَ بِأَمْرٍ مَخْصُوصٍ، فَإِنَّهُ لَا يُوَجِّهُ خِطَابَهُ عَلَيْهِمْ، بَلْ يُوَجِّهُ ذَلِكَ الْخِطَابَ عَلَى ذَلِكَ الْأَمِيرِ الَّذِي جَعَلَهُ أَمِيرًا عَلَيْهِمْ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْوَى تَأْثِيرًا فِي قُلُوبِهِمْ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَشُكَّ فِي ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُ مَتَى سَمِعَ هَذَا الْكَلَامَ، فَإِنَّهُ يُصَرِّحُ وَيَقُولُ: «يَا رَبِّ لَا أَشُكُّ وَلَا أَطْلُبُ الْحُجَّةَ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَلْ يَكْفِينِي مَا أَنْزَلْتَهُ عَلَيَّ مِنَ الدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ» وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ: 40] والمقصود أَنْ يُصَرِّحُوا بِالْجَوَابِ الْحَقِّ وَيَقُولُوا: سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سَبَأٍ: 41] وَكَمَا قَالَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ [الْمَائِدَةِ: 116] وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ يُصَرِّحَ عِيسَى عليه السلام بالبراءة عن ذلك فكذا هاهنا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مِنَ الْبَشَرِ، وَكَانَ حُصُولُ الْخَوَاطِرِ الْمُشَوَّشَةِ وَالْأَفْكَارِ الْمُضْطَرِبَةِ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْجَائِزَاتِ، وَتِلْكَ الْخَوَاطِرُ لَا تَنْدَفِعُ إِلَّا بِإِيرَادِ الدَّلَائِلِ وَتَقْرِيرِ الْبَيِّنَاتِ، فَهُوَ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ التَّقْرِيرَاتِ حَتَّى إِنَّ بِسَبَبِهَا تَزُولُ عَنْ خَاطِرِهِ تِلْكَ الْوَسَاوِسُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [هُودٍ: 12] وَأَقُولُ تَمَامُ التَّقْرِيرِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ فَافْعَلْ كَذَا وَكَذَا قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ وَالْقَضِيَّةُ الشَّرْطِيَّةُ لَا إِشْعَارَ فِيهَا الْبَتَّةَ بِأَنَّ الشَّرْطَ وَقَعَ أَوْ لَمْ يَقَعْ. وَلَا بِأَنَّ الْجَزَاءَ وَقَعَ أَوْ لَمْ يَقَعْ بَلْ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا بَيَانُ أَنَّ مَاهِيَّةَ ذَلِكَ الشَّرْطِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِمَاهِيَّةِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ فَقَطْ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ إِنْ كَانَتِ الْخَمْسَةُ زَوْجًا كَانَتْ مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ، فَهُوَ كَلَامٌ حَقٌّ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ كَوْنَ الْخَمْسَةِ زَوْجًا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهَا مُنْقَسِمَةً بِمُتَسَاوِيَيْنِ، ثُمَّ لَا يَدُلُّ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ الْخَمْسَةَ زَوْجٌ وَلَا عَلَى أَنَّهَا مُنْقَسِمَةٌ بِمُتَسَاوِيَيْنِ فكذا هاهنا هَذِهِ الْآيَةُ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ هَذَا الشَّكُّ لَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ هُوَ فِعْلَ كَذَا وَكَذَا، فَأَمَّا أَنَّ هَذَا الشَّكَّ وَقَعَ أَوْ لَمْ يَقَعْ، فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، وَالْفَائِدَةُ فِي إِنْزَالِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الرَّسُولِ أَنَّ تَكْثِيرَ الدَّلَائِلِ وَتَقْوِيَتَهَا مِمَّا يَزِيدُ فِي قُوَّةِ الْيَقِينِ وَطُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ وَسُكُونِ الصَّدْرِ، وَلِهَذَا السَّبَبِ أَكْثَرَ الله فِي كِتَابِهِ مِنْ تَقْرِيرِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ تَقُولَ: الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ اسْتِمَالَةُ قُلُوبِ الْكُفَّارِ وَتَقْرِيبُهُمْ مِنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ طَالَبُوهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَكَأَنَّهُمُ اسْتَحْيَوْا مِنْ تِلْكَ الْمُعَاوَدَاتِ وَالْمُطَالَبَاتِ، وَذَلِكَ الِاسْتِحْيَاءُ صَارَ مَانِعًا لَهُمْ عَنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ فَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِنْ نُبُوَّتِكَ فَتَمَسَّكْ بِالدَّلَائِلِ الْقَلَائِلِ، يَعْنِي أَوْلَى النَّاسِ بِأَنْ لَا يَشُكَّ/ فِي نُبُوَّتِهِ هُوَ نَفْسُهُ، ثُمَّ مَعَ هَذَا إِنْ طَلَبَ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّةِ نفسه بعد ما سَبَقَ مِنَ الدَّلَائِلِ الْبَاهِرَةِ وَالْبَيِّنَاتِ الْقَاهِرَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ عَيْبٌ وَلَا يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ نُقْصَانٌ، فَإِذَا لَمْ يُسْتَقْبَحْ مِنْهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَأَنْ لَا يُسْتَقْبَحَ مِنْ غَيْرِهِ طَلَبُ الدَّلَائِلِ كَانَ أَوْلَى، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْكَلَامِ اسْتِمَالَةُ الْقَوْمِ وَإِزَالَةُ الْحَيَاءِ عَنْهُمْ فِي تَكْثِيرِ الْمُنَاظَرَاتِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَنَّكَ لَسْتَ شَاكًّا الْبَتَّةَ وَلَوْ كُنْتَ شَاكًّا لَكَانَ لَكَ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ الشَّكِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا [الْأَنْبِيَاءِ: 22] وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ ذَلِكَ الْمُمْتَنِعُ وَاقِعًا، لَزِمَ مِنْهُ الْمُحَالُ الفلاني فكذا هاهنا وَلَوْ فَرَضْنَا وُقُوعَ هَذَا الشَّكِّ فَارْجِعْ إِلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لِتَعْرِفَ بِهِمَا أَنَّ هَذَا الشَّكَّ زَائِلٌ وَهَذِهِ الشُّبْهَةَ بَاطِلَةٌ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الله خَاطَبَ الرَّسُولَ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ وَهُوَ شَامِلٌ لِلْخَلْقِ وهو كقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطَّلَاقِ: 1] قَالَ: وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقَاوِيلِ، قَالَ الْقَاضِي: هَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ الرَّسُولُ دَاخِلًا تَحْتَ هَذَا الْخِطَابِ فَقَدْ عَادَ السُّؤَالُ، سَوَاءٌ أُرِيدَ مَعَهُ غَيْرُهُ أَوْ لَمْ يُرَدْ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُرَادَ هُوَ مَعَ غَيْرِهِ، فَمَا الَّذِي يَمْنَعُ أَنْ يُرَادَ بِانْفِرَادِهِ كَمَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ، ثُمَّ قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا التَّأْوِيلِ يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ التَّحْصِيلِ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: هُوَ أَنَّ لَفْظَ (إِنْ) فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ لِلنَّفْيِ أَيْ مَا كُنْتَ فِي شَكٍّ قَبْلُ يَعْنِي لَا نَأْمُرُكَ بِالسُّؤَالِ لِأَنَّكَ شَاكٌّ لَكِنْ لِتَزْدَادَ يَقِينًا كَمَا ازْدَادَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمُعَايَنَةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى يَقِينًا.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ هَذَا الْخِطَابُ لَيْسَ مَعَ الرَّسُولِ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّ النَّاسَ فِي زَمَانِهِ كَانُوا فِرَقًا ثَلَاثَةً، الْمُصَدِّقُونَ بِهِ وَالْمُكَذِّبُونَ لَهُ وَالْمُتَوَقِّفُونَ فِي أَمْرِهِ الشَّاكُّونَ فِيهِ، فَخَاطَبَهُمُ الله تَعَالَى بِهَذَا الْخِطَابِ فَقَالَ:
إِنْ كُنْتَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْهُدَى عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ فَاسْأَلْ أَهْلَ الْكِتَابِ لِيَدُلُّوكَ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَإِنَّمَا وَحَّدَ الله تَعَالَى ذَلِكَ وَهُوَ يريد الجمع، كما في قوله: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ [الانفطار: 6، 7] ويا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ [الِانْشِقَاقِ: 6] وَقَوْلِهِ: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ [الزُّمَرِ: 49] وَلَمْ يُرِدْ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْآيَاتِ إِنْسَانًا بِعَيْنِهِ، بَلِ الْمُرَادُ هُوَ الجماعة فكذا هاهنا وَلَمَّا ذَكَرَ الله تَعَالَى لَهُمْ مَا يُزِيلُ ذَلِكَ الشَّكَّ عَنْهُمْ حَذَّرَهُمْ مِنْ أَنْ يُلْحَقُوا بِالْقِسْمِ الثَّانِي وَهُمُ الْمُكَذِّبُونَ فَقَالَ: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ.
المسألة الثالثة: اختلفوا في أن المسؤول منه في قوله: فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ الله بْنِ سَلَامٍ، وَعَبْدِ الله بْنِ صُورِيَا، وَتَمِيمٍ/ الدَّارِيِّ، وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُوثَقُ بِخَبَرِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْكُلُّ سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنَ الْكُفَّارِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا بَلَغُوا عَدَدَ التَّوَاتُرِ ثُمَّ قَرَءُوا آيَةً مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَتِلْكَ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى الْبِشَارَةِ بِمَقْدَمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ حَصَلَ الْغَرَضُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ مَذْهَبُكُمْ أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ قَدْ دَخَلَهَا التَّحْرِيفُ وَالتَّغْيِيرُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهَا.
قُلْنَا: إِنَّهُمْ إِنَّمَا حَرَّفُوهَا بِسَبَبِ إِخْفَاءِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنْ بَقِيَتْ فِيهَا آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّهَا لَمَّا بَقِيَتْ مَعَ تَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى إِزَالَتِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَإِمَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ مَعْرِفَةُ أَيِّ الْأَشْيَاءِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْقُرْآنُ وَمَعْرِفَةُ نُبُوَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَجَعَ ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ [يُونُسَ: 93] وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ هُوَ الْأَهَمُّ وَالْحَاجَةُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ أَتَمُّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ هَذَا الطَّرِيقَ قَالَ بَعْدَهُ: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ أَيْ فَاثْبُتْ وَدُمْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنِ انْتِفَاءِ الْمِرْيَةِ عَنْكَ، وَانْتِفَاءِ التَّكْذِيبِ بِآيَاتِ الله، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّهْيِيجِ وَإِظْهَارِ التَّشَدُّدِ وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ نُزُولِهِ «لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ بَلْ أَشْهَدُ أَنَّهُ الْحَقُّ». اهـ (مفاتيح الغيب 17/ 300 - 302)(2/156)
أي (1): إلى آجالهم وقيل الجملة في معنى النفي أى: ما كانت قرية آمنت أهلها بتمامها فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إلا قوم يونس آمنوا بتمامهم ونفعهم الإيمان وحاصله أنه ليست قرية آمنت أهلها بتمامها إلا وقت نزول العذاب فلا ينفعهم إيمانهم؛ لأنه اضطراري وأما قوم يونس وهم أهل نينوى من أرض الموصل بعدما عاينوا أسباب العذاب جأروا إلى الله تعالى ولبسوا المسوح وفرقوا بين كل حيوان وولده وعجوا إلى الله تعالى فكشف الله تعالى عنهم الدخان والعذاب وقبِل منهم الإيمان وهم مائة ألف أو يزيدون، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ): يا محمد، (لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا): مجتمعين على الإيمان، (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) بما لم يشاء الله منهم، (حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وهذا عند حرصه - صلى الله عليه وسلم - بإيمان الخلائق كما قال تعالى: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) [فاطر: 8]، (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بإرادته فليس عليك هداهم، (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) العذاب والضلال، (عَلَى الذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) حجج الله تعالى وأدلته فهو العادل الحكيم في هداية من هدى وإضلال من أضل، (قلِ انظُروا): تفكروا، (مَاذَا) إن
__________
(1) في الأصل شطر الآية السابقة وهو مكرر تم حذفه. (مصحح النسخة الإلكترونية).(2/157)
كانت استفهامية فانظروا معلق عن العمل، (في السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، من الصنائع الدالة على وحدته، (وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ) أي: الرسل أو الإنذارات (عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) في حكم الله تعالى، أي: لا تفيد لهم وبعضهم على أن ما استفهامية إنكارية أي: أي شيء تغني الآيات عنهم؟ (فَهَلْ يَنتَظِرُونَ) أي: أهل مكة، (إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا): مضوا، (مِن قَبْلِهِمْ) أي: مثل وقائع الأمم السالفة والعرب تسمي العذاب أيامًا، وهم وإن كانوا لا ينتظرون عذاب الله لكن لما استحقوه ناسب أن يشك في أنَّهم منتظرون، قيل: معناه هل ينتظرون لك يا محمد إلا مثل تلك الوقائع لمن سلف؟ (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي) عطف على محذوف كأنه قيل: نهلك الأمم ثم ننجى، (رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا) معهم، (كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) أي: مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين حين نهلك المشركين وحقًا علينا معترضة، أي: حق ذلك علينا حق بحسب وعدنا.
* * *
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ(2/158)
عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
* * *
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍ من دِينِي): وصحته، (فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) يقبض أرواحكم، أي: هذا خلاصة ديني فاسمعوا وصفه واعرضوا على عقولكم لتعلموا حقية ديني وبطلان دينكم وخصه بوصف التوفي تهديدًا لهم، (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ) أي: بأن أكون، (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ) عطف على أن أكون وصلة أن محكية بصيغة وعبارة أمره الله بها والغرض وصل إن بما يتضمن معنى المصدر والإنشاء والخبر في ذلك سواء، (وَجْهَكَ لِلدِّينِ) أي: أمرت بالاستقامة في الدين وإخلاص الأعمال لله، (حَنيفًا) منحرفًا عن الشك حال، (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ) لا يقدر عليهما، قيل: لا يضرك إن تركت عبادته ولا ينفعك إن عبدته، (فَإِنْ فَعَلْتَ): عبدت غيره، (فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ) الواضعين العبادة في غير موضعها (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]، (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) يصبك ببلاء، (فَلَا كَاشِفَ لَهُ) يدفعه، (إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) بنعمة، (فَلَا رَادَّ(2/159)
لِفَضْلِهِ) الذي أراد بك وإنما قال لفضله مكان له إشارة إلى أنه متفضل بالخير، (يُصِيبُ بِهِ): بالخير، (مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) لمن تاب من أي ذنب كان فتعرضوا لرحمته بالتوبة ولا تيأسوا من غفرانه بالمعصية، (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ) القرآن، (مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى) بالإيمان به، (فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) نفعه لها، (وَمَنْ ضَلَّ) بالكفر به، (فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) وبال الضلال عليها، (وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) بموكول إليَّ أمركم، أو بكفيل أحفظ أعمالكم إنما أنا نذير، (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) بالامتثال، (وَاصْبِرْ) على مخالفة من خالفك، (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) بنصرك وقهر عدوك، أو بالأمر بالقتال وعن ابن عباس - رضي الله عنه - نسختها آية القتال، (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) لأن جميع أحكامه على نهج الحكم والصواب لا يمكن طرآن الخطأ فيه. والله أعلم.
* * *(2/160)
سورة هود مكية
وهى مائة وثلاث وعشرون آية، وعشر ركوعات
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (8)
* * *
(الر كِتَابٌ)، خبر (الر) أو هذا كتاب، (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) أي:(2/161)
هي محكمة في لفظها مفصلة في معناها أو أحكمت بأنها لم تنسخ بكتاب ثم فصلت بالأحكام والعقائد والمواعظ والأخبار أو نزلت شيئًا فشيئًا، (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) صفة أخرى لكتاب أو متعلق بـ أحكمت وفصلت أو خبر بعد خبر، (أَلَّا تَعبدُوا إِلا اللهَ) مفعول له أي: أحكمت ثم فصلت لأجل أن لا تعبدوا إلا الله أو أن مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول، وقيل: هذا كتاب بأن لا تعبدوا، (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ): من الله، (نَذِيرٌ) بالعقاب على من عبد غير الله، (وَبَشِيرٌ): بالثواب على من عبد الله، (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا) عطف على أن لا تعبدوا، (رَبَّكُمْ) من الذنوب السالفة، (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) فيما تستقبلونه، أو ثم ارجعوا إليه بالطاعة، (يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا) يعيشكم في أمن وسعة، (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى حين موت مقدر، (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) عن ابن عبَّاسٍ يؤت كل من فضلت وزادت حسناته على سيئاته فضل الله، أي: الجنة أو يعط كل ذى عمل صالح جزاء عمله الصالح، (وَإِن تَوَلَّوْا) أى: تتولوا، (فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) يوم القيامة، (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على تعذيب المعرض، (أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهمْ) ثنيت الشيء إذ عطفته وطويته عن ابن عباس - رضي الله عنهما - كانوا(2/162)
يكرهون استقبال السماء بفروجهم حال وقاعهم فنزلت، أو كان إذا مر أحدهم برسول الله ثنى عنه صدره وأعرض عنه وغطى رأسه فنزلت، أو نزلت حين يقولون إذا رخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وطوينا صدورنا على عداوة محمد كيف يعلم، أو نزلت في الأخنس بن شريق كان يظهر المحبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله منطق حلو وكان يعجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجالسته ومحادثته وهو يضمر عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إما بمعنى الصرف من ثنيت عناني أو بمعنى الإخفاء أو بمعنى الانحناء، (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) من الله وعلى ما نقلنا في الوجه الثاني من سبب النزول الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، (أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ) يغطون رءوسهم بثيابهم، (يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) يستوي في علم الله تعالى سرهم وعلنهم فكيف يمكن لهم أن يخفوا من الله تعالى شيئًا، (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) بما في قلوبهم.
(وَمَا مِن دَابَّة فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا) أي: هو المتكفل بذلك فضلاً إن لم يرزقها فلا يمكن أن يرزقها أحد غير الله تعالى، (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا)، أماكنها في الحياة والممات أو أرحام الأمهات وأصلاب الآباء والمستقر الجنة أو النار والمستودع القبر، (كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) مثبت في اللوح المحفوظ، (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) كأيام الدنيا أو كل يوم كألف سنة، (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) والماء على متن الريح وروي الترمذي وابن ماجه " أن الله كان في عماء (1) ما تحته
__________
(1) قال أحمد: يريد بالعماء أنه ليس معه شيء، وقال البيهقى: إن كان العماء ممدود فمعناه سحاب رقيق والمعنى فوق سحاب مدبرًا له وعاليًا له، وإن كان مقصورًا فمعناه لا شىء ثابت؛ لأنه عمى عن الخلق لكونه غير شيء ونحوه قال جمع من أهل العلم، قال الأزهرى: فنحن نؤمن به ولا نكيف صفته/ 12 فتح ملخصًا.(2/163)
هواء وما فوقه هواء ثم خلق العرش بعد ذلك، (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أي: خلق ذلك ليعاملكم معاملة المختبر لأحوالكم كيف تعملون فعلم أن خلق العالم لنفع عباده وإحسان العبادة أن تكون خالصة لله وعلى شريعة شرعها الله تعالى، (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، أي: ما البعث أو القرآن المتضمن لذكره إلا خديعة كالسحر الباطل، (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ) الموعود، (إِلَى أُمَّةٍ) جماعة من الأوقات والأمة تستعمل في معان متعددة، (مَعْدُودَةٍ) محصورة قليلة، (لَيَقُولُنَّ) استهزاء، (مَا يَحْبِسُهُ) ويمنعه من الوقوع، (أَلاَ يَوْمَ يَأتِيهِمْ) أي: اليوم المقدر لنزول العذاب، (لَيْسَ) العذاب، (مَصْرُوفًا عَنهُمْ) ويوم ظرف مصروفًا، (وَحَاقَ بِهِم) وأحاط بهم ذكر بلفظ الماضي تحقيقًا ومبالغة، (مَّا كَانوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) أي: العذاب.
* * *
(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ(2/164)
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
* * *
(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً) أعطيناه نعمة ووجد لذتها، (ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ) قنوط كأنه لا يرجو بعد ذلك فرجًا، (كفُورٌ) مبالغ لكفران نعمه السابقة(2/165)
كأنه لم ير خيرًا، (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) كغنى بعد فقر، (لَيَقولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي) ما بقي ينالني بعد هذا ضيم ولا سوء، (إِنَّهُ لَفَرِحٌ) بما في يده مغتر، (فَخُورٌ) على الناس مشغول عن الشكر، (إِلا الذِينَ صَبَروا) على الضراء استثناء منقطع إن حمل الإنسان على الكافر وإلا فمتصل، (وَعَمِلوا الصَّالِحَاتِِ) في السراء والضراء، (أُوْلَئِكَ لَهم مَّغفِرَةٌ) لم عاصيهم، (وَأَجْرٌ كَبير) كالجنة، (فَلَعَلَّك تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) تترك تبليغ بعض القرآن وهو ما فيه سب آلهتهم وطعن دينهم مخافة سخريتهم وسبهم وزيادة انهماكهم في الكفر عصمه الله تعالى عن الخيانة في الوحي ونبهه، (وَضَائِقٌ) الضائق بمعنى الضيق، إلا أن الضائق يكون لضيق عارض غير لازم كزيد سيد وعمرو سائد، (بِهِ) بأن تتلوه عليهم، (صَدْرُكَ) مخافة، (أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) كما قالوا {لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان: 7، 8] قال بعضهم: ضمير به مبهم يفسره أن يقولوا، (إِنَّمَا أَنتَ نَذيرٌ) ما عليك إلا الإنذار فما بالك يضيق صدرك، (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) موكول إلى الله تعالى لا إليك أمر الكل، (أَمْ يَقولونَ) أم منقطعة، (افْتَرَاهُ) الضمير لما يوحى، (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) أي: يكون كل واحد مثل القرآن في البلاغة والغرض إلزامهم، والدليل على أنه معجز من عند الله والعجز عن الإتيان بمثل الكل والبعض أعم من أن يكون عشر سور أو سورة واحدة دليل عليهم مع أن سورة البقرة متأخرة في النزول عن هود، والأصح أن يونس أيضًا متأخرة فتحداهم أولاً بعشر سور ثم عجزوا فتحداهم بسورة واحدة، (مفتَرَيَاتٍ) من عند أنفسكم مع أن ممارستكم للقصص والأشعار أكثر(2/166)
وأكثر، (وَادْعُوا) إلى المعاونة على المعارضة، (مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أنه مفترى، (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) يا أصحاب محمد، (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ): متلبسًا بما هو يعلمه ولا يقدر عليه غيره، (وَأَن لَا إِلَهَ إِلا هُوَ) لأنَّهُم مع آلهتهم عجزوا والعاجز لا يكون إلهاً فلا إله إلا الله، (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ثابتون على الإسلام، أو معناه فإن لم يستجب من تدعونهم إلى المعاونة لكم يا من تدعون افتراءه ولا يتهيأ لكم المعارضة فاعلموا إلخ فالخطاب كله حينئذ للكفار وهو أظهر.
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) فقط عمله، (وَزِينَتَهَا) كأهل الرياء، (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا) أجور أعمالهم في الدنيا بسعة الرزق ودفع المكاره، (وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ) لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئًا نزلت في المرائين، قال بعضهم: في اليهود والنصارى أو في بر الكافرين، (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) فإنهم استوفوا جزاء أعمالهم وبقي لهم الأوزار، (وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فيهَا) لأنه لم يبق لهم ثواب والضمير للآخرة إن كان الظرف لحبط وللدنيا إن كان لصنعوا،(2/167)
(وَبَاطِلٌ ما كانوا يَعْمَلُون) أي عملهم في نفسه باطل لأنَّهُم لم يعملوا بوجه صحيح، وفي الحديث (أشد الناس عذابًا من يرى الناس فيه خيرًا ولا خير فيه) (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ): برهان، (مِنْ رَبِّهِ) يدله على الصواب، وتقديره أفمن كان على بينة كمن يريد الحياة الدنيا، (وَيَتْلُوهُ) يتبع من كان على بينة، (شَاهِدٌ مِنْهُ) من الله يشهد بصحته، فالبينة الفطرة السليمة للمؤمن والدليل العقلي له والشاهد جبريل أو محمد عليهما الصلاة والسلام يأتي بالقرآن من عند الله أو القرآن، (وَمِن قَبْلِهِ) قبل الشاهد الذي يأتي بالقرآن أو الذي هو القرآن، (كتاب مُوسَى) أي: التوراة، (إِمَامًا) كتابًا مؤتمًا؛ في الدين، (وَرَحْمَةً) من الله تعالى لهم، (أوْلَئِكَ) إشارة إلى من كان على بينة، (يؤْمِنُونَ بِهِ): بالقرآن، (وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ) أصناف الكفار، (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) قال بعضهم: من كان على بينة هو محمد عليه السلام والشاهد جبريل وأولئك إشارة إلى من آمن من أهل الكتاب، وقال بعضهم: من كان على بينة(2/168)
مؤمنو أهل الكتاب وبينتهم دلائلهم العقلية، والشاهد إما جبريل أو محمد عليهما السلام أو القرآن، (فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ منْهُ) من الموعد أو القرآن، (إِنَّهُ الحَقُّ مِن ربكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا) كـ مثبت الولد والشريك له ونافي القرآن عنه، (أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ) يوم القيامة فيسألهم عن عقائدهم وأعمالهم، (وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ) من الملائكة والأنبياء أو جميع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو الجوارح، (هَؤُلاءِ الًذِينَ كَذَبُوا عَلَى ربِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الًذِينَ يَصُدُّونَ) يمنعون الناس، (عَن سَبِيلِ اللهِ) دينه، (وَيَبْغونَهَا عِوَجًا) يصفونها بالانحراف عن الصواب أو يريدون أن يكون سبيل الله تعالى عوجًا وهو ما هم عليه، (وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافرُونَ أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونوا مُعْجِزِينَ في الأَرْضِ): في الدنيا أن يعاقبهم، بل هم تحت قهره وسلطانه وهو قادر على [الانتقام منهم في الدنيا] لكن يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار، (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ) يمنعوهم من العذاب، (يضَاعَفُ لَهُمُ العَذَابُ) لضلالهم وإضلالهم، (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) لأن الله تعالى حال بينهم وبين سماع الحق فيبغضون سماعه، (وَمَا كَانوا يُبْصِرُونَ) لتعاميهم عن آيات الله تعالى قيل: كأنه العلة لتضاعف العذاب، (أُوْلَئِكَ الًذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بأنَّهم اشتروا شيئًا هو سبب
__________
(1) في الأصل [انتقامهم في الدنيا] (مصحح النسخة الإلكترونية).(2/169)
عذابهم المؤبد، (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) من الآلهة وشفاعتها فضاع عنهم ما حصلوا في الدنيا فلم يبق لهم سوى الندامة، (لاَ جَرَمَ) حقًا، (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) لا أحد أكثر خسرانًا منهم، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا): اطمأنوا، (إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) الكافر والمؤمن، (كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ) هو مثل الكافر، (وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) هو مثل المؤمن يميز بين الحق والباطل ويفرق بين البرهان والشبهة، (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا) أي: تمثيلاً، (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) فتفرقوا بين هؤلاء وهؤلاء.
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ(2/170)
أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي) أي بأني ومن قرأ بالكسر فعلى إرادة القول، (لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا) بدل من إني لكم على قراءة النصب، أو معناه نذير لأن لا تعبدوا، أو مفسرة متعلقة بأرسلنا، (إِلا الله إِني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ): مؤلم وصف اليوم بالأليم المبالغة وهو في الحقيقة صفة المعذب (فَقَالَ الْمَلَأُ): الأشراف، (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا) لا فضل لك علينا(2/171)
نخصك بقبول كلامك، (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا) سفلتنا لا يتبعك الأشراف، (بَادِيَ الرَّأيِ) أي: وقت حدوث أول أو ظاهر رأيهم بلا روية وفكر من بداء أو بدائ بالهمزة أو الياء فهو ظرف بحذف المضاف لـ اتبعك، قيل: معناه اتبعوك ظاهر الرأى وباطنهم على خلاف ذلك، (وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) إياك في دعواك ومتبعيك في دعوى العلم بصحته، (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني، (إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ) حجة، (مِّن ربي) تدل على صدق دعواي، (وَآتانِي رَحْمَةً) نبوة ومعرفة، (مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ) خفيت والتبست، (عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا) نكرهكم على الاهتداء بها، (وَأَنتمْ لَهَا) للبينة، (كَارِهون) أو حاصله إن كنت على معرفة من الله تعالى ونبوة ومعجزة من عنده لكن صارت ملتبسة في عقولكم فهل أقدر على أن أجعلكم معترفين بها، أي: لا أقدر على ذلك لكن لو تركتم العناد وتأملتم فقد عرفتم، (وَيَا قَوْمٍ لاَ أَسْألكُمْ عَلَيْهِ) على التبليغ، (مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللهِ) لا عليكم، (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) كأنهم طلبوا منه طرد المؤمنين احتشامًا ونفاسة منهم أن يجلسوا معهم، (إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) يلاقون الله تعالى فيعاقب الله من طردهم أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من تمكن الإيمان وتزلزلة حيث تزعمون أن إيمانهم بادي الرأي، وأنا لا أعرف منهم إلا الإيمان فكيف أطردهم (وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُون) عواقب الأمور، (وَيَا قَوْمِ(2/172)
مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ) من يمنعني من عقابه، (إِن طَرَدتُّهُمْ) ظالمًا، (أَفَلاَ تَذَكرونَ) لتعرفوا ما تقولون، (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ) جواب لقولهم " ما نرى لكم علينا من فضل "، (وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) حتى تسألوني عن وقت العذاب وغيره وتكذبوني، أو حتى أعلم أن هؤلاء اتبعوني من غير بصيرة وعقد قلب، (وَلاَ أَقُولُ) لكم، (إِني مَلَكٌ) جواب لقولهم: " ما نراك إلا بشرًا مثلنا "، (وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي) تستصغر وتحقرهم، (أَعْيُنُكُمْ) لفقرهم والإسناد إلى الأعين لأنَّهُم استرذلوهم بما عاينوا من رثاثتهم لا لأن فيهم عيبًا معنويًا، (لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا) أي: لا أحكم على المؤمنين أنه ليس لهم عند الله ثواب ونعمة، (اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ) فإن كان باطنهم موافقًا للظاهر فلهم الأجر، (إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) إن طردتهم، أو قلت شيئًا من ذلك، (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) فأطلت مخاصمتنا، (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا) من العذاب، (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللهُ إِن شَاءَ) فإن منزل العذاب هو الله تعالى، (وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ) الله يدفع العذاب، (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) أي: إن أراد الله تعالى ضلالكم، فإن أردت نصحكم لا ينفعكم نصحي فقوله لا ينفعكم نصحي دال على جواب الشرط الأول والمجموع دال على جواب الشرط الثاني، (هُوَ رَبُّكُمْ) فله التصرف فيكم كيف يشاء، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم، (أَمْ يَقُولُونَ) منقطعة، (افْتَرَاهُ) أي: نوح وعن مقاتل أي: محمد فيكون(2/173)
معترضًا في وسط هذه القصة، (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي) أي: وباله، (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) من إجرامكم في إسناد الافتراء إلي وقيل: معناه من الكفر والمعاصي.
* * *
(وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ(2/174)
أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
* * *
(وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ): لا تحزن، (بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) وكن تابعًا لمراد الله تعالى ومشيئته، (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا) أي: متلبسًا بأعيننا كأن لله تعالى معه أعينًا تحفظه عن الميل في صنعته عن الصواب وحاصله اصنعها وأنت محفوظ، (وَوَحْيِنا) إليك كيفية صنيعها، (وَلاَ تُخَاطِبْنِي) بالدعاء، (فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي: في شأنهم ودفع العذاب عنهم، (إِنَّهُم مغرَقُون) بالطوفان لا سبيل لهم إلى الخلاص، (وَيَصْنَعُ الفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ(2/175)
مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) استهزءوا به قائلين نبي نجار، (قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) حين ينزل عليكم العذاب، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ) يهينه في الدنيا، (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مقِيمٌ) دائم في الآخرة فقوله من منصوب بـ تعلمون ويخزيه صفة عذاب ويحل عطف على يأتيه، (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا) غاية لقوله يصنع وما بينهما حال، (وَفَارَ التَّنُّورُ) نبع الماء فيه مكان النار قال بعضهم: تنور من حجارة كانت حواء تخبز فيه فصار إلى نوح، وعن علي رضي الله عنه: أي طلع الفجر ونور الصبح وعن بعضهم التنور وجه الأرض، (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا)، في السفينة، (مِن كُلٍّ)، من أنواع الحيوانات، قال بعضهم: ما حمل ما يتولد من الطين كالبق والذباب، (زَوْجَيْنِ اثْنيْنِ)، ذكرًا وأنثى فقوله اثنين تأكيد ومبالغة، (وَأَهْلَكَ) أي: أهل بيتك وقرابتك عطف على زوجين وأما عند من قرأ (مِنْ كُلِّ) زوجين بالإضافة فهو عطف على اثنين، (إِلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ) بالهلاك كامرأته واعلة وابنه كنعان، (وَمَنْ آمَنَ) عطف على زوجين كما في وأهلك، (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) ثمانون نفسًا أو اثنان وسبعون أو ثمانية نفر أو عشرة، (وَقَالَ(2/176)
ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) أي: اركبوا قائلين بسم الله أو مسمين الله وقت إجرائها ووقت إرسائها أي: ثباتها أو بسم الله خبر لمجريها أي: بسم الله إجراؤها وإرساؤها فيكون إخبارًا من نوح بأن إجراءها وإرساءها باسم الله، وقد نقل أنه إذا أراد إجراءها قال بسم الله فجرت، وإذا أراد إثباتها قال بسم الله فرست، (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لما نجانا من عذابه، (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ) أي: ركبوا فيها وهي تجري وهم فيها، (فِي مَوْج كَالْجِبَالِ) كل موجة كجبل، (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ) كنعان، (وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ) مكان عزل وأبعد فيه نفسه عن أبيه، (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا) في السفينة، (وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) في الدين والبعد عنا، (قَالَ سَآوِي) أصير وألتجئ، (إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ(2/177)
اللهِ) عذابه، (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) أي: إلا الراحم وهو الله أو عاصم بمعنى ذا عصمة كـ لابن وتامر إلا من رحم أي: من رحمه الله، أو الاستثناء منقطع يعني لكن من رحمه الله فهو معصوم قيل: تقديره لا عاصم لأحد إلا من رحمه الله (وحَالَ بَيْنَهُمَا) بين نوح وولده، (الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) صار منهم، (وَقِيلَ) بعدما تناهي أمر الطوفان، (يَا أَرْضُ ابْلَعِي) انشفي، (مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) أمسكي عن المطر، (وَغِيضَ) نقص، (الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي: إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين، (وَاسْتَوَتْ) استقرت السفينة، (عَلَى الْجُودِيِّ) جبل شامخ قريب الموصل أو الشام، (وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي هلاكًا لهم، (وَنادَى) أي: أراد النداء، (نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ) أو نادى على حقيقته وقوله تعالى فقال تفصيل للمجمل، (رَبِّ إِن ابْنِي مِن أَهْلِي) وقد وعدت إنجاءهم، (وَإِنْ وَعْدَكَ الحَقُّ) لا خلف فيه، (وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ) أعدلهم، (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) الذي وعدت نجاته فإنه داخل في المستثنى، أي: إلا من سبق عليه القول أو ليس من أهل دينك، وقال بعضهم: إنه ولد زنية (1) وعن ابن عباس وغيره رضى الله عنه: ما زنت امرأة نبيٍّ قط، وعن كثير من السلف كان ابن امرأته، (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) أي: إنه ذو عمل فاسد ولا ولاية بين المؤمن والكافر قيل إنه أي: سؤالك إياي بنجاته عمل فاسد، (فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم) ما لا تعرف أنه خطأ أم صواب والظاهر أن هذا قبل غرق ولده أو بعده لكن قبل علم نوح هلاكه، (إِنِّي أَعِظُكَ) أنهاك، (أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ قَالَ
__________
(1) كالحسن البصري، وكلامه هذا مردود لقوله تعالى (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ) وقول نوح عليه السلام: (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي)، وقول ابن عباس: ما زنت امرأة نبيٍّ قط.(2/178)
رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ) بعد ذلك، (مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا) أي: إن لم، (تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ) بعد استقرار السفينة على الجودي، (يَا نوح اهْبِطْ) من السفينة، (بِسَلامٍ منا) بسلامة أو بتحية وهو حال، (وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ) البركة ثبوت الخير، (وَعَلَى أُمَمٍ ممَّن معَكَ) أي: على أمم ناشئة ممن معك من المؤمنين، ولهذا قالوا دخل فيه كل مومن ومؤمنة إلى يوم القيامة، قال بعضهم: المراد من الأمم المؤمنون الذين معه وسماهم أمما لتحزبهم، أو لتشعب الأمم منهم، (وأُمَمٌ) أي: وممن معك أمم، (سَنُمَتِّعُهُمْ) في الدنيا، (ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) وهم الكافرون من ذرية من ممن، (تِلْكَ) إشارة إلى قصة نوح، (مِن أَنبَاءِ الغَيْبِ) أي: من أخباره، (نوحِيهَا إِلَيْكَ) خبر ثان لـ تلك أو حال، (مَا كُنت تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا) خبر ثالث أو حال، (فَاصْبِرْ): كما صبر نوح، (إِنَّ الْعَاقِبَةَ) في الدنيا والآخرة بالنصرة، (لِلْمُتَّقِينَ).
* * *(2/179)
(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
* * *
(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ) عطف على " نوحًا " إلى قومه، (هُودًا) عطف بيان، (قَالَ يَا قَوْمِ اعبدُوا اللهَ) وحده، (مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) صفة تابعة لمحل الجار والمجرور،(2/180)
(إِن أَنتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ): على الله، (يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ): على تبليغ الرسالة، (أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الذِي فَطَرَنِي) يعني نصيحتي خالصة لا مشوبة بالمطامع، (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) حتى تميزوا بين المخطئ والمصيب، (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) بالإيمان، (ثُمَّ تُوبُوا إِليهِ) ارجعوا إليه بالطاعة، (يرْسِلِ) جواب الأمر، (السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) كثير الدر، (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) يضاعف قوتكم بالمال والولد والشد في الأعضاء، ومنه قال الحسن بن على رضي الله عنه: من كثر استغفاره كثر نسله، (وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) لا تعرضوا عني مصرين على إجرامكم، (قَالُوا يَا هُودُ مَا جتَنَا بِبَيِّنَةٍ) حجة تدل على مدعاك وهذا كذب منهم وجحود، (وَمَا نَحْنُ(2/181)
بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ) حال من ضمير تاركي، أي: صارفين عن قولك، (وَمَا ئحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِن نقُولُ) ما نقول، (إِلا اعْتَرَاكَ) أي: إلا قولنا أصابك، (بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوء) بجنون لأنك تتكلم بالهذيانات، (قالَ إِنِّى أُشْهِدُ اللهَ) على نفسي، (وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أي: من إشراككم آلهة، (مِن دُونِهِ) ظرف لغو لـ تشركون، أو بيان لما، (فَكِيدُونِي) أنتم وأوثانكم، (جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ) لا تمهلوني فإني لا أبالي بكم وبكيدكم ومن أعظم الآيات مواجهتهم بهذا الكلام مع أنهم عطاش بإراقة دم من خالفهم وهم مع كثرتهم كرجل واحد يرمون من قوس واحد، (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) الأخذ بالنواصي تمثيل لاشتمال ربوبيته على الكل وذل الكل وخضوعه تحت قهره وسلطانه فإن من أخذت ناصيته فقد قهرته، (إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) على العدل والإحسان مع غلبته وقدرته قيل تقديره: إن ربي يحثكم على صراط مستقيم، (فَإِن تَوَلوْا) تتولوا، (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) فلا عليَّ شيء فإني بلغت الرسالة وما عليَّ إلا الإبلاغ، (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ) هذا وعيد بإهلاكهم واستخلاف قوم آخرين مطيعين في ديارهم، (وَلَا تَضُرُّونَهُ) بإعراضكم، (شَيْئًا) من الضرر وقيل: لا تنقصونه شيئًا إذا أهلككم، (إِنَّ ربي عَلَى كُلِّ شَىْء حَفِيظٌ) فيحفظ أعمالكم ويجازيكم أو هو الحافظ للأشياء فهو الضار النافع فيستحيل أن يضره شيء أو هو الحافظ يحفظني من كيدكم، (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا) بهلاك عاد، (نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) الريح التي أهلك بها عادا قيل المراد به تنجيتهم من عذاب الآخرة أيضًا والتعريض بتعذيب المهلكين في الدنيا والآخرة، (وَتِلْكَ)، إشارة إلى القبيلة وقيل: إلى قبورهم وآثارهم، (عَادٌ جَحَدُوا) كفروا، (بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ) من عصى رسولاً واحدًا فقد عصى الرسل فإن كلامهم واحد، (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِي) أي: سفلتهم اتبعوا كبراءهم(2/182)
الذين طغوا فلم يقبلوا الحق، (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً) قال السدي: ما بعث نبي بعد عاد إلا لعنوا على لسانه، (وَيَوْمَ القِيَامَةِ) أي: لعنوا في الدارين، (أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ) أي: نعمه أو بربهم فحذف الجار، (أَلَا بُعْدًا) من رحمته وهلاكاً، (لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) جىء بعطف البيان للتمييز عن عاد الإرم قيل: ينادي في القيامة بقوله: " ألا إن عادًا " إلخ.
* * *
(وَوَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
* * *
(وَإِلَى ثَمُودَ) عطف على (وإلى عاد)، (أَخَاهُمْ) واحد منهم، (صَالِحًا) عطف بيان، (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) صفة تابعة لمحل الموصوف،(2/183)
(هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ) فإنهم من آدم وآدم من تراب، (وَاستَعْمَرَكُمْ فِيهَا) أقدركم على عمارتها، وعن الضحاك أطال عمركم فيها فإن الواحد منهم يعيش ثلاثمائة إلى ألف سنة، (فَاسْتَغفِرُوهُ) لما مضى، (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) فيما بقي، (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ) يسمع أو قريب الرحمة، (مُجِيبٌ) لداعيه، (قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا) نرجوا أن تكون لنا سيدًا مستشارًا في الأمور لما نرى فيك من الرشد (أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) عدوا هذا النهي منه بلاهة وشبه جنون، (وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍ ممَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ) من التبرء عن الأوثان، (مُرِيبٍ) موقع في الريبة، (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ) يقين وبصيرة، (مِنْ رَبِّي) وحرف الشك باعتبار المخاطبين، (وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً) نبوة، (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ) يمنعني من عذابه، (إِنْ عَصَيْتُهُ) في تبليغ الرسالة، (فَمَا تَزِيدُونَنِي) إذن حينئذ، (غَيْرَ تَخْسِيرٍ) غير أن تخسروا أعمالي وتبطلوا أو ما تزيدونني بما تقولون إلا أن أنسبكم إلى الخسران، (وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) آية حال، ولكم حال منها أو بيان، (فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ): عاجل، (فَعَقَرُوهَا فقالَ) لهم صاع، (تَمَتَّعُوا): عيشوا، (فَى دَارِكُمْ) الدنيا أو منازلكم، (ثَلاَثةَ أَيَّامٍ) ثم تهلكون، (ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) مصدر كالمجلود والمصدوقة أو غير مكذوب فيه فاتسع فيه بإجرائه مجرى المفعول به كيوم شهدناه(2/184)
سليمًا وعامرًا، (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ منَّا وَمِنْ خِزْيِ) عطف على نجينا بتقدير: ونجيناهم من خزي، (يَوْمِئِذٍ) يوم هلاكهم بالصيحة وقيل: يوم القيامة، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) القادر الغالب، (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) كان عذابهم صيحة من السماء وزلزلة من الأرض به تقطعت قلوبهم في صدورهم، (فَأَصْبَحُوا فِي ديَارِهِمْ جَاثِمِينَ) خامدين ميتين، (كَأَن لَّمْ يَغنَوْا): لم يقيموا ولم يكونوا، (فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا) من رحمة الله، (لِثَمُودَ) وصرف ثمود للذهاب إلى الحي أو الأب الأكبر.
* * *
(وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا(2/185)
اللهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
* * *
(وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا) أي: الملائكة، (إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى) ببشارة الولد وقيل هلاك قوم لوط، (قَالُوا سَلامًا) سلمنا عليك سلامًا، (قَالَ سَلامٌ) أي: عليكم سلام، (فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) أي: فما أبطأ مجيئه بعجل مشوي على الحجارة المحماة أو ما أبطأ في المجيء به أي: أسرع في ضيافتهم وكانت عامة ماله البقرة، (فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ) لا يمدون إليه أيديهم، (نَكِرَهُمْ) أنكر ذلك منهم، (وَأَوْجَسَ) أدرك، (مِنْهُمْ خِيفَةً) لأن الضيف إذا أتى بشر لا يأكل، (قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ) بالعذاب،(2/186)
(وَامْرَأَتُهُ) سارة، (قَآئِمَةٌ) وراء الستر أو قائمة بخدمتهم، (فَضَحِكَتْ) سرورًا بالأمن أو تعجبًا، وقالت: يا عجبًا بأضيافنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة وهم لا يأكلون طعامنا أو تعجبًا من خوف إبراهيم من رجال قلائل وهو بين خدمه وحشمه، أو ضحكت بمعنى حاضت، (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) بشروها بأن لها ولدًا يكون له عقب ونسل فإن يعقوب ولد إسحاق ونصب يعقوب لأنه في تقدير وهبناها من وراء إسحاق يعقوب، أو بحذف حرف الجر وإيصال الفعل، ومن قرأ بالرفع فهو مبتدأ، أي: ويعقوب مولود من بعده، (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى) أي: يا عجبًا، (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) ابنة تسعين أو تسع وتسعين، (وَهَذَا بَعْلِي): زوجي، (شَيْخًا) ابن مائة وعشرين أو مائة [ونصبه على الحال والعامل فيها معنى اسم الإشارة]، (إِن هَذَا لَشَيْء عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِن أَمْرِ اللهِ) قدرته، (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ) فتخصيصكم بمزيد الكرامات لا عجب، (أَهْلَ الْبَيْتِ) أي: أهل بيت إبراهيم وهو خبر من الملائكة أو دعاء
__________
(1) لعل في هذا الموضع سقطا والله أعلم.، وما بين المعقوفتين زيادة من تفسير البيضاوي. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(2/187)
منهم، (إِنَّهُ حَمِيدٌ) محمود في أفعاله، (مَّجِيدٌ) كريم، (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ) بأن عرفهم، (وَجَاءَتْهُ البُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ) أي: يجادل رسلنا في أمرهم كيف تهلكونهم وفيهم لوط ويجيء جواب لما مضارعًا لحكاية الحال، أو تقديره: أخذ يجادلنا أو اجترأ على خطابنا يجادلنا قيل: لما تَردُّ المضارع إلى معنى الماضي، (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ) كثير التأسف على الذنوب، (منِيبٌ) راجع إلى الله تعالى يعني رقة قلبه وفرط ترحمه باعثه إلى المجادلة، (يَا إِبْرَاهِيمُ) أي: قالت الملائكة (أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) الجدال، (إِنَّهُ) إن الشأن، (قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ): عذابه، (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) بجدال ودعاء.
(وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا) أي: هذه الملائكة، (لُوطًا سِيءَ بِهِمْ) حزن بمجيئهم وساءة، (وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا) طاقة، يقال: ضقت بالأمر ذرعًا إذا لم يطقه وذلك لأنهم جاءوا في أحسن صورة غلمان فخاف عليهم من خبث قومه وعدم قوته بمدافعتهم، (وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ) شديد بلاؤه وقد نقل أن امرأة لوط خرجت فأخبرت قومها بأن في بيته غلمانًا حسانًا، (وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ) يسرعون، (إِلَيهِ) عجلة لنيلهم مطلوبهم من أضيافه، (وَمِن قبْلُ): قبل ذلك الوقت، (كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ) يأتون الرجال يعني هذه عادتهم من قديم الأيام، (قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ(2/188)
بَنَاتِي) أي: فتزوجوهن واتركوا أضيافي وكانوا يطلبونهن قبل ذلك ولا يجيبهم، وكان تزويج المسلم من الكافر جائزًا أو المراد من البنات نساؤهم وأضاف إلى نفسه؛ لأن كل نبي أبو أمته، (هُنَّ أَطْهَرُ لَكمْ) من نكاح الرجال، (فَاتَّقُوا اللهَ وَلَا تُخْزُونِ) لا تفضحوني، (في) شأن، (ضَيْفِي) فإخزاء ضيف الشخص إخزاؤه، (أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رشِيدٌ) يعرف حقية ما أقول، (قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ): من حاجة، (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ) من إتيان الرجال، (قَالَ لَوْ أَن لِي بِكُمْ قُوَّةً) قويت بنفسى على دفعكم، (أَوْ آوِي): أنضم، (إِلَى ركْنٍ شَدِيدٍ) إلى قوي أستند إليه شبهه بركن الجبل في شدته ومنعته، وجواب لو محذوف أي: لفعلت وصنعت بكم كيت وكيت، (قَالُوا) أي: الملائكة، (يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) إلى إضرارك بإضرارنا، (فَأَسْرِ): يا لوط، (بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ): بطائفة، (مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ) استثناء من قوله (فأسر بأهلك)، أي: لا تسر بها وخلفها ومن قرأ مرفوعًا فهو استتناء من قوله لا يلتفت منكم أحد يعني إذا سمعتم ما نزل بهم من الأصوات المزعجة فاستمروا ذاهبين ولا يلتفت(2/189)
منكم أحد إلا امرأتك فإنا لا نمنعها عن الالتفات وقيل الاستثناء منقطع ومن الإسرائيليات أنها كانت معهم ولما سمعت أصوات البلاء التفتت وقالت: واقوماه فأدركها حجر فقتلها ولا يجوز قطعًا حمل القراءتين على الروايتين في أن خلفها أو أخرجها، ولذلك قيل: إنها سرت معهم بنفسها لا أنه أخرجها والنهي عن إخراجها لا عن مصاحبتها وقيل: الاستثناء بقراءة النصب أيضًا عن قوله لا يلتفت وإن كان الأفصح الرفع حينئذ، (إِنَّهُ) الشأن (مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ) من العذاب، (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ) أي: موعد عذابهم، (الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) جواب لاستعجال لوط عذابهم، (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرنَا): بالعذاب، (جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا) أدخل جبريل عليه السلام جناحه تحت قريتهم فقلعها وصعد بها إلى السماء ثم قلبها وفيها أربعمائة ألف أو أربعة آلاف ألف، (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهَا) على تلك القرى قبل التقليب أو حين التقليب، (حِجَارَةً) أو كانت الحجارة على شدادهم ومسافريهم، (مِنْ سِجِّيلٍ) أصله سنك كل أي: حجر وطين فارسية معربة أو الطين أو الآجر قيل اسم لسماء الدنيا أو لجبل فيها، (مَنْضُودٍ) متتابع أو معد في السماء لذلك، (مُسَوَّمَةً) معلمة(2/190)
مكتوبًا فيها اسم من يقتل بها، أو معلمة بسيما متميزة عن أحجار الأرض مَا (عِنْدَ رَبِّكَ) ي خزائنه، (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) ما هذه النقمة ممن يشبههم ببعيد، وقيل معناه: ما هذه القرى من ظالمي مكة ببعيد يمرون عليها في أسفارهم إلى الشام وتذكير البعيد على تأويل الحجر أو المكان.
* * *
(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ(2/191)
عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
* * *
(وَإِلَى مَدْيَنَ) اسم بلدة، (أَخَاهُمْ) من أشرافهم نسبًا، (شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده، (مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ) نهاهم عن هذا بعد الإيمان؛ لأنَّهُم اعتادوا البخس، (إِنِّي أَرَاكُم بخَيْرٍ) موسرين في نعمة وخصب لا حاجة لكم إلى التطفيف، (وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍّ مُّحِيطٍ) وعدهم بعذاب يحيط بهم فلا يفلت منهم أحد ووصف اليوم بالإحاطة لاشتماله على عذاب محيط، (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا المِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ) أمر بالإيفاء بعد أن(2/192)
نهى عن ضده مبالغة، (بِالْقِسْطِ) بالعدل والسوية، (وَلَا تَبْخَسُوا) لا تنقصوا، (النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) تعميم بعد تخصيص وقيل: كانوا مكاسين، (وَلَا تَعْثَوْا) لا تبالغوا، (فِي الْأَرْضِ) بالفساد حال كونكم، (مُفْسِدِينَ) وقد كانوا يقطعون الطريق، (بَقِيَّت اللهِ) ما أبقى الله من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن، (خَيْرٌ لكمْ) مما تأخذونه بالتطفيف أو طاعة الله خير لكم، (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بشرط الإيمان فإن الثواب بالأعمال مشروط بالإيمان أو إن كنتم مؤمنين مصدقين لي، (وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ) أحفظكم عن القبائح وإنما أنا ناصح، (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ) بتكليف، (أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) من الأصنام أجابوه على سبيل التهكم وكان عليه السلام كثير الصلاة، (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) عطف على ما، أي: وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا، ما نشاء قيل: عطف على أن نترك بتقدير أصلاتك تأمرك بنهيك عن أن نفعل إلخ، (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) قالوا ذلك استهزاء وأرادوا ضدهما أو أنت حليم رشيد فكيف تبادر على مثل كلام المجانين (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ) حجة وبصيرة، (مِّن ربي وَرَزَقَنِي مِنْهُ) من الله بلا كدًّ مني، (رِزقًا حَسَنًا)، حلالاً وكان عليه السلام كثير المال، أو أراد من(2/193)
الرزق الحسن العلم والمعرفة وجواب الشرط محذوف، أي: فهل يجوز لي الخيانة في الوحي والمخالفة في أمره وفيه، (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْ) ما أريد أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستقل بها دونكم، (إِذ أُرِيدُ) فيما آمركم وأنهاكم، (إِلا الإِصْلاحَ) أي: إصلاحكم، (مَا اسْتَطَعْتُ) أي: ما دمت أستطيع الإصلاح فما مصدرية واقعة موقع الظرف أو إصلاح ما استطعته فالموصولة مفعول الإصلاح، ولا يبعد أن يكون معناه ما قصدت إلى ما نهيتكم عنه مجرد مخالفتكم؛ بل الإصلاح قصدي وهو الباعث إلى النهي، (وَمَا تَوْفِيقِي) لإصابة الحق، (إِلَّا بِاللهِ) بإعانته، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فإنه القادر المطلق، (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) في المعاد أو فيما ينزل عليَّ من المصائب، (وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ) لا يكسبنكم، (شِقَاقِي) عداوتي، (أَنْ يُصِيبَكُمْ) ثاني مفعوليه فإنه يتعدى إلى واحد وإلى اثنين ككسب، (مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ) من الغرق، (أَوْ قَوْمَ هُودٍ) من الريح المهلكة، (أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ) من الصيحة، (وَمَا قَوْمُ لُوط مِّنكُم بِبَعِيدٍ) زمانًا فلا تنسوهم، أو مكانًا فإنهم جيران قوم لوط ولم يقل ببعيدة ولا ببعيدين لأن المراد، وما إهلاكهم ببعيد أو لأنه يستوي في مثله المذكر والمؤنث لأنه على زنة المصادر كالصهيل والشهيق، (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) عما سلف، (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) فيما بقى من عمركم، (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) فاعل بالتائبين ما يفعل البليغ المودة بمن يوده، (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ) قالوه على وجه الاستهانة كما تقول لمن لم تعبأ بحديثه ما(2/194)
أدري ما تقول، (وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا) لأنه كان أعمى (1) أو لأنه لا خدم ولا عسكر له، (وَلَوْلا رَهْطُكَ) أي: عزتهم فإنهم على ديننا والرهط من الثلاثة إلى العشرة، (لَرَجَمْنَاكَ) قتلناك بأذل وجه، (وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) يمنعنا عزك عن الرجم، (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللهِ) فإنكم تبقون عليَّ لرهطي ولا تبقون عليَّ لله وأنا رسوله، (وَاتَّخَذْتُمُوهُ) أي: الله، (وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا) جعلتموه كالشيء الملقى وراء الظهر وهو منسوب إلى الظهر والكسر من تغيرات النسب كالإمسيّ في الأمس، (إِنَّ رَبِّي)، أي: علمه، (بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) فيجازي عليه، (وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ) أي: قارين على جهتكم التي أنتم عليها من الشرك أو على تمكنكم من أمركم، (إِنِّي عَامِلٌ) ما أنا عليه، (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) استئناف كأنه قيل فماذا يكون بعد ذلك؟ فقال: سوف تعلمون (مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ) أي: سوف تعلمون الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب فإنهم أوعدوه وسموه كاذبًا، أو من استفهامية منقطعة عن سوف تعلمون أي: أينا يأتيه إلخ، (وَارْتَقِبُوا) انتظروا ما أقول لكم، (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) منتظر،
___________
(1) لا دليل عليه ولو صح ذلك لعيروه شعيبًا - عليه السلام - بذلك.(2/195)
(وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا) عذابنا، (نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) صاح بهم جبربل فهلكوا، (فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) ميتين، الجثوم: اللزوم في المكان، (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) لم يكونوا فيها، (أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ) هلاكاً لهم، (كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) فإن عذابهم أيضًا صيحة قيل: صيحة أهل مدين من فوق وصيحتهم من تحت ثم اعلم أن الصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلة كلها لأهل مدين.
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ(2/196)
وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) التوراة أو المعجزات والحجج الواضحة سيما العصى، (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا) أي: الملأ، (أَمْرَ فِرْعَوْنَ): في الكفر بموسى، (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) مرشد إلى الخير، (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، أي: يتقدمهم إلى النار فهو في الدارين قدوتهم، (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) جاء بلفظ الماضي مبالغة في تحققه، (وَبِئْسَ الوِرْد) أي: المورد، (المَوْرُودُ) أي: الذي يردونه والمخصوص بالذم، أي: النار نزل النار لهم منزلة الماء ثم قبحه، لأن الورد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار ضده والآية كالدليل على قوله: " وما أمر فرعون برشيد "، (واتْبِعُوا في هَذِهِ) أي: الدنيا، (لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ)، فإنهم ملعونون في الدارين، (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) العون المعان أو العطاء المعطى والمخصوص بالذم محذوف، أي: رفدهم وهو لعنة بعد لعنة، (ذلِكَ): النبأ، (مِنْ أَنبَاءِ القُرَى): المهلكة، (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) خبر بعد خبر، (مِنْهَا قَائِمٌ) بقيت آثاره كالحيطان، (وَحَصِيدٌ) أي: ومنها عافي الأثر والجملة مستأنفة، (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) فاستحقوا العذاب، (فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ) ما دفعت عنهم، (آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) شيئًا من عذابه، (لَمَّا جَاءَ) حين جاء، (أَمْرُ رَبِّكَ) عذابه، (وَمَا زَادُوهُمْ) أي: ما زاد الآلهة الظالمين، (غَيْرَ تَتْبِيبٍ) بلاء وتخسير، (وَكَذَلِكَ) مثل(2/197)
ذلك الأخذ، (أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ) أهل، (الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ) حال من القرى وعلى الحقيقة لأهلها، (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) وجيع صعب، (إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي: هلاك تلك الأمم أو الأنباء بإهلاكهم، (لَآيَةً): عبرة، (لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ) فيجعلها أنموذجًا ودليلاً على صدق ما أعد الله تعالى للمجرمين، (ذلِكَ) إشارة إلى ما دل عليه عذاب الآخرة، أي: يوم القيامة، (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) لأن يجازيهم، (وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) فيه الخلائق البر والفاجر اتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به، أو المراد بالمشهود الذي كثر شاهدوه، (وَمَا نُؤَخِّرُهُ) أي: اليوم، (إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) الأجل يطلق على مدة التأجيل وعلى منتهاها والعد للمدة لا لغايتها فتقديره إلا الانتهاء أجل معدود على حذف المضاف، (يَوْمَ يَأْتِ) ذلك اليوم المعين على أن يوم بمعنى حين، (لَا تَكَلَّمُ): لا تتكلم، (نَفْسٌ) وهو الناصب للظرف، (إِلَّا بِإِذْنِهِ): بإذن الله تعالى، وهذا في موقف ويوم لا ينطقون في موقف آخر، (فَمِنْهُمْ) الضمير لأهل الموقف دل عليه قوله لا تكلم نفى، (شَقِيٌّ وَ) منهم (سَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) الزفير إخراج النفس والشهيق ردُّه،(2/198)
أو الصوت الشديد والضعيف، أو الزفير أول نهيق الحمار والشهيق آخره إذا ردده في جوفه، (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ)، أي: أبدا دائمًا لا ينقطع،(2/199)
والعربي إذا أراد التأبيد قال: دائم دوام السماوات والأرض، (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) استثناء من الخلود فإنه ليس لبعضهم وهم فساق الأمة خلود وهم الأشقياء من وجه وهو المراد بالاستثناء الثاني فإنهم ليسوا في الجنة مدة عذابهم والتأبيد من مبدأ معين(2/201)
كما ينتقص من الانتهاء ينتقص من الابتداء وهو المنقول عن كثير من السلف أو هو كقولك: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك مع أن عزيمتك على ضربه فعلى هذا الاستثناء في الموضعين لبيان أنه لو أراد عدم خلودهم لقدر لا أنه واجب عليه ويؤيده قوله: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) أو هو من باب (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) [الأعراف: 45]، و (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى) [الدخان: 56] على إحدى التأويلات أو المستثنى توقفهم في الموقف أو مدة لبثهم في الدنيا والبرزخ أو الاستثناء لخروج الكل من النار إلى الزمهرير ومن الجنة إلى المراتب والمنازل الأرفع، (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) حاكم غير محكوم (1).
(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) قيل المراد منهما سماوات الآخرة وأرضها وهما مؤبدان، (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) والأحسن عندى في الاستثنائين قول قتادة والله أعلم بثنياه اعترف رضى الله عنه بالعجز عن الفهم وأحال العلم على الله تعالى، (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) غير مقطوع ونصبه على الحال أو المصدر المؤكد صرح في الجنة بأنها غير مقطوع لئلا يتوهم متوهم بعد ذكر المشيئة أن ثمة انقطاعًا ولم يذكر في شق النار، (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) شكٍّ، (مِمَّا يَعْبُدُ
__________
(1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه:
قَالَ تَعَالَى: خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ قوم إن عذاب الكفار منقطع ولها نِهَايَةٌ، وَاحْتَجُّوا بِالْقُرْآنِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَآيَاتٌ مِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ دَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ عقابهم مساوية لمدة بقاء السموات وَالْأَرْضِ، ثُمَّ تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّ مُدَّةَ بَقَاءِ السموات وَالْأَرْضِ مُتَنَاهِيَةٌ فَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ عِقَابِ الْكُفَّارِ مُنْقَطِعَةً. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مُدَّةِ عِقَابِهِمْ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى زَوَالِ ذَلِكَ الْعَذَابِ فِي وَقْتِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وَمِمَّا تَمَسَّكُوا بِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ: لابِثِينَ فِيها أَحْقابًا [النَّبَأِ: 23] بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ لُبْثَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ لَا يَكُونُ إِلَّا أَحْقَابًا مَعْدُودَةً.
وَأَمَّا الْعَقْلُ فَوَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْصِيَةَ الْكَافِرِ مُتَنَاهِيَةٌ وَمُقَابَلَةُ الْجُرْمِ الْمُتَنَاهِي بِعِقَابٍ لَا نِهَايَةَ لَهُ ظُلْمٌ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْعِقَابَ ضَرَرٌ خَالٍ عَنِ النَّفْعِ فَيَكُونُ قَبِيحًا بَيَانُ خُلُّوِّهِ عَنِ النَّفْعِ أَنَّ ذَلِكَ النَّفْعَ لَا يَرْجِعُ إِلَى الله تَعَالَى لِكَوْنِهِ مُتَعَالِيًا عَنِ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ وَلَا إِلَى ذَلِكَ الْمُعَاقَبِ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ ضَرَرٌ مَحْضٌ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مَشْغُولُونَ بِلَذَّاتِهِمْ فَلَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي الِالْتِذَاذِ بِالْعَذَابِ الدَّائِمِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ ضَرَرٌ خَالٍ عَنْ جَمِيعِ جِهَاتِ النَّفْعِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْأُمَّةِ، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عَذَابَ الْكَافِرِ دَائِمٌ وَعِنْدَ هَذَا احْتَاجُوا إِلَى الْجَوَابِ عَنِ التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فَذَكَرُوا عَنْهُ جَوَابَيْنِ: الأول: قالوا المراد سموات الْآخِرَةِ وَأَرْضُهَا. قَالُوا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فِي الْآخِرَةِ سَمَاءً وَأَرْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [إِبْرَاهِيمَ: 48] وَقَوْلُهُ:
وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزُّمَرِ: 74] وَأَيْضًا لَا بُدَّ لِأَهْلِ الْآخِرَةِ مِمَّا يُقِلُّهُمْ وَيُظِلُّهُمْ، وَذَلِكَ هُوَ الْأَرْضُ والسموات.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: التَّشْبِيهُ إِنَّمَا يَحْسُنُ وَيَجُوزُ إِذَا كَانَ حَالُ الْمُشَبَّهِ بِهِ مَعْلُومًا مُقَرَّرًا فَيُشَبَّهُ بِهِ غَيْرُهُ تَأْكِيدًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي المشبه ووجود السموات وَالْأَرْضِ فِي الْآخِرَةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يكون وجوده معلوما إلا أن بقاءها عَلَى وَجْهٍ لَا يَفْنَى الْبَتَّةَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَإِذَا كَانَ أَصْلُ وُجُودِهِمَا مَجْهُولًا لِأَكْثَرِ الْخَلْقِ وَدَوَامُهُمَا أَيْضًا مَجْهُولًا لِلْأَكْثَرِ، كَانَ تَشْبِيهُ عِقَابِ الْأَشْقِيَاءِ بِهِ فِي الدَّوَامِ كَلَامًا عَدِيمَ الْفَائِدَةِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا ثبت بالقرآن وجود سموات وَأَرْضٍ فِي الْآخِرَةِ وَثَبَتَ دَوَامُهُمَا وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِهِ، وَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ التَّشْبِيهُ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: لما كان الطريق في إثبات دوام سموات أَهْلِ الْآخِرَةِ وَدَوَامِ أَرْضِهِمْ هُوَ السَّمْعُ، ثُمَّ السَّمْعُ دَلَّ عَلَى دَوَامِ عِقَابِ الْكَافِرِ، فَحِينَئِذٍ الدَّلِيلُ الَّذِي دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ حَاصِلٌ بِعَيْنِهِ فِي الْفَرْعِ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ ضَائِعٌ وَالتَّشْبِيهَ باطل، فكذا هاهنا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ قَالُوا إِنَّ الْعَرَبَ يُعَبِّرُونَ عَنِ الدَّوَامِ وَالْأَبَدِ بِقَوْلِهِمْ مَا دَامَتِ السموات وَالْأَرْضُ، وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْلُهُمْ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَمَا طَمَا الْبَحْرُ، وَمَا أَقَامَ الْجَبَلُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ الْعَرَبَ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي كَلَامِهِمْ فَلَمَّا ذَكَرُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ أَبَدَ الْآبَادِ، عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ بِحَسَبِ عُرْفِهِمْ تُفِيدُ الْأَبَدَ وَالدَّوَامَ الْخَالِيَ عَنِ الِانْقِطَاعِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَلْ تُسَلِّمُونَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دامت السموات وَالْأَرْضُ، يَمْنَعُ مِنْ بَقَائِهَا مَوْجُودَةً بَعْدَ فَنَاءِ السموات، أَوْ تَقُولُونَ إِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَالْإِشْكَالُ لَازِمٌ، لِأَنَّ النَّصَّ لَمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ كَوْنِهِمْ فِي النَّارِ مُسَاوِيَةً لِمُدَّةِ بقاء السموات وَيَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ بَقَائِهِمْ فِي النَّارِ بَعْدَ فناء السموات، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فَنَاءِ السموات فَعِنْدَهَا يَلْزَمُكُمُ الْقَوْلُ بِانْقِطَاعِ ذَلِكَ الْعِقَابِ، وَأَمَّا إِنْ قُلْتُمْ هَذَا الْكَلَامُ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ كونهم في النار بعد فناء السموات وَالْأَرْضِ، فَلَا حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى هَذَا الْجَوَابِ أَلْبَتَّةَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ ضَائِعٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ الْحَقَّ عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ المعهود من الآية أنه متى كانت السموات وَالْأَرْضُ دَائِمَتَيْنِ، كَانَ كَوْنُهُمْ فِي النَّارِ بَاقِيًا فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّمَا حَصَلَ الشَّرْطُ حَصَلَ الْمَشْرُوطُ وَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا عُدِمَ الشَّرْطُ يُعْدَمُ الْمَشْرُوطُ: أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ: إِنْ كَانَ هَذَا إِنْسَانًا فَهُوَ حَيَوَانٌ.
فَإِنْ قُلْنَا: لَكِنَّهُ إِنْسَانٌ فَإِنَّهُ يَنْتُجُ أَنَّهُ حَيَوَانٌ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ لَمْ يَنْتُجْ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيَوَانٍ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْمَنْطِقِ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ نَقِيضِ الْمُقَدَّمِ لا ينتج شيئا، فكذا هاهنا إذا قلنا متى دامت السموات دام عقابهم، فإذا قلنا لكن السموات دَائِمَةٌ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ عِقَابُهُمْ حَاصِلًا، أَمَّا إذا قلنا لكنه ما بقيت السموات لَمْ يَلْزَمْ عَدَمُ دَوَامِ عِقَابِهِمْ.
فَإِنْ قَالُوا: فإذا كان العقاب حاصلا سواء بقيت السموات أَوْ لَمْ تَبْقَ لَمْ يَبْقَ لِهَذَا التَّشْبِيهِ فَائِدَةٌ؟
قُلْنَا بَلْ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ وَهُوَ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفَاذِ ذَلِكَ الْعَذَابِ دَهْرًا دَهْرًا، وَزَمَانًا لَا يُحِيطُ الْعَقْلُ بِطُولِهِ وَامْتِدَادِهِ، فَأَمَّا أَنَّهُ هَلْ يَحْصُلُ لَهُ آخِرُ أَمْ لَا فَذَلِكَ يُسْتَفَادُ مِنْ دَلَائِلَ أُخَرَ، وَهَذَا الْجَوَابُ الَّذِي قَرَّرْتُهُ جَوَابٌ حَقٌّ وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا يَفْهَمُهُ إِنْسَانٌ أَلِفَ شَيْئًا مِنَ الْمَعْقُولَاتِ.
وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ فَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ أَنْوَاعًا مِنَ الْأَجْوِبَةِ.
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فِي الْجَوَابِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَالْفَرَّاءُ. قَالُوا هَذَا اسْتِثْنَاءٌ اسْتَثْنَاهُ الله تَعَالَى وَلَا يَفْعَلُهُ أَلْبَتَّةَ، كَقَوْلِكَ: والله لَأَضْرِبَنَّكَ إِلَّا أَنْ أَرَى غَيْرَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ عَزِيمَتَكَ تَكُونُ على ضربه، فكذا هاهنا وَطَوَّلُوا فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْجَوَابِ، وَفِي ضَرْبِ الْأَمْثِلَةِ فِيهِ، وَحَاصِلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: لَأَضْرِبَنَّكَ إِلَّا أَنْ أَرَى غَيْرَ ذَلِكَ، مَعْنَاهُ: لَأَضْرِبَنَّكَ إلا إذا رأيت أن الأولى ترك مضرب، وَهَذَا لَا يَدُلُّ أَلْبَتَّةَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ قَدْ حَصَلَتْ أَمْ لَا بِخِلَافِ قَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْحُكْمُ بِخُلُودِهِمْ فِيهَا إِلَّا الْمُدَّةَ الَّتِي شَاءَ رَبُّكَ، فَهَهُنَا اللفظ تدل عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَشِيئَةَ قَدْ حَصَلَتْ جَزْمًا، فَكَيْفَ يَحْصُلُ قِيَاسُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كلمة إِلَّا هاهنا وَرَدَتْ بِمَعْنَى: سِوَى. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي النَّارِ فِي جميع مدة بقاء السموات وَالْأَرْضِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ سِوَى مَا يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ مِنَ الْخُلُودِ الدَّائِمِ فَذَكَرَ أَوَّلًا فِي خُلُودِهِمْ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْعَرَبِ أَطْوَلُ مِنْهُ، ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ الدَّوَامَ الَّذِي لَا آخِرَ لَهُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ الْمَعْنَى: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنَ الزِّيَادَةِ الَّتِي لَا آخِرَ لَهَا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ زَمَانُ وُقُوفِهِمْ فِي الْمَوْقِفِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ إِلَّا وَقْتَ وُقُوفِهِمْ لِلْمُحَاسَبَةِ فَإِنَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يَكُونُونَ/ فِي النَّارِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ الْمُرَادُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ وَهُوَ حَالُ كَوْنِهِمْ فِي الْقَبْرِ، أَوِ الْمُرَادُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ حَالَ عُمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ مُتَقَارِبَةٌ، وَالْمَعْنَى: خَالِدِينَ فِيهَا بِمِقْدَارِ مُكْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْبَرْزَخِ أَوْ مِقْدَارِ وُقُوفِهِمْ لِلْحِسَابِ ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى النَّارِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي الْجَوَابِ قَالُوا: الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إلى قوله: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود: 106] وَتَقْرِيرُهُ أَنْ نَقُولَ: قَوْلُهُ: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها يُفِيدُ حُصُولَ الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ مَعَ الْخُلُودِ فَإِذَا دَخَلَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ وَقْتٌ لَا يَحْصُلُ فِيهِ هَذَا الْمَجْمُوعُ لَكِنَّهُ ثَبَتَ فِي الْمَعْقُولَاتِ أَنَّهُ كَمَا يَنْتَفِي الْمَجْمُوعُ بِانْتِفَاءِ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ فَكَذَلِكَ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ فَرْدٍ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَائِهِ فَإِذَا انْتَهَوْا آخِرَ الْأَمْرِ إِلَى أَنْ يَصِيرُوا سَاكِنِينَ هَامِدِينَ خَامِدِينَ فَحِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ فَانْتَفَى أَحَدُ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْحُكْمِ بِانْقِطَاعِ كَوْنِهِمْ فِي النَّارِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: فِي الْجَوَابِ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْعَذَابِ لَا يَكُونُونَ أَبَدًا فِي النَّارِ، بَلْ قَدْ يُنْقَلُونَ إِلَى الْبَرَدِ وَالزَّمْهَرِيرِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَذَلِكَ يَكْفِي فِي صِحَّةِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: فِي الْجَوَابِ قَالَ قَوْمٌ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ يُفِيدُ إِخْرَاجَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ مِنَ النَّارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ يُفِيدُ أَنَّ جُمْلَةَ الْأَشْقِيَاءِ مَحْكُومٌ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْحُكْمِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ يُوجِبُ أَنْ لَا يَبْقَى ذَلِكَ الْحُكْمُ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ. وَيَكْفِي فِي زَوَالِ حُكْمِ الْخُلُودِ عَنِ الْمَجْمُوعِ زَوَالُهُ عَنْ بَعْضِهِمْ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْقَى حُكْمُ الْخُلُودِ لِبَعْضِ الْأَشْقِيَاءِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْخُلُودَ وَاجِبٌ لِلْكُفَّارِ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: الَّذِينَ زَالَ حُكْمُ الْخُلُودِ عَنْهُمْ هُمُ الْفُسَّاقُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا كَلَامٌ قَوِيٌّ فِي هَذَا الْبَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الْوَجْهُ إِنَّمَا يَتَعَيَّنُ إِذَا فَسَدَتْ سَائِرُ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهَا، وَأَيْضًا فَمِثْلُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مَذْكُورٌ فِي جَانِبِ السُّعَدَاءِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ.
قُلْنَا: إِنَّا بِهَذَا الْوَجْهِ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى انْقِطَاعِ وَعِيدِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ إِذَا أَرَدْنَا الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ الْفُسَّاقَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ مِنَ النَّارِ.
قُلْنَا: أَمَّا حَمْلُ كَلِمَةِ «إِلَّا» عَلَى سِوَى فَهُوَ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ، وَأَمَّا حَمْلُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى حَالِ عُمْرِ الدُّنْيَا وَالْبَرْزَخِ وَالْمَوْقِفِ فَبَعِيدٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَقَعَ عَنِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ كَيْفِيَّةٌ مِنْ كَيْفِيَّاتِ الْحُصُولِ فِي النَّارِ، فَقَبْلَ الْحُصُولِ فِي النَّارِ امْتَنَعَ حُصُولُ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْخُلُودُ لَمْ يَحْصُلِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَامْتَنَعَ حُصُولُ الِاسْتِثْنَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ الِاسْتِثْنَاءُ عَائِدٌ/ إِلَى الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ فَهَذَا أَيْضًا تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْآيَةِ مَحْمَلٌ صَحِيحٌ إِلَّا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ نَقْلُهُ مِنَ النَّارِ إِلَى الزَّمْهَرِيرِ. فَنَقُولُ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْعَذَابُ بِالزَّمْهَرِيرِ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ مدة السموات وَالْأَرْضِ. وَالْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ النَّقْلَ مِنَ النَّارِ إِلَى الزَّمْهَرِيرِ وَبِالْعَكْسِ يَحْصُلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِرَارًا فَبَطَلَ هَذَا الْوَجْهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ حَاصِلٌ فِي جَانِبِ السُّعَدَاءِ فَنَقُولُ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَحَدًا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا إِلَى النَّارِ، فَلِأَجْلِ هَذَا الْإِجْمَاعِ افْتَقَرْنَا فِيهِ إِلَى حَمْلِ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى أَحَدِ تِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ. أَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْإِجْمَاعُ، فَوَجَبَ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وَهَذَا يَحْسُنُ انْطِبَاقُهُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ إِذَا حَمَلْنَا الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى إِخْرَاجِ الْفُسَّاقِ مِنَ النَّارِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ أَظْهَرْتُ الْقَهْرَ وَالْقُدْرَةَ ثُمَّ أَظْهَرْتُ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ لِأَنِّي فَعَّالٌ لِمَا أُرِيدُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيَّ حُكْمٌ أَلْبَتَّةَ.
ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ سُعِدُوا بِضَمِّ السِّينِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا وَإِنَّمَا جَازَ ضَمُّ السِّينِ لِأَنَّهُ عَلَى حَذْفِ الزِّيَادَةِ مِنْ أَسْعَدَ وَلِأَنَّ سَعِدَ لَا يَتَعَدَّى وَأَسْعَدَ يَتَعَدَّى وَسَعِدَ وَأَسْعَدَ بِمَعْنًى وَمِنْهُ الْمَسْعُودُ مِنْ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الِاسْتِثْنَاءُ فِي بَابِ السُّعَدَاءِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فيما تقدم وهاهنا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ رُبَّمَا اتَّفَقَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يُرْفَعَ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْعَرْشِ وَإِلَى الْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا الله تَعَالَى.
قَالَ الله تَعَالَى: وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَةِ: 72] وَقَوْلُهُ: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: جَذَّهُ يَجُذُّهُ جَذًّا إِذَا قَطَعَهُ وَجَذَّ الله دَابِرَهُمْ، فَقَوْلُهُ: غَيْرَ مَجْذُوذٍ أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الْوَاقِعَةِ: 33].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ كَوْنَ هَذِهِ الْحَالَةِ مُنْقَطِعَةً، فَلَمَّا خَصَّ هَذَا الْمَوْضِعَ بِهَذَا الْبَيَانِ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي جَانِبِ الْأَشْقِيَاءِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ الِانْقِطَاعُ، فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هذه الآية. اهـ (مفاتيح الغيب 18/ 400 - 404)(2/202)
هَؤُلَاءِ) من عبادة المشركين في أنها ضلال تؤدي إلى مثل ما حل بمن قبلهم، (مَا يَعْبُدُونَ) عبادة، (إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ) إلا كعبادتهم، (مِنْ قَبْلُ) استئناف أي: هم وآباؤهم سواء لا مستند لهم في الشرك وتقديره: كما كان يعبد وحذف كان لدلالة قبل عليه، (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) حظهم من الجزاء، (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) حال مقيدة فإنه يقال وفيته نصيبه منصفًا.
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)(2/203)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلله غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) بأن آمن به بعض وكفر به بعض كما اختلف في القرآن، (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بتأخير العذاب عن قومك، (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) لفرغ من جزائهم، (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ منْهُ) من القرآن، (مُرِيبٍ) موقع للريبة، (وَإِنَّ كُلًّا) جميع المختلف من المؤمنين والكافرين وإن مع أنه مخففة عمل باعتبار الأصل والتنوين عوض عن المضاف إليه، (لَمَّا) ما زائدة للفصل بين اللام الموطئة للقسم ولام التأكيد ومن قرأ بالتشديد فأصله لمن ما فقلبت النون ميمًا للإدغام فحذفت أولى الميمات الثلاث، (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ) أي: إن جميعهم والله ليوفينهم ربك جزاء أعمالهم أو لمن الذين يوفينهم إلخ، (إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ(2/204)
خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ) استقامة، (كَمَا أُمِرْتَ) أي: مثل الاستقامة التي أمرت بها على دين ربك والدعاء إليه، (وَمَن تَابَ) عن الكفر وآمن، (مَعَكَ) عطف على ضمير استقم، (وَلاَ تَطْغَوْا) لا تخرجوا عن حدود الله، (إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا)، لا تميلوا أدنى ميل، (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) بأن تعظموهم وتسعينوا بهم، (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) بركونكم إليهم؛ بل استقيموا كما أمرت ولا تميلوا إلى جانب، (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ) أعوان يمنعونكم من عذابه والواو للحال، (ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) لا تجدون من ينصركم أو لا ينصركم الله إذ سبق في حكمه أن لا يرحم على من ركن وثم لاستبعاد نصره إياهم وقد أوعدهم بالعذاب عليه، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ) أحد طرفيها الصبح والآخر إما العصر أو الظهر والعصر، (وَزُلَفًا) ساعات، (مِنَ(2/205)
اللَّيْلِ) قريبة من النهار العشاء أو المغرب والعشاء قيل: هذا قبل وجوب الصلوات الخمس فإنه كان يجب صلاتان صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها وفي أثناء الليل قيام عليه وعلى أمته ثم نسخ، (إِن الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) وفي الحديث: (إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَأَتْبِعْهَا حَسَنَةً تَمْحُهَا) (1) نزلت في رجل أصاب من امرأة ما دون الجماع فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فنزل " أقم الصلاة " الخ فقال الرجل: أليَّ هذا؟ قال: لأمتي كلهم) (ذلِكَ) بها إشارة إلى استقم فما بعده، (ذكْرَى لِلذاكِرِينَ) عظة للمتعظين، (وَاصْبِرْ) على حكم الله، (فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - المحسنين أي: المصلين، (فَلَوْلاَ) فهلا، (كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولوا بَقِيَّةٍ) يقال: فلان من بقية القوم، أي: من خيارهم، أي: هلا كان منهم من فيه خير ينهى عن الفساد؛ وهذا تحريض لأمة محمد عليه الصلاة والسلام كما قال: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير) الآية [آل عمران: 104]، (يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلاً مِّمَّن أَنجَيْنَا مِنْهُمْ) (من) في (ممن) للبيان، أي: لكن قليلاً منهم أنجيناهم لأنَّهُم كانوا كذلك وجاز أن يكون
__________
(1) في الأصل [تمحوها] والحديث عند الإمام أحمد - رحمه الله - برقم (21487). (مصحح النسخة الإلكترونية).(2/206)
الاستثناء متصلاً لأن التخصيص ملزوم للنفي، أي: ما كان فيهم أولو بقية كذا إلا قليلاً وهم من أنجيناهم، (وَاتَّبَعَ الذِينَ ظَلَمُوا) عطف على ما دل عليه الكلام، أي: لم ينهوا عن الفساد واتبعوا، (مَا أُتْرِفوْا) نعموا، (فيه) من الشهوات بتحصيل أسبابها فأعرضوا عن الآخرة، (وَكَانُوا مُجْرِمِينَ): كافرين، وهذا سبب استئصالهم وإهلاكهم فلابد من الحذر عن مثل ما هم كانوا عليه، (وَمَا كَان ربُّكَ) ما صح وما استقام له، (لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ): بشرك، (وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) أي: لا يهلكهم بمجرد الشرك إذا لم يضموا إلى شركهم فسادًا أو ظلمًا فيما بينهم، بل ينزل عليهم العذاب إذا أفسدوا وظلموا بعضهم بعضًا أو لا يهلكهم بظلم منه وهم مصلحون لأعمالهم فإنه سبحانه " حرم الظلم على نفسه وجعله بينكم محرمًا " وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم " [هود: 101] وهذا توجيه وجيه لا اعتزال فيه، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) مسلمين كلهم، (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) في الأديان والاعتقادات، (إِلا مَن رحِمَ ربُّكَ) وهم أتباع الرسل تمسكوا بما أمروا به، (وَلِذَلِكَ) أي: للرحمة أو للاختلاف أو لهما، (خَلَقَهُمْ) الضمير لمن على الأول وللناس على الأخيرين، (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) قضاؤه وقدره، (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ): من عصاتهما، (أَجْمَعِينَ) أو منهما أجمعين لا من أحدهما، (وَكُلًّا) التنوين عوض،(2/207)
أي: كل نبأ، (نَقُصُّ عَلَيكَ) وقوله: (مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ) بيان لـ (كُلًّا) أو صفة لنبأه المحذوف ومن للتبعيض، (مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) بدل بعضو من كلا أو مفعول نقص، وكلا مفعول مطلق حينئذ، أي: كل نوع من أنواع الاقتصاص نقص عليك وتثبيت فؤاده زيادة يقينه واحتمال الأذى، (وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ) السورة، (الْحَقُّ) خص هذه السورة تشريفًا وإن كان قد جاءه الحق في جميع السور أو جاءك في هذه الدنيا الحق (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى) جاءتك فيها، (لِلْمُؤْمِنِينَ) أي: عمت فائدة تلك السورة لك ولأمتك، (وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ): على طريقتكم تهديد شديد، (إِنَّا عَامِلُونَ): على حالنا، (وَانتَظِرُوا) لنا الدوائر، (إِنَّا مُنتَظِرُونَ) أن ينزل بكم مثل ما نزل على أمثالكم أو انتظروا ما يعدكم الشيطان إنا منتظرون ما يعدنا ربنا، (وَلله غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) لا يخفي عليه خافية، (وَإِلَيهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ) في المعاد ويمكن أن يكون معناه كل الأمور راجعة إلى خلقه وقدرته فهو الفاعل على الحقيقة للأشياء، (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فيجازي كلًّا مايستحقه.
والحمد لله وحده ..
* * *(2/208)
سورة يوسف
وهي مائة وإحدى عشرة آية واثنا عشر ركوعًا
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
* * *
(الر تِلْكَ) إشارة إلى آيات السورة، (آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ): الواضح الجلي، أو المفصح عن الأشياء المبهمة، (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ) أي: الكتاب، (قُرْآنًا)، حال، فإنه مصدر بمعنى مفعول، (عَرَبِيًّا) صفة له، أو حال،(2/209)
(لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي: أنزلناه بلغتكم كي تفهموا معانيه، (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) مصدر بمعنى الاقتصاص، وأحسنيته في كونه بالغة في الفصاحة، فيكون مفعولاً مطلقًا، والمقصوص محذوف، أو فعل بمعنى مفعول، وأحسنيته لما فيه من النكت والحكم والعجائب، فيكون مفعولاً به، (بمَا أَوْحَيْنَا): بإيحائنا، (إِلَيكَ هَذَا القُرْآنَ) أي: السورة، وهو إما مفعول الإيحاء، أو مفعول نَقُصُّ على الوجه الأول، (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ): عن هذه القصة، لا تعلمها، وإن هي المخففة، (إِذ قَالَ) بتقدير اذكر، أو بدل اشتمال من أحسن القصص على تقدير مفعوليته، (يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ) تاء التأنيث عوض عن الياء، ومن يفتح التاء، فلأنه كان يا أبتا، فحذفت الألف، (إِنِّي رَأَيْتُ): من الرؤيا، (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ(2/210)
رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) استئناف، كأنه قيل: كيف رأيتهم؟ فقال: رأيتهم لي ساجدين، وأجريت مجرى العقلاء لوصفها بصفاتهم، وساجدين حال، (قَالَ يَا بُنَيَّ) التصغير للشفقة، (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا): يحتالون لإهلاكك حيلة، حسدًا منهم، فإنَّهم يعلمون تأويلها، (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) فيحملهم على الكيد، (وَكَذَلِكَ)، كما اجتباك بهذه الرؤيا العظيمة، (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ): يصطفيك، (وَيُعَلِّمُكَ) كلام برأسه غير داخل في التشبيه، (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) تعبير الرؤيا، وقيل: تأويل آيات كتب الله - تعالى، (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ): بالنبوة، (وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ) أراد سائر أولاده، (كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبلُ): من قبل هذا الوقت، (إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ) عطف بيان لأبويك، (إِنْ رَبَّكَ عَلِيمٌ): بمن يستحق النبوة، (حَكِيمٌ): في أفعاله.
* * *
(لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ(2/211)
تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
* * *
(لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ): في قصتهم، (آيَاتٌ): عظة وعبرة، (لِّلسَّائِلِينَ): عنها المستخبرين، فإنه خبر عجيب يستحق الإخبار عنه، وقيل: اليهود سألوه ومن آياته وضوح دلالته على صدق محمد - عليه السلام - فإنه موافق لما في التوراة، (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ) اللام للابتداء، (وَأَخُوهُ) أي: من الأبوين، (أَحَبُّ) يستوي في أفعل، من الواحد والجمع، (إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ) الواو للحال، (عُصْبَةٌ) جماعة أقوياء، أليق بالمحبة، (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) لتفضيل المفضول أي: ضلال دنيوي، ولا يجب عصمة الأنبياء عن ذلك الضلال،(2/212)
ولا شك أن إخوته ليسوا في ذلك الحين أنبياء، قال بعضهم: لم يقم دليل على أنهم صاروا أنبياء، (اقْتُلُوا يُوسُفَ) من جملة المحكي، (أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا) بعيدة منكورة، وهو معنى تنكيرها، ولإبهامها نصبت نصب الظروف المبهمة، (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) جواب الأمر، يخلص لكم وجهه عن إقباله بيوسف، فيقبل بكليته عليكمَ، (وَتَكونوا) عطف على يخل، (مِنْ بَعْدِهِ): بعد يوسف، (قَوْمًا صَالِحِينَ): تائبين أو يصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم، (قَالَ قَائِلٌ منْهُمْ) هو يهوذا، أو رويبيل، أو شمعون، (لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ): في قعر البئر قيل: هو بئر بيت المقدس، (يَلْتَقِطْهُ): يأخذه، (بَعْضُ السَّيَّارَةِ): المسافرين، (إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ): عازمين على أن تفعلوا به شيئًا، كأنه لم يرض بإضراره، (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ) أي: لم تخافنا عليه، ونحن مشفقون عليه مريدون له الخير (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا): إلى الصحراء، (يَرْتَعْ) الرتع الاتساع في الملاذ، (وَيَلْعَبْ): بالاستباق، (وَإِنَّا لَه لَحَافِظُونَ): من أن يناله ضر، (قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ): لشدة مفارقته على، (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) فإن أرضهم كانت مذأبة، (وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ): مشتغلون بلعبكم، (قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ) اللام موطئة للقسم، (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ): جماعة أقوياء والواو للحال، (إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ): ضعفاء عاجزون وهو جواب القسم، (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا): اتفقوا، (أَنْ يَجْعَلُوهُ(2/213)
فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ) وجواب لما محذوف، أي: فعلوا به ما فعلوا، (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا)، لتخبرن إخوتك بصنيعهم هذا، (وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون): بوحي الله وإعلامه إياه ذلك، أو هم لا يعرفونك حين تخبرهم، كما قال تعالى: (فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)، (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ)، العشاء: آخر النهار، ويبكون حال، (قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ): نتسابق في الرمي أو العدو، (وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ): بمصدق، (لَنَا): في هذه القصة، (وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ): عندك في القضايا لسوء ظنك بنا، (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ)، وصف بالمصدر مبالغة، كأنه نفس الكذب، وعلى قميصه حال من دم، وجاز تقدمه على صاحبه، لأنه ظرف، أو محله النصب على الظرف،
أي: فوق قميصه، كما تقول: جاء على جماله بأحمال، (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ):(2/214)
سهلت، (لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا): عظيمًا، (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ): أجمل، أو فأمري صبر جميل، (وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)، أي: على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف، وقد نقل أنَّهم ذبحوا سخلة ولطخوا ثوبه بدمها فلما جاءوا بثوبه، قال يعقوب: ما رأيت كاليوم ذئبًا أحلم من هذا، أكل ابني، ولم يمزق عليه قميصه، (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ): مسافرون، (فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ)، وهو الذي يطلب لهم الماء، (فَأَدْلَى): أرسل، (دَلْوَهُ)، في الجب فتدلى بها يوسف فلما رآه، (قَالَ يَا بُشْرَى): نادى البشرى: كأنه يقول: تعالي فهذا من أونتك، قال بعضهم: بشرى اسم صاحب له ناداه (1)، (هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ): أخفى الواردون أمره من بقية السيارة، (بِضَاعَةً)، حال، أي متاعًا للتجارة، قالوا: هو بضاعة لنا من أهل هذا الماء، أو ضمير الجمع لإخوة يوسف أي كتموا أنه أخوهم، وباعوه، فإنهم يستخبرون كل يوم منه، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ): بيوسف، (وَشَرَوْهُ): باعه الواردون أو إخوته (2)، (بِثَمَنٍ بَخْسٍ): زيف أو قليل، (دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ): قليلة، بدل من الثمن، والدراهم عشرون أو اثنان وعشرون أو أربعون، (وَكَانُوا)، أي: إخوته، (فِيهِ):
__________
(1) لا يخفي ما فيه من بُعْدٍ بعيد. (مصحح النسخة الإلكترونية).
(2) لا يصح أبدًا. (مصحح النسخة الإلكترونية).(2/215)
في يوسف، (مِنَ الزَّاهِدِينَ): من الراغبين عنه أو كان الواردون زاهدين في يوسف فهم الذين باعوا بثمن بخس، لأنه ملتقط وهم خائفون من انتزاعه فاستعجلوا في بيعه فيكونوا راغبين عنه وفيه متعلق بمحذوف يبينه من الزاهدين، لأن ما بعد الجار والموصول لا يعمل فيما قبله.
* * *
(وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
* * *(2/216)
(وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ) وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر، (لِامْرَأَتِهِ): راعيل أو زليخا، (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ): منزله، أي: أحسني تعهده، (عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا): يكفينا أمورنا أو نبيعه بالربح، (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) وكان عقيمًا، (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أي: مكناه في مصر، وجعلناه ملكًا، مثل ما أنجيناه وعطفنا عليه العزيز، (وَلِنُعَلِّمَهُ)، عطف على مقدر أي: مكنا لمصالح ولنعلمه، (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) تعبير الرؤيا وقيل: معاني كتب الله تعالى (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ): يفعل ما يشاء لا يغلبه شيء قيل: الضمير ليوسف أي أراد إخوته شيئًا والله أراد شيئًا آخر ولا رادَّ لما أراد، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ): إن الأمر كله بيده، والمراد منه الكفار أو لا يعلمون لطائف تدبيره، فالمراد منه أعم، (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ): استكمل خلقه وتم كان سنه حينئذ ثلاثة وثلاثين أو بضعًا وثلاثين أو عشرين أو أربعين أو هو الحلم وقيل غير ذلك، (آتَيْنَاهُ حُكْمًا): نبوة وفقهًا في الدين، (وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ): فإنه محسن في عمله صابر على النوائب، (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ): طلبت منه أن يواقعها، (وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ) وكانت سبعة، (وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ): أقبل وبادِر اسم فعل واللام للتبيين كما في سقيا لك، (قَالَ): يوسف، (مَعَاذَ اللهِ):(2/217)
أعوذ بالله معاذًا (إِنَّهُ)، أي: الشأن، (ربي): سيدي الذي اشتراني، (أَحْسَن مَثْوَايَ): أكرمني فلا أخونه وقيل إن الله ربى أحسن منزلتي فلا أعصيه (1)، (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ): المجازون الحسن بالسيئ أو لا يسعد الزناة، (وَلَقَدْ هَمَّتْ به): قصدت مخالطته، (وَهَمَّ بِهَا): قصد مخالطتها لميل الطبع والشهوة الغير الاختياري (2)، (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) جوابه محذوف أي لخالطها وما ذكره أكثر السلف هو أن رأى صورة أبيه عاضًّا على أصبعه يعظه، (كَذَلِكَ): مثل
__________
(1) هذا هو الراجح عند المحققين. والله أعلم.
(2) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه:
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ الَّتِي يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِالْبَحْثِ عَنْهَا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ صَدَرَ عَنْهُ ذَنْبٌ أَمْ لَا؟ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَمَّ بِالْفَاحِشَةِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي كِتَابِ «الْبَسِيطِ» قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمَوْثُوقُ بِعِلْمِهِمُ الْمَرْجُوعُ إِلَى رِوَايَتِهِمْ هَمَّ يُوسُفُ أَيْضًا بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ هَمًّا صَحِيحًا وَجَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنَ الْمَرْأَةِ، فَلَمَّا رَأَى الْبُرْهَانَ مِنْ رَبِّهِ زَالَتْ كُلُّ شَهْوَةٍ عَنْهُ.
قَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ رَضِيَ الله عَنْهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: طَمِعَتْ فِيهِ وَطَمِعَ فِيهَا فَكَانَ طَمَعُهُ فِيهَا أَنَّهُ هَمَّ أَنْ يَحِلَّ التِّكَّةَ،
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ:
حَلَّ الْهِمْيَانَ وَجَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الْخَائِنِ وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهَا اسْتَلْقَتْ لَهُ وَجَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا يَنْزِعُ ثِيَابَهُ، ثُمَّ إِنَّ الْوَاحِدِيَّ طَوَّلَ فِي كَلِمَاتٍ عَدِيمَةِ الْفَائِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَمَا ذَكَرَ آيَةً يَحْتَجُّ بِهَا وَلَا حَدِيثًا صَحِيحًا يُعَوِّلُ عَلَيْهِ فِي تَصْحِيحِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَمَا أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الْعَارِيَةِ عَنِ الْفَائِدَةِ
رُوِيَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يُوسُفَ: 52] قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا حِينَ هَمَمْتَ يَا يُوسُفُ فَقَالَ يُوسُفُ عِنْدَ ذَلِكَ: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي [يُوسُفَ: 53]
ثُمَّ قَالَ وَالَّذِينَ أَثْبَتُوا هَذَا الْعَمَلَ لِيُوسُفَ كَانُوا أَعْرَفَ بِحُقُوقِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَارْتِفَاعِ مَنَازِلِهِمْ عِنْدَ الله تَعَالَى مِنَ الَّذِينَ نَفَوُا الْهَمَّ عَنْهُ، فَهَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَرِيئًا عَنِ الْعَمَلِ الْبَاطِلِ، وَالْهَمِّ الْمُحَرَّمِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَبِهِ نَقُولُ وَعَنْهُ نَذُبُّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى وُجُوبِ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَثِيرَةٌ، وَلَقَدِ اسْتَقْصَيْنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا نُعِيدُهَا إِلَّا أَنَّا نَزِيدُ هاهنا وُجُوهًا:
فَالْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الزِّنَا مِنْ مُنْكَرَاتِ الْكَبَائِرِ وَالْخِيَانَةَ فِي مَعْرِضِ الْأَمَانَةِ أَيْضًا مِنْ مُنْكَرَاتِ الذُّنُوبِ، وَأَيْضًا مُقَابَلَةُ الْإِحْسَانِ الْعَظِيمِ بِالْإِسَاءَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْفَضِيحَةِ التَّامَّةِ وَالْعَارِ الشَّدِيدِ أَيْضًا مِنْ مُنْكَرَاتِ الذُّنُوبِ، وَأَيْضًا الصَّبِيُّ إِذَا تَرَبَّى فِي حجر إنسان وبقي مكفي المؤنة مصون الغرض مِنْ أَوَّلِ صِبَاهُ إِلَى زَمَانِ شَبَابِهِ وَكَمَالِ قُوَّتِهِ فَإِقْدَامُ هَذَا الصَّبِيِّ عَلَى إِيصَالِ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْإِسَاءَةِ إِلَى ذَلِكَ الْمُنْعِمِ الْمُعَظَّمِ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَعْمَالِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْمَعْصِيَةَ الَّتِي نَسَبُوهَا إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِجَمِيعِ هَذِهِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ لَوْ نُسِبَتْ إِلَى أَفْسَقِ خَلْقِ الله تَعَالَى وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ لَاسْتُنْكِفَ مِنْهُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إِسْنَادُهَا إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ! الْمُؤَيَّدُ بِالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الْبَاهِرَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الواقعة: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ [يوسف: 24] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَاهِيَّةَ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ مَصْرُوفَةٌ عَنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ الَّتِي نسبوها إليه أعظم أنواع/ وَأَفْحَشُ أَقْسَامِ الْفَحْشَاءِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَشْهَدَ فِي عَيْنِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ بِكَوْنِهِ بَرِيئًا مِنَ السُّوءِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَتَى بِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ. وَأَيْضًا فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ هَبْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهَا تُفِيدُ الْمَدْحَ الْعَظِيمَ وَالثَّنَاءَ الْبَالِغَ، فَلَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ الله تَعَالَى أَنْ يَحْكِيَ عَنْ إِنْسَانٍ إِقْدَامَهُ عَلَى مَعْصِيَةٍ عَظِيمَةٍ ثُمَّ إِنَّهُ يَمْدَحُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِأَعْظَمِ الْمَدَائِحِ وَالْأَثْنِيَةِ عَقِيبَ أَنْ حَكَى عَنْهُ ذَلِكَ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ، فَإِنَّ مِثَالَهُ مَا إِذَا حَكَى السُّلْطَانُ عَنْ بَعْضِ عَبِيدِهِ أَقْبَحَ الذُّنُوبِ وَأَفْحَشَ الْأَعْمَالِ ثُمَّ إِنَّهُ يَذْكُرُهُ بِالْمَدْحِ الْعَظِيمِ وَالثَّنَاءِ الْبَالِغِ عَقِيبَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُسْتَنْكَرُ جِدًّا فَكَذَا هاهنا والله أَعْلَمُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَتَى صَدَرَتْ مِنْهُمْ زَلَّةٌ، أَوْ هَفْوَةٌ اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ وَأَتْبَعُوهَا بِإِظْهَارِ النَّدَامَةِ وَالتَّوْبَةِ وَالتَّوَاضُعِ، وَلَوْ كان يوسف عليه السلام أقدم هاهنا عَلَى هَذِهِ الْكَبِيرَةِ الْمُنْكَرَةِ لَكَانَ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ لَا يُتْبِعَهَا بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَلَوْ أَتَى بِالتَّوْبَةِ لَحَكَى الله تَعَالَى عَنْهُ إِتْيَانَهُ بِهَا كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وَحَيْثُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا صَدَرَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ ذَنْبٌ وَلَا مَعْصِيَةٌ. الرَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَقَدْ شَهِدَ بِبَرَاءَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ لَهُمْ تَعَلُّقٌ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتِلْكَ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا، وَالنِّسْوَةُ وَالشُّهُودُ وَرَبُّ الْعَالَمِينَ شَهِدَ بِبَرَاءَتِهِ عَنِ الذَّنْبِ، وَإِبْلِيسُ أَقَرَّ بِبَرَاءَتِهِ أَيْضًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ لِلْمُسْلِمِ تَوَقَّفٌ فِي هَذَا الْبَابِ. أَمَّا بَيَانُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ادَّعَى الْبَرَاءَةَ عَنِ الذَّنْبِ فَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي [يوسف: 26] وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُفَ: 33] وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْمَرْأَةَ اعْتَرَفَتْ بِذَلِكَ فَلِأَنَّهَا قَالَتْ لِلنِّسْوَةِ: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ [يُوسُفَ: 32] وَأَيْضًا قَالَتْ: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يُوسُفَ: 51] وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ أَقَرَّ بِذَلِكَ، فَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ
[يُوسُفَ: 28، 29] وَأَمَّا الشُّهُودُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ [يُوسُفَ: 26] وَأَمَّا شَهَادَةُ الله تَعَالَى بِذَلِكَ فَقَوْلُهُ: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: 24] فَقَدْ شَهِدَ الله تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى طَهَارَتِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَالْفَحْشاءَ أَيْ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ. وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا [الْفُرْقَانِ: 63] وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ: الْمُخْلَصِينَ وَفِيهِ قِرَاءَتَانِ: تَارَةً بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَأُخْرَى بِاسْمِ/ الْمَفْعُولِ فَوُرُودُهُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ آتِيًا بِالطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ مَعَ صِفَةِ الْإِخْلَاصِ. وَوُرُودُهُ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الله تَعَالَى اسْتَخْلَصَهُ لِنَفْسِهِ وَاصْطَفَاهُ لِحَضْرَتِهِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّهُ مِنْ أَدَلِّ الْأَلْفَاظِ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَمَّا أَضَافُوهُ إِلَيْهِ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ إِبْلِيسَ أَقَرَّ بِطَهَارَتِهِ، فَلِأَنَّهُ قَالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82، 83] فَأَقَرَّ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إِغْوَاءَ الْمُخْلَصِينَ وَيُوسُفُ مِنَ الْمُخْلَصِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ فَكَانَ هَذَا إِقْرَارًا مِنْ إِبْلِيسَ بِأَنَّهُ مَا أَغْوَاهُ وَمَا أَضَلَّهُ عَنْ طَرِيقَةِ الْهُدَى، وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ الَّذِينَ نَسَبُوا إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْفَضِيحَةَ إِنْ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِ دِينِ الله تَعَالَى فَلْيَقْبَلُوا شَهَادَةَ الله تَعَالَى عَلَى طَهَارَتِهِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ فَلْيَقْبَلُوا شَهَادَةَ إِبْلِيسَ عَلَى طَهَارَتِهِ وَلَعَلَّهُمْ يَقُولُونَ كُنَّا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ تَلَامِذَةَ إِبْلِيسَ إِلَى أَنْ تَخَرَّجْنَا عَلَيْهِ فَزِدْنَا عَلَيْهِ فِي السَّفَاهَةِ كَمَا قَالَ الْخَوَارِزْمِيُّ:
وَكُنْتُ امْرَأً مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ فَارْتَقَى ... بِيَ الدَّهْرُ حَتَّى صَارَ إِبْلِيسُ مِنْ جُنْدِي
فَلَوْ مَاتَ قَبْلِي كُنْتُ أُحْسِنُ بَعْدَهُ ... طَرَائِقَ فِسْقٍ لَيْسَ يُحْسِنُهَا بَعْدِي
فَثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ يوسف عليه السلام بريء عَمَّا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ.
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ يَقَعُ فِي مَقَامَيْنِ:
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنْ نَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَمَّ بِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ وَجَوَابُ لَوْلَا هاهنا مُقَدَّمٌ، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: قَدْ كُنْتُ مِنَ الْهَالِكِينَ لَوْلَا أَنَّ فُلَانًا خَلَّصَكَ، وَطَعَنَ الزَّجَّاجُ فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَقْدِيمَ جَوَابِ لَوْلَا شَاذٌّ وَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ. الثَّانِي: أَنَّ لَوْلَا يُجَابُ جَوَابُهَا بِاللَّامِ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَقَالَ: وَلَقَدْ هَمَّتْ وَلَهَمَّ بِهَا لَوْلَا. وَذَكَرَ غَيْرُ الزَّجَّاجِ سُؤَالًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدِ الْهَمُّ لَمَا كَانَ لِقَوْلِهِ: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ فَائِدَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ بَعِيدٌ، لِأَنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ تَأْخِيرَ جَوَابِ لَوْلَا حَسَنٌ جَائِزٌ، إِلَّا أَنَّ جَوَازَهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ تَقْدِيمِ هَذَا الْجَوَابِ، وَكَيْفَ وَنُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ، وَالَّذِي هُمْ بِشَأْنِهِ أَعْنَى فَكَانَ الْأَمْرُ فِي جَوَازِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مَرْبُوطًا بِشِدَّةِ الِاهْتِمَامِ. وَأَمَّا تَعْيِينُ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ بِالْمَنْعِ فَذَلِكَ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ، وَأَيْضًا ذِكْرُ جَوَابِ لَوْلَا بِاللَّامِ جَائِزٌ. أَمَّا هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَهُ بِغَيْرِ اللَّامِ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ إِنَّا نَذْكُرُ آيَةً أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الزَّجَّاجِ فِي هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها [الْقَصَصِ: 10].
وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدِ الْهَمُّ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ فَائِدَةٌ. / فَنَقُولُ:
بَلْ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ، وَهُوَ بَيَانُ أَنَّ تَرْكَ الْهَمِّ بِهَا مَا كَانَ لِعَدَمِ رَغْبَتِهِ فِي النِّسَاءِ، وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِنَّ بَلْ لِأَجْلِ أَنَّ دَلَائِلَ دِينِ الله مَنَعَتْهُ عَنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ، ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَوَابَ لَوْلَا مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ لَوْلَا تَسْتَدْعِي جَوَابًا، وَهَذَا الْمَذْكُورُ يَصْلُحُ جَوَابًا لَهُ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ جَوَابًا لَهُ لَا يُقَالُ إِنَّا نُضْمِرُ لَهُ جَوَابًا، وَتَرْكُ الْجَوَابِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّا نَقُولُ: لَا نِزَاعَ أَنَّهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَكُونَ مَحْذُوفًا. وَأَيْضًا فَالْجَوَابُ إِنَّمَا يَحْسُنُ تَرْكُهُ وَحَذْفُهُ إِذَا حَصَلَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى تعينه، وهاهنا بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعَيُّنِ ذَلِكَ الْجَوَابِ، فإن هاهنا أَنْوَاعًا مِنَ الْإِضْمَارَاتِ يَحْسُنُ إِضْمَارُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَلَيْسَ إِضْمَارُ بَعْضِهَا أَوْلَى مِنْ إِضْمَارِ الْبَاقِي فَظَهَرَ الْفَرْقُ. والله أَعْلَمُ.
الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ نَقُولَ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْهَمَّ قَدْ حَصَلَ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَهَمَّ بِها لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْهَمِّ بِذَاتِ الْمَرْأَةِ مُحَالٌ لِأَنَّ الْهَمَّ مِنْ جِنْسِ الْقَصْدِ وَالْقَصْدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ الْبَاقِيَةِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ فِعْلٍ مَخْصُوصٍ يَجْعَلُ مُتَعَلِّقَ ذَلِكَ الْهَمِّ وَذَلِكَ الْفِعْلِ غَيْرَ مَذْكُورٍ فَهُمْ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ الْمُضْمَرَ هُوَ إِيقَاعُ الْفَاحِشَةِ بِهَا وَنَحْنُ نُضْمِرُ شَيْئًا آخَرَ يُغَايِرُ مَا ذَكَرُوهُ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ:
الْمُرَادُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَمَّ بِدَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَمَنْعِهَا عَنْ ذَلِكَ الْقَبِيحِ لِأَنَّ الْهَمَّ هُوَ الْقَصْدُ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى الْقَصْدِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ، فَاللَّائِقُ بِالْمَرْأَةِ الْقَصْدُ إِلَى تَحْصِيلِ اللَّذَّةِ وَالتَّنَعُّمِ وَالتَّمَتُّعِ وَاللَّائِقُ بِالرَّسُولِ الْمَبْعُوثِ إِلَى الْخَلْقِ الْقَصْدُ إِلَى زَجْرِ الْعَاصِي عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَإِلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، يُقَالُ:
هَمَمْتُ بِفُلَانٍ أَيْ بِضَرْبِهِ وَدَفْعِهِ.
فَإِنْ قَالُوا: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ فَائِدَةٌ.
قُلْنَا: بَلْ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَوْ هَمَّ بِدَفْعِهَا لَقَتَلَتْهُ أَوْ لَكَانَتْ تَأْمُرُ الْحَاضِرِينَ بِقَتْلِهِ، فَأَعْلَمَهُ الله تَعَالَى أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ ضَرْبِهَا أَوْلَى صَوْنًا لِلنَّفْسِ عَنِ الْهَلَاكِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوِ اشْتَغَلَ بِدَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ فَرُبَّمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ، فَكَانَ يَتَمَزَّقُ ثَوْبُهُ مِنْ قُدَّامٍ، وَكَانَ فِي عِلْمِ الله تَعَالَى أَنَّ الشَّاهِدَ يَشْهَدُ بِأَنَّ ثَوْبَهُ لَوْ تَمَزَّقَ مِنْ قُدَّامٍ لَكَانَ يُوسُفُ هُوَ الْخَائِنَ، وَلَوْ كَانَ ثَوْبُهُ مُمَزَّقًا مِنْ خَلْفٍ لَكَانَتِ الْمَرْأَةُ هِيَ الْخَائِنَةُ، فالله تَعَالَى أَعْلَمَهُ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَشْتَغِلْ بِدَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ بَلْ وَلَّى هَارِبًا عَنْهَا، حَتَّى صَارَتْ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ حُجَّةً لَهُ عَلَى بَرَاءَتِهِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنْ يُفَسَّرَ الْهَمُّ بِالشَّهْوَةِ، وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي اللُّغَةِ الشَّائِعَةِ. يَقُولُ الْقَائِلُ: فِيمَا لَا يَشْتَهِيهِ مَا يَهُمُّنِي هَذَا، وَفِيمَا يَشْتَهِيهِ هَذَا أَهَمُّ الْأَشْيَاءِ إِلَيَّ، فَسَمَّى الله تَعَالَى شَهْوَةَ يُوسُفَ/ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَمًّا، فَمَعْنَى الْآيَةِ: وَلَقَدِ اشْتَهَتْهُ وَاشْتَهَاهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَدَخَلَ ذَلِكَ الْعَمَلُ فِي الْوُجُودِ. الثَّالِثُ: أَنْ يُفَسَّرَ الْهَمُّ بِحَدِيثِ النَّفْسِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْفَائِقَةَ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ إِذَا تَزَيَّنَتْ وَتَهَيَّأَتْ لِلرَّجُلِ الشَّابِّ الْقَوِيِّ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَقَعَ هُنَاكَ بَيْنَ الْحِكْمَةِ وَالشَّهْوَةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَبَيْنَ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ مُجَاذَبَاتٌ وَمُنَازَعَاتٌ، فَتَارَةً تَقْوَى دَاعِيَةُ الطَّبِيعَةِ وَالشَّهْوَةِ وَتَارَةً تَقْوَى دَاعِيَةُ الْعَقْلِ وَالْحِكْمَةِ. فَالْهَمُّ عِبَارَةٌ عَنْ جَوَاذِبِ الطَّبِيعَةِ، وَرُؤْيَةُ الْبُرْهَانِ عِبَارَةٌ عَنْ جَوَاذِبِ الْعُبُودِيَّةِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ الصَّالِحَ الصَّائِمَ فِي الصَّيْفِ الصَّائِفِ، إِذَا رأى الجلاب المبرد بالثلج فَإِنَّ طَبِيعَتَهُ تَحْمِلُهُ عَلَى شُرْبِهِ، إِلَّا أَنَّ دِينَهُ وَهُدَاهُ يَمْنَعُهُ مِنْهُ، فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الذَّنْبِ، بَلْ كُلَّمَا كَانَتْ هَذِهِ
الْحَالَةُ أَشَدَّ كَانَتِ الْقُوَّةُ فِي الْقِيَامِ بِلَوَازِمِ الْعُبُودِيَّةِ أَكْمَلَ، فَقَدْ ظَهَرَ بِحَمْدِ الله تَعَالَى صِحَّةُ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي ذَهَبْنَا إِلَيْهِ وَلَمْ يَبْقَ فِي يَدِ الْوَاحِدِيِّ إِلَّا مُجَرَّدُ التَّصَلُّفِ وَتَعْدِيدِ أَسْمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَوْ كَانَ قَدْ ذَكَرَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ الْقَوْلِ شُبْهَةً لَأَجَبْنَا عَنْهَا إِلَّا أَنَّهُ مَا زَادَ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْحَشْوِيَّةِ
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا كَذَبَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ»
فَقُلْتُ الْأَوْلَى أَنْ لَا نَقْبَلَ مِثْلَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ فَقَالَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِنْكَارِ فَإِنْ لَمْ نَقْبَلْهُ لَزِمَنَا تَكْذِيبُ الرُّوَاةِ فَقُلْتُ لَهُ:
يَا مِسْكِينُ إِنْ قَبِلْنَاهُ لَزِمَنَا الْحُكْمُ بِتَكْذِيبِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ رَدَدْنَاهُ لَزِمَنَا الْحُكْمُ بِتَكْذِيبِ الرُّوَاةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ صَوْنَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْكَذِبِ أَوْلَى مِنْ صَوْنِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمَجَاهِيلِ عَنِ الْكَذِبِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْأَصْلَ فَنَقُولُ لِلْوَاحِدِيِّ: وَمَنِ الَّذِي يَضْمَنُ لَنَا أَنَّ الَّذِينَ نَقَلُوا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ كَانُوا صَادِقِينَ أَمْ كَاذِبِينَ، والله أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْبُرْهَانِ مَا هُوَ أَمَّا الْمُحَقِّقُونَ الْمُثْبِتُونَ لِلْعِصْمَةِ فَقَدْ فَسَّرُوا رُؤْيَةَ الْبُرْهَانِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حُجَّةُ الله تَعَالَى فِي تَحْرِيمِ الزِّنَا وَالْعِلْمِ بِمَا عَلَى الزَّانِي مِنَ الْعِقَابِ وَالثَّانِي: أَنَّ الله تَعَالَى طَهَّرَ نُفُوسَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَنِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ. بَلْ نَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى طَهَّرَ نُفُوسَ الْمُتَّصِلِينَ بِهِ عَنْهَا كَمَا قَالَ:
إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الْأَحْزَابِ: 33] فَالْمُرَادُ بِرُؤْيَةِ الْبُرْهَانِ هُوَ حُصُولُ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ وَتَذْكِيرُ الْأَحْوَالِ الرَّادِعَةِ لَهُمْ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ رَأَى مَكْتُوبًا فِي سَقْفِ الْبَيْتِ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 32] وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ النُّبُوَّةُ الْمَانِعَةُ مِنَ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بُعِثُوا لِمَنْعِ الْخَلْقِ عَنِ الْقَبَائِحِ وَالْفَضَائِحِ فَلَوْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا النَّاسَ عَنْهَا، ثُمَّ أَقْدَمُوا عَلَى أَقْبَحِ أَنْوَاعِهَا وأفحش أقسامها لدخلوا تحت قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفِّ: 2، 3] / وَأَيْضًا أَنَّ الله تَعَالَى عَيَّرَ الْيَهُودَ بِقَوْلِهِ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ: 44] وَمَا يَكُونُ عَيْبًا فِي حَقِّ الْيَهُودِ كَيْفَ يُنْسَبُ إِلَى الرَّسُولِ الْمُؤَيَّدِ بِالْمُعْجِزَاتِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ نَسَبُوا الْمَعْصِيَةَ إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ الْبُرْهَانِ أُمُورًا: الْأَوَّلُ: قَالُوا إِنَّ الْمَرْأَةَ قَامَتْ إِلَى صَنَمٍ مُكَلَّلٍ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ فِي زَاوِيَةِ الْبَيْتِ فَسَتَرَتْهُ بِثَوْبٍ فَقَالَ يُوسُفُ: لِمَ فَعَلْتِ ذَلِكَ؟
قَالَتْ: أَسْتَحِي مِنْ إِلَهِي هَذَا أَنْ يَرَانِي عَلَى مَعْصِيَةٍ، فَقَالَ يُوسُفُ: أَتَسْتَحِينَ مِنْ صَنَمٍ لَا يَعْقِلُ وَلَا يَسْمَعُ وَلَا أَسْتَحِي مِنْ إِلَهِي الْقَائِمِ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ فو الله لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ أَبَدًا قَالُوا: فَهَذَا هُوَ الْبُرْهَانُ. الثَّانِي: نَقَلُوا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا أَنَّهُ تَمَثَّلَ لَهُ يَعْقُوبُ فَرَآهُ عَاضًّا عَلَى أَصَابِعِهِ وَيَقُولُ لَهُ: أَتَعْمَلُ عَمَلَ الْفُجَّارِ وَأَنْتَ مَكْتُوبٌ فِي زُمْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ فَاسْتَحَى مِنْهُ. قَالَ وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ وَابْنِ سِيرِينَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: تَمَثَّلَ لَهُ يَعْقُوبُ فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ فَخَرَجَتْ شَهْوَتُهُ مِنْ أَنَامِلِهِ. وَالثَّالِثُ:
قَالُوا إِنَّهُ سَمِعَ فِي الْهَوَاءِ قَائِلًا يَقُولُ يَا ابْنَ يَعْقُوبَ لَا تَكُنْ كَالطَّيْرِ يَكُونُ لَهُ رِيشٌ فَإِذَا زَنَا ذَهَبَ رِيشُهُ. وَالرَّابِعُ:
نقلوا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَنْزَجِرْ بِرُؤْيَةِ صُورَةِ يَعْقُوبَ حَتَّى رَكَضَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمْ يَبْقَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الشَّهْوَةِ إِلَّا خَرَجَ، وَلَمَّا نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ تَصَلَّفَ وَقَالَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ الَّذِينَ أَخَذُوا التَّأْوِيلَ عَمَّنْ شَاهَدَ التَّنْزِيلَ فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّكَ لَا تَأْتِينَا الْبَتَّةَ إِلَّا بِهَذِهِ التَّصَلُّفَاتِ الَّتِي لَا فَائِدَةَ فِيهَا فَأَيْنَ هَذَا مِنَ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ تَرَادُفَ الدَّلَائِلِ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مُمْتَنِعًا عَنِ الزِّنَا بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ الْأَصْلِيَّةِ، فَلَمَّا انْضَافَ إِلَيْهَا هَذِهِ الزَّوَاجِرُ قَوِيَ الِانْزِجَارُ وَكَمُلَ الِاحْتِرَازُ وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ نَقَلُوا أَنَّ جَرْوًا دَخَلَ حُجْرَةَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبقي هناك بغير عمله قَالُوا: فَامْتَنَعَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الدُّخُولِ عليه أربعين يوما، وهاهنا زَعَمُوا أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَالَ اشْتِغَالِهِ بِالْفَاحِشَةِ ذَهَبَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَمْتَنِعْ عَنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ بِسَبَبِ حُضُورِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَوْ أَنَّ أَفْسَقَ الْخَلْقِ وَأَكْفَرَهُمْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِفَاحِشَةٍ فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ عَلَى زِيِّ الصَّالِحِينَ استحيا منه وفر وترك ذلك العمل، وهاهنا أَنَّهُ رَأَى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَضَّ عَلَى أَنَامِلِهِ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى جَلَالَةِ قَدْرِهِ دَخَلَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَيْضًا عَنْ ذَلِكَ الْقَبِيحِ بِسَبَبِ حُضُورِهِ حَتَّى احْتَاجَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنْ يَرْكُضَهُ عَلَى ظَهْرِهِ فَنَسْأَلُ الله أَنْ يَصُونَنَا عَنِ الْغَيِّ فِي الدِّينِ، وَالْخِذْلَانِ فِي طَلَبِ الْيَقِينِ فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْمُخَلَّصُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ والله أَعْلَمُ. اهـ (مفاتيح الغيب. 18/ 439 - 444).(2/218)
ذلك التثبيت ثبتناه، (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ): خيانة صاحبه، (وَالْفَحْشَاءَ): الزنا، (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الُمخْلَصِينَ)، من الذين أخلصهم الله تعالى لعبادته، (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ) فيه تضمير الابتدار ولذلك عدي بنفسه أو تسابقا إليه بحذف إلى، (وَقَدَّتْ): شقت، (قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ): من خلف، وذلك لأنه فر منها وأسرعت وراءه واجتذبت ثوبه لتمنعه الخروج فانقد، (وَأَلْفَيَا): صادفا، (سَيِّدَهَا): زوجها، (لَدَا الْبَابِ) فأحضرت كيدها وبرأت ساحتها ونسبت إليه، (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) جزاؤه إلا السجن أو أي شيء جزاؤه إلا السجن، (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا) الشاهد كان صبيًّا في المهد أو وجلًا من أقارب زليخا أو من خاصة الملك، (إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ) أي: فقال الشاهد: إن كان قميصه وسماه شاهدًا، لأنه ثبت قول يوسف بكلامه قال بعضهم: شهد شاهد أي: حكم حاكم فقال: إن كان إلخ، (قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ): فإنه إذا كان تابعها وهي دافعة عن نفسها قدت قميصه من قدامه بالدفع، (وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ): فإنه دال على أنها هي التي تبعته واجتذبت ثوبه إليها والجمع بين إن التي للاستقبال وكان على تأويل أن يعلم أنه كان قميصه، (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ): لما عرف خيانة امرأته، (إِنَّهُ): إن هذا الصنيع، (مِن(2/219)
كَيْدِكُنَّ) والخطاب لها ولسائر النساء، (إن كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ) أي: يا يوسف، (أَعْرِضْ عَنْ هَذَا): اكتمه ولا تَذكره، (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ): من القوم المتعمدين للذنب والتذكير للتغليب قيل: إنه كان قليل الغيرة.
* * *
(وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لله مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
* * *(2/220)
(وَقَالَ نِسْوَةٌ)، اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي، (فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ): تطلب من عبدها الفاحشة، (قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا)، أي: خرق حبه شغاف أي: حجاب قلبها، فوصل إلى الفؤاد، و (حُبًّا) تمييز، وفاعل شغف ضمير الفتى، (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ)، تسميته مكرًا لما علمت أنهن أردن بهذا القول أن تريهن يوسف أو لأنهن أفشين سرها، (أَرْسلَتْ إِلَيْهِنَّ): دعتهن، (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا): ما يُتَّكَأ عليه قال أكثر السلف المتكأ المجلس المعد فيه مفارش ومخاد وطعام فيه ما يقطع بالسكين، (وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا) لقطع ما في المائدة مما يحتاج إليه، (وَقَالَتِ): حين أخذن السكاكين: (اخرُج): يا يوسف، (عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) عظمنه وهبهن ذلك الحسن وقيل: أكبرنه أي: حضن له من شدة الشبق (1) فإن المرأة إذا أكبرت حاضت أو الهاء للسكت، (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ): جرحنها من فرط الحيرة، (وَقُلْنَ حَاشَ لله): أصله حاشا فحذفت الألف تخفيفًا وهى من حروف الجر وضعت موضع التنزيه والبراءة كأنه قال: براءة ثم قال: لله؛ لبيان من يبرئ وينزه كـ سقيا لك والمعني تنزيهًا لله من العجز وتعجبًا من قدرته على هذا الخلق الجميل، (مَا هَذا بَشَرًا): فإنه لم يعهد للبشر مثل ذلك الجمال
__________
(1) كلام لا يعول عليه.(2/221)
وأعمل ما عمل ليس لمشاركتهما في نفي الحال وهو لغة الحجاز، (إِن هَذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) فإن جماله فوق جمال البشر، (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمتنَّنِي فيهِ) وضع ذلك موضع هذا رفعًا لمنزلته واستبعادًا لمحله في الحسن، (وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ): بالغ في عصمته اعترفت عندهن لما علمت أنهن يعذرنها، (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ) بحذف حرف الجر أي: ما أمر به، (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ): من الأذلاء والنون الخفيفة يكتب في خط المصحف ألفًا على حكم الوقف، (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ): من المعصية أصناف الدعوة إليهن لأنهن تنصحن له مطاوعتها، (وَإِلَّا) أي: وإن لم، (تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ): أمل، (إِلَيْهِنَّ) بإجابة كلامهن، وقيل: إنهن جميعًا دعونه إلى أنفسهن، (وَأَكُن مِّنَ الجَاهِلِينَ): من السفهاء الذين يعملون القبائح، (فَاسْتَجَابَ): أجاب، (لَهُ ربُّهُ): دعاءه، (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ): بأن عصمه الله حتى اختار السجن، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ): لدعوات الملتجئين إليه، (العَلِيمُ): بأحوالهم، (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ): ظهر للعزيز وأصحابه، (مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ): على براءة يوسف من قدِّ القميص وكلام الطفل(2/222)
وغيرهما وفاعل بدا ضمير يفسره قوله (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) أى: إلى مدة يرون فيه رأيهم فإن المرأة [خدعت زوجها] (1) وحملت على سجنه ليظهر للناس أنه راودها عن نفسها.
* * *
(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا
__________
(1) في الأصل [خدعت لزوجها] والتصويب من تفسير البيضاوي. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(2/223)
اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
* * *
(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ): أحدهما ساقي الملك والآخر خبازه اتهما بأنهما يريدان إهلاك الملك بالسُّم، (قَالَ أَحَدُهُمَا) أي: الشرابي (إِنِّي أَرَانِي): في المنام (أَعْصِرُ خَمْرًا) أي: عنبًا سماه باسم ما يئول إليه (وَقَالَ الآخرُ) أي: الخباز (إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا): أخبرنا (بِتَأْوِيلِهِ): بتعبير ما قصصنا قال بعضهم: إنهما اخترعا تلك الرؤيا لاختبار يوسف (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ): في أعمالك وأقوالك أو من الذين يحسنون تعبير الرؤيا (قَالَ لاَ يأْتِيكُمَا طَعام تُرْزَقَانِهِ): في نومكما (إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا) التعبير في اليقظة أو معناه لا يأتيكما طعام من بيتكما تطعمانه وتأكلانه إلا نبأتكما بقدره ولونه ووقته قبل وصوله إليكم وهذا مثل معجزة عيسى عليه السلام حيث قال: (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) [آل عمران: 49] (ذلِكُمَا): العلم (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي). لا من التكهن والتنجيم (إِنِّي تَرَكْتُ) كأنه قال علمني لأني تركت (مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ(2/224)
بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) لتأكيد كفرهم كرر الضمير (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ): ما صح وما استقام، (لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْء) أيُّ شيء كان (ذَلِكَ): التوحيد (مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ): على الرسل والمرسل إليهم فإنهم أرشدوهم إلى فضل الله ونبهوهم عليه (وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) ذلك الفضل، بل يعرضون عنه (يَا صَاحِبَي السِّجْنِ): يا ساكنيه دعاهما إلى الإسلام فقال: (أَأَرْبَابٌ متَفَرِّقُونَ): آلهة شتى واحد من فضة وواحد من ذهب وواحد من حديد وواحد من حجر (خَيْرٌ أَمِ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ): الذي ذل كل شيء لعز جلاله (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ): من دون الله خطاب لهما ولمن على دينهما (إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ) إلا أسماء خالية عن المعنى لا مسميات تحتها فإنهم سموا ما لا يستحق الإلهية آلهة ثم يعبدونها (مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا): بتسميتها، (مِنْ سُلْطَانٍ): حجة (إِنِ الحُكْمُ): الأمر والنهي (إِلا لله أَمَرَ): على لسان أنبيائه (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ): المستقيم الذي لا عوج فيه (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ(2/225)
لَا يَعْلَمُونَ): فيهلكون في جهالتهم (يَا صَاحِبَي السجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما) أي: الشرابي (فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا): يعود منصبه إليه (وَأَمَّا الآخَرُ) أي: الخباز (فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) قال بعضهم: لما عبر رؤياهما قالا: ما رأينا شيئًا فقال: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ): هذا ما يئول إليه أمركما وهو لا محالة واقع صدقتم أو كذبتم وفي الحديث " الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت، وأيضًا " الرؤيا لأول عابر " (وَقَالَ): يوسف (لِلَّذِي ظَنَّ): علم يوسف (أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا): أو الظان الشرابي (اذْكُرْنِي): اذكر حالي (عِنْدَ رَبِّكَ) أي: الملك كي يخلصني، (فَأَنْسَاهُ) أي: الشرابي، (الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أي: ذكره لربه أو معناه أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه فاستعان بغير الله تعالى (1)، (فَلَبِثَ فِي
__________
(1) في غاية البعد، والصحيح الأول.(2/226)
السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) هو ما بين الثلاث إلى التسع وأكثرهم على أنه سبع سنين.
* * *
(وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)(2/227)
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
* * *
(وَقَالَ المَلِكُ): بعد مضى سبع سنين، (إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ): وسبع بقرات مهازيل، (يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ): ابتلعت المهازَيل السمان والعجف غاية الهزال، (وَسَبْعَ سنبلاتٍ خُضْرٍ) قد انعقد حبها، (وَأُخَرَ) أي: وسبعًا أخر، (يَابسَاتٍ): قد استحصدت والتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ) أي: الأشراف من العلماء والحكماء، (أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ): عبروها، (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ): عالمين بتعبيرها واللام لتقوية العامل فإن معموله مقدم عليه فضعف عمله فقوى باللام أو لتضمين تعبرون معنى تنتدبون، (قَالُوا): هذه، (أَضْغَاثُ أَحْلامٍ): أضغاث الأحلام تخاليطها وأباطيلها والأحلام جمع حلم وهو الرؤيا لتضمنه أشياء(2/228)
مختلفة جمعوا وإن لم يكن إلا حلم واحد أو للمبالغة في وصف الحلم بالبطلان، (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ) أي: ذلك الأحلام التي هي الأضغاث، (بِعَالِمِينَ) أو المراد أنهم اعترفوا بالعجز وقالوا لسنا في علم التعبير بنحارير، (وَقَالَ الذِي نجَا مِنْهُمَا): من صاحبي السجن، (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ): تذكر يوسف بعد جماعة كثيرة من الزمان يعني مدة طويلة (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ): إلى من عنده علمه فأرسل إليه فجاء وقال: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ): الكثير الصدق، (أَفْتِنَا فِي): رؤيا، (سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ): إلى الملك وأهله، (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ): تأويلها أو فضلك ولما جرب كمال علمه كلمه كلام محترز وبناه على الرجاء لا على اليقين فربما اخترم دون الرجوع وربما لم يعلموا، (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا): على عادتكم حال، (فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ): لئلا يفسد ويحفظ من السوس، (إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُون): في تلك السنين، (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ): السبيع، (سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ): أصناف الأكل إلى السنين وهو لأهلهن على المجاز، (مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ): ما ادخرتم لأجلهن، (إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ) تحرزون للبذر والظاهر أن قوله: " تزرعون " على أصله بدليل قوله: " ثم يأتي " لا أنه خبر بمعنى الأمر(2/229)
وقوله: " فما حصدتم " اعتراض لاهتمامه عليه الصلاة والسلام بشأنهم يأمرهم بما فيه صلاحهم في أثناء التأويل، (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ) من الغيث أي: يمطرون، (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ): العنب والزيتون وما يعصر قال بعضهم: ويدخل فيه حلب اللبن أيضًا، أوَّل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة والعجاف واليابسات بمجدبة وأكل العجاف السمان بأكل ما جمع في الخصبة في المجدبة ثم بشرهم بما يكون بعد المجدبة بإلهام الله تعالى إياه لا من تأويل رؤياه.
* * *
(وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لله مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
* * *(2/230)
(وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ): بعد مراجعة الرسول، (فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ) ليخرجه، (قَالَ ارْجِعْ إِلَى ربِّكَ): إلى الملك، (فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) أراد أن يعلم الملك براءة ساحته ولم يصرح بذكر امرأة العزيز أدبًا واحترامًا وهن يعلمن أيضًا براءته بإقرارها عندهن وفي الحديث " لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعى " وفيه أيضًا " لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه - والله يغفر له حين سئل عن تعبير الرؤيا ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى أشترط أن يخرجوني "، (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ): حين قلن: أطع مولاتك، فيه الاستشهاد بعلم الله تعالى على براءته أو الوعيد لهن على كيدهن أو تعظيم كيدهن، (قَالَ): الملك لهن، (ما خَطْبُكُنَّ): ما شأنكن، (إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسهِ): هل وجدتن منه سوءً خاطبهن والمراد الأصلي امرأة العزيز، (قُلْنَ حَاشَ لله) تعجبًا من عفته ونزاهته، (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ(2/231)
قَالَتِ امْرَأَةُ العَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ): ثبت واستقر، (الحَقُّ) قيل: أقبلن كلهن عليها فقررنها، (أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ): الذي فعلت من رد الرسول، (لِيَعْلَمَ): العزيز، (أَني لَمْ أَخنْهُ بِالْغَيْبِ): بظهر الغيب حال من الفاعل أي): وأنا غائب أو من المفعول أو ظرف أي: بمكان الغيب، (وَأَن الله لاَ يَهْدِي): لا ينفذ ولا يسدد، (كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي) عن السلف أنه لما قال: ليعلم أني لم أخنه بالغيب قال له جبريل: ولا حين هممت (1) فقال ذلك، (إِنَّ النَّفْسَ): بطبعها، (لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) إلا وقت رحمة ربي أو إلا ما رحمه الله من النفوس فعصمه، (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال بعضهم: قوله: " ذلك ليعلم " إلخ من كلام امرأة العزيز أي: اعترفت بما هو الواقع ليعلم زوجي أني لم أخنه وما صدر مني المحذور الأكبر وإنما راودته مراودة فامتنع ولست أبرئ نفسي فإن النفس تتمني وتشتهي ولذلك راودته: لأنها أمارة بالسوء إلا نفس من عصمه الله تعالى إنه غفور حليم وعند بعض المفسرين إن هذا القول أليق وأقرب، (وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ):
__________
(1) لا يصح والذي عليه المحققون أن قوله تعالى (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) من كلام امرأة العزيز، وهو ما ذكره المصنف بعد ذلك فتأمله.(2/232)
بيوسف)، (أَسْتَخْلصْهُ): أجعله خالصًا، (لنَفْسِي فَلَمَّا): أتوا به، (كَلَّمَهُ) وشاهد منه الكمالَ، (قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ): ذو منزلة، (أَمِينٌ)، مؤتمن على الأشياء صادق، (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ): ولنى أمر خزائن أرض مصر، (إِنِّي حَفِيظٌ): لها، (عَليمٌ) بوجوه التصرف فيها وقيل: حفيظ عليم كاتب حاسب أو عليم بسنين الجدب وسأل العمل لما في ذلك من مصالح الناس ليتصرف لفهم في القحط على الوجه الأحوط قيل: إن العزيز توفي أو عزل فجعل الملك يوسف مكانه فزوجه امرأته زليخا فوجدها عذراء وولد له منها ابنان (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ): أرض مصر، (يَتَبَوَّأُ مِنْهَا): ينزل، (حَيْثُ يَشَاءُ): بعد الضيق والحبس أو يتصرف فيها كيف يشاء، (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)، فما أعد الله ليوسف في الآخرة أعظم وأجل مما خوَّله في الدنيا.
* * *(2/233)
(وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
* * *
(وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ)، لما ولاه ملك مصر الوزارة العدل اجتهد في العدل وتكثير الزراعات فدخلت السنون المجدبة وعم القحط حتى وصل بلاد كنعان(2/234)
فجاءه إخوته ليشتروا منه الطعام، (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ): يوسف، (وَهُمْ لَهُ مُنكِرُون) لم يعرفوه فإنه قد تقرر في أنفسهم هلاكه وكان مدة المفارقة أربعين سنة، (وَلَمَّا جَهَّزَهُم بجَهَازِهِمْ): أصلحهم بعدتهم وأوفر حمولاتهم بما جاءوا له، (قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) لما دخلوا عليه قال كالمنكر عليهم: لعلكم عيون جواسيس قالوا: معاذ الله نحن إخوة بنو أب واحد نبي من أنبياء الله تعالى قال: كم أنتم؟ قالوا: كنا اثني عشر فذهب أصغرنا هلك في البرية وله أخ من أمه احتبسه أبوه ليتسلى به عنه قال: ائتوني به حتى أعلم صدقكم، (أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ): أتمه، (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ): المضيفين، (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي): ليس لكم عندى طعام أكيله لكم، (وَلَا تَقْرَبُونِ): لا تدخلوا بلادى وهو إما عطف على الجزاء أو نهي، (قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ): نلح في طلبه من أبيه، (وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ): ما وعدناك، (وَقَالَ): يوسف، (لِفِتْيَانِهِ): لغلمانه، (اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ): ثمن طعامهم، (فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا): بأنها بضاعتهم، (إِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ): وفتحوا أوعيتهم، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون) إذا عرفوا ذلك فإنهم لا يستحلون إمساكها أو إذا عرفوا كرامتهم علينا وبرنا عليهم أو فعل ذلك حذرًا من ألا يكون عندهم بضاعة أخرى(2/235)
فلا يمكن لهم الرجوع أو رأى لؤم أخذ الثمن من أبيه وإخوته مع حاجتهم، (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ): بعد ذلك إن لم نذهب بأخينا، (فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ): نحن وهو الطعام، ونرفع المانع من الكيل، (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ) فإنكم ذكرتم في يوسف مثل ما ذكرتم هنا بعينه فهل يكون أماني هنا إلا كأماني هنالك أي كما لا يحصل الأمان هناك لا يحصل هنا، (فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا) فأعتمد عليه ونصبه على التمييز، (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ): فالله أسأل أن يرحمني بحفظه، (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي) أي: لا نطلب أو أي شيء نطلب وراء ذلك من الإحسان قيل: لا نبغي منك شيئًا في ثمن الكيل وقيل: هو من البغي بمعنى الكذب أي: لا نبغي في القول ولا نتزايد فيه، (هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا) استئناف موضح لما نبغي، (وَنَمِيرُ أَهْلَنَا) مار أهله حمل إليهم الطعام من بلد آخر عطف على محذوف أي: ردت إلينا فنستظهر بها ونمير ويحتمل عطفه على ما [نبغي] إذا كانت نافية، (وَنَحْفَظُ أَخَانَا): عن المكاره، (وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ): حمل بعير من الطعام لأن يوسف إنما يعطي كل شخص وقرًا، (ذَلِكَ): الذي جئنا به، (كَيْلٌ): مكيل، (يَسِيرٌ): قليل لا يكفينا أو ذلك أي: كيل بعير شيء قليل لا يضايقنا فيه الملك، (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ)، تعطوني، (مَوْثِقًا مِنَ اللهِ): عهدًا مؤكدًا بذكر الله تعالى، (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) جواب القسم إذ معناه حتى تحلفوا لَتَأْتُنَّنِي، (إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ): إلا أن تغلبوا فلا تقدروا على إتيانه أو إلا أن تهلكو جميعًا أي: لتأتنني على كل حال إلا حال الإحاطة بكم، (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ): يعقوب، (اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ): من العهد، (وَكِيلٌ): مطلع ويمكن أن يكون معناه الله تعالى وكيل على حفظ ذلك العهد نَكِلُ أمره إليه، (وَقَالَ يَا(2/236)
بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) لأن لا يصيبكم العين، (وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللهِ مِن شَيْءٍ)، أي: لو أراد الله بكم سوءًا لا يدفع عنكم ما قلت لكم من التفرق وهو مصِيبكم لا محالة، (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) أى: من أبواب متفرقة في البلد، (مَا كَانَ يُغْنِي): يدفع دخولهم متفرقين، (عَنْهُم مَنَ اللهِ): من قضاءه عليهم، (مِن شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا) استثناء منقطع أي: لكن حاجة أي: شفقة في نفسه قضاها أي: أظهرها ووصى بما، أو معناه ما دفع عنهم بسبب دخولهم كذلك إلا إصابة العين وهي الحاجة التي في نفس يعقوب، (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ): لذو يقين أو لذو عمل، (لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أن يعقوب لذو علم فإن المشركين لا يعلمون ما ألهم الله أولياءه.
* * *
(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)(2/237)
قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
* * *
(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ) من أبويه في منزله وأجلسه معه في مائدته واسمه بنيامين (قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ): ولا تحزن، (بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ): في حقنا فيما مضى، (فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ): أصلحهم بعدتهم، (جَعَلَ السِّقَايَةَ): المشربة، (فِي رَحْلِ أَخِيهِ): من أبويه وهي من(2/238)
فضة أو من ذهب أو من زبرجد وكان يشرب فيها ويكيل بها للناس من عزة الطعام (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ): نادى مناد (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) أي: القافلة (إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) قال بعضهم: إن كان النداء بأمر يوسف فعلى تأويل إنهم سرقوا يوسف من أبيه - عليه السلام - أو النداء برضى أخيه، (قَالوا وَأَقْبَلُوا عَلَيهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ) أيُّ شيء ضاع عنكم (قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) من الطعام (وَأَنَا بِهِ): بحمل من الطعام (زَعِيمٌ): كفيل قاله المؤذن (قَالُوا تَاللهِ) قسم فيه معنى التعجب مما أضيف إليهم ثم استشهدوا بعلمهم على براءة ساحتهم لما ثبت عندهم من دلائل دينهم وأمانتهم في كرتى مجيئهم فقالوا (لَقَدْ عَلِمتم مَّا جئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ): لا نوصف بها قط، (قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ) أي: السارق، (إِن كنتمْ كَاذِبِينَ): في ادعاء البراءة، (قَالُوا جَزَاؤُهُ) أي: جزاء سرقته، (مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) أي: أخذ من وجد واسترقاقه، (فهُوَ جَزَاؤهُ) تقرير للحكم وقيل: جزاء لمن على أنها شرطية والجملة الشرط والجزاء خبر جزاؤه على إقامتة الظاهر مقام الضمير وأصله فهو هو وضمير الثاني إلى جزاؤه (كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ): بالسرقة وشريعة إبراهيم أن السارق يدفع إلى المسروق منه، (فَبَدَأَ): المؤذن أو يوسف(2/239)
بعد ما ردوا إليه، (بِأَوْعِيَتِهِمْ) فتشها أولاً، (قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ): من أبويه، (ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ): مثل ذلك الكيد، (كِدْنَا لِيُوسُفَ): بأن علمناه إياه، (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) فإن دين ملك مصر الضرب والتغريم في السارق دون الاسترقاق، (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ)، أي: لم يكن يتيسر له أخذه في دين الملك بحال من الأحوال إلا في حال مشيئة الله تعالى بأن أجرى على ألسنة إخوته أن جزاء السارق الاسترقاق فوجد السبيل إلى ذلك وجاز أن يكون منقطعًا (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ): بالعلم كما رفعنا درجة يوسف (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ): حتى ينتهى العلم إلى الله تعالى، (قَالوا) أي: إخوته (إِن يَسْرِقْ): بنيامين (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ) أي: يوسف (مِن قَبْلُ) يعني لا عجب فإن هذا طريقتهم ونحن براء منها وإما وصفهم إياه بالسرقة فإنه كان لجده أبى أمه صنم يعبده فأخذه سرًّا وكسره أو كانت عمته تحضنه بعد وفاة أمه فلما ترعرع أراد يعقوب أن يكون معه ويأخذه من عمته وكانت لا تطيق فراقه فعمدت إلى منطقة هي لها ورثتها من إسحاق فحزمتها على يوسف تحت ثيابه ثم قالت: فقدت المنطقة اكشفوا أهل البيت فكشفوا فوجدوها مع يوسف وهو صغير فقالت: صار يوسف سلمًا لي فأمسكته، فإن السارق يُسْتَرَقُّ لمن سُرق منه كما مر وكان يأخذ من البيت للسائل أشياء فيعطيه ففطن به إخوته،(2/240)
(فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ) ضمير أسرها كناية بشريطة التفسير يفسرها قوله (قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا) يعني قال في نفسه: أنتم شر منزلة في السرقة: لأن خيانتكم حقيقة وأنث الضمير لأن المراد منه جملة وهي بدل من أسرها وهو المنقول عن ابن عباس - رضى الله عنهما - وقيل: الضمير للإجابة أو للمقالة أو لنسبة السرقة (وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ): في شأني من السرقة فإنه كذب وهذا أيضًا من جملة ما أسر يوسف (قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ): بدله فإن أباه مستأنس به على أخيه الهالك (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ): إلى الخلق فأحسن إلينا (قَالَ مَعَاذَ اللهِ): أعوذ بالله معاذًا من (أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ): في فتواكم لو أخذنا غير السارق.
* * *(2/241)
(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
* * *(2/242)
(فَلَما اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ): من يوسف وإجابته إياهم وباب الاستفعال للمبالغة (خَلَصُوا): انفردوا واعتزلوا، (نَجِيًّا): ذوي نجوى أو فوجا نجيًّا وكان تناجيهم في تدابير أمرهم، (قَالَ كَبِيرُهُمْ): في السن روبيل أو في الرأي وهو يهوذا أو في الرياسة وهو شمعون، (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللهِ): عهدًا وثيقًا بذكر الله، (وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) ما صلة أى: من قبل هذا قصرتم في شأنه أو مصدرية عطف على مفعول تعلموا أو موصولة أي: لم تعلموا ما قدمتموه فهو من الفرط وهو التقدم، (فَلَنْ أَبْرَحَ): أفارق (الأَرْضَ): أرض مصر (حَتَّى يَأذَنَ لِي أَبِي): في الرجوع (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي): بخلاص أخي أو بخروجي أو بالمقاتلة (وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ) فحكمه الحق، (ارْجِعُوا إِلَى أَبيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ): على حسب الظاهر، (وَمَا شَهِدنا): عليه، (إِلا بمَا عَلِمْنَا): بأن رأينا إخراج الصاع من متاعه، (وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ): فلا ندري أنه سرق أو دست الصاع في رحله أو ما كنا حين عهدنا أن نأتي به للعواقب عالمين فلم ندر أنه(2/243)
سيسرق (وَاسْأَلِ القَرْيَةَ)، أي: أرسل مصر واسألهم عن القصة، (الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ)، أي: القافلة، (الَّتِي أَقْبَلْنَا): توجهنا (فِيهَا وَإِنَّا): والله (لَصَادقُونَ قَالَ) أي: لما رجعوا وقالوا ليعقوب ما قالوا قال: (بَلْ سَوَّلَتْ): زَينت وسهلت (لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا): عظيمًا قررتموه (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ): أجمل، (عَسَى اللهُ أَن يَأتِيَنِي بِهِمْ): بيوسف وأخيه وأخيهما الذي توقف بمصر (جَمِيعًا): مجتمعين (إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ): بحالي (الحَكِيمُ): في أفعاله (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ): أعرض عنهم كراهة (وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ): يا شدة حزني إليه تعالي فهذا أوانك والألف عوض عن ياء المتكلم، (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ): عمى من كثرة العبرة التي لا يتمالك فيها نفسه، (فَهُوَ كَظِيمٌ): مملوء من الغيظ على أولاده لا يظهره (قَالُوا تَاللهِ) لا (تَفتَؤُا) بحذف حرف النفي فإنه لا يلتبس بالإثبات لأنه لو كان إثباتًا لابد في جوابه من اللام والنون(2/244)
المؤكدة أي: لا تزال (تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا): مشفيا على الهلاك أو ذابيًا من الغم أو من المرض مصدر وضع موضع الاسم (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ): الميتين، (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي) هو أصعب هَمٍّ لا يصبر صاحبه على كتمانه فيبثه وينشره إلى الناس، (وَحُزْنِي إِلَى اللهِ): لا إليكم ولا إلى غيركم فخلوني وشكايني، (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ): فإني أعلم أن رؤيا يوسف صدق وإني سوف أسجد له أو أخبره ملك الموت بحياة يوسف (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا): تفحصوا (مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا): لا تقنطوا (مِنْ رَوْحِ اللهِ): من فرجه وتنفيسه (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ): فإن المؤمن لا يزال يطمع في رحمة الله تعالى (فَلَمَّا دَخَلُوا): بعدما رجعوا إلى مصر (عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ): شدة الجوع (وَجِئنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ) رديئة أو قليلة كانت دراهم رديئة أو الغرايئر والحبائل أو الصوف والأقط أو حبة الخضراء أو الأدم والنعال، (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ): أتمه لنا، (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا): برد أخينا أو بقبض هذه البضاعة المزجاة أو بالزيادة على ما يساويها، (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ): أحسن الجزاء، (قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ): قُبْحَ (مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ): فرقتم بينهما وذللتموه حتى لا يستطيع أن يتكلم(2/245)
بينكم بعد فقد يوسف إلا بذلة (إِذْ أَنتمْ جَاهلُونَ): فإن فعلكم فعل الجهال (قَالُوا أَئِنَّكَ) استفهام تقرير (لأَنتَ يُوسُفُ) وضع التاج وكان فوق جبهته مثل شامة بيضاء وكانت لسارة ويعقوب مثلها فعرفوه أو هو من وراء ستر فرفع الحجاب فعرفوه، (قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي): من الأبوين ذكره لتعريف نفسه ولإدخاله في قوله: (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا): بالوصال (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ): الله، (وَيَصْبِرْ): على المصائب (فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي: أجره لإحسانه بالجمع بين الصبر والتقوى (قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ): اختارك، (اللهُ عَلَيْنَا): بالعلم والحسن (وَإِنْ كُنَّا): إن شأننا إنا كنا (لَخَاطِئِينَ): مذنبين (قَالَ لاَ تَثْرِيبَ): لا تعيير ولا مؤاخذة (عَلَيْكُمُ اليَوْمَ) متعلق بمتعلق الخبر أي لا مؤاخذة في هذا اليوم فكيف بما بعده من الأيام أو المراد من اليوم الدنيا أي: لا مؤاخذة في الدنيا وأما في الآخرة فبِيَدِ الله ولذلك قال، (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) دعا لهم بالمغفرة، (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ): فإنه يغفر الصغائر والكبار (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا) أي: القميص الذي كان عليه، (فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي(2/246)
يَأْتِ بَصِيرًا): يصير بصيرًا ذا بصر قالوا: القميص من نسج الجنة لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي (1)، (وَأْتُونِي): أنتم وأبي، (بِأَهْلِكُمْ): نسائكم وذراريكم، (أَجْمَعِينَ).
* * *
(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ
__________
(1) لا يخفي ما فيه بعد وضعف.(2/247)
وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
* * *
(وَلَمَّا فَصَلَتِ): خرجتَ، (العِيرُ): من مصر (قَالَ أَبُوهُمْ): لمن حضره (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) هاجت ريح فجاءت برائحة قميصه من مسيرة ثمانية أيام (لَوْلا أَن تُفَنِّدُونِ) أي: لولا تسفهوني وتنسبوني إلى نقصان عقل للهرم لصدقتموني وجواب لولا محذوف (قَالُوا): الحاضرون، (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ): لفي خطئك القديم من حبِّ يوسف (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ) أى: البريد قال البصريون: تقديره لما ظهر مجيء البشير فأضمر الرافع قال بعضهم: البشير يهوذا الذي جاء بقميصه ملطخًا بدم كذب (أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ):(2/248)
عاد (بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ): بتعليمه (مَا لاَ تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ): يعقوب (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي): أخَّر الدعاء إلى السحر أو إلى ليلة الجمعة أو إلى أن يستحل لهم من يوسف، (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ): في موضع خارج عن البلد حين استقبلهم بوسف وأهل مصر (آوَى): ضم (إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ): أباه وخالته فإن أمَّه ماتت وعن بعض السلف أن أمه في حياة، (وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ): من القحط والمكاره فالاستثناء متعلق بالدخول المكيف بالأمن، (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ): السرير (وَخَرُّوا لَهُ سُجًدًا): أبواه وإخوته وكان سجود التعظيم شائعًا من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام فحرم في هذه الملة الغراء وجعل السجود مختصًّا بجناب الرب تعالى شأنه قال بعضهم: المراد من السجود الانحناء، وعن بعضهم معناه: خروا لله تعالى سجدًا شكرًا له والأول أصح، (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قبْلُ): الشمس والقمر أبواي وأحد عشر كوكبًا إخوتي (قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا): صدقًا وكان بين رؤياه وتأويله أربعون سنة أو ثمانون سنة أو خمس وثلاثون سنة أو ثماني(2/249)
عشرة سنة والله تعالى أعلم، (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ): ولم يذكر الْجُبَّ لأنه وعد مع إخوته لا تثريب عليكم بعد هذا، وأيضًا عد لهم نعمًا غير معلومة لهم وإخراجه من الْجُبِّ معلوم لإخوته (وَجَاءَ بِكُم مِّنَ البَدْوِ): البادية فإنهم كانوا أهل بادية ومواشي (مِنْ بَعْدِ أَن نَزَغَ): أفسد (الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ): تدبيره (لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ): بالأمور (الحَكِيمُ): الذي لا يفعل إلا على وفق الحكمة (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) أي: بعضه وهو ملك مصر (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ): بعض تعبير الرؤيا (فَاطِرَ): مبدع (السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، منصوب بالمنادى (أَنتَ وَلِيِّي): ناصري ومتولي أمري (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي): اقبضني (مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ): من آبائى وغيرهم سأل الوفاة على الإسلام واللحاق(2/250)
بالصالحين إذا حان أجله وانقضى عمره وكلام بعض السلف وهو أنه ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف عليه السلام يشعر بأنه سأل منجزًا وهو جائز في ملتهم ويحتمل أن مراده أنه أول من سأل الوفاة على الإسلام كما أن نوحًا عليه السلام أول من قال (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ) الآية [نوح: 28]، وقالوا: أقام يعقوب عند يوسف أربعًا وعشرين سنة ثم مات وحمل جسده الشريف عند أبيه إسحاق عليه السلام بالشام، (ذَلِكَ) أي: نبأ يوسف (مِنْ أَنبَاءِ الغَيْبِ نوحِيهِ إِلَيْكَ): يا محمد (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ): لدى إخوة يوسف (إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ): عزموا على أمرهم (وَهُمْ يَمْكرونَ). بيوسف وهذا كالدليل على أنه بالوحي لأنه لم تكن عندهم وما كان أحد من قومك يعلمه فيعلمك (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ): على إيمانهم (بِمُؤْمِنِينَ): لعنادهم وعدم إرادة الله تعالى قال بعضهم: نزلت حين سألت قريش واليهود عن قصة يوسف فلما أخبرهم رجاء إيمانهم، (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ): على تبليغ الوحي (مِنْ أَجْرٍ): من جعل، (إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ): عظة، (لِلْعَالَمِينَ): عامة لا تختص بهم.
* * *
(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)(2/251)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
* * *
(وَكَأَيِّنْ) أي: وكم، (مِنْ آيَةٍ): دلائل دالة على وجوده وصفاته الحسني (فِي السَّمَاوَات وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا): على الآيات يشاهدونها (وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ): لا يتفكرون فيها (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ): في الإقرار بخالقيته (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ): لعبادتهم غيره إنهم إذا قيل لهم: من خلق السماوات(2/252)
والأرض؟ قالوا: الله وهم يشركون به، وعن الحسن البصري أن هذا في المنافقين قال بعض السلف: ثمة شرك آخر لابد أن تشعره وهو الرياء (أَفَأَمِنُوا أَن تَأتِيَهُمْ غَاشيَةٌ منْ عَذَابِ اللهِ): عقوبة تغشاهم وتشملهم (أَوْ تَأتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغتَةً): فجأَة مفعول مطلق (وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ): فلا يستعدون لها، (قُلْ هَذِهِ) أي: الدعوة إلى التوحيد (سَبِيلِي): طريقتي (أَدْعُو إِلَى اللهِ): بيان وتفسير للسبيل (عَلَى بَصِيرَةٍ): معرفة وحجة (أَنَا): تأكيد لضمير أدعو، (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) أى: من آمن بى أيضًا يدعوا إلى الله تعالى، قال بعضهم: تم الكلام عند قوله: (إلى الله) و (على بصيرة) خبر (أنا) وما عطف عليه (وَسُبْحَانَ اللهِ) أي: قل أنزهه تنزيهًا عن الشريك (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ): يا محمد (إِلَّا رِجَالًا): لا نساء ولا ملائكة (نُوحِي إِلَيْهِمْ): كما أوحينا إليك (مِّنْ أَهْلِ القُرَى) فإن أهلها أعقل من أهل البادية، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ): من الأمم المكذبة فيعتبروا (وَلَدَارُ): الحياة (الآخِرَةِ خَيرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا): الشرك، (أَفَلَا تَعْقِلُونَ):(2/253)
يستعملون عقولهم فيؤمنوا (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) متعلق بما دل عليه الكلام كأنه قيل: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا فتراخى نصرهم وتطاول عهدهم في الكفار حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم، أو استيأسوا من نصرهم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) فيه قراءتان التخفيف والتشديد وعلى الأول: الضمائر كلها لمن أُرسل الرسل إليهم فإن الرسل دال عليهم وحاصله أنهم حسبوا كذب الرسل في الوعيد والوعد والضمائر للرسل يعني قد خطر بخواطرهم خلف الوعد من الله تعالى في نصرهم، وعن ابن عباس رضى الله عنهما لأنَّهُم كانوا بشرًا وتلا: (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ) [البقرة: 214]، وقيل معناه: ظنوا كذب القوم بوعد الإيمان وخلف وعدهم وعلى الثاني، الضمائر للرسل والظن بمعنى اليقين وهو شائع أي: أيقنوا تكذيب القوم لهم أو بمعناه أي: ظنوا أنَّهم يكذبهم من آمن بهم أيضًا يرتد عن دينهم لاستبطاء النصر (جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نشَاء) وهم أتباع الأنبياء، (وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا) أي: عذابنا (عَنِ القَوْمِ الُمجْرِمِينَ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ): قصص المرسلين مع قومهم أو قصص يوسف وإخوته (عِبْرَةٌ): عظة (لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ): القرآن، (حَدِيثًا يُفْتَرَى): يختلق، (وَلَكِن) كان (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ): من الكتب السماوية (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ): يحتاج إليه العباد من أمر الدين (وَهُدًى): من الضلال (وَرَحْمَةً): ينال بها خير الدارين (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ): يصدقونه.
اللهم اجعلنا منهم.
* * *(2/254)
سورة الرعد مكية أو مدنية
وهي ثلاث وأربعون آية وست ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
* * *(2/255)
(المر) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنا الله أعلم وأرى (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) أي: تلك الآيات التي في هذه السورة آيات القرآن، (وَالّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ): القرآن كله، (الحَقُّ) لا هذه السورة وحدها وهو خبر والذي (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ) لما فيهم من العناد، (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) أي: أساطين جمع عماد أو عمود (تَرَوْنَهَا)، صفة لـ عمد، وعن بعض السلف أن لها عمدًا ولكن لا ترى، أو استئناف للاستشهاد لرؤيتهم للسماوات كذلك فضمير المؤنث حينئذ للسماوات (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)،(2/256)
قال السلف: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، وقيل: علا عليه (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ذللهما لما أراد منهما (كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مسَمًّى) أي: لدرجاتهما(2/257)
ومنازلهما ينتهيان إليها لا يجاوزانها، أو إلى وقت معلوم وهو فناء الدنيا (يدَبِّرُ الأَمْرَ): جميع أمور ملكوته (يُفَصِّلُ الْآيَاتِ): يوضحها، وينزلها مفصلة (لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ): لكي تتفكروا فيها فتعلموا كمال قدرته بحيث لا يعجز عن الإعادة والجزاء (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ): بسطها، (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ): جبالاً ثوابت (وَأَنهَارًا): ضمها مع الجبال فإنها تخرج من الجبال أكثرها (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)، ظرف لقوله: (جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي: صنفين أسود وأبيض، أكبر وأصغر، حلوًا وحامضًا قيل: أول ما خلق العالم خلق من كل نوع من الأشجار اثنين فقط كما خلق الإنسان من زوجين (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ): يلبسه مكانه فيصير مظلمًا بعدما كان مضيئًا، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ): فيما فيها من الصنائع والبدائع، (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ متَجَاوِرَاتٌ): بقاع مختلفة مع كونها متجاورة متلاصقة طيبة إلى سبخة صلبة إلى رخوة ومن غير ذلك وهي دالة على قدرته واختياره (وَجَنَّاتٌ): بساتين، (مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ) هي: نخلة لها رأسان وأصلهما واحد (وَغَيْرُ صِنْوَان): مختلفة الأصول (يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ): في الثمر طعمًا وشكلًا، ورائحة وقدرًا مع أنها تستمد من طبيعة واحدة وهي الماء، بل وبعضها من أصل واحد فسبحانه من قادر ومختار (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لقَوْمٍ يَعْقِلُونَ): يستعملون عقولهم، (وَإِن تَعْجَبْ):(2/258)
يا محمد من إنكارهم النشأة الآخرة، (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) أي: فعجبت في موضعه حقيق بأن تتعجب، أو أن تعجب من تكذيبهم إياك، بعد ما حكموا بصدقك فاعجب(2/259)
من قولهم أو إن تعجب من شيء فاعجب من قولهم: (أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا) مرفوع بأنه بدل من قولهم أو منصوب به وإذ نصب بما دل عليه قوله: (أَئنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ): هم الكاملون في الكفر (وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ): يوم القيامة يسحبون بها في النار، (وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ): بالعقوبة، (قَبْلَ الحَسَنَةِ) أي: العافية سألوا نزول العذاب استهزاء أو يطلبون النقمة لا النعمة كقولهم: (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) (وَقَدْ خَلَتْ) مضت (مِن قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ): عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لم يعتبروا (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ) أي: لذو إمهال وستر (عَلَى ظُلْمِهِمْ): على كفرهم ومعاصيهم، وإن فسرت المغفرة بالعفو فعلى ظلمهم حال ولابد أن يفسر الظلم بمعاصي غير الكفر، ولا يناسب المقام فإنه إن(2/260)
فسرت بما يعمه فلا يخفى أن العفو من غير توبة فلا يصح بمذهب، وإن كان بعد التوبة فلا يلائم، لأنَّهُم بعد التوبة ليسوا على الظلم (وَإِنّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقَابِ): لمن شاء (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا): هلا، (أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ)، لم يعتدوا بالآيات الباهرات واقترحوا مثل ما أوتي موسى وعيسى، (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ): لا عليك الإتيان بما اقترحوا كجعل الصفا ذهبًا (وَلِكُل قَوْمٍ هَادٍ): نبي مخصوص يدعوهم إلى الهدى، أو معناه أنت منذر ولكل قوم هاد يهديهم إذا أراد، وهو الله، وعن بعض السلف الهادي علي بن أبي طالب - رضى الله عنه - وأيضًا في ذلك حديث؛ لكن قيل فيه نكارة شديدة.
* * *
(اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)(2/261)
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلله يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
* * *(2/262)
(اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى) من ذكر وأنثى سوى الخلق أو ناقصه، واحد وأكثر (وَمَا تَغِيضُ): تنقص، (الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ): في مدة الحمل أو عدد الولد أو المراد نقصان غذاء الولد وازدياده وهو دم الحيض وغاض وازداد جاءا لازمين ومتعديين، فإن كانا لازمين تعين أن يكون ما مصدرية (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ): بقدر معلوم وحد لا يجاوزه، وعنده ظرف للمقدار، (عَالِمُ الغَيبِ وَالشَّهَادَةِ)، ما غاب عن الخلق وحضر (الكَبِيرُ): العظيم القدر، (الْمُتَعَالِ): المستعلي على كل شيء أو متعال عما لا يليق بكماله (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) كما يحيط علمه بعلانيته يحيط بسره (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ): طالب للخفاء، (وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ): بارز به يراه كل أحد، وهو إما عطف على من أو على مستخف على أن من في معنى الاثنين كأنه قال: سواء منكم اثنان مستخف وسارب، (له) الضمير لمن، أي: لمن أسر وجهر واستخفى وسرب (مُعَقِّبَاتٌ): ملائكة يعقب بعضهم بعضًا في الليل والنهار (مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ): ملكان من قدامه وورائه (يَحْفَظُونهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ): من بأسه وبلائه، أو من أجل أمر الله وبإذنه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه وعن بعض السلف المعقبات الحرس حول السلطان يحفظونه بزعمهم من أمر الله قيل: مراده بهذا أن حرس الملائكة تشبه حرس هؤلاء لملوكهم (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ): من النعمة أو النقمة (حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ): من(2/263)
الأحوال الجميلة أو القبيحة وقد ورد " قال الرب: وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجال ببادية كانوا على ما كرهته من معصيتي ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي ما يحبون من رحمتي " (وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ): لا راد له (وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ): يلي أمرهم فيدفع عنهم السوء (هُوَ الّذِي يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) نصبهما بالمفعول له بتقدير إرادة خوف وطمع، أو التأويل بالإخافة والإطماع، وعن بعض السلف الخوف للمسافر والطمع للمقيم (وَيُنْشِئُ): يخلق، (السَّحَابَ الثِّقَالَ): من كثرة الماء، (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ) هو اسم لهذا الصوت أو لملك موكل بالسحاب (بِحَمْدِهِ): متلبسًا بحمده (وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ): من خوف الله تعالى، (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا): فيهلك، (مَن يَشَاءُ وَهُمْ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ) يكذبون آياته ورسله، والواو للحال أو للعطف نزلت في كافر قال: مم ربك؟ من ذهب أو فضة أو لؤلؤ، وهو يجادل إذ أخذته صاعقة فأحرقته (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ): الحول أو القوة أو الأخذ أو المحال المماحلة وهي شدة(2/264)
المماكرة والمكائدة (له): لله (دَعْوَةُ الحَقِّ): دعوة الحق التوحيد، وقيل: معناه العبادة والدعاء الحق لا الباطل، كان له لا لغيره (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ): الأصنام، (مِن(2/265)
دُونِهِ): من دون الله - تعالى، أو المراد من الذين الأصنام، أي: الأصنام الذين يدعونهم من دون الله (لاَ يَسْتَجِيبُونَ) أي: الأصنام (لَهُمْ): لعبادهم، (بِشَيْء إِلَّا كَبَاسِطِ): إلا استجابة كاستجابة من بسط (كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ): يطلب منه أن يبلغ، (فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ) لأن الماء جماد لا يشعر بدعائه ولا يقدر أن يصل إلى فيه كالأصنام وعن بعض السلف كمثل الذي يناول الماء من طرف البئر بيده وهو لا يناله أبدا، فكيف يبلغ فاه؟! وعن بعض معناه مثلهم كمثل من بسط كفيه ناشرًا أصابعه والماء لا يبقى في الكف إذا نشرت الأصابع (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ): فى ضياع لا منفعة فيه أو ما دعاؤهم ربّهم إلا في ضلال؛ لأن أصواتهم محجوبة عن الله تعالى (وَلله يَسْجُدُ): ينقاد ويخضع (مَن فِي السَّمَاوَاتِ): الملائكة، (وَالأَرْضِ): الثقلين (طَوْعًا وَكَرْهًا) نصبهما بالمفعول له أو بالحال قيل: المراد من السجدة وضع الجبهة وهو من المؤمنين بالطوع ومن الكفرة وقت الضرورة قيل: اللفظ عام والمراد منه الخصوص (وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ): في هذين الوقتين يسجد ظلال الكافر والمؤمن بكيفية لا تُعرف، وهل يبعد أن يخلق الله - تعالى - في الظلال عقولاً يسجد لخالقه كما خلق في الجبال وتجلى له والمأوَّلة يأولونها إلى تصريفه إياها بالمد والتقليص فقالوا: تخصيص الوقتين لأن المد والتقليص فيهما أظهر والأظهر أن بالغدو ظرف ليسجد والتخصيص لأنهما أشرف أوقات العبادة أو المراد بهما الدوام (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ) أجاب عنهم فإنهم مضطرون إلى هذا(2/266)
الجواب (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) ألزمهم بأنكم [تتخذون] الأصنام ربَّا مع أنكم تُسلِّمون أن الله - تعالى - رب السمماوات والأرض (لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا): لا يقدرون على أن ينفعوا أنفسهم ويدفعوا عنها ضرًّا، فكيف يملكون لكم؟! (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ): فلا يستوي المؤمن والكافر، وقيل المراد: هل يستوى الإله الغافل عنكم والإله المطلع على أحوالكم؟، (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ) فلا يستوي الكفر والإيمان، (أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكَاءَ): بل أجعلوا والهمزة للإنكار، (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) صفة لشركاء، (فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ): خلق الله وخلق الشركاء، (عَلَيْهِمْ) أي: ما اتخذوا شركاء خالقين حتى يتشابه عليهم الأمر، فيقولوا: هؤلاء خالقون كما أن الله - تعالى - خالق فاستحقوا العبادة أيضًا، بل اتخذوا شركاء من أعجز الخلق، (قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ): وحده لا شريك له فلا تشركوا في عبادته غيره، (وَهُوَ الْوَاحِدُ): بالألوهية، (الْقَهَّارُ): الغالب، (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ) جمع واد، وهو موضع يسيل فيه الماء، فنسبة السيل مجاز للمبالغة، (بِقَدَرِهَا) أي: أخذ كل واد بحسبه، فالكبير يسع(2/267)
الكثير، والصغير يسع القليل، قيل: بمقدارها الذي علم الله أنه نافع، (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا) أي: الزبد الذي يظهر على وجه الماء من غليانه، (رَابِيًا): مرتفعًا على وجه السيل، (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ) أي: جواهر الأَرض كالذهب والفضة والنحاس وغير ذلك، (ابْتِغَاءَ): طلب، (حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ): كالأواني وآلات الحرث والحرب، (زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي: مما توقدون عليه زبد مثل زبد الماء ومن للابتداء أو للتبعيض، (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ) أي: مثلهما، فالحق كالماء الذي ينتفع به الناس بقدر وسع أنهارهم وأوديتهم، ويمكث في الأرض وكالجواهر الأرضية المنتفعة بما في صواغ الحلي والأمتعة عنها ويدوم نفعها والباطل كالزبد الذي ليس له نفع ويزول بسرعة وإن علا بعض الأحيان على الماء الصافي وعلى الجواهر حين أذيبت، وعن بعض السلف أراد من الماء القرآن، ومن الأودية القلوب احتملت القلوب منه على قدر يقينها وشكها فأما الشك فلا ينفع معه العمل وأما اليقين فينفع الله به أهله، وقالوا أيضًا: العمل السيئ يضمحل عن أهله كالزبد لا نفع له ولا يبقى وأما من عمل بالحق كان له ويبقى كما يبقى الماء الصافي والجواهر الخالصة، (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً) أي: يرمى به السيل منصوب على الحال، (وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ): كالماء الصافي وخلاصة الفلزات، (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) وبه ينتفع(2/268)
الخلق، (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ): للإيضاح والتبيين، (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ) وهم المؤمنون، (الْحُسْنَى): المثوبة الحسني وهي الجنة مبتدأ، والذين استجابوا خبره، (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) وهم الكفرة مبتدأ وقوله (لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) خبره، أي: لو كان لهم جميع الدنيا ومثله في دار الآخرة لافتدوا به للتخلص من عذابه، قيل: ضرب المثل لبيان الفريقين، فقوله: " للذين " متعلق بـ يضرب، والحسني صفة مصدر، أي: استجابوا الاستجابة الحسني، وقوله: " لو أنَّ لهم " إلخ ... كلام مبتدأ لبيان مآل الفريق الآخر، (أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ): المناقشة فيه وعدم غفر شيء من ذنبه، (وَمَأْوَاهُمْ): مرجعهم، (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) جهنم، أي: المستقر.
* * *
(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)(2/269)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
* * *
(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ): فيؤمن به، (كَمَنْ هُوَ أَعْمَى): القلب لا يعلم فلا يؤمن، والهمزة لإنكار تشابهما، (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ): العقول السليمة، (الذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ): بما أمرهم في كتابه، أو بالعهد الذي أخذ منهم حين أخرجهم من صلب آدم، (وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ): ذلك الميثاق أو مطلق الميثاق، (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بهِ أَن يُوصَلَ): من صلة الرحم والإيمان بجميع الرسل ومراعاة الحقوق، (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا): على أمر الله تعالى أو على المصائب، (ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ)، طلب مرضاته، (وَأَقَامُوا الصَّلاةَ): بحدودها وبركوعها وسجودها على الوجه(2/270)
الشرعي، (وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) يؤدون الزكاة أي: من يجب عليه، (سِرًّا وَعَلَانِيَةً): لم يمنعهم عن ذلك حال من الأحوال في الليل والنهار وفسر بعضهم بوجه يشمل صدقة التطوع وهو الأولى، (وَيَدْرَءُونَ): يدفعون، (بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي: بالصالح من العمل السيئ منه، أو يجازون الإساءة بالإحسان، إذا أذاهم أحد قابلوه باللطف، (أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ): عاقبة الدنيا وهي الجنة؛ لأنها التي ينبغي أن تكون عاقبة أهلها ومرجعهم، (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من عقبى الدار، والعدن الإقامة، أي: جنات يقيمون فيها، أو في الجنة قصر يقال له عدن له خمسة آلاف باب، أو مدينة من الجنة فيها الأنبياء والشهداء وأئمة الهدى والناس حولهم بعد، والجنات حولها، (يَدْخُلُونَهَا) صفة جنات عدن، (وَمَن صَلَحَ) عطف على فاعل يدخلون وجاز للفصل بالضمير، (مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذريَّاتِهِمْ) يعني يلحق بهم من صلح من أهلهم وإن لم يبلغ مبلغهم كرامة لهم، (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ): من أبواب منازلهم للتهنئة قائلين (سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرتمْ) متعلق بما تعلق عليه عليكم أو تقدير هذه بما صبرتم والباء(2/271)
للسببية أو البدلية، (فنعْمَ عُقْبَى الدَّارِ): جنة العدن، (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ): بعد ما أوثقوه وأقروا وقبلوا وهذا قسيم الأولين، (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ): بالكفر والمعاصي، (أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي: سوء عاقبة الدنيا وهو جهنم، (اللهُ يَبْسُطُ): يوسع، (الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ): يضيقه، (وَفَرِحُوا) أي: مشركو مكة، (بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا): فرح بطر وأشر، (وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا في): جنب، (الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ): نزر قليل مثل ما يستمتع به الراكب كتميرات.
* * *
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لله الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
* * *(2/272)
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) كما قالوا: (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء: 5]، حتى نعلم حقيقتها فنؤمن بها، (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ) كما أضلكم بأن طلبتم الآية بعد تلك الآيات البينات، (ويَهْدِي إِلَيْهِ): يرشد إلى دينه (مَنْ أَنَابَ): من أقبل إليه ورجع عن العناد وحاصل الجواب أن الله أنزل آيات بينات دالة على صدقه بأوضح وجه لكن الله تعالى هو المضل والهادي وقد أضلكم الله تعالى فلا تهتدون إلى تلك الآيات، بل وإن أنزلت كل آية ما اهتديتم بها، (الَّذِينَ آمَنوا)، بدل من " مَنْ "، (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بذِكرِ اللهِ): بالقرآن فلا يشكون فيه أو تطيب وتسكن قلوبهم عند ذكره أُنسًا به، (أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ): تسكن إليه ويزول عنها القلق، وعن ابن عباس هذا في الحلف إذا حلف المسلم في شيء يشك أخوه المسلم فيه اطمئن قلبه، (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) مبتدأ، (طُوبَى لَهُمْ) خبره وهو مصدر لطاب كبشرى قلبت ياؤه واوًا [لضمة ما قبلها] (1)، عن ابن عباس - رضى الله عنهما - أي: فرح وقرة عين، أو اسم الجنة بلغة الحبشة، أو شجرة في الجنة، وذكروا في وصفها ما يطول الكتاب بذكره، (وَحُسْنُ مَآبٍ) أي: حسن النقلب، (كَذَلِكَ): مثل ذلك الإرسال العظيم الشأن، (أَرْسَلْناكً فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ): مضت، (مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ
__________
(1) في الأصل [والضمة ما قبلها] والتصويب من تفسير البيضاوي. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(2/273)
الذي أوحينا إليك) أي: القرآن، (وهم) الواو للحال، (يكفرون بالرحمن): بالبليغ الرحمة، لا يشكرونه، نزلت في قريش حين قيل لهم: " اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن " [الفرقان: 60]، أو في أبي جهل حين قال: إن محمدًا يدعو إلهين الله وإلهًا آخر يسمى الرحمن، (قل هو) أي الرحمن (ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب): مرجعى، (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) عن مقارها وزعزعت عن مضاجعها، (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ): حتى تتصدع وتزايل قطعًا أو شققت فجعلت أنهارًا وعيونًا، (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى)، فتسمع وتجيب وجواب لو محذوف، أي: لكان هذا القرآن ومع هذا هؤلاء المشركون كافرون به، وقال بعضهم: تقديره لما آمنوا به، فقد نقل في سبب نزوله أنَّهم قالوا: يا محمد لو سيرت لنا جبال مكة حتى يتسع أو قطعت بنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح، أو أحييت لنا الموتى كما كان لعيسى، وقيل: جواب لو ما يدل عليه وهم يكفرون بالرحمن، وقوله (قل هو ربي) بينهما اعتراض، (بَلْ لله الْأَمْرُ جَمِيعًا) هو إضراب عن معنى النفي الذي تضمنه لو أي: بل لله القدرة على كل شيء، لو يشأ إيمانهم لآمنوا به وإذا لم يشأ لا ينفعهم إتيان ما اقترحوا من الآيات، (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا): عن إيمانهم(2/274)
ولم ينقطع رجاؤهم عنه مع ما عاينوا من لجاجهم، (أن لو يشاء الله) متعلق بمحذوف، أي: علمًا منهم أن لو يشاء الله - تعالى، (لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) وقيل: متعلق بـ آمنوا، وفسر أكثر السلف أفلم ييأس بـ أفلم يعلم، فقيل: هو بمعنى العلم في لغة النخع، أو هوازن، وقيل فسروه به؛ لأن اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون وقرأ جماعة من الصحابة والتابعين أفلم يتبين الذين آمنوا، قيل: نزلت حين أراد المسلمون أن تظهر آية مما اقترحوا، ليجتمعوا على الإيمان، (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا): من خبائث أعمالهم، (قارعة): داهية تفزعهم وتقلقهم، (أو تحل قريبًا من دارهم) أو تصيب القارعة مَن حولهم، كما قال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى) الآية [الأحقاف: 27]، (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ): الموت أو القيامة وعن بعض السلف، أن المراد من الذين كفروا أهل مكة ومن القارعة السرية التي يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، أو عذاب من السماء ينزل إليهم، أو تحل أنت يا محمد بنفسك قريبًا من دارهم وتقاتلهم حتى يأتي وعد الله - تعالى - أي: فتح مكة، (إن الله لا يخلف الميعاد).
* * *
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لله شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)(2/275)
لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
* * *
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا): أطلت لهم المدة، (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) أي: عقابي إياهم وهذا تسلية لنبينا عليه السلام، (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ): رقيب، (عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ): من خير وشر فيحفظها ويجازيها والخبر محذوف، أي: كمن لا يكون كذلك والهمزة لإنكار المساواة، (وَجَعَلُوا لله شُرَكَاءَ) عطف على كسبت أو استئناف، وقيل: نقدر الخبر المحذوف لم يوحدوه فقوله وجعلوا عطف عليه، وقيل تقديره أفمن هو قائم على كل نفسٍ) موجود وقد جعلوا لله شركاء فعلى هذا الواو للحال، (قُلْ سَمُّوَهُمْ)(2/276)
بأسماء من القادر أو الرازق، أو الخالق، أو القاهر أو غيرها من مثل أسماء الله الحسنى حتي تعرفوا أنهم غير مستحقين للعبادة، (أَمْ)، أي: بل، (تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ)، أي: تخبرون الله تعالى - بشركاء لا يعلمهم، (في الْأَرْضِ) وهو العالم بكل شىء، (أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أي: أم تسمونهم شركاء بظاهر من القول لا حقيقة له أصلاً، (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ): كيدهم وما هم عليه من الضلال، (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ): عن طريق الهدى، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا): بالقتل والأسر وغيرهما، (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ وَاقٍ): يقيهم ويمنعهم منه، (مَثَلُ الجَنَّةِ) أي: صفتها التي هي مثل في الغرابة، (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) من الشركَ وهو مبتدأ خبره مقدر أي: فيما قصصنا عليكم مثل الجنة وقوله (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) حال من العائد المحذوف من الصلة أو هو خبر مثل الجنة كقولك: صفة زيد أسمر أو تقديره مثل الجنة جنة تجرى، (أُكُلُهَا دَائِمٌ): لا ينقطع نعيمها، (وَظِلُّهَا): كذلك، (تِلْكَ) أي: هذه الجنة، (عُقْبَى): مآل، (الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) المراد مسلموا أهل الكتاب من اليهود والنصارى، (يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ): من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه، (وَمِنَ الأَحْزابِ) أي: ومن أحزاب اليهود والنصارى، (مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ) أي: ما يخالف كتبهم أو رأيهم،(2/277)
قال بعضهم: هذا في مؤمني أهل الكتاب حزنوا بقلة ذكر لفظ الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة فلما نزل " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن " [الإسراء: 110]، فرحوا وكفر المشركون به، فقالوا: وما الرحمن، (قل): لهم، (إنما أمرت أن أعبد الله): وحده، (ولا أشرك به إليه أدعو): لا إلى غيره، (وإليه): لا إلى غيره، (مئاب): مرجعي للجزاء، يعني قل لهم: هذا شغلي وأمري حتى يعلموا أن إنكارهم إنكار عبادة الله مع ادعائهم واتفاقهم وجوبها، (وكذلك) أي: كما أنزلنا على قلبك الكتاب بلغاتهم، (أنزلناه) أي: القرآن حال كونه، (حكمًا عربيًا): حكمه مترجمة بلسان العرب، قال بعضهم: سماه حكمًا، لأنه منه يحكم في الوقائع، أو لأن الله تعالى حكم على الخلق بقبوله، (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ): بحقيقة ما معك وبطلان ما معهم، (مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ): ينصرك، (وَلَا وَاقٍ): يمنع العقاب عنك وهذا في الحقيقة وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة.
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ(2/278)
وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلله الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً): نساء وأولادًا كما هي لك، قيل: نزلت حين قال المشركون أو اليهود: ليست همة هذا الرجل إلا في النساء، (وَمَا كَانَ): ما صح، (لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ): خارقة للعادة، (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) قيل: هذا جواب لسؤالهم توسيع مكة، (لِكلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) أي: لكل مدة مضروب كتاب مكتوب بها وكل شيء عنده بمقدار، (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيثْبِتُ)، أي: ينسخ الله تعالى ما يشاء من الأقدار ويثبت منها ما يريد، عن ابن عباس رضى الله عنهما وغيره يمحو ما يشاء إلا الشقاء والسعادة والحياة، والموت(2/279)
وعن كثير من السلف: أنهم يدعون بهذا الدعاء اللهم إن كتبتنا أشقياء فامحه واكتبنا سعداء، وإن كنت كتبتنا سعداء فاثبتنا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب، ولكل وقت حكم يكتب على عباده فيمحوا ما يشاء ويثبت بنسخ ما يستصوب نسخه، وإثبات ما يقتضيه حكمته، أو فيه تقديم وتأخير تقديره لكل كتاب أي: منزل من السماء مدة مضروبة عند الله - تعالى - يمحو ما يشاء ويثبت حتى نسخت كلها بالقرآن، ويمحو الله ما يشاء من ذنوب عباده فيغفرها ويثبت بدلها الحسنات أو هو الرجل يعمل بطاعة الله تعالى ثم يعود بمعصيته فيموت على الضلالة فهو الذي يمحو، والذي يثبت ما يشاء فلا يغفرها، أو يمحو الذنوب بالتوبة ويثبت هو الرجل يعمل بطاعته ويموت عليها أو يمحو الله ما يشاء من ديوان الحفظة كالمباحات ويثبت ما يتعلق به جزاء، أو قالت: قريش حين نزلت وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ما نراك يا محمد تملك من شيء، ولقد فرغ من الأمر فأنزلت هذه تخويفًا ووعيدًا لهم، (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) هو اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير، عن ابن عباس - رضى الله عنهما - الكتاب كتابان، كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وكتاب لا يغير منه شيء، أو المراد منه علم الله - تعالى، (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ)، أي:(2/280)
كيفما دارت الحال أريناك بعض ما أوعدناهم من عذابهم، (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ): قبل نزول عذابهم، (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ): ما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة، (وَعَلَيْنَا): لا عليك، (الحسَابُ)، أي: حسابهم وجزاؤهم فلا تستعجل بعذابهم ولا يهمنك إعراضهم، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ): أرض الكفر، (نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا): بما نفتح على المسلمين من بلادهم ونزيد في دار الإسلام وما ذلك إلا من آيات نصرتهم، وقال بعضهم معناه: أولم يروا أنا نأتى الأرض ننقصها فنخربها من أطرافها ونهلك أهلها، أو ننقص أهلها وثمارها، أفلا يخافون أن نفعل بهم ذلك، أو نقصانها موت علمائها وذهاب فقهائها، (وَاللهُ يَحْكُمُ): بما يشاء، (لَا مُعَقِّبَ): لا راد (لِحُكْمِهِ) والنفي مع المنفي في موضع الحال، أي: نافذًا حكمه، (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ): فعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا، (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي: الكفار الذين من قبل مشركي أهل مكة مكروا بأنبيائهم، (فَلله الْمَكْرُ جَمِيعًا)، فإن مكر الماكرين في جنب مكر الله تعالى كلا مكر، فإنه القادر(2/281)
على ما هو المقصود منه دون غيره، أو هو خالق جميع المكر فلا يضر مكر إلا بإذنه، فلا تخف إلا من الله تعالي، (يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ)، ويعد لها الجزاء، (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ): لمن تكون الدائرة والعاقبة المحمودة لهم أو للمسلمين في الدنيا والآخرة، (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)، هم من اليهود والنصارى، فإنهم عرفوا حقيته في التوراة والإنجيل، أو من عنده علم الكتاب هو الله تعالي ويؤيده قراءة من قرأ (مِن عندِه) بكسر الميم والدال قال بعضهم المراد مؤمنوا أهل الْكِتَاب، ثم اعترض عليه بأن هذه الآية مكية ومن آمن منهم ما آمن إلا بعد الهجرة والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *(2/282)
سورة إبراهيم مكية
وهي اثنتان وخمسون آية وسبع ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
* * *
(الر كِتَابٌ) أي: هو كتاب، (أَنزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ): بدعوتك إياهم إلى ما فيه، (مِنَ الظُّلُمَاتِ): أنواع الضلال، (إِلَى النُّورِ): الهدى، (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ): بأمره وتوفيقه، (إِلَى صِرَاطِ) بدل من إلى النور، (العَزِيزِ): الغالب، (الحَمِيدِ): المستحق للحمد، (اللهِ) عطف بيان للعزيز وعلى قراءة الرفع مبتدأ خبره قوله: (الذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) أو خبر مبتدأ محذوف والذي صفته، (وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) والويل اسم معنى كالهلاك، (الَّذِينَ(2/283)
يَسْتَحِبُّونَ): يختارون، (الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ): يمنعون الناس عن دين الله تعالى، (وَيَبْعونَهَا عِوَجًا)، أي: يطلبون لها الاعوجاج، ويقولون للناس: إنَّهَا معوجة بحذف الجار وإيصال الفعل، (أُوْلَئِكَ في ضَلالٍ بَعِيدٍ): عن الحق ووصفه بالبعد مع أنه في الحقيقة للضال للمبالغة، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا بِلِسَانِ): بلغة، (قَومِهِ): الذي هو بعث فيهم، (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ): ما أمروا به فيفهموه بلا كلفة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن بعث إلى الأحمر والأسود بصرائح الدلائل، لكن الأولى أن يكون بلغة مَن هو فيهم حتى يفهموا ثم ينقلوه ويترجموه لغيرهم، (فيضِل الله من يَشَاء) أي: بعد البيان، (وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ): باتباعه، (وَهُوَ الَعَزِيزُ): الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، (الحَكِيمُ): في أفعاله فيضل من يستحق الإضلال، ويهدى من هو أهل الهداية، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا) كاليد والعصا، (أَنْ أَخْرِجْ) أي: بأن أخرج أو أن مفسرة ففي الإرسال معنى القول، (قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ): بنعمائه عليهم من فلق البحر والإنجاء من يد فرعون وغير ذلك أو بوقائعه في الأمم السالفة، (إِنَّ(2/284)
فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)، أي: ما صنعنا ببني إسرائيل أو ما نزل من البلاء على الأمم عبرة لمن يصبر على بلائه ويشكر لنعمائه، (وَإِذْ قَالَ) أي: واذكر إذ قال، (مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ) ظرف للنعمة بمعنى الإنعام وقيل بدل اشتمال من نعمة الله، (مِّنْ آلِ فِرْعَوْن يَسُومُونَكُمْ) أي: والحال أنه يبغونكم، (سُوءَ الْعَذَابِ): أفضحه وهو ثاني مفعوليه، (وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ): يتركونهن أحياء، (وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ): ابتلاء من حيث إنه أمهلهم فيه أو ذلكم إشارة إلى الإنجاء بمعنى النعمة.
* * *
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ(2/285)
أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
* * *
(وَإذْ تَأَذَّنَ) عطف على إذ أنجاكم أي: أذن وأعلم، (رَبُّكُمْ): فقال، (لَئِنْ شَكَرْتُمْ): يا بني إسرائيل نعمتي فأطعتموني، (لَأَزِيدَنَّكُمْ): في النعمة، (وَلَئِن كَفَرتمْ): نعمني، (إِن عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، لمن كفر نعمتي، (وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ)، عن خلقه وشكرهم، (حَمِيدٌ)، مستحق للحمد في ذاته وإن لم يحمده الحامدون، (أَلَمْ يَأتِكُمْ نَبَأُ الذِينَ مِن قَبْلِكُمْ)، من الكفار كلام مستأنف من الله تعالى أو من تمام كلام موسى والأول أظهر فقد نقل أن قصة عاد وثمود ليست في التوراة، (قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي: بعد هؤلاء من الأمم المكذبة، (لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلا اللهُ): لا يحصي عددهم لكثرتهم إلا الله تعالى ولهذا قال بعض السلف: كذب(2/286)
النسَّابون، (جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ): المعجزات الواضحات، (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ)، أي: الكفار عضوها من الغيظ أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما نطقت ألسنتهم به من قولهم: (إنا كفرنا بما أرسلتم به)، أي: هذا جوابنا ليس عندنا غيره أو وضعوا أيديهم على أفواههم كما يفعل ذلك من غلبة الضحك، أي: ضحكوا وتعجبوا ووضعوها عليها مشيرين للأنبياء بالسكوت أو أخذ الكفار أيدي الرسل ووضعوها على أفواه الرسل ليسكتوهم أو الرسل لما أيسوا منهم، وضعوا أيديهم على أفواه أنفسهم، وسكتوا ووضعوا الكفار أيدي أنفسهم على أفواه الرسل، ردًّا أو تكذيبًا لهم، أو منعًا لهم من الكلام، أو سكتوا عن الجواب يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب: رد يده في فيه، (وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ)، على زعمكم، (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ): موقع في الريبة، (قَالَتْ): لهم، (رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ)، أي: في تفرده بوجوب العبادة له، (شَكٌّ): فاعل الظرف، (فاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ): لا يستحق العبادة إلا من ابتدعهما من غير مثال سبق، (يدْعُوكُمْ): إلى طاعته، (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)، أي: بعض ذنوبكم الذي يُكَفَّر بالإيمان فإن المظالم لا يُكَفَّرُ بالإيمان للذمي خصوصًا، وقيل من(2/287)
صلة، وقيل بمعنى البدل، (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى): فلا يعاجلكم بالعذاب، (قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا): فمن أين لكم المتبوعية، (ترِيدُود أَنْ تَصُدُّونَا): تمنعونا، (عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ): حجة ومعجزة ظاهرة دالة على فضلكم وصحة دعواكم كأنهم اقترحوا آيةً أظهر مما جاءوا به من المعجزات، (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نحْنُ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ): في الجنس والصورة، (وَلَكِنَّ الله يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، فاختصنا بالنبوة والمتبوعية من فضل الله، (وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي: ليس هذا في وسعنا بل شيء يتعلق بمشيئة الله تعالى وإذنه، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فنحن نتوكل عليه في الصبر على معاداتكم، (وَمَا لَنَا): وأي عذر لنا في، (أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا): طرق الرشاد، (وَلَنَصْبِرَنَّ) جواب قسم محذوف، (عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) ونحن متوكلون ومن توكل على أحد فليتوكل على الله لا على غيره أو فليثبت المتوكلون على توكلهم فإنه إذا قيل للمتوكل توكل فمعناه اثبت.
* * *
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ(2/288)
عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لله جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
* * *
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) حلفوا بأن لا محالة يكون أحد الأمرين، إما إخراجكم وإما عودكم، والأنبياء ما كانوا على ملة الكفرة، فلذلك قالوا العودة بمعنى الصيرورة، (فأَوْحَى إِلَيْهِمْ) إلي الرسل، (رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ) أي: أرضهم، (مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ) أي: وعدي هذا، (لِمَنْ خَافَ مَقَامِي)، موقفه بين يدي الله في القيامة، (وَخَافَ وَعِيدِ): تخويفي وعذابي، (وَاسْتَفْتَحُوا)، استنصرت الرسل ربها على قومها وسألوا منه الفتح على أعدائهم أو استفتحت الأمم الفتح كما قالوا: (اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ) الآية أو الضمير للرسل والأمم أي: سألوا كلهم نصر المحق وهلاك المبطل، (وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ): متكبر معاند للحق كأنه قال استفتحت الرسل فنصروا وأفلحوا وخاب أو استفتح الكافر فلم يفلح وخاب، (مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّم) أي: أمامه(2/289)
وبين يديه وقيل: من وراءه حياته، (وَيُسْقَى) نقديره من وراءه جهنم يلقى فيها ويسقى، (مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ)؛ ما يسيل من جلود أهل النار من القيح والدم قيل ما يسيل من فروج الزناة يسقاه الكافر عطف بيان للماء، (يَتَجَرَّعُهُ): يتكلف جرعه يعني يشربه قهرًا، فإنه لا يضعه في فمه حتى يضربه الملك بمطراق من حديد، [وهو صفة لـ ماءٍ] (1) أو حال من ضمير يسقى، (وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ): لا يقارب أن يسيغه، فكيف يكون إلا ساغه وهي جواز الشراب على الحلق بسهولة، (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ) أي: أسبابه من الشدائد، (مِنْ كُلِّ مَكَانٍ): من جميع جوانبه وقيل: كل مكان من أعضائه، (وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ): ليستريح، (وَمِن وَرَائِه) بين يديه، (عَذَابٌ غَلِيظٌ) أي: له عذاب آخر أدهى وأمر، فإن أنواع عذاب الله تعالى لا يحصيها إلا هو، (مَثَلُ الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) مبتدأ، (أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ)، خبره أو تقديره فيما يقص عليكم مثل الذين كفروا وقوله أعمالهم كرماد مستأنفة كأنه قيك: كيف أعمالهم؟ فقال: أعمالهم كرماد، أو أعمالهم بدل وكرماد خبره، (اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ) العصف اشتداد الريح فهو في المبالغة كنهاره صائم يعني لا ينتفعون بأعمالهم ولا يجدونها كرماد ذرته الريح هل يجد أحد منه ذرة، (لا يَقْدِرُونَ): في القيامة، (مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ): لحبوطه، (ذَلِكَ) إشارة إلى عدم وجدان أعمالهم،
__________
(1) زيادة من تفسير البيضاوي.(2/290)
(هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ) فإنه الغاية في البعد عن الحق، (أَلَمْ تَرَ): يا محمد والمراد خطاب أمته، (أَنْ الله خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ) لا بالباطل في خلقه حكم ومصالح، (إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) يعدمكم، (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ): يخلق خلقًا آخر مكانكم أطوع منكم فإن من قدر على خلق السماوات والأرض قدر على مثل ذلك، (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ): بمتعسر ومن كان كذلك فحقيق بأن يعبد رجاء لثوابه وخوفًا من عقابه، (وَبَرَزُوا لله جَمِيعًا): خرجوا من قبورهم إلى الله وظهروا، (فَقَالَ الضُّعَفَاءُ) الأتباع، (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا): رؤسائهم الذين استكبروا عن عبادة الله - تعالى -، أو تكبروا على الناس، (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا): في الدين جمع تابع، (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ)، دافعون، (عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ) حال ومن للتبيين، (مِنْ شَيْءٍ)، مفعول ومن للتبعيض، (قَالُوا) أي: الرؤساء جوابًا عن الضعفاء، (لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ) أي: لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم لكن حقت كلمة العذاب على الكافرين، أو لو هدانا الله ووفقنا للإيمان لهديناكم، أي: إنما أضللناكم لأنا كنا على الضلال، (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا) هما مستويان علينا، (مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ): مهرب نقل أن بعض أهل النار قالوا لبعضهم: تعالوا نبكي ونتضرع، فإنما أدركوا الجنة بالبكاء والتضرع، فلما(2/291)
رأوا ذلك لا ينفعهم، قالوا: تعالوا نصبر فإنما أدركوها بالصبر فصبروا صبرًا لم ير مثله، فلما لم ينفعهم قالوا: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ).
* * *
(وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ (27)
* * *
(وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ): لما فرغ منه ودخل أهل الجنة الجنة، والنار النار، (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ): وعدًا من حقه الإنجاز أو أنجزه وهو الوعد(2/292)
بالبعث وأن الناجي من اتبع الرسل، (وَوَعَدتكُمْ) إنه غير كائن والناجي عابد الصنم، (فَأَخْلَفْتُكُمْ)، كما قال (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا)، (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ): ليس لي عليكم دليل ولا حجة، أو ليس لي تسلط فألجئكم إلى الآثام، (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ): لكن دعوتكم، (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ): حيث أجبتموني، وما أطعتم ربكم مع ظهور حجته، (مَّا أَنَا بِمصْرِخِكمْ): بمغيثكم، (وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ): بمغيثي، (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ)، أي: إني جحدت وتبرأت أن أكون شريكًا لله - تعالى -، فما مصدرية، ومن متعلقة بـ أشركتموني، أي: كفرت اليوم بإشراككم إياي في الدنيا، وقيل: كفرت بسبب إشراككم إياي في الدنيا، وقيل: ما بمعنى مَن، ومن متعلقة بـ كفرت، أي: كفرت قبل إشراككم، أي: حين أبيت السجود بالذي أشركتمونيه وهو الله تعالى، (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ابتداء كلام من الله، أو تتمة كلام إبليس، (وَأُدْخِلَ) والمُدْخِل الملائكة، (الَّذِينَ آمَنُوا(2/293)
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أى: أدخل بأمر الله تعالى وإذنه، (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ): ويحيي بعضهم بعضًا، والملائكة تحييهم بالسلام، (أَلَمْ تَرَ كيْفَ ضَرَبَ اللهُ) أي: قصد، (مَثلاً): ووضعه، (كَلِمَةً طَيِّبَةً) هي كلمة التوحيد، ونصبها بتقدير جعل كلمة، ويكون تفسيرًا لقوله ضرب الله، (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ): هي النخلة أو شجرة في الجنة، (أَصْلُهَا ثَابِتٌ): في الأرض، (وَفَرْعُهَا): غصونها ورأسها، (فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي): هذه الشجرة، (أُكُلَهَا): ثمرها، (كُلَّ حِينٍ) عينه الله تعالى لإثمارها، أو صيف وشتاء، صباح ومساء، (بِإِذْنِ رَبِّهَا): بإرادة خالقها وكلمة التوحيد كشجرة أصلها في أرض قلب المؤمن، وثمرها صوالح أعمال المؤمن، وفرعها في السماء، يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء، والشجرة لا تكون شجرة إلا بعرق وأصل وفرع، كذلك الإيمان لا يتم إلا بتصديق وإقرار وعمل، (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) فإن فيها زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني، (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ): هى الشرك، (كَشَجَرَةٍ) أي: كمثل شجرة، (خَبِيثَةٍ) وهي الحنظلة، (اجْتُثَّتْ)(2/294)
اقتلعت وأخذت جثتها بالكلية، (مِن فَوْقِ الأَرْضِ) لأن عروقها قريبة منه، (مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) استقرار، فإن الكفر لا أصل له، ولا يصعد للكافر عمل، (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ): بالحجة عندهم، (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فلا يزلون عنه بحال، (وَفي الْآخِرَةِ): في القبر، عن ابن عباس، من دام على الشهادة في الدنيا، يلقنه الله تعالى إياها في قبره، (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ): لا يلقنهم إياها في قبورهم، فيقولون في جواب الملكين لا ندري، (وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ)، ولا اعتراض.
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لله أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32)(2/295)
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ) أي: نفس نعمته، (كُفْرًا) فإن كفار قريش أنعم الله - تعالى - عليهم بمحمد - عليه الصلاة والسلام - وغيره من النعم، فكفروا ذلك، فسلبت منهم فبقوا مسلوبي النعمة، حاصلاً لهم الكفر بدل النعمة، وقحطوا وأسروا وقتلوا، أو بدلوا شكر نعمته كفرًا بأن وضعوه مكانه، (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ): الذين اتبعوهم، (دارَ البَوَارِ): الهلاك، (جَهَنَّمَ) عطف بيان، (يَصْلَوْنَهَا): يدخلونها حال، (وَبِئْسَ القَرَارُ) أي: بئس المقر جهنم، (وَجَعَلُوا لله أَندَادًا) أمثالاً، (لِّيُضِلوا) الناس، (عَن سَبِيلِهِ) عن دينه، والإضلال نتيجته فجعل غرضًا مثل لدوا للموت، (قُلْ تَمَتَّعُوا) بلذاتكم، (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) والأمر للتهديد، (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا) أي: ليقيموا (الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً) منصوبان بالظرفية، أي: وقتي سر(2/296)
وعلانية، أو على المصدر، أي: اتفاقهما أو على الحال، أي: ذوي سر وعلانية، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ) فيشتري المقصر ما يتدارك به تقصيره، (وَلَا خِلَالٌ) لا مودة، يعني مودة تكون بميل الطبيعة لكن مودة المتقين لما كانت لله تنفعهم.
(اللهُ) مبتدأ، (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) خبره (وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمَرَاتِ) أي: بعضها، (رِزْقًا) مفعول له أو حال أو مصدر، فإن أخرج بمعنى رزق، (لَّكُمْ وَسخَّرَ لَكمُ الفلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ) بإرادته، (وَسخَّرَ لَكم) لأجل انتفاعكم، (الأَنْهَارَ وَسخَّرَ لَكم الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) سراجًا ونورًا وحسبانًا وغير ذلك، (دَائِبَيْنِ) وهو مرور الشيء على عادة مطردة، يعني: يجريان لمصالح العباد دائمًا، (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله، (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ) من تبعيضية، (مَا سَأَلْتُمُوهُ) بلسان القال والحال، (وَإن تَعدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا) لا تطيقوا عدها فضلاً عن القيام بشكرها، (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ) على النعمة بترك شكرها، (كَفَّارٌ) لها وقيل: يشكر غير منعمه ويجحده.
* * *
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي(2/297)
زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لله الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
* * *
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ) مكة شرفها الله - تعالى، (آمِنا) ذات أمن، يذكر الله كفار مكة أنه إنما وضعت أول ما وضعت على عبادة الله وحده، (وَاجنبْنِي) بعدني، (وَبَنِيَّ) المراد أبناؤه من صلبه، (أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ) أسند إلى السبب، (فَمَن تَبِعَنِي) على ديني، (فَإِنَّهُ مِنِّي) بعضي لفرط اختصاصه بي، (وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تقدر أن تغفر له، ولا يجب عليك شيء، قيل: معناه ومن عصاني فيما دون الشرك أو إنك غفور بعد الإنابة، (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) بعضها أي: إسماعيل، (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) أي: مكة، (عِندَ بَيْتِكَ الُمحَرَّمِ) الذي في علمك أنه يحدث في ذلك(2/298)
الوادي، قال بعض المفسرين: هذا دعاء بعد بناء البيت بعد الدعاء الأول بزمان، (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) أي: أسكنتهم كي يقيموا الصلاة عند بيتك، وتوسيط النداء للإشعار بأنها المقصودة بالذات والغرض من إسكانهم، (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) أفئدة من أفئدتهم، (تَهْوِي) تسرع، (إِلَيْهِمْ) شوقًا، وعن السلف لو قال: أفئدة الناس لازدحم إليه فارس والروم والناس كلهم، ولكن قال: من الناس فاختص به المسلمون، (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) نعمتك وقد استجاب الله دعاءه، (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ) فلا حاجة إلى الطلب لكنا ندعوك إظهارًا للعبودية، أو ما نخفي من الوجد بإسماعيل وأمه، حيث أسكنتهما بواد غير ذي زرع، وما نعلن من الدعاء (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ) صفة شيء، (وَلَا فِي السَّمَاءِ) هو من تتمة كلام إبراهيم، أو مبتدأ من الله، (الحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الكِبَرِ) أي: وأنا كبير وآيس من الولد، (إِسْمَاعِيلَ) وهو في تسع وتسعين، (وَإِسْحَاقَ) وهو في مائة واثنتي عشرة، وهذا دليل علي أن الدعاء بعد بناء البيت (إِنَّ ربي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) لمجيبه، (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) محافظًا عليها معدلاً لأركانها، (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) واجعل منهم من يقيمها، وهو يعلم من الله - تعالى - أن في ذريته بعضًا من الكفار، (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) فيما سألتك كله،(2/299)
أو عبادتي، (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ) وهذا قبل أن يتبين أنه عدو لله - تعالى، قيل: أراد وفقهما على الإيمان، (وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ) يثبت، (الْحِسَابُ).
* * *
(وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
* * *(2/300)
(وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ) إذ أجل المشركين وأنظرهم، (غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) والآية تسلية لمحمد - عليه الصلاة والسلام - وتهديد للمشركين، (إِنَّمَا يُؤَخرُهُمْ) يؤخر عذابهم، (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) لا تقر في أماكنها لهول ذلك اليوم، (مُهْطِعِينَ) مسرعين، أي: إلى المحشر، كما قال - تعالى: (مهطعين إلى الداع) [القمر: 8] (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) رافعيها لا ينظر أحد أحدًا، (لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) فعيونهم شاخصة يديمون النظر ولا يطرفون لمحة، (وَأَفْئِدَتُهُمْ) في ذلك اليوم، (هَوَاءٌ) خالية عن الفهم خلاء، قال بعضهم: أمكنة أفئدتهم خالية لأن القلوب لدى الحناجر قد خرجت عن أماكنها، (وَأَنذِرِ النَّاسَ) يا محمد، (يَوْمَ) مفعول ثان لأنذر، (يَأتِيهِمُ العَذَابُ) يوم القيامة، (فيقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أشركوا، (رَبَّنَا أَخِّرْنَا) أمهلنا، (إِلَى أَجَلٍ) حد من الزمان، (قَرِيبٍ) سألوا الرد إلى الدنيا، (نجِبْ) جواب للأمر، (دعْوَتَكَ وَنَتَّبِع الرُّسُلَ) فيجابون بقوله: (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ) حلفتم في الدنيا، (مَا لَكم مِّن زَوَالٍ) جواب القسم، أي: أقسمتم أنكم لا تنتقلون إلى الآخرة، ولا معاد لكم، فذوقوا وباله، (وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ) بالكفر والعصيان، (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ) من أحوالهم فما اعتبرتم، (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم، (وَعِندَ اللهِ) مكتوب، (مَكْرُهُمْ) فهو مجازيهم، (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ) في العظم، (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) مهيأ لإزالة الجبال،(2/301)
وعن بعضهم معناه: وما كان مكرهم لتزول إلخ والجبال مَثَلٌ لأمر محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن نافية واللام مؤكدة لها، ومن قرأ بفتح لام لتزول فإنْ مخففة، واللام هي الفاصلة، وعن بعضهم معناه: وإن كان شركهم لتزول كقوله تعالى: " تكاد السَّمَاوَات يتفطرن منه " الآية. وعن على - رضي الله عنه: إن الآية في نمرود حيث اتخذ تابوتًا وربط قوائمه الأربع بنسور ومكر حتى طرن إلى جانب السماء ثلاثة أيام، وغابت الدنيا عن نظره يريد محاربة إله السماء، فلما هبط إلى الأرض سمعت الجبال خفيق التابوت ففزعت ظنًّا من حدوث القيامة، فكادت تزول عن أماكنها.
(فَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) من نصرهم في الدارين، أضاف إلى المفعول الثاني إيذانًا بأنه لا يخلف الوعد أصلاً، (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي غالِب ولا يغالَب، (ذُو انْتِقَامٍ) لأوليائه، (يوْمَ) بدل من يوم يأتيهم العذاب أو ظرف للانتقام، (تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) أي: والسماوات غير السماوات فتكون الأرض من فضة والسماء من ذهب أو الأرض خبزة بيضاء يأكلها المؤمن من تحت(2/302)
قدميه، أو تكون السماوات جنانًا والأرض نيرانًا، أو المراد تغيير هيئتها تبسط وتمد مد الأديم العكاظي وتكور شمسها وتنشر نجومها وتخسف قمرها، (وَبَرَزُوا) من قبورهم، (لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) لمجازاة الله الواحد الغلاب فلا مستجار لأحد إلى غيره، (وَتَرَى المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مقَرَّنِينَ) كل كافر مع شيطان في غل أو بعض الكفار مع بعض أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم، (في الأَصْفادِ) في الأغلال متعلق بـ (مقَرَّنِينَ) أو حال من ضميره، (سَرَابِيلُهُم) قمصانهم، (مِّن قَطِرَانٍ) ما يطلى به الإبل الجربى، فيحرق الجرب بحرِّه وحدته والجلد فيصير كيًّا ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار، وهو أسود منتن، وعن بعض السلف هو النحاس المذاب، وهذا التفسير لمن قرأ قطرٍ وهو النحاس، وانٍ وهو المتناهي حره، (وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) تعلوها، (لِيَجْزِيَ اللهُ) أي: فعل بهم ذلك ليجزي الله، (كُل نَفْسٍ) من الكفار، (مَا كَسَبَتْ) أو معناه برزوا ليجزي الله كل نفس من المؤمن والكافر ما كسبت من خير وشر، (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ) لأنه لا يخفى عليه شيء ولا يشغله شيء عن شيء، (هَذَا) أي: القرآن، (بَلاغٌ) كفاية في الموعظة، (للنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ) تقديره بلاغ لينصحوا ولينذروا به، أو تقديره ولينذروا به أنزل (وَلِيَعْلَمُوا أنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ) يستدلوا بالآيات على وحدانيته، (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ذووا العقول الخالصة.
* * *(2/303)
سورة الحجر مكية
وهي تسع وتسعون آية وست ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
* * *
(الر تِلْكَ) إشارة إلى آيات السورة، (آيَاتُ الْكِتَابِ) القرآن، (وَقُرْآنٍ مُّبين) أي: تلك آيات جامعة لكونها آيات كتاب كامل، وقرآن يبين الأحكام، (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) حين موتهم، أو يوم القيامة، أو حين اجتمع بعض(2/304)
المسلمين مع الكفار في النار، فيقول الكفار معهم: ما أغني عنكم الإسلام فغضب الله - تعالى - على الكفار وأخرج المسلمين من النار، وما كافة تكفه عن الجر، فجاز دخوله على الفعل والمترتب في أخبار الله - تعالى - كالماضي في تحققه، ولذلك أجرى المضارع مجرى الماضي، فدخلت رُبَّ عليه مع أنه لا يجوز دخولها عليه، (لَوْ كَانُوا مسْلِمِينَ) حكاية ودادتهم بلفظ الغيبة كقولك: حلف بالله ليفعلن، (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) في الدنيا بدنياهم، (وَيُلْهِهِمُ) يشغلهم، (الْأَمَلُ) عن الأخذ بحظهم من الإيمان والطاعة، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) سوء عملهم وهذا من باب الإيذان بأن غضب الله - تعالى - حلَّ عليهم فلا ينفعهم نصح ناصح، وقيل: منسوخة بآية القتال، (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ) أهل، (قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ) أجل مؤقت مكتوب عند الله - تعالى - لا يهلكهم حتى يبلغوه، جيء بين الصفة والموصوف وهما لها كتاب وقرية بالواو تأكيدًا للصوقها بالموصوف، (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ)(2/305)
لا يتأخرون عنه، (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) أي: القرآن وهذا استهزاء منهم، (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي: هلا تأتينا بهم يشهدون بصدقك، قيل: هلا تأتينا بهم للعقاب على تكذيبنا لك، (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ) أجاب الله - تعالى - عنها بأن إنزالهم لا يكون إلا تنزيلاً متلبسًا بحق عند حصول الفائدة، وقد علم الله أنَّهم معرضون عن الحق، وإن شاهدوا الملائكة، قال - مجاهد: بالحق أي بالعذاب، (وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ)، أى: لو نزلنا الملائكة ما أخر عذابهم، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) من التحريف والزيادة والنقص، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ) رسلاً، (فِي شِيَع) في فرق، (الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ) حكاية حال ماضية، فإن ما لا يدخل إلا على مضارع بمعنى الحال أو ماض قريب من الحال، (مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) وهذا تسلية لمحمد - صلى الله عليه وسلم (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ) ندخل الاستهزاء والتكذيب، (فِي قُلُوبِ الُمجْرِمِينَ لاَ يُؤْمنونَ بِهِ) حال من المجرمين، أو بيان الجملة أو مثل ذلك السَّلْك نسلك الذكر ونلقيه في قلوبهم مكذبًا به غير مقبول، (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَولِينَ) أي: قد مضت سنة الله - تعالى - بأن يسلك الكفر في قلوبهم أو بإهلاك(2/306)
من كذب الرسل من الأمم الماضية، (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ) على هؤلاء المشركين، (بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا) أي: المشركون، (فِيهِ يَعْرُجُونَ) يصعدون فينظرون إلى ملكوت الله - تعالى - وعبادة الملائكة، أو ظل الملائكة فيه يصعدون والكفار ينظرون ذلك، (لَقَالُوا) من غلوهم في العناد، (إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) أغشيت وسدت بالسحر أو حيرت كما يتحير السكران، (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) سحرنا محمد بذلك.
* * *
(وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
* * *(2/307)
(وَلَقَدْ جَعَلْنَا في السَّمَاءِ بُرُوجًا) اثني عشر منازل الشمس والقمر، أو المراد من البروج الكواكب، (وَزَيَّنَّاهَا) بالنجوم، (لنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ) فلا يقدر أن يطلع على أحوالها، (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) استراقه اختلاسه سرًّا، وعن بعضهم أن الشياطين كانوا غير محجوبين عن السماوات، فلما ولد عيسى - عليه السلام - منعوا عن ثلاث سمات، ولما ولد محمد - صلى الله عليه وسلم - منعوا من كلها بالشهب، والاستثناء منصوب متصل من كل شيطان، أو منقطع، (فَأَتْبَعَهُ) لحقه، (شِهَابٌ) شعلة نار ساطعة، (مُبِينٌ) ظاهرة لأهل الأرض، (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا) بسطانها (وَأَلْقَيْنَا ِيهَا رَوَاسِي) جبالًا ثابت، (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) مقدر بمقدار معين، قيل: ضمير فيها للجبال والأشياء، الموزون جواهرها كالذهب وغيره، (وَجَعَلْنَا لَكُلْ فِيهَا مَعَايِشَ) تعيشون بها من المطاعم والملابس والمشارب، (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) عطف على معايش، أي: جعلنا في الأرض من رزقه على الله - تعالى - ونفعه لكم كالخدم والعيال والدواب، أو عطف على محل لكم، أي: جعلنا المعايش فيها لكم، ولمن رزقه على الله - تعالى - كالعبيد والإماء وسائر الحيوانات، (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ)(2/308)
ضرب الخزائن مثلاً لاقتداره على كل مقدور، وقد نقل في الحديث، خزائن الله - تعالى - الكلام، إذا أراد شيئًا قال له: كن فكان، (وَمَا نُنَزِّلُهُ) ما نعطيه، (إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) تعلقت به مشيئتنا فإن المقدورات غير متناهية والموجودات متناهية، وقيل المراد من الشيء: المطر وما من عام أكثر مطرًا من العام الآخر، لكن الله - تعالى - يقسمه حيث شاء، عامًا يكثر في بلد، وعامًا يقل، (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) أي: حوامل شبه الريح إذا جاءت بخير من سحاب ماطر بالحامل، أو بمعنى اللاقح، أي: للشجر والسحاب يقال ألقحها الفحل، إذا ألقى عليها الماء فحملته، وعن كثير من السلف أن الله - تعالي - يرسل الريح فيحمل الماء من السماء، ثم يجري السحاب حتى تدر كما تدر اللقحة، (فَأنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ) جعلناه لكم سقيا، (وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) حافظين بل نحن نحفظه عليكم في العيون والآبار والأنهار، ولو شاء الله - تعالى - لأغاره وذهب به، أو معناه: نحن ننزل المطر، وهو في خزائننا، لا في خزانتكم، (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ) الباقون بعد فناء الخلق، (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) كل من هلك من لدن آدم وكل من هو حي ومن سيأتي إلى آخر الدنيا، أو المستقدمين(2/309)
الخير والمبطئين عنه، أو المستقدمين في الصف الأول والمستأخرين منه، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رغب في الصف الأول ازدحموا عليه، أو أناس يستقدمون في الصفوف لئلا يرو النساء، وبعضهم يستأخرون لينظروا إليهن، أو المراد في صف القتال، (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) للجزاء، (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) باهر الحكمة واسع العلم.
* * *
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32)(2/310)
قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
* * *
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ) أراد آدم، (مِن صَلْصَالٍ) طين يابس يصوت إذا نقر أو من طين منتن من صَل اللحم إذا أنتن وهو كزلزال، (مِّن حَمَأٍ) أي: كائن من طين أسود، (مسنونٍ) أي: أملس أو منتن أو مصبوب كالجواهر المذابة تصب في القوالب، (وَالْجَانَّ) أي: إبليس وهو أبو الشياطين، أو أبو الجن مطلقًا، (خَلَقنَاهُ مِن قَبْلُ) من قبل خلق آدم، (مِن نارِ السَّمُومِ) نار الحر الشديد، أو نار لا دخان لها، وعن بعضهم من نار الشمس.
(وَإِذْ قَالَ ربُّكَ) أي: اذكر وقت قوله (لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ) عدلت صورته وأتممت خلقته، (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) إضافة الروح للتشريف، (فَقَعُوا) فاسقطوا، (لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) وقد مر أن المأمورين بالسجود جميع الملائكة أو جمع خاص منهم، (إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) أي: لكن هو أبى(2/311)
السجود، وجاز أن يكون الاستثناء متصلاً، وجملة أبى أن يكون حينئذ مستأنفة، (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ) أيُّ غرض لك في، (أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ) اللام لتأكيد النفي، أي: لا يصح مني ويستحيل أن أسجد، (لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) استكبر واستعظم نفسه، (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْها) من تلك المنزلة التي أنت فيها من الملأ الأعلي، (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) مطرود من الخير والشرف باعتبار الكرامة عند الله تعالى لا باعتبار النوع، (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) أي: تلك اللعنة لا تزال متصلة لاحقة بك إلى يوم القيامة، وهذا بُعدُ غاية يضربها الناس، (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) أخر أجلي، (إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) آخر الدنيا، (قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وهو نفخة الأولى، أمهله الله استدراجًا له وابتلاء وامتحانًا للخلق، قيل: سأل الإمهال إلى يوم يبعثون لئلا يموت؛ لأنه لا يموت حينئذ أحد، فلم يجب إلى ذلك وأمهل إلى آخر أيام(2/312)
التكليف فهو ميت، بين النفختين أربعين سنة، (قَالَ رَبِّ بِمَا أَعوَيْتَني) أي: أقسم بإغوائك إياي، (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ) المعاصي، (في الأَرْضِ)، أو معناه بسبب غوايتك إياي، أقسم لأزينن الخ .. ، (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ)، أحملنهم علي الغواية، (أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)، أي: إلا عبادك الموصوفين بالإخلاص لطاعتك حال كونهم من أولاد آدم.
(قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) إشارة إلى قول إبليس: لأغوينهم إلا عبادك أي: هذا هو الذي حكمت به وقدرت على عبادي، وهو حق مستقيم، كما قال تعالى: " ولكن حق القول مني " [السجدة: 13] الخ .. أو تهديد، كما تقول لخصمك: طريقك على أي لا تفلت مني، أو الإشارة إلى تخلص المخلصين من إغوائه الدال عليه الاستثناء، أي: تخلُّصهُم طريق حق علي أن أراعيه لا انحراف عنه، أو الإخلاص طريق عليَّ من غير اعوجاج يؤدي إلى الوصول إلى كرامتي ولقائي، (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) أي: ليس لك حجة وتسلط على أحد منهم، فمن أين لك الاختيار في غوايتهم، (إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ) لكن من اتبعك هو من الغاوين، أو الاستثناء متصل ويكون كالتصديق لقول إبليس، (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُم) أي:(2/313)
الغاوين، (أَجْمَعِين) تأكيد للضمير، (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) سبعة أطباق، وعن علي - رضى الله عنه - إن أبواب جهنم هكذا، ووضع إحدى يديه على الأخرى، أي: بعضها فوق بعض أو سبعة منازل لكل منزل باب، (لِكُلِّ بَابٍ) طبقة أو منزل، (مِنْهُمْ) من أتباعه، (جُزْءٌ مَقْسُومٌ) أفرز له، ومنهم حال من الجزاء، أو من ضمير الظرف.
* * *
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
* * *(2/314)
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) عن الكفر والفواحش، (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) بساتين وأنهار، (ادْخُلُوهَا) أي: يقال لهم ادخلوها، (بِسَلامٍ) سالمين من الآفات، وقيل مسلمًا عليكم، (آمِنِينَ) من المكاره، (وَنَزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّن غِلٍّ) حسدٍ وحقدٍ، (إِخْوَانًا) في المودة وهو حال، (عَلَى سُرُر متَقَابِلِينَ) متواجهين وهما صفتان أو حالان، وعن علي - رضى الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم - رضى الله عنهم، (لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ) تعب، (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) وقد نقل أنه - صلى الله عليه وسدم - خرج على أصحابه، وهم يضحكون فقال أتضحكون وبين أيديكم النار؟!، فنزل جبريل بهذه الآية، " وقال: يقول لك ربُّك يا محمد لم تقنط عبادي؟ "، (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ(2/315)
ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ) ذكر لهذه هذه القصة عقيب هذه الآية، لتحقق أن رحمته واسعة وعذابه أليم، (إِذ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا) نسلم عليك (سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) خائفون؛ لأنَّهُم ما أكلوا من طعامه، ودخلوا بغير إذن، (قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل، وهو إسحاق والأضياف ملائكة في صور البشر، (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي) بالولد، (عَلَى أَن) أي: أنه، (مَسَّنيَ الكِبَرُ) والولد في هذه الحال كالمحال، (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) بأي شيء تبشرون، فإن البشارة بمثل هذا بشارة بغير شيء، (قَالُوا بَشَّرناكَ بِالْحَق) بالصدق واليقين، (فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ) من الآيسين، (قَالَ)، إبراهيم لهم: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) أي: لم أستنكر ذلك قنوطًا، بل استبعادًا عاديًّا، من استفهامية إنكارية، فكأنه قال: لا يقنط أحد إلا الضالون، (قَالَ) إبراهيم لهم: (فَمَا خَطْبُكُمْ) شأنكم، (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) وما الذي جئتم به، (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) أي: قوم لوط، (إِلَّا آلَ لُوطٍ) استثناء متصل من ضمير المجرمين، أي: إلى قوم أجرم كلهم إلا آل لوط منهم، (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) استئناف، وجاز أن يكون استثناءً منقطعًا عن قوم، فإن القوم موصوفون بالإجرام دونهم حينئذ، إنا لمنجوهم جرى مجري خبر لكن ولم يكن(2/316)
مستأنفًا، (إِلا امْرأَتَهُ) استثناء، من ضمير لمنجوهم، (قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) الباقين مع الكفرة لتهلك معهم، وإنما علق مع أن التعليق من خواص أفعال القلوب لتضمن التقدير معنى العلم، أو لأنه أجرى مجرى قلنا، قال بعضهم: هذا من كلام الله - تعالى - لا من كلام الملائكة، وجاز أن يكون من كلامهم، وإسناد التقدير إلي أنفسهم لا لهم من القرب إلى الله - تعالى.
* * *
(فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
* * *(2/317)
(فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ المُرْسَلُونَ قَالَ) لوط لهم: (إِنَّكُمْ قَوْمٌ منكَرُونَ) لا أعرفكم أو تنكركم نفسي وتنفر منكم مخافة شركم، (قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانوا فيهِ يَمْتَرُون) أي: ما جئناك لتعرفنا أو ما جئناك لشرك، بل جئناك بما يسرك وهو ما أوعدت به أعداءك من العذاب، فيشكون فيه ولا يصدقونك، (وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ) باليقين من عذابهم، (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) اذهب بهم في الليل، (بِقِطْعٍ) في طائفة، (مِّنَ الليْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهمْ) سر خلفهم لتطلع على حالهم حتى لا يتخلف منهم أحد، (وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكم أَحَدٌ) إلى ما وراءه إذا سمعتم الصيحة بالقوم وذروهم، (وَامضوا حَيثُ تؤْمَرُون) إلى حيث أمركم الله، (وَقَضيْنَا) أوحينا، (إِلَيْهِ) مقضيًّا، (ذَلِكَ الأَمْرَ) مبهم مفسر بقوله: (أَنْ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ) ودابرهم آخرهم، أي: يستأصلون عن آخرهم، وهو بدل من ذلك الأمر، (مُّصبِحِينَ) داخلين في الصبح، (وَجَاءَ أَهْل المَدِينَةِ) أي سدوم، قرية قوم لوط، (يَسْتَبْشرُون) يفرحون بأضياف لوط طمعًا في ركوب الفاحشة منهم، (قالَ) لوط، (إِن هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحونِ) بفضيحة ضيفى، (وَاتَّقُوا اللهَ) في تلك الفاحشة، (وَلَا تُخْزُونِ) لا تخجلوني فيهم، من الخزاية وهي الحياء، (قَالوا(2/318)
أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ) أي: عن ضيافة أحد من العالمين، أو أن تجير منهم أحدًا، (قَالَ هَؤُلاءِ بَناتِي) فتزوجوهن واتركوا أضيافي وعن كثير من السلف أن المراد من البنات نساء القوم، فإن نبي كل أمة بمنزلة أبيهم، (إِن كُنتُمْ فاعِلِينَ) لا محال قضاء وطركم بمحال المباشرة دون المنكر، (لَعَمْرُكَ) أي: لعمرك قسمي، (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ)، حيرتهم وغوايتهم، (يَعْمَهُونَ) يتحيرون عن ابن عباس - رضى الله عنهما - ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرم عليه من محمد - عليه الصلاة والسلام - وما سمعت الله - تعالى - أقسم بحياة أحد غيره، وعن بعض المفسرين أن الضمير لقريش والجملة اعتراض، (فأَخَدتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) هي ما جاءتهم من الصوت العاصف حال كونهم داخلين في وقت طلوع الشمس، (فَجَعَلنا عَالِيَهَا) أي: المدينة، (سَافِلَهَا) صارت منقلبة، (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً) قبل التقليب أو(2/319)
معه، أو التقليب للموطنين والحجارة للمسافرين، (مِّن سِجِّيلٍ) من حجر وطين، وقد مر في سورة هود، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) المتفرسين، من توسمتي فلان كذا، إذا عرفت وسم ذلك وَسمَتُهُ فيه، (وَإِنها)، أي: تلك المدينة، (بِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) بطريق ثابت يسلكه الناس ولم يندرس آثارهم وهو تنبيه لقريش، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) بالله ورسله فيعرفون أن ذلك انتقام لأوليائه من أعدائه، (وَإِن كَانَ) أي: إنه كان، (أَصْحَابُ الأَيْكَةِ) قوم شعيب، والأيكة الشجر الملتف، (لظَالِمِينَ) بالشرك وقطع الطريق ونقص المكيال والميزان، وكانوا قريبًا من قوم لوط بعدهم في الزمان، ومستأمنين لهم في المكان، (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) بالصيحة وعذاب الرجفة وعذاب يوم الظلة، (وَإِنَّهُمَا) مدينة لوط وأصحاب الأيكة، (لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) لبطريق واضح ظاهر.
* * *
(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)(2/320)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
* * *
(وَلَقَدْ كذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ) وهو مدينة بين المدينة والشام يسكنها ثمود، (المرْسَلِينَ) أي: صالحًا، ومن كذب نبيًا فقد كذب الرسل بأجمعهم، (وَآتيْنَاهُمْ آياتنا) معجزات، كما في الناقة من غرائب الآيات، (فَكَانوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ) ما استدلوا بها علي صدق نبيهم - عليه الصلاة والسلام، (وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ) من أن تنهدم، أو من عذاب الله، يحسبون أن الجبال تحميهم منه، (فأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبحِينَ) داخلين في الصباح، (فَمَا أَغنَى عَنْهُم) ما دفع عنهم العذاب، (ما كَانوا يَكْسَبُون) من البيوت الوثيقة والزراعة والأموال، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ)، خلقًا متلبسًا بالحق (ليجزي الذين أساؤوا بما(2/321)
عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى) [النجم: 31]، (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، (فَاصْفَحِ) يا محمد عن المشركين، (الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) يعني عاملهم معاملة الحليم الصفوح، وهذا قبل القتال، فإنما هذه مكية والأمر بالقتال بعد المهاجرة، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ) الذي خلق كل شيء فقادر على الإعادة، (العَلِيمُ) بجميع الأحوال فيجازى بما علم منهم، (وَلَقَدْ آتيْنَاكَ سَبْعًا) هي السبع الطوال من البقرة إلى الأعراف ثم يونس، نص عليه ابن عباس وغيره - رضي الله عنهم -، أو من البقرة إلى براءة على أن الأنفال وبراءة سورة واحدة، وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: أوتي النبي - عليه الصلاة والسلام - السبع الطوال، وأعطي موسى ستًّا، فلما ألقى الألواح رفعت ثنتان وبقي أربع، أو المراد فاتحة الكتاب، روي ذلك عن عمر وعلى - رضى الله عنهما -، وفي البخاري قال - صلى الله عليه وسلم -: " أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم "، (مِنَ الْمَثَانِي) بيان(2/322)
للسبع لأن الفرائض والحدود والأمثال والخبر والعبر ثنِّيت في تلك السورة؛ أو لأن الفاتحة تثني في كل صلاة فيقرأ في كل ركعة، (وَالْقُرْآنَ العَظِيمَ) إن أريد به جميع القرآن، فمن عطف الكل على البعض، وإن أريد به الفاتحة كما دل عليه حديث البخاري، فمن عطف أحد الموصوفين على الآخر، وعن بعض السلف القرآن كله مثاني؛ لأن الأنباء والقصص ثُنِّيت فيه، فعلى هذا المراد بالسبع أسباع القرآن، (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) لا تطمح ببصرك طموح راغب متمن، (إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ) أصنافًا من الكفار، أي: استغن بما آتاك الله - تعالى - من القرآن عما فى الدنيا من الزهرة الفانية، (وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) إن لم يؤمنوا أو عن بعضهم لا تحزن على ما فاتك من مشاركتهم فِي الدنيا، (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي: ارفق بهم، (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) تقديره أنا النذير لمن لا يؤمن عذابًا مثل ما أنزلنا عليهم، والمقتسمون المتحالفون الذين تحالفوا على مخالفة الأنبياء وأذاهم، كما قال - تعالى - في قوم صالح: (تَقَاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ)، أي: نقتلهم ليلاً (الذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ) أي: جعلوا كتبهم المنزلة عليهم أجزاء، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، أو معناه اقتسموا كتبهم(2/323)
وجزءوه أجزاءً، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، فعلى هذا من القسمة لا من القسم، والقرآن يطلق على جميع الكتب السماوية، وعن بعضهم هم الذين اقتسموا طرق مكة يصدون الناس عن الإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجزءون القرآن، يقولون: سحر، ويقولون: مفترى، ويقولون: أساطير الأولين، فأنزل الله تعالي بهم خزيًا فماتوا شر ميتة، أو اقتسموا القرآن منهم من قال: سحر، ومنهم من قال: كذب، ومنهم من قال: أساطير الأولين، فعلى هذا الذين جعلوا القرآن عضين بيان للمقتسمين، وهو جمع عضة، وأصلها عِضْوَة، فِعْلَة من عضَّى الشاة، إذا جعلها أعضاء، وعن عكرمة العضة السحر بلسان قريش، (فوَربكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانوا يَعْمَلُونَ) أي: نسأل عن لمية تحالفهم واقتسامهم وجعلهم القرآن عضين، أو عن كل ما فعلوا، يقول: لم فعلتم كذا وكذا، أو سؤال توبيخ لا استعلام، (فَاصْدَعْ) أظهر، (بِمَا تُؤْمَرُ) به من الشرائع، ولا تخفه، وعن مجاهد: هو الجهر بالقرآن في الصلاة، وعن بعضهم ما زال - صلى الله عليه وسلم - مستخفيًا حتى نزلت فخرج هو وأصحابه، (وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ) لا تلتفت إلى أقوالهم، (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) كان عظماء المستهزئين خمسة نفر من كبار قريش، مات كل(2/324)
واحد منهم في أقرب زمان، (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة أمرهم، (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) من أذاك، (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ ربكَ)، فاشتغل بتسبيحه وتحميده وتوكل على الله تعالى (وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) المصلين، (وَاعبدْ ربَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ) الموت المتيقن لحاقه.
اللهم أمتنا على أحسن الأحوال والأعمال.
* * *(2/325)
سورة النحل مكية غير ثلاث آيات في آخرها
وهي مائة وثمان وعشرونَ آية وستة عشر ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
* * *
(أَتَى أَمْرُ اللهِ) أي: القيامة التي هي بمنزلة الواقع في تحققه، أو العذاب الذي وعده نبينا فيمن خالفه، (فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) فإنه لا محالة واقع، (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(2/326)
ما مصدرية أو موصولة بحذف مضاف أي: إن مشاركة ما يشركون رد لما قالت الكفرة لو صح ما تقوله فالأصنام تشفع لنا، (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ) بالوحي، (مِنْ أَمْرِهِ) من أجل أمر الله تعالى، (عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا) أي: بأن اعلموا متعلق بالروح أو بدل منه، (أَنَّهُ) إن الشأن، (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) عقوبتي لمن عبد غيري رجع إلى مخاطبتهم بما هو المقصود، (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) متلبسًا، (بِالْحَقِّ) لتجزى كل نفس بما كسبت، (تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) نزه نفسه عن مشاركة غيره فإنه هو الخالق وحده ولا مناسبة بين الخالق والمخلوق، (خَلَقَ الإِنسَانَ) أي: جنسه، (مِن نطْفَةٍ فإذَا هُوَ) حين استقل، (خَصِيمٌ) يخاصم ربه ويكذب رسله، (مبينٌ) ظاهر الخصومة، (وَالأَنعَامَ) منصوب بما أضمر عامله، (خَلَقَهَا لَكُمْ) أو عطف على الإنسان وخلقها لكم مستأنفة يبين ما خلق لأجله، (فِيهَا دِفْءٌ) ما يدفأ به من البرد، فإن من أشعارها بيوتًا ولباسًا وملاحف، (وَمَنَافِعُ) بالنسل والدر والركوب وغيرها، (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) قدم الظرف للاختصاص كأن الأكل من الصيد والطيور ليس هو المعتدل بل بمنزلة التفكه، (وَلَكُمْ فيهَا جَمَالٌ): زينة، (حِينَ تُرِيحُون) تردّونها بالعشي من مراعيها إلى مراحها، (وَحِينَ تَسْرَحُون) حين تخرجونها إلى المراعي بالغداة وقدم الأول، لأن الزينة إذا أقبلت ملأى البطون ممتلئة الضروع أظهر، (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ) أحمالكم، (إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ) إن لم تكن الأنعام، (إِلا بِشِقِّ الأَنفُسِ) بكلفة ومشقة، (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ) عطف على الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم،(2/327)
(وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) عطف على محل لتركبوها أو تقديره ولتتزينوا بها زينة، (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) أي: ويخلق لكم ما لم يحط به علمكم، (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) أوجب على نفسه بفضله ولطفه بيان مستقيم الطريق أو معناه طريق الحق على الله تعالي يصل إليه لا محالة من يسلكه والمراد بالسبيل الجنس، (وَمِنْهَا) أي: وبعض السبيل، (جَائِرٌ) مائل عن الحق، (وَلَوْ شَاءَ) هدايتكم، (لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) إلى قصد السبيل.
* * *
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)(2/328)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
* * *
(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ) من جانبه أو من السحاب، (مَاءً لكُم مِّنْه شرابٌ) ما تشربونه ومياه العيون والآبار مما أنزل من السماء، (وَمِنهُ شَجَرٌ فيهِ) أى: في الشجر (تُسِيمُونَ) ترعون أنعامكم والمراد من الشجر الجنس الذي ترعاه المواشي، وقيل هو كل نبت من الأرض، (ينبِتُ لَكُم بِهِ) أي: بسبب الماء (الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) أي: بعض كلها لأن ما يمكن من الثمار لم ينبت في الأرض كله، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ(2/329)
يَتَفَكَّرُونَ) على وجوده وكمال قدرته ووحدته، (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ) أي: هيأها لمنافعكم حال كون الكل مسخرات تحت قدرة الله تعالى وسلطانه، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فإن من له عقل يفهم أنواع دلالاتها ولا يحتاج إلى إمعان نظر كأحوال النبات (وَمَا ذَرَأَ لَكُم) عطف على الليل، (فِي الأَرْضِ) من الحيوانات والجمادات، (مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ) أشكاله، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) فإن اختلاف أشكالها دال على حكمته وقدرته، (وهُوَ الذِي سَخَّرَ البَحْرَ) جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به، (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا) أي: السمك، (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنهُ حِلْيَة) كاللؤلؤ والمرجان، (تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ) المخر شق الماء بصدرها أو صوت جري الفلك بالرياح، (فيه وَلِتَبْتَعوا مِن فَضْلِهِ) سعة رزقه أي: سخر البحر للأكل والاستخراج والتجارة للربح، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمه وإحسانه، (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ) جبالاً ثوابت، (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) كراهة أن تميل بكم وتضطرب فإنه لما خلق الأرض كانت تتحرك فقالت(2/330)
الملائكة: ما هي بمقر أحد فأصبحت الملائكة وقد خلقت الجبال ولم تدر الملائكة مم خلقت، (وَأَنْهَارًا) أي: وجعل فيها أنهارًا لأن في ألقى معنى الجعل، (وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إلى مقاصدكم، (وَعَلامَاتٍ) كالجبال والتلال والوهاد وغيرها فإنها علامات للطرق، (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) أي: بجنس النجم خصوصًا لقريش خصوصًا يهتدون في البراري والبحار فإن لقريش بذلك علمًا لم يكن مثله لقوم غيرهم فالشكر عليهم أوجب، (أَفَمَن يَخْلُقُ) وهو الله سبحانه، (كَمَن لَا يَخْلُقُ) وهو كل معبود من دون الله تعالى وغلب جانب أولي العلم فجاء بمن أو المراد الأصنام وجعلها من أولي العلم بزعمهم أو للمشاكلة وحق الكلام أن يقال: أفمن لا يخلق كمن يخلق وعكس للتنبيه على أنَّهم جعلوا الله بالإشراك من جنس المخلوقات العجزة شبيهًا بها، (أَفَلاَ تَذَكرُونَ) فتعرفوا فساد ذلك، (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا) لا تضبطوا عددها لكثرتها فكيف تطيقون القيام بشكرها، (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رحيمٌ) حيث لا يعاقبكم بتقصير في شكرها ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها، (وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) من عقائدكم وأعمالكم، (وَالَّذِينَ) أي: والآلهة الذين، (يَدْعُونَ) أي: يعبدونهم، (مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا) فكيف تجوزون شركتهم مع الله الخالق لا سيما، (وَهُمْ يُخْلَقُون) بخلق الله أو بخلقهم الناس بالنحت والتصوير، (أَمْوَاتٌ) أي: هم أموات لا أرواح لهم، (غيرُ أَحْيَاءٍ) في وقت من الأوقات لا يعقب موته حياة فهم أغرق في الموت من النطف أيضًا،(2/331)
(وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) لا يعرفون وقت بعثهم فإن الأصنام تبعث فتتبرأ من عبادتها وقيل: ضمير يبعثون إلى عبدتهم يعني هم جهلاء فلا يستحقون الإلهية.
* * *
(إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
* * *
(إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) بعد ذكر حجج وحدانيته أخبر بالنتيجة، (فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) لا يتأملون في الحجج وإن كانت واضحات ويستكبرون عن اتباع الرسل بخلاف من يؤمن بالآخرة فإنه طالبٌ الدلائل متبع للحق، (لَا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) فيجازيهم وهو في موضع الرفع بمحذوف أي: حق أن الله تعالى يعلم سرهم وعلانيتهم حقًّا، (إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الُمسْتَكْبِرِينَ) لا يثيبهم، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) السائل الحاجُّ يسألون هؤلاء المكذبين، (قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي: بها يدعي نزوله مأخوذ من الكتب المتقدمة ليس بمنزل من الله تعالى، (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) هي لام العاقبة فإن قولهم هذا أدَّاهم إلى حمل أوزار ضلالهم كاملة لم يكفر منها شيء بمصيبة أصابتهم في الدنيا لكفرهم، (وَمِنْ أَوْزارِ) أي: ليحملوا أوزار أنفسهم وبعض أوزار، (الذِينَ يُضِلونَهُم) يعني خطيئة إغوائهم لغيرهم، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حال من مفعول يضلون أو من فاعله، (أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُون) أي: بئس شيئًا يزرونه صنيعهم.
* * *(2/332)
(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (34)
* * *
(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ من قَبْلِهِمْ) ليهدموا ما أسس الله تعالى من بنيان دينه، (فأَتَى اللهُ) أي: أَمْرُ الله تعالى (بنْيَانَهُم منَ القَوَاعِدِ) أي: من جهة أساطين ما بنوا عليه وخُربت من أصله وأُسّه، (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) وصار سبب هلاكهم، (وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) لا يتوقعون وهذا على سبيل(2/333)
التمثيل وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن المراد به نمرود حين بنى الصرح ليصعد إلى السماء فهبت الريح وألقت رأسها في البحر وخر عليهم الباقي وهم تحته وكان طولها خمسة آلاف ذراع، (ثُمَّ يَوْمَ القِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) يذلهم، (وَيَقُولُ) الله تعالي تقريعًا وتوبيخًا، (أَيْنَ شُرَكَائِيَ) في زعمكم ليدفعوا العذاب عنكم، (الذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ): تحاربون، (فِيهِمْ) في سبيلهم، (قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ) هم السادة في الدارين إظهارًا للشماتة وزيادة للإهانة، (إِن الخِزْيَ اليَوْمَ وَالسُّوءَ) العذاب، (عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ تَتَوَفاهُمُ المَلاِئكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) حال من مفعول تتوفى، (فأَلْقَوُا السَّلَمَ) سالموا وانقادوا عند الموت قائلين: (مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ) كفر وعدوان، (بَلَى) أي: فقالت الملائكة بلى، (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) فيجازيكم، (فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ) أي: كل صنف بابها المعد له، (خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى): منزل، (المُتَكَبِّرِينَ) عن عبادة الله جهنمُ.(2/334)
(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ ربُّكُمْ قَالُوا) أنزل، (خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنوا) مكافأة، (فِي هَذِهِ) الحياة، (الدُّنْيَا حَسَنةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) لهم، (وَلَنِعْمَ دَارُ الُمتَّقِينَ) دار الآخرة، (جَنَّاتُ عَدْنٍ) خبر مبتدأ محذوف أو مخصوص بالمدح أو بدل من دار المتقين، (يَدْخلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنهَار لَهمْ فيهَا مَا يَشَاءونَ) كلُّ ما يشتهون يجدون فيها لا في الدنيا، (كَذَلِكَ) مثل هذا الجزاء، (يَجْزِي اللهُ المتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفاهُمُ المَلاِئكَةُ طَيِّبِينَ) طاهرين من الشرك وقيل: فرحين (يَقُولُونَ) أي: الملائكة (سَلامٌ عَلَيْكُم) لا يلحقكم بعد مكروه وقيل: يبلغونهم سلام الله تعالى، (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) المعدة لكم حين تبعثون ويمكن أن يكون المراد دخول أرواحهم الجنة قبل البعث كما في الحديث، (بِمَا كنتمْ تَعْمَلُونَ هَلْ يَنظُرُونَ) أي: هل ينتظر الكفرة، (إِلا أَن تَأْتِيَهُمُ المَلاِئكَةُ)، لقبض أرواحهم، (أَوْ يَأْتِيَ أَمْر ربِّكَ)، العذاب والهلاك أو القيامة يعني ما لهم إما أن يموتوا حتف أنفهم أو يقتلوا فكأنهم لا ينتظرون إلا فردًا من هذين لكن المؤمنون ينتظرون أنواع رحمة الله تعالى بعد الموت، (كَذَلِكَ) أي: مثل فعلهم من التكذيب، (فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ) بتعذيبهم، (وَلَكِن كَانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون) فاستحقوا به عذاب الله تعالى(2/335)
(فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا) أي: وبال سيئات عملهم، (وَحَاقَ): أحاط، (بِهِم) جزآء، (مَّا كَانوا بِهِ يَسْتَهْزِءونَ).
* * *
(وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
* * *
(وَقَالَ الَّذِينَ أَشركُوا لَوْ شَاءَ اللهُ) أن لا نعبد غيره، (مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شيْءٍ نحْنُ) أي: ما عبدنا نحن، (وَلاَ آباؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شيْء) أي: البحيرة والسائبة وغيرهما ومضمون كلامهم أنه لو كان تعالى كارهًا لما فعلنا ولما مكننا منه وقيل: إنما قالوا استهزاء، (كذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) من الشرك وتحريم الحلال ورد الرسل، (فَهَلْ عَلَى الرسُلِ إِلا البَلاغُ الُمبِينُ) أي: ليس الأمر(2/336)
كما زعمتم من عدم الكره كيف وقد أنكرنا عليكم أشد الإنكار بلسان رسلنا وإنما عليهم التبليغ لا الإهداء، (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّة رَّسُولاً أَن اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطاغُوتَ) أي: بعثناهم بذلك الأمر فكيف يتمسكونَ بمشيئته؟! (فَمنهُم منْ هَدَى اللهُ) فلا يشرك ولا يحرم حلاله، (وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ) وجبت، (عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) إذا يوفقهم ولم يهدهم فالله تعالى عنهم غير راض؛ بل أراد شقاوتهم، (فَسيرُوا) يا معشر قريش، (فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْف كَانَ عَاقبَة المُكَذِّبِينَ) حتى تعرفوا أنهم في سخط من الله تعالى، (إِن تَحْرصْ) يا محمد، (عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) من أراد الله تعالى إضلاله ولا يغير إرادته القديمة بحرصك على هدايتهم، (وَمَا لَهُم مِّن ناصِرِينَ) ينصرونهم وينجونهم من عذابه عطف على إن الله أي: إن تحرص على هدايتهم فلا فائدة فيه، لأن الله لا يهديهم وليس لهم ناصر فمجموع المعطوف والمعطوف عليه علة للجزاء قائمة مقامه.
(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) غلظوا في الحلف، (لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى) يبعثهم، (وَعْدًا)، مصدر مؤكد لنفسه فإن بلي دال على وعد الله تعالى(2/337)
بعثهم، (عليهِ) إنجازه لامتناع خلف وعد (حَقًّا) صفة أخرى لوعدًا، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) أنَّهم يبعثون، (لِيُبَيِّنَ) أي: يبعثهم ديبين، (لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) الضمير لمن يموت والمختلف فيه هو الحق، (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ) في إقسامهم لا يبعث الله من يموت، (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ) أي: احدث، (فَيَكُونُ) فيحدث وهو بيان سهولة الأشياء له حتى يعلم أن البعث لا يتعسر على الله بوجه.
* * *
(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)(2/338)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لله وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلله يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
* * *
(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ) أي: في رضاه وحقه، (مِن بَعْدِ مَا ظُلموا)، عذبوا وأوذوا والمراد المهاجرون إلى الحبشة وغيرها كعثمان بن عفان رضي الله عنه - وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه - وغيرهما، (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا) تبوئة، (حَسَنَةً) وهى أن مكنهم الله تعالى في البلاد وحكمهم على رقاب العباد فصاروا أمراء حكامًا وللمتقين إمامًا أو مباءة حسنة وهي المدينة، (وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) مما أعطى لهم في الدنيا، (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) قيل الضمير للكفار فإن المؤمنين يعلمون، (الذينَ صَبَرُوا) منصوب أو مرفوع على المدح، (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكلُونَ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا) لا ملائكة رد على من قال: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، (نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) أهل الكتاب ليخبروكم أنَّهم بشر لا ملائكة، (إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ) كأنه جواب قائل: بم أرسلوا؟ فقال: أرسلناهم بالمعجزات والكتب وقيل صفة رجالاً، وقيل: متعلق بما(2/339)
أرسلنا، وقيل: بما تعلمون أو بـ نوحي، (وَأَنزَلنا إِلَيْكَ): يا محمد، (الذِّكْرَ):، القرآن، (لِتبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) يعني لتفصل لهم ما أجمل وتبين لهم ما أشكل لعلمك بمعنى ما أنزل الله عليك وحرصك عليه، (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيما أنزلنا إليك فيهتدون، (أَفأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا) المكرات، (السَّيِّئَاتِ) كأهل مكة، (أَنْ يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأَرْضَ) كما خسف بقارون، (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) لا يعلمون مجيئه إليهم، (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ): في المعايش واشتغالهم بما من أسفار ونحوها من الأشغال الملهية، أو تقلبهم في الليل والنهار، (فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ) الله، (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) أي: في حال خوفهم من أخذه لا بغتة أو على تنقص بأن يأخذ شيئًا بعد شيء حتى يستأصلوا، (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) حيث لا يعاجلكم بعقوبته، (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ الله) ما موصولة مبهمة، (مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ) بيانه أي: يميل ويدور، (عَنِ اليَمِينِ وَالشَّمَائِلِ) جمع الشمال باعتبار كل حتى ما خلق الله تعالى، (سُجَّدًا لله) حال من الظلال كل شيء له ظل يسجد ظله لله تعالى ولا يبعد ذلك عن قدرة الله تعالى أو(2/340)
سجودها انقيادها لما قدر له من التفيؤ، أو حال من ضمير ظلاله قال كثير من السلف: إذا زالت الشمس سجد كل شىء لله تعالى، (وَهُمْ دَاخِرُونَ): صاغرون حال من ضمير ظلاله لأنه في معنى الجمع وجمعه بالواو والنون للتغليب، أو لأن الدخور والسجود من أوصاف العقلاء واليمين يمين الفلك أي: الجانب الشرقي والشمال الجانب الغربي أو المراد من اليمين والشمائل جانبا كل شيء استعارة من يمين الإنسان وشماله، (وَلله يَسْجُدُ): ينقاد، (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَابَّةٍ) والدبيب هي الحركة الجسمانية فجاز أن يكون بيانًا لما في السماوات أيضًا (وَالْمَلائكَةُ) عطف على ما في السماوات عطف خاص على عام فإن في السماوات غير الملائكة من الأرواح، (وَهُمْ لاَ يَسْتكبرُون) عن عبادته، (يَخَافُونَ رَبَّهُم) حال أو بيان أو تأكيد لنفي الاستكبار، (مِن(2/341)
فَوْقِهِمْ) أي: حال كون الرب قاهرًا عاليًا لهم، وهو القاهر فوق عباده، أو(2/342)
معناه يخافون من فوقهم، أي: أن يرسل عليهم عذابًا من فوقهم، وقيل: أي يخافون والحال أن الملائكة من فوق ما في الأرض من الدواب فمن دونهم أحق بالخوف، (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).
* * *
(وَقَالَ اللهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لله الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلله الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
* * *
(وَقَالَ اللهُ لاَ تَتخِدوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ) فإن الاثنينية تنافي الإلهية، (إِنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِدٌ) فإن الوحدة من لوازم الإلهية، (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) كأنه قال: فأنا ذلك الإله الواحد فإياى فارهبون لا غيرى، (وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ) أي: الطاعة، (وَاصِبًا) دائمًا فإن طاعة غير الله تنقطع، (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) مع أنه
ْ(2/343)
تعالى خالق الأشياء وحده، (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) ما شرطية، أي: أي شيء اتصل بكم من النعم فهو من الله تعالى، (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) إليه لا إلى غيره تتضرعون، (ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) وهم الكفار، (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ) من النعم كأنهم قصدوا بشركهم كفران النعم واللام لام العاقبة، (فَتَمَتَّعُوا) أمر وتهديد، (فسَوْفَ تَعْلَمُونَ): عاقبة أمركم، (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُون) أي: لأصنامهم التي لا علم لهن فضمير الجمع لما، (نَصيبًا مِّمَّا رَزَقناهُمْ)، كما مر (هَذَا لله بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا) [الأنعام: 136]، (تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ) سؤال توبيخ، (عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) من إثبات الشريك وغيره، (وَيجْعَلُونَ لله البَنَات): يقولون: الملائكة بنات الله تعالى، (سُبْحَانَهُ) تنزيه له من قولهم، (وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ) أي: البنون والجملة مبتدأ وخبر، أو تقديره يجعلون لهم ما يشتهون، أي: يختارون لأنفسهم البنين، (وَإِذا بُشِّرَ): أخبر، (أَحَدُهُم بِالأُنْثَى) بولادتها، (ظَلَّ) صار، (وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) من الكآبة وهو كناية عن شدة الغم، (وَهُوَ كَظِيمٌ) مملوٌ غمًّا وغيظًا، (يتوَارَى): يستخفي، (مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ) الضمير لما ولفظه مذكر، أي: متفكرًا في أن يتركه، (عَلَى هُونٍ): على ذل، (أَمْ يَدُسُّهُ): يخفيه، (في التُّرَابِ) فإنهم كانوا يدفنون البنات أحياء، (أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) حيث يجعلون لمن تنزه عن الولد أخس الولد عندهم، (لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ): صفة النقص،(2/344)
وَلله الْمَثَلُ الْأَعْلَى) الكمال المطلق والنزاهة عن صفات الخلائق، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ): المتفرد بكمال الغلبة والحكمة التامة.
* * *
(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لله مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
* * *
(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم) بما كسبوا من المعاصي، (مَا تَرَكَ عَلَيْهَا) الضمير للأرض لدلالة الدابة عليها، (مِن دَابَّةٍ) وعن بعض السلف كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم، وعن بعضهم معنى من دابة: من مشرك يدب على(2/345)
الأرض فإنه لو أهلك الآباء الكفرة لم تكن الأبناء، (وَلَكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مسَمًّى) انقضاء عمرهم المقدر فيتوالدون، (فَاِذَا جَاءَ أَجَلُهم) أي: وقته، (لاَ يَسْتَأخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) أي: لا يمهلون لحظة، (وَيَجْعَلُونَ لله مَا يَكْرَهُونَ) أي: ما يكرهون لأنفسهم من البنات والشريك في الرياسة والأموال، (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكَذِبَ) فسر الكذب بقوله: (أَنَّ لَهُمُ الحُسْنَى) كما قال تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) [فصلت: 55]، (لاَ جَرَمَ) أي: ليس الأمر كما زُعم كسب قولُهم هذا، (أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) مقدمون إلى النار من الفرط وهو السابق إلى الماء أو منسيون من أفرطت فلانًا خلفي إذا نسيته ومن قرأ بكسر الراء فهو من الإفراط بالمعاصي، (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا): رسلاً، (إِلَى أُمَمٍ من قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) فأصروا على ما هم عليه ولم يتبعوا رسلنا فلك يا محمد في إخوانك من المرسلين أسوة، (فهُوَ وَلِيُّهُمُ اليَوْمَ) أي: الشيطان ناصرهم الآن وهم تحت نكاله ومن هو ناصره فالويل عليه، وقيل: المراد من اليوم يوم القيامة، (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ): في الآخرة، (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ): للناس، (الذِي اخْتَلَفُوا فيهِ): من أمر الآخرة، (وَهُدًى وَرَحْمَةً) معطوفان على(2/346)
محل لِتُبَيِّنَ ولا يجوز أن يقال إلا تبيينًا لأنه فعل المخاطب لا المنزل بخلاف الهداية والرحمة، (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) لا لمن هو أصم فيتدبر في دلالته على البعثة المختلف فيها.
* * *
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
* * *
(وَإِن لَكمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً) دلالة على كمال قدرته، (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ): لما كان الأنعام اسم جمع وحد ضميره ومن قال: جمع نَعَم فالضمير للبعض(2/347)
فإن اللبن لبعضها أو من للتبعيض، (مِن بَيْنِ فَرْثٍ) هو ما في الكرش من الثفل ومن للابتداء، (وَدَمٍ لبَنًا خَالِصًا): صافيًا ليس عليه لون دم ولا رائحة فرث، (سَائِغاً لِّلشَّارِبِينَ) هنيئًا يجري على السهولة في حلوقهم، (وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعنابِ) متعلق بمحذوف أي ونسقيكم من ثمراتهما يعني عصيرهما، (تَتَّخِذونَ) استئناف لبيان الإسقاء، (مِنه سَكَرًا) وهو الخمر والآية قبل تحريمه وتذكير الضمير لأنه يرجع إلى المضاف المقدر أعني العصير قيل من ثمرات متعلق بـ تتخذون ومنه تكرير التأكيد، وقيل: تقديره ومن ثمراتهما ثمر تتخذون منه فتتخذون صفة لمبتدأ محذوف، (وَرِزْقًا حَسَنًا) كالخل والدبس، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم قيل: ناسب ذكر العقل ها هنا فإنه أشرف ما في الإنسان ولهذا حرم السكر صيانة لعقولهم، (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) ألهمها وأرشدها، (أَنِ اتَّخِذِي) أي: بأن اتخذي أو أن مفسرة للوحي وتأنيث الضمير لأن المراد منه الجمع، (مِنَ الجبالِ بُيُوتًا) تأوي إليها، (وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) ضمير الجمع للناس يعني أرشدنا النحل باتخاذ المسكن لأنفسها من الجبال والأشجار ومما يبنون لها في أي موضع كان أو منهما ومن البيوت فإنه قد يكون بيوت الناس مسكنه، (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) التي تشتهينها، (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) في الجبال والبراري والأودية في ذهابك إلى رعيك وإيابك إلى بيتك، (ذُلُلًا) حال كون السبل مُذَلَّلَة سهلها لك أو
اسلكي أنت حال كونك ذُلُلًا منقادة لما أمرتك به، (يَخرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ) هو(2/348)
حال كونك ذُلُلًا منقادة لما أمرتك به، (يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شرًابٌ) هو العسل، (مخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ) أبيض وأصفر وأحمر وأسود، (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) في الحديث: (عليكم بالشفائين العسل والقرآن) (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في صنع الله وإحكام أمره، (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أخسه وهو الهرم وعن علي - رضي الله عنه - أنه خمس وسبعون سنة ففيه ضعف القوى وسوء الحفظ وقلة العلم، (لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا): ليصير إلى حالة شبيهة بالطفولية في أكثر الأشياء، (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بما يصنع، (قَدِيرٌ) على ما يريد.
* * *(2/349)
(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لله الْأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
* * *
(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) بسط على واحد وضيق على آخر، (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا): في الرزق، (بِرَادِّي): بمعطي، (رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) أي: مماليكهم، (فَهمْ فيه سَوَاءٌ): فيستوون في الرزق عن ابن عباس رضي الله عنه - وغيره يقول الله تعالى: " لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني؟! " فهو رد وإنكار على المشركين حيث لا يرضون أن يكون حيوانًا مثلهم شريكًا لهم ويقولون مخلوقات الله شركاؤه في(2/350)
ألوهيته تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، (أَفبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُون) حيث يتخذون معه شركاء والباء لتضمين الجحود معنى الكفر، وقيل: معناه جعلكم متفاوتين في الرزق فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهو بشر مثلكم فكان ينبغي أن تَرُدوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تتساووا في المطعم والملبس ثم جعل عدم ردهم إلى المماليك من جملة جحود النعمة، (وَاللهُ جَعَلَ لَكُم منْ أَنفُسِكُمْ) أي: من جنسكم، وقيل: المراد خلق حواء من آدم، (أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنينَ وَحَفَدَةً) أولاد الأولاد، أو بني امرأة الرجل أي: الربائب أو الخدم فعلى هذا تكون عطفًا على أزواجًا لا على بنين أو البنات أو الأختان أي: الأصهار والحفد في اللغة الخدمة، (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) اللذائذ، (أَفَبِالْبَاطِلِ): الأصنام، (يؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) حيث يضيفونها إلى غيره، (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): لا المطر ولا النبات والثمار، (شَيْئًا) بدل من رزقًا أي: لا قليلاً ولا كثيرًا وإن جعلت رزقًا مصدرًا فمفعوله أي: لا يملك أن يرزق شيئًا، (وَلَا يَسْتَطِيعُونَ) أي: لا يستطيع تلك الآلهة أن يتملكوه أو لا استطاعة لهم أصلاً، (فَلاَ تَضْرِبُوا للهِ الأَمثالَ): لا تشبهوه بخلقه فإن ضرب المثل تشبيه ذات(2/351)
بذات أو وصف بوصف وتعالى عن ذلك، (إِنْ الله يَعْلَمُ) خطأ ما تضربون، (وَأَنتم لاَ تَعْلَمُونَ) قيل: معناه لا تضربوا لله المثل فإنه يعلم كيف يضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون، ثم علمهم كيف تضرب فقال: (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكاً) لا عبدًا حرًا، (لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ) هو تمثيل للكافر والمؤمن فالكافر رزقه الله مالًا فلم يقدم فيه خيرًا فهو كالعبد لا يملك شيئًا وإن كان هو متصرفًا فيه، والمؤمن أعطاه الله مالاً فعمل فيه بطاعة الله وأنفقه فِي رضاه سرًّا وجهرا فهو كالحر يتصرف في ماله ولا يسلب عنه أبدًا، أو مَثَّل الصنم بالمملوك العاجز ومثَّل نفسه الأقدس بالحر المالك الذي رزقه الله مالاً يتصرف فيه كيف يشاء فالتسوية بينهما مع الاشتراك في النوعية ممتنعة فكيف بالقادر الغني المطلق والصنم العاجز على الإطلاق؟! وجمع الضمير في يستوون، لأن معناه هل يستوي الأحرار والعبيد؟! (الحَمْدُ لله) كل الحمد له لأنه وحده مُولي النعم كلها، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُون)، أنه وحده مُولي النعم فيعبدون غيره، (وَضَرَبَ اللهُ مَثلاً رَّجُلَيْنِ) أي: جعل رجلين مثلاً، (أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ): ولد أخرس، (لاَ يَقْدِرُ عَلَى شيْءٍ) من الصنائع لنقصان جسده وعقله، (وَهُوَ كَلٌّ)(2/352)
ثقل، (عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ) حيثما يرسله سيده في أمر، (لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ) لا يَكْفِ مُهمَّ مُرْسِلِهِ، (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ)، فَهِمٌ منطيق ذو رشد ينفع الناس أحسن نفع، (وَهُوَ) في نفسه، (عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ): مسيرة صالحة لا يرجى منه شيء إلا وهو يأتي بأمثل منه فالأول: هو الأصنام لا تسمع ولا تنطق ولا تعقل ومع ذلك كلفة إلى عابدها تحتاج إلى أن يخدمها، والثاني: هو الله القادر المتكلم النافع الصمد المستغني مطلقًا المحتاج إليه ما عداه، أو مثل للكافر والمؤمن وقد نقل أن الأول في عبد رجل من قريش والثاني في عثمان بن عفان والأبكم الذي هو مولاه ينفق عليه عثمان وهو يكره الإسلام ويأباه.
* * *
(وَلله غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)(2/353)
وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
* * *
(وَلله غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) يختص به علم ما غاب عن العباد، (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ) قيام القيامة في السرعة والسهولة، (إِلا كَلَمْحِ البَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) أو أمرها أقرب منه بأن يكون في أقل من ذاك الزمان وأو للتخيير أو بمعنى بل، (إِنْ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ) فيقدر على إعادة الخلائق دفعة.
(وَاللهُ أَخْرَجَكُم) دليل على كمال قدرته، (مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) حال كونكم، (لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ) أنشأ، (لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ) التي هي سبب معرفتكم الجزئية والكلية، (لَعَلَّكُمْ تشكُرُون) هذه النعم فلا تعبدون غير موليها، (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ) مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة، (فِي جَوِّ السَّمَاءِ) الجو الهواء المتباعد من الأرض، أي: في هواء العلو، (مَا يُمْسِكُهُنَّ) فيه، (إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) والآيات خلق الطير بهيئة يمكن معها الطيران وخلق الجو بحيث يمكن فيه الطيران وإمساكها في الهواء مع ثقل جثة الطير ولا ينتفع بها إلا كل مؤمن، (وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُم(2/354)
سَكَنًا): موضعًا تسكنونها كالبيوت الحجرية والمدرية والسكن بمعنى المسكون، أي: ما يسكن إليه بأن خلق الآلات ثم علمكم الترصيف، (وَجَعَلَ لَكم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بيوتًا) هي القباب المتخذة من الأدم والأنطاع، (تَسْتَخِفُّونَهَا) تجدونها خفيفة، (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) ترحالكم في سفركم، (وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ): وقت حضركم أو نزولكم، (وَمِنْ أَصْوَافِهَا): هي للضأن، (وَأَوبارِهَا): هي للإبل، (وَأَشْعَارِهَا) هى للمعز، (أَثَاثاً) من الفرش والأكسية وغيرهما، (وَمتاعًا) ما يتمتعون به، (إلَى حِينٍ) مدة متطاولة أو إلى أجل معلوم، (وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلالاً) تستظلون بها من الحر كالأشجار وغيرها، (وَجَعَلَ لَكل مِّنَ الجِبَالِ أَكنانًا) جمع كِنّ وهو ما يستكن به من الغيران والبيوت المنحوتة في الجبال والحصون، (وَجَعَلَ لَكُلْ سَرَابيلَ) القمصان والثياب، (تقيكُمُ الحَرَّ) والبرد واكتفى بأحد الضدين عن الآخر أو خصه بالذكر، لأن الحجاز بلاد الحر، (وَسَرَابيلَ) لباس الحرب كالدروع، (تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) تمنعكم الطعن والقطع والرمي، (كَذَلِكَ) مثل تمام هذه النعم التي مر ذكرها، (يتمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) لتستعينوا بها على الطاعة، (لَعَلَّكمْ تُسْلِمُون): تنظرون في نعمه فتؤمنون به أو تنقادون لحكمه وعن عطاء إنما نزل القرآن على قدر معرفة العرب هم أصحاب جبال وأوبار وأشعار ألا ترى إلى قوله: " سرابيل(2/355)
تقيكم الحر " وما يقي من البرد أعظم لكنهم أصحاب حر، (فَإِنْ تَوَلَّوْا): أعرضوا عن قبول كلامك، (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ المُبِينُ) لا يضرك إعراضهم، (يعْرِفُونَ) أى: المشركون، (نِعْمَتَ اللهِ) وأن كلها من الله، (ثُمَّ يُنكِرُونَهَا) بعبادتهم غيره ويقولون: إنَّهَا بشفاعة آلهتنا، (وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ): الجاحدون عنادًا وذكر الأكثر؛ لأن بعضهم لنقصان عقلهم لم يعرفوا أنها من الله أو الأكثر بمعنى الجميع، وعن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قرأ على أعرابي أتاه: (والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا) قال الأعرابي: نعم " وجعل لكم من جلود الأنعام " إلى آخر النعم فقال: نعم، فلما بلغ " كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون " ولى الأعرابي، فأنزل الله " يعرفون نعمة الله " إلى " وأكثرهم الكافرون ".
* * *
(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)(2/356)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
* * *
(وَيَوْمَ نَبْعَثُ) أي: اذكر هول هذا اليوم، (مِن كلِّ أُمَّةٍ شهِيدًا) يعني رسولها يشهد لهم وعليهم، (ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في الاعتذار لأنه لا عذر لهم، (وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ولا هم يسترضون أي: لا يكلفون بإرضاء ربِّهم لأن الآخرة ليست بدار عمل، (وَإذَا رأَى الذِينَ ظَلَمُوا العَذَابَ): عذاب جهنم عطف على " يوم نبعث "، (فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ): يمهلون، (وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ) أوثانهم التي جعلوها شركاء لله، (قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو)، نعبدهم، (مِنْ دُونِكَ) كأن هذا القول منهم التماس بأن يشاركهم في عذابهم، (فأَلْقَوْا) آلهتهم، (إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ) أي: أجابوهم بالتكذيب وقالوا: لسنا شركاء الله وما دعوناكم إلى عبادتنا بل عبدتم أهواءكم وليس ببعيد إنطاق الله الأصنام، (وَأَلْقَوْا): الكفار، (إِلَى اللهِ يَوْمَئِد السَّلَمَ) استلموا لحكمه، (وَضَل) ضاع وبطل، (عنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) من شفاعة آلهتهم ونصرتها، (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا): الناس، (عَن سَبِيلِ اللهِ) عن(2/357)
دخوله في الإسلام، (زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ): بسبب إفسادهم فإنهم ضالون مضلون، (وَيَوْمَ نبْعَثُ) أي: اذكر هذا اليوم وهوله، (فِي كُلِّ أُمَّةٍ شهِيدًا عَلَيْهِم منْ أَنفُسِهِمْ) نبي كل أمة بعث من قومه، (وَجِئْنَا بِكَ): يا محمد، (شهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ): على أمتك، (وَنَزَّلنا) حال بإضمار قد، (عَلَيك الْكِتَابَ تِبْيَانًا): بيانًا بليغًا، (لِّكُلِّ شَيءٍ) يحتاجون إليه من أمور الدين، (وَهُدًى): من الضلال، (وَرَحْمَةً): للجميع، (وبُشْرَى) وبشارة، (للمُسْلِمِينَ) خاصة وحاصله أن الله أمره أن يخوف أمته بيوم شهادته - عليه الصلاة والسلام - على أمته حال كونه مسئولاً عن تبليغ أحكام الله المبينة في القرآن والأمة عن قبولها كما قال تعالى: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) " [الأعراف: 6]، (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)) [الحجر: 92].
* * *
(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ(2/358)
إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
* * *
(إِنَّ الله يَأمُرُ بِالْعَدْلِ)، بالتوسط في الأمور اعتقادًا وعملاً (وَالإِحْسَانِ): إلى الناس وعن ابن عباس العدل التوحيد، والإحسان الإخلاص فيه، (وَإِيتاءِ ذي القُرْبَى): صلة الرحم، (وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ): ما غلظ من المعاصي كالزنا، (وَالْمُنكَرِ) وما تنكره الشريعة، (وَالْبَغْيِ): العدوان على الناس، (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ(2/359)
تَذَكَّرُونَ): تتعظون ولله در من قال: لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء وهدى ورحمة ولعل إيرادها عقيب قوله: " ونزلنا عليك الكتاب " للتنبيه عديه، (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) البيعة التي بايعتم على الإسلام أو كل عهد وميتاق، (وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) أي: أيمان البيعة بعد توكيدها بذكر الله أو الأيمان مطلقًا (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا): شاهدًا بتدك البيعة والواو للحال، (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) تهديدًا لمن نقض الأيمان، (وَلَا تَكُونُوا): في نقض الأيمان، (كَالَّتِي نَقَضَتْ): أفسدت، (غَزْلَهَا) مصدر بمعنى المفعول، أي: ما غزلته، (مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) أي: نقضت بعد إحكامه وفتله، (أَنْكَاثًا) جمع نكث وهو ما ينكث فتله ثاني مفعولي نقضت بتضمين معنى الجعل أو
بأنه بمعنى صيرت، أو مفعول مطلق لـ نقضت وهو مثل لمن نقض عهده بعد توكيده وقد نقل أن في مكة كانت امرأة حمقاء تفعل ذلك، (تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ) حال من اسم كان، (دَخَلاً بَيْنَكُمْ) أي: مفسدة ودغلاً، وهو ثاني مفعولي تتخذون، (أَن تَكُونَ) أي: بسبب أن تكون، (أُمَّةٌ): جماعة، (هِيَ أَرْبَى) أكثر عددًا وعُددًا، (مِنْ أُمَّةٍ) من جماعة أخرى كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر وأعز منهم فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون، الأكثرين، (إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) يختبركم الله بكونهم أربى لينظر أنكم متمسكون بحبل الوفاء أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقلة المؤمنين(2/360)
وفقرهم أو ضمير به راجع إلى الأمر بالوفاء، (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكمْ يَوْمَ القِيامَةِ مَا كُنتمْ فيهِ تَخْتَلِفُونَ): في الدنيا فيجازي كلٌ بعمله، (وَلَوْ شَاءَ الله لَجَعَلَكمْ أُمَّةً وَاحِدَةً): متفقة الكلمة والدين، (وَلَكِن يُّضِل مَن يَشَاءُ) عدلاً منه، (وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ): فضلاً منه، (وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ): يوم القيامة بنقير وقطمير ويجازيكم، (وَلاَ تَتَّخِذوا أَيْمَانَكُمْ) صرح بالنهي بعد النهي مبالغة، (دَخَلاً بَيْنَكمْ): مكرًا وخديعة، (فَتَزِلَّ قَدَمٌ) عن محجة الإسلام، (بَعْدَ ثُبُوتِهَا): عليها، (وَتَذُوقُوا السُّوءَ): العذاب في الدنيا، (بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللهِ) أي: بسبب صدكم غيركم عنه فإن الكافر إذا رأى المؤمن قد غدر لم يبق له وثوق بالدين فانصد عن الإسلام، أو لأن من نقض البيعة جعل ذلك سنة لغيره، أو يصدودكم عن الوفاء، (وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ): في الآخرة، (وَلاَ تَشْتَروا): لا تستبدلوا، (بِعَهْدِ اللهِ): بيعة رسوله، (ثَمَنًّا قَلِيلاً): عرضًا يسيرًا من الدنيا، (إِنَّمَا عِندَ اللهِ): من الثواب على الوفاء، (هوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كنتمْ تَعْلَمُونَ) أي: من أهل العلم والتمييز، (مَا عِندَكُمْ): من أمتعة الدنيا، (يَنفَدُ): ينقضي، (وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ): دائم لا ينقطع، (ولَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا): على الوفاء أو على أذى الكفار، (أَجْرَهم) ثاني مفعولي نجزين فإنه بمعنى نعطين، (بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) بجزاء أحسن من أعمالهم، قيل معناه: نجزيهم بما ترجح فعله من أعمالهم وهو الواجب(2/361)
والمندوب، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً): نرزقه رزقًا حلالاً وقناعة وحلاوة طاعة وانشراح صدر، (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ): ولنعطينهم، (أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فإذَا قَرَأتَ القُرْآنَ) أردت قراءته، (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ): سل الله أن يعيذك من وساوسه وهو أمر ندب، (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ): تسلط، (عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ): تسلطه، (عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ): يحبونه ويطيعونه، (وَالَّذِينَ هُم به): بالله أو بسبب الشيطان، (مُشْرِكُونَ).
* * *
(وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)(2/362)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
* * *
(وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ): رفعناها وأنزلنا غيرها لمصالح، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ): أعلم بمصالح عباده في التبديل والنسخ، (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ)، أي: قالت الكفرة وهو جواب إذا وما بينهما اعتراض أو حال، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ): جبريل عليه السلام، (مِن رَبِّكَ بِالْحَقِّ) متلبسًا بالحكمة، (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمنوا) على إيمانهم حين تأملوا وفهموا مصالح النسخ، (وَهُدًى وبشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) معطوفان على محل (لِيُثَبِّتَ) أي: تثبيتًا وهدايةً وبشارةً، (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)، كان غلام لبعض بطون قريش، وكان بيَّاعًا فربما كان - صلى الله عليه وسلم - يجلس إليه ويكلمه ولسانه أعجمي لا يعرف من العربي إلا قدر ما يرد الجواب فقال المشركون: هو الذي يعلمه القرآن، وقد نقل أن كاتب وحيه الذي ارتد افترى هذه المقالة، (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ): لغة الرجل(2/363)
الذي يُمِيلُون قولَهم عن الاستقامة، (إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا): القرآن، (لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) ذو بيان وفصاحة فكيف يعلمه من لا يعرفه؟! (إِن الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللهُ): إلى الحق فيتفوهون بكلمات هي أضحوكة لمن يسمع (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ): في الآخرة، (إِنَّمَا يَفْتَري الكَذِبَ): بالله، (الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ): فلا يخافون عقابه، (وأُولَئِكَ): المفترون بهذا الافتراء، (هُمُ الْكَاذِبُونَ): الكاملون في الكذب، فإن الطعن بمثل هذه الخرافات أعظم الكذب، (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ) مبتدأ خبره محذوف دل عليه قوله: (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ)، (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) على كلمة الكفر استثناء متصل، (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ): لم يتغير عقيدته، (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا): طاب به نفسًا، (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ منَ اللهِ) جزاءً لمن شرح، (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) عن ابن عباس: إنَّهَا نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون ليرتد فوافقهم مكرهًا وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معتذرًا والإجماع على جواز كلمة الكفر عند الإكراه لكن الأفضل تركه وإن قتل، (ذلِك): الكافر بعد الإيمان أو غضب الله عليهم، (بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ(2/364)
الْكَافِرِينَ) أي: قومًا كفروا في علم الله وخلقهم على الكفر، (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ): ختم، (اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) فلا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون الحق، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ): الكاملون في الغفلة، (لاَ جَرَمَ): حقًا، (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ)، إذ اشتروا برأس مالهم العذاب المخلد، (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا) أي: ربك لهم لا عليهم وليهم وناصرهم وهم المستضعفون الذين كانوا بمكة ما تيسرت لهم الهجرة مع المهاجرين، (مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا) عذبوا وثم لتباعد حال هؤلاء عن حال أولئك، (ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا) على المشاق للدين، (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا) بعد الهجرة والجهاد والصبر، (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر ذنوبهم ويرحمهم فينعم عليهم.
* * *
(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)(2/365)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
* * *
(يوْمَ) منصوب بـ غفور رحيم أو بتقدير اذكر، (تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا) تحتج عن ذاتها وتسعي في خلاصها، (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ)،: جزاء (مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون): بنقص أجورهم، (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً) أي: جعلها مثلاً لمن أنعم الله عليه فكفر بالنعمة فأنزل الله عليه النقمة، (كَانَتْ آمِنَةً) أي: كـ مكة كانت ذات أمن، (مُطْمَئِنَّةً): مستقرة لا يزعج أهلها خوف، (يَأْتِيهَا رِزْقُهَا): أقواتها، (رَغَدًا): واسعًا، (مِنْ كُلِّ مَكَانٍ): من نواحيها، (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) قد جرت الإذاقة عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في الشدائد فيقولون ذاق فلان البؤس، واستعار اللباس لما غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف، ثم إن أهل مكة لما استعصوا فدعا عليه السلام عليهم بسبع كسبع يوسف أصابتهم حتى أكلوا العظام المحرقة والجيف، وأما الخوف فمن سطوة سرايا المؤمنين حتى فتح الله على أيديهم، (بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ): بسبب صنيعهم، (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ): من نسبهم(2/366)
وأصلهم، (فَكَذبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ) من الجوع والخوف والقتل، (وَهُم ظَالِمُونَ) أي: حال التبساهم بالظلم، (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أمرهم الله بأكل الحلال وشكر النعمة بعد أن هددهم وزجرهم عن الكفر، (حَلالاً طَيِّبًا) مفعول كلوا والظرف حال أو بالعكس، (وَاشْكرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِن كنتُمْ إِيَّاهُ تَعبدُونَ) إن كنتم تطيعون الله وحده، (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) عدد عليهم ما حرم الله لا ما حرموا من عند أنفسهم من البحائر والسوائب وغيرهما بعد ما أمرهم بتناول ما أحل لهم وقد مر تفسيره مفصلاً في سورة البقرة، (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ) وصف ألسنتهم الكذب مبالغة في كذبهم كأن الكذب مجهول وألسنتهم تعرفه وتصفه بكلامهم هذا كقولهم: وجهها يصف الجمال والكذب مفعول تصف وما مصدرية أي: لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب يعني: لا تحللوا ولا تحرموا بمجرد قول ينطق به ألسنتكم من غير حجة، أو نصب الكذب بـ لا تقولوا واللام في لما تصف كاللام في لا تقولوا لما أحل الله لك هذا حرام وقوله هذا حلال وهذا حرام بدل من الكذب أو متعلق بـ تصف على إرادة القول، أي: لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من الأنعام والحرث بالحل والحرمة فيقول هذا حلال وهذا حرام، (لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الكَذِبَ) اللام لام العاقبة، (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ): لا ينجون من عذابه،(2/367)
(مَتَاعٌ قَلِيلٌ) أي: ما يفترون لأجله أو ما هم فيه منفعة قليلة، (وَلَهُمْ): في الآخرة، (عَذَابٌ أَلِيمٌ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ) في سورة الأنعام وهو: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) [الأنعام: 146] الآية، (مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ): بالتحريم، (وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فاستحقوا التضييق عليهم وهذا إشارة إلى أن تحريم بعض الأشياء على المؤمنين لمضرة فيه وعناية في شأنهم وأما تحريم بعض الأشياء على اليهود فجزاء نكالهم وتضييق عليهم كما قال تعالى: " فبظلمٍ من الذين هادوا " الآية [النساء: 160]، (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ) لا عليهم أي: لهم بالنصر والرحمة، (عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ) أي: متلبسين بها أو بسببها، وعن بعض السلف كل من عصى الله فهو جاهل، (ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا)، حالهم، (إِذ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا) من بعد التوبة، (لَغَفُورٌ): كثير المغفرة، (رحِيمٌ): واسع الرحمة لهم فيثيبهم على أعمالهم وجاز أن يكون لغفور رحيم خبر إن الأولي وإن ربك من بعدها تكرير وتأكيد.
* * *
(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ
* * *(2/368)
فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) أي: مأمومًا مقصودًا يقصده الناس ليأخذوا منه الخير أو مؤتمًا به مقتدى فُعْلة بمعنى مفعول كرحلة ونخبة، أي: ما يرتحل إليه وما ينتخب أي يختار أو أمة لأنه وحده مؤمن والناس كلهم كفار، أو لكماله واستجماعه فضائل لا توجد إلا في أمة، (قَانِتًا): مطيعًا، (لله حَنِيفًا)، مائلاً عن الباطل، (وَلَمْ يَكُ مِنَ الُمشْرِكِينَ) كما زعم قريش أنَّهم على ملة إبراهيم وهم مشركون، (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ) لقلائل نعمه فكيف بالكثير، (اجْتَبَاهُ) للنبوة، (وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) عبادة الله وحده، (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) هي كونه حبيب الخلائق(2/369)
ومن أولاده الأنبياء، (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ): جمعنا له خير الدارين ومن دعائه عليه السلام: (وألحقني بالصالحين) (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ): يا محمد، (أَنِ اتَّبِعْ) أي: بأن أو تفسيرية، (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) وهذا أدل دليل على عظمته فإن مثل أفضل الخلائق قاطبة مأمور باتباعه، (وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ) كما يزعم قومك، (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ) فرض عليهم تعظيمه وترك الاصطياد فيه (عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ): اليهود، فإن موسى عليه السلام أمرهم بتعظيم الجمعة فأبوا إلا شرذمة منهم، وقالوا: نريد يومًا فرغ الله فيه من الخلق وهو السبت فأذن الله لهم في السبت وغلظ وشدد الأمر فيه عليهم فابتلاهم بتحريم صيده فما أطاعوا إلا الشرذمة التي رضوا بيوم الجمعة وعن قتادة اختلفوا فيه أي: استحله بعضهم وحرمه بعضهم، وقيل: أي: إنما جعل وبال السبت، أي: المسخ على الذين حرموه تارة وحللوه أخرى وهو الاختلاف، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فيجازي كل فريق بما يستحقه، (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ ربِّكَ): دينه، (بِالْحِكْمَةِ): بالقرآن، (وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ): مواعظ القرآن وقيل المراد القول(2/370)
اللين بلا تغليظ وتعنيف، (وَجَادِلْهُم بِالتي هِيَ أَحْسَنُ) أي: من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق وحسن خطاب وقيل نسختها آية القتال، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي: قد علم الشقي والسعيد وكتب ذلك عنده وفرغ منه فادعهم أنت إلى الله ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات فإنما عليك البلاغ، (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) السورة مكية وهذه الآيات مدنية نزلت حين وقعت وقعة أحدٍ وفعلوا ما فعلوا بحمزة - رضى الله عنه - فحين نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والله لئن أظفرني لله بهم لأمثلن بسبعين مكانك فلما نزلت كفَّر عن يمينه، وعن بعضهم أن هذا أمر بالعدل في الاقتصاص والمماثلة في استيفاء الحق مطلقًا، (وَلَئِن صَبَرتمْ): عن المجازاة بالمثلة، (لَهُوَ) أي: الصبر، (خَيْرٌ للصَّابِرِينَ) من الانتقام للمنتقمين وعلى ما فسرنا الآية محكمة وعن بعضهم، هذا هو الأمر بالصبر عن القتال والابتداء به فنسخت بسورة براءة وعلى كل تقدير الآية في غاية المناسبة مع قوله: " ادع إلى سبيل ربِّك " الآية، (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ): بتوفيقه وعونه، (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) على من خالفك وقيل: على ما فعل بالمؤمنين، (وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) في ضيق صدر من مكرهم فإن الله كافيك وناصرك، (إِنَّ اللهَ(2/371)
مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) المحرمات أو الشرك بتأييده ومعونته، (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) في العمل وقيل: بالشفقة على خلقه.
اللهم اجعلنا منهم برحمتك الواسعة.
* * *(2/372)
سورة بني إسرائيل
مكية وقيل إلا قوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) إلى ثمان آيات
وهي مائة وإحدى عشرة آية واثنا عشر ركوعًا
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
* * *(2/373)
(سُبْحَانَ) اسم بمعنى التسبيح، أي: أنزهه تنزيهًا من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله تعالى مجد الله نفسه وعظم شأنه لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه، (الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) محمدٍ صلى الله عليه وسلم، (لَيْلاً) أي: في بعض الليل،(2/374)
فإنه مع تنكيره دال على تقليل مدة الإسراء، (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) مسجد مكة أو من مكة لا من المسجد ويطلق على مكة كلها مسجد الحرام، (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا) الذي ببيت المقدس ببدنه الأشرف والأصح، بل الصحيح أن الإسراء في اليقظة بعد البعثة مرة واحدة وإن كان في المنام قبلها، (الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) بالثمار والأنهار وببركات الدين والدنيا، (لِنُرِيَهُ) أي: محمدًا، (مِنْ آيَاتِنَا) الكبرى عجائب سماواته وغرائب آياته، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوال العباد مصدقين ومكذبين،(2/375)
(البَصِيرُ) فيجزيهم وفق ما يستحقون، (وَآتيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) كثيرًا ما يقرن بين ذكر محمد وموسى - عليهما السلام - والقرآن والتوراة، فأولاً ذكر شرف سيدنا محمدٍ رسول الله ثم شرع في فضل كليمه موسى، (وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا) أن مفسرة، ومن قرأ بالغيبة فأن ناصبة ولام العاقبة محذوفة أي: لئلا، (مِنْ دُونِي وَكِيلًا): ربًّا تَكِلُون إليه، (ذُرِّيَّةَ) نصب على الاختصاص وعلى قراءة الخطاب جاز نصبه بالنداء، (مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ): نوحًا، (كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) كثير الحمد فيه تذكير لنعمة إنجائهم من الغرق ثم الحث للذرية على الاقتداء به.
(وَقَضَيْنَا): أوحينا وحيًا مقضيًّا مقطوعًا، (إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ): التوراة، (لَتُفْسِدُنَّ) جواب قسم محذوف، (فِي الْأَرْضِ) بالمعاصي، (مَرتيْنِ) مخالفة أحكام التوراة، ثم قتل يحيى وزكريا، (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) تستكبرن عن طاعة الله أو تظلمن الناس، (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ): عقاب، (أُولَاهُمَا)، أي: أولى الإفسادتين، (بَبَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا) هم جالوت وجنوده، أو ملك الموصل سنجاريب أو بُخْت نَصَّر فأذلهم وقهرهم وقتلهم، (أُولِي): ذوي، (بَأْسٍ): قوة، (شَدِيدٍ فَجَاسُوا): ترددوا لطلبكم، (خِلَالَ): وسط، (الدِّيَارِ) للقتل والغارة والسبي، (وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً) فإنه قضاء مبرم، (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الكَرَّةَ): الدولة، (عَلَيْهِمْ) بأن سلط داود على جالوت فقتله أو دانيال على جنود بخت نصَّر، (وَأَمْدَدْناكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) حتى عاد أمركم كما كان،(2/376)
(وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا): مما كنتم وهو من ينفر مع الرجل من قومه أو جمع نفر، أي: أكثر عددًا مما كنتم، (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَاتُمْ فَلَهَا) أي: الإحسان والإساءة كلاهما مختصان بما لا يتعدى النفع والضر إلى غيركم، وقيل: أتى باللام دون على في قوله (وإن أسأتم فلها) للازدواج، (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ) عقوبة المرة، (الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا) تقديره بعثناهم ليسوءوا، (وُجُوهَكُمْ) يهينوكم ومن قرأ ليسوءَ فالضمير لله أو للوعد أو للبعث، (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ) عطف على ليسوؤا، (كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي: كما خربوا أولاً بيت المقدس بعثناهم ليخربوا ثانيًا، (وَلِيُتَبِّرُوا): يهلكوا، (مَا عَلَوْا) مفعول يُتَبِّرُوا، أي: ليهلكوا كل شيء غلبوه، (تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) يا بني إسرائيل بعد انتقامه منكم برد الدولة إليكم، (وَإِنْ عُدتُّمْ): إلى المعصية، (عُدنا) إلى العقوبة وعن بعض السلف عادوا فبعث الله عليهم المسلمين، (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) محبسًا، أو بساطًا كما يبسط الحصير، (إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي) للحالة أو الطريقة التي، (هِيَ أَقْوَمُ) أسد الحالات، (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ) أي: بأن، (لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وَأَنَّ) عطف(2/377)
على أنَّ لهم، (الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعتدنا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)، أي: يبشرهم بثوابهم وعقاب أعدائهم.
* * *
(وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ(2/378)
عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
* * *
(وَيَدْعُ الإِنسَانْ بِالشَّرِّ) أي: يسأل الله عند غضبه الشر على نفسه وأولاده وأمواله، (دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ) أي: مثل مسألته الخير، (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا): يسارع إلى ما لا يعلم خيريته لكن الله تعالى صبور عليهم لا يجيب جميع مسألته لطفًا وإنعامًا، (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ) تدلان على قدرة خالقهما وحكمته، (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ)، الإضافة بيانية، (وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً) مضيئة أو مبصرة للناس من أبصره فبصر وعن ابن عباس كان القمر وهو آية الليل يضيء كما تضيء آية النهار وهي الشمس فمحونا آية الليل محوه السواد الذي في القمر، وسئل عن على ما هذه اللطخة التي في القمر؟ فقال: ويحك! أما تقرأ القرآن فمحونا آية الليل فهذه محوه، وروي عن آخرين من السلف ما يدل على ذلك، (لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) لتطلبوا في النهار أسباب معاشكم، (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)(2/379)
لولا محو آية الليل لكان الليل مثل النهار مضيئًا فما عرفنا عدد السنين ولا جنس الحساب، (وَكُل شَيْءٍ) مما تحتاجون إليه، (فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا): بيناه بحيث لا يلتبس، (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ) أي: ما قضي عليه أنه عامله وما هو صائر إليه من سعادة وشقاوة وكانوا يتيمنون بسنوح الطير ويتشاءمون ببروحها فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان سببهما من عمل العبد الذي هو السبب في الرحمة والنقمة، (فِي عُنُقِهِ) أي: لازم له لزوم القلادة أو الغل لا ينفك عنه، (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا) مفعول نخرج، أو حال من مفعوله المحذوف وهو ضمير الطائر ويعضده قراءة من قرأ يخرج بالياء وفتحه، (يَلْقَاهُ) صفة، (مَنْشُورًا) إما حال من مفعول يلقى أو صفة أخرى أي: يجده منشورًا لكشف غطائه، (اقْرَأ كِتَابَكَ) أي: يقال له ذلك، (كَفَى بِنَفْسِكَ) الباء مزيدة في الفاعل، (اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) أي: حاسبًا عليك تمييز يعني كفيت أنت في محاسبة نفسك لا تحتاج(2/380)
إلى من يحاسبك وتذكير حسيبًا لأن مثل هذه الأمور يتولاها الرجال كأنه قال: كفى بنفسك اليوم رجلاً حسيبًا، (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ): لا ينجي غيره، (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) لا يضر ضلاله غيره، (وَلَا تَزِرُ): لا تحمل، (وَازِرَةٌ) نفس حاملة، (وِزرَ أُخْرَى) نفس أخرى، بل لا تحمل إلا وزرها، (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) يبين لهم ما يجب عليه فلا يُدْخِل أحدًا في النار إلا بعد إرسال الرسل إليه كما قال تعالى: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا) الآية [الملك: 8]، فعلى هذا الظاهر أن يقال: إن من نشأ في شاهق جبل ولم يسمع رسولاً فهو معذور وكذا المجنون الدائم المطبق وكذا الأطفال مطلقًا، لكن الشيخ الأشعري ذهب إلى أنَّهم يمتحنون يوم القيامة بأن يأمرهم الله بدخول النار فمن أطاع نجا ودخل الجنة وانكشف علم الله فيه لسابق السعادة، ومن عصى دخل النار داخرًا وانكشف تقدم شقاوته وحكاه عن أهل السنة والجماعة وهو مختار البيهقي ومحققي العلماء والنقاد وعلى هذا أحاديث منها ما هو صحيح ومنها ما هو حسن ومنها ما هو ضعيف.(2/381)
ولولا التزام الاختصار لذكرنا نبذًا منها مع تحقيق المسألة ردًا وإثباتًا، (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) متنعميها بالفسق والمراد بالأمر الأمر القدري يعني سخرهم الله إلى فعل الفواحش فاستحقوا العقوبة فإن الله لا يأمر بالفحشاء، قيل معناه كثرنا يقال: أمرت الشيء إذا كثرته وقراءة من قرأ آمرنا يؤيده ومن قرأ أمَّرنا فمعناه جعلناهم أمراء، وقيل: أمرناهم بالطاعة على لسان رسول وفيه بعد؛ لأنه يبقى حينئذٍ تخصيص المترفين غير بين الوجه وكذلك التقييد بزمان إرادة الإهلاك فتدبر، (فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي: كلمة العذاب، (فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا): استأصلناها، (وَكَمْ) أي: كثيرًا مفعول، (أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ) تمييز لِكَم، (مِن بَعْدِ نُوحٍ) كـ عاد وثمود فإن بين آدم ونوح عشر قرون كلهم على الإسلام، (وَكَفَى بِرَبِّكَ) الباء مزيدة على الفاعل، (بِذُنُوبِ عِبَادِهِ) متعلق بقوله: (خَبِيرًا بَصِيرًا) وهما منصوبان على التمييز أو الحال فإن الذنوب هي أسباب الهلكة وهو تعالى عالم بها فمعاقب عليها، (مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ) أي: همته مقصورة على الدنيا، (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) بدل البعض من له فإن ضميره لمن وهو في معنى الكثرة، (ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا) يدخلها، (مَذْمُومًا مَّدْحُورًا) مطرودًا قيل: الآية في المنافقين يغزون مع المسلمين وليس غرضهم إلا الغنائم، (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) حقها من السعي وهو الإتيان بالأوامر والانتهاء عن النواهي، (وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأُوْلَئِكَ): الجامعون للشرائط الثلاثة، (كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا): مقبولاً عنده(2/382)
مثابًا عليه، (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ) أي: كل واحد من الفريقين أعني هؤلاء الذين أرادوا الدنيا وهؤلاء الذين أرادوا الآخرة نمدهم ونزيدهم من عطاء ربك فنرزق المطيع والعاصي وهؤلاء منصوب بتقدير أعني أو بدل من كلًا، (وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) ممنوعًا في الدنيا عن مؤمن ولا عن كافر، (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) في الدنيا فمنهم الغني والفقير والحسن والقبيح والصحيح والمريض وغير ذلك ونصب كيف بـ فضلنا على الحال، (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) أي: التفاوت في الآخرة أكثر وأكبر ونصبها على التميز، (لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ) الخطاب لكل أحدٍ أو للرسول والمراد أمته، (فَتَقْعُدَ) تصير، (مَذْمُومًا): من الملائكة والمؤمنين، (مَخْذُولًا) من الله.
* * *
(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)(2/383)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
* * *
(وَقَضَى رَبُّكَ) أمر أمرًا قطعيًّا، (أَلَّا) أي: بألا، (تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) فإنه المستحق للعبادة وحده، (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أي: وبأن تحسنوا بهما إحسانًا، (إِمَّا) إن شرطية وما زائدة، (يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبرَ أَحَدُهُمَا) فاعل يبلغن، (أَوْ كِلاهُمَا) ومن قرأ يبلغانِّ فأحدهما بدل البعض من الضمير، (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) هو صوت دال على تضجر وهو مبني على الكسر والتنوين والتنكير ومن قرأ بالفتح فَعلى التخفيف يعني إن عاش أحد والديك أو كلاهما حتي يشيب ويكون كلًّا عليك فلا تسمعهما قولاً سيئًا حتى التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ، (وَلاَ تَنْهَرْهُمَا): لا تزجرهما، (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)، جميلاً بتأدب وتوقير، (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ) تذلل لهما واخضع جعل للذل جناحًا وأمره بخفضه مبالغة في التواضع لهما، (مِنَ الرَّحْمَةِ) من فرط رحمتك عليهما، (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) رحمة مثل رحمتهما عليَّ في حال صغري، وعن حذيفة أنه استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(2/384)
في قتل أبيه وهو في صفِّ المشركين فقال: (دَعْهُ يَلِهِ غَيْرُك)، (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكمْ) من قصد البر والعقوق، (إِن تَكُونوا صَالِحِينَ): قاصدين للصلاح مطعين لله، (فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ) هم التائبون من الذنب الراجعون عن المعصية إلى الطاعة، (غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) من صلة الرحم والبر عليهم وعن علي بن الحسين: أراد به قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) بأن تصرف مالك في غير حق، وعن السلف لو أنفقت مُدًّا في غير حقه صرت مبذرًا، ولو أنفقت جميع مالك في الحق لم تكن مبذرًا، (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) أصدقاءهم وأتباعهم وأمثالهم في الشرارة، (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)، جحودًا منكرًا لأنعم الله فلا تتبعوه ولا تكونوا مثله، (وَإِمَّا تعْرِضَنَّ عَنْهم) وإن أعرضت عمن أمرتك أن تؤتيه من الأقارب وغيرها حياء من ردهم وليس عندك شيء تعطيه حين سألك، (ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا) لانتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك فتعطه، (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا) يعني: إذا سألك أقاربك ومن أمرناك بإعطائهم وليس عندك شيء وأعرضت عنهم لفقد النفقة فعدهم وعدًا بسهولة ولينٍ مثل أن تقول: إذا جاء رزق الله فسنصلكم(2/385)
إن شاء الله كذا فسرها السلف وقيل: القول الميسور الدعاء لهم مثل رزقنا الله وإياكم، (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ) لا تمسكهما عند البذل كل الإمساك حتى كأنها مقبوضة إلى عنقك، (وَلَا تَبْسُطْهَا) بالخير، (كُلَّ الْبَسْطِ) تمثيلان لمنع الشحيح وإسراف المبذر، (فَتَقْعُدَ) تصير، (مَلُومًا) يلومك الناس ويذمونك إن بخلت، (مَحْسُورًا) نادمًا إن بسطت كل بسط وأيضًا دابة عجزت عن السير ضعفًا تسمى حسيرًا فعلى ما فسرنا من باب اللف والنشر وجاز أن يكونا متعلقين بالإسراف فإن المسرف ملوم عند الله والناس نادم عن فعله، أو بكل من البخل والسرف قيل: نزلت حين وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه ولم يجد ما يلبسه للخروج حين أذنوا للصلاة، (إِن ربَّكَ يَبْسُطُ)، يوسع، (الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ): يضيق لمن يشاء، (إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا): يعلم سرهم وعلنهم فيوسع على من يرى مصلحته في التوسعة له، ويضيق على من يعلم مصلحته في(2/386)
، تضييقه، وفي الحديث " إن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغني ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه ".
* * *
(وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
* * *
(وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ) فقر وفاقة وكانوا يئدون بناتهم مخاففة الفقر، (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا): ذنبًا عظيمًا والخطأ الإثم،(2/387)
(وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) في عن مقاربته ومخالطة أسبابه ودواعيه فضلاً عن مباشرته، (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا): بئس طريقًا طريقه، (وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللهُ): قتله، (إِلَّا بِالْحَقِّ)، بردَّةٍ وزنًى بعد إحصان وقتل معصوم عمدًا، (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا) غير مستوجب القتل، (فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ) وهو الوارث لأنه يلي أْمره بعده، (سُلْطَانًا): تسلطًا على القاتل بقتله أو أخذ الدية أو عفوه، (فَلَا يُسْرِفْ) أي: الولي، (فِي الْقَتْلِ) بأن يقتل غير القاتل أو يمثل بالقاتل، أو معناه لا يسرف القاتل فيه بأن يقتل من لا يحق قتله وقراءة لا تسرفوا يؤيده، (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) استئناف أي: لا يسرف الولي لأن الله نصره ولطف عليه حيث أوجب القصاص له وأمر الناس بمعونته، وعلى الوجه الثاني معناه: فإن المقتول منصور لا محالة يقتل به الظالم، (وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ) فضلاً أن تتصرفوا فيه، (إِلَّا بِالَّتِي) أي: إلا بالطريقة التي، (هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) حتى يصير بالغاً فادفعوه إليه، (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) الذي تعاهدون عليه الناس والعقود التي تعاملونهم أو بما عاهدكم الله من تكاليفه، (إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) عنه أو مطلوبًا يطلب من العاهد أن لا(2/388)
يضيعه، (وَأَوْفُوا الكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ) من غير تبخيس، (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) بالميزان العدل وهو لفظ رومي عُرِّبَ، (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلاً) عاقبة من آل إذا رجع، (وَلاَ تَقْفُ) لا تتبع، (مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ما لم يتعلق به علمك من قول وفعل فيدخل فيه شهادة الزور والكذب والبهتان، (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كل أُوْلَئِكَ) إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد وأولئك قد يجيء لغير العقلاء، (كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)، من جوز تقديم مفعول ما لم يسم فاعله؛ لأنه في المعنى مفعول سيما إذا كان ظرفًا فعنده أن عنه فاعل مسئولاً، ومن لم يجوز فعنده أن في مسئولاَّ ضَمير يرجع إلى كل أولئك أي كان كل واحد منها مسئولاَّ عَن نفسه يعني عما فعل به صاحبه، أو ضمير عنه راجع إلى صاحب كل واحد، (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا) وهو التكبر أي: ذا مرح، (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) لن تجعل فيها خرقًا لشدة وطأتك، (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا) بتطاولك وكبرك وهو تهكم بالمتكبر، وعن بعضهم إنك لن تقطع الأرض حتى تبلغ آخرها ولا تقدر أن تطاول الجبال وتساويها فأنت عاجز أو ما أقبح منه التكبر، (كل ذَلِكَ) إشارة إلى ما مر من قوله(2/389)
(لَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا) (1) وهي خمسة وعشرون خصلة، (كَانَ سَيِّئُهُ) أي: المنهي عنه لا المأمورات، (عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا) مبغوضًا، ومَن قرأ (سيئةً) فذلك إشارة إلى ما نهى عنه خاصة واسم كان ضمير لكل ومكروهًا خبر بعد خبر أو بدل من سيئه أو حال من ضمير كان، (ذَلِكَ) أي: الأحكام المتقدمة، (مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) وهي معرفة الحق لذاته والخير للعمل، (وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ) كرره لأنه المقصود والتوحيد رأس كل حكمة، (فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا) من الله والملائكة ومن نفسك، (مَدْحُورً): ملعونًا والمراد من هذا الخطاب اهتداء أمته عليه السلام، (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) أي: أفخصكم ربكم بأفضل الأولاد؟ فالهمزة للإنكار، (وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا) بناتًا لنفسه كما قلتم الملائكة بنات الله تعالى، (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا) إضافة الولد إلى الله تعالى ثم تفضيل أنفسكم عليه حين تنسبون إليه ما تكرهون ثم جعل الملائكة إناثًا وأي خطأ وقولٍ أعظم من هذا.
* * *
(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ
___________
(1) ذكرت الآية كاملة لئلا تلتبس بقوله تعالى (وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا) لأن الآية كتبت في الأصل هكذا (وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ). اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(2/390)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
* * *
(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا) بينا مكررًا، (فِي هَذَا القُرْآنِ) العبر والأمثال والحجج والأحكام أو بينا فيه مكررًا إبطال إضافة البنات إليه، (لِيَذكَّرُوا): يتدبروا ويتعظوا، (وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا): عن الحق، (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا): لطلبوا إلى من له الملك سبيلاً بالمغالبة كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض، أو معناه إن كان الأمر كما زعمتم أنهم آلهة شفعاء فهم طالبون الوسيلة والتقرب إلى الله تعالى محتاجون إليه فكيف تسمونهم آلهة وتعبدونهم، (سُبْحَانَهُ(2/391)
وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا): تعاليًا، (كَبِيرًا تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) إجماع السلف أن للأشياء تسبيحات لا يسمع [لا يسمع الله إياه] إلا من يَسْمع، وقال المتأخرون لكل شيء تسبيح بلسان حاله وهو دلالته على صانع قديم واجب لذاته، (وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) وفي البخاري عن ابن مسعود: " كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل "، والأحاديث الدالة على التسبيح القالي للحيوانات والجمادات كثيرة وفي مسند الإمام أحمد عن رسول الله - صلى الله عليه - وسلم قال: " إن نبي الله نوحًا " لما حضرته الوفاة دعا ابنيه فقال: " آمركما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء "، وعن ابن عباس وبعض من السلف إنما يسبح ما كان فيه روح من حيوانات ونبات، (إِنَّهُ كَانَ(2/392)
حَلِيمًا): لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، (غَفُورًا) لمن رجع وتاب، (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا) يحجبهم عن فهم ما تقرؤه عليهم والانتفاع به أو حجابًا لا يرونه عند قراءة القرآن فإن المشركين الذين في عزمهم أن يؤذوه يمرون به ولا يرونه، (مَسْتُورًا) لا يرى ذلك الحجاب أو ذا ستر كسيل مفعم أي: ذو إفعام، (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً): أغطية، (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي: كراهة أن يفقهوا القرآن، (وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا): ثقلا لئلا يسمعوا سماع انتفاع، (وَإِذَا ذَكرتَ رَبَّكَ فِي القُرْآنِ وَحْدَهُ) من غير ذكر آلهتهم وأصله يَحِد وَحْده فهو مصدر يقع موقع الحال، (وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا)، نفرة من التوحيد أو جمع نافر، (نحنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُون بِهِ) أي: ما يستمعون بسببه ولأجله من الهزء والتكذيب، (إِذْ يَسْتَمِعُون إِلَيْكَ) ظرف لأعلم، (وَإِذ همْ نَجْوَى) حين هم ذوو نجوى يتناجون بالتكذيب، (إِذ يَقُولُ الظالِمُون) بدل من إذ هم بوضع الظاهر موضع المضمر، (إِن تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَّسْحُورًا) سُحِرَ فَجُنَّ وعن بعضهم مشتق من السَّحر وهو الرئة أي: رجلاً مثلكم، (انظُرْ كَيْفَ ضَربُوا لَكَ الأَمثالَ) مثلوك بساحر وشاعر وكاهن ومجنون، (فَضَلُّوا): عن طريق الحق، (فَلاَ(2/393)
يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) إلى الرشاد أو هم متحيرون ليس لهم سبيل يسلكونه، (وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا) بعد الموت، (وَرُفَاتًا): ترابًا، (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) الهمزة لتأكيد الإنكار والعامل في إذا ما دل عليه مبعوثون فما بعد إن لا يعمل فيما قبله، (خَلْقًا جَدِيدًا) مصدر أو حال، (قُلْ) جوابا لهم، (كُونوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا) وهما أشد امتناعًا من العظام والرفات في قبول الحياة، (أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) وهو الموت، أي: لو فرضتم أنكم صرتم حجارة أو حديدًا أو موتًا هو ضد الحياة لأحياكم الله إذا شاء، وعن مجاهد في تفسيره أي: السماء والأرض والجبال، (فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنا) إذا كنا حجارة أو خلقًا شديدًا، (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَولَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ): يحركون، (إِلَيْكَ رُءوسَهُمْ) تعجبًا وتكذيبًا، (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا) فكل ما هو آت قريب، أن يكون اسم عسى وكان تامة وقريبًا خبره أو اسم عسى ضمير البعث وما بعده خبره، (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) ربكم من قبوركم، (فتسْتَجِيبُونَ): تجيبون بحمده (بِحَمْدِهِ) متلبسين بحمده حين لا ينفعكم الحمد، وعن ابن عباس: أي بأمره وعند بعض: أنه خطاب للمؤمنين، وقد ورد أنهم ينفضون التراب عن رءوسهم ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ): في الدنيا أو في البرزخ، (إِلَّا قَلِيلًا) (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ) [المؤمنون: 112، 113].
* * *(2/394)
(وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
* * *
(وَقُلْ لِعِبَادِي): المؤمنين قولوا التي هي أحسن، (يَقُولُوا): الكلمة، (الَتِي هِيَ أَحْسَنُ) يعني في محاوراتهم ومخاطباتهم فيقولوا جواب الأمر والمقول محذوف، (إِنَّ(2/395)
الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ) يهيج الشر، (بَيْنَهُمْ) فإذا لم يكونوا على دين الكلام فلربما يفضي إلى المخاصمة والمشاجرة، (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) وعن الكلبي، أنها نزلت حين شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحش كلام المشركين وسوء خلقهم فقيل: الكلمة التي هي أحسن أن يقولوا يهديك الله، وقيل: هذا قبل الإذن في الجهاد، (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) فيوفقكم للإنابة والطاعة الظاهر أنه خطاب للمؤمنين وحث على المداراة، (أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) وقيل: ربُّكم أَعْلَمَ تفسيرًا للكلمة التي هي أحسن أي: يقولوا لهم هذه الكلمة ونحوها ولا يقولوا لهم إنكم من أهل النار ومعذبون وما يشبهها، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكيلاً) ليس أمرهم موكولاً إليك إنما أنت نذير فما عليك إلا التبليغ وحسن المعاشرة وطيب الكلام في النصح والله الهادي، (وَرَبُّكَ أَعْلمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) فإنه خلقهم على قوابل مختلفة ومراتب متفاوتة في الفهم وقبول الفيض من مفيض الحكمة فليس لأحد أن يستبعد في نبوة يتيم أبي طالب عليه السلام وفي سيادة الجوَّع العراة رضي الله عنهم وأرضاهم، (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ) بمزيد العلم اللدني لا بوفور المال الدني، (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) إشارة إلى وجه تفضيله فعلم من هذا أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل فإن كتابه أشرف الكتب (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء: 105]، وما وقع في الصحيحين من النهي عن التفضيل بين الأنبياء فمحمول على التفضيل بالتشهي والعصبية ولا خلاف(2/396)
أن محمدًا رسول الله أفضلهم ثم إبراهيم ثم موسى على المشهور عليهم الصلاة والسلام، (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمتم) أنها آلهة، (مِّن دُونِهِ) كالملائكة وغيره، (فَلا يَمْلِكُونَ) فلا يستطيعون، (كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ) بالكلية، (وَلاَ تَحْوِيلاً) إلى غيركم أو تحويل حال من العسر إلى حال اليسر نزلت حين شكى المشركون قحطهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)، الذين صفة أولئك ويبتغون خبره أي: هؤلاء الذين تعبدونهم يطلبون القربة إلى الله كالملائكة وعيسى وأمه وعزير والشمس والقمر، (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) بدل من فاعل يبتغون أي: يطلب من هو أقرب منهم الوسيلة فكيف لغيره، (وَيَرْجُون رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) فكيف يستحقون الألوهية، (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) حقيقًا بأن يحذر منه كل شيء حتى الرسل من الملائكة والبشر، وعن ابن مسعود أنها نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرًا من الجن فأسلم الجنيون(2/397)
والإنس الذين يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم، (وَإِن مِّن قَريةٍ إِلا نَحْن مهْلِكوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) بالموت، (أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا) بأنواع العذاب وعن مقاتل وغيره الأول في قرية المؤمنين والثاني في الكفار، (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ) اللوح المحفوظ، (مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ) أي: ما صرفنا عن إرسال الآيات المقترحة لقريش كفسحة مكة وجعل الصفا ذهبًا، (إِلا أَن كَذب بِهَا الأَولون) أي: إلا تكذيب من هو قبلهم وقومك مثلهم طبعًا فلو أرسلناها وكذبوا بها لاستأصلناهم فقد جرت سنتنا على أن لا نؤخر من كذب بالآيات المقترحة فليس عدم إرسالها إلا العناية فإنه سهل علينا يسير لدينا، (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ) بسؤالهم، (مُبْصِرَةً) آية بينة، (فَظَلَموا بِهَا)، كفروا بها أو فظلموا أنفسهم بسببها فإنهم منعوا شربها وعقروها فعاجلناهم بالعقوبة، (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ) المقترحة أو مطلق الآيات، (إِلَّا تَخْوِيفًا) للعباد ليؤمنوا والباء زائدة أو المفعول محذوف وبالآيات حال، (وَإِذْ قلْنَا لَكَ) أي: واذكر إذ أوحينا إليك، (إِن رَّبكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ) هم في قبضته وتحت مشيئته فهو حافظك منهم فامض لما أمرك ولا تهبهم، (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ) هي قصة المعراج والرؤيا من الرؤية عن ابن عباس وغيره هي(2/398)
رؤيا عين، (إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) فقد أنكر بعضهم ذلك وكفروا وزاد إيمان بعضهم فما هي إلا اختبار وفتنة وعن بعضهم أن المراد بهذه الرؤيا رؤيا عام الحديبية رأى عليه السلام أنه دخل هو وأصحابه مكة فتوجه إليها قبل الأجل فصدَّه المشركون ورجع إلى المدينة وكان ذلك فتنة وشكًّا في قلوب بعض حتى دخلها في العام القابل كما قال تعالى: (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ) الآية [الفتح: 27]، (وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ في القُرْآن) أي: وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة وهي شجرة الزقوم يقال طعام ملعون أي: مكروه ضار وملعون أكلها وصفت به مجازًا للمبالغة أو لأن منبتها أصل الجحيم وهي أبعد مكان من رحمة الله، وفتنتها أنَّهم قالوا: محمد يوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم أن فيها شجرة وقالوا: لا نعرف الزقوم إلا الزبد والتمر فجاء أبو جهل بهما وقال يا قوم: زقموا فهذا ما يخوفكم به محمد، (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزيدُهُمْ) التخويف، (إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا) تمردًا وعتوًّا عظيمًا.
* * *
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى(2/399)
بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
* * *
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) قد مرَّ الخلاف في أن المأمورين جملة الملائكة أو ملائكة الأرضين، (قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ) أي: لمن خلقته، (طِينًا) حال من (مَن) أو من ضميره أو نصبه بنزع الخافض، (قَالَ): إبليس (أَرَأَيتَكَ) أي: أخبرني والكاف لتأكيد الخطاب لا محل له من الإعراب، (هَذَا) مفعول أرأيت، (الذِي) صفة هذا، (كَرَّمْتَ عَلَيَّ) أي: أخبرني عن هذا الذي فضلته عليَّ بأن أمرتني [بالسجود له] لم كرمته عليَّ فمتعلق الاستخبار محذوف يدل عليه الصلة (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) اللام توطئة القسم وجوابه، (لَأَحْتَنِكَنَّ) لأستأصلن، (ذُرِّيَّتَهُ): بالإغواء، (إِلَّا قَلِيلًا) لا أقدر أن أقاومهم وكأنه لعنه الله تفرس من خلقه فإنه قد جبل بشهوة ووهم وغضب، (قَالَ): الله: (اذهَبْ) أي: خليتك وأنظرتك فامض لما قصدت، (فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ) أي: جزاؤك وجزاؤهم فغلب المخاطب، (جَزَاءً موْفورًا): مكملاً ونصب جزاء بما في جزاؤكم من معنى تجازون أو بإضمار تجازون وجاز أن يكون حالاً فإنه مقيد بـ موفورا،(2/400)
(وَاسْتَفزِزْ): استخف، (مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم): أن تستفزه، (بِصَوْتِكَ): بدعائك إلى معصية الله وعن ابن عباس كل داع دعا إلى معصية الله فهو شيطان يصوته، وقيل هو الغناء والمزامير، (وَأَجْلِبْ): صِحْ (عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) الخيل الفرسان والرجل اسم جمع للراجل، أي: صح عليهم بأعوانك من راكب وراجل وهو كل راكب وماشٍ في المعصية، وعن قتادة أن له خيلاً ورجالاً من الجن والإنس، قيل: هذا تمثيل لتسطله بشخص كثير الغارة صوت على قوم فاستفزهم وأقلقهم عن أماكنهم وأجلب عليهم بجنده فاستأصلهم، والمعنى تسلط عليهم بكل ما تقدر والمراد من الأمرين أمر القدري أو أمر تهديد، (وَشَارِكْهُمْ فَى الأَمْوَالِ)(2/401)
كل ما أُنفق في حرام أو جُمع من حرام (وَالأَوْلادِ)، ببعثهم على الزنا حتى يكون الولد منه وعلى قتلهم خشية إملاق وعلى تسميتهم بعبد الشمس ونحوه وغير ذلك، (وَعِدْهمْ) المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة وكرامة الآباء، (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) والغرور تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب، (إِن عِبَادِي) أي: المخلصين، (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ): تسلط على إغوائهم، (وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) أي: كفى الله لأن يكل أولياءه فيعصمهم منك، (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي): يجري، (لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ): لتطلبوا من رزقه وتتجروا، (إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) حيث هيأ لكم ما تحتاجون، (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ): خوف الغرق، (فِي البَحْرِ ضَلَّ): زال عن خاطركم، (مَن تَدْعُونَ): كل من تدعونه،(2/402)
(إِلَّا إِيَّاهُ): الله وحده فحينئذ لا يخطر ببالكم سواه فتدعونه وحده، (فَلَمَّا نَجَّاكمْ)، من الغرق، (إِلَى البَرِّ أَعْرَضتمْ): عن التوحيد، (وَكَانَ الإِنسَان كَفُورًا) يعني سجية الإنسان نسيان النعم وجحدها، (أَفَأَمِنْتُمْ) الهمزة للإنكار والفاء عطف على محذوف أي: أنجوتم من البحر فأمنتم من (أَن يَخْسِفَ بِكمْ جَانِبَ البَرِّ) أي: يقلبه الله وأنتم عليه وبكم حال من مفعول يخسف أو الباء للسببية متعلق بـ يخسف وذكر الجانب إشارة إلى أنهم إذا وصلوا الساحل أعرضوا وأن الجوانب بقدرة الله، (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا): المطر الذي فيه الحجارة أو الريح التي ترمي بالحصباء، (ثُمَّ لاَ تَجِدوا لَكمْ وَكِيلاً): يحميكم من العذاب، (أَمْ أَمِنتمْ أَن يُعِيدَكمْ فِيهِ): في البحر، (تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ): ريحًا تكسر كل شيء تمر عليه، (فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ): بسبب كفركم أو كفرانكم، (ثمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا)، التبيع المُطَالِبُ أي: لا تجدوا أحدًا يطالبنا بما فعلنا انتقامًا منا، (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ): بأشياء كثيرة منها العقل والنطق وحسن الصورة، (وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ) على الدواب والسفن، (وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطيِّبَاتِ)، المستلذات، (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) أي: كثيرًا بينًا وافرًا ولا يلزم من هذه الآية على ما فسرنا تفضيل الملائكة نعم يلزم نفي الأفضلية الكثيرة الوافرة ولا يلزم من نفي هذه الأفضلية نفي مطلقها.
* * *(2/403)
(يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
* * *
(يَوْمَ) أي: اذكر يوم، (نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) أي: نبيهم كـ يا أمَّةَ فُلانٍ، أو بكتابهم الذي أنزل عليهم أو بكتاب أعمالهم أو إمام هدي وإمام ضلالة كـ يا متبعي محمد - عليه السلام - ويا متبعي شيطان، وعن محمد بن كعب هي جمع أم كخفاف(2/404)
فلا يفتضح أولاد الزنا ويلزم إجلال عيسى والحسن والحسين عليهم السلام، (فمَن أُوتِيَ كِتَابَهُ) كتاب أعماله، (بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) فلا ينقص من أجورهم أدنى شيء والفتيل الخيط المستطيل في شق النواة، (وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ): الدنيا، (أَعْمَى): عمى القلب فلم ير رشده، (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى) لا يرى طريق النجاة قيل أعمى الثاني أفعل التفضيل كالأجهل، (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) منه في الدنيا، وقد نقل عن بعض السلف أن معناه من كان في هذه النعم التي قد مر وهو قوله: (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ) الآية، أعمى وهو يعاين فهو في أمر الآخرة التي لم يعاين ولم ير أعمى وأضل، (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) إن مخففة، أي: إن الشأن قاربوا بمبالغتهم أن يوقعوك في الفتنة قيل: نزلت في ثقيف حين قالوا: لا نؤمن حتي تعطينا خصالاً نفتخر بها على العرب [لا نجبي] في الصلاة، أي: لا ننحني ولا نكسر أصنامنا بأيدينا وأن تمتعنا باللات سنةً من غير أن نعبدها فإن خشيت أن(2/405)
يسمع العرب لم أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك، وقيل نزلت حين قالت قريش: لا ندعك يا محمد أن تستلم الحجر الأسود حتى تمس آلهتنا وقيل قالوا: نؤمن بك أن تمس آلهتنا، وقيل غير ذلك، (عَنِ الذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ): من الأحكام، (لِتَفْتَرِيَ عَلَينا غَيْرَهُ): غير ما أوحينا إليك، (وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا): لو اتبعت مرادهم يؤمنوا بك ولكنت لهم وليًّا، (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ) لولا تثبيتنا لك وعصمتنا، (لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ): لقاربت أن تميل، (إِلَيْهِمْ): إلى اتباع مرامهم، (شَيْئًا قَلِيلًا)(2/406)
لكن عصمناك فما قاربت من الركون مع قوة اهتمامك بإيمانهم فضلاً من الركون وقيل خطر خطرة بقلبه الأشرف ولم يكن عزمًا والله قد عفى الخلق عنه والأول هو الأولى، (إِذًا): لو قاربت، (لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ) أي: عذاب الدنيا والآخرة ضعف ما يُعذب به غيرك بمثل هذا الفعل فإن المقربين على خطر عظيم وأصله عذابًا ضعفًا في الحياة، أي: مضاعفًا فأقيمت الصفة مقام الموصوف بعد ما حذف ثم أضيفت كما يقال: أليم الحياة، أي: عذابًا أليمًا في الحياة، (ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا): يدفع عنك عذابنا، (وَإِن كَادوا) إن مخففة مثل الأول، (لَيَسْتَفِزونَكَ): يزعجونك، (مِنَ الأَرْضِ): أرض مكة أو المدينة، (لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا) قيل: نزلت حين هم قريش بإخراج الرسول من بين أظهرهم، (وَإِذاً): لو خرجت، (لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ): لا يبقون بعد خروجك، (إِلَّا قَلِيلًا): إلا زمانًا قليلاً وقد كان كذلك فإنه قد وقع على أكثرهم بعد سنة واقعة بدر، وقيل نزلت في المدينة حين قالت اليهود: إن الشام مسكن الأنبياء وأنك إن كنت تسكن فيها آمنَّا بك فوقع ذلك في قلبه الأشرف لكن السورة مكية بتمامها عند الأكثر فالأول أقرب، (سُنَّةَ) أي: سن الله ذلك سنة، (مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا) وهو أن يهلك كل أمة أخرجوا رسولهم فالسنة لله وإضافتها إلى الرسل؛ لأنها من أجلهم، (وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا): تغييرًا.
* * *(2/407)
(أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
* * *
(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ): زوالها واللام للتأقيت، (إِلَى غسَقِ اللَّيْلِ): ظلمته فيدخل فيه صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، أو المراد من الدلوك الغروب وأصل لغته الانتقال، (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) صلاة الصبح سميت قرآنًا كما سميت الصلاة ركوعًا وسجودًا تسمية للشيء باسم ركنه وجزئه عطف على الصلاة، (إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا): يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، (وَمِنَ اللَّيْلِ) أي:(2/408)
بعضه، (فَتَهَجَّدْ): اترك الهجود والتهجد ترك الهجود للصلاة كالتأثم والتحرج، (بِهِ): بالقرآن، (نَافِلَةً لَكَ): فضيلة لك، فإنه قد غفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر فجميع نوافله زيادة في رفع درجته، أو معناه فريضة زائدة لك على الصلاة المفروضة، وعن كثير من السلف أن التهجد واجب عليه ونصبها بالعلية على التوجيه الأول أو بتقدير فرضها فريضة أو حال من ضمير به، (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا) أي:(2/409)
في مقام، (مَحْمُودًا) أو تقديره فيقيمك مقامًا، أي: في مقام هو مقام الشفاعة لأمته يحمده فيه الأولون والآخرون، (وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِي): المدينة، (مُدْخَلَ صِدْقٍ) أي: إدخالاً مرضيًّا، (وَأَخْرِجْنِي): من مكة،. (مُخْرَج صِدْقٍ) إخراجًا حسنًا مرضيًّا نزلت حين أمر بالهجرة، أو أدخلني الجنة وأخرجني من الدنيا أو أدخلني القبر وأخرجني منه وفيه أقوال أُخر، (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) ملكًا وعزًا قويًّا مظهرًا للإسلام على الكفر أو حجةً بينةً تنصرني على من خالفني، (وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ): الإسلام، (وَزهَقَ) هلك، (الَباطِلُ): الشرك، (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا): مضمحلاً غير ثابت وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك يوم فتح مكة، (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ) من للبيان قدم علي المبين لكونه أهم، (مَا هُوَ شِفَاءٌ): لأمراض القلوب من الشك والنفاق والزيغ، (وَرحْمَةٌ للْمؤْمِنِينَ): يحصل فِي القلب الإيمان والحكمة والرغبة في الخير، (وَلاَ يَزِيدُ): القرآن، (الظَّالِمِينَ): الكافرين، (إِلا خَسَارًا): نقصانًا وخذلانًا لكفرهم به، (وَإِذَا(2/410)
أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ): بمال وعافية، (أَعْرَضَ): عن طاعة الله، (وَنَئَا بِجَانِبِهِ) والنائي بالجانب أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره أي: بعد عنا أو استكبر عن طاعتنا، (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ) من المصائب والنوائب، (كَانَ يَئُوسًا): شديد اليأس قَنِطَ أن يعود له بعد ذلك خير، (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ): دينه ونيته وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة أو على طبيعته التي جبلت عليها، (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا): أسدَّ طريقًا وسيجزي كل عامل بعمله، وهو وعيد للمشركين كما قالَ تعالى: (وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) [هود: 121، 122].
* * *
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ(2/411)
لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
* * *
(وَيَسْألونَكَ) أي: اليهود والأحاديث الواردة في نزول هذه الآية مشعرة بأنَّهَا نزلت في المدينة والأصح أن السورة كلها مكية فأجيب بأنه نزلت مرتين، أو أنه نزل في المدينة عليه وحي بأن يجيبهم عما سألوا بالآية المتقدم إنزالها عليه في مكة، وما ذكره الإمام أحمد يدل على أنها مكية فإنه نقل عن ابن عباس أن قريشًا قالت لليهود أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل فقالوا: سلوه عن الروح فسألوه فنزلت، (عَنِ الرُّوحِ): روح بني آدم أو جبريل أو ملك عظيم، (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)، مما استأثر(2/412)
بعلمه، (وَمَا أُوتِيتم مِّنَ العِلْمِ إِلا قَلِيلاً)، أي: ما اطلعتم من علمه إلا على القليل يعني في جنب علم الله قليل وأمر الروح مما لم يطلعكم الله عليه، وقد روي أن اليهود قالوا: تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلاً وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا فنزلت (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ) [لقمان: 27] الآية، (وَلَئِنْ شِئْنَا) اللام توطئة القسم، (لَنَذْهَبَنَّ) جواب القسم ساد مسد جواب الشرط، (بِالذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) أي: إن شئنا محونا القرآن عن مصاحفكم وصدوركم، (ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا): من يصير وكيلاً علينا باسترداده، (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي: لكن رحمة ربك تركته غير مذهوب به أو الاستثناء متصل يعني: إن نالتك رحمته تسترده عليك كأن رحمته تصير وكيلاً عليه، (إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا) حيث أنزل عليك الكتاب وأبقاه، (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ) وإن فرض أن كلهم بلغاء، (عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ) في البلاغة والإخبار عن المغيبات، (لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) لعدم قدرتهم وهو جواب القسم الدال عليه اللام، (وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا): معينًا وناصرًا في الإتيان، (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا) بيَّنا مكرَّرًا، (لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) من(2/413)
كل معنى هو كالمثل في الغرابة والحسن، (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا)، جحودًا للحق وهو في معنى الكلام المنفي فلذلك جاز الاستثناء، (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ): أرض مكة، (يَنْبُوعًا): عينًا لا ينضب ولا ينقطع ماؤها، (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ) أي: بستان، (مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا) حتى نعرف فضلك علينا، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، (أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ) أن ربك إن شاء فعل، (عَلَيْنَا كِسَفًا) أي: قطعًا فلا نؤمن لك حتى تفعل يعنون قوله تعالى: (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ) [سبأ: 9]، (أَوْ تَأتِيَ بِاللهِ وَالْمَلاِئكَةِ قَبِيلاً)، كفيلاً بما تقول شاهدًا بصحته أو مقابلاً معاينة نراه وهو حال من بالله وحال الملائكة محذوفة أي قبيلاً وقبلاء، (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مَن زُخْرُفٍ): من ذهب، (أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ): تصعد في سُلَّم ونحن ننظر، (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ): صعودك وحده، (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ) أي: مكتوبًا فيه إلى كل واحد هذا كتاب من الله لفلان بن فلان ويكون فيه تصديقك، (قُلْ)، أي: رسول الله، (سُبْحَانَ رَبِّي) تعجبًا من تمردهم، أو تنزيهًا لله من أن يأتي أو يشاركه أحد في قدرته، (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا) كسائر الناس، (رَسُولًا) كسائر الرسل وهم لم يقدروا ولم يأتوا بمثل ما قلتم فكيف أقدر على ذلك؟!.
* * *
(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا(2/414)
عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
* * *
(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) مفعول ثان، أي: ما منعهم الإيمان بعد، (إِذْ جَاءَهمُ الهُدَى) بعد نزول القرآن الذي هو معجزة، (إِلا أَن قَالُوا) فاعل منع، (أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا) أي: إلا قولهم هذا أي لم يبق لهم شبهة تمنعهم عن الإيمان إلا إنكارهم أن يرسل الله بشرًا، (رسُولاً قُل) جوابًا لشبهتهم، (لوْ كَانَ في الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ) كما تمشون، (مُطْمَئِنِّينَ): ساكنين في الأرض، (لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا) أي: من جنسهم يهديهم، لأن انتفاع الجنس من الجنس أكثر(2/415)
فرحمتنا دعتنا إلى أن أرسلنا إليكم بشرًا من جنسكم وبشرًا وملكًا منصوبان على الحال من رسولاً أو موصوفان برسولاً، (قُلْ كَفَى بِاللهِ) أي: كفى الله، (شَهِيدًا) حال أو تمييز، (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) على أني بلغت ما أرسلت به إليكم وأنتم عاندتم أو على أني رسول إليكم وأظهرت المعجزات، (إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) فيعلم إبلاغي وعنادكم فيجازي كلاًّ ما يستحقه من الإنعام والهداية والانتقام والإزاغة، (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ)، يهدونهم وينصرونهم، (وَنَحْشُرُهمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ) يمشون بها وعن أنس يقول: قيل يا رسول الله: " كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم " أو يسحبهم الملائكة إلى النار، (عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا) هذا في حال دون حال فيكون هذا بعد الحساب أو عميًا عما يقرأ عينهم بكمًا عن حجة وعذر يقبل منهم صمًا عما يُلِذّ مسامعهم، (مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ): سكن لهبها، (زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) توقدًا بأن نبدل لحومهم وجلودهم فتعود متلهبة بهم، قيل ونعم ما قيل كأنهم لما كذبوا الإعادة بعد الإفناء جازاهم الله بدوام الإعادة بعد الإفناء، (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا): ترابًا، (أَئِنَّا) الهمزة لتأكيد الإنكار والعامل في إذا ما دل عليه قوله: (لَمَبْعوثون) فإن ما(2/416)
بعد إن لا يعمل فيما قبله، (خَلْقًا جَدِيدًا): مصدر أو حال، (أَوَلَمْ يَرَوْا): ألم يعلموا، (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) فإن خلقهم ليس بأشد من خلق السماوات والأرض، (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً)، أي: القيامة عطف على أولم يروا، (لَا رَيْبَ فِيهِ) أو معناه أولم يعلموا أن من قدر على خلق هذه الأجسام قادر على أن يخلقهم مثل ما كانوا أي: يعيدهم ويجعل لإعادتهم أجلاً [مضروبًا] ومدةً مقدرةً لابد من انقضائها، (فَأَبَى الظَّالِمُونَ): بعد قيام الحجة، (إِلَّا كُفُورًا) جحودًا بذلك الأجل أو بذلك الخلق، (قُل لوْ أَنتُم تَمْلِكُون)، أنتم مرفوع بفعل يفسره ما بعده، (خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) خزائن رزقه ونعمه، (إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ) لبخلتم، (خَشْيَةَ الإِنفَاقِ) أي: مخافة النفاد يقال: أنفق التاجرُ ذهبَ مالهُ، (وَكَانَ الإِنسَانُ قَتورًا): بخيلاً.
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)(2/417)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لله الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
* * *
(وَلَقَدْ آتيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) اليد والعصا والسنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وعن بعضهم بدل السنين ونقص الثمرات فلق البحر وحل العقدة التي بلسانه، وأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وقال " صحيح حسن " والنسائى وابن ماجه وابن جرير في تفسيره أن يهوديَّيْنِ سألا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية " ولقد آتينا موسى تسع آيات " فقال لا تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف وعليكم خاصة اليهود أن لا تعتدوا في السبت فقبَّلا يدَيه ورجلَيه "(2/418)
فقال بعض المحدثين: لعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن العشر الكلمات فاشتبه على الراوي بالتسع الآيات، فإن هذه الوصايا ليس فيها حجج على فرعون وأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين عليه ويدل عليه الآية التي بعده (مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ) الآية، (فَاسْأَلْ): يا محمد، (بَنِي إِسرائِيلَ) عن الآيات ليطمئن قلبك ويظهر للمشركين صدقك، (إِذ جَاءَهُمْ) ظرف لـ آتينا أو تقديره سل عن بني إسرائيل زمان ما جاءهم موسى حتى يخبروك عما وقع فيه، (فقَالَ) فرْعَوْن (إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا) [فسحرت فتخبط عقلك] (1)، (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ): الآيات، (إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ): بينات تبصرك صدقي وهو حال، (وَإِنِّي لأَظُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا): هالكًا ملعونًا أو مصروفًا عن الخير مطبوعًا على الشر، (فَأَرَادَ): فرعون، (أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ): يخرج موسى
__________
(1) في الأصل هكذا [فتتخبط عقلك] والتصويب من البيضاوي. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(2/419)
وقومه من أرض مصر، (فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرَائِيلَ اسْكُنوا الْأَرْضِ): التي أراد أن يخرجكم منها، وهذا بشارة للمؤمنين بفتح مكة فإن هذه السورة نزلت قبل الهجرة، (فإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي: الدار الآخرة يعني القيامة، (جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا): جميعًا إلى الموقف ونحكم بينكم واللفيف الجماعات من قبائل شتى، (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ) أي: ما أنزلنا القرآن إلا متلبسًا بالحق المقتضي لإنزاله فيه أحكام الله وأوامره ونواهيه، (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) وما نزل إلا بالحق الذي اشتمل عليه أو ما وصل إليك يا محمد إلا محروسًا محفوظًا من تخليط وتبديل، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا): لمن أطاعك، (وَنَذِيرًا): لمن عصاك، (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ): نزلناه مفرقًا منجمًا على الوقائع في ثلاث وعشرين سنة، (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ): مَهلٍ وتؤدةٍ، (وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا): نجومًا بعد نجوم، (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا) أي: سواء آمنتم به أم لا هو حق لا يزيد ولا ينقص منه شيء، (إِن الذِينَ أُوتُوا العِلمَ مِن قَبْلِهِ)، من قبل القران، أي عالمي أهل الكتاب، (إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ): القرآن، (لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا): يسقطون على وجوههم وذكر الذقن للمبالغة في الخشوع وهو تعفير اللحى على التراب أو أنه ربما خر على الذقن كالمغشي عليه لخشية الله واللام لاختصاص الخرور بالذقن، (سُجَّدًا): شكرًا لإنجاز وعده ولأن جعلهم ممن أدركوا هذا الرسول المنزل عليه هذا الكتاب، (وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ ربِّنَا): عن خلف الوعد، (إِن كَانَ): إنه كان، (وَعْدُ ربِّنَا) في الكتب السالفة بإرسال رسول خاتم الرسل،(2/420)
(لَمَفْعُولًا)، واقعًا كائنًا، (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ) حال كونهم باكين لما أثر فيهم مواعظه كرره لتكرار الفعل منهم، (وَيَزِيدُهُمْ) سماع القرآن، (خُشُوعًا): خضوعًا لربِّهم، (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ) نزلت حين يقول عليه السلام في سجوده يا رحمن يا رحيم فسمع رجل من المشركين وقال: إنه يزعم أنه يدعو واحدًا وهو يدعو اثنين والدعاء بمعني التسمية وهو متعد إلى مفعولين كدعوته زيدًا ثم يترك أحدهما فيقال دعوت زيدًا والمراد من الله والرحمن الاسم لا المسمى وأو للتخيير أي: سموا بهذا الاسم أو بهذا، (أَيا مَّا تَدْعُوا) التنوين عوض عن المضاف إليه وما مزيدة للإبهام الذي في أي، (فَلَهُ) الضمير لمسمي الاسمين فإن التسمية للذات لا للاسم، (الأَسْمَاءُ الحُسْنَى) أي: أي هذين الاسمين سميتم فهو حسن؛ لأن له الأسماء الحسني وهذان الاسمان منها، (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاِتِكَ) أي: بقراءة صلاتك(2/421)
فيسمعها المشركون فيسبون القرآن، (وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) ولا تخفها عمن خلفك من أصحابك، (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ): بين الجهر والمخافتة، (سَبِيلاً) وسطًا وكان ذلك قبل الهجرة والمراد من الصلاة الدعاء، (وَقُلِ الحَمْدُ لله الذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) كما قالت اليهود عزير ابن الله عليهم لعائن الله، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) كما أثبته النصارى والمشركون فإنهم أثبتوا الربوبية للمسيح والأصنام، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ) ناصر من الذل لا يحوم الدخور جنابه ليحتاج إلى ولي يتعزز به، وعن القرطبي أن الصابئين والمجوس يقولون: لولا أولياء الله لذل. أثبت لنفسه الأقدس الأسماء الحسنى ونزه نفسه عن النقائص كمضمون " قل هو الله أحد " [الإخلاص: 1]، (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا): عظمه عن الولد والشريك والولي عظمة تامًة قد جاء في حديث أنه عليه السلام سماها آية العز وفي بعض الآثار ما قرئ في ليلة في بيت فيصيبه سرقة أو آفة.(2/422)
سورة الكهف مكية
قيل إلا قوله (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) الآية.
وهي مائة وإحدى عشرة آية واثنا عشر ركوعًا
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لله الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
* * *
(الْحَمْدُ لله الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) رتب الحمد على إنزاله القرآن على عبده سيد السادات عليه الصلوات والتسليمات؛ لأنه أجل نعم وأعظم كرم، فإنه سبب جميع السعادات (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا) شيئًا من العوج، لا في ألفاظه، ولا في معانيه (قَيِّمًا): مستقيمًا معتدلاً لا إفراط فيه ولا تفريط، فقيل قيما على سائر الكتب مصدقًا(2/423)
لها، منصوب بقدر، أي: جعله قيما، أو حال من الكتاب على أن عطف ولم يجعل بياني حتى لا يلزم العطف قبل تمام الصلة كأنه قال: أنزل على عبده الكتاب الكامل الذي لا يسمى غيره في جنبه الكتاب (لِيُنْذِرَ): الكافرين (بَأسًا): عذابًا (شَدِيدًا): صادرًا (مِن لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَن لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا): الجنة (مَاكِثينَ فِيهِ): في الأجر (أَبَدًا): دائمًا (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا) أي: ينذرهم ببأس شديد وخصهم من بين الكفار بالذكر لغلظ كفرهم (ما لَهُم بِهِ مِن عِلْمٍ) أي: يقولون عن جهل وافتراء وضمير به إما إلى الولد أو إلى الاتخاذ أو إلى القول (وَلَا لِآبَائِهِمْ): الذين قالوا ذلك (كَبُرَتْ): عظمت مقالتهم هذه في الكفر (كلَمَةً) تمييز، وهو أبلغ من كبرت كلمتهم (تخرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) صفة للكلمة مفيدة لاستعظام اجترائهم، فإن هذه الكلمة الردية الشنيعة التي لو خطرت ببال لا يليق أن تظهر بحال هم تكلموا بها (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ): قاتل (نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ) إذا أعرض بها عن الإيمان، شبهه لما تداخله من الأسف على إعراضهم برجل فارقه أحبته فهو يتساقط حسرات على فراقهم وآثارهم (إِن لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذا الْحَدِيثِ): القرآن (أَسَفًا) لفرط الحزن (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ): مما يصلح أن يكون زينة (زِينَةَّ لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ): نختبرهم (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا): في تناوله وحسن العمل الزهد فيها وترك الاغترار بها (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا): من الزينة(2/424)
(صَعِيدًا جُرُزًا): مثل أرض ملساء لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء في إزالة بهجته وإبطال حسنه يعني نميت الحيوانات، ونجفف النباتات وهو ترغيب في الزهد عنها. (أَمْ حَسِبْتَ) بل أحسبت (أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ): الغار الواسع في الجبل (وَالرَّقِيمِ) هو لوح من رصاص، أو حجر موضوع على باب كهفهم مكتوب فيه أسماؤهم، أو اسم لذلك الجبل أو الوادي، أو لقرية هم خرجوا منها (كَانُوا مِنْ آياتِنَا): آية (عَجَبًا) فإن قصتهم بالإضافة إلى ما خلقنا على وجه الأرض من أنواع الحيوانات وغيرها ليس بعجيب. (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ): صاروا إليه(2/425)
وسكنوا فيه هم من أهل الروم، قصد دقيانوس تعذبيهم ليرجعوا إلى الشرك فهربوا بدينهم إلى الكهف (فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) ترحمنا بها وتسترنا من أعين قومنا (وَهَيِّئْ لَنَا): يسر لنا (مِنْ أَمْرِنَا): الذي نحن فيه من الفرار عن الكفار (رَشَدًا): نصير بسببه راشدين مهديين (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ) أي: ضربنا عليها حجابًا من أن تسمع يعني أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات، فحذف المفعول كما يقال: بنى على امرأته أي: القبة (فِي الْكَهْفِ سنينَ) ظرفان لـ ضربنا (عَدَدًا) أي: ذوات عدد (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ): أيقظناهم (لِنَعْلَمَ) ليتعلق علمنا تعلقًا حاليًا، أو لنعلم علم المشاهدة (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) المختلفين منهم (أَحْصَى) أضبط (لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا) أي: أضبط أمدًا لزمان لبثهم فإنهم لما انتبهوا اختلفوا في ذلك كما قال تعالى: " قال قائل منهم كم لبثتم " الآية، أو المراد من الحزبين غيرهم، فقد ذكر أن أهل قريتهم تنازعوا في مدة لبثهم ولصدارة أي لما فيه من معنى الاستفهام علق لنعلم عنه فهو مبتدأ، وأحصى الذي هو فعل ماض خبره، وأمدًا مفعوله.
* * *
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)(2/426)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
* * *
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بالْحَقِّ): الصدق، (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ): شبان (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى): بالتثبت (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ): قويناهم بالصبر والثبات (إِذْ قَامُوا): بين يدي دقيانوس ملكهم حين دعاهم إلى الكفر، وأوعد بأنواع العذاب، ثم القتل إن خالفوا (فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا) فإنه يأمرهم بعبادة الأصنام (لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) أي: إن دعونا غير الله، والله لقد قلنا قولاً ذا بعد عن الحق (هَؤُلَاءِ) مبتدأ (قَوْمُنَا) عطف بيانه (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا): هلَّا (يَأتونَ عَلَيْهِمْ) أي: على عبادتهم (بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ): بدليل واضح فإن دينًا لا دليل عليه فهو باطل (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا): فإنهم افتروا عليه أن له شركاء (وَإِذ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) خطاب بعضهم لبعضَ(2/427)
والعامل فيه الجزاء (وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) عطف على مفعول اعتزل، وهم يعبدون الأصنام مع الله (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ): يبسط (لَكُمْ ربّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ): رحمة يستركم بها من قومكم (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ): الذي أنتم فيه (مِرْفَقًا): ما تنتفعون به (وتَرَى الشَّمْسَ): لو رأيتهم (إِذا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ): تميل، (عَنْ كَهْفِهِمْ) فلا يقع شعاعها عليهم لتحترق أبدانهم ولباسهم (ذاتَ الْيَمِينِ): جهته، (وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ): تقطعهم وتعدل عنهم، (ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فجْوَةٍ): متسع، (منهُ): من الكهف فلا يؤذيهم حر الشمس وينالهم روح الهواء وذلك إذا كان باب الكهف على بنات النعش فيقع الشعاع على جنبيه وهم في وسطه فيحلل عفونته ويعدل هواءه، وعند بعضهم أن الله صرف عنهم الشمس بقدرته وحال بينها وبينهم لا لأن باب الكهف على جانب لا تقع الشمس إلا على جنبيه (ذلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ) حيث أرشدهم إلى غار كذلك (مَنْ يَهْدِ اللهُ فهُوَ الْمُهْتدِ وَمَنْ يُضلِلْ): ولم يرشده (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا): من يلي أمرهم ويرشده.
* * *(2/428)
(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
* * *
(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا): لانفتاحِ عيونهم ليصل إليها روح الهواء جمع يقظ، كأنكاد في نكد (وَهُمْ رُقُودٌ): نيام (ونُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَال): لئلا تأكل الأرض لحومهم، عن ابن عباس في كل سنة مرة، وعن بعضهم مرتين (وَكَلْبُهُمْ(2/429)
بَاسِطٌ ذرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) بالفناء وقيل: بالعتبة خارج الكهف؛ لأن الملك لا يدخل بيتًا فيه كلب والأصح أنه كلب صيد لأحدهم وقد نقل أنه كلب تبعهم فطردوه فأنطقه الله وقال: أنا أحب أحباء الله ناموا وأنا أحرسكم، (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ): نظرت إليهم (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ) هربت وأعرضت عنهم (فِرَارًا) حال أو مفعول له أو مصدر (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا): خوفًا يملأ صدرك لمهابتهم (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ): كما أنمناهم آية بعثناهم كذلك (لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ): ليسأل بعضهم بعضًا مدة لبثهم فيعرفوا حالهم فيزداد يقينهم (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ(2/430)
بَعْضَ يَوْمٍ) فإنه غالب مدة نوم نائم كأنهم دخلوا غدوة وانتبهوا عشية، (قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ) كأنه حصل لهم بعض تردد في طول مدتهم لطول أظفارهم وأشعارهم (فَابْعَثُوا) يعني لا يصل علمكم إليه فاتركوا المقال وابعثوا (أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ): فضتكم، (هَذِهِ) فإنه كان معهم دراهم (إِلَى الْمَدِينَةِ) أي: إلى المدينة التي خرجتم عنها وهي طرسوس (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا) أي: أهل تلك المدينة (أَزْكَى طَعَامًا): أحل وأطهر، فإن في المدينة المؤمن والكافر (فَلْيَأتِكُمْ برِزْقٍ مِنْه وَلْيَتَلَطفْ): في الذهاب والإياب والمعاملة حتى لا يطلع على حاله أحدَ (وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا): لا يفعلن ما يؤدي إلى شعور أحد بكم (إِنَّهُمْ): أهل المدينة (إِن يَظْهَرُوا): يظفروا (عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ): يقتلوكم بأفضح أنواعه (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ): كرهًا والعود بمعنى الصيرورة، أو كانوا على دينهم فهداهم الله للإيمان (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا): إن دخلتم في دينهم (وَكَذَلِكَ أَعْثرْنَا عَلَيْهِمْ) أي: كما أنمناهم وأيقظناهم أطلعنا عليهم (لِيَعْلَمُوا) أي: ليعلم من يطلع عليهم (أَنَّ وَعْدَ اللهِ): بالبعث (حَقٌّ): يقاس الموت والبعث بتلك الرقدة، والإيقاظ (وَأَنَّ السَّاعَةَ) آتية (لَا رَيْبَ فيهَا) فإن من حفظ أبدانهم من التفتت ثلاثمائة سنين يمكن له حفظ النفوس إلى أن يحشر أبدانها (إِذْ يَتنَازَعُونَ) ظرف لـ أَعْثَرْنَا (بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ): أمر دينهم، فإن لأهل ذلك الزمان شكًّا في البعث فمنهم من قال: يبعث الأرواح لا الأجساد فيبعثهم(2/431)
الله حجة لمن يقول تبعث الأرواح والأجساد معًا، أو التنازع في البنيان فقال المسلمون: نبني عليهم مسجدًا يصلي فيه الناس، لأنهم على ديننا والمشركون يقولون: نبني بنيانًا لأنَّهُم من أهل نسبنا أو التنازع في مدة لبثهم وعددهم (فَقَالُوا) أي: المرتابون في البعث (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) أي: سدوا عليهم باب الكهف وذروهم على حالهم فإن ربهم أعلم بحالهم وقيل: هذا يدل على أن التنازع في مدة اللبث أو العدد (قَالَ الذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ) وهم المؤمنون وكانوا غالبين في ذلك الوقت (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا) حكى أن المبعوث إلى الطعام لما أخرج الدرهم للطعام أخذوا درهمه واتهموه بوجدان كنز؛ لأن الدرهم على ضرب لم يروه فسألوه عن أمره فقال: أنا من هذه المدينة وعهدي بها عشية أمس وضربه ضرب دقيانوس، فنسبوه إلى الجنون فحملوه إلى ولي أمرهم فأخبرهم بأمره فقام متولي البلد وأهلها معه حتى انتهى إلى الكهف فقال: دعوني أتقدم في الدخول فعمى عليهم المدخل وأخفى الله عليهم فبنوا ثّمَّ مسجدًا، وعن بعضهم: دخلوا عليهم ورأوهم وسلم عليهم الملك واعتنقهم ثم كلمهم وودعهم فتوفاهم الله (سَيَقُولُونَ): القائلون أهل الكتاب والمؤمنون في عهد نبينا عليه الصلاة والسلام (ثَلَاثَةٌ) أي: هم ثلاثة رجال (رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ) أي: يرمون رميًا بلا علم كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه، فإنه لا يكاد يصيب، وإن أصاب فبلا قصد والقائل بهما أهل الكتاب (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ) والقائل هم المؤمنون (وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) وفائدة(2/432)
هذا الواو بين الصفة والموصوف تأكيد لصوقها به والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، وهي التي آذنت بأن هذا القول منهم لا عن رجم بالغيب، بل عن دليل وعلم (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّى قَليلٌ) من الناس وقد صح عن ابن عباس أنه قال: أنا من ذلك القليل كانوا سبعة (فَلَا تُمَارِ): لا تجادل (فِيهِمْ): في شأن الفتية (إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا): سهلاً هينًا، فإن معرفته لا يترتب عليه كثير فائدة، فلا تُجَهِّلْهُمْ ولا ترد عليهم (وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا): لا تسأل عن قصتهم أحدًا منهم، فإنهم لا يقولون إلا ظنًّا بالغيب.
* * *(2/433)
(وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
* * *
(وَلًا تَقُولَنَّ لِشَيْء) أي: لأجل شيء تعزم عليه (إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ): الشيء، (غَدًا) أي: فيما يستقبل من الزمان، ولم يرد خصوصية الغد (إلا أَنْ يَشَاءَ الله): إلا بأن يشاء الله، أي: متلبسًا بمشيئته، يعني إلا أن يقول إن شاء الله، فهو استثناء من النهي، نزلت حين سأل أهل مكة عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين، فقال عليه السلام: " أخبركم غدًا "، ولم يقل إن شاء الله، فلبث الوحي أيامًا ثم نزلت هذه(2/434)
الآية تعليمًا وتأديبًا، وقيل معناه: لا تقولن ذلك القول إلا أن يشاء الله أن تقوله، بأن يأذن لك فيه (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) أي: مشيئته، وقل إن شاء الله (إِذَا نَسِيتَ): إذا فرط منك نسيان، يعني: إذا أنسيت كلمة الاستثناء ثم تنبهت عليها فتداركها بالذكر. وعن ابن عباس: للحالف أن يستثني ولو بعد سنة، قال ابن جرير: السُّنَّة أن يقول ذلك حتى ولو كان بعد الحنث، ليكون أتيا بسنة الاستثناء لا لأن يكون رافعًا للحنث مسقطًا للكفارة، وقال: هذا هو الصحيح الأليق بحمل كلامه عليه، وقد نقل عن ابن عباس إن هذا خاصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي إنه لا يحنث إن استثني ولو بعد سنين، وقيل معناه إنه تعالى أرشد من نسى الشيء من كلامه إلى أن يذكر الله، فإن النسيان منشؤه الشيطان، وذكر الله يطرده فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان (وَقُل عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا) أي: يدلني ويعطيني من الآيات الدالة على نبوتي ما يكون أقرب وأدل في الرشد من قصة أصحاب الكهف، وقيل معناه إذا سُئلت عن شيء لا تعلمه فتوجه إلى الله في أن يوفقك لأقرب طريق إليه وقيل معناه واذكر ربك إذا نسيت شيئًا، واذكر ربك أن تقول عند نسيانه عسى ربي أن يهدين لشيء آخر بدل المنسى أقرب من المنسى رشدًا (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) هذا إخبار من الله بمقدار لبثهم منذ أرقدهم الله إلى أن بعثهم، وسنين: عطف بيان لثلاثمائة عند من قرأ مائة بالتنوين (وَازْدَادُوا تِسْعًا) فإن مقداره ثلاث مائة سنة وتسع بالهلالية، فيكون بالشمسية ثلاث مائة سنة، لأن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين (قُل): يا محمد (اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبثُوا) فلا(2/435)
تختلفوا بعد ما أخبركم الله بمدته (له غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) جملة مستأنفة لتعليل الأعلمية وعن قتادة أن قوله (ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة) حكاية قول أهل الكتاب وقد رده الله بقوله: (قل الله أعلم) والأول قول أكثر السلف والخلف (أَبْصرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) هما صيغتا التعجب أي: ما أبصره وما أسمعه، فالضمير الراجع إلى الله فاعل والباء صلة (ما لَهُمْ) الضمير لأهل السماوات والأرض (مِنْ دُونه مِنْ وَلِي): يلى أمرهم (وَلَا يُشْرِكُ): الله (فِي حُكْمِهِ): قضائه (أَحَدًا): منهم (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ): من القرآن (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ): لا أحد يقدر على تبديلها (وَلَنْ(2/436)
تَجِدَ مِنْ دُونهِ مُلْتَحَدًا): ملجأ تعدل إليه إن لم تتل ولم تتبع (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ): احبسها (مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ): طرفي النهار (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ): يريدون الله لا عوضًا من الدنيا نزلت في أشراف قريش حين طلبوا أن يفرد لهم مجلسًا لا يكون فقراء الصحابة فيه ولذلك قال الله: (وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ): لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الغنى والزينة، واستعماله بـ عن مع أنه مستعمل بغير واسطة لتضمينه معنى نبا يقال: نبت عنه عينه إذا ازدرته ولم تتعلق به (تُرِيدُ) حال من كاف عيناك (زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي: مجالسة الأشراف (وَلا تُطِعْ): في تبعيد الفقراء (مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ): جعلنا قلبه غافلاً (عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا): متقدمًا للصواب نابذًا له وراء ظهره يقال: فرس فُرُط، أي: متقدم للخيل (وَقُلِ): يا محمد (الْحَقُّ مِنْ ربكُم) أي: هذا هو الحق حال كونه من ربكم أو الحق ما يكون من ربكم (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ): فإني لا أبالي وهو تخيير بمعنى التهديد (إِنَّا أَعْتَدْنَا): هيأنا (لِلظالِمِينَ) أي: الكافرين (نَارًا أَحَاطَ بهِمْ سُرَادِقُهَا): نسطاطها شبه بِهِ ما يحيط بهم من النار أو دخانها (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا)، من العطش (يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ): كمذاب النحاس عن ابن عباس هو ماء غليظ كدردي الزيت (يَشْوِي الْوُجُوهَ): من حره إذا قدم ليشرب (بِئْسَ الشَّرَابُ): المهل (وَسَاءَتْ): النار (مُرْتَفَقًا): متكئًا أو منزلاً (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) قوله: (من أحسن عملاً) هو عين من آمن وعمل صالحًا فجاز أن يكون (إنا لا نضيع) خبر إن أو تقديره إنا لا نضيع(2/437)
أجر من أحسن عملاً منهم أو هو جملة معترضة وخبره قوله: (أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) سميت عدنا لخلود المؤمنين فيها يقال: عدن بالمكان، إذا أقام فيه (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ) أي: من تحت غرفهم (الأَنْهَار يُحَلَّوْنَ): يزينون (فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ) جمع أسورة أو أسوار في جمع سوار ومن للابتداء (مِنْ ذَهَبٍ) صفة أساور، ومن للبيان (وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ): رقيق الديباج (وَإِسْتَبْرَقٍ): غليظ منه فإن ما يلي البدن رقيق وما فوقه غليظ كما في الدنيا (مُتَّكِئِينَ فِيهَا) الاتكاء الاضطجاع أو التربع في الجلوس (عَلَى الأرَائِكِ): السرر، (نِعْمَ الثوَابُ): الجنة ونعيمها (وَحَسُنَتْ): الأرائك أو الجنات (مُرتفَقًا): متكئًا أو منزلاً.
* * *
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا(2/438)
أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لله الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
* * *
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثلا رَجُلَيْنِ) بيان لمثلاً، أو بدل لحذف المضاف أي مثل رجلين قيل: هما أخوان من بني إسرائيل ورثا مالاً فاشترى أحدهما بميراثه ضياعًا وزينة، وصرفه الآخر في وجوه الخير (جَعَلْنا) الجملة بيان التمثيل أو صفة رجلين (لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ): بستانين (مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ) أي: جعلنا النخل محيطة بهما والباء للتعدية إلى المفعول الثاني يقال: حففته بهم إذا جعلتهم حافين حوله (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا): وسط النخل والكرم (زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آدتْ اكلَهَا) وإفراد الضمير لإفراد كلتا (وَلَمْ تَظْلِمْ): تنقص (منهُ): من أكلها (شَيْئًا): كما يعهد نقصها في سائر البساتين (وَفَجَّرْنَا خلالَهُمَا): وسط الجنتين (نَهَرًا وَكَانَ لَهُ): لصاحب البستانين (ثَمَرٌ): أنواع من المال (فقَالَ لِصَاحِبِهِ): الذي صرف ميراثه لوجه(2/439)
الله (وَهُوَ يُحَاوِرُهُ): يراجعه في الكلام لا أنه يجادله (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) حشمًا وعشيرة وأولادًا ذكورًا (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ): حين أخذ بيد صاحبه وأدخله بستانه يطوف به فيها يفاخره بها (وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ): بسبب عجبه وكفره (قَالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ): تفنى (هَذه أَبَدًا): راقه حسنها وغرته زهرتها فتوهم أنها لا تفني، ولله در صاحب الكشاف حيث قال: وترى أكثر الأغنياء من المسلمين وإن لم يطلقوا بنحو هذا ألسنتهم فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً): كائنة، (وَلَئِن رُددت إِلَى ربي) يعني: وإن فرضنا حقيقة البعث (لأجِدَن خَيْرًا مِنْها): من الجنة (مُنقَلَبًا): مرجعًا وعاقبة؛ لأنه ما أعطاني في الدنيا إلا لاستئهالي لذلك والآخرة لو كانت خير وأبقى (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ): المؤمن (وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ) أي: خلق أصل مادتك (مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ): فإنها مادتك القريبة (ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا): عدلك وكملك إنسانًا ذكرًا بالغًا (لَكِنَّا) أصله لكن أنا، حذفت الهمزة وأدغمت النونان (هُوَ) ضمير الشأن (اللهُ رَبِّي) والجملة خبر أنا، كأنه قال أنت كافر لكني مؤمن (وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ(2/440)
جَنَّتَكَ قُلْتَ) أي: هلا قلت حين دخلت (مَا شَاءَ اللهُ) ما موصولة أي: الأمر ما شاء الله أو ما شاء كائن (لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) إقرارًا بأنَّهَا بمشيئته إن شاء أبقاها وإن شاء أفناها واعترافًا بالعجز على نفسك والقدرة لله قال بعض السلف: من أعجبه شيء فليقل ما شاء الله لا قوة إلا بالله (إِنْ تَرَنِ أَنَا) ضمير الفصل أو تأكيد للمفعول (أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا فعسَى ربي أَد يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ) في الآخرة أو في الدنيا أيضًا (وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا) على جنتك (حُسْبَانًا مِن السَّمَاءِ) مراقي جمع حسبانة وهي الصاعقة (فَتُصْبِحَ) الجنة (صَعِيدًا) أرضًا (زلَقًا) ملساء لا يثبت فيه قدم (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا) غائرًا في الأرض مصدر وصف به كالزلق (فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ) للماء الغائر (طَلَبًا) في رده (وأحيطَ بثَمَرهِ) عبارة عن إهلاكه (فأَصْبَحَ يُقَلِّب كَفَّيْهِ) [ظهرًا] لبطن تأسفًا (عَلَى مَا أَنفقَ فِيهَا) متعلق بـ يُقَلِّب لأنه في معنى يتحسر أي: يتحسر على ما أنفق في عمارتها (وَهِيَ خَاوِيَةٌ) ساقطة (عَلَى عُرُوشِهَا) فإن كرومها المعرشة سقطت عروشها على الأرض وسقطت الكروم فوقها (وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا): تذكر موعظة أخيه، وتمني لو لم يكن مشركًا حتى لا يهلك الله بستانه (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي: يقدرون على(2/441)
نصرته من دون الله، وحمل ينصرونه حيث لم يقل تنصره على المعنى دون اللفظ (وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا): ممتنعًا عن انتقام الله تعالى منه، أي: لا يقدر أحد ولا هو نفسه على انتصاره (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لله الْحَقِّ) من القراء من يقف على هنالك، فعلى هذا معناه منتصرًا فِي ذلك الموطن الذي حل به عذاب الله، ومن لم يقف عليه فمعناه في ذلك الموطن الذي نزل عليه عذاب الله النصرة له وحده، لا يقدر عليها غيره أو ينصر فيها أولياءه على أعدائه، ومن قرأ الوِلاية بكسر الواو فمعناه: في تلك الحالة السلطان له وحده لا يعبد غيره، وكل أحد من مؤمن أو كافر يرجع إلى الله وإلى موالاته والخضوع له كما قال الله تعالى: (فلما رأو بأسنا قالوا آمنا بالله وحده) والحق: صفة الولاية أو صفة لله على القراءتين (هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا) لأهل طاعته لو كان غيره يثيب (وَخَيْرٌ عُقْبًا) أي: عاقبة طاعته خير من عاقبة طاعة غيره.
* * *
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)(2/442)
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
* * *
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا): اذكر لهم ما يشبه الحياة الدنيا في زهرتها وسرعة زوالها (كمَاءٍ) أي: هو كماء (أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاختَلَطَ بِهِ): التف بسببه وتكاثف حتى خالط بعضه بعضًا (نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا): يابسًا مكسورًا، (تَذْرُوهُ): تفرقه وتطيره (الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَىْء مُقْتَدِرًا): قادرًا (الْمَالُ وَالْبَنُونَ): اللذان يفتخر بهما الأغنياء (زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا): لا زينة(2/443)
الآخرة (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) أي: الأعمال الصالحة، وعن كثير من السلف إنها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا) أفضل جزاء وثوابًا (وَخَيْرٌ أَمَلًا)، لأن صاحبها ينال ما يؤمل بها في الدنيا (وَيوْمَ) أي: اذكر يوم (نُسَيِّرُ الْجِبَالَ): نقلعها ونسيرها كالسحاب (وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً): ظاهرة قاعًا صفصفًا سطحًا مستويًا لا وادي فيها ولا جبل (وَحَشَرْنَاهُمْ) الواو للعطف أو للحال أي: وقد حشرنا جميع الخلق وأحييناهم قبل تسيير الجبال ليعاينوا ما أنكروا (فَلَمْ نُغَادِرْ): لم نترك، (مِنْهُمْ أَحَدًا وَعُرِضُوا عَلَى ربِّكَ): كما يعرض الجند على السلطان ليأمر فيهم (صَفًّا): مصطفين لا يحجب أحد أحدًا (لَقَدْ جِئْتُمُونَا) حال من نسير أي: قائلين لهم ذلك، وجاز أن يكون تقديره: قلنا لهم ذلك فهو العامل في يوم نسير الجبال، ولا نقدِّر اذكر (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ): عراة بلا مال ولا ولد (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا) للبعث،(2/444)
والجزاء والخطاب للبعض قيل بل للخروج من القصة إلى أخرى (وَوُضِعَ الْكِتَابُ) أي: صحف الأعمال في أيمانهم وشمائلهم (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ): خائفين (مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا) ينادون هلكتهم من بين الهلكات (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ) تعجيبًا من شأنه، (لا يُغادرُ): لا يترك، (صَغِيرَةً) أي: هنة صغيرة من أعمالنا (وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا). عدها وحصرها (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا): في الصحف أو جزاء ما عملوا حاضرًا عندهم (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)، فيكتب عليه ما لم يفعل أو بأن يعاقبه بما لم يفعل.
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) ذكره بعد ذكر صنيع المفتخرين بالأبناء، والأولاد ليعلموا أن الكبر من سنن إبليس، أو لما نفرهم عن الاغترار بزهرة الدنيا نبههم بقدم عداوة إبليس معهم (كَانَ مِنَ الْجِنِّ) استئناف كأنه قيل لِمَ لم يسجد؟! فقال: لأنه كان من الجن وقد مر خلاف بين السلف في أنه من الملائكة الذين يقال لهم الجن، أو من الجن حقيقة (فَفَسَقَ): خرج، (عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ): بترك(2/445)
السجود والفاء مشعر بأن سبب عصيانه كونه جنيًا فإن الملك لا يعصى (أَفَتَتَّخِذُونَهُ) الهمزة للإنكار والتعجب أي أَعُقَيب ما صدر منه تتخذونه (وَذُرِّيَّتَهُ) عن بعضهم هم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم وقيل: يدخل ذنبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين، (أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي): فتطيعونهم بدل طاعتي (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا): من الله إبليسُ وذريته (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) أي: ما أحضرت الشياطين زمان خلقي الدنيا لأستعين بهم فأنا المستقل ليس معي شريك فما لكم اتخذتموهم شركاء لي! (وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا): أعوانًا، وفي وضع المضلين موضع الضمير ذم لهم واستبعاد للاعتصام بهم، (وَيَوْمَ يَقُولُ) أي: الله للكافرين: (نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ): أنَّهم شركائي أو أنهم شفعاؤكم (فَدَعَوْهُمْ): للإغاثة (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا): مهلكًا فلا وصول لهم إلى آلهتهم، بل بينهما مهلك وعن بعضهم هو وادٍ في النار أو نهر من قيح ودم، وعن بعض السلف أن ضمير بينهم إلى المؤمنين والكافرين أي نفرق نجعل بينهم حاجزًا (وَرَأَى الْمُجْرِمُون النَّارَ فَظَنُّواْ): أيقنوا، (أَنهُم مُوَاقِعُوهَا): مخالطوها واقعون فيها، فيكون ذلك من باب تعجيل حزنهم وغمهم (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا): مكانًا ينصرفون إليه.
* * *(2/446)
(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
* * *
(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا): بينا وكررنا (في هَذَا الْقُرْآن): الواضح المبين، (لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ): يحتاجون إليه، (وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ): يتأتى منه الجدل (جَدَلا): خصومة ومعارضة للحق بالباطل إلا من عصمه الله ونصبه بالتمييز (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ) من (أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى): الرسول والقرآن (وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ)(2/447)
عطف على يؤمنوا أي: من أن يستغفروا (إِلا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ) أي: إلا تقدير أن يأتيهم عذاب الاستئصال فإنه تعالى قدَّر عليهم العذاب فذلك هو المانع من إيمانهم، أو إلا طلب أن يأتيهم العذاب الموعود وأخذهم عن آخرهم كما قالوا: (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ .. ) الآية [الشعراء: 187]، (اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ) الآية [الأنفال: 32]. أو إلا انتظار أن تأتيهم كما يقال لمن حان له الرواح عن منزله وهو غير رائح: ما تنتظر إلا الهلاك (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا) عيانًا وهو بضم القاف والباء لغة في قِبَلا بكسر القاف وفتح الباء أو جمع قبيل بمعنى أنواع (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ): للمؤمين، (وَمُنْذِرِينَ): للكافرين، (وَيُجَادِلُ الذِينَ كَفَرُوا بِالباطِلِ) كما قالوا: (أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا) [الإسراء: 94]، (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف: 31]، وأمثال ذلك (لِيُدْحِضُوا): ليزيلوا، (بِهِ): الجدال، (الْحَقَّ) الذي جاءهم عن مقره ويبطلوه (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي) الحجج والبراهين (وَمَا أُنْذِرُوا) أي: ما أنذروه من العقاب أو ما مصدرية أي: إنذارهم (هُزُوًا) استهزاء (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ): بالقرآن، (فَأَعْرَضَ عَنْهَا) تركها ولم يؤمن بها ولم يتفكر فيها (وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ): ما سلف من معاصيه، (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكنَّةً): أغطية وغشاوة تعليل للإعراض والنسيان (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي: كراهة أن يفهموه، ولما كان المراد بالآيات القرآن ذكر الضمير وأفرده (وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا): صممًا وثقلاً معنويًا عن استماع الحق حق استماعه (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا) إذاً جواب وجزاء كأن قوله: " إنا جعلنا على قلوبهم أكنة " في معنى لا تدعهم ثم نزل حرصه عليه الصلاة(2/448)
والسلام على إيمانهم منزلة قوله ما لي لا أدعوهم؟ فأجيب بقوله وإن تدعهم إلى الآخر. (وَربُّكَ الْغَفُورُ): البليغ المغفرة، (ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بمَا كَسَبُوا): من الذنوب، (لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ): في الدنيا، (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ) هو يوم القيامة وقيل: بدر (لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ): من دون الله في ذلك الموعد، (مَوْئِلًا): منجا، وقيل: لن يجدوا من دون ذلك الموعد ومن عنده منجا ومهربا (وَتِلْكَ الْقُرَى) أي: أصحابها أي قرى عادٍ وثمود وأضرابهم مرفوع بالمبتدأ وقوله: (أَهْلَكْنَاهُمْ) خبره أو منصوب بشريطة التفسير (لَمَّا ظَلَمُوا) بأن كفروا وعاندوا (وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ): لهلاكهم (مَوْعِدًا): وقتًا معينًا لا يزيد ولا ينقص فكذلك أنتم يا قريش احذروا أن يصيبكم ما أصابهم فقد ظلمتم مثل ما ظلموا، بل أشد ومن قرأ (لمهلِك) بكسر اللام أي: وقت هلاكهم أو مصدر كالمرجع والمحيص.
* * *
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
* * *(2/449)
(وَإِذْ قَالَ) أي: واذكر إِذْ قال (مُوسَى لِفَتَاهُ): يوشع بن نون كان يخدمه: (لا أَبْرَحُ) حذف خبره للقرينة أي: لا أزال أسير (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ): ملتقى بحري فارس والروم مما يلى المشرق فإن فيه موعد لقاء الخضر (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا): أو أسير دهرًا أو عن بعضهم هو ثمانون أو سبعون سنة، أي: حتى يقع إما بلوغ المجمع أو مضى الحقب قيل: أو بمعنى إلا أن أي: إلا أن أمضى حقبًا من الدهر فأتيقن معه فوات المجمع وقصته أن كليم الله قام خطيبًا في بني إسرائيل فَسُئِلَ أيُّ: الناس أعلم؟ فقال: أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله فأوحى الله إليه أن لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك فقال: يا رب كيف لي به؟ قال: خذ حوتًا فحيث ما فقدته فهو ثَمَّه (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا) أي: البحرين ظرف أضيف إليه على الاتساع كشهادة بينكم أو بمعنى الوصل (نَسِيَا حُوتَهُمَا) نسي موسى أن يطلبه ويوشع أن يذكر له ما رأى من حياته، أو نسيا تفقده (فَاتخَذَ): الحوت، (سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا): مسلكًا وهو مفعول ثان لاتخذ أي: أمسك الله جرية الماء على الحوت فصار كالطاق عليه وقد(2/450)
نقل أنه حوت مملوح في مكمل وكان في ذاك المجمع نهر ماء الحياة، فوصل إلى الحوت قطرة منه فحيي (فَلَمَّا جَاوَزَا): مجمع البحرين (قَالَ لِفَتَاهُ): يوشع، (آتِنَا غَدَاءَنَا): ما نتغدى به (لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا): تعبًا ولم يتعب موسى في سفر غيره فلهذا قيده باسم الإشارة، وعن بعضهم ما تعب إلا بعد مجاوزة المجمع (قَالَ أَرَأَيْتَ): ما دهاني (إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ): التي في الموضع الموعود (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ) أي: ذكره (إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) بدل من الضمير (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا) أي: سبيلاً عجبًا، وهو كالأول ثاني مفعولي اتخذ وقيل: تقديره أعجب عجبًا، قاله يوشع في آخر كلامه تعجبًا (قَالَ): موسى، (ذلِكَ) أي: أمر الحوت (مَا كُنَّا نَبْغِ): نطلبه فإنه أمارة الظفر بالطلبة (فَارْتَدَّا): رجعا، (عَلَى آثَارِهِمَا): طريقها الذي جاء فيه (قَصَصًا): يقصان قصصًا أو حال بمعنى مقتصين (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا) هو الخضر وكان مسجى بثوب فسلم موسى عليه فقال: وأنى بأرضك السلم (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا)، علم الباطن إلهامًا من رحمتنا. قال البغوي وغيره: أكثر أهل العلم على أنه ما كان نبيًّا بل(2/451)
كان وليَّا (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا) مما يختص بنا لا يحصل بالكسب (عِلْمًا قَالَ لَهُ مُوسَى) بعد أن قال له الخضر: من أنت؟ قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال نعم. (هَلْ أَتَّبِعُكَ) أصاحبك (عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ) حال من مفعول أتبع (مِمَّا عُلِّمْتَ) مفعول تُعَلِّمَنِ ومفعول عُلِّمْتَ ضمير محذوف عائد إلى ما والصيغتان من علم الذي بمعنى عرف (رُشْدًا) أي: علمًا ذا رشدٍ فحذف المضاف أو مفعول له لأتبعك ولا نقص أن يكون نبي يتعلم من غيره في غير أصول الدين وفروعه فإنه لابد أن يكون أعلم أهل زمانه فيهما لا في غيرهما وقد نقل أنه قال الخضر: كفاك بالتوراة علمًا. فقال له موسى: إن الله أمرني بهذا فجئتك (قَالَ): الخضر (إِنَّكَ لَنْ تَستَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) لما ترى من الأفعال التي تخالف شريعتك (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) أي: وكيف تصبر وأنت نبي على أمور لم يحط ببواطنها خُبْرُك وظواهرها مناكير، فنصب خبرًا على التمييز أو مصدر؛ لأن " لم تحط " بمعنى لم تخبر (قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ(2/452)
شَاءَ اللهُ صَابِرًا): معك، (وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) عطف على صابرًا أي: غير عاص أو عطف على ستجدني (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ): لا تفاتحني بالسؤال عَمَّا صدر عني (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) أي: حتى أكون أنا الفاتح عليك.
* * *
(فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)(2/453)
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
* * *
(فَانطَلَقَا): على الساحل يطلبان سفينة (حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا): عرف أهل السفينة الخضر وحملوهما بغير نول، فأخذ الخضر قدومًا وقلع من ألواح السفينة لوحًا (قَالَ): موسى، (قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ) قيل: اللام لام العاقبة لا لام التعليل (أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا): عظيمًا من أمِرَ الأَمْرُ إذا عظم (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ): له موسى: (لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ)، ما يحتمل الموصولية والمصدرية يعني نسيت وصيتك ولا مؤاخذة على الناسي، وفي الحديث الصحيح كانت الأولى من موسى نسيانًا (وَلا تُرْهِقنِي): لا تغشني، (مِنْ أَمْرِي عُسْرًا): بالمؤاخذة على المنسي وعسرًا ثاني مفعوليه يقال رهقه إذا غشيه وأرهقه إياه (فَانْطَلَقَا) بعدما خرجا من السفينة (حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا): يلعب مع الغلمان، وكان أحسنهم (فَقَتَلَهُ): الخضر بأن أخذ رأسه فاقتلعه، أو ذبحه أو ضرب رأسه بحجر (قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً): طاهرة من الذنوب فإنه صغير (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي: لم(2/454)
تقتل نفسًا وجب عليها القتل (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا): منكرًا لما كان هذا أقبح بحسب الظاهر بالغ في إنكاره (قَالَ أَلَمْ أَقلْ لَكَ) زاد في هذه المرة لك زيادة لعتابه على رفض وصيته وقلة صبره (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا) سؤال اعتراض وإنكار (فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغتَ): وجدت، (مِنْ لَدُنِّي): من قبلي (عُذْرًا): لما خالفتك مرارًا وفي الحديث: " رحمة الله علينا وعلى موسى لو لبث مع صاحجه لأبصر العجب "، (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ) هي أنطاكية، وقيل أيلة (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا): سألاهم الطعام (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِداَرًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) استعار الإرادة للمداناة والمشارفة، كما استعير الهم والعزم لذلك، يقال: عزم السراج أن يطفأ إذا قرب،(2/455)
وانقض: إذا أسرع سقوطه، (فأَقَامَهُ) قال: بيده فأقامه أو هدمه فبناه (قَالَ لَوْ شِئْتَ): أن نأخذ جعلاً (لاتَّخَدتَ عَلَيْهِ أَجْرًا) والتاء من تخذ أصل كتَبِعَ، وليس من الأخذ يعني: قد علمت أنا جياع حتى افتقرنا إلى المسألة، فما وجدنا مواسيًا فلو أخذت على عملك أجرًا (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) إشارة إلى الفراق الموعود بقوله: لا تصاحبني كهذا أخي إشارة إلى الأخ، أو إشارة إلى السؤال الثالث أي: هذا الاعتراض سبب فراقنا، أو إشارة إلى الوقت أي: هذا وقت فراقنا، وإضافته إلى البين من إضافة المصدر إلى الظرف للاتساع (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ) قيل: فيه دليل على أن المسكين يطلق أيضًا على ما لا يملك شيئًا يكفيه (يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا): أجعلها ذات عيب (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ) أي: أمامهم (مَلِكٌ يَأخُذُ كُل سَفِينَةٍ): صالحة جيدة (غَصْبًا) نصب بالحال أو بالمفعول له (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا): يغشيهما (طُغْيَانًا وَكُفْرًا) يعني: يحملهما حبه على متابعته على الفساد والكفر، وفي الحديث: " الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرًا " (فَأَرَدْنَا أَنْ(2/456)
يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا): يرزقهما بدله ولدًا (خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً): طهارة وتقوى (وَأَقْرَبَ رُحْمًا): رحمة وعطفًا على والديه عن كثير من السلف: أبدلهما الله جارية فقيل: تزوجها نبي وولدت نبيا هدى الله به أمة من الأمم، وعن ابن جريج لما قتله الخضر كانت أمه حاملاً بغلام مسلم، ونصب رُحْمًا وزَكَاةً على التمييز (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) أي: في تلك المدينة (وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا) أي: مال وعن كثير من السلف أنه لوح من ذهب مكتوب فيه بسم الله الرحمن الرحيم عجبًا لمن أيقن بالموت كيف يفرح؟! عجبًا لمن آمن بالقدر كيف ينصب؟! عجبًا لمن أيقن بالرزق كيف يتعب؟! عجبًا لمن أيقن بالحسنات كيف يعقل؟! عجبًا لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن؟! لا إله إلا الله محمد رسول الله وفي بعض الروايات: عجبًا لمن عرف النار كيف يضحك؟! وقيل: مكتوب في الجانب الآخر أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير فأجريته على يديه، والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه، وعن بعض السلف أنه كنز علم. قيل لا منافاة بين الأقوال؛ لأن اللوح الذهبي هو مال، وما كتب فيه كنز علم (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) كان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء وكان نساجًا، ويعلم منه أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا(2/457)
أَشُدَّهُمَا): حلمهما وكمال رأيهما (وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا) ولو سقط الجدار لتلف الكنز (رَحْمَةً مِنْ ربِّكَ) نصب على المفعول له، (وَمَا فَعَلْتُهُ) أي: ما رأيت (عَن أَمرِي): رأيي واختياري، بل فعلته بأمر الله (ذَلِكَ تَأوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ) أي: تستطع حذف التاء تخفيفًا (عَلَيْهِ صَبْرًا).
* * *(2/458)
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ(2/459)
لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
* * *
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) بعثت قريش إلى أهل الكتاب يسألون منهم ما يمتحنون به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: سلوه عن رجل طاف في الأرض،
وعن فتية لا يدرى ما صنعوا، وعن الروح. فنزلت سورة الكهف، والمشهور أنه الإسكندر الرومي، وما يعلم من تاريخ الأرزقى وغيره أنه غيره، وهذا الرومي كان قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة ووزيره أرسطاطاليس الفيلسوف، وأما هذا الإسكندر فقد كان في زمن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وطاف بالبيت معه ووزيره الخضر ووجه تسميته أنه كان صفحتا رأسه من نحاس، وقد صح عن علي أنه قال: كان عبدًا ناصح الله فناصحه، دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه الأيمن فمات، فأحياه الله فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه الأيسر فمات فسمي ذا القرنين، أو لأنه بلغ طرفي الدنيا من حيث تطلع قرنا الشمس وتغرب (قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ): أيها السائلون، (مِنْهُ) من ذي القرنين (ذِكْرًا إِنَّا مَكنَّا لَهُ): أمره، (في الْأَرْضِ): بأن تصرف(2/460)
فيها كيف شاء (وَآتيْنَاهُ مِنْ كُلٌ شَيْءٍ): أراده، (سَبَبًا) وصلة توصله إليه من العلم والقدرة والآلة (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) يوصله إلى المغرب (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) أي: رأى الشمس في منظره تغرب في عين ذات حمئة أي: طين أسود، ومن قرأ حامية، أي: حارة والجمع بين القراءتين أن تكون العين جامعة للوصفين (وَوَجَدَ عِنْدَهَا): عند تلك العين (قَوْمًا) أمة عظيمة من الأمم كفارًا (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ): بقتلهم وسبيهم (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا): بإرشادهم وتعليمهم الشرائع أو بالمن والفداء؟ أو بأسرهم؛ فإنه إحسان في جنب القتل (قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ): بأن يصر على الكفر (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ): بالقتل في الدنيا (ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ) إشارة إلى الحشر والبعث (فَيُعَذِّبُهُ): الله في الآخرة (عَذَابًا نُكْرًا): منكرًا لم يعهد مثله (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى) أي: فله المثوبة الحسنى، وجزاءً تمييز أو حال أي: مجزيا بها أو تقديره يجزى بها جزاء ومن قرأ برفع جزاء أي فله أن يجازي المثوبة الحسنى وهي الجنة، أو جزاء فعلته الحسنى وهي أعماله الصالحة (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا): لا نأمره بالصعب(2/461)
الشاق، بل بالسهل المتيسر أي: ذا يسر (ثَمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا): طريقًا إلى المشرق (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) أي: الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولاً، ومن قرأ بفتح اللام فهو بحذف مضاف أي: مكان طلوعها فإن المطلع مصدر (وَجَدَهَا تَطْلع عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُم مِّن دونِهَا): من دون الشمس (سِتْرًا) ليس لهم أبنية تكنهم فإن أرضهم لا تمسك الأبنية ولا أشجار تظلهم، فهم حين طلوع الشمس في أسراب أو في ماء فإذا زالت خرجوا (كَذَلِكَ) خبر مبتدأ أي: أمره كما وصفنا في رفعته أو أمره كأمره في أهل الغرب، أو صفة قوم أي: تطلع على قوم مثل ذلك القبيل أي: أهل الغرب أو صفة: مصدر محذوف أي: بلغ مطلعها بلوغًا مثل بلوغه مغربها (وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ) من أسبابه (خبْرًا): علمًا؛ لأنا أعطيناه ذلك، فيه تكثير ما لديه كأنه بلغ مبلغًا لا يحيط به علم أحد إلا علم الله (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا): طريقًا ثالثًا بين المشرق والمغرب وهو الشمال (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) أي: بين الجبلين المبني بينهما السد، وهما جبلان عاليان في أقصى الترك من ورائهما يأجوج ومأجوج، والصحيح أنهم من أولاد آدم وبين هاهنا مفعول به، فإنه من الظروف التي تستعمل أسماء وظروفًا (وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ) يعني لعجمهم وقلة فطانتهم لا يفهمون كلام أحد، ومن قرأ بضم الياء وكسر القاف أي: لا يفهمون السامع لغرابة لغتهم (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ) عن بعض السلف أنه يعلم جميع الألسنة (إِنَّ(2/462)
يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) أي: في أرضنا بأنواع المفاسد (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا): جعلا نخرجه من أموالنا (عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا): فلا يمكن لهم الوصول إلينا (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي): من المال والملك (خَيْرٌ) من خراجكم لا حاجة بي إليه (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) أي: بأيديكم وقوتكم وآلات بنائكم لا بمالكم (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) حاجزًا حصينًا (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) أي: قطعة، والزبرة: القطعة الكبيرة (حَتَّى إِذَا سَاوَى) أي: فجاءوا بها حتى إذا ساوى (بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) الصدفان: جانبا الجبلين، لأنهما يتصادفان أي: يتقاربان أي: امتلأ بينهما من زبر الحديد (قَالَ): للعَمَلَة (انْفُخُوا) فإنه جعل الفحم والحطب في خلال زبر الحديد (حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ)، الضمير للمنفوخ فيه (نَارًا) أي: كالنار بالإحماء (قَالَ آتونِي): قطرًا (أفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) أي: نحاسًا مذابًا على الحديد المحمي حتى التصق بعضُه ببعض، فحذف مفعول آتوني لدلالة الثاني عليه (فَمَا اسْطَاعُوا) بحذف التاء (أَنْ يَظْهَرُوهُ): يعلوه لطوله وملاسته (وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا): من أسفله لشدته (قَالَ): ذو القرنين، (هَذَا) أي: السد (رَحْمَةٌ مِنْ ربي): على عباده (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي) أي: وقت وعده بقيام الساعة أو بخروجهم (جَعَلَهُ(2/463)
دَكَّاءَ) أي: أرضًا مستوية ومن قرأ " دكا " بغير مد يكون مصدرًا بمعنى المفعول أي: مدكًّا مسوى بالأرض (وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) كائنا ألبتَّة (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ) أي: بعض يأجوج ومأجوج (يَوْمَئِذٍ): يوم فتح السد (يَمُوجُ في بَعْضٍ): يختلط بعضهم ببعض كموج الماء لكثرتهم، أو جعلنا بعض الخلق من الإنس والجن يوم قيام الساعة يختلط إنسهم بجنهم حيارى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ): قَرْنٌ ينفخ فيه إسرافيل لقيام الساعة (فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا): للحساب (وَعَرَضْنَا): أبرزنا وأظهرنا (جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا): فعاينوها (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ): غشاوة، (عَن ذكْرِي) عن رؤية آياتي الدالة على توحيدي (وَكَانُوا لا يَستَطِيعُونَ سَمْعًا): لكَلامي كأنهم [أصمت] مسامعهم بالكلية.
* * *
(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ(2/464)
مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
* * *
(أَفَحَسِبَ) همزة الاستفهام للإنكار (الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي): كالملائكة وعيسى أو الشياطين (مِنْ دُونِي أَوْلياءَ): معبودين وثاني مفعولي حسب محذوف للقرينة أي: ظنوا اتخاذهم معبودين نافعًا لهم (إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا) أي: منزلاً أو ما يهيأ للضيف حين نزوله مما حضر، وفيه تنبيه على أن لهم وراءها عذابًا أشد (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا) تمييز وجمعه لتنوع الأعمال (الَّذِينَ ضَلَّ) أي: هم الذين بطل وضاع (سَعْيُهُمْ) أو نصب على الذم (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسنُونَ صُنْعًا): لاعتقادهم أنَّهم على الحق (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ ربهِمْ): الدالة على توحيده (وَلِقَائِهِ): بالبعث (فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ): بسبب كفرهم (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا): ليس لهم خطر ولا مقدار ولا اعتبار عند الله (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ) مبتدأ وخبر (جَهَنَّمُ) عطف بيان للخبر، أو هو خبر وجزاؤهم بدل من المبتدأ أو تقديره: الأمر ذلك والجملة مبينة له (بِمَا كَفَرُوا) ما مصدرية (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا).
(إِن الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ) هي أوسط الجنة وأعلاها، ومنه تفجر الأنهار (نُزُلًا) فيه تفسيران كما مر (خَالِدِينَ فِيهَا) حال مقدرة (لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا): تحولا إذ لا يتصورون(2/465)
منزلاً أطيب منها (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ) أي: ماء البحر (مِدَادًا لِكَلِمَاتِ(2/466)
رَبِّي): لكلمات علمه وحكمته (لَنَفِدَ الْبَحْرُ) أي: ماؤه (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي) فإن ماء البحر متناه وعلم الله غير متناه (وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ): بمثل البحر الموجود (مَدَدًا): زيادة معونة؛ لأن المجموع أيضًا متناه نزلت حين قالت اليهود: إنا قد أوتينا الحكمة، وفي كتابك: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، ثم تقول: وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً أو لما نزلت: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً " قالت اليهود أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فنزلت " قل لو كان البحر " الآية (قُلْ إِنَّمَا(2/467)
أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) خصصت بالوحي وتميزت عنكم به (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ) يخاف المصير إليه أو يأمل لقاء الله ورؤيته (فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا) وهو ما كان موافقًا لشرع الله (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) أي لا يرائي بعمله بل لابد أن يريد به وجه الله وحده لا شريك له.
والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ أكمل الحمد وأتمه
* * *(2/468)
سورة مريم مكية إلا آية السجدة
وهي ثمان أو تسع وتسعون آية وست ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
* * *
(كهيعص) عن بعضهم معناه: الله كاف هاد يده فوق الأيدي عالم صادق.(2/469)
(ذِكْرُ رَحْمَت رَبِّكَ) خبر لـ كهيعص، إن كان اسمًا للسورة، وإلا فتقديره هذا المتلو ذكر رحمة ربك (عبدَهُ) مفعول رحمة (زَكَرِيا) بدل، أو عطف بيان (إِذْ نَادَى رَبَّهُ ندَاءً خَفيُّا) والإخفاء في الدعاء أبعد من الرياء، ولأن دعاءه جوف الليل عند نوم أَهله (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ): ضعف، (الْعَظْمُ مِنِّي) أي: جنس العظم، والعظام التي هي قوام البدن إذا وهنت مع أنها أصلب ما فيه، فكيف بما وراءها؟! (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) شبه الشيب بلهب نار لا دخان فيه وانتشاره باشتعالها، وأسند إلى الرأس الذي هو مكان الشيب مبالغة، ولم يضف الرأس اكتفاء [بعلم] المخاطب وأخرج الشيب مميزًا الإيضاح المقصود (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) بل عادتك الاستجابة لي كلما دعوتك فأنت الذي أطمعتني في قبول الدعاء (وَإِنِّي خِفْتُ(2/470)
الْمَوَالِيَ) بني عمه وعصبته خاف أن لا يحسنوا الخلافة (مِنْ وَرَائِي) بعد موتي وهو متعلق بمحذوف أي خفت عملهم بعدي (وَكَانتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا): لا تلد (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ): من محض فضلك فإني وامرأتي لا نصلح للولادة بحسب العادة (وَلِيًّا): من صلبي (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ): النبوة والعلم وكان زكريا من ذرية يعقوب وقد ثبت " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة " ولولا أن المراد منه هذه الوراثة الخاصة لكانت تلك الصفة أي: يرثني زائدة لا فائدة فيها إذ الولد يرث أباه في كل شرع (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا): مرضيًّا عندك وعند خلقك،(2/471)
(يَا زَكَرِيَّا)، جواب لندائه (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا): لم يسم أحدٌ قبله بهذا الاسم أو معناه شبيهًا (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُْ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي): من أول عمرها (عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا): يبسا في المفاصل والعظام كالعود اليابس يقال: عتا العود أي: يبس من أجل الكبر وأصله عتو استثقلوا توالي الضمتين والواوين فكسروا التاء فانقلبت الواو الأولى ياء ثم قلبت الثانية وأدغمت، وهذا تعجب منه عليه الصلاة والسلام واستغراب (قالَ): الملك المبشر له، (كَذَلِكَ) أي: الأمر كذلك (قَالَ ربُّكَ هُوَ) أي اتخاذ الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها (عَلَيَّ هَيِّنٌ): يسير، (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا)، فإن خلق أصلك آدم وهو معدوم صرف أغرب (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيةً): علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به (قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ): لا تقدر على التكلم (ثَلَاثَ لَيَالٍ): يعني ثلاثة أيام ولياليها (سَوِيًّا) حال كونك سوى الخلق من غير خرس وبكم فإنه كان يقرأ ويسبح ولا يستطيع أن يكلم قومه إلا بإشارة (فخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ): من المصلى، أو من الغرفة (فأَوْحَى): أشار وأومأ (إِلَيْهِم) وعن بعضهم كتب لهم في الأرض (أَنْ سَبِّحُوا) أن مفسرة أو مصدرية (بُكْرَةً وَعَشِيًّا): طرفي النهار والمراد تنزيهه وتحميده أو الصلاة (يَا يَحْيَى) يعني لما وهبنا له قلنا: يَا يَحْيَى (خُذِ الْكِتَابَ): أي التوراة التي يحكم بها النبيون (بِقُوَّةٍ): بجد وحرص (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ): الفهم والحكمة والنبوة(2/472)
صَبِيًّا وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا): رحمة وتعطفا من عندنا، وقيل تعطفا منا على أبويه عطف على الحكم (وَزَكَاةً): طهارة من المعاصي (وَكَانَ تَقِيًّا)، وقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام ما أذنب ولا هَمَّ بذنب (وَبَرًّا بِوَالِدَيهِ)، عطف على تَقِيًّا أي: بارًّا بهما (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) عاقًّا أو عاصيًا لربه (وَسَلامٌ): من الله (عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) أوحش ما يكون الخلق في تلك المواطن الثلاثة فخصه الله تعالى بالسلامة.
* * *
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً(2/473)
مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لله أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
* * *(2/474)
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ): أي القرآن (مَريمَ) أي: قصتها (إِذ انتَبَذَتْ) اعتزلت، بدل اشتمال من مريم أو ظرف لقصتها المقدرة (مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) أي: شرقي مسجد الأقصى لحيض أصابها، أو لفراغها للعبادة وهو ظرف أو مفعول فإن انتبذت متضمن معنى أتت (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا) أي: استترت منهم وتوارت قيل استترت في مقابل شروق الشمس للاغتسال عن الحيض (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا): جبريل (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) أي: على شكل إنسان تام كامل (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ): يا أيها البشر (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) تتقي الله، وجواب الشرط محذوف أي: فستنتهي مني بتعوذي، أو فلا تتعرض لي، قيل هو للمبالغة أي: إن كنت تقيًّا فأعوذ منك، فكيف إذا لم تكن تقيًّا متورعًا؟! (قَالَ) جبريل (إِنَّمَا أَنَا
رَسُولُ ربِّكِ): لم تصابي مني بسوء، قاله وهو كان في صورة بشر أو عاد إلى هيئته(2/475)
الملكية (لأهَبَ لَكِ غُلامًا): لأكون سببًا في هبته، (زَكِيًّا): طاهرًا، (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي): لم يباشرني (بَشَرٌ): من الحلال (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا): لست بزانية، وهو فعول قلبت الواو وأدغمت ثم كسرت الغين للمناسبة (قالَ كَذَلِكِ) أي: الأمر كذلك صدقها فيما قالت، ثم ابتدأ وجاز أن يتعلق كذلك بـ " قال ربك " وقوله " هو على هين " مفسر ذلك المبهم (قَالَ رَبُّكِ هُوَ) أي: وهب غلام من غير أب (عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ)، تقديره: ونفعل ذلك لنجعله أو لنبين قدرتنا ولنجعله (آيَةً لِلنَّاسِ): على كمال قدرتنا (وَرَحْمَةً مِنَّا): على عبادنا لأنه يهديهم (وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا): في علم الله الأزلي الذي لا يتغير (فَحَمَلَتْهُ) بأن نفخ في جيبها، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج فحملت ومدة حمله تسعة أشهر أو ثمانية، ولهذا لا يعيش ولد لثمانية فيكون آية أخرى أو ساعة (فانتَبَذَتْ بِهِ) أي اعتزلت حال كونها متلبسة بالحمل (مَكَانًا قَصِيًّا) بعيدًا عن الخلق لخوف التهمة عنهم (فأَجَاءهَا) ألجأها: واضطرها (الْمَخَاضُ): وجع الولادة (إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ): لتعتمد عليه عند الولادة، والتعريف إما للجنس أو للعهد إذ لم يكن ثم غيرها متعالم عند الناس، (قَالَتْ): استحياء من الناس (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا) الأمر (وَكُنْتُ نَسْيًا) ما من حقه أن يطرح وينسى كالذبح اسم لما من شأنه أن يذبح وبفتح النون(2/476)
لغة فيه (مَنْسِيًّا)؛ بحيث لا يخطر ببال أحد، (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا) فاعل نادى ضمير جبريل، قيل هو كالقابلة لها أو المراد أسفل من مكانها أي: آخر الوادي أو ضمير عيسى قيل أي: من تحت النخلة (أَلَّا تَحْزَنِي) أن مصدرية أي: بأن أو بمعنى أي (قَدْ جَعَلَ ربُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) نهرًا أو سيدًا أو هو عيسى من السرو (وَهُزِّي) أميلي، (إِلَيْكِ بجِذْع النَّخْلَةِ) الباء زائدة للتأكيد أو بمعنى افعلي الهز به (تُسَاقِطْ) تتساقط النخلة (عَلَيْكِ رُطَبًا) تمييز إن كان تساقط من باب التفاعل ومفعول إن كان من المفاعلة (جَنِيًّا): غضًا وكانت تلك النخلة يابسة، فأورقت لتكون آية أخرى يطمئن بها قلبها أو مثمرة لكن لم تكن في حين ثمرها، (فَكُلِي): من الرطب (وَاشْرَبِي): من النهر أو عصير الرطب (وَقَرِّي عَيْنًا): طيبي نفسك وهو من القرأى: البرودة فإن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة، أو من القرار فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره، (فإِمَّا تَرَيِنَّ): فإن تري (مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا): صمتًا وكان شريعتهم ترك الطعام والكلام في الصيام (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا): بعد أن أخبركم بنذري بل لا أكلم إلا ملائكة الله وأناجي ربي، أو كان الإخبار بالنذر أيضًا بالإشارة، وعن بعضهم لما قال عيسى لأمه: لا تحزني، قالت: كيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج، ولا مملوكة! فأي شيء عذري يا ليتني مت قبل هذا، قال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام قولي إني نذرت للرحمن صومًا (فَأَتَتْ بِهِ)، الباء للتعدية، والضمير للولد (قَوْمَها)، مفعوله الثاني (تَحْمِلُهُ) حال (قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا): منكرًا عظيما (يَا(2/477)
أُخْتَ هَارُونَ) أي: شبيهه في الزهد والتقوى أو كانت من نسله كما يقال للتميمي والمضري يا أخا تميم، ويا أخا مضر، أو نسبت إلى رجل صالح فيهم اسمه هارون، أو رجل فاجر فيهم يقال له هارون (مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا): زانية حتى نقول إنك تابعت في تلك الفاحشة أحد أبويك (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ): إلى عيسى أن كلموه (قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صبِيًّا) كان تامة وصبيًا حال أو زائدة والظرف صلة من (قَالَ) عيسى: (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) أقرَّ أولاً بالعبودية (آتَانِيَ الْكِتَابَ): الإنجيل جعل ما يأتي بعد في حكم الآتي، أو أنه درس الإنجيل وأحكامه في بطن أمه وقيل: المراد علمني التوراة (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا): في(2/478)
سابق علمه أو هو نبي حينئذ (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا): معلمًا للخير (أَيْنَ مَا كُنْتُ): حيث كنت (وَأَوْصَانِي): أمرني (بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ): زكاة المال، أو تطهير النفس (مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا) عطف على مباركًا أي: بارًّا أو منصوب بفعل بمعنى أوصاني وهو كلفني، (بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا): مستكبرًا عن عبادة الله وبر والدتي (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ): فلا ينالني شيطان، (وَيَوْمَ أَمُوتُ) فأنجاني من سوء الخاتمة (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا): فليس لي هول (ذَلِكَ): الذي وصفناه هو (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ): لا ما تصفه النصارى (قَولَ الْحَقِّ) أي: هو قول الحق الذي لا ريب فيه، فالإضافة بيانية أو الحق هو الله تعالى أو خبر ثاني لذلك، ومن قرأ بنصب قول جعله مصدرًا مؤكدًا (الذِي فِيهِ يَمْتَرُون) فبعضهم يقولون إنه لزنية ساحر وبعضهم إنه ابن الله (مَا كَانَ لله أَن يَتَّخِد مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانهُ) تكذيب للنصارى وتنزيه لجناب قدسه (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فلا يناسبه خلقه ولا يحتاج إلى ولد يعضده (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) عطف على إني عبد الله وهو من مقول عيسى ومن قرأ أن بالفتح فتقديره ولأن أو عطف على(2/479)
الصلاة (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ): طريق مشهود له بالاستقامة (فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ): أهل الكتاب، أو النصارى فإن فيهم ثلاث فرق (مِنْ بَيْنِهِمْ) من بين الناس، (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي: من شهود هول يوم عظيم، أي: يوم القيامة أو من وقت الشهود، أو مكان الشهود فيه وهو الموقف (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا) أي: ما أسمعَهم وأبصرَهم في ذلك اليوم لكن لا ينفعهم سمعهم حينئذ ولا بصرهم وحاصله أن كمال بصارتهم واستماعهم في ذلك اليوم جدير بأن يتعجب منهما بعد ما كانوا صمًا عميًا (لَكِنِ الظَّالِمُونَ) أوقع المظهر موقع المضمر لأن يسميهم ظالمًا (الْيَوْمَ): في الدنيا (الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) فيقولون إنه ابن الله، أو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء (وَأَنذرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) يتحسر المسيء على الإساءة، والمحسن على قلة الإحسان (إذ قُضِىَ الأمْرُ): فرغ من الحساب، وذبح الموت بدل من اليوم أو ظرف للحسرة (وهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنونَ) أي: أنذرتهم حال كونهم غافلين [غير مؤمنين] (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا): يبقى له الملكية وتزول [ملكية] غيره (وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) للجزاء.
* * *
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ
__________
(1) في الأصل [عن غير مؤمنين] والتصويب من البيضاوي. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(2/480)
دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
* * *
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ): لهؤلاء الذين هم من ذرية إبراهيم، ويدعون أنَّهم على ملته (إِبْرَاهِيمَ): كيف نهى أباه عن عبادة الأصنام (إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا): ملازمًا للصدق بليغًا فيه (نَبِيًّا إِذْ قَالَ) بدل من إبراهيم (لأَبيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعبدُ مَا لا يَسْمَعُ) دعائك (وَلا يُبْصِرُ) عبادتك (وَلا يُغنِي عَنْكَ شَيْئًا): من المكاره (يَا أَبَتِ)(2/481)
كرره للاستعطاف (إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ): وإن كنت من صلبك أصغر منك سنًّا (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا): مستقيمًا (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّ): ومطاوع العاصي عاص (يَا أَبَتِ إِني أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ) يصيبك (عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ): على شركك وعصيانك (فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا): قريبًا مصاحبًا لمن هو أعدا عدوك وأبغض الخلق إلى الله وذكر الخوف ونكر العذاب لحسن الأدب حيث لم يصرح بأن العذاب لاحق به (قَالَ): أبوه (أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ)، قابل استعطافه بالغلظة حيث سماه باسمه ولم يقل يا ولدي وأخره وقدم الخبر على المبتدأ وصدره بهمزة الإنكار، ثم أوعده بأقبح وعيد فقال: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ): عن مقالتك أو عن الرغبة عنها (لأرْجُمَنَّكَ): بلساني أي أشتمك جزاء سبك آلهتي، وقيل بالحجارة حتى تموت (وَاهجُرْنِي)، عطف على مقدر أي: فاحذرني واهجرني (مَلِيًّا) زمانًا طويلاً(2/482)
أو سويًا سالمًا قبل أن يصيبك مني مكروه (قَالَ): إبراهيم (سَلامٌ عليْكَ): سلمت بعد مني لا أقول لك ما يؤذيك وهذا جواب الجاهل (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) [الفرقان: 63]، (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) رجاء أن يوفقك للتوبة، فتؤمن أو كان يستغفر له أولاً ثم رجع عنه كما قال تعالى: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ) [التوبة: 114]، (إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) بليغًا في البر واللطف (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ): أفارقكم وأفارق دينكم (وَأَدعُو رَبِّي): أعبده وحده (عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) كما شقيتم أنتم بعبادة آلهتكم فضاع سعيكم صدره بـ عسى تنبيهًا على أن الإجابة فضل غير واجب والحكم على الخاتمة وهي غيب (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) فهاجر إلى الشام (وَهَبْنَا لَهُ): بدل والده وقومه (إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ): ابنه إسحاق وابن ابنه يعقوب أي جعلنا له نسلاً وعقبًا أنبياء، ولذلك قال: (وَكُلًّا): منهما (جَعَلْنَا) أي: جعلناه (نَبِيًّا وَوَهَبْنَا لَهم مِنْ رحْمَتِنَا)، وهي النبوة والمال والرفعة وغيرها (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) الثناء الحسن، فإن جميع الملل يثنون عليهم ويمدحونهم وعبر باللسان عما يوجد به كما تطلق اليد على العطية وأضاف بالصدق دلالة على أنَّهم أحقاء [بذلك] الثناء ووصف بالعلو إشعارًا على أن لمحامدهم إعلاء في الأمصار على تباعد الأعصار.
* * *
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ(2/483)
هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
* * *
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا) بفتح اللام أي: أخلصه الله ونجاه وبكسر اللام أي خاليًا عن الرياء أو مخلصًا نفسه عما سواه (وَكَان رَسُولاً نَبِيًّا): أرسله الله إلى عباده فأنبأهم عن أمره ونهيه (وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانبِ الطورِ الأيْمَنِ): من ناحيته التي يلي يمين موسى، وقيل من اليمن لا من اليمين (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا) من النجو وهو الارتفاع فإنه رفعه فوق السماوات حتى سمع صرير القلم، فهو حال من المفعول أو من النجوى أي مناجيًا (وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا): من أجل رحمتنا له (أَخَاهُ) أي: معاضدته (هَارُون) عطف بيان (نَبِيًّا) إجابة لدعوته " واجعل لي وزيرًا(2/484)
من أهلى " [طه: 29]، وهارون أكبر سنًا منه منصوب على الحال (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ) قد نقل أنه أقام حولاً في مكان ينتظر أحدًا لوعده وأيضًا قال لأبيه " ستجدني إن شاء الله من الصابرين " [الصافات: 102]، أي: على الذبح فوفى بوعده وفي الجملة هو مشتهر بهذه الجميلة (وَكان رَسُولا نَبِيًّا)، من قال: إن الرسول من يكون له شريعة مجددة والنبي أعم ففيه إشكال فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته ومن قال: الرسول من يأتيه الملك بالوحي والنبي يقال له ولمن يأتيه الوحي في المنام فلا إشكال (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ) كما قال: (وأمر أهلك بالصلاة) [طه: 132]، وقال سبحانه: (قوا أنفسكم وأهليكم نارًا) [التحريم: 6]، وفي الحديث " إذاً استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات " (وَكانَ عِنْدَ ربِّهِ مَرْضِيًّا) لحسن شيمه (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا): السماء الرابعة أو السادسة(2/485)
ومات فيها أو إلى الجنة (أُولَئِكَ): الأنبياء المذكورون في تلك السورة (الذِينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ): نعما ظاهرة وباطنة (مِنَ النبِيِّينَ)، بيان للموصول (مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) بدل منه بإعادة الجار (وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ) أي: ومن ذرية من حملنا مع نوح من سفينته سوى إدريس فإنه جد نوح فهو من ذرية آدم وإبراهيم من ذرية من حمل مع نوح (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ) عطف على إبراهيم فموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى من ذرية إسرائيل لا إسحاق وإسماعيل (وَمِمَّنْ هَدَيْنَا) أي هديناه إلى الحق (وَاجْتَبَينَا) للنبوة (إِذا تُتْلَى)، ظرف لـ خرُّوا وهو خبر لأولئك إذا جعلت الذين صفته وإن جعلته خبره فهو استئناف (عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا): سقطوا (سُجَّدًا) جمع ساجد (وبكِيًّا)، جمع باك (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) خلفه أي: عقبه وخلْف بسكون اللام عَقِب السوء وبفتحها عقب الخير (أَضَاعُوا الصلاةَ): تركوها أو أخروها عن وقتها (وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) مالوا إلى زخارف(2/486)
الدنيا وهم اليهود والنصارى، وعن بعضهم أنَّهم من هذه الأمة في آخر الزمان (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا): شرًا وخسرانًا أو هو واد في جهنم يسيل فيه صديد أهل النار (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا)، هذا يدل على أن الآية فِي الكفرة إلا عند من يقول: تارك الصلاة كافر وعليه كثير من السلف (فَأُولَئِكَ يَدْخلُونَ الْجَنةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا): بنقص جزاء أعمالهم فـ شيئًا إما مصدر أو مفعول بمعنى لا ينقصون ولا يمنعون شيئًا من جزاء أعمالهم (جَنَّاتِ عَدْنٍ) بدل من الجنة بدل البعض، والعدن عَلَم، ولذلك جاز أن يكون بدلاً من المعرفة وجاز وصفها بقوله: (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ) أي: وهي غائبة عنهم لم يروها (إِنَّهُ): إن الله (كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا): مفعول لا بمعنى فاعل، فإن الوعد هو الجنة وهم يأتونها (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا): ما لا طائل تحته، (إِلا سَلامًا) استثناء منقطع وهو سلام الملائكة أو بعضهم بعضًا، وقيل السلام الدعاء بالسلامة، والدعاء بها في الجنة من باب اللغو نعم فائدته الإكرام (وَلَهُمْ رِزْقفمْ فيهَا بُكْرةً وَعَشِيًّا) لا فيها ليل ونهار لكن على التقدير وعن بعضهم يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ومقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب وقيل المراد الدوام (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ(2/487)
كَانَ تَقِيًّا): الوراثة أقوى لفظ يستعمل في التملك فإنه لا فسخ ولا رجوع فيه قيل: أورثوا المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) أبطأ جبريل النزول مدة فقال رسول الله عليهما السلام ما نزلت حتى ظن المشركون كل ظن فأوحى إلى جبريل أن قل له " وَمَا نَتَنَزَّلُ " الآية وقد ورد أن جبريل قال كيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ولا تنقون براجمكم ولا تأخذون شواربكم ولا تستاكون؟! (لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ) أي: أمر الدنيا وأمر الآخرة وما بين النفختين أو الأرض والسماء والهواء أي: جميع الأزمان أو الأماكن له لا تنتقل في زمان دون زمان أو مكان إلى مكان إلا بأمره (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا): تاركًا لك مودعًا إياك كما زعمت المشركون (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا(2/488)
بَيْنَهُمَا)، بدل من ربك أو خبر مبتدأ محذوف (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ)، عدي باللام لتضمنه معنى الثبات أي: اثبت لها ولا يضق صدرك عن احتباس الوحي وشماتة المشركين (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا): مثلاً وشبهًا فلا محيص عن عبادته والصبر على مشاقها وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - ليس أحد يسمى الرحمن غيره، وعن بعضهم هل تعلم أحدًا يسمى الله غيره؟
* * *
(وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ(2/489)
مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
* * *
(وَيَقُولُ الإنسَانُ) حرف التعريف للجنس، فإنه إذا قال قائل منهم ذلك صح إسناده إلى جميعهم كما يقال بنو فلان فعلوا، والفاعل أحدهم أو للعهد أي: منكرو الحشر (أَإِذَا مَا مِتُّ) ما زائدة للتأكيد (لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) واللام لمجرد التأكيد ليس فيها معنى الحال والعامل في إذا فعل دل عليه " أخرج "؛ لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها والمراد من الخروج الخروج من الأرض، أو حال الفناء (أَوَلا يَذكُرُ): لا يتفكر (الْإِنْسَانُ) عطف على يقول، والهمزة بين المعطوفين ليدل على أن المنكر العجيب هو المعطوف فإنه لو تأمل (أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) بل كان عدما صرفا لم يقل ذلك أي: لو تأمل النشأة الأولى حيث أخرجنا الجواهر والأعراض من العدم وأوقعنا تلك التأليف المشحون بأنواع الحكم اختراعًا من غير حذو على مثال له ينكر النشأة الثانية (فوَربكَ) قسم باسمه الأعلى مضاف إلى أشرف مخاطب (لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ) الواو(2/490)
مفعول معه أو للعطف والضمير المفعول لجنس الإنسان فإنه إذا حشر الجميع حشرًا واحدًا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد صدق أن الكل محشورون معهم (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا): قعودا على الركب على المعتاد في مواقف التقاول كما قال تعالى (وترى كل أمة جاثية) [الجاثية: 28]، (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ): أمةٍ شاعت دينا (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا): غيًّا وفسادًا أي: قادتهم ورؤساؤهم في الشر أو يبدأ بالأفسق فالأفسق، فيطرح في جهنم وأيهم مرفوع بالابتداء استفهامي وخبره أشد، والجملة محكية أي لَنَنْزِعَنَّ الذين يقال فيهم أيهم أشد أو مبني على الضم لحذف صدر صلته و " على الرحمن " للبيان لا متعلق بـ عتيا، لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه أو معلق بأشد أي: عتوهم أشد عليه كما يقال: هو أشد على خصمه (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا) أي: احتراقًا " وبها " للبيان أو ظرف لأولى أي: صليهم أولى بالنار يعني ننزع الرؤساء، ونعلم أنَّهم أحق بتضعيف العذاب أو نبدأ بالأعصى فالأعصى ونقدم الأولى فالأولى بالعذاب وجاء بـ ثم لتأخره في الإخبار، ولأن حاصله طرحهم في النار على الترتيب وهو متأخر عن النزع (وَإِنْ مِنْكُمْ) أي: منكم أحد (إِلَّا وَارِدُهَا): داخلها يدخل النار بر وفاجر وتكون على المؤمنين بردًا وسلامًا وكثير من السلف على أن الورود هو الجواز على الصراط فإنه ممدود عليها، وعن بعضهم الورود(2/491)
الحضور والرؤية لا الدخول وقد ورد أنه - عليه السلام - عاد رجلاً من أصحابه وَعِكًا، ثم قال: " إن الله تعالى يقول هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة " وعن مجاهد الحمى حظ كل مؤمن من النار (كَانَ): الورد (عَلَى ربِّكَ حَتْمًا): واجبًا أوجبه على نفسه أو قسمًا واجبًا (مَقْضِيًّا): قضاه الله عليكم (ثُمَّ نُنَجِّي): عن النار (الَّذِينَ اتَّقَوْا): الشرك (وَنَذَرُ الظالِمِينَ): الكافرين (فِيهَا جثِيًّا) جميعًا جمع مجثوة أو على الركب جمع جاث (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتُنَا بَيِّنَات): واضحات المعاني والبرهان حال مؤكدة (قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا): معهم، ولأجلهم (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ): منا ومنكم خير (مَقَامًا): مكانًا (وَأَحْسَنُ ندِيًّا): مجلسًا يعني لما سمعوا آيات الله أعرضوا عنها واستدلوا على فضلهم وشرفهم بزيادة حظهم حطام الدنيا فرد الله تعالى عليهم بقوله (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا): متاع البيت (وَرِئْيًا): منظرًا أو هيئة فلم ينفعهم، ولن يدفع عنهم عذاب الله تعالى، وكم مفعول أهلكنا ومن قرن بيانه وهم أحسن في محل النصب صفة كم وأثاثًا ورئيًا تمييز عن النسبة (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ) الشرك (فَلْيَمْدُدْ له الرَّحْمَنُ مَدًّا): يدعه ويمهله في طغيانه استدراجًا وهو خبر بلفظ الأمر إشعارًا بوجوب ذلك وأنه مفعول لا محالة وقيل هذا دعاء (حَتَّى إِذَا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ): في الدنيا كالأسر والقتل (وَإِمَّا السَّاعَةَ): القيامة(2/492)
(فَسَيَعْلَمُونَ) عند ذلك (مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا): فئة وناصرًا وحتى غاية المد أي: هم في الاستدراج ممدود لهم الغواية إلى أن يأتيهم وعد الله أو غاية قول الكفار أي: الفريقين خير، أي: لا يزالون يقولون ذلك إلى أن يشاهد الموعود (وَيَزِيدُ اللهُ الذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى): إيقانًا على يقينهم عطف على الجملة الشرطية أي " من كان في الضلالة " إلخ وحاصله أن الله يزيد في ضلال الضالين، ويزيد هداية المهتدين (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) الأذكار والأعمال الصالحة التي يبقى أثرها (خيْرٌ عِنْدَ ربِّكَ): من مفاخرات الكفار (ثَوَابًا): جزاء (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) مرجعًا، وهذا من قبيل الصيف أحرُّ من الشتاء أي: أبلغ في حره من الشتاء في برده (أَفَرَأَيْتَ) أي: أخبر بقصة (الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا): عقب حديث أولئك (وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا)، وذلك حين تقاضى خباب دَينًا له على العاص بن وائل، فقال: ألستم تزعمون أن في الجنة ذهبًا وفضة، ومن كل الثمرات قال: بلى. قال: فإذن موعدك الآخرة أو فيك فيها(2/493)
فوالله لأوتين مالاً وولدًا (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ): أعلم علم الغيب حتى عرف أنه في الجنة (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا): أن سيؤتيه ذلك وعن بعضهم معناه أم قال لا إله إلا الله فيرجو بها (كَلا) ردع وردٌّ لما تصوره (سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ): نحفظها عليه ونجازيه ألبتَّة فالسين لمجرد التأكيد، أو معناه سنظهر له أنا كتبنا، أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمة العدو (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا): نطيل مدة عذابه أو نزيده عذابًا فوق العذاب من المدد (وَنَرِثُهُ) أي: نرث منه ولا نرزقه (مَا يَقُولُ): من مال وولد (وَيَأْتِينَا): يوم القيام) (فَرْدًا): لا مال له ولا ولد (وَاتَّخَذُوا) أي: مشركو قريش (مِنْ دُون اللهِ آلِهَةً): يعبدونها (لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا): ليتعززوا بهم حيث يكونون لهم شفعاء عند الله (كَلا)، ردع لتعززهم بها (سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ) يجحد الآلهة عبادة المشركين كما قال تعالى: " تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون " [القصص: 63]، أو سينكر الكفرة عبادة الأوثان كما قال الله تعالى: " والله ربنا ما كنا مشركين " [الأنعام: 23]، (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا): أعداء كما نقل أنهم يقولون: يا رب عذب هؤلاء الذين عبدونا من دونك وتوحيد ضدًا لأنهم كشيء واحد(2/494)
لفرط توافقهم في العداوة كما يقال هم يد على من سواهم، أو ضمير يكونون للكفرة وضمير عليهم للآلهة.
* * *
(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
* * *
(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ): سلطناهم عليهم (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) الأز، والهز التحريك أي: تحركهم وتحثهم على المعاصي (فَلا تَعجلْ عَلَيْهِمْ): بطلب عقوبتهم حتى تطهر الأرض من دنسهم (إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ): أيام آجالهم وأنفاسهم (عَدًّا) أي: لم يبق إلا أيام محصورة معدودة (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ)(2/495)
منصوب بمقدر وهو اذكر أو تقديره يوم نحشر ونسوق نفعل بهم ما لا يحيط به الوصف، أو بلا يملكون (وَفْدًا): وافدين عليه كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين لكرامتهم (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ): كما يساق البهائم (إِلَى جَهًّمَ وِرْدًا): عطاشا؛ لأن من يرد الماء لا يرده إلا لعطش (لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ): كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدً) استثناء منقطع أي: لكن من اتخذ عهدًا هو شهادة أن لا إله إلا الله والقيام بحقها له الشفاعة، أو ضمير لا يملكون للفريقين والاستثناء المتصل بدل من الضمير (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا): عجيبًا أو عظيمًا منكرًا أو الالتفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة [التسجيل] عليهم بالجرأة على الله تعالى [وللتنبيه] على عظيم قولهم (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطرْنَ): يشققن (مِنْهُ) من ذلك القول (وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا) أي: تهدُّ هَدًّا أي: تنكسر وتسقط (أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا) أي: لأن أو بدل من ضمير منه والدعاء بمعنى التسمية وترك مفعوله الأول للعموم والإحاطة بكل ما دعى له ولدًا أو بمعنى النسبة وفي اختصاص الرحمن أن أصول النعم وفروعها منه خلق العالمين وجميع ما معهم فمن أضاف إليه ولدا من نعمه فقد جعله كبعض خلقه ونعمه فحينئذ لا يستحق اسم(2/496)
الرحمن (وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا) أي: ما يتأتى له اتخاذه لأن الولادة لا مقال في [استحالتها] (1) وأما التبني فلا يكون إلا في مجانس وأين للقديم الرحمن مجانس؟! (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) أي: ما منهم إلا وهو مملوك له يأوى إليه بالعبودية (لَقَدْ أَحْصَاهمْ): حصرهم بعلمه وأحاط بهم (وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا): منفردًا عن الأتباع والأنصار كعبد ذليل (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا): سيحدث لهم في القلوب مودة من غير تعرض للأسباب التي يكتسب بها الناس موادات القلوب وقد صح " إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل إني قد أحببت فلانًا فأحبه فينادى في السماء ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض فذلك قوله تعالى. (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ) أي يسرنا القرآن عليك حال كونه منزلاً
__________
(1) في الأصل هكذا [أنه مح] والتصويب من الكشاف. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(2/497)
بلغتك (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا) أشداء الخصومة بالباطل (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) تخويف لهم، (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ): هل تشعر بأحد منهم وتراه (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا): صوتًا خفيَّا. اللهم اجعلنا من الوافدين إلى الرحمن لا من الواردين إلى النيران.
* * *(2/498)
سورة طه مكية
وهي مائة وخمس وثلاثون آية وثماني ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
* * *(2/499)
(طه) عن كثير من السلف أن معناه يا رجل بالعبرانية، وعن بعض أنه عليه السلام إذا صلى في التهجد قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله طه أي طاء الأرض بقدميك فقلبت همزته هاء. (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى): لتتعب، لما نزل القرآن قام هو عليه السلام وأصحابه واجتهدوا في القراءة والعبادة، فقال المشركون: ما أنزل عليك القرآن يا محمد إلا لشقائك، فنزلت (إِلا تَذْكِرَةً) أي: لكن تذكيرًا فنصبه على الاستثناء المنقطع، وقيل علة لفعل محذوف، أي: وما أنزلناه إلا للتذكير والموعظة، وقيل مصدر في موقع الحال من الكاف أو من القرآن (لِمَن يَخْشَى): لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار (تَنْزِيلًا) أي: نزل تنزيلاً أو مفعول به ليخشى، أي: لمن يخشى تنزيل الله، (مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى) جمع العُليا، أي: الرفيعة و " مِنْ " صلة تنزيلاً أو صفة له والالتفات للتعظيم. (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ(2/500)
استَوَى) هو مبتدأ مشار بلامه إلى من خلق وعلى العرش استوى خبره أو تقديره هو الرحمن، وعلى العرش استوى إما خبر ثان أو تقديره هو على العرش استوى، سئل الشافعي عن الاستواء فأجاب: آمنت بلا تشبيه، وأقمت نفسي في الإدراك وأمسكت عن الخوض فيه كل الإمساك. (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا(2/501)
تَحْتَ الثرَى): ما تحت سبع أرضين وعن بعضهم هو صخرة تحت الأرض السابعة (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) أي: بذكر الله ودعائه (فَإنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) أي: فاعلم أنه غني عن جهرك، فإنه يعلم ما تسر في نفسك وَأخفى منه، وهو ما لم تحدث به نفسك بعد، أو ما أسر الرجل إلى غيره وأخفى منه، وهو ما أسر في نفسه فيكون نهيًا عن الجهر، كما قال تعالى: " واذكر ربَّك في نفسك " [الأعراف: هـ 20]، أو معناه، يعلم السر وأخفى منه فكيف ما تجهر به فحينئذ حاصله أنزل من خلق السماوات والأرض القرآنَ ويعلم السر والجهر (اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) تأنيث الأحسن.
(وَهَلْ أَتَاكَ): يا محمد (حَدِيثُ مُوسَى): قفّاه بقصته، ليأتم به في تحمل أعباء الرسالة والصبر على الشدائد، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل (إِذ رَأَى) مفعول لاذكر أو ظرف للحديث (نَارًا): في طريق مصر حيث استأذن شعيبًا في الرجوع إلى مصر لزيارة الوالدة، فخرج بأهله فأضل الطريق في ليلة مظلمة باردة فرأى من جانب الطور نارًا (فقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا): أقيموا مكانكم (إِني آنسْتُ): أبصرت إبصارًا بينًا (نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ): بشعلة منها (أَوْ أَجِدُ عَلَى النارِ(2/502)
هُدًى): هاديًا يهديني إلى الطريق (فَلَمَّا أَتَاهَا) أي: النار (نودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي): من قرأ بكسر إنَّ فبإضمار القول أو بإجراء النداء مجرى القول، ومن قرأ بالفتح فتقديره نودي بأني (أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ)، فإنهما كانا من جلد حمار ميت غير مدبوغ، أو أمر بالخلع تعظيمًا للوادي. (إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى)، عطف بيان، إن كان اسمًا للوادي وقيل معناه مرتين كثنى فهو مصدر لنودي أو المقدس، وقيل تقديره واطو الأرض بقدميك طوى فهو مصدر كهدى (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ): اصطفيتك للنبوة، (فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى): إليك، (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي)، بدل مما يوحى، (وأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي): لتذكرني أو عند ذكرك لي، يعني عند ذكر الصلاة، ففي الحديث: " إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله قال: (وأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي). (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ): لا محالة (أَكَادُ أُخْفِيهَا) عن نفسي أي: وقتها فهو مبالغة في الإخفاء، وفي مصحف أبيّ وابن مسعود أكاد أخفيها من نفسي، وفي بعض القراءات فكيف أظهرها لكم أو أريد إخفاء وقتها أو أكاد أظهرها فالهمزة للسلب، في بعض القراءات أَخفيها بفتح الهمزة أي(2/503)
أظهرها، وقيل أخفيها فلا أقول هي آتية ولولا ما في الإخبار من اللطف لما أخبرت به (لِتُجْزَى) متعلق بـ آتية (كُل نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى): تعمل (فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا): عن التصديق بالساعة (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا) يعني كُنْ شديد الشكيمة حتى لا يؤثر فيك أقوال الكفرة واعتقاداتهم فنهى الكافر والمراد فيه أن ينصد عنها (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ): خالف أمر الله (فَتَرْدَى): فتهلك منصوب على جواب النهي.
(وَمَا تِلْكَ)، الحكمة في السؤال تنبيهه وتيقظه ليرى ما فيه من العجائب (بِيَمِينِكَ) حال من معنى الإشارة، أو صلة لتلك، وهي اسم موصول. (يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ): أعتمد (عَلَيْهَا): عند المشي والإعياء (وَأَهُشُّ): أخبط الورق عن الشجر (بِهَا عَلَى) رؤوس. (غَنَمِي): تأكله، (وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ): حاجات، (أُخْرَى): كحمل الماء والزاد بها. قيل: لما أمره الله بخلع النعلين وتركهما تصور عند هذا السؤال إنكار التمسك بها، وأمره بالرفض فبسط الكلام، وقال: أنا محتاج إليها غاية الاحتياج، وعن وهب لما قال الله ألقها ظن موسى أنه يقول ارفضها. (قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى) أي: نردها عصى كما كانت، منصوب بنزع الخافض، أي: إلى سيرتها، أو(2/504)
ظرف، أي: في طريقتها (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ) أي: إلى جنبك تحت العضد. (تَخْرُجْ)، حال كونها (بَيْضَاءَ): لها شعاع كالشمس. (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ): كـ برص صلة لبيضاء. (آيَةً أُخْرَى)، حال (لِنُرِيَكَ) أي: فعلنا ذلك لنريك، أو تقديره خذ آية أخرى. لنريك فلا تكون آية على هذا حالاً. (مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى)، ثاني مفعولي نريك. (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ): وادعه إلى التوحيد (إِنَّهُ طَغَى): عصى وتكبر.
* * *
(قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)(2/505)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)
* * *
(قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي): أفسح ربي قلبى لتحمل أعباء النبوة. (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي): سهل عليَّ أبهم الكلام أولا، وعلم أن [ثَمَّ] مشروحًا وميسرًا، ثم رفع الإبهام بصدري وأمري ففيه تأكيد ومبالغة. (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَاني) هو في صغره كان يومًا في حجر فرعون فأخذ لحيته ولطمه فتشاءم به وأراد قتله، فقالت امرأته: إنه لا يعرف ولا يعقل ونمتحنه، فقربوا إليه جمرتين ولؤلؤتين فتناول جمرتين ووضعهما في فيه فاحترق لسانه وصارت عليه عقدة وأصابه اللثغ، وعن بعض السلف سأل حل عقدة
واحدة، ولو سأل أكثر من ذلك لأعطي، ولذلك بقي في لسانه شيء من الرتة، ومنها قال فرعون: (وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) [الزخرف: 52] (يَفْقَهُوا قَوْلِي): يفهموه هو جواب الأمر (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي) مفعولاه إما وزيرًا أو هارون قدم ثانيها للعناية به أولى ووزيرًا وهارون عطف بيان للوزير، أو وزيرًا ومن أهلى وأخى(2/506)
على وجه بدل من هارون أو عطف بيان آخر (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي): ظهري أو قوتي. (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي): في الرسالة ومن قرأ (أَشْدُد وأشْركه) بلفظ الخبر فهما جواب الأمر (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا)، فإن التعاون يؤدي إلى تكاثر الخير (إِنَّكَ كنْتَ بِنَا): بأحوالنا (بَصِيرًا)، فأعطنا ما هو الأصلح لنا.
(قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ): مسئولك (يَا مُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ): بالإنعام، (مَرَّةً أُخْرَى): في وقت آخر (إِذ أَوْحَيْنَا): ألهمنا (إِلَى أُمِّكَ) وقيل: أوحى إليها ملكًا لا على وجه النبوة، أو على لسان نبي في وقتها (مَا يُوحَى): ما لا يعلم إلا بالوحي (أَنِ اقْذِفِيهِ): بأن ألقيه وضعيه. (فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ): بحر النيل (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) جعل البحر كأنه ذو تمييز فأمره وأخرج الجواب مخرج الأمر (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) جواب فَلْيُلْقِهِ وتكرير عدو للمبالغة. (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً): كائنة (مِنِّي) قد ركزتها في القلوب، يحبك كل من يراك، أو مني ظرف لـ ألقيت، أي: أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي): لتربى ويحسن إليك بمرأى، ومنظر مني كما يراعى الرجل الشيء بعينيه إذا اعتني به، تقديره ليتعطف عليك ولتصنع، أو تقديره ولتصنع فعلت ذلك (إِذ تَمْشِي) ظرف(2/507)
لـ ألقيت أو لتصنع بدل من إذ أوحينا على أن المراد به وقت متسع (أختكَ): مريم (فتَقُولُ): حين ألقاه النيل إلى الساحل وأخذه فرعون وأحبه وكان لا يقبل ثدي أحد من المراضع كما قال تعالى: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ) [القصص: 12]. (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ): فجاءت بأمك فقبلت ثديها. (فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا): بلقياك وقد مر اشتقاقه في سورة مريم (وَلا تَحْزَنَ): هي لفراقك قيل أي: لا تحزن أنت على فراقها، قد ذكر أن أمه اتخذت تابوتًا ووضعته فيه، فأرسلته في النيل وأمسكته بحبل، وكانت ترضعه في الليالي ثم ترسله في النيل، لأنه قد ولد في سنة أمر فرعون بقتل الغلمان المولود فيها، فذهبت مرة لتربط الحبل فانفلت من يدها فذهب به البحر فاغتمت، وذهب به النيل إلى دار فرعون فالتقطه آل فرعون (وَقَتَلْتَ نَفْسًا) أي: القبطي الذي استغاثه على الإسرائيلي (فَنَجَّيناكَ مِنَ الْغَمِّ): بأن غفر الله لك، وأمنك من القتل. (وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا): ابتليناك ابتلاء أو جمع فتن يعني ضروبًا من الفتنة، وهي ما وقع عليه من الواقعات قبل النبوة (فَلَبِثْتَ): مكثت (سِنِينَ)(2/508)
أي: عشر سنين (في أَهْلِ مَدْيَنَ): منزل شعيب - عليه السلام - على ثمان مراحل
من مصر. (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ): على رأس أربعين سنة وهو القدر الذي يوحى فيه الأنبياء أو قدر قدرته في علمي (يَا مُوسَى وَاصْطَنَعتكَ لِنَفْسِي): اخترتك لرسالتي وأمري تمثيل لكمال قربه ووفور حبه (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخوكَ بِآيَاتِي): معجزاتي (وَلا تَنِيَا): ولا تقصرا ولا تفترا (فِي ذِكْري)، يعني لا تنسياني وقيل لا تقصرا في تبليغ ذكري ورسالتي (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى): تكبر، أمره بالذهاب وحده أولاً حيث قال: اذهب إلى فرعون وثانيًا: مع أخيه (فقولا لَه قَوْلاً لَيِّنًا): فلا تعنفا في قولكما كي لا تأخذه أنفة (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ): يذعن للحق (أَوْ يَخْشَى): أن يكون الأمر كما تصفان فيجر إنكاره إلى هلاكه يعني: اذهبا على رجائكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ترتب الفائدة على سعيه فيجتهد بطوقه، قيل قبل النصح أولاً ثم أضله هامان (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا): أن يعجل علينا بالعقوبة (أَوْ أَنْ يَطْغَى): يجاوز الحد في الإساءة علينا أو فيك (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا): بالحفظ والعون (أَسْمَعُ): ما يجري بينكم (وَأَرَى): لست بغافل عنكما (فَأْتِيَاهُ): فأتياه مكثا في بابه حينًا طويلاً قيل: سنتين حتى أذن لهما (فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ(2/509)
فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ): خل عنهم وأطلقهم (وَلَا تُعَذِّبْهُمْ): بالأعمال الشاقة (قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ): ببرهان ومعجزة على رسالتنا (وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) أي: السلامة من عذاب الله عليه (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ): الرسل (وَتَوَلَّى): وأعرض عنهم، ومن لين المقال أنه ما قال: إن العذاب عليك إن كذبت وتوليت (قَالَ): بعدما أتياه، وقالا ما أُمرا به (فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى)، خص موسى بالنداء لأنه المتكلم، أو لأنه عرف أنه الأصل وهارون ممده، أو لما علم أن له رتة، ولهارون فصاحة حمله خبثه على ذلك (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ): صورته وشكله اللائق به (ثُمَّ هَدَى): هداه إلى منافعه وأعطى كل حيوان نظيره وزوجه ثم هداه كيف يأتي الذكر الأنثى، وقيل أي: أوجد الأشياء وقدر الأرزاق والآجال والأعمال، ثم الخلائق ماشون على قدر لا يقدر أحد عن الخروج منه، كما قال: (والذي قدَّرَ فهدى) [الأعلى: 3]، وقيل أي: أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه، ثم هداهم إلى استعماله وعلى هذا خلقه مفعوله الأول، ولما كان الجواب بليغًا جامعًا مفحمًا بهت فلم ير إلا صرف الكلام عن الطريق الأول (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى): ما حالهم مع أن أكثرهم عابدو الأصنام. (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ ربي): أعمالهم محفوظة عنده (فِي كِتَابٍ): اللوح المحفوظ (لَا يَضِلُّ رَبِّي): لا يخطيء شيئًا. (وَلَا يَنْسَى): ولا يذهب عنه ويجازيهم أو لا يضل ربي الكافر حتى ينتقم منه ولا ينسى الموحد حتى يجازيه أو لما سأل عن سعادتهم وشقاوتهم(2/510)
أحال علمه إلى الله فكأنه قال: لا أعلم حالهم (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا): كالمهد، (وَسَلَكَ): حصل (لَكُمْ فِيهَا سُبُلا): تسلكونها (وَأَنزَلَ مِنَ السمَاءِ ماءً) أي: المطر (فَأَخْرَجنا بِهِ) قيل: تم كلام موسى وهذا من كلام الله، وقيل: من تمام كلام موسى لكن عدل إلى التكلم على الحكاية لكلام الله تنبيهًا على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال قدرته، وإيذانًا بأنه مطاع تذعن الأجناس المتفاوتة لمشيئته، ويمكن أن يكون كلام موسى، فأخرج بصيغة الغيبة لكن لما حكى الله قوله حكاه لفظًا بلفظ حتى انتهى إلى قوله: " فأخرجنا " غير الأسلوب إلى التكلم تنبيهًا على عظم قدره، وأنه أمر لا يدخل تحت قدرة غيره (أَزْوَاجًا): أصنافًا (مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى)؛ مفترقات جمع شتيت والنبات مصدر سمي به النابت فاستوى فيه الواحد والجمع فلهذا جاز وصفه بـ شَتَّى التي هي جمع وقيل شيء صفة أزواجًا (كُلُوا) أي: فأخرجنا قائلين كلوا (وَارْعَوْا أَنعَامَكُمْ) أي كلوا أنتم من النبات وأسرحوا أنعامكم فيها (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى) ذوي العقول الناهية عن القبائح.
* * *
(مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ(2/511)
يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا(2/512)
قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
* * *
(مِنْهَا): من الأرض (خَلَقْنَاكُمْ): فإن أب الكل منها وعن بعض الملك يأخذ من تراب الأرض الذي قدر أن يدفن فيها فيذره على النطفة فيخلق منها (وَفيهَا نُعِيدُكُمْ): بالموت (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ): يوم البعث (تَارَةً أُخْرَى).
(وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا) أي: الآيات التي ظهرت على يد موسى (فَكَذَّبَ): الآيات وقال إنَّهَا سحر، (وَأَبَى): قبولها (قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى): فيبقى لك ديارنا (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ): مثل سحرك (فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا) اسم مكان أو زمان (لا نُخْلِفُهُ) جعل المكان أو الزمان مخلفًا على الاتساع كيوم شهدناه (نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَانًا) بدل من الموعد على الأول، وظرف لـ لا نخلفه على الثاني، وقيل مفعول أول لـ اجعل (سُوًى) منصفًا يستوى مسافته(2/513)
إلينا وإليك أو عدلاً أو مستوىً يتبين الناس وما فيه فيه، (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ): يوم عيد لهم، وعن ابن عباس - رضي الله عنه - يوم عاشوراء إذا كان الموعد اسم زمان فهو ظاهر، وأما إن كان اسم مكان فهو كما تقول يوم عرفة في جواب أين أراك؟ أي: في عرفة فإن له مكانًا معينًا معروفًا (وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ)، عطف على اليوم والزينة (ضُحًى): في وقت الضحوة جهارًا في محضر الخلائق ليتضح الحق على رءوس الأشهاد ويشتهر، (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ) هو كما تقول ذهب يفعل كذا أي شرع فيه (فَجَمَعَ كَيْدَهُ): ما يكاد به من السحرة وآلاتها (ثُمَّ أَتَى): الموعد (قَالَ لَهُمْ): للسحرة (مُوسَى) وفي عددهم اختلاف كثير قيل سبعون رجلاً، وقيل ثمانون ألفًا أو ثلاثون أو تسعة عشر ألفًا، أو خمسة عشر ألفًا، أو اثنا عشر ألفًا (وَيْلَكُمْ لا تَفتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا)، بأن تخيلوا للناس ما لا حقيقة له، فتقولوا إنه مخلوق لله وأن تدعوا معجزاته سحرًا أو تدعوا له ندا (فَيُسْحِتَكُمْ): يستأصلكم (بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ): خسر (مَنِ افْتَرَى): على الله (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي: تشاجر السحرة سرًّا من فرعون في أمرهم فقائل منهم يقول ليس هذا بساحر إنما هو كلام نبي وقائل يقول بل هو ساحر (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) أي: تناجوا فيما بينهم (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ)، تفسير لـ أَسَرُّوا النَّجْوَى وهذا من اسم إن لغة من يجعل التثنية غير مختلف في الرفع والنصب والجر، أو تقديره أنه هذان لساحران (1) (يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِن أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتكُم الْمُثْلَى): بملككم وعيشكم الذي أنتم فيه أو بأشراف قومكم أو بدينكم الذي هو أمثل الأديان، (فأَجْمِعوا كَيْدَكُمْ) أي: أحكموا واعزموا كلكم على كيدهما مجتمعين لهما (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا): مصطفين فإنه أهيب في عين الرائين، وهذا قول بعض السحرة لبعضهم (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى): فإن
__________
(1) قال العلَّامة السمين ما نصه:
قوله: {إِنْ هذان}: اختلف القُرَّاءُ في هذه الآيةِ الكريمة: فقرأ ابن كثيرٍ وحدَه «إنْ هذانِّ» بتخفيف إنْ، والألفِ، وتشديدِ النون. وحفصٌ كذلك إلاَّ أنه خَفَّف نونَ «هذانٍ». وقرأ أبو عمرو «إنَّ» بالتشديد «هذين» بالياء وتخفيفِ النون. والباقون كذلك إلاَّ أنهم قَرَؤوا/ «هذان» بالألف.
فأَمَّا القراءةُ الأولى وهي قراءةُ ابنِ كثير وحفص فأوضحُ القراءاتِ معنىً ولفظاً وخَطَّاً؛ وذلك أنهما جعلا «إنْ» المخففةَ من الثقيلة فَأُهْمِلَتْ، ولَمَّا أُهْمِلَتْ كما هو الأفصحُ مِنْ وجهيها خِيْفَ التباسُها بالنافية فجيء باللامِ فارقةً في الخبر. ف «هذان» مبتدأٌ، و «لَساحران» خبرُه، ووافَقَتْ خَطَّ المصحفِ؛ فإن الرسم «هذن» بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ وسيأتي بيانُ ذلك.
وأمَّا تشديدُ نونِ «هذان» فعلى ما تقدَّم في سورةِ النساءِ، وقد أَتْقَنتُ ذلك هناك.
وأمَّا الكوفيون فيزعمون أنَّ «إنْ» نافيةٌ بمعنى ما، واللامُ بمعنى إلاَّ، وهو خلافٌ مشهورٌ وقد وافقَ تخريجُهم هنا قراءةَ بعضِهم «ما هذانِ إلاَّ ساحران».
وأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فواضحةٌ من حيث الإِعرابُ والمعنى. أمَّا الإِعرابُ ف «هذَيْن» اسمُ «إنَّ» وعلامةُ نصبِه الياءُ. و «لَساحِران» خبرُها، ودخَلَتِ اللام توكيدًا. وأمَّا مِنْ حيث المعنى: فإنَّهم أَثْبتوا لهما السحرَ بطريق تأكيديٍّ من طرفيه، ولكنهم استشكلُوها من حيث خَطُّ المصحفِ؛ وذلك أنَّ رَسْمَه «هذن» بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ، فإثباتُه بالياءِ زيادةٌ على خطِّ المصحفِ. قال أبو إسحاق: «لا أُجيز قراءةَ أبي عمرو لأنَّها خلافُ المصحفِ». وقال أبو عبيد: «رأيتُهما في الإِمام مصحفِ عثمان» هذن «ليس فيها ألفٌ، وهكذا رأيتُ رفعَ الاثنين في ذلك المصحفِ بإسقاط الألفِ، وإذا كتبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء، ولا يُسْقِطونها».
قلت: وهذا لا ينبغي أَنْ يُرَدَّ به على أبي عمرو، وكم جاء في الرسم أشياءُ خارجةٌ عن القياسِ، وقد نَصُّوا هم أنه لا يجوزُ القراءةُ بها فليكنْ هذا منها، أعني ممَّا خَرَجَ عن القياس. فإن قلتَ: ما نَقَلْتَه عن أبي عبيد مشتركُ الإِلزامِ بين أبي عمروٍ وغيرِه، فإنهم كما اعترضوا عليه بزيادةِ الياء يُعْترض عليهم بزيادةِ الألفِ: فإنَّ الألفَ ثابتةٌ في قراءتِهم، ساقطةٌ من خَطِّ المصحفِ. فالجواب ما تقدَّم مِنْ قولِ أبي عبيدٍ أنهم رآهم يُسْقِطون الألفَ مِنْ رفع الاثنين، فإذا كتُبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء.
وذهب جماعةٌ منهم عائشةُ رضي الله عنها وأبو عمروٍ إلى أن هذا ممّا لَحَنَ فيه الكاتبُ وأُقيم بالصواب.
يَعْنُون أنه كان مِنْ حقه أن يكتبَه بالياءِ فلم يفعلْ، فلم يقرَأْه الناسُ إلاَّ بالياءِ على الصوابِ.
وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجه، أحدُها: أن «إنَّ» بمعنى نَعَمْ، و «هذان» مبتدأٌ، و «لَساحران» خبرُه، وكَثُرَ ورودُ «إنَّ» بمعنى نعم وأنشدوا:
3297 - بَكَرَ العَواذِلُ في المَشِيْ ... بِ يَلُمْنَني وأَلوْمُهُنَّهْ
ويَقلْن شَيْبٌ قد عَلا ... كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ
أي: فقلت: نَعَمْ. والهاءُ للسَّكْتِ. وقال رجلٌ لابن الزبير: لَعَن اللهُ ناقةً حَمَلَتْني إليكَ. فقال: «إنَّ وصاحبَها» أي: نعم. ولَعَنَ صاحبَها. وهذا رأيُ المبردِ وعلي بن سليمان في آخرين. وهو مردودٌ من وجهين، أحدهما: عدمُ ثبوتِ «إنَّ» بمعنى نعم، وما أوردُه مُؤَوَّلٌ: أمَّا البيتُ فإنّ الهاءَ اسمُها، والخبرَ محذوفٌ لفهمِ المعنى تقديرُه: إنه كذلك. وأمَّا قولُ ابنِ الزبير فذلك مِنْ حَذْفِ المعطوفِ عليه وإبقاءِ المعطوف وحَذْفِ خبر «إنَّ» للدلالةِ عليه، تقديره: إنَّها وصاحَبها ملعونان، وفيه تكلُّفٌ لا يَخْفَى والثاني: دخولُ اللامِ على خبرِ المبتدأ غيرِ المؤكَّد ب «إنَّ» المكسورةِ، لأَنَّ مثلَه لا يقعُ إلاَّ ضرورةً كقولِه:
3298 - أمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوْزٌ شَهْرَبَهْ ... تَرْضَى من اللحمِ بعظمِ الرَّقَبَهْ
وقد يُجاب عنه: بأنَّ «لَساحِران» يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ دَخَلَتْ عليه هذه اللامُ تقديرُه: لهما ساحران. وقد فعل ذلك الزجاج كما ستأتي حكايتُه عنه.
الثاني: أنَّ اسمَها ضميرُ القصةِ وهو «ها» التي قبل «ذان» وليست ب «ها» التي للتنبيهِ الداخلةِ على أسماءِ الإِشارةِ، والتقدير: إنَّ القصةَ ذانِ لساحران. وقد رَدُّوا هذا من وجهين، أحدهما: من جهةِ الخَطِّ، وهو أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن تُكتبَ «إنها» فيصِلوا الضميرَ بالحرفِ قبلَه كقوله تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} [الحج: 46] فكَتْبُهم إياها مفصولةً من «إنَّ» متصلةً باسمِ الإِشارة يمنع كونَها ضميرًا، وهو واضح. الثاني: أنَّه يؤدِّي إلى دخولِ لامِ الابتداءِ في الخبرِ غيرِ المنسوخِ. وقد يُجاب عنه بما تقدَّم.
الثالث: أنَّ اسمَها ضميرُ الشأنِ محذوفٌ، والجملةُ من المبتدأ والخبرِ بعدَه في محلِّ رفعٍ خبرًا ل «إنَّ»، التقديرُ: إنَّه، أي: الأمرُ والشأنُ. وقد ضُعِّفَ هذا بوجهين، أحدهما: حَذْفُ اسمِ «إن»، وهو غيرُ جائزٍ إلاَّ في شعرٍ، بشرطِ أَنْ لا تباشرَ «إنَّ» فعلاً كقولِه:
3299 - إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الكنيسةَ يومًا ... يَلْقَ فيها جَآذرًا وظِباءَ
/ والثاني: دخولُ اللام في الخبرِ.
وقد أجابَ الزجَّاج بأنها داخلةٌ على مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: لهما ساحران. وهذا قد استحسنه شيخُه المبردُ، أعني جوابَه بذلك.
الرابع: أنَّ «هذان» اسمُها، و «لَساحران» خبرُها. وقد رُدَّ هذا بأنه كان ينبغي أَنْ يكونَ «هذين» بالياءِ كقراءةِ أبي عمرو.
وقد أُجيب عن ذلك: بأنه على لغةِ بني الحارثِ وبين الهُجَيْم وبني العَنْبر وزُبَيْد وعُذْرَة ومُراد وخَثْعَم. وحكى هذه اللغةَ الأئمةُ الكبارُ كأبي الخَطَّاب وأبي زيد الأنصاري والكسائي. قال أبو زيد: «سمعتُ من العربِ مَنْ يَقْلِبُ كلَّ ياءٍ ينفتح ما قبلها ألفًا»، يجعلون المثنى كالمقصورِ فيُثْبِتون ألفًا في جميع أحواله، ويُقَدِّرون إعرابَه بالحركاتِ، وأنشدوا قولَه:
3300 - فأَطْرَق إطْراقَ الشُّجاعِ ولو يرى ... مَسَاغاً لِناباه الشُّجاعُ لصَمَّما
أي: لنابَيْه. وقولَه:
3301 - إنَّ أباها وأبا أباها ... قد بَلَغا في المجدِ غايتاها
أي: غايتيهما، إلى غير ذلك من الشواهد.
وقرأ ابن مسعود: «أنْ هذان ساحِران» بفتح «أَنْ» وإسقاط اللامِ: على أنها وما في حَيِّزها بدلٌ من «النجوى» كذا قاله الزمخشري، وتبعه الشيخ ولم ينكره. وفيه نظرٌ: لأنَّ الاعتراضَ بالجملة القولية بين البدلِ والمبدلِ منه لا يَصِحُّ. وأيضًا فإنَّ الجملةَ القوليةَ مفسرةٌ للنجوى في قراءةِ العامَّة، وكذا قاله الزمخشريُّ أولاً فكيف يَصحُّ أَنْ يُجْعَلَ «أنْ هذان ساحران» بدلاً من «النجوى»؟. اهـ (الدر المصون في علوم الكتاب المكنون. 8/ 63 - 68)(2/514)
من غلب، (قَالُوا يَا مُوسَى)، بعدما جمعوا كيدهم وأتوا، (إِمَّا أَن تُلْقِيَ): عصاك أولاً، (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى)، ما بعد أن منصوب بمحذوف أي: اختر إلقاءك أو إلقاءنا أو مرفوع أي: الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا. (قَالَ بَلْ أَلْقُوا)، قيل: لما علم ميلهم إلى البدء أمرهم به وليشعر علية تغيير نظمهم عن إما أن تلقي إلى أو أن نكون أول من ألقى (فَإِذَا حِبَالُهُمْ)، إذا للمفاجأة أي: فألقوا فإذا حبالهم (وَعِصِيُّهُمْ)، جمع عصى (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى)، وتحريكها ما كان إلا بحيلة وحاصل الكلام فألقوا ففاجأ موسى تخيله وقت تخيل سعى حبالهم وعصيهم من سحرهم ومن قرأ تخيل بالتاء فقوله: أنها تسعى بدل اشتمال من ضميره الراجع إلى الحبال والعصي قيل لطخوا بالزئبق فلما ضربت عليهما الشمس اضطربت. (فَأَوْجَسَ): أضمر (فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى): من أن يلتبس الأمر على القوم فلا يتبعونه وقيل من: طبع البشرية ظن أنها تقصده (قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى)، وهذا مشعر ومؤيد للوجه الأول، وإلا فالمناسب أن يقال لا تخف إنك آمن (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) لم يقل عصاك تحقيرًا لها أي العويدة التي في يدك ولا تبال بعصيهم (تَلْقَفْ) تبتلع جواب الأمر وقراءة تلقف بالرفع أي: تتلقف فبالحال أو الاستئناف. (ما صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا) أي: إن الذي زوروا (كَيْدُ سَاحِرٍ)، وحد الساحر لأن المراد به الجنس، وقراءة سِحْرٍ كعِلْمُ فِقْهٍ بأن الإضافة للبيان أو جعل الساحر سحر للمبالغة (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيثُ أَتَى): حيث كان (فأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا)(2/515)
أي: ألقى موسى عصاه فتلقفت فألقى ذلك السحرة على وجوههم ساجدين لله (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَموسَى)، وعن بعض لما سجدوا رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها (قَالَ) فرعون: (آمَنتمْ به) أي: لموسى واللام لتضمين معنى الاتباع (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكمْ): في اتباعه (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ): أستاذكم (الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ) أي: مختلفات من اليد اليمني ومن الرجل اليسرى، ومن للابتداء، فإن القطع ناشئ من مخالفة العضو العضو. أي: من وضع المخالفة فقد لابس المخالفة أيضًا وقيل من أجل خلاف ظهر منكم (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) أي: عليها شبه تمكن المصلوب بالجذوع [بتمكن] المظروف بالظرف، فقال: في جذوع (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا): أنا أو موسى وأراد به الهزء فإنه لم يكن من التعذيب في شيء وقيل أينا أي؛ أنا أو رب موسى الذي آمنتم به (أَشَدُّ عَذابًا وَأَبْقَى قَالُوا لَن نُؤْثِرَكَ): نختارك، (عَلَى مَا جَاءَنَا) الضمير لما (مِنَ الْبَيِّنَاتِ): المعجزات (وَالَّذِي فَطَرَنَا)، عطف على ما جاءنا وقيل قسم (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) أي: قاضيه يعني اصنع ما تصنع (إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَ) أي: إنما لك تسلط في دار الزوال ونحن قد رغبنا في دار القرار (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) أخذ فرعون أربعين غلامًا من بني إسرائيل، وأمر بتعليم(2/516)
السحر لهم كارهين، وهم الذين قالوا ذلك، وقيل لما رأى السحرة عصاهُ يحرس موسى وهو نائم قالوا لفرعون: إن هذا ليس بساحر فأبى إلا المعارضة (وَاللهُ خَيْرٌ): جزاءً أو لنا منك (وَأَبْقَى) عقابًا أو لنا فإنك فانٍ. (إِنَّهُ) الضمير للشأن (مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا): بأن يموت كافرًا (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا): فيستريح (وَلَا يَحْيَى): حياة مرضية وهذه الجملة إما من تمام قول السحرة وإما ابتداء كلام من الله، وفي مسلم وغيره وإما أناس تصيبهم النار بذنوبهم، وليسوا من أهلها فيميتهم إماتة حتى يصيروا فحمًا يقوم الشفعاء فيشفعون فيؤتى بهم نهرًا يقال له الحياة فينبتون كما ينبت الغثاء في حميل السيل. (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى) وفي مسند أحمد والترمذي: قال عليه السلام: " في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة " (جَنَّاتُ(2/517)
عَدْنٍ)، بدل من الدرجات (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى): تطهر من أدناس المعاصي.
* * *
(وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
* * *
(وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ)، أن مفسرة أو مصدرية (بِعِبَادِي): من مصر (فَاضْرِبْ): اتخذ واجعل (لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ): بأن تضرب البحر بعصاك(2/518)
(يَبَسًا) أي: طريقًا يابسًا (لا تَخَافُ دَرَكًا) أي: من أن يدركك فرعون حال من ضمير فاضرب، أو صفة ثانية لطريقًا، أي: طريقًا لا تخاف ديه (وَلَا تَخْشَى)، من قرأ لا تخفْ بالجزم فلا تخشى إما استئناف، أي: وأنت لا تخشى، أو عطف على لا تخف والألف زائدة للفاصلة كالظنونا (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) حين أسرى موسى ببني إسرائيل من مصر، وثاني مفعوليه محذوف، أي: أتبعهم فرعون نفسه متلبسًا بجنوده أو الياء صلة، أي: أتبعهم جنوده وقيل أتبع بمعنى اتبع (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ): في هذا الإبهام من التفخيم ما لا يخفى (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى): رد عليه حيث قال: (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) [غافر: 29] (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ)، خطاب لهم بعد إهلاك فرعون على إضمار قلنا (قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) لمناجاة نبيكم، وإنزال التوراة عليكم (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ) شيء مثل الترنجبين من السماء ينزل عليهم (وَالسَّلْوَى): طائر يسقط عليهم فيأخذون بقدر الحاجة، وذلك في التيه (كُلُوا) أي: قائلين كلوا (مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ): من لذائذه أو حلالاته (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ): بأن تكفروا نعمتي فتنفقوا في معصيتي ولم تشكروا (فَيَحِل عَلَيْكُمْ): يلزمكم، ومن قرأ يَحُلَّ فمعناه ينزل (غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى): هلك، وعن ابن(2/519)
عباس في جهنم قصر يرمى الكافر من أعلاه فيهوى أربعين خريفًا قبل أن يبلغ الصلصال، وذلك قوله: (فَقَدْ هَوَى)، (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ): عن الشرك، (وَآمَنَ): بما يجب الإيمان به، (وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمً اهْتَدَى): استقام على الطريق المستقيم (وَمَا أَعْجَلَكَ) سؤال عن سبب العجلة يتضمن إنكارها، وهو مبتدأ أو خبر (عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسى قَالَ)، وذلك حين اختار سبعين رجلاً من قومه فذهبوا إلى الطور للمناجاة وأخذ التوراة، فعجل من بينهم شوقًا إلى ربه، وتقدم وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل قال مجيبًا لربه: (هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي) أي: هم بالقرب مني " وعلى أثرى " إما حال أو خبر بعد خبر، (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى): لتزدد عني رضا فإن المسارعة إلى امتثال الأمر أمثل، (قَالَ) الله: (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ) الذين خلفتهم مع هارون، وهم ستمائة ألف إلا السبعين الذين اختارهم للمناجاة (مِنْ بَعْدِكَ): بعد خروجك (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ): بأن دعاهم إلى عبادة العجل بعد اتخاذهم (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ): بعد أخذ التوراة (غَضْبَانَ):(2/520)
عليهم (أَسِفًا) الأسِفُ الشديد الغضب أو الحزين، (قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا) بأن يعطيكم التوراة، ووعدكم على لساني خير الدارين (أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) أي: الزمان في انتظار ما وعدكم الله (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ) يجب (عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) أي: وعدكم إياي بالثبوت على الدين واتباع هارون (قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا): عن قدرتنا واختيارنا، ولو لم يسول لنا السامري لما أخلفناه (وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا): حمالاً، (مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ): من حلي القبط (فَقَذَفْنَاهَا): في النار وذلك أنَّهم لما خرجوا من مصر كانت معهم ودائع من حلي آل فرعون، فقال هارون: " لا يحل لكم الوديعة، ولسنا برآدين إليهم "، فأمرهم أن يقذفوها في حفيرة ويوقد عليها النار، فلا تكون الودائع لنا ولا لهم أو أمرهم بذلك ليصير الحلي كحجر واحد حتى يرى فيها موسى حين رجوعه(2/521)
ما يشاء، وقيل الآمر بذلك السامري لا هارون (فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ) أي: أراهم أنه أيضًا ألقى حليًّا في يده وإنما ألقى التربة التي أخذها من تربة حافر فرس جبريل (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا): من تلك الحلي المذاب، (لَهُ خُوَارٌ): صوت العجل عن ابن عباس، لا والله ما كان له صوت، وليس له روح إنما كانت تدخل الريح في دبره وتخرج من فيه، والصوت من ذلك (فقالُوا) أي: السامري والضلَّال منهم: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ) أي: فنسيه موسى هاهنا، وذهب يطلبه، أو فنسي أن يذكركم أن هذا إلهكم أو فنسى السامري ما كان عليه من الإسلام وتركه (أَفَلا يَرَوْنَ)، من كلام الله ردًّا عليهم، وبيانًا لسخافة رأيهم (أَلَّا يَرْجِع) أي: أنه لا يرجع (إِلَيْهِمْ قَولاً): لا يجيبهم، ولا يكلمهم (وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا): لا يقدر على إضرارهم وإنفاعهم أو على دفع ضرهم، وإيصال نفعهم.
* * *
(وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي(2/522)
الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
* * *
(وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ): قبل رجوع موسى، (يَا قَوْمِ إِنَّمَا فتِنتمْ بهِ): ابتليتم بالعجل، (وَإِن ربَّكُمُ الرَّحْمَنُ): لا العجل، (فَاتَّبعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي): في الثبات على الدين (قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ): لن نزال (عَلَيْهِ) على العجل بأن نعبده (عَاكفِينَ): مقيمين (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ): موسى بعدما(2/523)
رجع: (يَا هَارُون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا): بعبادة غير الله (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) أي: عن أن تأتي عقبي فتخبرني عن ما أحدثوا، أو عن أن تتبعني في الغضب لله، والمقاتلة معهم، ولا مزيدة على الوجهين نحو (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف: 12]، (أَفعَصيْتَ أَمْرِي)، حيث وصيتك أخلفني ولا تتبع سبيل المفسدين، فرضيت، وسكنت وسكت (قَالَ) هارون: (يَبْنَؤُمَّ) ذكر الأم مع أنهما أخوان من أبوين، لأن ذكرها أرق وأبلغ في الحنو، (لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي) أي: بشعره فإنه كان عليه السلام شديد الغضب لله متصلبًا لم يتمالك حين رآهم مشركين (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي: خشيت لو فارقتهم ليتفرقوا، وخشي بها لو قاتلتهم لصاروا أحزابًا مقاتلين بعضهم بعضًا، (وَلَمْ تَرْقبْ قَوْلِي) حين قلت اخلفني في قومي وأصلح أي: ارفق بهم (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ)، ثم أقبل إليه، وقال له منكرًا ما طلبك له، وما شأنك، وما الذي حملك عليه (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ): علمت، وفطنت ما لم يعلموه، ولم يفطنوا له (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً) أي: مرة من القبض أطلق على المقبوض (مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) أي: من تربة موطئ فرس جبريل، (فَنَبَذْتُهَا): ألقيتها في الحلي المذاب نقل أن السامري كان من قوم يعبدون البقر، وكان حب عبادته في نفسه، فلما رأى جبريل حين جاء لهلاك فرعون أخذ قبضة من أثر فرسه وألقى في روعه إنك إن ألقيتها في شيء فقلت له كن فكان، وعن بعض أخذ التراب حين جاء جبريل ليذهب بموسى إلى المناجاة (وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ): زينت، (لِي نَفْسِي قَالَ): موسى له، (فَاذْهَبْ فَإِن لَكَ فِي الْحَيَاةِ): ما دمت حيًّا، (أَنْ تَقُولَ): مع كل من جاء إليك (لا مِسَاسَ)(2/524)
لا ما دمت حيًّا، (أَنْ تَقُولَ): مع كل من جاء إليك (لا مِسَاسَ) لا مخالطة بوجه فتكون وحشيًّا نافرًا منفردًا فإنه إذا اتفق أن يماس أحدًا حم الماس والممسوس فتحامى الناس وتحاموه (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا): لعذابك (لَنْ تُخْلَفَهُ): لن يخلفك الله وينجزه لك ألبتَّة، ومن قرأ بكسر اللام فهو من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفًا (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ): ظللت بحذف اللام الأولى (عَلَيْهِ عَاكِفًا): مقيمًا على عبادته (لَنُحَرِّقَنَّهُ): بالنار فإنه صار لحمًا ودمًا أو بالمبرد فهو مبالغة في حرقه إذا برد بالمبرد (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ): لنذرينه رمادًا أو مبرودًا (فِي الْيَمِّ نَسْفًا): وقد ذكر أنه لم يشرب أحد ممن عبده من ذلك الماء إلا اصفر وجهه كالذهب، (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا)، نصبه بالتمييز أي: وسع علمه كل شيء لا العجل الذي هو مثل في الغباوة، ولو كان حيًّا (كَذَلكَ): مثل ذلك الاقتصاص (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ): أخبار، (مَا قَدْ سَبَقَ): من الأحوال تبصرة لك، وتنبيهًا (وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا): ذِكْرًا كتابًا مشتملاً على ذكر أمور محتاج إليها، (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ): فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه (فَإِنَّهُ)، الضمير للشأن (يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا): عقوبة ثقيلة، (خَالِدِينَ فيْهِ): في الوزر، وإفراد أعرض وجمع خالدين نظرًا إلى اللفظ والمعنى (وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا): ساء بمعنى بئس، وفيه ضمير مبهم يفسره حملا، والمخصوص بالذم محذوف أي: ساء حملا(2/525)
وزرهم واللام كهيت لك للبيان (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ) أي: المشركين (يَوْمَئِد زُرْقًا): زرق العيون قبيح المنظر وقيل: عميًا فإن حدقة الأعمى تزرق (يَتَخَافَتُونَ): يتشاورون، (بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ): ما لبثتم في الدنيا (إِلَّا عَشْرًا): عشر ليال استقصروا مدة مكثهم فيها مع أنَّهم آثروها على الباقى الدائم فتأسفوا عليها، وقيل: المراد مدة مكثهم في القبر أو مرادهم ما بين النفختين وهو أربعون سنة يرفع عنهم العذاب في تلك المدة استقصروها لهول ما عاينوا من القيامة (نَحْنُ أَعْلَمُ): منهم، (بِمَا يَقُولُونَ): في حال تناجيهم، (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً): أعدلهم رأيًا وقولاً (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا).
* * *
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)(2/526)
فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
* * *
(وَيَسْأَلُونَكَ): يا محمد (عَنِ الْجِبَالِ): هل تبقى يوم القيامة أو تزول، (فَقُلْ يَنسِفُهَا): يقلعها من أصلها (رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا): يدع أماكنها ومقارها من الأرض، (قَاعًا). منبسطًا من الأرض (صَفْصَفًا): ملساء منصوبان بالحال، (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا): اعوجاجًا قليلاً لا يدرك إلا بالقياس (وَلَا أَمْتًا): نتوءًا أي: لا واديًا ولا رابية (يَوْمَئِذٍ): يوم إذ نسفت (يَتَّبِعونَ الدَّاعِيَ): حيث ما أمرهم بادروا إليه أو الداعي إلى المحشر (لا عِوَجَ لَه): لا يعوج له مدعوٌّ ولا يعدل عنه (وَخَشَعَت): سكنت أو خفضت (الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ): لمهابته، (فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا): صوت وطء أقدامهم إلى المحشر أو صوتًا خفيًّا (يَوْمَئذٍ لا تَنْفَعُ الشفَاعَةُ إِلا): شفاعة (مَنْ أَذِنَ له الرَّحْمَن)، أو لا تنفع الشفاعة(2/527)
أحدًا إلا من أذن في أن يشفع له (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا): رضي الله قوله عن ابن عباس يعني من قال لا إله إلا الله، أو رضى قوله لأجله أو رضي لمكانته عند الله قوله في الشفاعة،(2/528)
(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ): ما تقدمهم من الأحوال، (وَمَا خَلْفَهُمْ): ما يستقبلون يعني أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا): لا يحيط علمهم بمعلومات الله أو الضمير للموصول (وَعَنَتِ) خضعت وذلَّت، (الْوُجُوهُ): وجوه العالمين (لِلْحَيِّ): الذي لا يموت (الْقيومِ): الذي هو قيم كل شيء، (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا): من أشرك بالله فإن الشرك لظلم عظيم (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصالِحاتِ): بعض الطاعات (وَهُوَ مُؤْمِنٌ): إذ الإيمان شرط صحة الطاعة (فَلا يَخَافُ ظُلْمًا): بأن يزاد على سيئاته، (وَلا هَضمًا): بأن ينقص من حسناته، (وَكَذَلِكَ) أي: مثل ذلك الإنزال عطف على كذلك نقص، (أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا): كررنا، (فِيه مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ): من المعاصي أي ليكونوا بحيث يرجى منهم التقوى، (أَوْ يُحْدِثُ لَهُم): القرآن (ذِكْرًا): عظة واعتبارًا بذكر العقاب للأمم الماضية فيشغلهم عن المعاصي (فَتَعَالَى اللهُ): جل الله في ذاته(2/529)
وصفاته، (الْمَلِكُ): الذي جميع الكائنات تحت سلطانه، (الْحَقُّ): وعده ووعيده، أو الثابت في ذاته وصفاته، (وَلا تَعْجَلْ بالْقُرْآنِ) أي: بقراءته (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيهُ) أي: لا تقرأه حين يقرأ جبريل، بل أنصت فإذا أتم قراءته عليك فاقرأه بعده، وعن بعض: لا تبلغ، ولا تمله على أصحابك حتى يتبين لك معانيه (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا): بالقرآن ومعانيه، (وَلَقَدْ عَهدنَا إِلَى آدَمَ): أمرناه، يقال في وصايا الملوك وأوامرهم عهد إليه، وعزم عليه، (مِنْ قَبْلُ): قبل هؤلاء الذين نقضوا عهدى فكذبوك (فَنَسِيَ) أي: وصيناه أن لا يقرب الشجرة فترك ما وصى به، وقيل: لم يعتني بالعهد حتى غفل عنه، (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمً): تصميم رأى حيث أطاع عدوه، والوجود إن كان بمعنى العلم فله عزمًا مفعولاه، وإن كان بمعنى الوجود المناقض للعدم فله إما ظرف لغو، أو حال من عزمًا.
* * *
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)(2/530)
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)
* * *
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا) أي: اذكر حاله في ذلك الوقت حتى تعلم أنه ترك المأمور ولم يَكن ذَا عَزم، (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى)، مستأنفة أي: أظهر الإباء واستكبر (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا) يعني: كونا على وجه لا يؤثر فيكما غوايته (مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى): فتتعب في طلب رزقك، فإنك هاهنا في عيش رغيد بلا كلفة، وأسند الشقاءَ إليه وحده لأن طلب الرزق على الرجل، (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا)، من قرأ أنك بالفتح فهو عطف على أن لا تجوع قال أبو البقاء: تقع أن المفتوحة معمولة للمكسورة لما فصل بينهما، نحو: إن عندنا أن زيدًا منطلق، وعلى أي حال جاز في المعطوف عليه ما لا يجوز في المعطوف (وَلَا تَضْحَى): لا تصيبك الشمس وأذاها (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) أي: شجرة من أكل منها صَار مخلدًا لا يموت (وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى): لا يزول، (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا) أي: أخذا يلزقان على سوآتهما للتسَتر (مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) عن ابن عباس ذَاك ورق التين، (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ): بأن خالف أمره، (فَغَوَى): أخطأ طريق الحق، ولم ينل مراده، ويجوز أن يقال " وعصى آدم " ولا يجوز أن يقال آدم عاصٍ لأنه لا يقال عاص إلا لمن اعتاد العصيان كما لا يقال من خاط ثوبه مرة خيَّاط (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ): اصطفاه، (فَتَابَ عَلَيْهِ): قبل توبته (وَهَدَى): هداه إلى الثبات على التوبة (قَالَ) الله: (اهْبِطَا(2/531)
مِنْهَا): من الجنة والهبوط النزول إلى الأرض (جَميعًا)، لما كانا أصلي البشر خاطبهما مخاطبتهم (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ): متعادين بالحسَد وأنواع العداوات (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى): كتاب ورسول (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ): في الدنيا، (وَلا يَشقَى): في الآخرة الشرط الثاني مع جوابه جواب للشرط الأَول، وما مزيدة أكدت به " إن " التي للشك وعلم منه أن إرسال الرسل غيرٍ واجب عقلاً، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي): عن اتباع القرآن، (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا)، المراد عذاب القبر، وقد وَرد أن المعيشة الضنك أنه يسلط عَليه تسعة وتسعون حية، ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة أو في الدنيا بأن لا طمأنينة له فلا يزال في نصب من خوف القلة وما برح في تعب من هم إلا زيد في الدنيا أخذت بمجامع همه أو في النار، والضنك الضيق مصدر وصف به يستوى فيه المذكر والمؤنث (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى): أعمى البصر أو لا حجة له (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ): مثل ذلك فعلت أنت ثم فسره فقال: (أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا): َ تركتها وأعرضت عنها، (وَكَذَلكَ): مثل تركك إياها (الْيَوْمَ تُنْسَى): تترك على عماك (وَكَذَلكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ): في مخالفة الله، (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّه وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ): من ضنك العيش، (وَأَبْقَى) قيل: معناه عذاب الآخرة بعد العمى، وهو النار أشد وأبقى (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ)، فاعل " يهْد " جملة " كم أهلكنا "(2/532)
بواسطة مضمونها أي كثرة إهلاكنا لأن كم لا يعمل فيه ما قبله أو فاعله ضمير لله، والجملة في تأويل المفعول أي: أفلم يبين الله لهم مضمون هذه الجملة، وعند البصريين فاعله مضمر يفسره كم أهلكنا (يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ)، والحال إنهم [يترددون في] مساكنهم الخالية حين سفرهم إلى الشام فإن ديار ثمود ولوط بين الشام ومكة (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى): لذوى العقول الناهية عن التغافل والتعامي.
* * *
(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
* * *
(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ): حكم بتأخير عذابهم، (لَكَانَ لِزَامًا): لكان العذاب لازمًا لهم كما لزم الكفار الماضين، وهو مصدر لازم وصف به (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) عطف على كلمة أي لولا أجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم، والفصل للدلالة على استقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب، وقيل عطف على ضمير كان أي: لكان العذاب العاجل وأجل مسمى لازمين لهم، (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) المراد(2/533)
من التسبيح الصلاة، وقيل على ظاهره، وبحمد ربك في موضع الحال (قَبْلَ طُلُوع الشَّمْس): الصبح، (وَقَبْلَ غُرُوبِهَا): العصر، وقيل الظهر والعصر (وَمِنْ آناء الليلِ): ساعاته (فسَبِّحْ) أي: التهجد أو المغرب والعشاء، وتقديم من آناء الليل لاختصاصه بمزيد مزية فإن أفضل الطاعات أحمزها والليل للاستراحة، والنفس فيه مولعة إلى النوم والعبادة فيه أبعد من الرياء (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) يعني: التطوع في أجزاء النهار كالتهجد في آناء الليل أو صلاة الظهر فإنها نهاية النصف الأول وبداية النصف الأخير (لَعَلَّكَ تَرْضَى) أي: سبح في تلك الأوقات طمعًا في أن تنال ما به رضاك من المقام المحمود (وَلا تَمُدَّنَّ): نظر، (عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ): نظر استحسان وغبطة، (أَزوَاجًا منهُمْ): أصنافًا من الكفرة، وقيل منهم مفعول متعنا، و " أزواجًا " حال من ضمير به (زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا): زينة وبهجة زائلة، نصب على الضم نحو، أتاني زيد الفاسق، أو ثاني مفعوليَ متعنا لتضمن معنى الإعطاء (لِنَفْتنَهُمْ): نختبرهم، (فيهِ) أو لنجعل ذلك فتنة وبلاء لهم لأن يمدوا في طغيانهم (وَرِزْقُ رَبِّكَ): في المعاد أو ما رزقك من العلم والنبوة (خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأْمُرْ أَهْلَكَ): أهل بيتك أو أمتك (بالصَّلاةِ)، ولا تهتموا بأمر المعيشة (وَاصْطَبِرْ): وداوم، (عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا): أَن ترزق أحدًا (نَحْنُ نَرْزُقُكَ)، ففرغ بالك للصلاة وفي الحديث إذا أصابه عليه السلام خصاصة نادى أهله: " يا أهلاه صلوا وصلوا وفي الحديث القدسي: " يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ(2/534)
صدرك غنى وأسد فقرك وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك " (وَالْعَاقِبَةُ): المحمودة، (لِلتَّقْوَى): لذويه قد نقل أنها نزلت لما استسلف عليه السلام من يهودي فأبى إلا برهنٍ فضاق صدره الأشرف (وَقَالُوا) المشركون: (لوْلا): هلا، (يَأتينَا): محمد، (بِآيَةٍ): دالة على رسالته، (مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى)، وهي القرآن المعجز الذي هو أعظم المعجزَات المهيمن على سائر الكتب السماوية فإن القرآن معجز دون سائر الكتب ظهر على يد أُميِّ لا يعرف القراءة والكتابة، ولا يدارس أهلهما صلى الله عليه وسلم - (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ): محمد، أو القرآن، (لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ): بعذاب الدنيا (وَنَخْزَى): بعذاب الآخرة (قُلْ كُلٌّ) أي: كل واحد منا ومنكم (مُتَرَبِّصٌ): منتظر دوائر الزمان على صاحبه، (فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ): المستقيم، (وَمَنِ اهْتَدَى): إلى الحق " من " في الموضعين للاستفهام مبتدأ على أن الفعل معلق عن الجملة الاستفهامية، ولو جوزت حذف صدر الصلة وقررت من هو أصحاب الصراط لجاز أن يكون موصولة أي: من هو أصحاب الصراط؟
والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ
* * *(2/535)
سورة الأنبياء مكية
مائة واثنتا عشرة آية وسبع ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
* * *
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ): للكفار، (حِسَابُهُمْ)، فإنه قد ظهر خاتم الأنبياء، الذي هو من علامات آخر الزمان، (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ): عن الحساب، (مُّعْرِضُونَ): عن التفكر فيه، والإيمان به، (مَا يَأتِيهِم مِّن ذِكْرٍ)، المراد من الذكر الطائفة النازلة من(3/3)
صفحة فارغة(3/4)
القرآن، (مِنْ رَبِّهِمْ)، صفة لذكر أو صلة يأتيهم، (مُحْدَثٍ): تنزيل، جديد إنزاله، (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) حال من فاعل استمعوه، أي: [ليستهزءوا] به، (لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) حال كونهم مشغولين بدنياهم، لا يصغون إلى القرآن، ذو الحالين واحد، أو حال من فاعل يلعبون، (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) بالغوا في إخفائها أو تناجوا وأخفوا نجواهم، فلا يفطن أحد لتناجيهم، (الذِينَ ظَلَمُوا) بدل من فاعل أسروا، أو منصوب على الذم، أو مبتدأ خبره أسروا النجوى، وضع الذين ظلموا موضع هؤلاء(3/5)
تسجيلاً على فعهلم بأنه ظلم، (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) هذا الكلام كله في موضع النصب بدل من النجوى، أو مفعول لقول مقدر، استدلوا على كذبه في النبوة بأنه بشر، لأن زعمهم أن الرسول لا يكون إلا ملكًا، فلا بد أن تكون المعجزة بمقتضى عقيدتهم سحرًا، فلذلك قالوا إنكارًا: أفتحضرون السحر وأنتم تعاينون أنه سحر، (قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القَوْلَ): جهرا كان أو سرًا، (فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) فكيف يخفى عليه نجواهم، ومن قرأ قال فهو حكاية قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (وَهُوَ السمِيعُ العَليمُ): فلا يخفى عليه شيء، (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ) اقتسم المشركون القول في القرآن، فقيل: سحر وقيل: تخاليط أحلام وأباطيل خيلت إليه، وخلطت عليه، وهذا أبعد فسادًا من الأول، وقيل: هو مفترى اختلقها من تلقاء نفسه، وهذا أفسد من الثاني، وقيل: كلام شعري يخيل إلى السامع معاني لا حقيقة لها، وهو أفسد من الثالث، لأنه كذب مع علاوة فلذلك جاء ببل تنزيلاً من الله لأقوالهم في درج الفساد، (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) أي: كما أرسل به الأولون، كاليد البيضاء، والناقة وغيرهما، (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن): أهل، (قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا) أي: ما آمنت قرية من القرى التي أهلكناها لما جاءتهم الآيات المقترحة، (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ): لو جئتهم بها مع أنَّهم أعتى من الذين اقترحوا الآيات وعهدوا الإيمان بها، وفيه تنبيه على أن عدم الإتيان بمقترحاتهم للإبقاء عليهم، إذ لو أتى به لم يومنوا، فنستأصلهم كمن قبلهم، (وَمَا أَرْسلْنَا قَبْلَكَ(3/6)
إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) فما لهم ينكرون زاعمين أن الرسول لا يكون بشرًا، (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ): أهل الكتاب، والمشركون يشاورونهم في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويثقون بقولهم، (إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، أن الرسل بشر، (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ) أثبت لهم ثلاثة أشياء هي لا تكون للملك، وهي لبشر تحقيقًا لنفى الملكية عنهم ولإثبات البشرية لهم: كونهم أجسادًا، والجسد جسم ذو لون، والملك لصفائه لا يوصف باللون، كما لا يطلق الجسد على الماء والهواء، ووحد الجسد لإرادة الجنس، وأنَّهم أكلوا الطعام، وأنَّهم يموتون في الدنيا، وموت الملك لا يكون إلا بعد انقراض الدنيا، أو لأن المشركين اعتقدوا خلود الملك، (ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوَعْدَ) أي: في الوعد، (فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَشَاءُ): ومن في إبقائه حكمة، (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ): في الكفر، (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ):(3/7)
يا قريش، (كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ): صيتكم وشرفكم أو موعظتكم وذكر ما تحتاجون إليه من أمر دينكم، (أَفَلَا تَعْقِلُونَ): فتؤمنون به.
* * *
(وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ(3/8)
وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
* * *
(وَكَمْ قَصَمْنَا): أهلكنا والقصم: الكسر الشديد، (مِنْ قَرْيَةٍ): من أهلها، (كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا): مكانها، (قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا): أدركوا، وشاهدوا شدة عذابنا، (إِذَا هُم مّنْهَا يَرْكُضُون): يهربون بسرعة، والركض ضرب الدابة بالرجل، (لاَ تَرْكُضُوا) أي: قيل لهم لا تركضوا، (وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ): من التلذذ والتنعم والإتراف: إبطار النعمة، (وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) غدًا من أعمالهم، أو تسألون شيئًا من دنياكم فتعطون من شئتم، وتمنعون من شئتم، فإنهم أهل ثروة ينفقون رئاء الناس، تهكم بهم الملائكة بهذا القول، ووبَّخَهم وقيل: يسألكم خدمكم في أموركم، كيف نأتي ونذر كعادة المنعمين، أو يسألكم الناس في مهامهم ويستشفون بتدابيركم، (قَالُوا): حين رأوا العذاب، (يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ): ندموا حين لا ينفعهم الندم، (فَمَا زَالَت تِّلْكَ): المقالة، أي: الاعتراف بالظلم، (دَعْوَاهُمْ): دعوتهم نحو: آخر دعواهم أن الحمد لله، (حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا): مثل [زرع] محصود، (خَامِدِينَ) ميتين من(3/9)
خمدت النار، وهما بمنزلة مفعول واحد، كرأيته حلوًا حامضًا، وخامدين حال أو صفة، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ)، بل لنجزى الذين أساءُوا بما عملوا ونجزي الذين أحسنوا بالحسني، (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا): لو أردنا اتخاذ ما يلعب ويتلهى به، لاتخذناه من عندنا، وما خلقنا جنة ولا نارًا ولا موتًا ولا بعثًا ولا حسابًا، أو لو أردنا أن نتخذ زوجة أو ولدًا لاتخذنا من الحور العين أو الملائكة، أو لاتخذناه من عندنا بحيث لا يظهر لكم ويستر عنكم، فإن زوجة الرجل وولده يكونان عنده لا عند غيره، واللهو: المرأة والولد بلسان اليمن، وهو رد على النصارى في أم المسيح، أو المسيح، أو في المسيح، قيل: لو أردنا اتخاذ لهو لقدرنا عليه ومن لدنا، أي: من جهة قدرتنا لكن الحكمة صارفة عنه، (إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ) أي: إن كنت فاعلاً لذلك، أو إن نافية، فالجملة كالنتيجة للشرطية، (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ): نغلِّبُ الحق الذي منه الجد على الباطل الذي منه اللهو، (فيَدْمَغُهُ): يمحقه، جعل الحق كجرم متين صلب، قذف ورمى به على حيوان(3/10)
ضعيف فشق دماغه، وبل إضراب عن اتخاذ اللهو وتنزيه لذاته عن اللعب، (فَإِذَا هُوَ): الباطل، (زَاهِقٌ): هالك والزهوق ذهاب الروح، (وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ): مما تصفون الله به مما لا يليق بعظمته، (وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ): خلقًا وملكًا، (وَمَنْ عِندَهُ)، أي: الملائكة المقربون، فإنهم منزلون لكرامتهم عليه منزلة المقربين عند الملوك، أو لأنَّهُم في محل ظهور سلطانه، وهو السماوات، وهو مبتدأ خبره قوله: (لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ) لا يعيون ولا يتعبون قيل: " ومن عنده " عطف على " من في السَّمَاوَات "، أفرده بالذكر للتعظيم، أو المراد: من في العرش والكرسي، (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفتُرُون): دائبون في التسبيح، عن كعب الأحبار: التسبيح لهم كالنفس لبني آدم، (أَمِ اتخَذُوا) منقطعة، والهمزة لإنكار اتخاذهم، (آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ)، ظرف لاتخذوا أو صفة لآلهة، (هُمْ يُنشِرُونَ) أي: اتخذوا آلهة هم قادرون وحدهم على إحياء الموتى، والمراد تجهيلهم والتهكم بهم، والكفرة وإن لم يكونوا يدعون ذلك(3/11)
للأصنام، لكن لما أثبتوا الألوهية لهم يلزمهم إثبات ذلك فإنه ممكن، والإله لا بد أن يكون قادرًا على الممكنات، (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) أي: غير الله، صفة لا بدل لفساد المعنى واللفظ، قال صاحب المغني: إذا اختلف الموصوف والصفة إفرادًا أو غيره، فالوصف للتأكيد لا للتخصيص، كما قالوا: عندي عشرة إلا درهمًا، لزم عليه تسعة، ولو قال: إلا درهم بالرفع فقد أقر له بعشرة، فمعنى الآية: لو كان الإله غير واحد ألبتَّة، والصفة تأكيد، لأن كل متعدد غير واحد ألبتَّة، (لفَسَدَتَا) لأن الملك يفسد بتدبير مالكين لما يحدث، بينهما من الاختلاف والتمانع عادة، (فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ): المحيط بجميع الأجسام، (عَمَّا يَصِفُون): من الشريك والولد، (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) لانفراده في عظمته وسلطانه، (وَهُمْ يُسْأَلُونَ) وهو سائل خلقه عما يعملون، فإنهم عبيد، (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً) كرره استقباحًا لشأنهم واستعظامًا لكفرهم، (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) من جهة عقل أو نقل، أن له شريكًا،(3/12)
(هَذا ذكر مَن مَّعِيَ) أي: عظة أمتي، (وَذِكر مَن قَبْلِي) من الأمم السالفة، فهذا إشارة إلى الكتب السماوية، أي: هذا كتاب الله، فاطلبوا، هل تجدون فيها أن له شريكًا، أو إشارة إلى القرآن وحده، أي: القرآن فيه ذكر أمتي وذكر أمم قبلي، إنهم مطالبون بالتوحيد، ممنوعون عن الشرك، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الحَقَّ): لا يميزون بينه وبين الباطل، (فهُم مُّعْرِضُونَ)، عن التوحيد واتباع الرسل، من أجل ذلك.
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ): وحدي، (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا) من العرب من قال: الملائكة(3/13)
بنات الله، (سُبْحَانَهُ) عن ذلك، (بَلْ) هم، (عِبَادٌ مكْرَمُونَ) وليسوا بأولاد، (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ): لا يقولون شيئًا حتى يقول الله، ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم، كما هو طريق الأدب، (وَهُم بِأَمرِهِ يَعْمَلُونَ) لا يعملون بما لا يأمرهم، ولا يبعد أن يكون ذلك كالدليل على أنَّهم غير الأولاد فإن الأولاد لا يكون كذلك، (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ): يحيط علمه بجميع أحوال عباد مكرمين مما قدموا وأخروا، (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى): أن يشفع له، (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) مرتعدون لا يأمنون مكر الله، والإشفاق خوف مع اعتناء، فإن عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، وإن عدي بعلى فبالعكس، والخشية خوف مع تعظيم، (وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ): من الملائكة، وهذا على سبيل الفرض، (إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) قيل: أراد إبليس حيث دعا الخلق إلى عبادة نفسه دون عبادة ربه، (كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ): المشركين.
* * *
(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً(3/14)
وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (41)
* * *
(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا) أي: جماعة السماوات، وجماعة الأرض كانتا مرتوقتين يعني جميعهما في أول الأمر متصل متلاصق بعضهما ببعض، (فَفَتَقْنَاهُمَا)، فصارت السماوات سبعًا، والأرض كذلك، أو كانتا رتقًا لا تمطر ولا تنبت ففتقنا بالمطر والنبات، فعلى هذا المراد من السماوات سماء الدنيا، وجمعها باعتبار الأفق، أو جميع السماوات على أن للكل مدخلاً في الإمطار، والرتق هو الضم والالتحام، فإن قلت متى رأوهما رتقا حتى جاء تقريرهم بذلك؟ قلت: الفتق مشاهدة عارض يفتقر إلى مؤثر واجب، والرتق ممكن أخبر به القرآن المعجز فهم لو نظروا لعلموا، (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)، أي: كل شيء موجود أصله من الماء، فإن الله خلق الماء قبل الأشياء، ثم خلقها منه، أو خلقنا كل حيوان من الماء، أى: من النطفة، أو صيرنا كل شيء له نوع حياة كحيوان ونبات من الماء، ولابد له(3/15)
منه نحو خلق الإنسان من عجل فعلى هذا جعل متعدٍ إلى مفعولين، (أَفَلَا يُؤْمِنُونَ وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ): جبالاً ثوابت، (أَنْ تَميدَ): كراهة أن تميد، (بِهِمْ): وتضطرب، (وَجَعَلْنَا فيهَا): في الرواسى، (فِجَاجًا). مسالك وطرقًا واسعة، (سُبُلاً)، يعني: لما خلقنا الجبال حالت بين البلدان، فجعلنا فيها فجوة، وطرقًا ليسلك فيها من بلد إلى آخر، وسبلاً إما مفعول وفجاجًا حال، أو هو مفعول وسبلاً بدل، (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ): إلى مصالحهم، (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا): على الأرض، (مَّحْفوظًا): من أن يقع على الأرض أو من الشياطين بالشهب، (وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ)، لا يتفكرون فيما خلق فيها من الآيات، كالشمس والقمر والكواكب وغيرها، (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ)
أي: كل واحد منهما، (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) يسرعون على فلكه، كالسابح في(3/16)
الماء، والفلك الجنس نحو كساهم الأمير حلة، والجمع باعتبار كثرة مطالعها وجمع العقلاء للوصف بفعلهم، وهو السباحة والجملة حال منهما.
(وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ)، نزلت حين قالوا نتربص بمحمد ريب المنون، استدل به بعضهم على عدم بقاء الخضر، (أَفَإِنْ مِتَّ) الهمزة للإنكار، والفاء لتعلق الشرط بما قبله، (فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) أي: مرارته، (وَنَبْلُوكم): نعاملكم معاملة من يختبركم، (بِالشَّرِّ): بالمصائب تارة، (وَالْخَيْرِ): بالنعم أخرى، (فِتْنَةً): ابتلاء لننظر من يصبر ومن يجزع ومن يشكر ومن يكفر مصدر مؤكد من غير لفظه، (وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) لنجازيكم، (وَإِذَا رَآكَ الذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ) إن نافية، (إِلا هُزُوًا) مهزوء به، (أَهَذَا) أي: قالوا أهذا، (الَّذِي يَذْكرُ آلِهَتَكُمْ) أي: بسوء، (وَهم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ): بصفاته الحسنى كالتوحيد، (همْ كافرونَ) لا يصدقون به، فهم أحق بأن يهزأ بهم، (خُلِقَ الإِنسَان مِنْ عَجَلٍ): لفرط استعجاله كأنه خلق منه، قيل: لما ذكر المستهزئين وقع في النفس سرعة الانتقام منهم واستعجلت ذلك ولهذا قال (سَأريكمْ آياتِي): نقماتي في(3/17)
الدنيا والآخرة، (فلا تَسْتَعجلُونِ): بالإتيان بها وقيل: هذا جواب المشركين حين استعجلوا بالعذاب، (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ): وقت وعد العذاب أو القيامة، (إِن كُنتمْ): أيها المؤمنون، (صَادِقِينَ لَوْ يَعْلَمُ الذِينَ كَفَرُوا)، وضع موضع يعلمون دلالة على ما أوجب لهم ذلك، (حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ): مفعول به ليعلم أي: لو يعلمون الوقت الذي يحيط بهم النار فلا يقدرون على دفعها، ولا يجدون ناصرًا والجواب محذوف، أي: بما استعجلوا، (بَلْ تَأْتِيهِمْ) أي: لا يعلمون بل تأتيهم العدة أو القيامة أو النار، (بَغتَةً): فجأة مصدر، لأنها نوع من الإتيان أو حال، (فَتَبْهَتُهُمْ): تحيرهم، (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ): يمهلون، (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُل مِّن قَبْلِكَ): يا محمد فليس بشيء بدع منهم فلا تغتم، (وحَاقَ): أحاط، (بِالذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم): من الأمم السالفة، (ما كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون) أي: جزاء ما فعلوا، أو هم استهزءوا بعذاب وعدهم الرسل إن لم يؤمنوا، فأحاط بهم ذلك العذاب فسيحيط بمن يتخذك هزوًا.
* * *
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ(3/18)
عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
* * *
(قُلْ): للمستهزئين، (مَن يَكْلَؤُكُم): يحفظكم، (بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ): من عذابه، أو من بمعنى البدل نحو لا ينفع ذا الجد منك الجد، وفي لفظ الرحمن إشارة إلى أن لا حافظ سوى رحمته، (بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ ربِّهِم مُّعْرِضُونَ): لا يخطر ببالهم ذكر ربهم فضلاً عن أن يخافوا منه، حتى إذا رزقوا الكلاءة منه عرفوا من الكالئ، وصلحوا للسؤال عنه، (أَمْ لَهُمْ): بل لهم، (آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم): من العذاب، (مِنْ دُونِنَا) حال من فاعل تمنع، أو صفة بعد صفة، كأنه قال: لا تسأل عنهم؛ لأنَّهُم لا يصلحون للسؤال لغفلتهم عنا، بل لإقبالهم على نقيضنا، (لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) سيما نصر غيرهم مستأنفة تبين إبطال ما اعتقدوه، (وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ): يجارون، يقال: فلان لك جار وصاحب من فلان، أي: (مجير) منه، أو يصحبون بخير وتأييد، (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) إضراب عن بيان بطلان ما هم عليه، ببيان ما غرهم فحسبوا أنَّهم على شيء، وهو أنه -(3/19)
تعالى - متعهم زمنًا طويلاً في الدنيا فقست قلوبهم وظنوا أنها لا تزال، (أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ): أرض الكفرة، (نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) بأن نخرب ديارهم ونسلط المسلمين عليها، (أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ)، أم المؤمنون، (قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ): بما أوحى إليَّ أو بأمر الله، (وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ): من قرأ لا تسمع من باب الإفعال، على خطاب النبي، فالصم الدعاء مفعولاه، (إِذَا مَا يُنْذَرُونَ) ظرف ليسمع أو الدعاء، واللام في الصم للعهد والمشركون صم آذان قلوبهم عن آيات الله، (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ): رائحة وشيء قليل، فإن أصل النفح هبوب رائحة الشيء، مع أن البناء للمرة، (مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) دعوا على أنفسهم بالويل وأقروا بظلمهم، (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ)، جمعه لكثرة ما يوزن به ولاختلافه، (الْقِسْطَ): ذوات القسط أو نحو رجل عدل، (لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ): لأجل جزائه أو لأجل أهله، أو اللام بمعنى في، (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا): من الظلم أو من العمل، (وَإِنْ كَانَ): العمل، (مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا): أحضرنا لنجازي بها، ومن قرأ: مثقال بالرفع فكان تامة، (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) لكمال(3/20)
علمنا وعدلنا مفعول كفى محذوف، أي: كفينا العالمين حال كوننا حاسبين لا يحتاجون إلى محاسب غيرنا، (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ). الكتاب الجامع لكونه، فارقا بين الحق والباطل وضياء في القلب، وذكرًا يتعظ به المتقون، أو الفرقان النصر على الأعداء والضياء التوراة، (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ)، صفة للمتقين، (بِالْغَيْبِ)، حال من الفاعل، أو من المفعول، (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ): القيامة، (مُشْفِقُونَ): خائفون، (وَهذَا): القرآن، (ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) استفهام توبيخ.
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ(3/21)
بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
* * *
(وَلَقَدْ آتيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ): الاهتداء لوجوه الصلاح، والإضافة ترشد إلى أنه رشد له شأن، (مِنْ قَبْلُ): من قبل موسى أو من قبل البلوغ، (وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ): علمنا أنه أهل لما آتيناه، (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) ظرف لـ آتينا، أو لـ رشده، أو تقديره(3/22)
اذكر من أوقات رشده وقت قوله لأبيه: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ): الصور التي لا روح فيها، (التِي أَنتم لَهَا عَاكِفُونَ) عدى العكوف باللام لتضمن معنى العبادة، فإن العكوف يستعمل بعلى، (قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ): فقلدناهم، (قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أي: المقلِّدون والمقلَّدون منخرطون في سلك ضلال لا يخفى على من به أدنى مسكة، (قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) أي إما تقوله جد أم هزل، فإنهم استعجبوا واستبعدوا تضليله آباءهم، (قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) إضراب عن كونه لاعبًا بإقامة البرهان على ما ادعاه، (الَّذِي فَطَرَهُنَّ) قيل الضمير للتماثيل، أو للسماوات والأرض، (وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ): المذكور من التوحيد، أو على أنه خالقهن، (مِنَ الشَّاهِدِينَ): المتحققين له المبرهنين عليه، (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ): أمكرنَّ بها في كسرها، (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا): عنها، (مُدْبِرِينَ): إلى عيدكم حين كانت البلدة خالية، وإنما قاله سرًّا، ولم يسمع إلا رجل واحد فأفشاه عليه، (فَجَعَلَهُمْ) أي: الأصنام، (جُذَاذًا): مقطوعًا، فعالاً بمعنى مفعول أو جمع جذيذ، (إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ): للأصنام،(3/23)
قطعهن بفأس، واستبقى الكبير، ووضع الفأس على عنقه، (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ): إلى كبيرهم، (يَرْجِعُونَ): فيعتقدون أنه هو الذي كسرهن حسدًا عليهن، أو إلى إبراهيم فيحاجهم بأنه فعله كبيرهم، أو إلى الله بتوحيده عند تحققهم عجز آلهتهم، (قَالُوا): حين انصرفوا من العيد، (مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا) القائل. من سمع قوله: (لأكيدن أصنامكم) وهذا كما يقال: أكرمني بنو فلان، وإنما المكرم من بينهم رجل: (سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ): بعيبهم، (يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) مرفوع بـ يقال لأن المراد به الاسم، (قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ): بمرأى منهم بحيث يتمكن صورته في أعينهم، (لَعَلهُمْ يَشْهَدُون): عليه أنه الفاعل، كرهوا أن يأخذوه بغير بينة، أو يحضرون عقابه، وكان هذا هو المقصود الأكبر له لأن يبين لهم في محفل عظيم، وفور جهلهم وقلة عقلهم في عبادة الجماد، (قَالُوا): حين أتوا به، (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) أراد أن يتفكروا فيعترفوا بعدم نطقهم، وأن هذا(3/24)
لا يصدر عن صنم جماد، فتقوم الحجة عليهم، وفي الصحيحين: " إن إبراهيم لم يكذب غير ثلاث "، قيل: أسند إلى الكبير لأن غاية تعظيمهم إياه لسبب لمباشرة إبراهيم، فأسند إلى السبب، (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ): بالملامة، أو راجعوا عقولهم وتفكروا، (فقَالُوا): قال بعضهم لبعض (إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالِمُون): بهذا السؤال، أو لما أنكم تركتم الأصنام بلا حافظ، أو بعبادتكم من لا يتكلم، (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ): أطرقوا رءوسهم من الحيرة والخجل، أو انقلبوا إلى المجادلة بعد ما أقروا على أنفسهم بالظلم، شبه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء مستعليًا على أعلاه، (لَقَدْ عَلِمتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ) أي: قالوا لقد علمت إلخ فكيف نسألهم، (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ): إن عبدتموه، أو تركتموه، (أُفٍّ لَكُمْ) هو صوت المتضجر، أي: قبحًا ونتنًا لكم، واللام لبيان المتأفف به، (وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ قَالُوا): أنتم مجانين لا تفهمون قبح مثل هذا الصنع، قالوا حين عجزوا عن الجواب (حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا(3/25)
آلِهَتَكُمْ): بإهلاك عدوهم، (إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ): ناصرين لآلهتكم، أو إن كنتم فاعلين شيئًا، (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا) أي: باردًا فيه ما لا يخفى من المبالغة، (وَسَلامًا): يسلم من حَرَّك، (عَلَى إِبْرَاهِيمَ)، جمعوا له حطبًا وأوقدوا نارًا وقد ذكر أنَّهم جمعوا حطبًا كثيرًا جدًّا حتى إن كانت امرأة تمرض فتقول: إن عافاني الله لأجمعن حطبًا لإبراهيم، ثم أوقدوا نارًا كادت الطير في الجو تحرق ورموه بالمنجنيق فيها، فقال: حسبي الله ونعم الوكيل، فاستقبله جبريل قائلاً: ألك حاجة؟ قال أما إليك فلا، فقال: سل ربك، فقال: " حسبي من سؤالي علمه بحالى "، فما أحرقت منه سوى وثاقيه وكان في النار سبعة أيام وقيل خمسين، وقيل أربعين وهو ابن ست عشر، وكان يقول: ما أنعم أيامي في النار، وقيل: لم يبق نار في الأرض إلا طفئت، وما من دابة إلا تطفئ النار سوى الوزغ ولهذا عد من الفواسق، (وَأَرَادُوا به كَيْدًا) مكرًا في إهلاكه، (فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرينَ): أخسر كل خاسر، (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا): ابن أخيه من أرض العراق، (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) أي: الشام، فإن أكثر الأنبياء بعثوا فيه، فانتشرت في العالم بركتهم قيل: كل ماء(3/26)
ينبع في العالم فأصله من الشام، أو المراد مكة، (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً) أي: عطية حال منهما، أو النافلة ولد الولد، أو هو طلب ولدًا فأعطي إسحاق وزاده يعقوب نافلة، فيكون حالاً من يعقوب للقرينة، (وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهمْ أَئِمَّة): يقتدى بهم، (يَهْدُونَ): الناس بالحق، (بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ) لأن يحثوا عليه، (وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ) من عطف الخاص على العام للتفضيل، (وَكَانُوا لنا عَابِدِينَ): موحدين مخلصين.
(وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا) الفصل بالحق بين الخصوم، (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ) وهي قرية سدوم، كان عمل أهلها اللواط، (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا): في أهل رحمتنا أو في جنتنا، (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).
* * *
(وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا(3/27)
فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)
* * *
(وَنُوحًا إِذْ نَادَى) أي: اذكر نوحًا إذ دعا على قومه بالهلاك وإذ نادى بدل من نوحًا، (مِن قَبْلُ): من قبل المذكورين، (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ): دعاءه، (فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ): الذين آمنوا به، (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ): تكذيبهم وأذاهم، فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا يؤذونه ويوصون بمخالفته قرنًا بعد قرن، (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا): جعلناه منتصرًا منهم، (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ)، فاسقين، (فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ): فلم يبق على وجه الأرض منهم أحد، (وَدَاوُودَ(3/28)
وَسُلَيْمَانَ) أي: اذكرهما، (إِذْ يَحْكُمَانِ) بدل منهما، (فِي الْحَرْثِ) كان ذلك كرمًا انثنت عناقيده، وقيل زرعًا، (إِذ نفَشَتْ): رعت ليلاً، (فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ): فأفسدته، (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ):) عالمين، وجمع الضمير لأنه أرادهما والمتحاكمين إليهما، أو لأن الاثنين جمع، (فَفَهَّمْنَاهَا) أي: الحكومة، أو الفتوي، (سُلَيْمَانَ) دون داود، فإنه حكم بأن الغنم لصاحب الكرم بدل إفساده وحكم سليمان بدفع الكرم لصاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان ويدفع الغنم إلى صاحب الكرم فينتفع بَدَّرها ونسلها وصوفها فإذا صار الحرث كما كان يأخذ كل منهما ماله، (وَكُلًّا): من داود وسليمان، (آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) قال بعض(3/29)
السلف: لولا هذه الآية لرأيت الحكام قد هلكوا، ولكن الله تعالى حمد هذا بصوابه، وأثنى على هذا باجتهاده، (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) يقدسن لله معه، ويجاوبنه قيل يصلين معه إذا صلى وقيل: إذا فتر يسمعه الله تسبيح الجبال والطير لينشط، ويشتاق ويسبحن حال أو استئناف، وأخر الطير، لما أن تسبيح الجبال لأنها جماد أعجب، (وَكُنَّا فَاعِلِينَ): لأمثاله ليس ببدع منا، (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ): عمل الدرع، (لِتُحْصِنَكم) الضمير لداود في قراءة الياء، ولـ لبوس الذي هو الدرع في قراءة التاء، وهو بدل اشتمال من لكم بإعادة الجار، (مِّنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ) أي: فاشكروا لي وكانت قريش أهل حرب وقتال، (وَلِسُلَيْمَانَ) عطف على مع داود، إن كان متعلقًا بسخرنا، وإن تعلق بيسبحن فتقديره وسخرنا لسليمان، (الرِّيحَ عَاصِفَةً): شديدة الهبوب، (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) حال ثانية، (إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكنا فِيهَا) الشام فإنه وطنه، كان له بسط من خشب يوضع عليه ما أراد من الجند، وغيره فتحملها الريح، وتظله الطير من الحر إلى حيث يشاء، والريح في قبضته إن أراد عاصفة فعاصفة، وإن أراد رخوة فرخوة، وعلى الوجهين لينة لا تشوشهم ولا تزلزلهم، (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ) فتجري الأشياء(3/30)
على ما يقتضيه علمنا، (وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ): فيخرجون من البحر الجواهر واللآلئ، والجملة مبتدأ أو خبر أو من يغوصون عطف على الريح، (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ): سوى الغوص، (وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ): من الزيغ والفساد، (وَأَيُّوبَ) أي: واذكره، (إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي) أي: بأني، (مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) كان نبيًّا صاحب حرث وأنعام وأولاد فابتلاه الله بإهلاك كلها ثم ابتلاه بجسده فلم يبق منه سليم سوى لسانه وقلبه يذكر بهما ربه حتى تنافر عنه كل أنيس، وتحاشى عنه كل جليس، فلا يتردد عليه سوى زوجته، ويقال: إنها احتاجت فصارت تخدم الناس من أجله فدعا الله لكشف كربه بعد مدد من الأيام المتطاولة بهذا الأسلوب البليغ، (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ): بالشفاء، (وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ): بإحياء من مات من أولاده، وإعطائه مثلهم من الأولاد، أو أعطيناه أولاده الذين ماتوا في الجنة، ومثلهم معهم في الدنيا فقد نقل أنه قيل له: إن أهلك في الجنة إن شئت أتيناك بهم، وإن شئت تركناهم لك(3/31)
فيها وعوضناك مثلهم في الدنيا فاختار الثاني، (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا) على أيوب مفعول له، (وَذِكْرَى): تذكرة، (لِلْعَابِدِينَ): ليصبروا كما صبروا لئلا ييأسوا في البلاء، (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ) كثير من السلف على أنه صالح من بني إسرائيل تكفل لنبي أن يكفيه أمر قومه، ويقضي بينه وبينهم بالعدل وفعل فسمي ذا الكفل لكن الظاهر أنه نبي قرنه في سلكهم، (كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ): على مشاق التكاليف، (وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا): النبوة والجنة، (إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ): الكاملين في الصلاح، (وَذَا النُّونِ): يونس، (إِذْ ذَهَبَ): من بين قومه، (مُغَاضِبًا) لهم من غير إذن ربه حين أصروا على الكفر، والمفاعلة للمبالغة، أو هو أغضبهم أيضًا بالمهاجرة عنهم خوف العذاب، (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ): لن نضيق عليه، أو لن نقضي عليه بالعقوبة (1) ولن نعمل فيه قدرتنا، ويؤيده قراءة نقدِّر بالتشديد قيل: هذا من باب التمثيل، أي: حاله ممثلة بحال من ظن عدم قدرتنا عليه في مراغمة
__________
(1) هذا هو المختار عند المحققين وما قيل بعد ذلك أكثره لا يصح أبدًا لمكان العصمة ليونس - عليه السلام. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(3/32)
قومه من غير انتظار لأمرنا، وقيل: خطرة شيطانية سماها للمبالغة ظنًّا، (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ): ظلمة بطن الحوت والبحر والليل، (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) أي: بأنه، أو أن مفسرة، (سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) لمبادرتي إلى الهجرة قبل الإذن، (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ): لأن قذفه الحوت بالساحل سالمًا بعد ما مكث في بطنه أربعين يومًا، (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) إذا دعونا في الشدائد منيبين إلينا، سيما إذا دعوا بهذا الدعاء، ففي الحديث " ما من مكروب يدعوا بهذا الدعاء إلا استجيب له "، (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا): بلا ولد، (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) ثناء منه على الله بأنه خير من يبقى بعد ما سأل ولدًا يبقى بعده، (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ): صيرناها ولودًا بعد ما كانت عاقرًا أو حسنة الخلق بعد ما كانت سيئة الخلق (1)، (إِنَّهُمْ): المذكورين من الأنبياء،
__________
(1) في غاية البعد.(3/33)
أو زكريا وأهل بيته، (كَانُوا يُسَارِعُونَ): يبادرون، (فِي الْخَيْرَاتِ): في عمل القربات، (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا): راغبين في رحمتنا راهبين من عذبنا، (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) لا يخافون ولا يخضعون لغيرنا، (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) أي: مريم فإنها بكر ما ذاقت حلالاً ولا حرامًا، (فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا): بأن أمرنا جبريل بالنفخ في جيب درعها، وإضافة الروح إليه للتشريف، وقيل من جهة روحنا جبريل، (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً) دالة على كمال قدرتنا، (لِلْعَالَمِينَ) فإنها أتت به من غير فحل، (إِنَّ هَذِهِ): ملة الإسلام، (أمتكُمْ): ملتكم، (أمًة وَاحِدَةً): غير مختلفة في ما بين الأنبياء، نصب على الحال، (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ): لا غيرى، (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ) إما بمعنى قطعوا، أو نصب أمرهم بنزع الخافض، يعني اختلفوا وصاروا فرقًا التفت من التكلم إلى الغيبة لينعي عليهم ما أفسدوه إلى المؤمنين، ويقبح عندهم كأنه يقول: ألا ترون إلى قبح ما ارتكبوا هؤلاء في ديننا؟
(كُلٌّ): من الفرق، (إِلَيْنَا رَاجِعُون): فنجازيهم.
* * *
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ(3/34)
أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
* * *
(فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كفْرَانَ لِسَعْيِهِ) الكفران مثل في حرمان الثواب كما أن الشكر في إعطائه، (وَإِنَّا لَهُ): لسعيه، (كَاتِبُونَ)، في صحيفة عمله، أو إنا كاتبون لمن يعمل ما عمل، (وَحَرَامٌ): ممتنع، (عَلَى): أهل، (قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) أي: رجوعهم إلى الدنيا، فـ (لا) صلة، وقيل معنى الحرام الواجب فـ (لا) غير صلة، وقيل: معناه حرام على أهل قرية قدرنا إهلاكهم(3/35)
بالكفر أن يرجعون عن كفرهم وينيبوا، وقيل: حرام عليهم عدم كفران سعيهم، لأنَّهُم لا يرجعون عن الكفر، (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) أي: حرام عليهم الرجوع إلى الدنيا إلى أن فتحت سد يأجوج ومأجوج فإنهم يحيون ويرجعون إلى الدنيا حينئذ للقيامة، أو ممتنع عليهم الإنابة إلى القيامة، وإنابتهم في القيامة لا تنفع، (وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ): مرتفع من الأرض، (ينسِلُون)، يسرعون في الحديث " هم صغار العيون عراض الوجوه من كل حدب ينسلون "، (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) أي: القيامة عطف على فتحت، (فَإِذَا هِيَ)، جواب الشرط، وإذا للمفاجأة سد مسد الفاء فإذا دخل الفاء أيضًا تأكد الارتباط، (شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فتحت أعينهم لا يكاد تطرف من الهول، وضمير هي مبهم يفسره الأبصار، أو ضمير القصة، (يَا وَيْلَنَا) أي: قالوا يا ويلنا، (قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ): في الدنيا، (مِنْ هَذَا)، اليوم ما كنا نعلم أنه حق، (بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ): لأنفسنا لأنه نبهنا الرسل فكذبناهم، (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي: الأصنام، (حَصَبُ جَهَنَّمَ) الحصب، ما يحصب ويرمى به في النار، (أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) استئناف، واللام للاختصاص فإن استعمال الورود بعلى، وقيل لها خبر وواردون خبر ثان، (لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ): الأصنام، (آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ): من العابد والمعبود، (فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ): للكافرين، (فِيهَا زَفِيرٌ): أنين، (وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ)، عن ابن مسعود إذا بقي من يخلد فيها جُعل لكل منهم تابوت من نار مسمر من نار فلا يظن أحد منهم أنه يعذب في النار غيره، ثم قرأ وهم فيها لا يسمعون، (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ(3/36)
لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى): الرحمة والسعادة، (أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) قد ذكر أنه عليه السلام لما تلا " إنكم وما تعبدون " الآية، قيل قد عبدت الملائكة وعزير ومسيح فكل منهم مع آلهتنا في النار فأجاب عليه السلام أنَّهم إنما يعبدون الشيطان، ومن أمرهم بعبادته ثم نزل " إن الذين سبقت لهم منا الحسني " الآية، استثناء من المعبودين، فعلى هذا " وما تعبدون " عام مخصص، (لاَ يَسْمَعون حَسِيسَهَا) هو صوت يحسُّ به، خبر ثان لأولئك أو حال، (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ): دائمون في التنعم، (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ): النفخة في الصور، أو حين يؤمر بالكفار إلى النار، أو حين يطبق النار على أهلها، أو حين يذبح الموت، (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ): تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة مهنئين قائلين (هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ): للثواب، (يَوْمَ) عامله لا يحزنهم أو تتلقاهم أو اذكر، (نَطْوِي السَّمَاءَ) الطي ضد النشر، (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) السجل الصحيفة، صرح بذلك جماهير السلف، أي: كطي الطومار لأجل ما يكتب فيه، يعني: تطوى السماء كما يطوى الكتاب الطومار ويسوى ويضعه مطويًا حتي إذا احتاج إلى الكتابة لم يحتج إلى تسوية، أو السجل ملك يطوي كتب بني آدم وعلى هذا اللام زيدت للاختصاص، وفي سنن أبي داود والنسائي أنه كاتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكثير من الأكابر(3/37)
صرحوا بوضعه، وقالوا: لا يعرف من الصحابة أحد اسمه السجل، (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ)، أي: نعيد أول الخلق كما بدأناه، وأول الخلق عبارة عن إيجادة عن العدم فنصب أول نعيد المقدر المفسر بـ نعيد وكم مفعول مطلق أو كما مفعول له لـ نعيد المقدر وما موصولة، وأول ظرف لـ بدأنا وحينئذ مفعول بدأنا ضمير لما، أى: نعيد مثل الذي بدأناه في أول الخلق حين الإيجاد عن العدم، (وَعْدًا عَلَيْنا)، أي: نعد وعدًا علينا إنجازه، أو مصدر مؤكد، (إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ): ذلك ألبتَّة، (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزبورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ): الزبور ما أنزل من الكتاب، والذكر اللوح المحفوظ، أي: كتبنا في الكتب بعد ما كتبنا في اللوح أو هو كتاب داود، والذكر التوراة، (أَنَّ الأَرْضَ) أرض الجنة، أو أرض الكفار، أو بيت المقدس، (يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ): المؤمن مطلقًا أو أمة محمد - عليه السلام، (إِنَّ فِي هَذَا): القرآن، (لَبَلاغاً): لكفاية، أو لوصولاً إلى البغية، (لقَوْمٍ عَابِدِينَ): لله لا للشيطان، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَمالَمِينَ): للبر والفاجر، فإنه رُفع ببركته - صلى الله عليه وسلم -(3/38)
الخسف والمسخ والاستئصال، أو أرسله للرحمة على الكل، لكن بعضهم أعرضوا عن الرحمة، وما تعرضوا لها فحرمانهم وشقاوتهم من سوء شكيمتهم، (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ): لا متعدد كما تقولون، أو المقصود الأصلي من جميع الوحي العلم بالوحدانية، فكأنه ما نزل عليه إلا هذا، أو ما كافة، (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ): مخلصون العبادة لله، (فَإِنْ تَوَلَّوْا): عن الإسلام، (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ)، أنذرتكم بالعذاب، (عَلَى سَوَاءٍ): مستوين في الإعلام، أو إيذانًا على سواء، أو حال من الفاعل والمفعول، أي: مستويان في العلم بما أعلمتكم لا أدري وقته، وقيل معناه: إن أعرضوا فقل أعلمتكم بما يوحى إلى مستوين في العلم ما كتمت شيئًا عن أحد، (وَإِنْ): نافية، (أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ)، من العذاب أو القيامة، (إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ مِنَ القَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ) لا تفاوت عنده في إسراركم الطعن في الإسلام وإجهاركم، (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ): لعل تأخير العذاب، (فِتْنَةٌ): اختبار، (لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) تمتيع إلى أجل قدَّره الله، (قَالَ رَبِّ احْكُمْ)، اقض بيننا وبينهم، (بِالْحَقِّ) بالعدل، أمرٌ باستعجال عذاب هو حقيق لهم، وقد وقع ببدر، وفي الدعاء أيضًا إظهار لعبوديته والرغبة، وإن كان المدعو أمرًا محققًا، (وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ)، المسئول منه المعونة، (عَلَى مَا(3/39)
تَصِفُونَ)، من الحال فإن زعمهم أن راية الإسلام ستنتكس عن قريب وتصير الشوكة لهم فخيب الله آمالهم وخرب مآلهم.
والحمد لله على ذلك.
* * *(3/40)
سورة الحج مكية، إلا ست آيات وهي: (هَذَانِ خَصْمَانِ (19) إلى (إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24))
* * *
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
* * *(3/41)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) هي النفخة الأولى قبل قيام القيامة المسماة بنفخة الفزع، وهي من أشراط الساعة، أو المراد قيام القيامة، فإضافة المصدر إلى فاعله أي: شدة تحريكها للأشياء أو زلزال وأهوال هي فيها فمن إضافة المصدر إلى الظرف على الاتساع في إجرائه مجرى المفعول به، أي: الزموا التقوى، فإنه لا ينفعكم في هذا اليوم العظيم إلا التدرع بلباس التقوي، (يَوْمَ تَرَوْنَهَا) الزلزلة، ونصب يوم بقوله: (تَذهَلُ) الذهول الذهاب عن الأمر مع دهشة، (كُلُّ مُرْضِعَةٍ): في حال إرضاعها، (عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا): لشدة ذلك اليوم والذهول، والوضع لبيان واقع إن كان المراد حين النفخة الأولى، وإلا فتصوير لهولها، (وَتَرَى النَّاسَ سُكارَى): كأنهم سكارى، (وَمَا هُم بِسُكَارَى): في الواقع، أو كأنَّهم سكارى من الخمر، وما هم بسكارى منه، (وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ) فأدهش عقولهم أو فهم سكارى من الخوف، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتبِعُ): في جداله، (كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) عار عن الخير مطلقًا جادل قريش، وقالوا: محال إعادة الخلق بعدما صاروا ترابًا، وقد نقل أن واحدًا منهم قال: أخبرنا عن ربك من ذهب أو فضة أو نحاس فصعقته صاعقة فاختطفته، (كُتِبَ): قُضي وقُدّر، (عَلَيْهِ) على الشيطان، (أَنَّهُ) الشيطان، (مَنْ تَوَلَّاهُ): تبعه، (فَأَنَّهُ): الشيطان،(3/42)
(يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) هذا من باب التهكم، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ) أي: فانظروا في بدء خلقكم، لتعلموا أن من قدر على هذا قدر على ذلك (مِنْ تُرَابٍ): خلق آدم منه، (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ): ذريته من منيٍّ (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) فإن النطفة تصير دمًا غليظًا، (ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ): قطعة من لحم قدر ما يمضغ، (مُخَلَّقَةٍ): تامة، (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ): ساقطة، أو مسواةٍ ومعيوبةٍ، (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ): كمال قدرتنا على البدائع [والحشر] فرد منها، (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ) أن نقره فلا نسقطه، (إِلَى أَجَلٍ مسَمًّى) هو وقت الوضع، (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا) نصب على الحال والمراد منه الجنس، (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) كمال قوتكم المعطوف محذوف كما تقول: جاء زيد ثم عمرو وثم وثم أي: ثم نربيكم لتبلغوا أو تقديره: لنبين لكم ثم لتبلغوا فكأن الأمر التدريجي من النطفة والعلقة والمضغة ليس إلا للتبيين، وأما تمكينه في الرحم، ثم إخراجه لمصلحتين التبيين والإيصال إلى كمال العقل، أو تقديره ثم فعلنا ما فعلنا لتبلغوا، (وَمِنْكُمْ مَنْ(3/43)
يُتَوَفَّى): قبل الهرم، (وَمِنكُم مَّن يُرَد إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ): الهرم والخرف، (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْثاً)، كحال طفولية فسبحان من يعيد كما بدأ، (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً): ميتة يابسة شرع في دليل آخر للبعث، (فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ): تحركت بالنبات، (وَرَبَتْ): انتفخت، (وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْج): صنف، (بَهِيجٍ): حسن رائق، (ذَلِكَ): المذكور، (بِأَن الله هُوَ الحَقُّ)، بسبب أنه الثابت الموجود فإنه هو الموجد قيل تقديره: ذلك هادٍ بأنه هو الحق، (وَأَنَّهُ يُحْيي الْمَوْتَى): لولا قدرته على إحياء الموتى، كيف يحيي النطفة والأرض، (وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): فيقدر على مثل ذلك، (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) وإلا فيكون ذلك سيما إخراج الطفل، والتبلغ عبثا لعبًا لا طائل تحته - تعالى الله عن ذلك (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ) الأولى بيان حال المقلدين، ولهذا قال: (ويتبع كل شيطان مريد)، وهذه الآية حال المقلدين، ولذلك يقول ليضل الناس، (بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ): ليس له علم فطري، ولا ما يستند إلى دليل عملي، ولا إلى وحي، (ثَانِيَ عِطْفِهِ) كناية عن الكبر أو عن الإعراض حال من فاعل يجادل، (لِيُضِل): الناس، (عَن سبيلِ اللهِ) اللام لام العاقبة، (لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ): مذلة كقتل وسبي، (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الحَرِيقِ): المحرق، (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) التفات أو تقديره يقال له ذلك، (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) بل عادل ومن العدل تعذيب المسىِء وإثابة المحسن، والظالم قد يترك عقاب المسيء للعصبية كما يترك إثابة المحسن(3/44)
قيل: لما أثبت له خزي الدنيا، وعذاب الحريق صار مظنة لأن يتوهم أنه ظلم عظيم، فعكس الأمر، وقال: لست بظلام كما زعمت وقد مر في سورتي آل عمران والأنفال.
* * *
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
* * *(3/45)
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ): طرف من الدين لا على وسط منه كمن هو على طرف من العسكر إن أحس بظفر قَرَّ وإلا فَرَّ، (فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ): ما يحبه، (اطْمَأَنَّ بِهِ): فاستقر على دينه، (وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ): ما يكره، (انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ): رَجع عن دينه، (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ الُمبِينُ) نزلت في ناس من الأعراب يسلمون فإن وجدوا عام غيث ونتجت فرسهم وما لهم وولدت امرأتهم غلامًا رضوا به وإلا ارتدوا، (يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ): جمادٌ لا يقدر على شيء، (ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ البَعِيدُ): عن المقصد، (يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نفْعِهِ): النفع والضر المنفيان قدرته عليهما والمثبت كونه بسبب من الضر المحقق، وبمعزلة عن النفع المترتب (لَبِئْس الَمَوْلَى): الناصر، (وَلَبِئْسَ العَشِيرُ): الصاحب، اعلم أن يدعو الثاني إن كان تأكيدًا ليدعو الأول، فالموصول بصلته مبتدأ وفعل، لذم خبره، والجملة مستأنفة إخبار من الله، وإن كان بمعنى يقول، فالجملة مقول له، أي: يقول الكافر حين يرى ضر عبادته في الآخرة لمن ضره أقرب إلخ، وقيل: اللام في لمن زائدة وقرأ ابن مسعود بلا لامٍ.(3/46)
(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، ولما ذكر إضلال قوم وإهداء آخرين قال (إِنَّ اللهَ يَفْعَل مَا يُرِيدُ): لا يُسأل عما يفعل، (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ)، أي: نبيه، (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة) كما قال المشركون: ننتظر عليه الدوائر، (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ): يمد حبلاً إلى سماء بياته، أي: سقفه، (ثُمَّ لْيَقْطَعْ): يختنق، (فَلْيَنْظُرْ): يتأمل، (هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ)، سماه كيدًا لأنه منتهى ما يصل إليه يده، (مَا يَغِيظُ): من نصر الله أو غيظه، وحاصله أن الله ناصر رسوله فمن يتوقع من غيظه خلاف ذلك فليجتهد فِي إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعل الممتلئ غيظًا، يعني ليس في يده إلا ما لا يذهب غيظه، وعن بعض معناه فليتوسل إلى بلوغ السماء، فإن النصر من السماء ثم ليقطع ذلك عنه، قيل: المراد بالنصر الرزق وحينئذ الضمير في ينصره لمن، (وَكَذَلِكَ): مثل ذلك الإنزال، (أَنْزَلْنَاهُ): القرآن، (آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) أي: ولأن الله يهدي به من يريد هدايته أنزلناه كذلك، فالجملة من التعليل والمعلل المحذوف عطف على (كذلك أنزلناه) إلخ، (إِنَّ الذِين(3/47)
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ): يقضي بينهم ويجازي كلًّا ما يليق به، (يَوْمَ القِيَامَةِ) إن دخل على الخبر أيضًا لمزيد التأكيد، (إِن اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءِ شَهِيدٌ): فيعرف ما يليق بهم، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ): ينقاد، (لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ)، وقد ورد: " الشمس والقمر حين يغيبان يقعان لله ساجدين ثم لا يطلعان حتى يؤذن لهما "، وفي الحديث " لا تتخذوا ظهور الدواب منابر فرب مركوب خيرٌ أو أكثر ذكرًا لله من راكبه "، وبالجملة لا يستحيل سُنيُّ مسلم أن يكون للجمادات خشوع وتسبيح، (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ): المسلمون، (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ): هم الكفار فإنهم غير منقادين لله فهو بحسب المعنى استثناء مِنْ " مَنْ في الأرض "، ومن يجُوَّز(3/48)
استعمال لفظ واحدٍ في حالهِ واحدة على معنيين مختلفين فلا إشكال عنده فإنه يحمل السجود على معانٍ، قيل: وكثير من الناس مبتدأ حبره مقدر، أي: مثاب بقرينة مقابلة، وقيل: حق عليه العذاب خبر لهما أي: وكثير وكثير حق عليه العذاب، (وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ هَذَانِ خَصْمَانِ): فوجان مختصمان، (اختَصَمُوا) الجمع نظرًا إلى المعنى، (في ربهِمْ): في أمره ودينه، نزلت في علي وحمزة وعبيدة بن الحارث بارزوا مع عتبة وشيبة والوليد يوم بدر، قال علي: أنا أول من يجثوا بين يدي الرحمن للخصومة في القيامة أو في المسلمين واليهود، قالت اليهود: نحن أفضل، كتابنا ونبينًا أسبق، فقال المسلمون: نحن أحق بالله آمنا بجميع كتبه ورسله وأنتم تعرفون كتابنا ورسولنا وكفرتم حسدًا، أو المراد المؤمنون والكافرون كلهم من أي ملة كانوا، (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ من نارٍ): كما يقطع الثياب بقدر القامة فيخيط، وهذا بيان فصل خصومة الكافر، (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ): الماء الحار الذي لو سقطت نقطة على جبال الدنيا لأذابتها خبر ثان، أو حال من لهم (يُصْهَرُ): يذاب، (بهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ): الأمعاء، (وَالْجُلُودُ) الجملة حال، (وَلَهُم مَّقَامِعُ): سياط، (مِنْ حَدِيدٍ) لو ضرب جبل بمِقْمَعِ منها لتفتت، (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا): من النار، (مِنْ غَمٍّ) بدل من منها، (أُعِيدُوا فِيهَا): حين خرجوا منها من غير مهلة وتراخ، وعن الحسن(3/49)
أن أيديهم وأرجلهم موثقة لكن يدفعهم لهبها فتردهم مقامعها، (وَذوقُوا) أي: قيل لهم ذوقوا، (عَذابَ الحَرِيقِ): فيجمع لهم بين التعذيب الجسماني والإهانة.
* * *
(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
* * *
(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، هذا بيان فصل خصومة المؤمن، (يُحَلَّوْنَ)، من حليته إذا جعلت له حليَّا، (فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ)، جمع سوار، (مِن ذَهَبٍ)، بيان لأساور، (ولؤْلُؤًا) بالجر والنصب عطف على لفظ أساور ومحلها أو تقديره ويؤتون لؤلؤا، (وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ): في مقابلة ثياب أهل النار، (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ): هدوا إلى مكان لا يسمعون فيه إلا الكلام الطيب وهو سلام الملائكة وتهنئتهم في مقابلة وذوقوا عذاب الحريق، (وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ): المحمود نفسه أو عاقبته وهو الجنة، وعن بعض الكلام الطيب القرآن، أو كَلمة التوحيد في الدنيا، أو قولهم في الجنة: الحمد لله الذي صدقنا وعده، وصراط الحمِيد: الإسلام، (إِن الذِينَ كَفَرُوا): في ماضي(3/50)
الزمان، (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ): يومَا فيومًا، (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ): لمناسكهم كلهم، (سَوَاءً الْعَاكِفُ): المقيم، (فِيهِ وَالْبَادِ): الطارئ، من قرأ برفع سواء فهو خبر مقدم، والجملة ثاني مفعولي جعلناه إن جعلته للناس حالاً وإن جعلت ثاني مفعوليه فهي حال، ومن قرأ بنصبه فثاني مفعوليه أو حال بمعنى مستويا والعاكف مرتفع به، (وَمَن يُرِدْ فِيهِ يِإِلْحَادٍ): ميل عن القصد ومفعول يرد متروك ليتناول كل متناول، والباء للحال أو فيه تضمين معنى الهم، وقيل الباء زائدة، (بِظُلْم): بعمدٍ حال أو بدل فالمراد بالإلحاد كل كبيرة أو الشرك، وعند بعض أن من عزم سيئة بمكة أذاقه الله العذاب الأليم، وإن لم يفعلها وهذا من(3/51)
خصوصيات مكة، (نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)، جواب لمن وخبر إن مقدر أي: نذيقه من عذاب أليم وحذف لدلالة جواب الشرط عليه.
* * *
(وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لله غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)(3/52)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
* * *
(وَإِذْ بَوَّأنَا لإِبْرَاهِيمَ): واذكر زمان جعلنا له، (مَكَانَ البَيْتِ): مباءة مرجعًا يرجع إليه للعمارة والعبادة وذكر مكان البيت لأن البيت ما كان حينئذ، (أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا) أن مفسرة لـ بَوَّأنَا من حيث إنه تضمن معنى تعبدنا، أي: ابْنِهِ على اسمي وحدي، (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ): من الشرك، (لِلطائِفِينَ): حوله، (وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)، عبر عن الصلاة بأركانها أو المراد بالقائمين: المعتكفون لمشاهدة الكعبة، وبالركع السجود المصلون، (وَأَذِّن): نَادِ، (فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ): بدعوته والأمر به، نقل أنه قام على مقامه أو على الحجر، أو على الصفا أو على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس إن ربكم اتخذ بيتًا فحجوه، فأجابه كل شيء من شجر وحجر ومن كتب الله له الحج إلى يوم القيامة، وهم في أصلاب آبائهم: لبيك اللهم لبيك، (يَأتوكَ رِجَالاً): مشاة جمع راجل، (وَعَلَى كُلِّ ضَامِر)، أي: ركبانًا حال معطوف على حال، (يَأتِينَ)، صفة لـ ضامر، وجمعه باعتبار معناه، (مِن كُلِّ فَجٍ عَمِيقٍ): طريق بعيد، (لِيَشْهَدُوا): يحضروا، (مَنَافِعَ): دينية ودنيوية، (لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ): عشر ذي الحجة، أو يوم النحر وثلاثة بعده ويعضد الثاني قوله: (عَلَى مَا رَزَقَهم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنعَامِ)، فإن المراد التسمية عند ذبح الهدايا والضحايا، (فَكُلُوا مِنْهَا)، الأمر للاستحباب أو للإباحة، فالجاهلية يحرمون أكلها،(3/53)
وعند الأكثرين لا يجوز الأكل من الدم الواجب، (وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ): الشديد الفقر المتعفف أو الزمِنَ أو الضرِير، (ثُمَّ لْيَقْضُوا): يزيلوا (تَفَثَهُمْ)، وسخهم بقص الشوارب والأظفار ولبس الثياب وغيرها أو التفث المناسك، (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ): أعمال حجة من وفَّى بنذره إذا خرج مما وجب عليه مطلقًا أو ما نذر وأوجب على نفسه في الحج، (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ): طواف الإفاضة والعتيق القديم أو أعُتق من تسلط الجبابرة عليه، (ذَلِكَ)، أي: الأمر ذلك وهو وأمثاله يطلق للفصل بين كلامين، (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ): بترك ما نهى الله أو بتعظيم بيته، والشهر الحرام، والبلد الحرام، والإحرام، (فهُوَ): التعظيم، (خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ): ثوابًا، (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى): آية تحريمه، (عَلَيْكُمْ)، هي " حرمت عليكم الميتة " الآية في المائدة لا البحائر والسوائب، (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ): الذي هو الأوثان بيان للرجس، وتمييز له كعندي عشرون من الدراهم، (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ): الكذب والبهتان ومنه شهادة الزور، (حُنَفاءَ لله): مخلصين له (عيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ)، حالان من فاعل(3/54)
اجتنبوا (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ): سقط، (مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ): تسلبه، (الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي): تسقط، (بِهِ الرِّيحُ في مَكَانٍ سَحِيقٍَ): بعيد يعني: من أشرك فقد أهلك نفسه غاية الإهلاك فهو كجيفة اختطفته الطير فتفرق قطعًا في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة، وأو للتخيير أو للتنويع فإن من المشركين من لا خلاص له أصلاً، ومنهم من يمكن خلاصه بالإيمان لكن على بعد (ذَلِكَ): الأمر ذلك، (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ): البدن والهدي وتعظيمها استسمانها أو أعمال الحج، (فإِنَّهَا): تعظيمها، (مِن تَقْوَى القُلوب) أي: ناشئ من تقوى قلوبهم أو من أعمال ذوي تقوى القلوب، (لَكُمْ فيهَا). في الشعائر وهي البدن، (مَنَافع): دَرُّها وصوفها وظهرها، (إِلَى أَجَل مسَمًّى): وقت النحر وإن سماها وجعلها هديًا أو الأجل المسمى تسمينها وجعلها هديًا فما لم تسم بدنًا ينتفع به، (ثُمَّ مَحِلُّهَا): منحرها (إِلَى البَيْتِ العَتِيقِ) أي: عنده يعني: الحرم مطلقًا.
* * *
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ(3/55)
اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
* * *
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ)، لكل أهل دين، (جَعَلْنَا مَنْسَكًا)، بفتح السين مصدر، أي: ذبح المناسك، وبكسرها موضع نسك يعني: إراقة الدماء مشروعة في جميع الملل، وعن بعض لم يجعل الله لأمه منسكاً غير مكة، (لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهيمَةِ الأَنْعَامِ) أي: المقصود من المناسك خلوص العبادة له، (فإلَهُكُمْ): أنتم ومن قبلكم، (إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا): انقادوا له لا لغيره (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ): الخاشعين الراضين بقضائه، (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ): في أوقاتها، (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ):(3/56)
يتجدد إنفاقهم في جهات الخير، (وَالْبُدْنَ): جمع بدنة وهي الإبل أو البقر، وانتصابه على شريطة التفسير، (جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللهِ): أعلام دينه، (لَكُمْ فيهَا خَيرٌ): منافع الدارين، (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا): عند نحرها يقول: بسم الله والله أكبر لا إله إلا الله اللهم منك ولك، (صَوَافَّ): قائمات على ثلاثة قوائم معقولة يدها اليسرى أو رجلها اليسرى، (فإِذَا وَجَبَتْ): سقطت، (جُنُوبُهَا): على الأرض أي: ماتت، (فَكُلوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ): السائل من قنع قنوعًا إذا سأل، أو فقيرًا لا يسأل من القناعة، (وَالْمُعْتَرَّ): الذي يتعرض للمسألة ولا يسأل أو السائل، (كذَلكَ): مثل ما وصفنا من نحرها قيامًا، (سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ): مع عظمها، (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): لكي تشكروا إنعامنا، (لَن يَنالَ اللهَ): لن يصل إليه، (لحُومُهَا ولاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) أي: النية والإخلاص فإنها هي المتقبل منكم، ويجزي عليها نزلت في أن الكفرة إذا ذبحوها لآلهتهم وضعوا عليها من اللحوم ونضحوا عليها من دمائها، وعن بعض كانوا ينضحون بلحومها ودمائها، فقال بعض المسلمين: نحن أحق أن ننضح البيت، (كذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ): كررها تذكيرًا لنعمة التسخير وتعليلاً له بقوله (لِتُكَبِّرُوا اللهَ): تعظموه ولا تثبتوا لغيره الكبرياء، (عَلَى مَا هَدَاكُمْ): إلى كيفية التقرب إلى الله بها، ولتضمين تكبروا معنى تشكروا عدَّاه بعلى، (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ): الذين أحسنوا أعمالهم، (إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ): يبالغ في مدافعة غائلة المشركين، (عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ): في أمانة الله، (كَفُورٍ): لنعمته، ومن تقرب بذبيحة إلى غير الله فهو خوان كفور.
* * *(3/57)
(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلله عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
* * *
(أُذِنَ): رخص في القتال، (لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ): يريدون القتال والمسلمون كانوا يتظلمون إلى رسول الله من أذى المشركين ويطلبون القتال قبل الأمر به قيل سماهم مقاتلين باعتبار المآل، ومن قرأ بصيغة المجهول فمعناه: يقاتلهم المشركون، (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا): بسبب أنَّهم مظلومون، هي أول آية نزلت في الجهاد حين هاجروا من(3/58)
مكة واستدل بهذه الآية على أن السورة مدنية، (وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) عدة بالنصر وقيل معناه: إنه لقادر على نصرهم من غير قتال لكن صلاحهم في القتال، (الذينَ أُخْرِجُوا)، بدل من للذين، أو صفة، (مِن ديَارِهم): مكة، (بِغَيْرِ حَق)، موجب استحقوا الإخراج به، (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ): سوى التوحيد الذي هو موجب للتمكين والتعظيم فالاستثناء بدل من حق، وهذا من باب.
لا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وقيل منقطع، (وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم ببَعْضٍ): بالجهاد وإقامة الحدود، (لهُدِّمَتْ): خربت، (صَوَامع): الرهبانَ، (وَبِيَعٌ): كنائس النصارى، (وَصَلَوَاتٌ): كنائس اليهود سميت بها لأنَّهُم لا يصلون إلا فيها، (وَمَسَاجِدُ): للمسلمين، (يُذْكَرُ فيهَا)، صفة لمساجد خصت بها تفضيلاً، وقيل: صفة للأربع، (اسْمُ اللهِ كَثِيرًا)، يعني: لولاه لهدم في زمن موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام مواضع عباداتهم باستيلاء الكفرة، (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ): من ينصر دينه ويعلي كلمته، (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ): على خلقه، (عَزِيزٌ): لا يغلبه غالب، (الذِينَ)، بدل أو صفة لمن ينصره، (إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ): نصرناهم فيتمكنوا من البلدان، (أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلله عَاقِبَةُ الْأُمُورِ): موجع الأمور إلى حكمه وفيه تأكيد لما وعد من(3/59)
النصرة، قيل معناه: تصير الأمور إليه بلا منازع فيبطل كل ملك سوى ملكه، وقيل: له عاقبة الأمور فيجزيهم، (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ): رسلهم فأنت لست بأوحدي في التكذيب فلا تغتم، (وَكُذِّبَ مُوسى): مع ظهور معجزاته كذبه القبط لا قومه بنو إسرائيل، (فَأَمْلَيْتُ): أمهلت، (لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ): إنكاري عليهم بتبديل منحتهم محنة وعمارتهم خرابًا، (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا) أي: أهلكنا كثيرًا من القرى بإهلاك أهلها كأين منصوب بشريطة التفسير أو مرفوع، وأهلكناها خبره، والجملة بدل من فكيف كان نكير ولذلك جاء بالفاء، (وَهِيَ ظَالِمَةٌ): أهلها جملة حالية، (فَهِيَ خَاوِيَةٌ): ساقطة، (عَلَى عُرُوشِهَا) على سقوفها أي: خرت سقوفها ثم سقطت حيطانها فوق السقوف، أو خالية مع سلامة عروشها، والجملة عطف على أهلكناها، (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) أي: وكم من بئر عامرة متروكة الاستقاء منها أهلكنا مُلَّاكَها، (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ): رفيع أو مجصَّص محكم أهلكنا أهلها وأخليناه عن ساكنيه، (أَفَلَمْ يَسيرُوا في الْأَرْضِ)، حثٌّ على السفر والتفكر في نقم ما حل بالأمم الماضية المكذبه، (قَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا): ما يجب أن يعقل كالإيمان بالرسل، (أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا): ما يجب أن يسمع كالتذكير، (فَإِنَّهَا) ضمير القصة، (لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ) أي: ليس الخلل بمشاعرهم، (وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) أي: إنما العمى بقلوبهم أو لا يعتد بعمى الأبصار، فكأنه ليس بعمى، ولكن العمى عمى القلوب، وذكر الصدور للتأكيد، ونفي التجوز كأنه قال: ما نفيت العمى عن البصر وأثبت للقلب سهوًا، وفلتةً، بل تعمدت به إياه بعينه تعمدًا، (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ): سخريةً(3/60)
وتكذيبًا لك، (وَلَن يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ): ينجزُه ولو بعد حين كما نجوا يوم بدر، (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أي: مقدار ألف سنة عند عباده كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حلمه، لأنه قادر لا يفوته شيء بالتأخير أو كيف يستعجلون بالعذاب، وإن يومًا من أيام الآخرة التي هي أيام عذابهم كألف سنة من أيام الدنيا، أو إن يومًا من الأيام الستة التي خلق الله الخلق فيها كألف سنة فالمدد الطوال عندكم قصار عنده، أو كيف يستعجلون، وإن يومًا من العذاب بشدته كأنه سنة! (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا): أمهلتهم كما أمهلتكم وإعرابه مثل ما مر، (وَهِيَ ظَالِمَةٌ): مثلكم. (ثُمَّ أَخَذْتُهَا): بالعذاب، (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ): فأجازيهم.
* * *
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
* * *(3/61)
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ): ليس إليَّ من حسابكم شيء، أمركم إلى الله إن شاء عجل العذاب، وإن شاء أخر وإن شاء تاب عليكم وإن شاء أضل، (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ): عما فرط عنهم، (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ): هو الجنة، (وَالَّذِينَ سَعَوْا): بالرد والإبطال، (فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ): مسابقين بزعمهم ظانين أنَّهم يسبقوننا فلا نقدر عليهم، أو سابقين لمن يسعى في تحقيق آياتنا وإثباتها، (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الجَحِيمِ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِك مِن رسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ) الرسول من يأتيه الملك بالوحي والنبي يطلق أيضًا على من يأتيه بإلهام أو منام قيل هو من له شريعة مجددة، والنبي أعم أو هو من أنزل عليه كتابًا والنبُّى أعم، (إِلَّا إِذَا تَمَنَّى): أحب شيئًا واشتهاه من غير أمر الله، أو معنى (تَمَنَّى)
قرأ وتلا، (أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ): وجد إليه سبيلاً أو ألقي في قراءته فأدخل(3/62)
في مقروئه ما ليس منه قد ذكر أكثر المفسرين -بل كلهم- قصة الغرانيق بروايات كلها مرسلة أو منقطعة إلا رواية واحدة عن ابن عباس فإنها متصلة، وقد أنكر كثير(3/63)
صفحة فارغة(3/64)
من العلماء هذه الحكاية وبالغوا في الإنكار وطعنوا في الرواة، وقال بعض: إنها من وضع الزنادقة وهي أنه عليه السلام تمني أن يأتيه من ربه ما يقرب بينه وبين قومه رجاء أن يسلموا، فكان يومًا في محضر قريش إذ أنزل عليه سورة " والنجم " فأخذ يقرأها، فلما بلغ ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان في قراءته فسبق لسانه: سهوًا أو تكلم الشيطان فحسب أن القارئ رسول الله أو نام نومة فجرى على لسانه تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، فلما وصل قراءته إلى السجدة سجد فسجد من في النادي من المسلم والمشرك، وفرح المشركون فأتاه جبريل وقال: ماذا صنعت؟! لقد تلوت ما لم آتك به عن الله فحزن حزنًا وخاف خوفًا فعزاه الله بتلك الآية يعني: ما أنت بأوحدي بهذا، بل مكنا الشيطان ليلقي في أمانيهم كما ألقى في أمانيك ابتلاء منا ليزيد المنافقون شكًّا وظلمة، والمؤمنون يقينًا ونورًا (1)، (فَيَنسَخُ اللهُ): يزيل ويبطل، (مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ): يثبتها بحيث لا تشتبه بكلام غيره، (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ): فيما يفعل، (لِيَجْعَلَ)، أي: مكنا الشيطان منه ليجعل، (مَا يُلْقِي الشيْطَانُ فِتْنَةً): ضلالة، (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ): شك ونفاق، (وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ): المشركين فإنهم لما سمعوا نسخ قول الشيطان ازدادوا غيظًا وظنوا أنه ندم مما ألقى من عند نفسه، (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ): المنافقين والمشركين، (لَفِي
__________
(1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه:
ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى إِعْرَاضَ قَوْمِهِ عَنْهُ وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا رَأَى مِنْ مُبَاعَدَتِهِمْ عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ تَمَنَّى فِي نَفْسِهِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ مِنَ الله مَا يُقَارِبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ وَذَلِكَ لِحِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِهِمْ فَجَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي نَادٍ مِنْ أَنْدِيَةِ قُرَيْشٍ كَثِيرٍ أَهْلُهُ وَأَحَبَّ يَوْمَئِذٍ أَنْ لَا يَأْتِيَهُ مِنَ الله شَيْءٌ يَنْفِرُوا عَنْهُ وَتَمَنَّى ذَلِكَ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى سُورَةَ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النَّجْمِ: 1] فَقَرَأَهَا رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ قَوْلَهُ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النَّجْمِ: 19، 20] أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ «تِلْكَ الْغَرَانِيقُ العلى مِنْهَا الشَّفَاعَةُ تُرْتَجَى» فَلَمَّا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ فَرِحُوا وَمَضَى رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِرَاءَتِهِ فَقَرَأَ السُّورَةَ كُلَّهَا فَسَجَدَ وَسَجَدَ الْمُسْلِمُونَ لِسُجُودِهِ وَسَجَدَ جَمِيعُ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَسْجِدِ مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ إِلَّا سَجَدَ سِوَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَبِي أُحَيْحَةَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي فَإِنَّهُمَا أَخَذَا حَفْنَةً مِنَ التُّرَابِ مِنَ الْبَطْحَاءِ وَرَفَعَاهَا إِلَى/ جَبْهَتَيْهِمَا وَسَجَدَا عَلَيْهَا لِأَنَّهُمَا كَانَا شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَلَمْ يَسْتَطِيعَا السُّجُودَ وَتَفَرَّقَتْ قُرَيْشٌ وَقَدْ سَرَّهُمْ مَا سَمِعُوا وَقَالُوا قَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ آلِهَتَنَا بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ فَلَمَّا أَمْسَى رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ مَاذَا صَنَعْتَ تَلَوْتَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ آتِكَ بِهِ عَنِ الله وَقُلْتَ مَا لَمْ أَقُلْ لَكَ؟! فَحَزِنَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُزْنًا شَدِيدًا وَخَافَ مِنَ الله خَوْفًا عَظِيمًا حَتَّى نَزَلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ الْآيَةَ.
هَذَا رِوَايَةُ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ الظَّاهِرِيِّينَ، أَمَّا أَهْلُ التَّحْقِيقِ فَقَدْ قَالُوا هَذِهِ الرِّوَايَةُ بَاطِلَةٌ مَوْضُوعَةٌ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَوُجُوهٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الْحَاقَّةِ: 44 - 46]، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ [يُونُسَ: 15] وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى فَلَوْ أَنَّهُ قَرَأَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ تِلْكَ الغرانيق العلى لَكَانَ قَدْ ظَهَرَ كَذِبُ الله تَعَالَى فِي الْحَالِ وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 73] وَكَلِمَةُ كَادَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ مَعْنَاهُ قَرُبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 74] وَكَلِمَةُ لَوْلَا تُفِيدُ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الرُّكُونَ الْقَلِيلَ لَمْ يَحْصُلْ وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الْفُرْقَانِ: 32]. وَسَابِعُهَا: قَوْلُهُ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الْأَعْلَى: 6]. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَهِيَ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَالَ هَذَا وُضْعٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ وَصَنَّفَ فِيهِ كِتَابًا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بن الحسن الْبَيْهَقِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ ثُمَّ أَخَذَ يَتَكَلَّمُ فِي أَنَّ رُوَاةَ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَطْعُونٌ فِيهِمْ، وَأَيْضًا فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ وَسَجَدَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَلَيْسَ فِيهِ حَدِيثُ الْغَرَانِيقِ. وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ وَلَيْسَ فِيهَا الْبَتَّةَ حَدِيثُ الْغَرَانِيقِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ جَوَّزَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْظِيمَ الْأَوْثَانِ فَقَدْ كَفَرَ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ أَعْظَمَ سَعْيِهِ كَانَ فِي نَفْيِ الْأَوْثَانِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَقْرَأَ الْقُرْآنَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ آمِنًا أَذَى الْمُشْرِكِينَ لَهُ حَتَّى كَانُوا رُبَّمَا مَدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا كَانَ يُصَلِّي إِذَا لَمْ يَحْضُرُوهَا لَيْلًا أَوْ فِي أَوْقَاتِ خَلْوَةٍ وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ وَثَالِثُهَا: أَنَّ مُعَادَاتَهُمْ لِلرَّسُولِ كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُقِرُّوا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْقِرَاءَةِ دُونَ أَنْ يَقِفُوا عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فَكَيْفَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ عَظَّمَ آلِهَتَهُمْ حَتَّى خَرُّوا سُجَّدًا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ عِنْدَهُمْ مُوَافَقَتَهُ لَهُمْ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ إِحْكَامَ الْآيَاتِ بِإِزَالَةِ مَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ عَنِ الرَّسُولِ أَقْوَى مِنْ نَسْخِهِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي تَبْقَى الشُّبْهَةُ مَعَهَا، فَإِذَا أَرَادَ الله إِحْكَامَ الْآيَاتِ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ مَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ قُرْآنًا، فَبِأَنْ يُمْنَعَ الشَّيْطَانُ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا أَوْلَى وَخَامِسُهَا: وَهُوَ أَقْوَى الْوُجُوهِ/ أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ ارْتَفَعَ الْأَمَانُ عَنْ شَرْعِهِ وَجَوَّزْنَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَيَبْطُلُ قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَةِ: 67] فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْعَقْلِ بَيْنَ النُّقْصَانِ عَنِ الْوَحْيِ وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ فِيهِ فَبِهَذِهِ الْوُجُوهِ عَرَفْنَا عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَوْضُوعَةٌ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ جَمْعًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوهَا لَكِنَّهُمْ مَا بَلَغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُعَارِضُ الدَّلَائِلَ النَّقْلِيَّةَ وَالْعَقْلِيَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، وَلْنَشْرَعِ الْآنَ فِي التَّفْصِيلِ فَنَقُولُ التَّمَنِّي جَاءَ فِي اللُّغَةِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَمَنِّي الْقَلْبِ وَالثَّانِي: الْقِرَاءَةُ قَالَ الله تَعَالَى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ [الْبَقَرَةِ: 78] أَيْ إِلَّا قِرَاءَةً لِأَنَّ الْأُمِّيَّ لَا يَعْلَمُ الْقُرْآنَ مِنَ الْمُصْحَفِ وَإِنَّمَا يَعْلَمُهُ قِرَاءَةً، وَقَالَ حَسَّانُ:
تَمَنَّى كِتَابَ الله أَوَّلَ لَيْلَةٍ ... وَآخِرَهَا لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ
قِيلَ إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْقِرَاءَةُ أُمْنِيَّةً لِأَنَّ الْقَارِئَ إِذَا انْتَهَى إِلَى آيَةِ رَحْمَةٍ تَمَنَّى حُصُولَهَا وَإِذَا انْتَهَى إِلَى آيَةِ عَذَابٍ تَمَنَّى أَنْ لَا يُبْتَلَى بِهَا، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ التَّمَنِّي هُوَ التَّقْدِيرُ وَتَمَنَّى هُوَ تَفَعَّلَ مِنْ مُنِيتُ وَالْمَنِيَّةُ وَفَاةُ الْإِنْسَانِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَدَّرَهُ الله تَعَالَى، وَمَنَى الله لَكَ أَيْ قَدَّرَ لَكَ. وَقَالَ رُوَاةُ اللُّغَةِ الْأَمْنِيَّةُ الْقِرَاءَةُ وَاحْتَجُّوا بِبَيْتِ حَسَّانَ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَإِنَّ التَّالِيَ مُقَدِّرٌ لِلْحُرُوفِ وَيَذْكُرُهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ الْأَمْنِيَّةَ، إِمَّا الْقِرَاءَةُ، وَإِمَّا الْخَاطِرُ، أَمَّا إِذَا فَسَّرْنَاهَا بِالْقِرَاءَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِذَلِكَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَسْهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ وَيَشْتَبِهَ عَلَى الْقَارِئِ دُونَ مَا رَوَوْهُ مِنْ قَوْلِهِ تِلْكَ الْغَرَانِيقُ العلى الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْهُ وُقُوعُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي قِرَاءَتِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يتكلم بقوله تلك الغرانيق العلى وَلَا الشَّيْطَانُ تَكَلَّمَ بِهِ وَلَا أَحَدٌ تَكَلَّمَ بِهِ لَكِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَى الْكُفَّارِ فَحَسِبُوا بَعْضَ أَلْفَاظِهِ مَا رَوَوْهُ مِنْ قَوْلِهِمْ تِلْكَ الْغَرَانِيقُ العلى وَذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ مِنْ تَوَهُّمِ بَعْضِ الْكَلِمَاتِ عَلَى غَيْرِ مَا يُقَالُ وَهَذَا الوجه ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّوَهُّمَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا قَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِسَمَاعِهِ فَأَمَّا غَيْرُ الْمَسْمُوعِ فَلَا يَقَعُ ذَلِكَ فِيهِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَقَعَ هَذَا التَّوَهُّمُ لِبَعْضِ السَّامِعِينَ دُونَ الْبَعْضِ فَإِنَّ الْعَادَةَ مَانِعَةٌ مِنَ اتِّفَاقِ الْجَمِّ الْعَظِيمِ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى خَيَالٍ وَاحِدٍ فَاسِدٍ فِي الْمَحْسُوسَاتِ وَثَالِثُهَا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُضَافًا إِلَى الشَّيْطَانِ الوجه الثَّانِي: قَالُوا إِنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ كَلَامُ شَيْطَانِ الْجِنِّ وَذَلِكَ بِأَنْ تَلَفَّظَ بِكَلَامٍ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَوْقَعَهُ فِي دَرَجِ تِلْكَ التِّلَاوَةِ فِي بَعْضِ وَقَفَاتِهِ لِيُظَنَّ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ الْمَسْمُوعِ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا وَالَّذِي يُؤَكِّدُهُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ مُتَكَلِّمُونَ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَأْتِيَ الشَّيْطَانُ بِصَوْتٍ مِثْلِ صَوْتِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَتَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعِنْدَ سُكُوتِهِ فَإِذَا سَمِعَ الْحَاضِرُونَ تِلْكَ الْكَلِمَةَ بِصَوْتٍ مِثْلِ صَوْتِ الرَّسُولِ وَمَا رَأَوْا شَخْصًا آخَرَ ظَنَّ الْحَاضِرُونَ أَنَّهُ كَلَامُ/ الرَّسُولِ، ثُمَّ هَذَا لَا يَكُونُ قَادِحًا فِي النُّبُوَّةِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِعْلًا لَهُ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ فإنك إذا جوزت أن يتكلم في أثناء الشيطان كَلَامِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَشْتَبِهُ عَلَى كُلِّ السَّامِعِينَ كَوْنُهُ كَلَامًا لِلرَّسُولِ بَقِيَ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي كُلِّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الرَّسُولُ فَيُفْضِي إِلَى ارْتِفَاعِ الْوُثُوقِ عَنْ كُلِّ الشَّرْعِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا الِاحْتِمَالُ قَائِمٌ في الْكُلِّ وَلَكِنَّهُ لَوْ وَقَعَ لَوَجَبَ فِي حِكْمَةِ الله تَعَالَى أَنْ يُشْرَحَ الْحَالُ فِيهِ كَمَا فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ إِزَالَةً لِلتَّلْبِيسِ، قُلْنَا لَا يَجِبُ عَلَى الله إِزَالَةُ الِاحْتِمَالَاتِ كَمَا فِي الْمُتَشَابِهَاتِ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الله ذَلِكَ تَمَكَّنَ الِاحْتِمَالُ مِنَ الْكُلِّ الوجه الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ بَعْضُ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَهُمُ الْكَفَرَةُ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا انْتَهَى فِي قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَكَرَ أَسْمَاءَ آلِهَتِهِمْ وَقَدْ عَلِمُوا مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ يَعِيبُهَا فَقَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ تِلْكَ الْغَرَانِيقُ العلى فَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَى الْقَوْمِ لِكَثْرَةِ لَغَطِ الْقَوْمِ وَكَثْرَةِ صِيَاحِهِمْ وَطَلَبِهِمْ تَغْلِيطَهُ وَإِخْفَاءَ قِرَاءَتِهِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَلَاتِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرُبُونَ مِنْهُ فِي حَالِ صَلَاتِهِ وَيَسْمَعُونَ قِرَاءَتَهُ وَيَلْغُونَ فِيهَا، وَقِيلَ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا تَلَا الْقُرْآنَ عَلَى قُرَيْشٍ تَوَقَّفَ فِي فُصُولِ الْآيَاتِ فَأَلْقَى بَعْضُ الْحَاضِرِينَ ذَلِكَ الْكَلَامَ فِي تِلْكَ الْوَقَفَاتِ فَتَوَهَّمَ الْقَوْمُ أَنَّهُ مِنْ قِرَاءَةِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَضَافَ الله تَعَالَى ذَلِكَ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ بِوَسْوَسَتِهِ يَحْصُلُ أَوَّلًا وَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ ذَلِكَ الْمُتَكَلِّمَ فِي نَفْسِهِ شَيْطَانًا وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِزَالَةُ الشُّبْهَةِ وَتَصْرِيحُ الْحَقِّ وَتَبْكِيتُ ذَلِكَ الْقَائِلِ وَإِظْهَارُ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْهُ صَدَرَتْ وَثَانِيهِمَا: لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى بِالنَّقْلِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا لَمْ يَفْعَلِ الرَّسُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَدَّى السُّورَةَ بِكَمَالِهَا إِلَى الْأُمَّةِ مِنْ دُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُؤَدِّيًا إِلَى التَّلْبِيسِ كَمَا يُؤَدِّي سَهْوُهُ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ أَنْ وَصَفَهَا إِلَى اللَّبْسِ، قُلْنَا إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي زَمَانِ حَيَاتِهِ لِأَنَّهُ كَانَ تَأْتِيهِ الْآيَاتُ فَيُلْحِقُهَا بِالسُّورِ فَلَمْ يَكُنْ تَأْدِيَةُ تِلْكَ السُّورَةِ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ سَبَبًا لِزَوَالِ اللَّبْسِ، وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا اسْتَحَقَّ الْعِتَابَ مِنَ الله تَعَالَى عَلَى مَا رَوَاهُ الْقَوْمُ الوجه الرَّابِعُ: هُوَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَذَا هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ هَذَا يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ سَهْوًا أَوْ قَسْرًا أَوِ اخْتِيَارًا أَمَّا الوجه الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ سَهْوًا فَكَمَا يُرْوَى عَنْ قَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ أَنَّهُمَا قَالَا إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ فَنَعَسَ وَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ هَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ السُّورَةِ سَجَدَ وَسَجَدَ كُلُّ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ وَفَرِحَ الْمُشْرِكُونَ بِمَا سَمِعُوهُ وَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاسْتَقْرَأَهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْغَرَانِيقِ قَالَ لَمْ آتِكَ بِهَذَا، فَحَزِنَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ جَازَ هَذَا السَّهْوُ لَجَازَ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وَحِينَئِذٍ تَزُولُ الثِّقَةُ عَنِ الشَّرْعِ وَثَانِيهَا: أَنَّ السَّاهِيَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمُطَابِقَةِ لِوَزْنِ السُّورَةِ وَطَرِيقَتِهَا وَمَعْنَاهَا، فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ وَاحِدًا لَوْ أَنْشَدَ قَصِيدَةً لَمَا جَازَ أَنْ يَسْهُوَ حَتَّى يَتَّفِقَ مِنْهُ بَيْتُ شِعْرٍ فِي وَزْنِهَا وَمَعْنَاهَا وَطَرِيقَتِهَا وَثَالِثُهَا: هَبْ أَنَّهُ تَكَلَّمَ/ بِذَلِكَ سَهْوًا، فَكَيْفَ لَمْ يُنَبَّهْ لِذَلِكَ حِينَ قَرَأَهَا عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ أَمَّا الوجه الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ قَسْرًا وَهُوَ الَّذِي قَالَ قَوْمٌ إِنَّ الشَّيْطَانَ أَجْبَرَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ يَتَكَلَّمَ بِهَذَا فَهَذَا أَيْضًا فَاسِدٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَوْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَكَانَ اقْتِدَارُهُ عَلَيْنَا أَكْثَرَ فَوَجَبَ أَنْ يُزِيلَ الشَّيْطَانُ النَّاسَ عَنِ الدِّينِ وَلَجَازَ فِي أَكْثَرِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْوَاحِدُ مِنَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِإِجْبَارِ الشَّيَاطِينِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَوْ قَدَرَ عَلَى هَذَا الْإِجْبَارِ لَارْتَفَعَ الْأَمَانُ عَنِ الْوَحْيِ لِقِيَامِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى حَاكِيًا عَنِ الشَّيْطَانِ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إِبْرَاهِيمَ: 22] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ [النَّحْلِ: 99، 100] وَقَالَ: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الْحِجْرِ: 40] وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ سَيِّدَ الْمُخْلَصِينَ أَمَّا الوجه الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تكلم بذلك اختيارا فههنا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ نَقُولَ إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ بَاطِلَةٌ وَالثَّانِي: أَنْ نَقُولَ إِنَّهَا لَيْسَتْ كَلِمَةً بَاطِلَةً أَمَّا عَلَى الوجه الْأَوَّلِ فَذَكَرُوا فِيهِ طَرِيقَيْنِ: الْأَوَّلُ:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ إِنَّ شَيْطَانًا يُقَالُ لَهُ الْأَبْيَضُ أَتَاهُ عَلَى صُورَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَلْقَى عَلَيْهِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فَقَرَأَهَا فَلَمَّا سَمِعَ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ أَعْجَبَهُمْ فَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاسْتَعْرَضَهُ فَقَرَأَهَا فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى تِلْكَ الْكَلِمَةِ قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَا مَا جِئْتُكَ بِهَذِهِ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ أَتَانِي آتٍ عَلَى صُورَتِكَ فَأَلْقَاهَا عَلَى لِسَانِي
الطَّرِيقُ الثَّانِي: قَالَ بَعْضُ الْجُهَّالِ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِ الْقَوْمِ أَدْخَلَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا، وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ لَا يَرْغَبُ فِيهِمَا مُسْلِمٌ الْبَتَّةَ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا كَانَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَلَكِ الْمَعْصُومِ وَالشَّيْطَانِ الْخَبِيثِ وَالثَّانِي يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ خَائِنًا فِي الْوَحْيِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خُرُوجٌ عَنِ الدِّينِ أَمَّا الوجه الثَّانِي: وَهُوَ أن هذه الكلمة ليست باطلة فههنا أَيْضًا طُرُقٌ الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ الْغَرَانِيقُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ قُرْآنًا مُنَزَّلًا فِي وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ. فَلَمَّا تَوَهَّمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُ يُرِيدُ آلِهَتَهُمْ نَسَخَ الله تِلَاوَتَهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَشَفَاعَتُهُنَّ تُرْتَجَى؟ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ ذَكَرَ الْإِثْبَاتَ وَأَرَادَ النَّفْيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النِّسَاءِ: 176] أَيْ لَا تَضِلُّوا كَمَا قَدْ يَذْكُرُ النَّفْيَ وَيُرِيدُ بِهِ الْإِثْبَاتَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [الْأَنْعَامِ: 151] وَالْمَعْنَى أَنْ تُشْرِكُوا، وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ الْأَخِيرَانِ يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمَا بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظْهِرُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ فِي جُمْلَةِ الْقُرْآنِ أَوْ فِي الصَّلَاةِ بِنَاءً عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَلَكِنَّ الْأَصْلَ فِي الدِّينِ أَنْ لَا يَجُوزَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الله تَعَالَى قَدْ نَصَبَهُمْ حُجَّةً وَاصْطَفَاهُمْ لِلرِّسَالَةِ فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا يَطْعَنُ فِي ذَلِكَ أَوْ يُنَفِّرُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي التَّنْفِيرِ أَعْظَمُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي حثه الله تعالى على تركها كنحو لفظاظة وَالْكِتَابَةِ وَقَوْلِ الشِّعْرِ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ/ فِي قَوْلِهِ تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا قَدْ ظَهَرَ عَلَى القطع كذبها، لهذا كُلُّهُ إِذَا فَسَّرْنَا التَّمَنِّيَ بِالتِّلَاوَةِ. وَأَمَّا إِذَا فَسَّرْنَاهَا بِالْخَاطِرِ وَتَمَنِّي الْقَلْبِ فَالْمَعْنَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَتَى تَمَنَّى بَعْضَ مَا يَتَمَنَّاهُ مِنَ الْأُمُورِ يُوَسْوِسُ الشَّيْطَانُ إِلَيْهِ بِالْبَاطِلِ وَيَدْعُوهُ إِلَى مَا لَا يَنْبَغِي ثُمَّ إِنَّ الله تَعَالَى يَنْسَخُ ذَلِكَ وَيُبْطِلُهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى تَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَى وَسْوَسَتِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تِلْكَ الْوَسْوَسَةِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَتَمَنَّى مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ بِالثَّنَاءِ قَالُوا إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَتَأَلَّفَهُمْ وَكَانَ يُرَدِّدُ ذلك في نفسه فعند ما لَحِقَهُ النُّعَاسُ زَادَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ فِي نَفْسِهِ وَهَذَا أَيْضًا خُرُوجٌ عَنِ الدِّينِ وَبَيَانُهُ مَا تَقَدَّمَ وَثَانِيهَا: مَا قَالَ مُجَاهِدٌ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَتَمَنَّى إِنْزَالَ الْوَحْيِ عَلَيْهِ عَلَى سُرْعَةٍ دُونَ تَأْخِيرٍ فَنَسَخَ الله ذَلِكَ بِأَنْ عَرَّفَهُ بِأَنَّ إِنْزَالَ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ فِي الْحَوَادِثِ وَالنَّوَازِلِ وَغَيْرِهَا وَثَالِثُهَا: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ كَانَ يَتَفَكَّرُ فِي تَأْوِيلِهِ إِنْ كَانَ مُجْمَلًا فَيُلْقِي الشَّيْطَانُ فِي جُمْلَتِهِ مَا لَمْ يُرِدْهُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَنْسَخُ ذَلِكَ بِالْإِبْطَالِ وَيَحْكُمُ مَا أَرَادَهُ الله تَعَالَى بِأَدِلَّتِهِ وَآيَاتِهِ وَرَابِعُهَا: مَعْنَى الْآيَةِ (إِذَا تَمَنَّى) إِذَا أَرَادَ فِعْلًا مُقَرَّبًا إِلَى الله تَعَالَى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي فِكْرِهِ مَا يُخَالِفُهُ فَيَرْجِعُ إِلَى الله تَعَالَى فِي ذَلِكَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الْأَعْرَافِ: 201] وَكَقَوْلِهِ: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ [الْأَعْرَافِ: 200] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْأُمْنِيَّةِ عَلَى تَمَنِّي الْقَلْبِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَا يَخْطُرُ بِبَالِ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِتْنَةً لِلْكُفَّارِ وَذَلِكَ يُبْطِلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ، وَالْجَوَابُ: لَا يَبْعُدُ أَنَّهُ إِذَا قَوِيَ التَّمَنِّي اشْتَغَلَ الْخَاطِرُ بِهِ فَحَصَلَ السَّهْوُ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ بِسَبَبِهِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ فِتْنَةً لِلْكُفَّارِ فَهَذَا آخِرُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ المسألة. اهـ (مفاتيح الغيب 23/ 237 - 241)(3/65)
شِقَاقٍ): خلاف وعناد، (بَعِيدٍ): عن الحق شديد (وَلِيَعْلَمَ)، عطف على ليجعل) (الذِينَ أُوتُوا العلمَ): القرآن وهم المسلمون، (أنَّه): ما أوحينا إليك، (الحَقُّ): الصدق، (مِن ربكَ) حال أو خبر بعد خبر، (فَيؤْمِنوا بِهِ): بالقرآن أو بالله، فإن العقلاء لما رأوا أنه أعرض عما تكلم به، ولم يعبأ ببيان خطأه ولم يبال بمزيد عداوتهم مع كثرة حرصه بألفتهم، علموا أن الشيطان دخل في أمنيته فنسخه الله، وعصم نبيه، فزادوا يقينهم وثبتوا دينهم، (فَتُخْبِتَ): تخشع، (لَه): لله، (قُلُوبُهُمْ): واطمأن، (وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاط مسْتَقِيمٍ): في الدارين، (وَلاَ يَزَالُ الذِينَ كَفَرُوا فِي مِريةٍ): شك، (مِّنه). من القرآن، أو مما ألقى الشيطان قائلين: ما باله ذكرها بخير ثم ارتد عنه، (حَتَّى تَأْتِيَهُم السَّاعَةُ): القيامة أو الموت، (بَغتةً): فجأة، (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ): كيوم بدر فإنه يوم لا خير للكفار فيه كما يقال: ريح عقيم، أو المراد يوم القيامة، فإنه يوم لا ليل له فكأنه قال: تأتيهم الساعة أو يأتيهم عذابها فوضع الظاهر موضع المضمر للتهويل، (الملْكُ يَوْمَئِذٍ لله): لا منازع له بوجه، (يَحْكمُ بَيْنَهمْ): بين المؤمنين والكافرين، (فَالَّذِينَ آمنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ): الفاء في خبر الثاني دون الأول تنبيه على أن عقابهم مسبب من أعمالهم بخلاف إثابة المسلمين فإنها فضل.
* * *
(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ(3/66)
إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
* * *
(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ): تركوا الأوطان في طريق طاعته ورضاه، (ثُمَّ قُتِلُوا): فيها، (أَوْ مَاتُوا): حتف أنفهم، (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا) هم أحياء عند ربّهم يرزقون، (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خيْرُ الرازقِينَ): فإنه يرزق من يشاء بغير حساب، (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ): لما فيه ما تشتهي أنفسهم، (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ): بأحوال الفريقين، (حَلِيمٌ): لا يعاجل بالعقوبة، (ذلِكَ): الأمر ذلك، (وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ) ولم يزد على مثله سمي ابتداء الإضرار عقابًا للازدواج فإن العقاب جزاء من عَقِبِ فِعْلٍ، (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ): بعقوبة أخرى، (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ)، فإنه مظلوم، (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ): للمنتصر، (غَفُورٌ): إن زاد في الجزاء، نزلت في رهط من المسلمين لقوا جمعًا من المشركين في شهر محرم فناشدهم(3/67)
المسلمون أن لا يقاتلوا فأبوا فقاتلوا وبغوا فنصر الله المسلمين، (ذلِكَ): النصر، (بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ)، بسبب قدرته على تغليب الأمور بعضها على بعض يداول بين المتعاندين كما يزيد في أحد الملوين ما ينقص من الآخر، (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ): فيجازيهم بما يسمع ويبصر، (ذَلِكَ): القدرة التامة والعلم الكامل، (بأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ): الثابتة إلاهيته، (وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) وَكل ما يدعون إلهًا دونه باطل الألوهية فلا إله سواه، (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ): لا شيء أعلى منه وأكبر شأنًا فلا محالة يكون قديرًا عليمًا، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً): برفع تصبح لأنه بعد استفهام بمعنى الخبر أي: قد رأيت فلا يكون له جواب والعدول إلى المضارع للدلالة على بقاء أثر المطر زمانًا بعد زمان، (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ): واصل علمه أو لطفه إلى كل جليل ودقيق، (خَبِيرٌ): بالتدابير، (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ). في ذاته، (الْحَمِيدُ): المستوجب للحمد.
* * *
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)(3/68)
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
* * *
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ): فتنتفعون به، (وَالْفُلْكَ) عطف على ما، (تَجْرِي فِي البَحرِ بِأَمْرِهِ)، حال، (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ): من، (أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ): بمشيئته كما تقع يوم القيامة، (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) حيث أثبت لهم المنافع، ودفع عنهم المضار، (وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ): بعد ما كنتم جمادًا ترابًا ونطفة، (ثمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ): في الآخرة، (إِذ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ): جحود لنعم ربه، (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا(3/69)
مَنْسَكًا) أي: لكل أمة نبي جعلنا شريعة، (هُمْ نَاسِكُوهُ): عاملوه، (فَلَا يُنَازِعُنَّكَ): سائر أرباب الملل، (فِي الْأَمْرِ): في أمر الدين أو المراد نهيه - عليه السلام - عن منازعتهم، أي: لا تلتفت إلى منازعتهم ولا تمكنهم من المنازعة، أو معناه: لكل قوم جعلنا وقدرنا طريقة هم فاعلوها ألبتَّة بحكم القدر فلا تتأثر منازعتهم فيك ولا يصرفنك عما أنت عليه من الحق نحو " ولكل وجهة هو موليها " [البقرة: 148]، قيل: نزلت فيمن جادل وقال: ما لكم تأكلون ما تقتلونه ولا تأكلون ما قتله الله؟! (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ): إلى عبادته، (إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ): طريق موصل إلى المقصود، (وَإِن جَادلوكَ): مراء وعنادًا، (فَقُلِ الله أَعْلَمُ بمَا تَعْمَلون): هو أعلم بما تفيضون فيه، وكفي به شهيدًا بيني وبينكم، (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) هذا خطاب من الله لرسوله وللمجادلين، أو من تتمة ما يؤمر بأن يقول لهم أي قل: الله يفصل بينكم أيها الكافرون والمؤمنون فتعرفون حينئذ الحق من الباطل نحو: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) إلى قوله (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [الشورى: 15]، (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ) ما في السماء والأرض، (فِي كِتَاب) هو اللوح المحفوظ، (إِن ذَلِكَ): إثباته في كتاب وحفظه، (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ): فلا يهمنك جدالهم لأنا قدرناه وهو بمرأى منا، (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ): ما لا برهان سماوي ولا دليل عقلي في عبادته، بل اختلقوه وائتفكوه وتلقوا عن ضُلَّال أسلافهم، (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ): ليس(3/70)
لهم ناصر ينصرهم من نكال الله لأنهم وضعوا عبادة جماد موضع عبادة الله، (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ): على أمتك، أو على المشركين، (آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ): ظاهرات الدلالة على العقائد الحقة، (تَعْرِفُ فِي وَجُوهِ الَّذِينَ كفَرُوا الُمنكَرَ): الإنكار، أو العبوس والكراهة، (يَكَادُونَ يَسْطُونَ): يبطشون، (بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ): بطشكم وقهركم عليهم، أو من القرآن الذي تكرهونه، (النَّارُ) كأنه قيل: ما هو؟ قال: النار أي: هو النار، (وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) استئناف، أو النار مبتدأ وهذه الجملة خبره (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ): النار.
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ(3/71)
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) بين قصة مستغربة كالمثل السائر، (فاسْتَمِعُوا لَهُ): للمثل، (إِن الَّذِينَ تَدْعُونَ من دُون اللهِ): تدعونهم أي: الأصنام، (لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا): لن يقدورا على خلقه مع صغرة، (وَلَوِ اجْتَمَعُوا): الأصنام، (لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذبابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ)، أي: بل هم أعجز من أن يخلقوا، فإنهم لا يقدرون على استنقاذ ما اختطف هذا المخلوق الضعيف عنهم، (ضَعُفَ الطَّالِبُ): الصنم أو الذباب أو العابد، (وَالْمَطْلُوبُ): الذباب أو الصنم أو المعبود ووجه الإطلاق الطالب والمطلوب على كل ظاهر، (مَا قَدَرُوا اللهَ): ما عظموه وما عرفوه، (حَقَّ قَدْرِه): حق عظمته ومعرفته، حيثُ أشركوا به شيئًا لا يقاوم أضعف مخلوقاته، (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ): قادر على كل شيء، (عَزِيزٌ): لا يغلبه غالب، (اللهُ يَصْطَفِي): يختار، (مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ): يبلغون(3/72)
رسالاته إلى عباده لما قرر الوحدانية شرع يثبت أن في الملك والبشر رسلاً، لا الملَك بنات الله، ولا البشر غير مستحقين للرسالة، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصيِرٌ): مدرك للجزئيات، (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ): عالم بواقع الأشياء ومترقبها، (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)، لأنه خالقها ومالكها فالله أعلم حيث يجعل رسالته، ولا يُسئل عما يفعل، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) أي: صلوا، (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ): أنواع العبادات، (وَافْعَلُوا الخَيْرَ): ما هو أصلح كصلة الأرحام ومكارم الأخلاق، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي: افعلوا كل ذلك راجين الفلاح من فضل الله لا متكلين على الأعمال واثقين عليها، (وَجَاهِدُوا في اللهِ): في سبيله، (حَقَّ جِهَادِه): أقيموا بمواجبه وشرائطه على وجه التمام بقدر الوسع، وإضافة الجهاد إلى الله للملابسة، (هُوَ اجْتَبَاكُمْ): اختاركم يا أمة محمد لنصرة دينه، (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج): ما كلفكم ما لا تطيقون فلا عذر لكم في تركه وقد ورد " بعثت بالحنيفية السمحة "، (مِّلةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ)، أي: أعني بالدين ملة إبراهيم نحو: الحمد لله الحمد، أو مصدر لفعل دل عليه مضمون ما قبله بحذف مضاف، أي: وسع دينكم توسعة ملته وهو أبو نبينا ونبينا كالأب لأمته أو لأن أكثر العرب من ذريته فهو من باب التغليب، (هُوَ): أي: الله، (سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ) أي: بهذا الاسم الأكرم، (مِن قَبْلُ): في سائر الكتب، (وَفِي هَذَا):(3/73)
القرآن، وفي الشواذ الله بدل هو، وفي النسائي: " من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثاء جهنم، قال رجل: يا رسول الله: وإن صام وصلى؟ قال: نعم وإن صام وصلى، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله "، وقيل الضمير لإبراهيم فإنه دعى بقوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة: 128]، وفي هذا معناه وفي القرآن بيان تسميتة إياكم بهذا الاسم حيث حكى فيه مقالته، أو لما كان تسميتهم في القرآن بسبب تسميته من قبل كأنها منه، وفيه بعد (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ): يوم القيامة بأنه بلغكم رسالته ولعصمته تقبل شهادته لنفسه قيل: يشهد عليكم بطاعة من أطاع وعصيان من عصى، (وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ): بأن الرسل بلغتهم، (فَأَقِيمُوا الصلاةَ وَآتوا الزَّكَاةَ): أي: إذا خصكم بتلك الكرامات فتقربوا إليه بأنواع الطاعات، (وَاعْتَصِمُوا): وثقوا، (بِاللهِ) لا إلى سواه، (هُوَ مَوْلاكمْ فَنِعْمَ المَوْلَى) هو، (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) هو فإنه لا مولى ولا نصير على الحقيقة سواه.
* * *(3/74)
سورة المؤمنون مكية
آياتها مائة وتسع عشرة وعند الكوفيين ثماني عشرة
وهي ست ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ(3/75)
تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
* * *
(قَدْ أَفْلَحَ الُمؤْمِنُونَ)، ظفروا بالمراد وفازوا بأمانيهم، (الَّذِينَ هُمْ في صَلاِتهِمْ خَاشِعُونَ)، خائفون من الله ساكنون، وعلامته ألا يلتفت يمينًا وشمالاً ولا يرفع البصر عن موضع السجود، (وَالذِينَ هُمْ عَنِ اللغوِ): عن الشرك، أو عن كل ما لا يعنيهم من قولٍ وفعل، (مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فاعِلُونَ) أي: زكاة الأموال، فإن قيل السورة مكية، والزكاة قد فرضت بالمدينة قلت: قال بعض المحققين فرضت بالمدينة نصابها وقدرها، وأما أصلها فقد كان واجبًا بمكة، أو المراد زكاة النفس وتطهيرها من الرذائل، والزكاة اسم مشترك بين المعنى والعين فإن(3/76)
أريد الثاني فهو على حذف مضاف، أي: لأداء الزكاة فاعلون، (وَالذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهم حَافِظُونَ) أي: حافظون لفروجهم من أن يقعن على أحد، (إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ) أو حافظون بمعنى لا يبذلون، (أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانهُمْ): أجراهن مجرى غير العقلاء، (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) الضمير لمن دل عليه الاستثناء، أي: غير الحافظين من أن يقعن على الأزواج والسراري، (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ): المستثنى، (فأوْلَئِكَ هُمُ العادُونَ): الكاملون في العدوان، (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)، إذا اؤتمنوا لم يخونوا وإذا عاهدوا أوفوا، (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ): يواظبون لا يتركونها بوجه وذكر المضارعة لما في الصلاة من التجدد الدائمي، (أوْلَئِكَ): الجامعون لتلك الصفات، (هُمُ الوَارِثُون): هم أحقاء بأن يسموا ورَّاثًا دون غيرهم، (الذِينَ يَرِثُونَ الفِردَوْسَ): لما أنَّهم من أعمالهم نالوا الفردوس كأنهم ورثوها منها أو يرثون من الكفار منازلهم في الجنة، وقد ورد " ما منكم إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإن مات ودخل النار(3/77)
ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله: (أولئك هم الوارثون)، أو مبالغة في استحقاقهم، (همْ فِيهَا خَالِدونَ): الفردوس أعلى الجنة، ولهذا أنث ضميره، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ) أي: جنسه، (مِنْ سُلَالَةٍ)، سمي المني سلالة، لأنه خلاصة سُلَّت من الظهر، (مِنْ طِينٍ) أي: من آدم فمن في الموضعين ابتدائية، (ثمَّ جَعَلْنَاه): السلالة، وتذكير الضمير باعتبار الماء والإنسان، (نُطْفَةً) بأن خلقنا منها أو معناه خلقنا آدم من خلاصة من طين، ثم جعلنا نسله من نطفة فمن طين على هذا للبيان، أو صفة لسلالة أو متعلق بها، لأنه بمعنى مسلولة، وضمير جعلناه للإنسان بحذف مضاف، (فِي قَرَارٍ): مستقر، (مكِين): حصين يعني الرحم، (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً): قطعة لحم، (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا): بأن صلَّبناها، (فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ): مباينًا للخلق الأول مباينة بعيدة فإنه كان جمادًا فصار حيوانًا سميعًا بصيرًا وثم هنا، وفي(3/78)
الأولين لكثرة تفاوت الخلقين، (فَتَبَارَكَ اللهُ): تعالى شأنه، (أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ): خلقًا وحذف المميز لدلالة الخالقين عليه، والخالقين هنا بمعنى المقدرين، (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ): صائرون إلى الموت ألبتَّة، (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ): للجزاء، (تُبْعَثُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ): سماوات سماها طرائق، لأن كل شيء فوقه مثله فهو طريقة، وقيل: لأنها طرق الملائكة، (وَمَا كنَّا عَنِ الخَلْقِ غافِلينَ): بل نعلم جميع المخلوقات جلها ودقها فتدبر أمرها أو المراد من الخلق السماوات فإنه حفظها من الخلل والسقوط، وقيل: المراد منه الإنسان، أي ما غفلنا عنهم فإنا خلقنا السماوات لمنافعهم، (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ)، من جانبه أو من نفسه، (مَاءً بِقَدَر): بمقدار معين أو بمقدار ما يكفيهم، (فأَسْكَنَّاهُ) أي: فجعلنا الماء ثابتًا، (فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) أي: نحن قادرون على وجه من وجوه الذهاب إما التصعيد أو التنشيف أو الإفساد أو غيرها، (فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ)، بالماء، (جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا): في الجنات، (فَوَاكِهُ(3/79)
كَثِيرَةٌ): تتفكهون بها، (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) أي: من زرع الجنات وثمارها تأكلون، أو منها تحصلون معايشكم كما تقول: أنا آكل من حرفتي، (وَشَجَرَةً)، عطف على جنات، (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ)، الطور: الجبل وهو مضاف إلى البقعة أو المركب اسم لجبل موسى، والزيتون فيه أكثر وأحسن، وقيل: أول ما نبت نبت فيه، (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ)، أي: متلبسًا به مستصحبًا له أو الباء للتعدية، ومن قرأ تنبت من باب الإفعال فهو بمعنى نبت أو تقديره تنبت زيتونها متلبسًا بالدهن، (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ)، معطوف على الدهن، والصبغ الإدام الذي يغمس فيه الخبز أي: تنبت بشيء جامع بين كونه دهنًا وكونه إدامًا، وعن بعض الدهن: الزيت والإدام نفس الزيتون، (وَإِن لَكُمْ في الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً): تعتبرون بها، (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا): من الألبان أو من العلف فإن اللبن منه يحصل، (وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ): من ظهورها وأصوافها، (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا): على الأنعام فإن منها ما يحمل عليه، (وَعَلَى الفُلْكَِ تُحْمَلُون): في البر والبحر.
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا(3/80)
بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لله الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ)، لما عدد نعمه بين كفرانهم من قديم الزمان، (فَقَالَ يَا قَوْمِ اعبدُوا الله): وحده، (مَا لَكُم مِّنْ إِلهٍ عيْرُهُ)، استئناف لتعليل الأمر بالتوحيد، (أَفَلاَ تَتَّقُون): عن عبادة غيره، (فَقَالَ الْمَلَأُ): الأشراف، (الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ): لعوامهم، (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ): إن يطلب الفضل عليكم فيكون متبوعًا لكم، (وَلَوْ شَاءَ اللهُ)، إرسال رسول، (لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً): للرسالة، (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا): الذي يدعونا إليه أو ببعث البشر رسولاً، (فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ): جنون، (فَتَرَبَّصُوا بِهِ): اصبروا عليه وانتظروا، (حَتَّى حِينٍ): لعله يفيق من جنونه أو(3/81)
يموت، (قَالَ) نوح بعد اليأس من إيمانهم: (رَبِّ انصُرْنِي): عليهم، (بِمَا كَذبُون): بسبب تكذيبهم أو بدله، (فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَع الفُلْكَ بِأَعينِنَا): متلبسًا بحظنا وكلاءتنا، (وَوَحْيِنَا): بأن نعلمك كيف تصنع، (فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا): بعذابهم أو بالركوب، (وَفَارَ التَّنُّورُ): نبع الماء فيه، والتنور تنور الخبز، وقيل كان تنور آدم، وعن بعض التنور أعلى موضع في الأرض، وقيل هو مثل يضرب في شدة الأمر نحو حمي الوطيس، (فَاسْلُكْ فِيهَا): أدخل في الفلك، (مِن كُلٍّ): من كل نوع، (زَوْجينِ اثْنَيْنِ): ذكرًا وأنثى واثنين تأكيد، ومن قرأ بالإضافة فمعناه: احمل اثنين من كل زوجين أي: من كل صنف ذكر وصنف أنثى، (وَأَهْلَكَ): أهل بيتك، أو من آمن معك عطف على زوجين، أو اثنين، (إِلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ مِنْهمْ): بهلاكه يريد ابنه وزوجته، (وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا): بدعاء إنجائهم، (إِنَّهُم مغرَقُونَ): لكثرة ظلمهم محكوم عليهم بالإغراق، (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ): علوت واستقررت، (أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لله الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُل رَبِّ أَنزِلْنِي): منها أو فيها، (مُنْزَلًا مُبَارَكًا): يبارك له فيه ويعطه الزيادة في خير الدارين ومن قرأ مُنزلاً بضم الميم وفتح الزاي فالمعنى: إنزالاً أو موضع إنزال،(3/82)
(وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ إِن فِي ذَلِكَ): فيما فعل بنوح وقومه، (لَآيَاتٍ): يستدل بها، (وَإِنْ) أي: إنه، (كُنَّا لَمُبْتَلِينَ): مختبرين قوم نوح بالبلاء، أو عبادنا لننظر من يعتبر، أو مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم، وقد مر في سورة هود تمام القصة، (ثُمَّ أَنْشَأْنَا): أحدثنا، (مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ)، هم عاد وثمود، (فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ)، هو هود أو صالح جعل القرن موضع الإرسال ليعلم أنه أوحى إليه وهو فيهم، وما جاء إليهم من مكان آخر، (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ)، أن مفسرة لأن في أرسلنا معنى القول، (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ): عذابه.
* * *
(وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)(3/83)
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
* * *
(وَقَالَ المَلأ): الأشراف، (مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذبُوا بلِقَاءِ الْآخِرَةِ): المعاد الجسماني، (وَأَتْرَفنَاهُمْ): أنعمناهم، (في الحَيَاة الدُّنْيَا مَا هَذا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْربون). تشربونه أو منه، (وَلَئنْ(3/84)
أَطَعتم بَشَرًا مثلَكُمْ): في ترك دينكم، (إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ): إذًا واقع في جزاء الشرط جواب لما قال الملأ من قومهم، (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا): بلا لحم وعصب، (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ): من الأجداث ثنى أنَّكُمْ للتوكيد لما طال الفصل بينه وبين خبره بالظرف، (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ): البعد البعد، (لِمَا تُوعَدُون): نزل منزلة المصدر فهو مبتدأ وخبر أو بمعنى بعد، وفاعله ضمير مصدر مخرجون أو ضمير البعد، أي: بعد البعد ووقع ثم قيل: لماذا؟ فقيل: لما توعدون، (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) أي: لا حياة إلا هذه الحياة ووضع هي موضع الحياة لدلالة الخبر عليها حذرًا عن التكرير، (نَمُوتُ وَنَحْيَا): يموت بعض ويولد بعض، (وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ): بعد الموت، (إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا): فيما يعدنا من البعث، (وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ): بمصدقين، (قَالَ رَبِّ انصُرْنِي): عليهم، (بِمَا كَذبُون): بسبب تكذيبهم إياي، (قَالَ) الله: (عَمَّا قَلِيلٍ): عن زمان قليل، وما صلة لتوكيد القلة، (لَّيصْبِحُنَّ): ليصيرن، (نَادِمِينَ): على التكذيب حين عاينوا العذاب، (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ): صيحة العذاب، أو صاح جبريل عليهم فدمرهم، (بِالْحَقِّ): بالعدل؛ لأنَّهُم مستحقون، (فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً) أي: كالغثاء وهو ما يحمله السيل من الأوراق والعيدان البالية المسودة، (فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) من المصادر التي تجب حذف فعلها، أي: بعدوا وهلكوا، واللام لبيان من دعي عليه كهيت لك، (ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا(3/85)
آخَرِينَ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ) من للاستغراق، (أَجَلَهَا): الوقت الذي حد لهلاكها، (وَمَا يَسْتَأخِرُونَ): ما يؤخرونه، (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا): متواترين واحدًا بعد واحد، والألف للتأنيث، فإن الرسل جماعة، والتاء بدل من الواو فإبها من الوتر كتيقور من الوقار، ومن قرأ بالتنوين فمصدر وقع حالاً بمعنى المواترة، (كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ) أي: جمهورهم وأكثرهم، (فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا): في الإهلاك، (وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ)، جمع أحدوثة التي هي مثل الأضحوكة والأعجوبة، وهي ما يتحدث به تلهيًا وتعجبًا، (فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لا يُؤْمِنُون ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا): الدالة على صدقهما، (وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ): حجة واضحة ملزمة للخصم، (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَاسْتَكْبَرُوا): عن المتابعة، (وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ): متكبرين، (فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا)، البشر يكون واحدًا أو جمعًا، ومثل وغير يوصف بهما المفرد وغيره، (وَقَوْمُهُمَا): بنو إسرائيل، (لَنَا عَابِدُونَ): خادمون كالعبيد، (فَكَذبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الُمهْلَكِينَ): بالغرق، (وَلَقَدْ آتيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ): التوراة، (لَعَلَّهُمْ): بني إسرائيل، (يَهْتَدُونَ) وإنزال التوراة بعد إهلاك القبط، (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً): دالة(3/86)
على كمال قدرتنا، (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ): مكان مرتفع من الأرض، (ذاتِ قَرَارٍ): مستقر من الأرض منبسطة، (وَمَعِينٍ): الماء الجاري هي بيت المقدس وهى أقرب أرض من السماء أو دمشق أو الرملة أو فلسطين أو مصر.
* * *
(يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ(3/87)
جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
* * *
(يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ): الحلالات، (وَاعْمَلُوا صَالِحًا) الصلاح: الاستقامة على ما يوجبه الشرع، والمقصود من الخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإعلامه بأن كل رسول في زمانه وصى به ونودي لذلك فهو أمر من لدنه قديم لا يجوز التجاوز عنه بوجه، (إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فأجازيكم به، (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ): ملتكم، (أُمَّةً وَاحِدَةً): ملة واحدة هي الدعوة إلى عبادة الله وحده، نصب على الحال، (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)، أي: خافوني، لأن ملتكم واحدة، وأنا ربكم فقوله: " وإن هذه أمتكم " علة لقوله: " فاتقون "، أو تقديره:(3/88)
واعلموا أن هذه أمتكم إلخ .. ، (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ): أمر دينهم وتقطع بمعنى قطع، أو نصب أمرهم بنزع الخافض بالتمييز لأنه معرفة، (بَيْنَهُمْ زُبُرًا): قطعًا حال قيل: ثاني مفعولي تقطع فإنه متضمن معنى جعل أي: جعلوا أمر دينهم قطعًا أديانًا مختلفة، (كُل حِزْب): من المتحزبين، (بِمَا لَدَيْهِمْ): من أمر دينهم، (فرِحُونَ): يحسبون أنهم على شيء، (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ): جهالتهم التي غمروا فيها، الغمرة الماء لذي يغمر القامة، شبه جهالتهم لأنَّهُم مغمورون فيها، (حَتَّى حِينٍ): حين الهلاك، (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ): نعطيهم، (مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ)، بيان لما، (نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ) أي: نسارع به لهم فيما فيه خيرهم فضمير اسم مقدر، (بَل لَا يَشْعُرُونَ): كالبهائم لا شعور ولا فطنة فإنه لو كان لهم فطنة لتأملوا فيعلموا أن المال والبنين استدراج لا معالجة خير ومسارعة لطف، (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي: حذرون عن معاصيه من أجل خشية ربّهم يعني: خشيتهم علة لاجتناب المعصية، أو معناه حذرون من خوف عذابه، (وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ): الكونية والشرعية، (يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالذِينَ يُؤتُونَ): يعطون، (مَا آتَوْا): ما أعطوه من(3/89)
الصدقات، (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ): خائفة من عدم القبول، (أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ): مرجعهم إلى الله أو قلوبهم وجلة من أن مرجعهم إليه، وهو يعلم ما لا يعلمون، (أوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ) أي: أولئك يسارعون في نيل خيرات الدارين بمزاولة الأعمال الصالحة فيعطيهم خير الدنيا والآخرة، قيل: معناه أولئك يبادرون الطاعات، ويرغبون فيها أشد رغبة، (وَهُمْ لَهَا)، أي: إلى الخيرات (سَابِقُونَ)، أو لأجلها [فاعلون] السبق، (وَلاَ نكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا): قدر طاقتها لا يريد الله بكم العسر، (وَلَدَيْنَا كِتَابٌ): اللوح المحفوظ أو صحيفة الأعمال، (يَنطِقُ بِالْحَقِّ): بالصدق وليس فيه إلا ما فعلوا، (وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون): بنقص ثواب وعقاب على ما لم يفعلوا، (بَلْ قُلُوبُهُمْ): قلوب الكفرة، (فِي غَمْرَةٍ): غفلة، (مِّنْ هَذَا): الكتاب الذي هو عندنا، أو من هذا الذي عليه المؤمنون، أو من القرآن، (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ): خبيثة، (مِنْ دُونِ ذَلِكَ): الذي وصفنا في شأنهم، أو متجاوز لما وصف به المؤمنون، (هُمْ لَهَا عَامِلُونَ حَتَّى إِذا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم): متنعميهم، (بِالْعَذَابِ): القحط الحادث فيهم حتى أكلوا الجياف، والقتل يوم بدر، (إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ): فاجئوا الصراخ بالتضرع هو جواب الشرط، (لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) أي: يقال لهم ذلك، (إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ): لأنكم لا تمنعون منا فلا ينفعكم الجؤار، (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي): القرآن،(3/90)
تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ): تعرضون عنها، والنكوص الرجوع قهقرى، (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ): بالبيت والحرم تفتخرون بأنكم ولاته، والقائمون به وشهرتهم بأن تعظمهم بهذا البيت أغنت عن سبق ذكره، أو معناه مكذبين بالآيات استكبارًا ففيه تضمين معنى التكذيب، وتذكير الضمير باعتبار أنها قرآن، (سَامِرًا) السامر الجماعة الذين يتحدثون ليلاً، نصب على الحال قيل: به متعلق به، أي: تستمرون القرآن فإنهم يجتمعون الليالي حول البيت يطعنون في القرآن، (تَهْجُرُونَ) من الهجر بمعنى: الهذيان أي: تهذون، أو من الهجرة أي: تعرضون عنه، (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ)، أي: القرآن، ليعلموا حقيته، (أَمْ(3/91)
جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ): من الرسول والكتاب، يعني إرسال هذا الرسول إليهم ليس ببدع، فإنه مثل ما أرسلنا إلى آبائهم الأقدمين، وأم منقطعة، أي: بل جاءهم ما لم يأت آباءهم فلذلك أنكروا، (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ): بالحسب والنسب والصدق والأمانة، (فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ): والمجنون لا يصلح للنبوة، (بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ): من عند الله لا بالمهمل من الجنون، (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)، فعدم الاتباع لأنه لا يوافق مشتهاهم، قيد الحكم بالأكثر لأن فيهم من لم يؤمن لتوبيخ قومه أو لقلة فطنته وعدم تدبره، (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ) أي: الله أو القرآن، (أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ): فإن أهواءهم أن تكون له شريك وولد، منهم من يريد عظمة نفسه وحقارة غيره، ومنهم من يريد عكسه فيمضي إلى نساء العالم، فإنه يلزم النقيضين وهو محال، (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ): بكتاب هو وعظهم، أو هو صيتهم وشرفهم، (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ): على التبليِغ، (خَرْجًا): أجرًا أو جعلاً، (فَخَرَاجُ رَبِّكَ): عطاؤه وأجره، (خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أم هذه قسيم أم يقولون به جنة فهذا إلزام لهم به للسبب، والتقسيم في أنه كإبراهيم وغيره رسول معروف الحال عندكم تام العقل ليس له طمع في خسائس أموالكم، فما هو إلا أنه يريد هدايتكم، (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوَهُمْ إِلَى صِرَاط مُّسْتَقِيمٍ) أي: الإسلام، (وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ): ً الذي تدعوهم إليه، (لَنَاكبُونَ): عادلون، (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ): من القحط والشدائد، (لَلَجُّوا): أثبتوا، (فِي طُغْيَانِهِمْ): إفراطهم في المعاصي، (يَعْمَهُونَ): متحيرين، (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ): بالمصائب والشدائد من الموت ونقص الثمار(3/92)
والأموال، (فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ): ما انتقلوا من كون إلى كون واستمروا على ما هم عليه، (وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) أي: وليس من عادتهم أن يتضرعوا وهم كذلك، (حَتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ): هو عذب الآخرة، (إِذا هُمْ فيهِ مُبْلِسُون)، آيسون من كل خير واعلم أن كثيرًا من المفسرين فسروا العذاب بيوم بدر، والعذاب الشديد بالجزع، ونقلوا أن أبا سفيان قال: قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، وأنت تزعم أنك رحمة للعالمين، فادع الله أن يكشف عنا القحط فدعا، وكشف فنزلت الآية، وليت شعري كيف يصح هذا واتفقوا على أن السورة كلها مكية من غير استثناء فأين القتال حينئذ وقضية [بدر] والله أعلم.
* * *(3/93)
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لله قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لله قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لله قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
* * *
(وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ): لتحسوا آياته وتدبروا فيها، (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)، ما مزيدة للتأكيد، أي: تشكرون شكرا قليلاً كأنه قال: قليلاً ما تستعملون السمع والبصر والفؤاد فيما خلقناها له، (وَهُوَ الذِي ذرَأَكُمْ): بثكم بالتناسل، (فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ): تجمعون بعد التفرق في القيامة، (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ): هو متولي الاختلاف لا يقدر على تعاقبهما غيره، أو لأمره الاختلاف، وانتقاص أحدهما وازدياد الآخر، (أَفَلَا تَعْقِلُونَ): أليس لكم عقول تدلكم على شمول قدرتنا الممكنات التي منها(3/94)
البعث، (بَلْ قَالُوا): أهل مكة، (مِثْلَ مَا قَالَ الأَولونَ قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) استفهام الثاني تأكيد للأول واستبعاد بعد استبعاد، (لَقَدْ وَعِدْنَا نَحْنُ وَآباؤُنَا هَذَا) أي: البعث، (مِن قَبْلُ): بلسان من يدعي أنه رسولهم، (إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَولِينَ): أكاذيبهم التي كتبوها، (قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ): من أهل العلم، (سَيَقُولُونَ لله) فإنهم معترفون بأنه خالق الكل، (قُلْ): بعد ما قالوه، (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ): فتعلموا أن فاطر الأرض ومن فيها قادر على الإعادة حقيق على أنْ لا يشرك به شيء، (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لله قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ):(3/95)
عقابه فتنتهوا عن نسبة العجز إليه وتسويته بجماد، (قُلْ مَن بِيَدِه مَلَكُوتُ): ملك وخزائن، (كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ): يغيث من يشاء ويحفظ، (وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ): لا يغيث أحد منه أحدًا، (إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ): ذلك (سيَقولُونَ لله قُلْ فَأَّنَّى تُسْحَرُونَ): تخدعون فتصرفون عن الرشد مع تظاهر الأدلة، (بَلْ أَتَيْناهُم بِالْحَقِّ)، من بيان التوحيد والبعت، (وَإِنَّهُمْ لَكَاذبُون): حيث أنكروا ذلك، (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) أي: لو كان معه آلهة لتفرد كل إله بمخلوقاته متميزًا ملكه عن ملك الباقين ولغلب بعضهم بعضًا كالعادة بين الملوك فلم يكن بيده ملكوت كل شيء واللازم باطل، (سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ): من الولد والشريك، (عَالِمِ الغَيْبِ)، بالرفع خبر محذوف وبالجر صفة، (وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) من له علم كل شيء لا يحتاج إلى شريك مع أنهم معترفون بأنه المتفرد بإحاطة العلم.
* * *
(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ(3/96)
السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
* * *(3/97)
(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي: إن كان لابد من أن تريني ما تعدهم من العذاب فلا تجعلني معهم ولا فيهم ومن دعائه عليه السلام " وإذا أردت بقوم فتنه فتوفني إليك غير مفتون " وما والنون للتأكيد، وتكرار رب حث على فضل تضرع وتواضع وإظهار عبودية وافتقار وعجز، (وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ): من العذاب، (لَقَادِرُونَ): لَكِنَّا لحلمنا وحكمتنا لا نستعجل في عذابهم، (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) أي: ادفع من أذاك وطعنهم في الله بالشرك بالخصلة التي هي أحسن الخصال الحلم والصفح والإلزام بطريق بيان الدليل نحو: (وجادلهم بالتي هي أحسن) [النحل: 125] قيل: هي منسوخة بآية السيف، (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ): فَكِلْ إلينا أمرهم، (وَقُل ربِّ أَعُوذُ بِكَ(3/98)
مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ): وساوسهم ونزغاتهم، (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ): فيحوموا حولي، (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) متعلق بـ " يصفون " وما بينهما اعتراض لا يزالون على سوء الذكر حتى الآية، (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ)، خاطب الله بلفظ الجمع أو الملائكة، وقيل: لتكرير الفعل أي: ارجعني ارجعني، (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) أي: ردوني إلى الدنيا لعلي أعمل صالحًا في الإيمان الذي تركته، أو في المال أو في الدنيا، (كَلَّا)، ردع عن طلب الرجعة واستبعاد، (إِنَّهَا) أي: رب ارجعون الخ، (كَلِمَةٌ): طائفة من الكلام المنتظم بعضها ببعض، (هُوَ قَائِلُهَا) لا محالة عند استيلاء الحسرة والاضطرار، وعن بعض المفسرين أنها كلمة إلخ علة لردعهم، أي: سؤاله الرجوع للعمل الصالح مجرد عدة وقول لا وفاء ولا حقيقة تحتها نحو (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الأنعام: 28]، (وَمِنْ وَرَائِهِمْ): أمامهم، (بَرْزَخٌ) حاجز بينهم وبين الدنيا، (إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) هو إقناط كلي للعلم بأن لا رجعة إلى الدنيا يوم البعث فلا رجعة أصلاً، (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ): النفخة الأخيرة، (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ): لا تنفع الأنساب، (يَوْمَئِذٍ) ويفرح المؤمن أن قد وجب له حق على والده وولده فيأخذ منهما، (وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) لا يسأل حميم ولا قريب حميمه وقريبه وهذا في أول(3/99)
يوم القيامة ولما تزوج عمر ابنة علي من فاطمة قال: أما والله ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي " فأصدقها أربعين ألفًا إعظامًا لها، وروي الحافظ ابن عساكر عن عبد الله ابن عمرو مرفوعًا: " سألت ربي أن لا أتزوج إلى أحد من أمتي ولا يتزوج إلى أحد منهم إلا كان معي في الجنة فأعطاني ذلك "، (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ): بأن يكون له عقائد وأعمال صالحة تثقل ميزانه، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ): بأن ليس له عقائد وأعمال صالحة تثقل ميزانه، (فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ): حيث بطلوا استعدادها، (فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)، خبر ثان وبدل من الصلة، (تَلْفَحُ): تحرق، (وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ): عابسون هو تقلص الشفتين عن الأسنان، وفي الترمذي قال عليه السلام: " تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، ولتسترخى شفته السفلي حتى تضرب سرته "، (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ) أي: يقال لهم ذلك، (فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا) الشقاوة: سوء العاقبة، (وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ): عن الهدى،(3/100)
(رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا): لما تكره، (فَإِنَّا ظَالِمُونَ): لأنفسنا، (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا) أي: ذلوا وانزجروا كما تنزجر الكلاب، (وَلاَ تُكَلِّمُونِ): في رفع العذاب أو مطلقًا، وعن بعض السلف: إنه لم يكن لهم بعد ذلك إلا شهيق وزفير وعواء كالكلب، (إِنَّهُ): إن الشأن، (كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا)، بكسر السين وضمها لغتان بمعنى الهزء زيدت ياء النسبة للمبالغة، وعند الكوفيين المضموم من السخرة بمعنى الانقياد والعبودية، (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي): لتشاغلكم باستهزائهم، (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا): بما صبروا: بصبرهم على أذاكم، (أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) استئناف، ومن قرأ بفتح إن فثاني مفعولي جزيت أي: جزيتهم الفوز مخصوصين به، (قَالَ): الله، ومن قرأ " قل " فهو خطاب لأهل النار في أن مجموعهم في حكم شخص أو الخطاب مع كل واحد أو ومع بعض رؤسائهم أو مع الملك الموكل بهم، أي: قل لهم، (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ): أحياء، (عَدَدَ سِنِينَ)، تمييز لكم، (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) استقصروا مدة لبثهم في الدنيا ونسوا لعظم ما هم فيه، (فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ): القادرين على العد فنحن في شيء لا نقدر معه إعمال الفكر، أو العادين الملائكة الحفظة، (قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي: ما مكثتم فيها إلا زمانًا قليلاً على(3/101)
فرض أنكم تعلمون مدة لبثها وقد ورد " أن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال: يا أهل الجنة كم لبثتم في الأرض، قالوا: يومًا أو بعض يوم قال لنعم ما أتجرتم في يوم أو بعض يوم رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين، ثم يسأل أهل النار فيجيبون مثلهم فيقول: بئس ما أتجرتم في يوم أو بعض يوم ناري وسخطي امكثوا خالدين مخلدين "، (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا) أي: عابثين بلا فائدة حال أو مفعول له، أي: تلهيًا بكم وما زيدت للتأكيد، (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، عطف على إنما، (فَتَعَالَى اللهُ) عن أن يخلق عبثًا، (المَلِكُ الحَقُّ) الذي يحق له الملك أو الثابت الذي لا يزال ملكه، (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)، لأن الرحمة تنزل منه أو لأنه منسوب إلى أكرم الأكرمين، (وَمَن يَدْعُ): يعبد، (مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ)، لا برهان صفة أخرى لـ إِلَهًا لازمة له جيء بها للتأكيد، أو جملة معترضة بين الشرط والجزاء،(3/102)
(فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) فيجازيه بما يستحقه، (إِنَّهُ): إن الشأن، (لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ وَقُلْ): يا محمد، (رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).
والحمد لله حقَّ حمده
* * *(3/103)
سورة النور مدنية
وهى اثنتان أو أربع وستون آية، وتسع ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
* * *
(سُورَةٌ)، أي: هذه السورة، (أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا)، أي: فرضنا أحكامها، ومن قرأ بالتشديد فمعناه فصلناها، أو التشديد للمبالغة، (وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ(3/104)
بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ): تتعظون، (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي)، رفعهما على الابتداء، والخبر محذوف، أي: جلدهما فيما فرض عليكم أو خبره قوله: (فَاجْلِدُوا كُلَّ(3/105)
وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)، والفاء لتضمنها معنى الشرط إذ اللام فيها بمعنى الذي، والجلد ضرب الجلد، وهذا مطلق محمول على بعض هو حر بالغ عاقل ما جامع في نكاح شرعى، فإن حكم من جامع فيه الرجم للأحاديث الصحاح، والآية الرجم المنسوخ لفظها دون معناها، وعند بعض الإسلام شرط آخر، (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ): رحمة، (فِي دِينِ اللهِ)، فتعطلوا أحكامه، أو تسامحوا فيها، (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، فإن الإيمان يقتضي الصلابة في دينه، والاجتهاد في إقامة أحكامه، (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، أي: يجلد بحضرة(3/106)
طائفة من المؤمنين أقلها أربعة أو ثلاثة أو اثنان أو واحد للشهرة، والتخجيل، فإن الفاسق يبن المؤمنين الصالحين أخجل، وعن بعض إنما ذلك لأن يدعوا الله له بالتوبة. (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ)، هو خبر، أي: الغالب أنه لا يرغب الجنس إلا إلى مثله، (وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)، لما فيه من التشبه بالفساق، والتسبب لسوء المقالة فيه، والغيبة، والشبهة في الولد، وغير ذلك من المفاسد، فللمبالغة عبر عن التنزيه بالتحريم، وقد نقل أنها نزلت في فقراء المهاجرين حين أرادوا نكاح البغايا يكرين أنفسهن لينفقن عليهن من أكسابهن كعادة الجاهلية، وعن بعض السلف نكاح العفيف البغية، وتزويج الصالحة بالفاجر فاسد حتى يتوبان، وبعض الأحاديث يؤيد قوله فالنفي بمعنى النهي، وعن بعض هذا النكاح صحيح لكنه حرام وعن بعض الآية منسوخة، (وَالَّذِينَ يرْمُون): يقذفون بالزنا، (الْمُحْصَنَاتِ): المسلمات الحرائر العاقلات البالغات العفيفات عن الزنا، (ثمَّ لَم يَأتوا): على ما رموهن به، (بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ)، يشهدون عليهن، (فَاجْلِدُوهُمْ)، أي: كل واحد من الرامين، (ثَمَانِينَ جَلْدَةً)، وتخصيص النساء لخصوص الواقعة، ولأن قذفهن أغلب وأشنع وإلا فلا فرق فيه بين الذكر والأنثى، (وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا): في أي واقعة كانت، (وأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ): عند الله، (إِلا الذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ)، أي: القذف،(3/107)
(وَأَصْلَحُوا): أعمالهم، (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، علة للاستثناء ومحل الاستثناء الجر على البدل من هم في لهم، فحاصله: اجلدوهم إذا لم يأتوا بأربعة شهداء، ولا تقبلوا أبدًا شهادتهم إلا التائبين فاقبلوهم بعد التوبة وعند من قال قوله: " وأولئك هم الفاسقون " مستأنف غير داخل في حيز جزاء الشرط، والاستثناء من (الفاسقون) يكون محله النصب، ويحكم برد شهادته بعد التوبة أيضًا، وهو مذهب بعض السلف، (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ)، إلا بمعنى غير صفة شهداء، (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ): التي تمنع الحد، (أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ): أربع مرات، (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ): فيما قذفها به، وأصله " على أنه " فحذف على وكسر إن، وعلق عنه العامل باللام تأكيدًا وقرئ بنصب أربع(3/108)
فتقديره: فالواجب أو فعليهم شهادة أحدهم وأربع منصوب على المصدر من شهادة، (وَالْخَامِسَةُ)، أي: الشهادة الخامسة، (أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ): في الرمي، وحكم لعان الرجل سقوط حد القذف وبانت منه بنفس اللعان وحرمت عليه أبدًا على الأصح ويتوجه عليها حد الزنا إلا أن تلاعن، وهو قوله، (وَيَدْرَأُ): يدفع، (عَنْهَا الْعَذَابَ): الحد، (أَنْ تَشْهَدَ)، فاعل يدرأ، (أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ): الزوج، (لَمِنَ الْكَاذِبِينَ): فيما رماني به، (وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ): الزوج (مِنَ الصَّادِقِينَ): في ذلك، ومن قرأ الخامسة بالنصب فهو عطف على أربع كأن رجل وجد على فراشه رجلاً فجاء إلى النبي صلي الله وسلم وأخبره فأراد عليه السلام أن يأمر بحده بحكم آية الرمي إذ نزلت آية اللعان فتلاعنا، (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ)، لعاجلكم بالعقوبة، وفضحكم، فجواب لولا متروك ليدل على أنه أمر عظيم لا يكتنه.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ(3/109)
بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ): هو أبلغ ما يكون من الكذب، أي: إفك عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وصفوان، (عُصْبَةٌ منكُمْ)، خبر إن، والعصبة جماعة من العشرة إلى الأربعين، ورأسهم ابن أبى بن سلول رئيس النفاق لعنه الله، (لَا تَحْسَبُوهُ)، أي: الإفك، (شَرًّا لَكُمْ)؛ الجملة مستأنفة، (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، لأنه ظهر منه البراءة لها ولجميع أزواجه، ورفعة القدر مع الثواب الجزيل، (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ): جزاء ما اكتسب، (مِنَ الْإِثْمِ): بقدر ما خاض فيه مختصًّا به، (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ): معظمه، (مِنْهُمْ)، أي: من الخائضين، وهو(3/110)
ابن أبي بدأ به وأشاعه، (لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ): الفضيحة والشهرة بالنفاق، والطرد في الدارين، (لَوْلا): هلا، (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ): حاصله هلا ظننتم خيرًا أيها المؤمنون، والمؤمنات بالذين هم كأنفسكم حين سمعتم الإفك ممن اخترعه، وقلتم بناء على ظنكم خيرًا، هذا إفك مبين، كما يقول المستيقن المطلع على الحال، فالالتفات إلى الغيبة للمبالغة في التوبيخ، والإشعار بأن الإيمان يقتضى ظن الخير بمن هو كنفسه، فإن المؤمنين كنفس واحدة، (لَولا): هلا، (جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)، أي: التفصلة بين الرمي الصادق، والكاذب شهادة الشهود الأربعة وانتفاؤها، والذين رموا حبيبة حبيب الله الطاهرة،
ولم تكن لهم بينة، فكانوا كاذبين عند الله في حكمه وشرعه، (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ(3/111)
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، جواب لولا الامتناعية قوله: (لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ): خضتم، (فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ): يستحقر في جنبه الجلد واللوم، (إِذْ)، ظرف لمسكم، أو أفضتم، (تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ): يأخذه بعض من بعض، يعني ما اكتفيتم بتهاونكم في تكذيب الرامين حتى أفشيتموه، (وَتَقُولون بِأَفْوَاهِكم): من غير روية وفكر، (مَّا لَيْسَ لَكم بِهِ عِلْمٌ): وما هو إلا قول يدور في فيكم من غير ترجمة عن علم به في القلب، (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا): سهلاً لا تَبعَةَ له، (وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ): في الوزر، (وَلَوْلا): هلا، (إِذْ سَمِعتمُوه): من المخترعين، (قُلْتُم مَّا يَكون لنا): ما ينبغي، وما يصح لنا، (أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا) قدم الظرف، وجعله فاصلاً بين لولا وفعله، لأن ذكره أهم لبيان أن الواجب عليهم [التناهي] عن التكلم به أول ما سمعوه، (سبْحَانَكَ)، أنزهك عن أن يكون لحرمة نبيك عيب يفضي إلى نقصه أو ذكره للتعجب، فإنه لفظ يذكر عند رؤية عجيب، (هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكمُ الله أَن تَعودوا)، أي: كراهة أن تعودوا أو في أن تعودوا، (لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتم مُّؤْمِنِينَ): فإن الإيمان يمنع عنه، (ويبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ): لكي تتعظوا، (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ): تنتشر، (الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ): السرائر، (وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ): فيعاقب على ما في قلوبكم من مثل محبة إفشاء الفاحشة، (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، تكريم للمنة، وتعظيم للجريمة بحذف جواب لولا ولا يخفى ما فيه من المبالغات.
* * *(3/112)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ): وساوسه وأوامره، (وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَات الشَّيْطَانِ)، فهو ضال، غاو، (فَإِنَّهُ)، الشيطان، (يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ)، ما أفرط قبحه، (وَالْمُنكَرِ): ما أنكره الشرع، (وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى): ما طهر من دنس النفس بواسطة وساوسه، (مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) فيوفقه على تهذيب الأخلاق، والتوبة الماحية دنسه، كما وفق بعض من أغواه بالإفك على التوبة وطهرهم، (وَاللهُ سَمِيعٌ(3/113)
عَلِيمٌ): بالأقوال، والنيات، (وَلَا يَأْتَلِ): لا يحلف، (أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ): في الدين، (وَالسَّعَةِ): في المال، (أَنْ يُؤْتُوا)، أي: في شأن إعطاء، (أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ)، يعني: لا يحلف على أن لا يعطيهم، ولا يتصدق عليهم، وقيل معناه لا يقصر في إعطائهم على أن يَأْتَلِ من الإلو نزلت حين حلف الصديق أن لا ينفق أبدًا على ابن خالته المسكين المهاجر مسطح، لأنه قد زلق زلقة في الافك، (وَلْيَعْفُوا): ما فرط منهم، (وَلْيَصْفَحُوا): بالإغماض عنه، (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ): بعفوكم عن الناس وصفحكم، (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ): لما سمع الصديق الآية قال: بلى أحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح نفقته، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا، (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ): العفائف، (الْغَافِلَاتِ): عما قذفن به، (الُمؤْمِنَاتِ لُعِنوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، عن بعض السلف: إن من رمى الأزواج أمهات المؤمنين، فهو ملعون، وليس له توبة، فالآية خاصة بهن والأصح أن الآية عامة مشروطة بعدم التوبة، وقد عدَّ عليه السلام قذف المحصنات من السبع الموبقات، وورد قَذْفَ الْمُحْصَنَةِ [يَهْدِمُ] عَمَلَ مِائَةِ سَنَةٍ، (يَوْمَ تَشْهَدُ)، ظرف لمتعلق لهم، (عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ): بأن أنطقهن الله من غير اختيارهم، عن ابن عباس: هذا خاص بالكفرة حين جحدوا كفرهم، وحلفوا على إيمانهم، (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ): جزاءهم، (الْحَقَّ): الواجب(3/114)
المستحق، (وَيَعْلَمُونَ): علمًا عيانيًا، (أَن الله هُوَ الحَقُّ الُمبِينُ): ذو الحق البين أى: العادل الظاهر العدل، (الْخَبِيثَاتُ): من القول أو من النساء، (لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبيثُونَ): من الرجال، (لِلْخَبِيثَاتِ)، من القول أو من النساء، (وَالطَّيِّبَاتُ): من القول أو من النساء، (لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ)، من الرجال، (لِلطَّيِّبَاتِ)، من القول أو من النساء، فما نسبوه إلى الصديقة هم أولي به، وهي أولي بالبراءة والثناء الجميل، ولا يكون أهل بيت الرسالة إلا طيبات مبرآت من الخبائث، (أوْلَئِك): عائشة، وصفوان ذكرهما بلفظ الجمع، أو أهل بيت الرسالة، (مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ)، لأنها حليلة خليل الله، طيبة لطيب، عليه وعلى آله وأزواجه شرائف الصلوات والتحيات، (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ): لذنوبهم، (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ): في الجنة.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ(3/115)
بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
* * *
(يَاَ أيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ): التي تسكنونها، (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا)، تستأذنوا، (وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا): بأن تقولوا: السلام عليكم،(3/116)
أأدخل؟ ويقول ذلك ثلاثًا، فإن أذن له دخل، وإلا رجع، وإن كان بيت أمه وبنته، (ذَلِكُمْ): الاستئذان والتسليم، (خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، أي: أنزل عليكم أو قيل لكم هذا إرادة أن تتعظوا، وتتأدبوا، (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا): في البيوت، (أَحَدًا): يأذن لكم، (فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ)، يعني: حتى يأتي من يأذن لكم أو لا تدخولها إلا بإذن مالكها، (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا): ولا تلحوا، (هُوَ): الرجوع، (أَزْكَى): أطهر وأصلح، (لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ): فيجازيكم به. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ)، حرج، (أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غيْرَ مَسْكُونَةٍ)، هذا تخصيص بعد تعميم، (فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ)، كالبيت المعد للضيف إذا أذن له فيه أول مرة، وعن بعض: المراد منها الخانات والرُّبط، وقوله: " فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ " أي: استمتاع لكم، (وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكتُمُون)، فلا تدخلوا الفساد، ولا تطلعوا على عورات، (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ)، أي: عما يحرم، (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ): عن الحرام دخل من التبعيض في النظر دون الفرج دلالة على(3/117)
أن أمر النظر أوسع وعن بعض: حفظ الفروج ههنا سترها، (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِن اللهَ خَبيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ): فكونوا على حذر منه في حركاتكم، وسكناتكم، (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ): عما يحرم عليهن النظر إليه، (وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ): عما يحرم، (وَلاَ يُبْدِينَ)، لا يظهرن، (زِينَتَهُنَّ): كالخلخال والقرط، وغيرهما، (إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا): كالخاتم والكحل، (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ)، جمع خمار وهو المقنعة، (عَلَى جُيُوبِهِنَّ)، ليسترن بذلك القرط، والأعناق والصدر، (وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهنَّ)، أي: الزينة الخفية، (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ): المؤمنات أما الكافرات فعند أكثر(3/118)
السلف أنهن كالأباعد، قال بعض السلف، الأولى أن يُسَتَّرن من العم، والخال حذرًا عن أن يصفاهن لأبنائهما، ولهذا لم يذكرهما، (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ)، أكثر السلف على أن العبيد كالآباء، والأبناء، وعن بعض: أن المراد ما ملكت من إماء المشركات فإنهن محرمات، (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ)، الإربة الحاجة، والمراد منهم من لا حاجة لهم إلى النساء، ويتبعون ليصيبوا من أفضل الطعام، أو الأحمق الغبي، أو من لا يستطيع غشيان النساء، ومن قرأ غيرَ بالنصب فعنده أنه حال أو بتقدير أعني، (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ)، وصف المفرد بالجمع، لأن المراد به الجنس، أي: أطفال لا يعرفون ما العورة، فمعنى الظهور الاطلاع أو المراد أطفال لم يبلغوا من الظهور بمعنى الغلبة، (وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ): الأرض، (لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ): من صوت الخلخال، وهذا من عادات الجاهلية، (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا): من التقصير في أوامره، ونواهيه، أو المراد توبوا عن مثل ما كنتم عليه في الجاهلية من أمر النظر، وغيره، (أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ): راجين الفلاح،(3/119)
(وَأَنْكِحوا): أيها الأولياء والسادة، (الأَيَامَى): العزب ذكرًا كان أو أنثي بكرًا أو ثيبًا، (مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ)، خص الصالحين، لأن إحصان دينهم والاعتناء بحالهم أهم وأكثر، (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)، يعني: لا يمنعكم فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة، قال تعالي: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ) قال الصديق رضى الله عنه: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغني قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ)، (وَاللهُ وَاسِعٌ): لا ينفد جوده، (عَلِيمٌ): بصلاح أحوال عباده في البسط والقبض، (وَلْيَسْتَعْففِ): ليجتهد في العفة عن الحرام، (الَّذِينَ لَا يَجِدونَ نكَاحًا)، أي: أسبابه، َ (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ): فيجدوا ما يتزوجون به، (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)، َ أي: يطلبون من مواليهم أن يكاتبوهم، ويبيعوهم منهم، (فَكَاتِبُوهُمْ)، خبر للموصول أو مفسر لفعل ناصب للموصول، والفاء لتضمن معنى الشرط، والأمر للندب عند الأكثرين، (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا)، في الحديث إن(3/120)
علمتم فيهم حرفة، ولا ترسلوهم كلابًا على الناس، أو أمانة وكسبًا، أو صدقًا وصلاحًا في الدين، (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ)، أي: اطرحوا لهم من الكتابة بعضها والأكثرون على أن طرح شيء منها واجب، والمراد أمر المسلمين بإعطائهم سهمهم من الزكاة أو بإعانتهم في أداء الكتابة، (وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ)، إماءكم، (عَلَى الْبِغَاءِ): علي الزنا، (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا)، هذا الشرط للاتعاظ يعني: ينبغي أن يحترز من تلك الرذيلة، وإن لم يكن زاجر شرعي حتى لا تكون أمته خيرًا منه، وحاصله لو كانت للأمة هذه الخصلة فما أقبح على مولاها أن يكرهها على الرذيلة، والإكراه لا يتأتى إلا مع إرادة التعفف، (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، يعني: ما يؤخذ من أجورهن نزلت حين شكت فتيات ابن أبي بن سلول عند النبي عليه السلام عن إكراههن علي الزنا، (وَمَن يكْرِههُّنَّ): على الزنا، (فَإِنَّ الله مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ): لهن، (رحِيمٌ)، والوزر على المكرِه وفي مصحف ابن مسعود لفظ لهن مكتوب، (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ)، بينت وأوضحت آي القرآن، (وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ)، أمثال من أمثال من قبلكم، وما حل بهم من مخالفتهم أوامر الله قال تعالى: (فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ)، (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)، فإنهم المنتفعون بمواعظ القرآن.
* * *(3/121)
(اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
* * *
(اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): منورهما أو مدبرهما، يقال: فلان نور قومه يهتدون به في أمورهم، أو موجدهما عن ابن مسعود " إن ربكم ليس عنده ليل،(3/122)
ولا نهار، نور العرش من نور وجهه "، قال حجة الإسلام: النور في الحقيقة اسم لكل ما هو ظاهر بذاته مظهر لغيره، والله سبحانه هو المتصف بهذه الصفة، فهو النور الحقيقي، (مَثَلُ نُورِهِ): صفة نور الله، وهداه في قلب المؤمن، وكان(3/123)
ابن مسعود يقرأ: " مثل نور الله في قلب المؤمن "، وعن بعض: الضمير للمؤمن الدال عليه سياق الكلام، وكان أبيٌّ يقرأ " مثل نور من آمن به " أو المراد من النور القرآن، أو محمد - عليه السلام - أو طاعة الله، قيل: إضافة النور إلى ضمير الله دليل على أن إطلاق النور على الله ليس على ظاهره، (كَمِشْكَاةٍ): أي صفته صفة كوة غير نافذة، أو هي موضع الفتيلة من القنديل، وعليه أكثر السلف، (فِيهَا مِصْبَاحٌ)، سراج أو فتيلة مشتعلة، فالكوة صدر المؤمن، والمصباح نور من الله في قلبه أو القرآن، (الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ): قنديل من الزجاج، (الزُّجَاجَةُ): لما فيها من النور، (كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ): مضيء متلألئ كالزهرة في صفائه منسوب إلى الدر، أو فعيل من الدر فإنه يدفع الظلام بضوئه، أو كوكب يُدْرَأ، أي: يدفع ويرمي به، والكواكب في ذلك الحين أشد استنارة من سائر الأحوال، وقلبت همزته ياء، (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ)، أي: ابتداء ثقوبه من شجرة الزيت المتكاثر نفعه، يعني رويت ذبالته بزيتها، وفي تنكير الشجرة ووصفها ثم الإبدال عنها تفخيم لشأن الزيت، (لَا شَرْقِيَّةٍ): وحدها فلا تصيبها الشمس في المساء، (وَلَا غَرْبِيَّةٍ): وحدها فلا تصيبها في الغداة، بل في مكان عليها الشمس مشرقة من أول طلوعها إلى آخر غروبها كصحراء أو رأس جبل فزيتها أضوء، وهذا نحو فلان ليس بأسود ولا أبيض، أو لا في مضحي تشرق عليها الشمس فتحرقها، ولا في مقناة تغيب عنها دائمًا فيتركها نيًا، أو لا نابتة في شرق الأرض، ولا في غربها، بل في وسطها، وهو الشام فإن زيتونه أجود أو لا في شرقية من الشجر، ولا في غربية، بل في وسط الشجر أو ليست من أشجار الدنيا، إذ لو كانت منها لكانت أحدهما، لكنه مثل ضربه الله لنوره فإن نور قلب المؤمن من نور الله، (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ): بنفسه، (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ): لفرط بريقه وضوء إشراقه،(3/124)
(نُورٌ عَلَى نُورٍ)، نوره متضاعف نوّر النار ونور ذلك الزيت، ونور القنديل، وضبط المشكاة لأشعته، (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)، يزين فؤاد عباده المؤمنين بنور من نوره، فينشرح صدورهم لمعارفه، عن ابن عباس يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدي قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدي ونورًا على هدي ونور وعن بعضهم: القرآن المصباح، والزجاجة قلب المؤمن، والمشكاة لسانه، وفمه والشجرة الوحي، يكاد حجة القرآن تتضح وإن لم يقرأ " نور على نور " نور القرآن والدلائل العقلية، ونور البصيرة، (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ) تقريبًا للأفهام وتسهيلاً لسبيل الإدراك، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ): من العقول، والمحسوس الظاهر، والخفي الكلي، والجزئي.
(فِي بُيُوتٍ)، أي: كمشكاة في بعض بيوت، وهي المساجد كأنه قيل: مثل نوره في قلبه كما ترى في المساجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت، وقيل(3/125)
متعلق بما بعده أي: يسبح في بيوت، ولفظ فيها تكرير نحو زيد في الدار جالس فيها، أو بمحذوف أي: سبحوا في بيوت، (أَذِنَ اللهُ): أمر الله، (أَنْ تُرْفَعَ)، أن يعظم قدرها فيطهرونها من الدنس، واللغو، وكل ما لا يليق فيها، (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ)، المراد من التسبيح إما الصلاة، وبالغدو الصبح، وبالآصال باقى الصلوات، لأن اسم الأصيل يجمعها أو صلاة الصبح والعصر، وإما التسبيح والتنزيه، والذكر في طرفي النهار، (رِجَالٌ)، فاعل يسبح، وعند من قرأ يسبَح بصيغة المفعول ففاعل محذوف كأنه قيل من يسبح فأجاب يسبح رجال، (لا تُلْهِيهِمْ): لا تشغلهم، (تِجَارَةٌ): معاملة رائجة، (وَلاَ بَيْعٌ عَن ذكْرِ اللهِ)، أو المراد بالتجارة الشري، فإنه أصلها ومبدأها، أو التجارة الجلب فإن من يجلب الأمتعة من بلد إلى بلد للبيع هو التاجر، (وَإِقامِ الصَلاةِ)، عطف على ذكر الله، أي: لا يشغلهم شيء عن إقامة الصلاة، (وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافونَ يَوْمًا): مع تلك الطاعات، (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)، تضطرب، وتتغير من الهول وهو يوم القيامة، (لِيَجْزِيَهُمُ)، متعلق بـ يسبح، أو لا تلهيهم، (اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا)، أي: أحسن جزاء أعمالهم، (وَيَزِيدَهُم مِن فَضْلِهِ): أشياء لم تخطر(3/126)
ببالهم، (وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَالَّذِينَ كفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ)، هو ما يرى في الفلاة وقت الظهيرة فيظن أنه ماء، (بِقِيعَةٍ)، هي. بمعنى القاع، وهو الأرض المستوية، (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ): العطشان في القيامة، (مَاءً)، فتوجه إليه، (حَتَّى إِذَا جَاءهُ): جاء السراب، (لمْ يَجِدْهُ شَيْئًا): مما ظنه، (وَوَجَدَ الله عِندَهُ): محاسبًا إياه، (فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ): جزاء عمله، (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)، لا يشغله حساب عن حساب كذلك الكافر يحسب أن عمله مغن عن عقاب الله، فإذا جاء إليه ليغنيه عند الموت في أشد أوقات الحاجة لم يجد عمله ينفعه ووجد الله عنده، أو وجد عقابه عنده، فوفاه جزاء عمله، فيجر إلى جهنم وبئس المهاد.
(أَوْ كَظُلُمَاتٍ)، عطف على كسراب وأو للتخيير أو للتنويع، فإن الأول حال رؤسائهم وعقلائهم، والثاني حال مقلديهم وجُهَّالهم، (فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ): عميق كثير الماء، (يَغْشَاهُ): يعلو البحر، (مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ): أمواج مترادفة، (مِّن فَوْقِهِ)، الضمير إلى الموج الثاني، (سَحَابٌ)، يظلمه، (ظُلُمَاتٌ)، أي: هذه ظلمات، (بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ)، وقراءة جر ظلمات على أنها بدل من(3/127)
ظلمات، (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا): لم يقرب من أن يراها فضلاً عن أن يراها والضمائر لمن في البحر لدلالة الفحوى عليه شبه أعمالهم في سوادها وظلمتها، وما في قلوبهم من الجهل والحيرة بظلمات متراكمة في غاية ما يكون بحيث لا يمكن أن يهتدي إلى النور سبيلاً، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)، هذا في مقابلة يهدي الله لنوره من يشاء، وقوله: " نور على نور ".
* * *
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
* * *(3/128)
(أَلَمْ تَرَ): ألم تعلم علمًا كالمشاهدة في اليقين، (أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، من لتغليب ذوى العقول والمراد أعم، ولكل من الجمادات أيضًا لسان به يذكرون الله يسمعه من يسمع، وقيل المراد لسان الحال، (وَالطيْرُ)، عطف على من، (صَافَّاتٍ): باسطات أجنحتهن في الهواء يسبحن بتسبيحات هو يلهمها، قيل: خصها؛ لأنها ليست في أرض ولا في سماء، (كُلٌّ): منهم، (قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ)، أي: قد علم هو صلاة نفسه كيف يصلي ويسبح أو قد علم الله صلاته، وتسبيحه لا يخفي عليه، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ وَللهِ مُلْك السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللهِ المَصيِرُ): مرجع الكل إليه، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ)، يسوقه ثم يجمع بين قطعه، وأجزاءه، ويضم بعضه إلى بعض، (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامً): متراكمًا بعضه فوق بعض، (فتَرَى الوَدْقَ): المطر، (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ): فُرجِه وفُتوقه، (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ)، أي: ينزل مبتدًأ من السماء من جبال فيها من برد بردًا، فيكون من برد بيان للجبال، والمفعول محذوف، أو من الثالثة للتبعيض وهو المفعول، وعن بعض(3/129)
السلف إن في السماء جبال برد ينزل الله منه البرد، أو معناه ينزل الله من جانب السماء من قطع عظام من الغيم يشبه الجبال بعض برد، (فَيُصِيبُ بِهِ): بالبرد، (مَن يَشَاءُ): أن يصيبه، (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ): أن يصرفه عنه، (يَكَادُ سَنَا): ضوء، (بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ): من فرط الإضاءة، فهو الله سبحانه مخرج الماء والنار، والظلمة، والنور من شيء واحد، (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ): يصرفهما في اختلافهما، وتعاقبهما، (إِنَّ فِي ذَلِكَ)، المذكورات، (لَعِبْرَةً): دلالة، (لِأُولِي الْأَبْصَارِ): لذوي العقول، (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ)، وهو النطفة، (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ)، كالحية: قدَّمه، لأنه أدخل في القدرة وأغرب، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ)، كالإنسان والطير، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ)، كالنعم جعل الدواب وهي ما يدب في الأرض كلها مميزين تغليبًا للعقلاء، فلذلك قال: (فمنهم من) إلخ ... ، وعن بعض: أن الماء أول مخلوق، والريح والنار والطين خلق منه، (يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ): أن يخلقه، (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ): لكمال قدرتنا، (وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ). هدايته، (إِلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ)، فيبصره آياته، ويعلمه الكتاب والحكمة، (وَيَقُولوُنَ): الذين مع محمد - صلي الله عليه وسلم -،(3/130)
(آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا): لهما، (ثُمَّ يَتَوَلَّى): يعرض عن قبول حكم الله ورسوله، (فَرِيقٌ منْهُم): كالمنافقين، (مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ): القول، والاعتراف، (وَمَا أُوْلَئِكَ): الفريق، (بِالْمُؤْمِنِينَ)، أو ما أُوْلَئِكَ الذين يقولون آمنا وأطعنا مجموعهم بمؤمنين، بل فيهم كافرون، (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُم بَيْنَهُم): الحاكم نبي الله عليه السلام يحكم بحكم الله، (إِذَا فَرِيقٌ منْهُم مُّعْرِضون): فاجئوا الإعراض لعلمهم أنه لا يحكم إلا بالحق، وهم يريدون الباطل إن كان الحق عليهم، (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ): لا عليهم، (يَأْتُوا إِلَيْهِ): إلى رسول الله، (مُذْعِنِينَ): منقادين قيل نزلت في منافق، ويهودي، وهو يجره إلى النبي - عليه السلام -، والمنافق يجره إلى كعب بن الأشرف ليحكم بينهما، (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ): كفر ونفاق، وقيل جنون، (أَمِ ارْتَابُوا): في نبوتك، (أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسولُهُ): في الحكومة، (بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ(3/131)
الظَّالِمُونَ)، أي: لا يرتابون، ولا يخافون لعلمهم بنبوتك، وبأن الله لا يظلم وإنما هم يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم أو معناه لا يظلم، ولا يحيف الله لأحد؛ بل هم الظالون لأنفسهم.
* * *
(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
* * *(3/132)
(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ)، سواء كان الحق لهم أو عليهم، (أَن يَقُولُوا)، اسم كان، (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ): فيما ساءه وسره، (وَيَخْشَ الله): على ما مضى من ذنوبه، (ويَتَّقْهِ): فيما بقي من عمره في بعض اللغات إذ أسقط الياء للجزم يسكنون ما قبلها فيقال: لم أشتر طعامًا، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ): بوفق، بل فوق بغيتهم، (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ): قسمًا غليظاً، (لَئِنْ(3/133)
أَمَرْتَهُمْ): بالخروج إلى الغزو، (لَيَخْرُجُنَّ)، جواب لأقسموا، (قُل): لهم، (لا تُقْسِمُوا): على الكذب، (طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ)، أي: طاعتكم طاعة مشهورة معلومة بأنها قول لا فعل معه، أو الذي يطلب منكم طاعة معروفة لا إيمان بمجرد الأفواه أو طاعة معروفة أولى وأمثل من هذا الإيمان، (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون): فلا يخفي عليه سرائركم، (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا): تتولوا عن الطاعة، (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ): على محمد: (مَا حُمِّلَ): من تبليغ الرسالة، فإذا أدى خرج عن عهدته، (وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ): من القبول فإن أعرضتم فقد تعرضتم لسخط الله، (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا): إلى الحق، (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ): التبيلغ الموضح فضرر عدم القبول ليس إلا لكم، (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ): ليجعلهم خلفاء متصرفين في الأرض لما كان الوعد من الله في تحققه كالقسم تُلُقي بما يُتَلَقّى به القسم أو تقديره وعد الله الذين آمنوا وأقسم ليستخلفنهم، (كَمَا اسْتَخْلَفَ الذِينَ مِن قَبْلِهِمْ)، داود وسليمان، وغيرهما أو بني إسرائيل أهلك القبط، وأورثهم أرضهم، (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ): تمكينه تثبيته وإحكامه، (الَّذِي ارْتَضَى)،(3/134)
اختار، (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ): من الأعداء، (أَمْنًا)، منهم نزلت حين قالوا: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون، ما يأتي علينا يوم نضع السلاح، (يَعْبُدُونَنِي)، استئناف كأنه قيل: لم يستخلفون، ويؤمنون، فقال: " يَعْبُدُونَنِي " أو حال أي: وعدهم ذلك في حال عبادتهم، (لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)، حال من فاعل يعبد، (وَمَن كَفَرَ): هذه النعمة، (بَعْدَ ذَلِكَ): بعد حصول الخلافة والأمن أو كفر بمعنى ارتد، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ): الكاملون في الفسق، (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ): فيما أمر ونهي، (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ): راجين رحمة الله، (لاَ تَحْسَبَنَّ): يا محمد، (الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ): الله عن إهلاكهم، (في الْأَرْضِ)، وفي قراءة بالغيبة، والذين فاعله، ومعجزين في الأرض مفعولاه، أي: لا يحسبن الكفار في الأرض أحدًا يعجز الله حتي يطمعوا في مثل ذلك، (وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ)، حال أي: لا ينبغي هذا الحسبان، وقد أعد لهم النار، (وَلَبِئْسَ المَصِيرُ)، النار.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ(3/135)
جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ): من العبيد والإماء نزلت لما دخل غلام أسماء بنت أبى مرثد عليها في وقت كرهته، أو لما(3/136)
دخل على عمر غلام وقت الظهيرة وهو نائم منكشف عنه ثوبه، قيل هذا رجوع إلى تتمة الأحكام السابقة بعد الفراغ عن الآيات الدالة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيره، ووعدٍ عليها ووعيد على الإعراض عنها، (وَالذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنكُمْ): من الأحرار، (ثَلاثَ مَرَّاتٍ): في اليوم والليلة، (مّن قَبْلِ صَلاةِ الفَجْرِ)، بدل من ثلاث مرات، أو تقديره هي من قبل صلاة الفجر، (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم): لأجل القيلولة، (مِّنَ الظهِيرَة)، بيان للحين، (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ العِشَاءِ): الآخرة، (ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُم)، أي: هذه الأوقات ثلاث أوقات عورات سمى هذه الأوقات عورات، لأن الناس يختل فيها تسترهم، والعورة الخلل، وقراءة نصب ثلاث بالبدلية من ثلاث مرات، (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ): في ترك الاستئذان، (بَعْدَهُنَّ)، بعد هذه الأوقات والآية السابقة في الأحرار البالغين، وهذه في المماليك والصبيان، (طَوَّافون)، أي: هم طوافون، (عَلَيْكُم)، استئناف يبين العذر في ترك الاستئذان في غير تلك الأوقات، (بَعْضُكُمْ): طائف، (عَلَى بَعْضٍ)، أو تقديره يطوف بعضكم على بعض فيكثرون التردد لحوائجكم، فيغتفر فيهم ما لا يغتفر في غيرهم، (كَذَلِكَ): مثل ذلك التبيين، (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ): بأحوالكم، (حَكِيمٌ):(3/137)
فيما أمركم، (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ)، أي: ذلك الأطفال الذين يستأذنون في ثلاث أوقات، (فَلْيَسْتَأْذِنُوا): في جميع أوقات الدخول، (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ): بلغوا الحلم، (مِن قَبْلِهِمْ)، وهم الرجال الأحرار، (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، كرره تأكيدًا في الأمر بالاستئذان، وعن كثير من السلف إذا بلغ الغلام الحلم فليستأذن على أبويه في جميع الأحوال، (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ): العجائز اللاتي قعدن عن الحيض، (اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا): لا يطمعن فيه لكبرهن، (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ): الثياب الظاهرة كالجلباب يعني ليس على العجائز من التستر ما على غيرها من النساء، (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ): مظهرات، (بِزِينَةٍ)، أمر بإخفائها أو غير قاصدات بوضع الثياب تبرج الزينة، (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ): فلا يضعن الجلباب أيضًا، (خَيْرٌ لهُنَّ): لأنه أبعد من التهمة، (وَالله سَمِيعٌ): لمقالهن للرجال، (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ): بمقاصدهن، (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ)، كان المؤمنون إذا دخل عليهم الأعمى وغيره وليس في بيوتهم شيء يضيفونه يذهبون به إلى بيت أحد من هؤلاء المذكورين في الآية،(3/138)
فيأكل هو وضيفه من بيوتهم، فخافوا أن يكون أكلاً بغير حق، ويلحقهم إثم لقوله تعالى: " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل "، فنزلت، أي: ليس على الضعفاء، ولا على أنفسكم حرج في ذلك أو كانوا يخرجون إلى الغزو ويدفعون مفاتيح أبوابهم إلى هؤلاء القاعدين، ويأذنون أن يأكلوا من بيوتهم، وهم يتحرجون، ولا يأكلون فنزلت رخصة لهم، ولغيرهم أن يأكلوا من بيوت هؤلاء أو كان هولاء المرضى من الأعمي، وغيره يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء، فنزلت، أو معناه ليس على الأعمى والأعرج، والمريض حرج في القعود عن الغزو، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت، وقوله: (أن تأكلوا من بيوتكم)، أي: التي فيها أزواجكم، وعيالكم، وعن بعض المفسرين: ذكره ليعطف عليه الباقى ليعلم أن بيوت الأقارب كبيت نفسه، فلا يحترز عنها بوجه، (أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ)، عطف على ما بعد من أي: أن تأكلوا عما في يده وتصرفه وملك المفاتح كناية عن ذلك (كالناطور) جاز له أن يأكل من البستان، والراعي من لبن الغنم، والمأذون مما في بيت بيده مفاتحه، أو عطف على ما يضاف البيوت إليه أي: بيوت الذين ملكتم مفاتحهم وهم المماليك، (أَوْ صَدِيقِكُمْ)، أو بيوت(3/139)
صديقكم، وهو يقع على الواحد، والجمع وهذا كله إذا علم رضي صاحب المال وإن كان بقرينة، (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا): مجتمعين، (أَوْ أَشْتَاتًا): متفرقين، كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده فرخصهم في ذلك أو كان الغني يطلب فقيرًا من قرابته ليأكل معه، فيقول: والله لأتحرج أن آكل معك وإني فقير وأنت غني، أو كانوا إذا نزل بهم ضيف يتحرجون أن لا يأكلوا إلا معه، (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا): من هذه البيوت لتأكلوا، (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ): على أهل الذي هو منكم دينًا وقرابة، أو إذا دخلتم بيوت أنفسكم فسلموا على أهل بيتكم، أو إذا دخلتم بيوتًا خالية فقولوا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ): ثابتة بأمره من عنده نصب على المصدر، لأنها بمعنى التسليم، ويجوز(3/140)
أن يكون معناه قولوا سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، (مُبَارَكَةً): يرجى بها زيادة الخير، (طَيِّبَةً): تطيب بها نفس المستمع، (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ): الحق والخير.
* * *
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
* * *
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ): من صميم القلب، (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ): مع الرسول عطف على آمنوا، (عَلَى أَمْرٍ جَامِع): كالحروب، والجمعة، والمشورة، (لَمْ يَذْهَبُوا): عن محضره، (حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)، حذف قوله: " ويأذن لهم "، لأنه كالمستغنى عنه، وكانت الصحابة إذا أرادوا أن يخرجوا من المسجد لحاجة،(3/141)
وهو عليه السلام في المنبر لم يخرجوا حتى يقوموا بحياله فيأذن فيخرج، (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ): إيمانًا صدقًا، (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ): مهامهم، (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ): فالأمر مفوض إليك، (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ): فإن الذهاب عن مجلسك ربما يكون زللاً لهم، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ): لفرطات العباد، (رَحِيمٌ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا): لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضًا، فقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله لا: يا محمد يا أبا القاسم، أو احذروا دعاءه عليكم إذا أسخطتموه، فإن دعاءه موجب ليس كدعاء بعضكم على بعض، (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ)، أي: [ينسلون]، (مِنْكُمْ): قليلاً قليلاً، ويخرجون، (لِوَاذًا): ملاوذين مستترين بعضهم ببعض للخروج أو يلوذ بمن يؤذن، فينطلق معه كأنه تابعه من لاذ يلوذ، وكأن هذا ديدن المنافقين يهربون بأي وجه يمكن لهم من محضر حضرة النبوة صلوات الله وسلامه عليه (فَلْيَحْذَرِ الذِينَ يُخَالِفونَ): معرضين، (عَنْ(3/142)
أَمْرِهِ): منصرفين عنه بغير إذنه مخالفين أمره، (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ): في الدنيا، (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ): في الآخرة، (أَلاَ إِن لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): ملكاَّ وَخلقًا، (قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ)، من النفاق والإخلاص أكد علمه بـ قد لتأكيد الوعيد يعني من خَلَقَ جميع الخلقِ وملكهم كيف يخفى عليه أحوال المنافقين، وإن اجتهدوا في الإخفاء، (وَيَوْمَ يُرْجَعُون)، المنافقون: (إِليهِ): للجزاء، ويوم ظرف لقوله (فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا): بالمجازات، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
* * *(3/143)
سورة الفرقان مكية
وهى سبع وسبعون آية وست ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
* * *
(تَبَارَكَ) تكاثر خيره، أو تزايد عن كل شيء وتعاظم، أو ثبت ودام، (الَّذِي نَزَّلَ)، منجمًا لا جملة واحدة، (الْفُرْقَانَ)، سمي القرآن به لأنه فارق بين الحق(3/144)
والباطل، (عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُون)، العبد أو الفرقان، (لِلْعَالَمِينَ)،: الإنس والجن، (نَذِيرًا)،: منذرًا مخوفًا، أو بمعنى الإنذار كالنكير، (الَّذِي لَهُ مُلْك السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، بدل من الذي أو رفع أو نصب على المدح، (وَلَم يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شرِيكٌ فِي الُملْكِ)،: في ملكه وسلطانه، (وَخَلَقَ كُل شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)، أي: أحدث كل شيء له، الكون مراعى فيه التسوية، فهيأه لما أراد منه كما سوى الإنسان من مواد وصور مخصوصة، ثم هيأه للإدراك، ومزاولة الأعمال الغريبة، أو فقدره للبقاء إلى أمد معلوم، (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا): عاجزين، (وَهُمْ يُخْلَقُونَ): فإن عبدتهم ينحتونهم، (وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا) أي: دفعه، (وَلاَ نَفْعًا) أي: جلبه، (وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً)، إماتة أحد (وَلاَ حَيَاةً): إحياءه (وَلَا نُشُورًا): بعثه ثانيًا فكيف يستحقون الألوهية، وهم متصفون بصفات تنافيها، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن هَذَا): ما القرآن، (إِلا إِفْكٌ) كذب (افتَرَاهُ)، يعنون رسول الله (وَأَعَانَه عَلَيْهِ قَومٌ آخَرُونَ)،: اليهود (فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا): بجعل كلام الله إفكاً، (وَزُورًا)، بنسبة رسوله إلى ما هو بريء منه، وجاءوا بمعنى فعلوا أو نصب ظلمًا(3/145)
بحذف الجار، (وَقَالُوا أَسَاطيرُ الأَولِينَ): ما سطره المتقدمون (اكْتَتَبَهَا) استكتبها (فَهِيَ)، الأساطير، (تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)، ليحفظها فإنه أُمي لا يقدر أن يقرأ من الكتاب، (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، ولذلك ترى القرآن مملوءًا من المغيبات، (إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)، ولولا رحمته لاستأصلهم، وما أمهلهم، (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ)، أي: من يدعي الرسالة، (يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ): لا مَلَكٌ ولا مَلِكٌ، (لَوْلا) هلا، (أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ): الملَك، (مَعَهُ نَذِيرًا): منذرًا هو خبر كان، ومعه حال أو بالعكس، أو مع متعلق بـ نَذِيرًا، أي: يشاركه في النبوة، (أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا): حاصله إن لم يكن ملَكًا، ولا ملِكًا، فلا أقل من أن يكون معه ملك أو يكون صاحب كنز وثروة، وأقلها أن يكون رجلاً له بستان كما للدهاقين، (وَقَالَ الظَّالِمُونَ) أي: قالوا لظلمهم (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا): سحر فغلب على عقله، (انظُرْ) يا محمد، (كَيْف ضَربوا لَكَ الأَمثالَ): من مسحور، ومحتاج، وغير ذلك، (فَضَلُّوا): عن الحق، (فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً): إليه.
* * *
(تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ(3/146)
سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
* * *
(تَبَارَكَ)،: تكاثر خير، (الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا) أي: إن أراد وهب لك في الدنيا خيرًا مما قالوه، وهو أن يعجل لك مثل ما وعدك من الجنات، والقصور، ونصب جنات على البدلية من خير، أو الجزم والرفع في يجعل لأن الشرط إذا كان ماضيًا ففي جزائه الجزم والرفع، (بَلْ كَذَّبوا بِالسَّاعَةِ) وهو أعجب وأغرب من تكذيبهم إياك، أو لهذا كذبوك يعني: تكذيب القيامة حملهم على هذه الأقوال، (وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا): نارًا شديدة الاشتعال، (إِذَا رَأَتْهُم) أي: السعير، (من مَّكَانٍ بَعِيدٍ): أقصى ما يمكن أن يرى منه، (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا): صوت تغيظ وتغضب، والزفير صوت يسمع من جوف المغتاظ في حين شدته وعدم(3/147)
تجويز الرؤية على النار من قلة البصارة، وقد ورد " من يقل عليَّ ما لم أقل فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدًا، قيل: وهل لها عينان؟! قال: أما سمعتم الله يقول: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) الآية، (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا): منها بيان تقدم فصار حالاً، (ضَيِّقًا): لمزيد العذاب، وفي الحديث " والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط "، (مُقَرَّنِينَ): قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل، ْ (دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا): هلاكًا يقولون: يا ثبوراه تعال فهذا حينك، (لاَ تَدْعُوا) أي: يقال لهم لا تدعوا، (الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا)، فإن الخطب أعظم مما حسبتموه، (قُلْ أَذَلِكَ): ما وصفنا من أنواع العذاب، (خَيرٌ أَمْ جَنَّةُ الخُلْدِ الَتِي وُعِدَ)، أي: وعدها، (الُمتَّقُونَ)، وفي ذلك تقريع مع تهكم، (كَانَتْ): الجنة في علم الله، (لَهُمْ)، أو لأن ما وعد الله كالواقع، (جَزَاءً)،: على أعمالهم بالوعد، (وَمَصِيرًا)،: مرجعًا ينقلبون إليه أما غير المتقين من المؤمنين كالتبع لهم أو المراد من المتقين من يتقي الكفر، والتكذيب، ولهم إما حال أو متعلق بجزاء، (لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ): ما يشاءونه،(3/148)
(عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا): موعودًا، (مَسْئُولًا): عن بعض السلف يقول المؤمنون: يا رب عملنا بما أمرتنا فأنجز لنا ما وعدتنا، وذلك قوله وعدًا مسئولاً، وعن بعض الملائكة تسأل لهم ذلك قال تعالى (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) [غافر: 8]، (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ): المراد ذوو العقول كالملائكة وعيسى واستعمال ما لأنه في الأصل أعم، أو لأنه أريد بالوصف، أي: معبوديهم أو لإجرائهم مجرى غير ذوى العقول، تحقيرًا لشأنهم لقصورهم عن معنى الربوبية أو المراد أعم، وينطق الله الأصنام، (فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ): من غير دعوة منكم، وحذف الجار للمبالغة، أي: عن السبيل، وهذا السؤال لتقريع العبدة وتبكيتهم، (قَالوا سبحانَكَ): تعجب منهم مما قيل لهم، أو سبحانك من أن يكون لك ندّ، (مَا كَانَ يَنْبَغِي): ما يصح ويستقيم، (لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ) أي: نحن لا نعبد إلا أنت، فكيف ندعو أحدًا أن يتولى غيرك؟ قيل: أرادوا من ضمير المتكلم جميع الخلائق، (وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ): في الدنيا بالنعم، (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) أي: نسوا ما أنزلته إليهم أو غفلوا عن ذكرك، (وَكَانُوا): في علمك، (قَوْمًا بُورًا)،: هالكين أشقياء راعوا الأدب، وما قالوا: أنت أضللتهم صريحًا، لأن المقام غير مقام البسط كما قال موسى في مقام الانبساط: (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) [الأعراف: 155].(3/149)
(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) التفات، أي: قال الله لهم فقد كذبكم المعبودون، (بِمَا تقولُون): في قولكم: إنهم آلهة أو هؤلاء أضلونا، فالباء بمعنى في أو بما تقولون بدل اشتمال من مفعول كذبوا كـ كذبوا بالحق، وفي قراءة " يقولون " بالياء فمعناه كذبوكم بقولهم: " سبحانك ما كان ينبغي " إلخ، (فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا): للعذاب عنكم، (وَلَا نَصْرًا) وقراءة التاء فمعناه، فما تستطيعون أيها العابدون صرف العذاب عن أنفسكم ولا نصر أنفسكم، (وَمَنْ يَظْلِمْ)، يشرك، (مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا): رسلاً، (إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ)، ما بعد إلا صفة أقيمت مقام موصوفها، وهذا جواب قولهم: (ما لهذا الرسول) الآية، (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ): أيها الناس، (لِبَعْضٍ فِتْنَةً): ابتلاء، وامتحانًا كابتلاء المرسلين بالمرسل إليهم، والفقراء بالأغنياء، (أَتَصْبِرُونَ)، علة للجعل أي: لنعلم أيكم يصبر كقوله تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) [هود: 7، الملك: 2]، وقيل: حث على الصبر على ما افتتنوا به (وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا)، عالمًا بالصواب فيما يبتلي به وغيره، فلا يضيقن صدرك، أو بمن يصبر.
* * *(3/150)
(وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
* * *
(وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا)، لا يخافون البعث، أو لا يأملون لقاءنا بالخير، (لَوْلا)،: هلا، (أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلاِئكَةُ)،: فتخبرنا بصدق محمد، (أَوْ نَرَى رَبَّنَا)، فيخبرنا بذلك، (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ): حتي تمنوا ما لم يحصل للرسل، اللام توطئة القسم، (وَعَتَوْا)،: تجاوزوا الحد في الظلم، (عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ)، أي: اذكر يوم، (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ): عند الموت، أو في القيامة، (لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ للْمُجْرِمِينَ)، أي: لهم، لأنَّهُم مجرمون يتحلى الملائكة للمؤمنين(3/151)
فتبشرهم حين الموت وفي القيامة بالرحمة والرضوان، وللكافرين فتبشرهم بالخيبة والخسران، (وَيَقُولُونَ) أي: الملائكة لهم (حِجْرًا مَحْجُورًا): حرامًا محرَّمًا عليكم الجنة والرحمة، أو البشري، فالجملة حال من الملائكة، أي: وهم يقولون أو يقول المجرمون عند لقاء الملائكة هذه الكلمة، وهي من المصادر المتروك فعلها، ومن الكلمات التي تتكلم بها العرب عند لقاء العدو، وهجوم النازلة في موضع الاستعاذة يعني أنَّهم يطلبون نزول الملائكة، وهم إذا رأوهم كرهوا واستعاذوا، وقوله: محجورًا كموت مائت للتأكيد، (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَل)، أي: قصدنا وعمدنا إلى أعمال عملها الكفار من المكارم كقرى ضيف، وإغاثة ملهوف، (فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا): أحبطناه، لأنها لم تكن خالصًا موافقًا للشريعة، والهباء غبار يرى في شعاع الشمس يطلع من الكوة شبه عملهم بالغبار في الحقارة وعدم النفع، ثم بالمنثور منه في انتشاره وتفرقه، ومنثورًا إما صفة هباء أو مفعول ثالث من حيث إنه كالخبر بعد الخبر، (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا): موضع قرار، (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً): مكان استراحة، وعن بعض السلف يفرغ الله من الحساب نصف النهار، فيقيل أهل الجنة في مناظر حسان، وروح، وريحان منها،(3/152)
(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ)، أي: تتشقق، (السَّمَاءُ بالْغَمَامِ)، أي: بسبب طلوع الغمام، وقيل بالباء بمعنى عن، (وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ)، في ذلك الغمام، (تَنْزِيلًا)، يعني: تتفتح السماء بغمام يخرج منها، وفي الغمام ملائكة ينزلون، فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر، (الُملْكُ يَوْمَئِد الحَقُّ لِلرَّحْمَنِ)، الحَقُّ خبر ولِلرَّحْمَنِ متعلق به، أي: الملك ثابت له لا يبقى لغيره، أو صفة للملك، وللرحمن خبره، (وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا)، شديدًا ومع طوله وشدته يخفف على بعض من المؤمنين، حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا، (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ)، عض اليدين والأنامل وأمثاله كنايات عن كمال الحسرة والغيظ، وهذا عام، وإن كان مورده في عقبة بن أبي معيط لما ارتد لأجل خاطر أبي بن خلف، (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا): إلى الهدى، والنجاة، (يَا وَيلَتَى)، تعالي فهذا أوانك، (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا)، أي: من أضله، والفلان كناية عن الأعلام، (خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ): عن القرآن أو عن ذكر الله، (بَعدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ)، كل من صدك عن الحق فهو شيطانك، (لِلإِنسَانِ خَذُولاً)، تاركه لا نافعه عند البلاء، وقوله: " كان الشيطان "، إما من تتمة كلام(3/153)
الكافر، وإما من كلام الله سبحانه من غير حكاية، (وَقَالَ الرسولُ)، محمد عليه السلام يومئذ، أو في الدنيا، (يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي): قريشًا، (اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)، متروكًا أعرضوا عنه ولم يؤمنوا به، أو بمنزلة الهجر والهذيان، فالمهجور بمعنى الهجر كالمجلود، وفيه تخويف لقومه، وتسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا): يحتمل الواحد، والجمع، (مِنَ الْمُجْرِمِينَ): الذين يهجرون شرائعهم فاصبر كما صبروا، (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا): إلى اتباعك وإن كان قومك يصدون الناس عنك، (وَنَصِيرًا) لك عليهم فلا تبال بمن يعاديك، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً) كالتوراة والإنجيل، ونزل بمعنى أنزل كخبَّر وإلا يكون متدافعًا، وهذا من مماراتهم التي لا طائل تحتها، (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ)،: هذا من الله تعالى جواب لهم، أي أنزلناه كذلك مفرقًا لنقوي بتفريقه فؤادك لتعيه، وتحفظه شيئًا بعد شيء، ولا يعسر عليك حفظه، لأنك أُمي بخلاف سائر الأنبياء، فإنَّهم ممكنون من القراءة والْكِتَابة، ولأنه كلما أنزل عليك وحي من ربك يزداد لك قوة إلى قوة، وللأعداء كسرًا على كسر، (وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا): وبيناه تبيينًا على مهل بحسب الوقائع، عطف على فعل مقدر ناصب لكذلك، (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ): بشيء عجيب في القدح فِي القرآن، وفيك، (إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ): الذي يرد ما جاءوا به من المثل، (وَأَحْسَنَ(3/154)
تَفْسِيرًا): بيانًا وكشفًا في جواب اعتراضهم، وهذا أيضًا من علل جهة إنزاله مفرقًا، (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ): مرفوع بالذم أو بدل من ضمير يأتونك، أو مبتدأ خبره أولئك وعلى أي وجه ففيه بيان أنَّهم يضربون لك الأمثال، ويحقرونك، ولا يدرون أنَّهم على تلك الفضيحة، وفي الصحيح أن رجلاً قال: يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه؟ فقال: " إن من أمشاه على رجليه قادر أن يمشيه على جهه يوم القيامة "، (أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا): منزلاً أو منزلة، (وَأَضَلُّ سَبِيلًا)، نسب الضلال إلى السبيل، وهو لهم فيها للمبالغة مجازًا.
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ(3/155)
آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
* * *
(وَلَقَدْ آتيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ)،: الألواح أو معنى آتينا أردنا إيتاءه، أو المراد من الكتاب ما يستلزمه وهو الرسالة، لأن التوراة ما كان إلا بعد هلاك فرعون كما مر في سورة الأعراف لما سلى رسوله بقوله (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) شرع يبين أعداءهم مجملاً ومفصلاً، (وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا)،: معينًا يعاونه في أمر النبوة، (فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) فإن قوم فرعون لما أشركوا بالله كذبوا بما جاء به الأنبياء من قبلهم، (فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا)، أي: فذهبا فكذبوهما فاستأصلناهم، اختصر القصة فذكر مجملها، لأن المقصود إلزام الحجة ببعثة الرسل أو استحقاق الهلاكة بالتكذيب، (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ)،: نوحًا ومن قبله أو لأن من كذب رسولاً فقد كذب الرسل، لأن بعضهم يصدق بعضًا (أَغرَقنَاهُمْ)،: بالطوفان، (وَجَعَلْنَاهُمْ)، إغراقهم أو قصتهم، (لِلنَّاسِ آيَةً)، عبرة، (وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ): سوى عذاب الدنيا، (عَذَابًا أَلِيمًا وَعَادًا وَثَمُودًا): عطف على قوم نوح، وناصبه محذوف، أي: لما فعلوا مثل ما فعل المذكورون عذبناهم كما فعلنا بهم، أو عطف على هم في جعلناهم على أن يكون وجعلناهم عطفًا على مجموع الشرط والجزاء، (وَأَصْحَابَ الرَّسِّ)، اختلف فيهم(3/156)
فمن قائل عباد الأصنام كانوا حول بئر فخسف بهم، والرس البئر الغير المطوية، أو قوم دفنوا ودسوا نبيهم في بئر أو أصحاب [يس]، أو أصحاب الأخدود، أو قرى من اليمامة، (وَقُرُونًا)، أهل أعصار، (بَيْنَ ذَلِكَ): الذين ذكرناهم، (كَثِيرًا وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ)،: في إقامة الحجة عليهم وأنذرناهم من وقائع أسلافهم فلم يعتبروا، نصب (كُلًّا) بما دل عليه ضربنا إلخ مثل أنذرنا، (وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا)، أي: كسرناهم وفتتناهم، (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ)، أي: مر قريش في طريق الشام بقرى قوم لوط التي أمطرت عليها الحجارة، (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا)، فيتعظوا بما يرون من آثار العذاب مع أنَّهم مروا عليها مراراَّ، (بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا): لا يخافونه أو لا يأملونه فلهذا لم يعتبروا (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا): مهزوءاَّ بَه أو موضع هزء، (أَهَذَا الَّذِي)، أي: يقولون أهذا الذي، والإشارة للاستحقار، (بَعَثَ اللهُ رَسُولًا)،: قالوه تهكمًا، (إِنْ كَادَ)، مخففة من المثقلة، (لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا): شارفنا أن نترك ديننا لفرط اجتهاده في تقوية دينه وإبطال دين غيره، ويصرفنا عن عبادتها، (لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا): استمسكنا بعبادتها وثبتنا عليها، وجوابه ما دل عليه قبله، (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا): جواب عن قولهم إن كاد ليضلنا،(3/157)
لأنهم نسبوه إلى الضلال، وفيه وعيد بأنه لا يهملهم وإن أمهلهم، (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)، الاستفهام للتعجيب، فإن دينهم ما تهوى أنفسهم، وهم كانوا يعبدون حجرًا وإذا رأوا حجرًا أحسن منه [تركوا] الأول، (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا): حفيظاً فلا تذهب نفسك عليهم حسرات أو ما أنت عليهم بوكيل فتمنعهم عن اتباع الهوى فالآية منسوخة، (أَمْ تَحْسَبُ)،: بل أتحسب، (أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ)، فيسمعوا أو يعقلوا الحق خص الأكثر، لأن فيهم من عقل وآمن، أو ما آمن استكبارًا، (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)، فإنها تنقاد لمن يتعهدها وتعرف المحسن إليه ممن يسيء، وتجتنب المضار وما لها إضلال، وإن كان لها ضلال.
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)(3/158)
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
* * *
(أَلَمْ تَرَ)،: تنظر، (إِلَى ربِّكَ)،: إلى صنعه، (كيْفَ مَدَّ الظّل)، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس جعله ممدودًا؛ لأنه ظل لا شمس معه، قال تعالى: " وظل ممدود " [الواقعة: 30]؛ (وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا)،: ثابتاً دائمًا لا يزيله الشمس، (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا)، فإنه لو لم تكن لما عرف الظل، فإن الأشياء تعرف بأضدادها، أو جعلنا مستتبعة عليه تتلوه، وتتبعه كما يستتبع الدليل المدلول وثم لبيان أن هذا أعظم من الأول، (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا)، أزلنا الظل قبضًا على مهل أو سهلاً أو سريعًا بأن أوقعنا موقعه الشمس، وفيه من المنافع ما لا تحصى والقبض في مقابلة المد، وثم هنا أيضًا لبيان أن الثالث أعظم من الأولين،(3/159)
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليْلَ لِبَاسًا)،: شبه الظلام في ستره باللباس، (وَالنَّوْمَ سُبَاتاً)، راحة، (وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا)، بعثنا من أخ الموت، أو ذا نشور ينتشر فيه الخلق لمعايشهم وأسبابهم، (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا): مبشرات وقرئ نشرًا، أي: ناشرات للسحاب، (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ): قدام المطر، قد مر تفصيل معناه، وقراءته في سورة الأعراف، (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا)، هو اسم لما يتطهر به كالسحور، عن بعض أن المطر منه ما ينزل من السماء، وكل قطرة منه في البر بر وفي البحر در يعني: لا يمكن أن لا يكون له فوائد، ومنه ما يسقيه الغيم من البحر، فَيَعْذِبُهُ الرعد والبرق، (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا)، وصفها بمذكر لمعنى الموضع والبلد، (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ)،: جمع إنسي أو إنسان، (كَثِيرًا): فإن بعضهم أهل مدن لا يحتاجون غاية الاحتياج إلى المطر، وخص الأنعام من الحيوانات لأنه في معرض تعداد النعم، والأنعام ذخيرة الإنسان متعلقة بهم، (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ)، المطر، (بَيْنَهُمْ)، مرة ببلد، ومرة بأخرى، وعن ابن مسعود مرفوعًا أن ليس من سنة بأمطر من أخرى، ولكن الله قسم هذه الأرزاق، فإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله إلى غيرهم فإذا عصوا جميعًا فإلى البحار والفيافي،(3/160)
(لِيَذَّكَّرُوا)، ليعتبروا بالصرف عنهم وإليهم، (فَأَبَى أَكثَرُ النَّاسِ إِلا كفورًا): كفران النعمة أو جحودًا فإنهم قالوا مطرنا بنوء كذا، (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا): نبيًا ينذرهم ليسهل عليك أعباء النبوة، ولكن ما فعلنا تعظيمًا لأجرك، (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ): فيما يريدونك عليه، وهذا [تيهيج] له ولأمته، (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ) بالقران، (جِهَادًا كَبِيرًا): لا يخالطه فتور بأن تلزمهم بالحجج والآيات أو بما يأمرك القرآن وما علمت منه، (وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ البَحْرَيْنِ): أرسلهما في مجاريهما وخلاهما، (هَذَا عَذْب فُرَات): بليغ عذوبته، (وَهَذا مِلْحٌ أجَاج): هو نقيض الفرات، (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا): حاجزًا حتى لا يخلط أحدهما بالآخر، (وَحِجْرًا مَحْجُورًا): وهو كلمة يقولها المتعوذ كما مر في هذه السورة، كأن كلا منهما يقول لصاحبه ما يقوله المتعوذ عنه وهو كدجلة تدخل المالح فتشقه، فتجري في خلاله فراسخ ولا تختلط، وقد ذكر أن في سواحل بحر الهند مثل الدجلة، وأغرب فالحاجز محض القدرة فقط، أو المراد بالعذب الأنهار، والعيون والآبار، وبالملح البحار المعروفة، وبالبرزخ الأرض الحائل بينهما، (وَهُوَ الذِى خَلَقَ مِنَ الَمَاءِ): النطفة، (بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا): ذوي نسب، أي: ذكورًا ينسب إليهم، فيقال: فلان ابن فلان، وفلانة بنت فلان، (وَصِهْرًا) ذوات صهر أناثاً يصاهر بهن، أو النسب ما لا يحل نكاحه والصهر ما يحل، وقيل في ابتداء أمره ولدًا نسيبًا ثم يتزوج، فيصير(3/161)
صهرًا، (وَكاَنَ ربُّكَ قَدِيرًا): على ما يشاء، (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ): ما له كل العجز، ويتركون القادر المختار، (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا): يظاهر الشيطان على ربه بالعداوة والشرك، وقيل من ظهرت به إذا خلفته خلف ظهرك غير ملتفت إليه، أي: هينًا مهينًا لا وقع له عند الله، (وَمَا أَرْسَلناكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا قُلْ مَا أَسْألكُمْ عَلَيْهِ)، على ما أرسلت به من البشارة، والإنذار، (مِنْ أَجْرٍ إِلا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى ربِّهِ سَبيلاً) أي: لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً بإنفاق ماله في سبيله فليفعل، أو لا أَطلب أجرًا إلا فعل من شاء التقرب إليه كأن فعله الطاعات جعله من جنس أجره إظهارًا لغاية الشفقة، ودفعًا لشبهة الطمع كما تقول: ما أطلب فِي تعليمك منك أجرًا إلا عزتك، (وَتَوَكلْ عَلَى الحَيِّ الذِي لَا يَمُوتُ): في الاستغناء عن أجورهم واستكفاء شرورهم فإنه باق حقيق بالتوكل عليه، (وَسَبِّحْ): نزهه عن كل نقص، (بِحَمْدِهِ)، متلبسًا مثنيًا بنعوت كماله، (وَكَفَى بِهِ): كفى الله، (بِذُنوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا): مطلعًا فلا عليك إن آمنوا أو كفروا، (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، قد مر في سورة(3/162)
الأعراف تفصيل معناه، (الرَّحْمَنُ)، خبر الذي أو خبر محذوف، ويكون الذي صفة(3/163)
للحي، (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) أي: سل ما ذكر من الخلق والاستواء عالمًا يخبرك ومن أعلم من الله؟ أو المراد سل جبريل، وقيل: أهل الكتاب ليصدقك فيه، والسؤال يعدى بالباء لتضمنه معنى الاعتناء، أو به متعلق بخبير، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ)، فإنهم ما يطلقون هذا الاسم على الله، (أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا): للذي تأمرنا بسجوده، أو لأمرك لنا، وما نعرفه وقرئ يأمرنا بالياء، فيكون هذا كلام بعضهم لبعض، (وَزَادَهُمْ)، الأمر بالسجود، (نُفُورًا): عن الإيمان.
* * *
(تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)(3/164)
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
* * *
(تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا)،: قصورًا عالية هي الكواكب السبعة السيارة كالمنازل لسكانها أو البروج الكواكب العظام، (وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا): الشمس ومن قرأ سُرُجًا فمراده الكواكب الكبار، (وَقَمَرًا مُنِيرًا): مضيئًا بالليل، (وَهُوَ الذي جَعَل اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً) أي: ذوي خلفة يعقب هذا ذاك وذاك هذا، ويخلف كل واحد منهما الآخر بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر والفعلة بالكسر كالجلسة للحالة، وبالفتحة للمرة، (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ): لينظر في اختلافهما فيعلم أن له صانعًا قادرًا حكيمًا، (أَوْ(3/165)
أَرَادَ شُكُورًا): أن يشكر الله أو ليكونا وقتين للمتذكرين، والشاكرين من فاته ورده في أحدهما قام به في الآخر، (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُون عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا)، هينين أو مشيًا هينًا بسكينة ووقار من غير جبرية، واستكبار لا مشي المرضى، فإنه مكروه وهو مبتدأ خبره الذين يمشون، أو أولئك يجزون الغرفة، (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)، أي: إذا خاطبوهم بما يكرهونه قَالُوا سَلَامًا من القول يسلمون فيه من الإثم أو تسليمًا منكم لا خير بيننا ولا شر قال تعالى: " وإذا سمعوا اللغو " الآية [القصص: 55]، وعن الحسن البصرى قالوا: السلام، وفي الحديث ما يؤيده، (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا)، تخصيص البيتوتة، لأن الصلاة(3/166)
بالليل أفضل، (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا)، هلاكًا ملحًّا لازمًا، (إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا)، مُسْتَقَرًّا مفسر لضمير مبهم في ساءت، والمخصوص بالذم المقدر هو سبب الربط بين اسم إن وخبرها، أي: بئست مُسْتَقَرًّا هي، قيل: التعليلان من كلام الله أو حكاية لكلامهم، (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا): ليسوا مبذرين، ولا بخلاء، بل يكون إنفاقهم عدلاً وسطًا، وقوامًا إما خبر ثان أو حال مؤكدة، وقد فسر بعض المفسرين الإسراف بالنفقة في معصية الله وإن قلَّت، والإقتار بمنع حق الله، وليت شعري كيف يصح مع قوله، وكان إنفاقهم بين الإسراف، والتقتير قوامًا فتأمل، (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ)، قتلها، (إِلَّا بِالْحَقِّ)،: متعلق بـ لا يقتلون، أو بالقتل المقدر، (وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا)، جزاء إثمه، أو الآثام وادٍ، أو بئر في جهنم، (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، بدل من يَلْقَ أَثَامًا، (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا)، وتضعيف العذاب والخلود فيه لانضمام الكبيرة إلى الكفر، (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)، أي: تنقلب بنفس التوبة النصوح فإنه كلما تذكر ما مضى تحسر وندم واستغفر، فيقلب الله ذنبه طاعة، فالعبد يتمني أن تكون سيئاته أكثر من ذلك، والأحاديث الصحاح تدل على هذا المعنى، أو أنه يمحوها ويثبت مكانها الإيمان، وما عمل من الطاعة في إسلامه،(3/167)
(وَكَانَ اللهُ غفورًا رحِيمًا)، فلذلك يعفو عن السيئات، ويبدلها، (وَمَن تَابَ)،: عن المعاصي، (وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ)، يرجع إليه بذلك، (مَتَابًا): مرضيًا عنده، أو يرجع إلى ثوابه مرجعًا حسنًا، (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ): لا يحضرون محاضر الباطل، أو لا يقيمون الشهادة الباطلة، (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ): المعاصي كلها لغو، (مَرُّوا كِرَامًا): مكرمين أنفسهم عما يشينهم مسرعين معرضين يعني لم يحضروا مجالسه، وإذا اتفق مرورهم به لم يتدنسوا بشيء، (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ): وعظوا بالقرآن، (لَمْ يَخِرُّوا): لم يسقطوا ولم يقيموا، (عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا)، يعني لم يقيموا عليها غير واعين ولا غير متبصرين بما فيها، بل سامعين بآذان واعية مبصرين بعيون راعية، فالنفي متوجه إلى القيد، (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ): يسألون أن تكون أزواجهم وأولادهم مطيعين لله أبرارا تقرُّ بهم عيونهم ويسرون برؤيتهم، ومن بيانية كرأيت منك أسدًا أو ابتدائية، (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا): أئمة يقتدي بنا في الخير، ولنا نفع متعدٍ إلى غيرنا، وُحِّد إمامًا لأن المراد كل واحد، أو [لأنه] مجموع لاتحاد طريقتهم كنفس واحدة، أو لدلالته على الجنس، ولا لبس [وقيل جمع آم كصائم وصيام] (1) أي: اجعلنا قاصدين تابعين للمتقين، (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ): الدرجة
__________
(1) ما بين المعقوفتين زيادة من تفسير البيضاوي. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(3/168)
الرفيعة في الجنة، وهي اسم جنس أريد به الجمع، (بمَا صَبَرُوا): على طاعة الله وبلائه وعن محارمه، (وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا): تحييهم الملائكة، وتسلم عليهم، وبعضهم بعضًا لقاهم كذا أي: استقبالهم به، (خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا)، مقابل ساءت مُسْتَقَرًّا ومقامًا في المعنى والإعراب، (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ): ما يصنع بكم، (ربي): لا وزن ولا مقدار لكم عنده، (لَوْلا دُعَاؤُكُمْ) إيمانكم وعبادتكم، أو ما يعبأ بخلقكم لولا عبادتكم يعني أن خلقكم لعبادته، أو ما يبالي مغفرتكم لولا دعاءكم معه آلهة أخرى، أو ما يفعل بعذابكم لولا شرككم، وما إن كانت استفهامية نصبت على المصدر، أي: أيُّ: عبأ يعبأ بكم، (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ): بما أخبرتكم به، حيث خالفتموه، (فَسَوْفَ يَكُونُ): التكذيب أي: جزاؤه، (لِزَامًا): لازمًا لا ينفك عنكم.
اللهم اجعلنا ممن أحسنت مستقرهم ومقامهم.
* * *(3/169)
سورة الشعراء مكية
إلا قوله: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) إلى آخره وهي مائتان وست أو سبع وعشرون آية وأحد عشر ركوعًا
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
* * *
(طسم) عن بعض السلف إنه من أسماء الله، وعن بعض إنه قسم (تلْكَ) إشارة إلى السورة (آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) القرآن (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ) قاتلَ (نَفْسَكَ) أشفق على نفسك أنَ تقتلَها، (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) لئلا يؤمنوا، (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً) ملجئة إلى الإيمان (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) منقادين فلا يقدرون بعدها على الإعراض، ولم يقل خاضعة؛ لأن المقصوَدَ أهل الأعناق، وزيدت الأعناق لبيان موضع الخضوع، أو كما وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء أجريت مجراهم، أو المراد من الأعناق الرؤساء، أو الجماعات، وعطف بصيغة الماضي على المضارع الذي هو الجزاء إشعارًا بأن انقيادهم أمر مقطوع به كأنه(3/170)
مضى فيخبر عنه (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ) طائفة من القرآن تكون موعظة (مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ) مجرد إنزاله (إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) استمروا على(3/171)
إعراضهم، فلم يرفعوا إليه رءوسهم (فَقَدْ كَذَّبوا) بالذكر، وأدى تكذيبهم إلى الاستهزاء (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) أهو حقيق بالتعظيم حق أم بالاستهزاء باطل (أَوَلَمْ يَرَوْا) لم ينظروا (إِلَى الأَرْضِ) إلى عجائبها (كَمْ أَنبَتنَا(3/172)
فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) صنف (كَرِيمٍ) كثير النفع، والكريم صفة لكل ما يرضى في بابه (إِنَّ في ذَلِكَ) الإنبات (لَآيَةً) على أن منبتها قادر حكيم (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) في علم الله، وقضائه، فلهذا لا تنفعهم الآيات (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) فيمهلهم مع أنه لا غالب عليه أحد.
* * *
(وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25)(3/173)
قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)
* * *
(وًإِذْ نَادَى) مقدر باذكر (رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ) أي بأن، أو أن مفسرة (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ) تقديره ائتهم قائلاً قولي لهم " ألا يتقون " نحو: (وإذا سألك عبادى عني فإني قريب) [البقرة: 186] أو استئناف أتبعه إرساله إليهم تعجيبًا لموسى من أمنهم العواقب، وعدم خوفهم عقاب الله (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي) بعد التكذيب فأعجز عن جوابهم (فَأَرْسِلْ) جبريل (إِلَى هَارُونَ) اجعله نبيًا يقوي قلبي، ويتكلم حيث تعروني حبسة (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) تبعة ذنب وهي قصاص قتل قبطي قتله موسى (فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) به فلم يتم أمر الرسالة (قَالَ كَلَّا) لن يقتلوك (فَاذْهَبَا) عطف على ما دل عليه كلا، أي: ارتدع عما تظن فاذهب أنت وهارون، وغلب الحاضر (بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) لما يجري بينكم، وبين(3/174)
عدوكم، فأظهركم عليه، فلا تخف ذكر " معكم " بلفظ الجمع كـ " مستمعون " للتعظيم مثل نفسه بمن حضر محضرًا ليصغى إلى مقاولتهم فيمد أولياءه، ومعكم إما حال، أو ظرف مقدم، أو خبر أول، (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لوحدة المرسل به وحد الرسول أو لاتحادهما في الأخوة، أو لأنه أراد كل واحد منهما، أو لأنه مصدر وصف به أي: ذوو رسالة (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) خلهم يذهبوا معنا إلى الشام (قَالَ) فرعون بعدما أتيا وأديا(3/175)
رسالتهما: (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا) في منازلنا (وَلِيدًا) طفلاً (وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) ثلاثين سنة (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَتِي فَعَلْتَ) أي: قتل القبطي، وبخه بما جرى على يده، وعظمه حيث أتي به مجملاً كأنه لفظاعته لا ينطق به بعدما عدد عليه نعمه، (وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) الجاحدين لنعمتي (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) الجاهلين لم يأتني من الله شيء (فَفَرَرْتُ منِكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي ربَي حُكْمًا) نبوة أو فهمًا وعلمًا (وَجَعَلَنِي مِنَ المُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي: تلك التربية نعمة، لأنك اتخذتهم عبيدًا، وما اتخذتني عبدًا فهذا اعتراف بنعمته، أو تلك نعمة لأجل أنك عبدتهم، ولولا ذلك لكفلني أهلي، وما كنت إلى تربيتك محتاجًا يعني هذا منة، ونعمة لا حقيقة تحتها، بل نقمة في الحقيقة، أو تلك إشارة إلى ما في الذهن، وقوله أن عبدت إلخ عطف بيانها أي: تعبيدك إياهم منة تمنها عليَّ، وليست إلا غاية نقمة وبلية، أو همزة الإنكار مقدرة أي: أو تلك نعمة، وقوله: أن عبدت إلخ علة للإنكار، أي: هل يبقي إحسان مع تلك الإساءات، وكيف تقابله؟!، (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ) أي: أي شيء هو وهذا إنكار منه أن يكون إله غيره (قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) ما بين الجنسين (إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ) من أهل الإيقان والنظر الصحيح (قَالَ) فرعون (لِمَنْ حَوْلَهُ) من أشراف قومه تعجبًا: (أَلاَ تَسْتَمِعُونَ) هذا كأنه سمع ما لم يسمع قط (قَالَ) موسى: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) حين لم يكن فرعون، ولا قومه إشارة إلى أن الإله لابد أن يكون قديمًا فالحادث لا يليق (قَالَ) فرعون: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) حيث يتكلم بما(3/176)
لم نعهد أن نسمعه، وينفي ما اتفق عليه الخلق من ألوهيتي (قَالَ) موسى (رَبُّ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَينَهُمَا) فإن طلوع الشمس من جانب، والغروب من آخر علي هيئة مستقيمة مع اختلاف المطالع في فصول السنة من أظهر ما استدل به (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) إن كنتم عقلاء عارض [إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ] " به قيل: سؤال فرعون بقوله، وما رب العالمين، عن حقيقة المرسل، وموسى عرفه بأظهر خواصه وآثاره، إشارة إلى أن بيان حقيقته ممتنع، ولهذا قال: إن كنتم موقنين الأشياء محققين لها ثم استعجب فرعون لأنه سأل عن الحقيقة، وأجيب بالأفعال، ثم عدل إلى ما أقرب إلى الناظر، وأوضح عند التأمل، ثم صرح فرعون بجنونه لأنه يسأل عن شيء، ويجيب عن آخر، ثم استدل بشيء من غرائب آثاره الظاهرة الدالة على كمال قدرته وحكمته، فعدل فرعون إلي التهديد (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ منَ المَسْجُونينَ) اللام للعهد فسجنه هوة بعيدة العمق مظلمة، أي: ممن عرفت حالهم في السجن (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) الواو للحال، أي أتفعل بي ذلك، ولو جئتك بشيء يبين لك صدقي؟ (قَالَ فَأتِ بِهِ إِن كنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك أو في أن لك بينة (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مبِينٌ) ظاهر ثعبانيته (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ) تتلألأ كالشمس لها شعاع يكاد يغشى الأبصار ويسد الأفق.
* * *
(قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ(3/177)
مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
* * *
(قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ) ظرف في محال الحال: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) في سحره (يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مَنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ) بأن يذهب بقلوب الناس، فيكثر أعوانه، فيغلبكم على دولتكم، فيأخذ البلاد منكم (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) من المؤامرة وهى المشاورة، أي: أشيروا عليَّ فيه ما أصنع أو من الأمر أي: أي أمر تأمرون؟ وعلى الوجهين كلامه من فرط الدهش (قَالُوا أَرْجِهْ) أخِّره (وَأَخَاهُ) أو احبسهما (وَابْعَثْ) شرطًا (فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ) يجمعون السحرة (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) لعلهم يغلبونه (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) الميقات وقت الضحى، واليوم يوم عيدهم (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) حثهم على الانطلاق كما تقول لعبدك هل أنت منطلق إلى فلان؟ (لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ) ولا نتبع موسى (إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) يعني: إن غلبتم(3/178)
لكم الأجر، والقربة " فإذًا " جواب وجزاء (قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ) هذا إذن منه في تقديم ما هم فاعلوه ألبتَّة (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ) جمع عصا (وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) أقسموا بعزته لفرط اعتقادهم الغلبة (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ) تبتلع (مَا يَأفِكُونَ) ما يزورونه أو ما مصدرية، وتسمية المأفوك إفكًا للمبالغة (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) لعلمهم أن هذا وراء السحر يعني لما رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض كأنهم أخذوا فطرحوا طرحًا على وجوههم (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) [فواعدكم] ذلك وتواطأتم عليه، أو فعلمكم شيئًا دون شيء يريد [التلبيس] على قومه من خوف اعتقادهم حقيته، (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وبال ما فعلتم (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ) مختلفات اليد اليمني والرجل اليسرى (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا لَا ضَيْرَ) لا ضرر لنا في ذلك (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ) نرجع إليه، وهو لا يضيع أجر الصابرين (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا) لأن كنا(3/179)
(أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) لموسى من القبط، أو بالله من أهل زماننا، وقد مر في سورة الأعراف وطه بسطها فارجع إليهما.
* * *
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
* * *
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي) من مصر، وذلك بعد مدة متطاولة هو بين أظهر القبط يدعوهم إلى الله، وهم لا يزيدون سوى الكفر، والإصرار (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) يتبعكم فرعون وجنوده، وهذا علة الأمر بالإسراء لأنه سبب هلاك الأعداء (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ) حين علم خروجهم، (فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ) يحشرون العساكر ليتبعوهم فيأخذوهم (إِنَّ هَؤُلَاءِ) أي: قال لهم إن بني إسرائيل (لَشِرْذِمَةٌ) طائفة قليلة (قَلِيلُونَ) صفة، أو خبر بعد خبر، قيل: إنهم ستمائة وسبعون ألفًا،(3/180)
ومقدمة جيش فرعون سبعمائة ألف (وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ) لفاعلون ما يغيظنا (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) لَجَمْعٌ من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، وهذه معاذيره لئلا يظن به الخوف (فَأَخْرَجْنَاهُمْ) من كلام الله لا حكاية كلامهم، أي: بهذه الداعية (مِنْ جَنَّاتٍ) بساتين بنوا على شاطئ النيل (وَعُيُونٍ) أنهار جارية (وَكُنُوزٍ) أموال جمعوها ولم يعطوا حق الله (وَمَقَامٍ كَرِيمٍ) منازل حسنة (كَذَلِكَ) الأمر وأخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا (وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) أعطيناهم ديارهم، وأموالهم (فَأَتْبَعُوهُمْ) فلحقوهم (مُشْرِقِينَ) داخلين في وقت الشروق، أي: طلوع الشمس (فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ) رأى كل منهما الآخر (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) ملحقون (قَالَ) موسى ثقة بوعد الله (كَلَّا) لن يدركوكم (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي)(3/181)
بالنصرة (سَيَهْدِينِ) طريق النجاة (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب) أن مفسرة (بِّعَصَاكَ البَحْرَ) القلزم (فَانفَلَقَ) أي: ضرب فانشق، أوحى إلى البحر إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له، فبات البحر تلك الليلة يضطرب يضرب بعضه بعضًا فرقًا من الله، وانتظارًا لما أمره الله (فَكانَ كل فِرْقٍ) كل قطعة من البحر (كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) كالجبل الضخم (وَأَزْلَفْنَا) قربنا (ثَمَّ الْآخَرِينَ) فرعون وقومه حتى(3/182)
دخلوا مداخلهم من أثرهم (وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) عبرة وعظة (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) ما آمن منهم إلا رجل وامرأتان (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب (الرَّحِيمُ) بأوليائه.
* * *
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا(3/183)
يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
* * *
(وَاتْلُ) يا محمد (عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهيمَ إِذْ قَالَ لأَبِيه وَقَوْمِهِ مَا تَعبدُونَ) سألهم ليريهم أن معبودهم لا يستحق العبادَة (قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ) ندوم (لَهَا عَاكِفِينَ) عابدين، أطنبوا في الجواب كمن يفتخر بصنيعه (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ) يسمعون دعاءكم (إِذْ تَدْعُونَ) ومجيئه مضارعًا مع إذ على حكاية الحال الماضية استحضارًا لها، (أَوْ يَنفَعُونَكُمْ) إذ تعبدونها (أَوْ يَضُرُّونَ) إذ تعرضون عنها (قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) فقلدناهم أسندوا فعلهم إلى التقليد(3/184)
المحض (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) فإن التقدم، والأولية لا يكون برهانًا على الصحة (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) أراد أن يقول عدو لكم لكن بنى الكلام على التعريض، لأنه أدخل في القبول كقولك لمن يسيء الأدب: ليت والدي أدبني، يعني هل عرفتم أنكم عبدتم أعداءكم، قال تعالى: " كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا " [مريم: 82] قيل معناه: عدو لي لو عبدتهم، فلهذا لا أعبدهم، وقيل من باب القلب، أي: إني عدو لهم، ووحد العدو لأنه في الأصل مصدر (إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ) منقطع، أو متصل لأنَّهُم يعبدون الأصنام مع الله (الذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) إلى طريق مصالح معاشي ومعادي، وعطف الجملة الاسمية بالفاء للدلالة على استمرار الهداية المتأخرة (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) تكرار الموصول للدلالة على استقلال كل باقتضاء الحكم (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) عطف على الصلة من غير إعادة الموصول، لأن الصحة والمرض في الأكثر يتبعان المأكول، والمشروب، وراعى الأدب كما حكى الله تعالى عن الجن: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) [الجن: 15] وأيضًا غرضه تعداد النعم، والمرض من النقم بحسب الظاهر، وأما الإماتة مع أنها وسيلة للسعداء إلى نيل الفوز، وللأشقياء إلى تقليل أسباب عذابهم، وتطهير الدنيا من دنسهم، فبموت الظالم تفرح الطير في أوكارها، فأمر لا ضرر فيه، لأنها غير محسوس إنما الضرر في مقدماتها أعني المرض (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)(3/185)
يعني إن صدر عني صغيرة (رَبِّ هَبْ لِي حكْمًا) علمًا وفهمًا أو نبوة (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) الكاملين في الصلاح الذين ما أذنبوا (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) ذكرًا جميلاً، وثناء حسنًا بعدي إلى القيامة أُذكَر به، ويقتدى بي في الخير، وقيل صادقًا من ذريتي يدعو الناس إلى الله (وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) أي: ممن لهم الجنة كأخص أموالهم (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ) وهذا قبل أن يتبين أنه عدو لله كما مر في سورة التوبة (وَلاَ تحزِني) لا تفضحني ولا تذلني (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) يبعث الخلائق، أو هؤلاء المشركون، وجميع الأنبياء عليهم السلام مشفقون من سوء العاقبة، فإنه لا معقب لحكمه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، أو لا تخزني بإهانة والدي، وقد ورد أن إبراهيم يلقى أباه في القيامة، فيقول: وعدك أن لا تخزني يوم يبعثون، فيقول الله: إني حرَّمت الجنة على الكافرين (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) لكن من أتى بقلب عن الشرك، أو صحيح لا مريض كالمنافق يسلم وينتفع، أو حال من أتى بهذا القلب ينفعه، أو لا ينفع شيء إلا حال من أتى الله به، أو لا ينفعان أحد إلا سليم القلب، لأنه صرف المال في الخير، وأرشد الأولاد أو جعل سلامة قلبه من جنسهما كما تقول: هل لك مال وأولاد؟ فيقول: مالي، وأولادي غنى قلبي(3/186)
(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) قربت لهم عطف على لا ينفع (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) أظهرت (لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) كما زعمتم أنَّهم شفعاء (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) بدفع العذاب عن أنفسهم، فإنهم وما يعبدون من دون الله حصب جهنم (فَكُبْكِبُوا) ألقوا، والكبكبة: تكرير الكب جعل تكرير لفظه لتكرير معناه، كأنه ينكب فيها مرة بعد أخرى (فِيهَا) في جهنم (هُمْ) المعبودون (وَالْغَاوُونَ) العابدون أو التابعون والمتبعون (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ) مبعوه (أَجْمَعُونَ) تأكيد للجنود (قَالُوا) السفلة للكبراء (وَهُمْ فِيهَا يَختصِمُون) جملة حالية معترضة بين القول ومقوله (تَاللهِ إِنْ كُنَّا) أي. إنه كنا (لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) حيثُ كنا لكم تبعًا، أو ضمير قالوا للأصنام، وعابديها وتسويتهم أنَّهم عبدوها، واتخذوها آلهة (وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا(3/187)
الْمُجْرِمُونَ) على الوجه الأول من باب الالتفات، وعلى الثاني المراد من المجرمون آباؤهم وسادتهم (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ) كما للمؤمنن (وَلاَ) من (صَدِيقٍ حَمِيمٍ) من الاحتمام، أي: الاهتمام، أو من الحامة، أي: الخاصة، ولتعدد أنواع [الشفعاء] من الملك والنبي والولي جمع الشفيع بخلاف الصديق، ولأن الصديق الحقيقي قليل ولذلك قيل هو اسم لا معنى له (فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً) رجعة إلى الدنيا (فَنَكُونَ) نصب بجواب (لو) التي للتمني (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ) المذكور من قصة إبراهيم (لَآيَةً) حجة وعظة، فكم فيها من الإرشاد والتنبيه والاستدلال على ترتيب أنيق نصحهم ووعدهم وأوعدهم بأحسن طريق (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) القادر (الرَّحِيمُ) بالإمهال.
* * *
(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)(3/188)
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
* * *
(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ) القوم بدليل تصغيرها على قويمة مؤنثة (الْمُرْسَلِينَ) فإن من كذب رسولاً فقد كذب الرسل (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ) لأنه منهم (أَلَا تَتَّقُونَ) الله (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) عرفتموني قبل الرسالة بالأمانة (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ) على ما أدعوكم إليه (مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) كرره تأكيدًا، وتنبيهًا على أن كلاًّ من الأمانة، وحسم الطمع موجب لقبول النصح، فكيف إذا اجتمعا (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ) الهمزة دلإنكار (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) الواو للحال، وأتباعه الحاكة والسوقة حينئذ (قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ما أعلم صنائعهم، وليس لي من دناءتهم شيء إنما كلفت بالدعوة المطلقة (إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي) أي: لا أطلب إلا التصديق فيما جئت به، والله مطلع على السرائر (لَوْ تَشْعُرُونَ) لعلمتم ذلك، قيل مرادهم أنَّهم سفلة اتبعوك لعزة ولقمة لا لاعتقاد ويقين كما قال تعالى حكاية: (الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ) [هود: 27] فأجاب بأني لا أعلم أعمالهم،(3/189)
وأنَّهم مخلصون فيها أو لا وأنا لا أطلب سوى التصديق، وحسابهم على الله (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) فقيرًا كان أو غنيًّا شريفًا أو دنيًّا، (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) فليس لي طرد أحد واجتباء آخر (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ) عما تقول (لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرْجُومِينَ) المقتولين بالحجارة، أو المشتومين (قَالَ رَبِّ إِن قَوْمِي كَذبُونِ) وما دعا وما شكا عليهم، وعنهم إلا بعد أيام متطاولة يدعوهم، وهم في كفرهم يعمهون (فَافْتَحْ) فاحكم (بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ الُمؤْمِنِينَ) من بلاء تنزل عليهم، أو من كيدهم وشؤمهم (فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفُلْكِ المَشْحُون) المملوء من أنواع الأشياء (ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ) أي: بعد إنجاء المؤمنين (الْبَاقِينَ) من قومه (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) دالة على أن المكذبين في معرض العقوبة ولو بعد حين (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
* * *
(كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ(3/190)
عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
* * *
(كَذبَتْ عَادٌ) التأنيث باعتبار القبيلة، وهو في الأصل اسم أبيهم (الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ) هو وأيضًا منهم (أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) تصدير القصص بمضمون عبارة واحدة ليعلم أن كلمتهم متفقة، وإن اختلف في بعض الفروع (أَتَبنونَ بِكُلِّ رِيعٍ) مكان مرتفع (آيَةً) عمارة مشيدة عالية كآية في الشهرة (تَعْبَثُونَ) في بنائها لا تحتاجون إليها، بل للشهرة قيل: بنوا على الطرق عمارات كالقصور يجلسون فيها يسخرون بمن يمر، أو المراد منها بروج الحمام، فإنهم متولعون بها (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ) قصورًا أو حصونًا، أو مآخذ الماء (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) ترجون الخلود (وَإِذَا بَطَشْتُمْ) سطوتم (بَطَشْتُمْ(3/191)
جَبَّارِينَ) متسلطين ظالمين بلا رحمة (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) فإن أعمالكم تورث الخزي والندامة (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ) أعطاكم (بِمَا تَعْلَمُونَ) من الخير نبههم على نعم الله مجملاً، ثم فصلها بقوله (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) ثم أوعدهم فقال (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) إن بقيتم على الكفر والكفران (قَالوا سَوَاءٌ) مستو (عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ) أي: مستو علينا وعظك وعدمه، فإنا على ما نحن فيه لا نرعوي عنه (إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ) ما هذا الدين الذي نحن عليه إلا دين الأوائل، ونحن سالكون وراءهم نعيش كما عاشوا ونموت كما ماتوا ولا بعث ولا نشور، أو ما هذا الذي جئتنا به إلا عادتهم يكذبون ويزخرفون، ومن قرأ " خَلْقُ " بفتح الخاء وسكوت اللام، فالمراد اختلاقهم واختراعهم (وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) فلا نخاف مما تخاف علينا وتخوفنا به (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ) يعني بريح صرصر (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
* * *
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ(3/192)
الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
* * *
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) إنكار لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم، أو تذكير بالنعمة في تخلية الله إياهم، وما يتنعمون فيه آمنين، فالهمزة للإنكار، أو للتقرير، و " ما " موصولة، أي: في الذي استقر في هذا المكان من النعم، ثم فسر المجمل بقوله: (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ) لطيف ضامر طلع إناث النخل بالنسبة إلى فحولها لطيف، وطلع البرني ألطف من غيره، أو مكسور مظلوم من كثرة الثمر، وإفراد النخل لفضله على الأشجار (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ) حاذقين متقنين لنحتها، قيل من رأى منازلهم يرأى عجبًا، أو أشرين بطرين (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ)(3/193)
رؤسائهم، وقادتهم (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالكفر، وأنواع المعاصي (وَلَا يُصْلِحُونَ) قطعًا (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) الذين سحروا كثيرًا حتى غلبوا على عقولهم، أو من الذين لهم سحر، أي: [رئة] يعني أنت لست بملك، فكيف تكون نبيًّا؟! (مَا أَنتَ إِلا بَشَرٌ مثْلُنا) هذا على الوجه الثاني تأكيد (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك (قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ) دعا الله تعالى فأخرجها من الصخرة في محضرهم باقتراحهم (لها شِرْبٌ) نصيب من الماء (وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ معْلُومٍ) هو يوم لا تشرب فيه الماء (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) عظم اليوم لعظم ما يحل فيه (فعَقَرُوهَا) أسند العقر إليهم لأن كلهم راضون به (فَأَصْبَحُوا نَادِمينَ) عند معاينة العذاب (فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ) زلزال مع صيحة اقتلعت قلوبهم بهما (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
* * *
(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ(3/194)
إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
* * *
(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164)) أي: أتأتون من بين العالمين الذكران يعني إنكم مختصون بتلك الفاحشة لا يشارككم شيء، أو أتأتون الذكران من بين أولاد آدم مع غلبة الإناث الموضوع له (وَتَذَرونَ ما خَلَقَ لَكمْ ربكُم مِّن أَروَاجِكُم) (من) بيان (لما) (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) مفرطون في المعصية، حيث تختصون بفاحشة لا تشارككم بهيمة (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) عما تنازعنا فيه (يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) من أرضنا (قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ) من المبغضين غاية البغض (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) من وباله (فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ) أهل بيته ومن تبعه (أَجْمَعِينَ) بأن أخرجناهم من بينهم حين حلول العذاب (إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ) أي: موصوفة بكونها في الباقين في العذاب هي امرأة(3/195)
لوط خرجت معهم، وهم مأمورون بأن لا يلتفتوا إلى القرية إذا سمعوا صيحة العذاب وهى التفتت لأنها كانت تحبهم راضية بعملهم، فأهلكها الله بحجارة من السماء، أو هي ما خرجت معهم (ثُمَّ دَمَّرْنَا) أهلكنا (الْآخَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا) قلب الله ديارهم، وحين التقليب أمطر عليهم الحجارة، أو إمطار الحجارة على مسافريهم (فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) مطرهم، ولام المنذرين للجنس، لأنه يجب أن يكون فاعل المدح والذم جنسًا، أو مضافًا إليه ليكون فيه إبهام، ويكون المخصوص بالمدح أو الذم تفسيره (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
* * *
(كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
* * *
(كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ) شجرة كانوا يعبدونها (الُمرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهم شُعَيْبٌ) لم يقل هنا أخوهم مع أنه أخوهم نسبًا، لأنه نسبهم إلى عبادة شجرة فقطع نسبة الأخوة بينهم، والأصح أنهم أهل مدين، ولهذا وعظهم، وأمرهم بوفاء الكيل كما في(3/196)
قصة مدين سواء، وعن بعض: هم غيرهم، وشعيب من أهل مدين لا منهم، فلهذا لم يقل أخوهم (أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) بالميزان السوي قيل القسطاس القبان (وَلاَ تَبْخسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) لا تنقصوا شيئًا من حقوقهم (وَلاَ تَعْثَوْا) لا تغلوا في الفساد (في الأَرْضِ) حال كونكم (مُفسِدِينَ) بالقتل، وقطع الطريق (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ) ذوى الجبلة (الْأَوَّلِينَ) يعني: وخلق الخلائق الأولين (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) أتوا بالواو هؤلاء دون قوم ثمود دلالة على أنه جامع بين وصفين متنافيين للرسالة مبالغة في تكذيبه، وكذا أكدوا في نفيها عنه بقولهم: (وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكَاذِبِينَ) والظن بمعنى العلم بدليل " إنْ " واللام، ولذا أيضًا ما طلبوا البرهان عنه، بل قطعوا بما يدل على اليأس، حيث قالوا: (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا) قطعة، أو عذابًا (مِّنَ السَّمَاءِ إِن كنتَ مِنَ الصَّادقِينَ) في الدعوى (قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ) فيجازيكم بما أنتم تستحقون (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) سلط عليهم حر شديد، فأظلتهم سحابة، واستظلوا جميعًا بظلها، فخرجت نار من السحابة، وأحرقتهم، وعن بعض: كشف عنهم الظلة، وحمى عليهم الشمس فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى(3/197)
(إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) هذا هو العلة في نزول العذاب على الأمم، ولو آمن أكثرهم كما آمن قريش لأمهلهم (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ) الغالب المنتقم من الأعداء (الرَّحِيمُ) على أوليائه، وهذا آخر القصص السبع المذكورة على سبيل الاختصار بعدما فصلها مكررة تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتهديدًا لمن خالفه.
* * *
(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا(3/198)
كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
* * *
(وَإِنَّهُ) القرآن (لَتَنْزِيلُ) منزل (رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ) الباء للتعدية (الرُّوحُ الأَمِينُ) جبريل (عَلَى قَلْبِكَ) لأنه بلسانك ولغتك، فتفهمه أولاً من غير أن تلاحظ الألفاظ كيف جرت، ولو لم يكن بلغتك لكان نازلاً على سمعك تسمع الألفاظ، أولاً ثم تخرج المعاني منها وإن كنت ماهرًا بتلك اللغة أيضًا (لِتَكُونَ مِنَ الُمنذِرِينَ) عن كل ما لا يرضى به الله (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) واضح المعنى متعلق(3/199)
بـ نزل، وقيل بالمنذرين أي: لتكون ممن أنذروا بلغة العرب، وهم خمسة هود، وصالح، وإسماعيل، وشعيب، ومحمد عليهم أفضل الصلوات وأتمها ومن التحيات أزكاها (وَإِنَّهُ) أي: ذكر القرآن (لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) كتبهم (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً) على صحته (أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي: أليس علم علمائهم بأنه من الله دليلاً دالاً على صحته، والمراد العدول منهم كعبد الله بن سلام وسلمان، وقرئ تكن بالتاء مع رفع آية فآية اسم كان، ولهم خبره " وأن يعلمه " إلخ بدل من الاسم، أو اسم كان ضمير القصة " وأن يعلمه " إلخ مبتدأ أو آية خبره، والجملة خبر كان (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ) القرآن الفصيح الذي عجز دونه أفصح فصحاء العرب (عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) الذين لا يدرون من العربية (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) لفرط عنادهم، قال تعالي: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) الآية [يونس: 96]، قيل: معناه، ولو نزلنا القرآن بلغة العجم على بعض الأعجمين فقرأه على أهل مكة ما كانوا به يؤمنون قال تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) [فصلت: 44] (كَذَلِكَ سَلَكنَاهُ) أدخلنا الكفر والتكذيب (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) فلا ينفعهم حينئذ (فَيَأْتِيَهم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُون) بإتيان العذاب (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) يتمنون النظرة (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ) وهم يطلبون النظرة عند(3/200)
نزول العذاب كما قالوا: " فأتنا بما تعدنا " [الأعراف: 70] نقل أنه لما نزل لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم، قالوا: متى هذا العذاب؟ فنزل " أفبعذابنا يستعجلون "؟! (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) أينفعهم تمتعهم في أيام متطاولة، ولم يدفع شيئًا من العذاب عنهم (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ) رسل ينذرونهم (ذِكْرَى) مصدر لـ منذرون لأن أنذر وذكر متقاربان، أو مفعول له أي: منذرون لأجل الموعظة، أو أهلكناهم بعد إلزام الحجة تذكره وعبرة لغيرهم (وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ) فنهلك قبل الإنذار (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ) نزل به الروح الأمين لا الشياطين (وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ) ما يصح للشياطين أن ينزلوا به فإنهم ينزلون للفساد، وما في القرآن إلا الرشاد (وَمَا يَسْتَطِيعُونَ) إنزاله وإن أرادوا (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْع) عن استراق السمع من السماء بحيث يكون المسموع كلامًا مفيدًا تامًّا (لَمَعْزُولُونَ) محجوبون كما قالوا: (وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع) الآية [الجن: 9] (فَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا(3/201)
آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) عن ابن عباس يحذر به غيره يقول: يا محمد أنت أكرم خلقي، ولو اتخذت إلهًا غيري لعذبتك (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) فإن الاعتناء بشأنهم [أهم] (1) (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ) لين جانبك، وتواضع (لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لا من المنافقين، فإنهم أيضًا يتبعونك بحسب الظاهر (فَإِنْ عَصَوْكَ) لم يتبعوك (فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) الذي يقدر على قهر الأعداء، ونصر الأولياء يكفيك شر من يعصيك (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ)
__________
(1) في الأصل وفو والتصويب من البيضاوي.(3/202)
إلى الصلاة وحدك (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) عطف على كافٍ يراك، أي: تصرفك بأركان الصلاة فيما بين المصلين يعني: يراك إذا صليت منفردًا، وإذا صليت في جماعة أو تصرفك وذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين، أو تقلبك في أصلاب آبائك الأنبياء من نبي إلى نبي، حتى أخرك يعني: توكل على من يراك في أحوال اجتهادك في مرضاته (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ) بعدما قال: " وما تنزلت به الشياطين "، قال: هل أخبركم بأن الشياطين على من تتنزل (تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ) كذاب (أَثِيمٍ) كثير الإثم هم الكهنة والمنجمون (يُلْقُون السَّمْعَ) أي: يسترق الشياطين السمع من السماء فيختطفون كلمة من الملائكة ثم يلقونها إلى أوليائهم من الإنس مع مائة كذبة، وفي الحديث " ربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقى قبل أن يدركه "، وهذا يدل على أن الاستراق حينئذ أيضًا واقع، أو معناه يلقى الأفاكون السمع إلى الشياطين فيتلقون منهم ظنون وأمارات أكثرها أكاذيب (وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ) قل من يصدق منهم (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) أي: الضالون يعني: شعراء الكفار الذين يهجون النبي عليه السلام، ويقولون: نحن نقول مثل ما يقول محمد يجتمع إليهم غواة يستمعون ويروون عنهم (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ) من أودية الكلام (يَهِيمُونَ) يذهبون كالمجنون، فإن أكثر الأشعار وأحسنها خيالات لا حقيقة لها (وَأَنَّهُمْ(3/203)
يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) فعلم أن القرآن ليس بشعر، وأنت لست بشاعر، فإن أتباعك هداة مهديون، والقرآن كله حق صدق وأنت بالصدق موصوف، وبالوفاء معروف (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات) استثناء للشعراء المؤمنين المادحين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الهاجين لأعداء الله (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا) في شعرهم، وغير شعرهم (وَانتصَرُوا) من الكفار بهجوهم (مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) أي: مكافأة هجاتهم هجوا للمسلمين لما نزلت " والشعراء يتبعهم الغاوون " جاء حسان، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك إليه عليه السلام، وهم يبكون، فقالوا: قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء، فأنزل الله " إلا الذين آمنوا " الآية (وَسَيَعْلَمُ الذِينَ ظَلَمُوا) بأن ذموا قومًا، ومدحوا قومًا بباطل، وتكلموا بالأكاذيب (أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) أي: مرجع يرجعون بعد الموت، فيه تهديد شديد وسياق الآية، وإن كان في الكفار وشعرائهم لكن عام لكل ظالم، ولهذا كتب الصديق رضى الله عنه عند الوصية: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا حين يؤمن الكافر وينتهي الفاجر ويصدق الكاذب إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فإن يعدل فذاك ظني به، ورجائي فيه، وإن [يجر] ويبدل فلا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
* * *(3/204)
سورة النمل مكية
وهي ثلاث أو أربع وتسعونَ آية وسبع ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
* * *
(طس) عن ابن عباس: هو من أسماء الله (تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ) إشارة إلى آيات تلك السورة (وَكِتَابٍ مُبِينٍ): وهو القرآن، وعطفه لعطف إحدى الصفتين على(3/205)
الأخرى (هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنينَ) حالان من الآيات، أو خبران لمحذوف، أو بدلاً من الآيات، أو خبران بعد خبر (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) تكرير الضمير للاختصاص، والواو للعطف أو للحال (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ) أي: أعمالهم القبيحة حتى رأوها حسنة (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) عنها لا يدركون قباحتها (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ العَذَاب): في الدارين (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ): ما أحدٌ أشد منهم خسرانًا (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى) لتؤتى (الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) أي حكيم أيّ عليم، ولهذا المعنى نكرهما، وهذا تمهيد لذكر هذه القصص التي تأتي، فكم فيها من لطائف حكمه، ودقائق علمه (إِذ قَالَ) مقدر باذكر، كأنه قال خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى، أو متعلق بـ عليم (مُوسَى لأَهْلِهِ) حين مسيره من مدين إلى مصر، وقد ضل الطريق (إِنِّي آنسْتُ): أبصرت (نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا): من أهل النار (بِخَبَرٍ) عن حال الطريق (أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ) الشهاب: الشعلة، والقبس: النار المقتبسة من جمر ونحوه، فهو إما بدل أو صفة، وقراءة الإضافة من إضافة الخاص إلى العام (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) رجاء أن تستدفئوا بها من البرد فإنهم في ليل شتوي (فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ) أي: بأن، أو (أن) مفسرة، فإن في النداء معنى القول (مَنْ في النَّارِ) عن ابن عباس وغيره أي: قدس من في النار، وهو الله سبحانه، والنار نوره تعالى على معنى أنه نادى موسى منها، وأسمعه كلامه من جهتها،(3/206)
أو المراد من في طلب النار وهو موسى، أو المراد الملائكة، فإن فيها ملائكة لهم زجل بالتسبيح والتقديس (وَمَنْ حَوْلَهَا) الملائكة، أو موسى (وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) من تمام ما نودي به، لئلا يتوهم أنه مكاني يشبه شيئًا من مخلوقاته (يَا مُوسَى إِنه) الضمير للشأن (أَنا اللهُ) أو راجع إلى المتكلم، و " أنا " خبره، والله بيان له، أو خبر بعد خبر (العَزِيزُ): الغالب (الحَكيمُ) فيما يفعله (وَأَلْقِ عصاكَ) عطف على بورك، أي: قيل له بورك من في النار، وقيل له: ألق عصاك (فَلَمَّا رَآهَا) أي: فلما ألقى رآها (تَهْتَزُّ): تتحرك (كَأَنَّهَا جَانٌّ): حية خفيفة سريعة، (وَلَّى مُدْبِرًا) أي: هرب موسى، (وَلَمْ يُعَقِّبْ): لم يرجع، (يَا مُوسَى) أي: نودي يا موسى، (لاَ تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الُمرْسَلُونَ) حين يوحى إليهم من فرط الاستغراق، قيل معناه: من أمنته، من عذابي لا يخاف من حية، (إِلَّا مَن ظَلَمَ)، لكن من ظلم من العباد نفسه، (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ): تاب وعمل صالحًا، (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) أغفر له ظلمه أي: لستم أيها المرسلون من الظالمين التائبين، فلا خوف عليكم بوجه، أو لكن من ظلم قبل النبوة، ثم تاب فإني أغفر له، ومن غفر له لا يخاف، أو الاستثناء متصل أي: لا يخافون إلا الذين ظلموا بارتكاب الصغائر حينئذ تم الكلام، ويكون (ثُمَّ بَدَّلَ) عطفًا على محذوف تقديره: فمن ظلم ثم(3/207)
بدل إلخ، فإني أغفر له، أو معناه لا يخافون إلا من فرط منه ما غفر له فإنه يخاف، وقد تحقق أن المغفور له المرحوم لا يخاف من الذنب المغفور ألبتَّة، فإذن لا يخاف منهم أحد ألبتَّة على القطع، (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي: في جيب درعك، وقد نقل أنه كان عليه مدرعة من صوف لا كم لها، (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ) كأنها قطعة قمر تتلألأ، (مِنْ غَيْرِ سُوء) كبرص، (فِي تِسْعِ آيَاتٍ) أي: اذهب في تسع آيات، (إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) أو معناه أدخل يدك في جملة تسع آيات وعدادهن، وعلى هذا (إلى فرعون) متعلق بمحذوف، أي: مبعوثًا مرسلاً إليه، (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا) بأن جاءهم موسى بها، (مُبْصِرَةً): ظاهرة للناظرين، (قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا): كذبوا، (بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ) أي: وقد استيقنتها أنفسهم أنها من عند الله، الواو للحال (ظُلْمًا)، أي: جحدوا للظلم، (وَعُلُوًّا): وللترفع والتكبر عن اتباعه، (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الُمفْسِدِينَ) في الدارين.
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لله الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ(3/208)
أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لله الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
* * *
(وَلَقَدْ آليْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا) أي علم، (وَقَالَا الْحَمْدُ لله الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ): شكرا على ما أعطاهما من العلم، (وَوَرِثَ(3/209)
سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) نبوته، وعلمه وملكه دون سائر أولاده، (وَقَالَ) سليمان يعدد نعم الله عليه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ): نفهم ما يقصد بصوته، (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي: أوتينا ما يحتاج إليه الملك، أو المراد الكثرة كما تقول: فلان يعلم كل شيء، (إِن هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ وَحُشِرَ): جمع، (لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ) وكانوا هم حول الإنس، (وَالإنسِ) وهم يلونه، (وَالطيْرِ) وهن فوق رأسه فإن كان حر أظلته منه بأجنحتها، (فهُمْ يُوزَعُون)(3/210)
يحبس أولهم على آخرهم ليجتمعوا، (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ) هو بالشام، أو بالطائف، ولما كان إتيانهم من فوق عدَّي بعلى، أو المراد قطعه كما تقول: أتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره، (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ) لما نسب إليهم ما يختص به العقلاء بحسب الظاهر خاطبهم خطاب العقلاء، (لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ) أي: لا تكونوا حيث أنتم ليحطمنكم، استئناف، أو بدل من الأمر، (وَهُمْ لَا يَشْعُرُون) أنَّهم يحطمونكم، فيه إشعار بأنَّهم لو علموا لم يحطموا؛ لأنَّهُم جنود نبي، (فتَبَسَّمَ ضَاحِكًا) أي: تبسم مقدرًّا الضحك، فإن المتبسم يصير ضاحكًا إذا اتصل وداوم، وهو للتعجب أو للسرور، (مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ): ألهمني شكرها، أو أولعني وحرصني به، (الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي): عداد، (عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ): الكاملين في الصلاح، (وَتَفَقَّدَ): تعرف، (الطيْرَ) فلم ير فيها الهدهد، (فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الهُدْهُدَ) كأنه ظن أنه حاضر، ولا يراه لساتر، ثم لاح أنه غائب فقال: (أَمْ كانَ) بل أكان، (مِنَ الغَائِبِينَ) كأنه يسأل عن صحة ما لاح له، عن ابن عباس: إن الهدهد يدل سليمان على الماء ينظر الماء تحت الأرض، ويعرف كم مساحة بعده، ويخبره فيأمر الجن بالحفر، فنزل بفلاة يومًا ولم يجده فقال:(3/211)
(لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)، بحجة تبين عذره، حلف على أحد الثلاثة التعذيب أو الذبح أو العفو بشرط العذر، أو الحلف على الأولين إن لم يكن الثالث، والثالث للتقابل، أدخل في سلكهما لا أنه محلوف عليه بالحقيقة، (فَمَكَثَ) الهدهد، (غَيْرَ بَعِيدٍ): زمانًا غير مديد، (فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ): علمت ما لم تعلمه، (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ): مدينة باليمن، أو اسم قبيلة هم ملوك اليمن، (بِنَبَأٍ): بخبر، (يَقِينٍ إِنِّي وَجَدت امْرَأَةً) أي: بلقيس، (تَمْلِكُهُمْ) الضمير [لسبإٍ] باعتبار أهلها، (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)، يحتاج إليه الملوك، (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) بالنسبة إلى عروش أمثالها من ذهب مكلل بأنواع(3/212)
الجواهر، (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ): فلا يهتدون إلى قبائح أعمالهم، (فَصَدَّهُمْ): منعهم، (عَنِ السَّبِيلِ): طريق الحق، (فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ) إليه، (أَلَّا يَسْجُدُوا) أي: صدهم أو زين لهم أعمالهم لئلا يسجدوا، ومن قرأ " ألَا " بالتخفيف، فمعناه: ألا يا قوم اسجدوا، وهو استئناف أمر من الله بالسجود، أو من الهدهد، أو من سليمان، (لله الذِي يُخْرِجُ الخبْءَ): يظهر ما خفى في غيره، وهو عام لإنزال المطر، وإنبات النبات، وإنشاء البنين، والبنات، وغيرها، (فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) فله استحقاق السجود لا لكرة تدور علي الفلك بأمر مديرها، (اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ): المحيط بجملة المكوَّنات، (قالَ) سليمان: (سَنَنْظُرُ)، نتعرف من النظر بمعنى التأمل، (أَصَدَقتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكَاذبِينَ) أي: أم كذبت فالتغيير للمبالغة، ومحافظ الفواصل، (اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ)، تنح عنهم إلى مكان قريب، (فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ): يردون بالجواب، أو ماذا يرجع بعضهم إلى بعض من القول، (قَالَتْ) بعدما ألقي الكتاب إليها: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ) خاطبت عظماء قومها، (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ) لوجازته وفصاحته، أو لأنه مختوم أو لشرف صاحبه، أو لغرابتة من جهات،(3/213)
(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ) استئناف، (وَإِنِّهُ) أي: المكتوب أو المضمون، (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وعن السلف لم يكتب أحد قبله البسملة، (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ) أي: المقصود ألا تتكبروا عليَّ، أو عليكم أن لا تتكبروا علي، فـ (أن) مصدرية، (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ): مؤمنين أو منقادين لما أظهر عندهم المعجزة، وهي إلقاء الكتاب على تلك الحالة أمرهم بالإسلام والانقياد، ونقل بعض المفسرين أن عبارة الكتاب " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم " الآية، فعلى هذا لما قالت: " أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ " كأن سائلاً قال: بين لي مضمونه ومكتوبه؟ فأجابت وقرأت، وعن بعضهم إن عبارته: من عبد الله سليمان ابن داود إلى بلقيس ملكة سبأ بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فلا تعلوا عليَّ وأتوني مسلمين، فحينئذ كأنَّ سائلاً يقول: بعدما قالت: ألقي إلي، ما فيه؟ فقالت: إن مضمونه، وما فيه من سليمان، وإن فيه بسم الله الرحمن الرحيم إلخ، وترك الواو في " أَلَّا تَعْلُوا " ليدل على أنه المقصود من الكتاب.
* * *(3/214)
(قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
* * *(3/215)
(قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي): أجيبوا لي في أمرى الحادث، (مَا كُنْتُ قَاطِعَةً): فاصلة (أَمْرًا): ما أبته، (حَتَّى تَشْهَدُونِ): إلا بمحضركم، (قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ): عدد كثير، (وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ): بلاء ونجدة في الحرب كان الملأ ثلاثمائة واثنا عشر أميرًا مع كل منهم عشرة آلاف، (وَالأَمْرُ) موكول، (إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ): من المقاتلة والصلح نطعك، (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً) عنوة وقهرًا، (أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً)، ذكرت لهم عاقبة الحرب، وسوء مغبتها، وأنها سجال لا يدرى عاقبتها، (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) هو من كلام الله تصديق لها، وقيل: من تتمة كلامها تقريرًا، وتأكيدًا لما وصفت، (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ): بأيادي رسل، (فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ): بأي شيء يرجعون من حالة حتى أعمل بحسب ذلك، عن ابن عباس وغيره قالت: إن قبل الهدية فهو ملك نحاربه، وإن لم يقبل فهو نبي نتبعه، (فَلَمَّا جَاءَ) ما أهدي إليه أو الرسول، (سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ) خطاب للرسل، أو للرسول والمرسل على تغليب المخاطب، (بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللهُ): من النبوة والملك والمال، (خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ) فلا وقع لهديتكم عندي (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ) التي يرسل بها بعضكم إلى بعض،(3/216)
(تَفْرَحُونَ) أو بل أنتم بهذه الهدية التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار على الملوك، بأنكم قدرتم على إهداء مثلها، وأما أنا فغني عنها، وقيل معناه: بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم، وتفرحوا بها، فيكون عبارة عن الرد، والهدية الذهب والجواهر مع الجواري والغلمان (ارْجِعْ) أيها الرسول، (إِلَيْهِمْ فَلَنَأتيَنَّهُم بجُنُودٍ لَا قِبَلَ): لا طاقة، (لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنهَا) من بلدتهم، (أَذلةً)، ذليلين بذهاب أسباب عزهم، (وَهُمْ صَاغرُونَ): أسراء، (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) لما وصف الهدهد عرشها أعجبه فأراد أن يأخذه قبل إسلامها، لأنه يحرم عليه أموالهم بعد الإسلام (1)، أو طلب عرشها ليريها معجزة أخرى، أو أراد اختبار عقلها بأن تعرف عرشها، (قَالَ عِفرِيتٌ): خبيث قوي، (مِّنَ الجِنِّ) بيان له، (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ): من مجلسك للحكومة، وكان يجلس إلى نصف النهار، (وَإِنِّي عَلَيْهِ): على حمله، (لَقَوِيٌّ
__________
(1) قول ساقط يكفي في رده ودفعه عدم قبول هديتهم، والراجح - والله أعلم - ما ذكره المصنف بعد ذلك. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(3/217)
أَمِينٌ) على ما فيه من الجواهر، فقال سليمان: أريد أسرع من هذا، (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ) جنس الكتب السماوية، وهو آصف كاتبه صديق يعلم اسم الله الأعظم، وعن بعض هو [الخضر]، وكان عرشها في اليمن وسليمان في بيت المقدس، (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أي: قبل أن ترد طرفك التي أرسلت نحو شيء، وهذا مثل في الإسراع، وآتيك في الموضعين يحتمل الفعل واسم الفاعل، (فَلَمَّا رَآهُ): العرش، (مُسْتَقِرًّا): حاصلاً، (عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) اعترف بأنه فضل، وهو غير مستحق به، (لِيَبْلُوَنِي): يعامل معي معاملة من يختبر عبده، (أَأَشْكُرُ) نعمه فأرى ذلك من فضله بلا حول ولا قوة مني، (أَمْ أَكْفُرُ) بأن أرى نفسى مستحقًا له أقصر في أداء مواجبه، والفعلان بدلان من مفعول يبلو، (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) ترجع فوائده إليه، (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ) عن شكره، (كَرِيمٌ) بالإفضال على من يكفر، (قَالَ نَكِّرُوا): غيروا، (لَهَا عَرْشَهَا) بتقديم شيء، وتأخير شيء من أجزائه، وتبديل جواهره عن مكانها، (نَنْظُرْ) جواب الأمر، (أَتَهْتَدِي): إلى أنه عرشها، (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ): بلهاء لا تعرف شيئًا [إذ ذكرت عنده] بسخافة العقل، (فَلَمَّا(3/218)
جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) رعت الحزم فما جزمت لقيام احتمال عقلي، وهذا من ذكائها، (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) بصحة نبوته، (مِنْ قَبْلِهَا): قبل تلك المعجزة التي رأيناها اليوم، (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ): منقادين له قبل مجيئنا، (وَصَدَّهَا): منعها، (مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ): عبادتها الشمس عن التقدم إلى الإسلام، (إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ)، َ مستأنفة بمنزلة العلة، وقوله: " وصدها " إلى هنا إما من كلام الله، أو من كلام سليمان، أو قوله: " وأوتينا العلم " إلخ من كلام سليمان وقومه عطفوه على جوابها؛ لأنه لاح من جوابها إيمانها بالله ورسوله، حيث جوزت خرق العادة الذي هو من معجزات الأنبياء أي: وأوتينا العلم بالله قبلها، وكنا منقادين لم نزل على دين الله، وغرضهم من هذا الحديث التحدث بنعم الله شكرًا له، وقيل معناه: وصد سليمان بلقيس عن عبادة الشمس، أو صدها عن التوحيد عبادتها للشمس وكونها نشأت بين أظهر المشركين لا سخافة عقلها كما قيل، (قِيلَ لَهَا ادْخلِي الصَّرْحَ) القصر أُمر قبل قدومها فبُني قصر صحنه من زجاج أبيض وتحته(3/219)
الماء، وألقي فيه حيوانات البحر، ووضع سريره في صدره، (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً) ماءًا راكدًا، (وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا) وإنما فعل ذلك ليريها عظمته ومعجزته، أو لأنه أراد أن يتزوجها، وقد قيل له: إن قدميها كحافر حمار، فأراد أن يبصرها فرأى أحسن الناس ساقًا (1)، (قَالَ) لها: (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ)، مملس، (مِنْ قَوَارِيرَ): زجاج فلا تخافي ولا تكشفي عن ساقيك، (قَالَتْ) لما رأت معجزاته ودعاها إلى الإسلام: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بالشرك، (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ) فيما أمر به عباده.
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ ___________
(1) من الإسرائيليات المنكرة التي يتنزه عنها آحاد المتقين فكيف بنبي مدحه الله تعالى بقوله (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30). اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية)(3/220)
وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لله وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ) أي: بأن، (اعْبُدُوا اللهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ): فريق مؤمن وفريق كافر، (يَخْتَصِمُونَ)، واختصامهم ما مر في سورة الأعراف " قال الذين استكبروا " [الأعراف: 75] الآية، (قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ): بالعقوبة فتقولون: ائتنا بما تعدنا، (قَبْلَ الْحَسَنَةِ): التوبة،(3/221)
فتؤخرونها إلى نزول العذاب، كانوا يقولون إن صدق إيعاده: تبنا حينئذ، زاعمين أنها مقبولة حينئذ، لخاطبهم عدى حسب اعتقادهم، (لَوْلَا): هلا، (تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) قبل العذاب، (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) فإنما لا تقبل حينئذ، (قَالُوا اطَّيَّرْنَا): تشاءمنا، (بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) فإنهم قحطوا وتفرقت كلمتهم منذ كذبوه، (قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) أي: شؤمكم عنده أتاكم منه بكفركم، (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ): تختبرون بالخير والشر، أضرب عن بيان الطائر إلى ذكر ما هو الداعي إلى الضراء، (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ): في مدينة ثمود، (تِسْعَةُ رَهْطٍ) أي: أنفس، وقع تميزًا للتسعة، لأنه بمعنى الجماعة، وهو من الثلاثة أو من السبعة إلى العشرة، وهم الذين عقروا الناقة أبناء أشرافهم، (يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) يعني: أعمالهم محض فساد، (قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللهِ) أي: قال بعضهم لبعض احلفوا، (لَنُبَيِّتَنَّهُ) أي: لنقتلنه ليلاً، (وَأَهْلَهُ)، والبيات: مباغتة العدو ليلاً، (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ) لولي دمه، (مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ): ما حضرنا إهلاكهم، (وَإِنَّا لَصَادِقُون) أي: ونحلف إنا لصادقون، أو نقول له ذلك، والحال إنا عند الناس عظماء صادقون قيل: إنا لصادقون في ذلك القول لأنا ما حضرنا مهلكهم وحده، بل مهلكه ومهلكهم كأن الكذب عندهم أقبح من قتل نبي الله والمؤمنين، (وَمَكَرُوا مَكْرًا) بتلك المواضعة، (وَمَكَرْنَا مَكْرًا): جازيناهم على ذلك، (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) بمكرنا، (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ) فإنهم لما خرجوا لإهلاكهم بعد عقر الناقة دمغتهم الملائكة بالحجارة، أو جثم عليهم جبل فماتوا، (وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ): وإهلاكهم(3/222)
بالصيحة، وقراءة " إنا " بكسر الهمزة بالاستئناف، وخبر كان " كيف "، وإن جعلتها تامة فـ (كيف) حال، أو بدل، (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً): خالية أو ساقطة، حال عاملها معنى الإشارة، (بِمَا ظَلَمُوا): بسبب ظلمهم، (إن فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فإن الجهال لا يتأملون حتى يتعظوا، (وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتًقُونَ): صالحًا ومن معه، (ولوطًا) أي: اذكره، (إِذْ قَالَ) بدل، (لِقَوْمِه أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ) كأنها لقبحها ليست الفاحشة إلا إياها، (وَأَنتمْ تُبْصِرُونَ): يبصر بعضكم بعضًا لا تستترون، وتأتون في ناديكم المنكر، أو تعلمون أنها فاحشة، (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً): تتركون المانع الشرعي والزاجر العقلي بمجرد شهوة، (مِنْ دُونِ النِّسَاءِ) التي لا مانع لها لا شرعيًا ولا طبعيًا، (بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون): سفهاء، ولما كان القوم في معنى المخاطب ذكر الفعل بصيغة الخطاب، (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ): يتنزهون عن أفعالنا ويعدونها أقذارًا، وعن ابن عباس: هذا استهزاء، (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ) أي: قدرنا كونها من الباقين في العذاب، (وَأَمْطَرنا عَلَيْهِم مَّطَرًا): هو الحجارة، (فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) قد مر إعرابه في آخر سورة الشعراء فتذكر، (قُلِ) يا محمد: (الْحَمْدُ لله وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) أمره أن يحمد على نصرة أوليائه وإهلاك أعدائه وأن السلام على عباد الله المصطفين الأخيار، وهم الأنبياء، وعن ابن عباس هم الصحابة(3/223)
اصطفاهم لنبيه رضي الله عنهم، (آللهُ) الذي نجَّى من وحَّدَه من الهلاك، (خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) الأصنام التي لم تغن شيئًا عن عابديها، وهو إلزام لهم وتسفيه لرأيهم، فمن المعلوم ألَّا خير فيما أشركوه أصلاً.
* * *
(أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
* * *(3/224)
(أَمَّنْ) بل أمَّن، (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) قيل: تقديره أما يشركون خير أمَّن خلق السماوات والأرض، (وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنا بِهِ) عدل إلى التكلم، للتنبيه على أن الإنبات الذي هو عندكم من أنفع الأشياء مختص به لا يقدر عليه غيره، (حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ): بساتين ذات حسن، (مَا كَانَ لَكُمْ) ليس في قدرتكم، (أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ): أغيره يقرن به، (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) عن الحق، (أمَّن جَعَلَ) بدل من (أَمَّنْ خَلَقَ)، (الأَرْضَ قَرَارًا): دحاها وسواها للاستقرار، (وَجَعَلَ خِلالَها): وسطها، (أَنْهَارًا) جارية، (وَجَعَلَ لَها رَوَاسِيَ): جبالاً ثوابت، (وَجَعَلَ بَينَ البَحْرَيْنِ): العذب والمالح، (حَاجِزًا): مانعًا من قدرته لا يختلطان كما مر في سورة الفرقان، (أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ): جهلاء، (أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ) الكفرة يعترفون بذلك لا يلجئون في حال الاضطرار إلا إليه، (وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ): سكانها يهلك قرنًا وينشئ آخر، (أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) (ما) صلة، أي: تذكرون تذكرًا قليلاً لا يترتب عليه نفع، أو المراد من القلة العدم، (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) بما خلق من الدلائل السماوية كالنجوم، والأرضية كالجبال، (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا): مبشرات، (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ): قدام المطر، (أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ) يقدر على مثله، (تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) الكفرة وإن أنكروا الإعادة، لكن كانت مبينة بالحجج الواضحة فهي ثابتة، (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ(3/225)
مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) بأسباب سماوية وأرضية، (أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ) يفعل ذلك، (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) على أن مع الله إلهًا آخر، (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، في دعواكم، (قُل لَا يَعلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلا اللهُ)، لما بين اختصاصه بكمال القدرة أتبعه ما هو كاللازم له، وهو التفرد بعلم الغيب، وقد ذكر أنها نزلت حين سأل المشركون متى البعث والإعادة، والاستثناء منقطع، ورفعه على لغة بني تميم، واختيار تلك اللغة لنكتة، وهي المبالغة في نفي علم الغيب عن غيره كما قالوا في: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس والمراد بمن فيهما الموجودون، فإن العوام يحسبون أن كل موجود فيهما ألبتَّة، فعلى هذا الاستثناء متصل، (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ): متى ينشرون، (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ): انتهى واضمحل، في شأن الآخرة لا يقرون بوجوده سيما بوقته، وقراءة " ادَّارَكَ " بمعناه، أي: تتابع حتى انقطع قيل: بمعنى تلاحق، وتساوى أي: هم في الجهل في أمر الآخرة سواء، أو بمعنى أدرك انتهى وتكامل وادَّارَكَ: تتابع،(3/226)
واستحكم علمهم في يوم القيامة حين عاينوها، ولا ينفعهم العلم كما قال تعالى (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا) [مريم: 38]، الآية، (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ منْهَا) أي: لا يقرون بوجودها، بل لهم الشك فيها فإن عدم الإقرار بشْيء قد يكون لعدم التوجه إليه، وقد يكون بعده، والثاني أقبح، ويحسن الإضراب، (بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ): عيون قلوبهم عُمْي، ومنشؤ عماهم الآخرة، فلذلك عداه بمن دون عن، فإن الكفر بها صيرهم أضل من البهائم، وهذا وإن كان خاصًا بالمشركين ممن في السماوات والأرض، نسب إلى الجميع كما يسند فعل البعض إلى الكل.
* * *
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)(3/227)
إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
* * *
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ) من القبور أحياء، والعامل في " إذا " فعل يدل عليه " أئنا لمخرجون "، وهو يخرج؛ لأن ما بعد كل من الهمزة وإن واللام لا يعمل فيها قبله، وتكرير الهمزة لتأكيد الإنكار، (لَقَدْ وَعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنَا مِن قَبْلُ): من قبل بعث محمد، (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ): سمرهم وأكاذيبهم، (قُلْ) لهم: (سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الُمجْرِمِينَ) حتى تعلموا أن هذا ليس بكذب وإسمار، (وَلَا تَحْزَنْ) يا محمد، (عَلَيْهِمْ): على تكذيبهم وإعراضهم عنك، (وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ): حرج صدر، (مِّمَّا يَمْكُرُونَ): من مكرهم فإن الله يعصمك، (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ): القيامة، وقيل: وعد العذاب، (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم)، دنا لكم وتبعكم، (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) كيوم بدر، فإنه قامت فيه قيامتهم، وحكم لعل وعسى في مواعيد الملوك حكم الجزم، وإنما يطلقونه إظهارًا لوقارهم، وأن الرمزة منهم كافية في الأغراض، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى(3/228)
النَّاسِ) بتأخير عذابهم مع استحقاقهم، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ وَإِنْ رَبَّكَ لَيعْلَمُ مَا تُكِنُّ): ما تخفي، (صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ): خافية، (فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ): اللوح المحفوظ، (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: كأمر عيسى وعزير، وأحوال الجنة والنار، (وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ) فإنهم أهل الانتفاع به، (إِنَّ ربَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم): بين المختلفين في الدين، َ (بِحُكْمِهِ): بما يحكم به، (وَهُوَ العَزِيزُ): فلا يرد حكمه، (العَلِيمُ) بأحوال من يحكم عليه وله، (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الحَقِّ الُمبِينِ): والحق يعلو ولا يعلى، (إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى): الكفار، فإنهم كالموتى في عدم الانتفاع بما يستمعون، (وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) والكفار كالصم في تلك الحال، التي هي أبعد من الاستماع، فإن الأصم إذا كان حاضرًا قد يسمع، (وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِم): وهم عمي، (إِنْ تسْمِعُ) سماع انتفاع، (إِلَّا مَن يُؤْمِن بِآيَاتِنَا): من(3/229)
هو في علم الله مصدق بآياتنا، (فَهُمْ مُسْلِمُونَ): مخلصون منقادون، فبلغ أنت رسالتك، ولا يضيق صدرك، (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ): وجب العذاب والسخط، (عَلَيْهِمْ) حين لا يقبل من كافر الإيمان، (أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ): من نفس مكة، أو من بواديها، وفي الحديث (أول الآيات خروجًا طلوع الشمس من المغرب، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيتها كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريب)، (تُكَلِّمُهُمْ) من الكلام، أو من الكَلْم، أي: الجرح، فقد ورد أن عصا موسى تكون بيدها فتنكت في وجه المؤمنين نكتة بيضاء فتبيض منها وجوههم، وبيدها خاتم سليمان، وتنكت الكافر بها في وجهه فتسود منها وجوههم، وفي الشواذ (تَكْلمهم) بفتح التاء وجزم الكاف، (أَنَّ النَّاسَ) قرئ بفتح الهمزة وكسرها، ومن قال: إن هذا كلامها، فيكون تقديره: بأن الناس، والكسر لتضمين الكلام معنى القول، وعند من يقول: إنه من الكلم، أو كلامها إبطال كل دين سوى الإسلام، أو لعنة الله على الكافرين، فتقديره: لأن الناس علة(3/230)
لتكلمهم، أو لـ أخرجنا، وعلى كسرها مستأنفة، (كَانُوا بِآيَاتِنَا) يعني بخروجها، وسائر أحوالها، فإنَّهما من آيات الله، أو بالقرآن، فإن أكثر الناس حينئذ كفار، (لَا يُوقِنُونَ) وكلامها على بعض التوجيهات حكاية لقول الله.
* * *
(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لله سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
* * *
(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ) " من " للتبعيض، (فَوْجًا): جماعة، (مِمَّنْ) " من " للبيان، (يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبس أولهم على آخرهم ليجتمعوا، وهو(3/231)
عبارة عن كثرتهم، (حَتَّى إِذَا جَاءُوا) إلى المحشر، (قَالَ) الله لهم: (أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا) الواو للحال أي: أكذبتموها بادئ الرأي من غير إحاطة علم بكنهها أو للعطف، أي: أجمعتم بين التكذيب، وعدم التأمل لتحققها (أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) أم أي شيء كنتم تعملون بما بعد ذلك؟! وهذا توبيخ وتبكيت كما تقول لعبدك الذي أكل مالك، وأنت تعلمه: أكلته أم بعته أم ضل عنك أم ماذا عملت به؟! (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) حل عليهم العذاب الموعود، (بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ) بحجة وعذر في جواب هذا السؤال عنهم، (أَلَمْ يَرَوْا) ألم ينظروا ويتفكروا؟ (أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ) بالقرار والنوم، (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) في نصب مبصرًا بالحال مبالغة، فإن ما هو حال لأهله جعله من أحواله يعني: لو تأملوا لعلموا كمال قدرته ولطفه على خلقه، فما أنكروا الحشر وشكروا نعمه فما أشركوا به، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإنهم المتأملون في مثل تلك الآيات، (وَيَوْمَ) أي: اذكر يوم، (يُنفَخُ في الصُّورِ): قرن ينفخ فيه إسرافيل في آخر عمر الدنيا، والمراد الزمان الممتد الشامل لزمان النفختين، (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من الهول، وعن بعضهم معناه يلقى عليهم الفزع(3/232)
إلى أن يموتوا، (إِلا مَن شَاءَ اللهُ)، عن كثير من السلف: هم الشهداء لا يصل إليهم الفزع أحياء عند ربهم، أو جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، لا يصل إليهم الفزع ثم يقبض أرواحهم، أو موسى بدل صعقته في الدنيا، أو الحور [ورضوان] ومالك والزبانية، وقيل غير ذلك، (وَكُلٌّ أَتَوْهُ) المراد حضورهم الموقف، (دَاخِرِينَ): صاغرين، (وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً): ثابتة في مكانها، (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) في السرعة والأجرام العظام إذا تحركت لا يكاد تتبين حركتها كالسحاب، (صُنْعَ اللهِ) مصدر مؤكد لنفسه من مضمون (يوم ينفخ) الآية، (الَّذِي أَتْقَنَ): أحكمَ (كُلَّ شَيْءٍ) وأودع فيه من الحكم ما أودع، (إِنَّه خَبِير بِمَا تَفْعَلُونَ) فيجازيهم عليه، (مَن جَاءَ) في ذلك اليوم، (بِالْحَسَنَةِ): كلمة التوحيد، والإخلاص، (فَلَهُ خَيْرٌ منْهَا): رضوان الله، أو تضعيف حسنته، (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) نوع فزع، وهو فزع دخول النار، أو الفزع مطلقه، (وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ) أجمع السلف على أن المراد من السيئة هنا الشرك، (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ)، المراد من الوجوه: الأنفس، أو ذكر الوجوه للإيذان(3/233)
بأنهم يكبون فيها منكوسين، (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تعْمَلُونَ) أي: قيل لهم ذلك، (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا) أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم ذلك، والبلدة مكة حرم الله صيدها ونباتها وأشجارها ولقطها، (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ): ملكًا، (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) لله، (وَأَنْ أَتْلُوَ القُرْآنَ) على الناس، (فَمَنِ اهْتَدَى): بالقبول والاتباع، (فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) لا ينفع إلا نفسه، (وَمَن ضَلَّ): بعدم القبول والاتباع، (فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الُمنذِرِينَ) فلا عليَّ من ضلالكم شيء، (وَقُلِ الحَمْدُ لله) على ما أنعم عليَّ من النبوة والعلم، (سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ) في الدنيا كوقعة بدر، (فَتَعْرِفُونَهَا) حين لا ينفعكم، (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فتأخير العذاب ليس لغفلة، بل لرحمة.
والحمد لله رب العالمين
* * *(3/234)
سورة القصص مكية
قيل إلا قوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ (52) .. إلى قوله: " الْجَاهِلِينَ (55) "
وهي ثمان وثمانونَ آية وتسع ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ(3/235)
أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
* * *
(طسم تِلْكَ) إشارة إلى السورة (آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) القرآن أو اللوح المحفوظ (نَتْلُو): نقرأ بلسان جبريل أو نزل (عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ) مفعول نتلوا ومن للتبعيض (مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ) محقين (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنَّهُم المنتفعون به (إِنَّ فِرْعَوْنَ) استئناف يبين بعض النبأ (عَلا في الأَرْضِ) استكبر في أرض مصر (وَجَعَلَ أَهْلَها شيَعًا) أصنافًا يصرف كل صنف فيما يريد (يَسْتَضْعِف) حال من فاعل جعل (طَائِفَةً مِّنْهُمْ) يعني: بني إسرائيل (يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ) بدل من يستضعف (وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ) يخليهن أحياء للخدمة (إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ) حكاية حال ماضية (أَنْ نَمُنَّ) نتفضل (عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) بإنقاذهم من بأسه، والجملة عطف على " إنَّ فرعونَ " أو حال من مفعول يستضعف " وأن نمن " مستقبل وإرادة الله إذا تعلقت بشيء في زمان مترقب وجب أن لا يتوقف عن ذلك الزمان (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) قادة في الخير أو ملوكًا (وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ): لما كان في تحت يد فرعون وقومه، (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ): نسلطهم في أرض مصر والشام (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا) من بني إسرائيل متعلق بـ نُرِيَ (مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) من ذهاب ملكهم في يد مولود من بني إسرائيل فإن القبط قد سمعوا ذلك من بني إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل عليه السلام (وَأَوْحَيْنَا)(3/236)
ألهمنا (إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ) ما دمت غير خائفة عليه (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ) من أن يحس فرعون به (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) بحر النيل (وَلَا تَخَافِي) عليه فعلينا حفظه (وَلَا تَحْزَنِي) في هجره (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) فإن أمه جعلته فِي تابوت، وسيرته فِي النيل فوقع التابوت في نهر كان يجري منه إلى بيت فرعون فأخذه أهل داره (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) اللام لام العاقبة (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) مذنبين فعاقبهم الله بأن ربَّى عدوهم على أيديهم، أو خاطئين في الأفكار فأخطئوا في تربية عدوهم (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) لفرعون حين فتحت التابوت ورأت فيه غلامًا بهيًّا (قُرَّتُ) أي: هو قرة (عَيْنٍ لِي وَلَكَ) فأجابها أما لك فنعم، وأما لي فلا فكان كذلك (لَا تَقْتُلُوهُ) فإنه جاء من أرض أخرى، وهو أكبر من ابن سنة (عَسَى(3/237)
أَن يَنفَعَنَا) فإن آثار اليمن تظهر منه (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) نتبناه فليس لها ولد منه (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) من كلام الله أي: التقطوا، وقيل: كذا وكذا أو الحال أنَّهم لا يشعرون ما أراد الله منه بالتقاطهم إياه وقيل: من كلام امرأة فرعون والضمير للناس، أي: نتخذه ولدًا والناس لا يشعرون أنه ولد غيرنا (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا) خاليًا من كل شيء كالمجنون في غم ولدها (إِنْ كَادَتْ) إنَّهَا كادت (لَتُبْدِي بِهِ) أي: من شدة الحزن كادت تظهر أن لها ولدًا ذهب به الماء (لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا) بالصبر جوابه ما يدل عليه ما قبله (لِتَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ) من المصدقين بوعد الله حين ألهمها بأنا رادوه إليك وهو علة الربط قيل: معناه أصبح فؤادها خاليًا من الغم لسماعها أن فرعون تبناه وكادت من الفرح تظهر حاله (وَقَالَتْ لأختِهِ) أخت موسى مريم (قُصِّيهِ) اتبعي أثره وتتبعي خبره (فبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنبٍ) عن بعد (وَهُمْ لَا يَشْعرُونَ) أنها أخته (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المَرَاضِعَ) تحريمًا قدريًا، يعني منعناه من أن يرتضع من المرضعات (مِنْ قَبْلُ) من قبل تتبعها(3/238)
(فقَالَتْ) أخته: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ) يضمنونه ويرضعونه، لكم: لأجلكم (لَكُمْ وَهُمْ له نَاصِحُونَ) لا يقصرون في خدمته قيل لما قالت ذلك القول أخذوها، وقالوا: عرفت هذا الولد فدلينا، فقالت: لا أعرفه وإنما أردت أنهم للملك ناصحون لا للولد حتى استدللتم على أني أعرفه فخلوها فأتت بأمها فالتقم ثديها فقالوا: من أنت منه، فقالت: إني امرأة طيبة النشر لا أوتى بصبي إلا قبلني فأعطوه إياها مع أجر وعطاء جزيل فذهبت به إلى بيتها شاكرة (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا) برؤيته (وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ) علم مشاهدة (أَنَّ وَعْدَ اللهِ) فِي رده إليها وجعله من المرسلين (حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) غرضنا في رده إليها، أو لا يعلمون أن وعدنا رده إليها أو أن وعده حق.
* * *
(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ(3/239)
فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
* * *
(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) منتهى قوته وهو ما فوق الثلاثين (وَاسْتَوَى) اعتدل عقله (آتَيْنَاهُ حُكْمًا) نبوة (وَعِلْمًا) بالدين أو حكمة وفهما قبل النبوة (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) مثل ذلك الجزاء نجزيهم (وَدَخَلَ المَدِينَة) مدينة بأرض مصر وهذه الجملة ذكر سبب وصوله إلى النبوة وقصته على الوجه الأول الذي فسرنا الحكم بالنبوة، فإنما كانت قبل بعثته (عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ منْ أَهْلِهَا) كان وقت القيلولة وقيل بين العشائين (فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ) من بني إسرائيل (وَهَذا مِنْ عَدُوِّهِ) من القبط والإشارة على الحكاية (فَاسْتَغَاثَهُ) طلب أن يغيثه(3/240)
بالعون (الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدوِّهِ) لما كان فيه معنى طلب العون عدي بعلى (فوَكزَهُ) هو الضرب بجمع الكف أو الدفع بأطراف الأصابع (موسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) فقتله (قَالَ هَذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) لأنه لم يؤمر بقتل الكفار (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بقتله (فَاغْفِرْ لِي) ذنبي (فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ) بحق إنعامك (عَلَيَّ) اعصمني (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا) معينًا (للْمُجْرِمِينَ) لمن أدت مظاهرته إلى جرم أو معناه أقسم بإنعامك علي وجوابه محذوف، أي: لأتوبن، وعن ابن عباس لم يستثن، فابتلي به مرة أخرى، أي: لم يقل فلن أكون إن شاء الله (فأَصْبَحَ) موسى (فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ) ينتظر سوءً (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ) ذاك الإسرائيلي (يَسْتَصْرِخُهُ) يستغيثه (قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) فإنك تسببت لقتل، ثم تدعوني إلى آخر (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ) موسى (أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا) بالقبطي (قَالَ) الإسرائيلي: (يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ) لما سمي الإسرائيلي غَوِيًّا ظن أن البطش عليه (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) بين الناس فلما سمع القبطي هذا الكلام منه راح إلى باب فرعون، وأخبره فأمر بقتل موسى وأخذ جنوده الطرق لأخذه (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ) من آخرها (يَسْعَى) يسرع صفة لرجل (قَالَ يَا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ) فرعون وأشراف (يَأْتَمِرُونَ) يتشاورون (بِكَ) بسببك(3/241)
(لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ) من البلد (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) لك بيان لا صله مقدم (فَخَرَجَ مِنْهَا) من المدينة (خَائِفًا يَتَرَقَّبُ) لحوق شر (قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) من شرهم.
* * *
(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
* * *(3/242)
(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ) قبالة (مَدْيَنَ) قرية شعيب، ولم تكن تحت سلطان فرعون (قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) قصد الطريق، وكان لا يعرف الطريق إلى مدين فتوكل وتوجه (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ) وصل إلى بئر لهم (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً) جماعة (مِّنَ النَّاسِ يَسْقُون) مواشيهم (وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ) في مكان أسفل من مكانهم (امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ) تمنعان غنمهما عن الماء انتظارًا لخلو شفير البئر (قَالَ) موسى: (مَا خَطْبُكُمَا) ما شأنكما تذودان؟ (قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ) يصرف (الرِّعَاءُ) مواشيهم (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) لا يستطيع الخروج للسقي، ونحن ضعفاء لا نقدر على مزاحمة الرجال (فَسَقَى) مواشيهما (لَهُمَا) رحمة عليهما عن عمر: " لما فرغ الناس جعلوا صخرة لا يستطيع رفعها إلا عشرة على رأس البئر فرفع موسى الحجر وحده ثم لم يستق إلا ذنوبًا واحدًا ودعا بالبركة وروي غنمهما (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) ظل شجرة (فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ) طعام (فَقِيرٌ) محتاج سأل ربه أن يرزقه شيئًا ليأكل فإنه من الجوع في غاية " وما " موصوفة وتنكير خير للشيوع أي: قليل أو كثير، وتعدية فقير باللام لأنه ضمن معنى طالب وسائل (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) مستحيية متسترة بكم درعها (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ) فإنهما لما رجعتا سأل أبوهما عن سرعتهما اليوم في السقي فقصتا،(3/243)
فبعث إحداهما لتدعوه (لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) جزاء سقيك (فَلَمَّا جَاءَهُ) موسى (وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) أخبره بأمره الذي أخرجه من أرضه (قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فرعون وقومه (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) لرعي الغنم (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) وهو كذلك علمت قوته من قلع الحجر، وأمانته من أنه أمرها بأن تكون خلفه في الطريق كيلا يراها، واختلف في أنهما ابنتا شعيب أو ابن أخيه أو رجل مؤمن من قومه (قَالَ(3/244)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي) من أجرته إذا كنت له أجيرًا، فقوله: (ثَمَانِيَ حِجَجٍ) ظرفه، أو من أجرته كذا إذا اثبته إياه، فثماني حجج ثاني مفعوليه، أي: رعية ثماني حجج (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا) عمل عشر حجج (فَمِنْ عِنْدِكَ) فإتمامه من عندك تفضلاً وتبرعًا، ويمكن أن يكون مثل هذا النكاح جائزًا في شرعهم، ويمكن أن يكون هذا استدعاء العقد لا نفسه (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) بالإلزام إتمام العشر (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) في حسن الصحبة، والوفاء بالقول (قَالَ) موسى: (ذَلِكَ) الذي عاهدتني فيه (بَيْنِي وَبَيْنَكَ) قائم لا نخرج عما شرطنا (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ) الأقصر والأطول (قَضَيْتُ) ما زائدة (فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ) لا يعتدى عليَّ في طلب الزيادة عليه، ولي الخيار مطلقًا (وَاللهُ عَلَى مَا نَقُولُ) من المشارطة، (وَكِيلٌ) شاهد.
* * *
(فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ(3/245)
فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
* * *
(فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ) في الحديث قضى أطولهما (وَسَارَ بَأَهْلِهِ) بامرأته بنته الصغرى وقيل الكبرى (آنَسَ) أبصر (مِن جَانبِ الطورِ نَارًا) وكان في البرية في ليلة مظلمة شديدة البرد (قَالَ لأَهلِهِ امْكُثوا) لعل معها غيرها أو عظمها لأنها ابنة(3/246)
نبي (إِنِّي آنسْتُ نَارًا لعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخبَرٍ) من الطريق فإنه أخطأ الطريق (أَوْ جَذْوَةٍ) عودٍ غليظٍ (مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكمْ تَصْطَلونَ) تستدفئون بها من البرد (فَلَما أَتَاهَا نوديَ مِن شَاطِئ) جانب (الوَادِى الأَيْمَنِ) عن يمين موسى (فِي البقْعَةِ الُمبَارَكَةِ) متصل بالشاطئ، أو صلة لـ نودي (مِنَ الشجَرَة) بدل اشتمال من شاطئ فإنها نابتة على الشاطئ (أَنْ يَا مُوسَى) أن مفسرة (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) أي: الذي يكلمك رب العالمين (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) عطف على أن يا موسى (فَلَمَّا رَآهَا) أي: فألقاها وصارت ثعبانًا تَهْتَزُّ فلما رآها (تَهْتَزُّ) تتحرك بسرعة (كَأَنَّهَا جَانٌّ)، حية صغيرة من سرعة حركتها (وَلَّى مُدْبِرًا) منهزمًا من الخوف (وَلَمْ يَعْقبْ) لم يرجع (يَا مُوسَى) أي: نودي يا موسى (أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ) فرجع ووقف في مكانه الأول (اسْلُكْ) أدخل (يَدَكَ في جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ) كأنها قطعة قمر (مِنْ غَيْرِ سوءٍ) كبرص (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) أمر أن يضم إليه يده إذا خاف من شيء، وعن ابن عباس وغيره إذا خاف أحد ووضع يده على فؤاده يَخِفّ ويزول خوفه فمن الرهب أي: من أجله أو معناه تجلد ولا ترتعد من الخوف، والطائر ينشر جناحيه حين خوفه ويضم حين اطمئنانه (فَذَانِكَ) العصا واليد (برْهَانَانِ مِن ربِّكَ) معجزتان (إِلَى فِرْعَوْنَ)(3/247)
أي: مرسلاً بهما إليه (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) بها (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا) وقد مر أن له نوع لكنة (فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا) معينًا (يُصَدِّقُنِي) بإتمام الحجة ورفع الشبهة ويصدقني بالجزم جواب، وبالرفع صفة رِدْءًا، وعن مقاتل أرسله يصدقني فرعون لأن خبر الاثنين أوقع (إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ) نقويك (بِأَخِيكَ) فإن اليد تشتد بشدة العضد وجملة البدن تقوى بشدة اليد (وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا) حجة وبرهانًا (فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا) لا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكم) (بِآيَاتِنَا) بسبب إبلاغكما آيات الله، وقيل متعلق بـ نجعل (أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) وقيل: بآياتنا متعلق بـ الغالبون على أن يكون اللام فيه للتعريف لا بمعنى الذي (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى) على الله (وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا) الذي يدعونا إليه أو السحر (فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) في أيامهم (وَقَالَ مُوسَى) بعد أن كذبوه (ربي أَعْلَمُ بمَن جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ) فيعلم حقيتي وبطلانكم (وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقَبةُ الدَّارِ) النصرة والعاقبة المحمودة في الدنيا (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) أظهر عند الرعية أن وجود إله غيره غير معلوم، وأنه يستطيع أن يحقق ذلك، فلذلك أمر ببناء صرح وقال: (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ) أطبخ لي الآجر (فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا) بناءً مشرفًا عاليًا (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى) كأنه ظن(3/248)
صفحة فارغة(3/249)
بجهله أنه لو كان لكان جسمًا في السماء يمكن الصعود إليه (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ) أي: موسى (مِنَ الْكَاذِبِينَ) في أن لكم إلهًا غيرى وهو رسوله (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) بغير استحقاق (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ) اعتقدوا أنه لا قيامة ولا معاد (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ) ألقيناهم (فِي الْيَمِّ) ككف رمادٍ (فَانْظُرْ) يا محمد (كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) فحذر قومك عن مثلها (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً) قدوةً وسادةً للضلال (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) إلى موجباتها من الكفر والمعاصي (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ) بدفع العذاب (وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً يلعنهم الرسل والمؤمنون (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ المَقْبُوحِينَ) سود الوجوه زرق العيون.
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا(3/250)
قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
* * *
(وَلَقَدْ آتيْنَا مُوسَى الكِتَابَ) التوراة (مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرُونَ الأُولَى) قوم فرعون ونوح وعاد وثمود وغيرهم (بَصَائِرَ لِلنَّاسِ) من عمى القلب والغي، نصب على الحال من الكتاب (وَهُدًى) إلى الطريق المستقيم (وَرَحْمَةً) لو عملوا به نالوا رحمة الله (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ليكونوا على حالٍ يرجى منهم التذكر (وَمَا كُنتَ) يا محمد (بِجَانِبِ الغَرْبِيِّ) حاضرًا في جانب الغربي من الجبل الذي كلم الله موسى من الشجرة التي هي شرقية (إِذ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ) فوضنا إليه أمر الرسالة (وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) لذلك حتى تعرف هذه القصة وترى هذه الأحوال فما(3/251)
هو إلا من إعلام الله ووحيه، فكيف يرتاب أحد في نبوتك (وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا) خلقنا أممًا بعد موسى (فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) فخربوا الشرائع، وكذبوا الرسل وأفسدوا، ونسوا عهودهم فلذلك كذبوك وإن كانت دلائل نبوتك ظاهرة (وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا) مقيمًا (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) هم شعيب والمؤمنون به (تَتْلُو عَلَيْهِمْ) تقرأها عليهم تعلمًا منهم (آيَاتِنَا) التي فيها قصتهم فتحكي ما رأيت، وتعلمت قال بعض المفسرين معناه: ما كنت فيهم رسولاً تتلوا عليهم آياتنا فتقص ما قد رأيت منهم (وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) إليك أخبارهم بوحينا (وَمَا كنتَ بِجَانِبِ الطورِ إِذْ نادَيْنَا) موسى وأعطيناه التوراة، وقلنا له خذ الكتاب بقوة، وعن بعض السلف(3/252)
معناه إذ نادينا أمتك في أصلاب آبائهم حين سأل موسى رؤيتك، وقلت لي إنك لن تصل إلى ذلك لكن إن شئت أسمعتك صوت أمته (وَلَكِنْ) علمناك وأوحينا إليك (رحْمَةً مِّن ربِّكَ) عليك وعلى أمتك (لِتُنذِرَ قَوْمًا) متعلق بما قدرناه عاملاً في رحمته (مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) فإنهم في فترة بينك وبين عيسى (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكرُونَ) لكي يتعظوا (وَلَوْلا) هي امتناعية (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا) الفاء للعطف على تصيبهم (رَبَّنَا لَوْلَا) هلا (أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ) الفاء جواب لولا الثانية (آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وجواب لولا الأولى محذوف، أي: لما أرسلناك وحاصل الآية لولا قولهم ربنا هلا أرسلت رسولاً نؤمن به ويعلمنا الدين، إذًا عاقبناهم بسبب ما كسبت أيديهم من المعاصي لما أرسلناك(3/253)
فإرسالك لئلا يكون لهم حجة علينا إن عذبناهم يعني هم مستحقون للعقاب لكن تأخيره وإرسالك لقطع الحجة (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ مِنْ عِندِنَا) أي: محمد عليه السلام (قَالُوا) عنادا (لَوْلا) هلا (أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى) من اليد والعصا وغيرهما (أَوَ لَمْ يَكْفُروا) أي: ألم يؤت موسى ما أُوتِيَ وألم يكفروا أي أبناء جنسهم، وهم كفرة زمان موسى (بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبلُ قَالُوا) في موسى وهارون (سِحْرَانِ تَظَاهَرَا) تعاونا واتفقا، وقراءة " سحران " في معنى ذوا سحر أو سموهما سحران للمبالغة (وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ) منهما (كَافِرُونَ) أو معناه يطلب قريش منك مثل معجزات موسى، أو لم يكفروا بمعجزاته وقالوا فيكما يا محمد وموسى ساحران كل يصدق الآخر، ويعاونه أو القرآن والتوراة سحران كل يصدق الآخر، وقالوا: نحن بكل منهما كافرون (قُلْ) يا محمد (فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا) من التوراة والقرآن (أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أنا ساحران وهذا إلزامهم وتبكيتهم (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) دعائك إلى الإتيان بكتاب أهدى (فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ) لأنَّهُم ما رجعوا بعد ما ألزمتهم بالحجة عن العناد (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ) استفهام إنكار (بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ) حال للتوكيد وقيل للتقييد فإن هوى النفس قد يكون من الله (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ) المتبعين للهوى.
* * *
(وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ(3/254)
يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)
* * *
(وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القَوْلَ) أي: القرآن أتاهم متتابعًا متواصلاً قصصًا للأمم الخالية ونصائح ووعدًا ووعيدًا أو نزل عليهم نزولاً متصلاً بعضه ببعض (لَعَلهُمْ يَتَذَكرونَ) لكي يتعظوا (الَّذِينَ آتيْنَاهُمُ الكِتَابَ مِن قَبْلِهِ) من قبل القرآن (هُم) لا قريش (بِهِ يُؤْمِنون) نزلت في مؤمني أهل الكتاب أو في وفد جاءوا من عند النجاشي من الحبشة، " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول " الآية [المائدة: 83]، (وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) لأنا نعلم قبل ذلك محمدًا والقرآن لأن وصفهما مذكور في كتابنا (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) مرة على إيمانهم بكتابهم ومرة على إيمانهم بالقرآن، وإن كانوا مؤمنين به(3/255)
من قبل (بِمَا صَبَرُوا) بسبب صبرهم وثباتهم على اتباع الحق أولاً وآخرًا (وَيَدْرَءُونَ) يدفعون (بِالْحَسَنَةِ) بالطاعة (السَّيِّئَةَ) المعصية، أو لا يقابلون الأذى بمثله بل يعفون، بل يجازون بالإحسان (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) في الخير (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ) القبيح من القول كشتمهم (أَعْرَضُوا عَنْهُ) تَكرمًا (وَقَالوا) للاغين (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) المراد سلام المتاركة والتوديع (لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) لا نريد صحبتهم وطريقتهم وذلك حين كان المشركون يسبون مؤمني أهل الكتاب قائلين تبًّا لكم تركتم دين آبائكم (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) نزلت حين عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإيمان على أبي طالب في حين موته فأبى ورد (وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) بالمستعدين لذلك (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ) نؤمن بك (نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) نخرج من بلادنا، نزلت في قوم قالوا: نحن نعلم صدقك لكنا إن اتبعناك خفنا أن يخرجنا العرب من أرضنا مكة لإجماعهم على خلافنا فرد الله قولهم(3/256)
بقوله (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ) أو لم نجعل مكانهم (حَرَمًا آمِنًا) مع كفرهم، فكيف نعرضهم للتخوف والتخطف إذا كانوا موحدين! يعني: هم كاذبون في عذرهم (يُجْبَى) يجمع ويحمل (إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي: ثمرات كثيرة (رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا) مصدر من معنى يُجْبَى؛ لأنه في معنى يرزق أو مفعول له أو حال بمعنى مرزوقًا من ثمرات وجاز لتخصصها بالإضافة (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) جهلة، ولذلك قالوا ما قالوا ثم بين أنَّهم أحقاء بأن يخافوا بأس الله لا العرب، فقال: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ) أي: من أهلها (بَطِرَتْ) طغت وأشرت تلك القرية (مَعِيشَتَهَا) أي: في معيشتها منصوب بنزع الخافض أو مفعول بطرت بتضمين كفرت يقال: بطر فلان نعمة الله أي: استخفها وكفرها (فَتِلْكَ مَسَاكِنهمْ) خاوية (لَمْ تُسْكَنْ) من السكنى (مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا) أي: إلا سكنى قليلاً إذ لا يسكنها إلا المسافر حين العبور (وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) إذ لم يبق أحد منهم يرثهم (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى) أي: ما جرت عادة الله على إهلاكها (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا) أصلها وأعظمها فإنما الأشراف فيها (رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا) فإن أنكروا نزل عليهم العذاب (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) بتكذيب الرسول وارتكاب المعاصي وعن بعض المفسرين معناه ما كان في حكمنا وقضائنا أن نهلك القرى ونخرب الدنيا حتى نبعث في أم القرى "(3/257)
مكة " رسولاً إلخ (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) قليل أو كثير من أسباب الدنيا (فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا) ما هو إلا تمتع وزينة أيامًا قلائل (وَمَا عِنْدَ اللهِ) الجنة ونعيمها (خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ) فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.
* * *
(أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)(3/258)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لله وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
* * *
(أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا) حسن الوعد بحسن الموعود كالجنة (فهُوَ لاقِيهِ) مدركه (كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الذي هو مشوب بأنواع الغصص (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) للحساب والعذاب وهذه الآية كالنتيجة لما قبلها، ولذلك رتب عليها بالفاء نزلت في النبي عليه السلام وأبي جهل أو في علي وحمزة وأبى جهل (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ) أي: اذكر يوم ينادى المشركين (فيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) أي: تزعمونهم شركائي بحذف المفعولين (قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ) وجب عليهم العذاب، أي: شياطينهم وسادتهم في الضلال خوفًا من أن يقول السفلة لا ذنب لنا إنما الذنب لسادتنا (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا) أي: أغويناهم (أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا) أي: أغويناهم فغووا غيًّا مثل ما غوينا هي خبر هؤلاء والذين مع صلته صفته أو الموصول خبره وهذه مستأنفة (تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ) منهم(3/259)
(مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ) فإنهم يعبدون أهواءهم فنحن وهم سواء في الغواية شهدوا على أنفسهم بالغواية والإغواء ثم تبرءوا من عبادتهم، قال تعالى: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) الآية [البقرة: 166]، (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) لتخلصكم عن العذاب (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) لعجزهم (وَرَأَوُا العَذَابَ) لهم ولأربابهم (لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ) جواب لو محذوف، أي ما رأو العذاب أو لو للتمني فهو على الحكاية كأقسم ليضربن أو على تأويل رأوا متمنين هدايتهم (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) سأل أولاً عن إشراكهم ثم عن تكذيبهم رسلهم (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَاءُ يَوْمَئِذٍ) صارت الأنباء كالعمى عليهم لا تهتدي إليهم وفيه مبالغة ليس في عموا عن الأنباء وهذا كما يقول الكافر في قبره هاه هاه لا أدري قال مجاهد: معناه فخفيت عليهم الحجج (فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ) لا يسأل بعضهم عن بعض لفرط حيرة كل منهم (فَأَما مَن تابَ) من الشرك (وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) أي من جمع بين الإيمان والعمل الصالح فليطمع في الفلاح وليكن بين الخوف والرجاء وعسى من الكرام تحقيق (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) لا معقب ولا منازع لحكمه (مَا كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ) أي: التخير يعني ليس(3/260)
لأحد أن يختار عليه أو معناه ليس لهم اختيار أصلاً بل هم عاجزون تحت قدره قيل: ما موصولة مفعول يختار والعائد محذوف أي يختار الذي كان لهم فيه صلاحهم (سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن إشراكهم نقل أنها نزلت حين قالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف: 31]، (وَربكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) تستر (وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى) الدنيا (وَالْآخِرَةِ) فإنه مولي النعم في الدارين (وَله الحُكْمُ) فصل القضاء بين الخلق (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون) بالنشور (قُلْ أَرَأَيتمْ) أخبروني (إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا) دائمًا (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) لا نهار معه (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ) سماع فهم (قُلْ أَرَأَيتمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا) هو من السرد، والميم مزيدة (إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ)، لا ليل معه، (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ)، استراحة عن المتاعب وصف الليل دون النهار، لأن النهار مستغن عن الوصف، (أَفَلَا تُبْصِرُونَ) ختم الأولى بقوله أفلا تسمعون، والثانية بـ أفلا تبصرون لمناسبة قوة السامعة بالليل، وقوة الباصرة بالنهار(3/261)
(وَمِن رحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) في الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ) بالنهار بأنواع المكاسب (وَلَعَلكُمْ تَشْكُرُون) ولكي تشكروا نعمه (وَيَوْمَ يُنَاديهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) التكرار للتقريع بعد التقريع (وَنَزَعْنَا) أخرجنا (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا) نبيهم يشهد عليهم بما كانوا عليه (فَقُلْنَا) للأمم (هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) على صحة ما كنتم تدعونه (فَعَلِمُوا) حينئذ (أَنَّ الْحَقَّ لله) ولرسله لا لهم (وَضَلَّ عَنْهُمْ) غاب غيبة الضائع (مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) من الباطل.
* * *
(إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ(3/262)
عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
* * *
(إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى) ابن عمه آمن به ثم نافق (فَبَغَى) تكبر (عَلَيْهِمْ وَآتيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ) جمع مفتح وهو ما يفتح به (لَتَنُوءُ) تثقل (بِالْعُصْبَةِ) الجماعة الكثيرة (أوْلِي القُوَّةِ) ما الموصولة مع صلته التي(3/263)
هي أن واسمها وخبرها ثاني مفعولي " آتينا " (إِذ قَالَ) ظرف لتنوء (لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفرَحْ) بدنياك، فإن الفرح بها مدة قصيرة وهو يورث غمًّا سرمدًا (إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ) الأشرين البطرين بالدنيا (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ) من المال (الدَّارَ الْآخِرَةَ) بأن تصرفه في مرضاة الله (وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) فإن نصيب كل أحد ليس إلا ما يأكل ويلبس، أو النصيب ما ينفعك مالاً وما هو إلا أعمال الخير، قيل النصيب الكفن (وَأَحْسِن) إلى الناس (كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ) قيل: أحسن بالشكر كما أحسن الله بالإنعام إليك (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ) الظلم والكبر والمعاصي (فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) أي: أعطاني على علم وفضل عندي أستحقه لذلك، ولولا معرفته بفضلي ورضاه ما أعطاني وهو كان أقرأ بني إسرائيل وأحفظهم بالتوراة، قيل (عندى) خبر محذوف أي(3/264)
هذا في اعتقادي وظني وقيل: متعلق بـ أوتيت كقولك جاز ذلك عندى (أَوَ لَمْ يَعْلَمْ) عطف على محذوف أي: ألم يقرأ ولم يعلم (أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا) للمال، فلا تدل كثرة الدنيا على أن صاحبها يستحق رضى الله (وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)، أي: لا يسأل الله أو الملائكة المجرمين عن ذنوبهم، بل يدخلهم النار بلا سؤال وحساب وهذا في موطن خاص أو هو سؤال علم، بل هو سؤال توبيخ (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) من مراكب وملابس وخدم وحشم (قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) أي: المؤمنون الراغبون في الدنيا (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) من الدنيا (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ) أي: الأحبار لمن تمني ويلكم (وَيْلَكُمْ) دعاء بالهلاك مستعمل في الزجر (ثَوَابُ اللهِ) في الآخرة (خيْر لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) مما أوتي قارون (وَلاَ يُلَقَّاهَا) الثواب والتأنيث لأنه بمعنى المثوبة أو الجنة (إِلَّا الصَّابِرُونَ) على حكم الله، وهو من تتمة النصيحة أو المعنى ما يلقى هذه الكلمة التي تكلم بها العلماء إلا الصابرون فعلى هذا من كلام الله منقطع عن الأول(3/265)
(فخسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ) نقل أنه كان يؤذي موسى كل وقت فأعطى يومًا مالاً لامرأة لتنسبه إلى الزنا فلما كان يوم العيد في محضر الخلق رمته بنفسها فناشدها موسى أن تصدق، فقالت: أعطاني قارون جعلاً على أن أقذفك بنفسي فدعى عليه موسى فأوحى الله إليه أن جعلنا الأرض مطيعة لك فأمرها تأخذه فأخذته وإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة (فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ) أعوان (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) من الممتنعين من عذاب الله، أو من المنتصرين بنفسه (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ) منزلته (بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ) مركب من " وي " وهي كلمة تندم و " كَأَنَّ " أو ويل بمعنى ويلك وأن الله منصوب بمقدر وهو اعلم (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ) بمقتضى إرادته لا لكرامة وفضل (لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا) لأنا وددنا أن نكون مثله (وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) لنعمه أو بالله ورسله.
* * *
(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ(3/266)
وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
* * *
(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) في تلك الإشارة تعظيم للآخرة أي: التي سمعت بذكرها، وبلغك وصفها (نَجْعَلُهَا) إما خبر تلك والدار صفته أو الدار خبره وهو استئناف (لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) تكبرًا أو استكبارًا عن الإيمان (وَلَا فَسَادًا) عملاً بالمعاصي أو دعوة الخلق إلى الشرك (وَالْعَاقِبَةُ) الحسني (لِلْمُتَّقِينَ) عن معاصيه (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ) من وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة تبغيض السيئة إلى قلوب السامعين (إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي: إلا مثله فحذف المثل للمبالغة(3/267)
(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أي: تلاوته وتبليغه (لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) وأي معاد، وهو معاد ليس لغيرك مختص بك وهو المقام المحمود أو إلى مكة، فقيل: نزلت حين المهاجرة في طريق المدينة، وعن بعض المفسرين: إن ابن عباس فسره مرة بالموت ومرة بالعود إلى مكة، ومراده بالثاني أيضًا الموت، لأن ابن عباس يرى فتح مكة من علامات قرب موته، وكأن التفسيرين واحد (قُل) يا محمد لمن ينسبك إلى الضلال (ربي أَعْلَمُ) يعلم (مَن جَاءَ بالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مبِينٍ) فمن جاء مفعول لفعل دال عليه أعلم (وَمَا كنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الكِتَابُ) ما كنت تظن وتأمل الوحي والنبوة قبل ذلك (إِلا رَحْمَةً مِّن ربِّكَ) لكن ألقي إليك لرحمة من ربك وقيل: الاستثناء متصل محمول على المعنى كأنه قال: ما ألقي إليك الكتاب لأمر إلا لرحمة (فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ) فخالفهم ونابذهم، نقل أنه نزل حين دعى إلى دين آبائه (وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ) العمل بالقرآن (بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى ربكَ) إلى معرفته وطاعه (وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الُمشْرِكِينَ) حقيقة الخطاب لأهل دينه (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) إلا ذاته المقدس عن الفناء أو معناه إلا ما أريد به وجهه، أي: كل عمل لم يرد به وجه الله فهو باطل فانٍ (لَهُ الْحُكْمُ) القضاء النافذ (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، للجزاء.
والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ
* * *(3/268)
سورة العنكبوت مكية
وهي تسع وستون آية وسبع ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
* * *(3/269)
(الم أَحَسِبَ) الهمزة للإنكار (النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) على عافية وفراغ، ولما كان صلة أن مشتملة على مسند، ومسند إليه يسد مسد مفعولي حسب، وهذا هو الأولى (أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا) أي: بأن أو لأن (وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) بل يمتحنهم الله بالمصائب، ومشاق التكاليف ليميز المخلص من المنافق (وَلَقَدْ فَتَنَّا الذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ) ليتعلق علمه بالامتحان علمًا حاليّا يتميز به (الَّذِينَ صَدَقوا) في إيمانهم (وَلَيعْلَمَنَّ الكاذبينَ) فيه (أَمْ حَسِبَ) أم منقطعة (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا) يعجزونا فلا نقدر على انتقامهم (سَاءَ مَا يَحْكمونَ) بئس الذي يحكمونه حكمهم هذا (مَن كان يَرْجو لِقَاءَ اللهِ) وصوله إلى ثوابه أو من يخشى حسابه وجزاءه (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) فليستعد وليعمل لذلك الوقت المضروب للجزاء فإنه آت لا محالة أو معناه من يأمل لقاء الله في الجنة فوقت اللقاء آت فليبادر إلى ما يحقق رجاءه ولذلك قال بعض المحققين: هذه تعزية من الله للمشتاقين إلى لقائه (وَهُوَ السَّمِيع العَلِيمُ) فيعلم الأقوال والعقائد (وَمَن جَاهَدَ) نفسه في منعها عن المناهى، وحملها على المعروف (فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) لا تنفعه طاعتهم ولا تضره معصيتهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)(3/270)
أحسن جزاء أعمالهم (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ) بإيتاء أو بإيلاء والديه (حُسْنًا) أى: فعلاً ذا حسن أو للمبالغة جعل الفعل حسنًا لفرط حسنه، قيل تقديره: وصيناه بتعهد الوالدين افعل بهما حسنًا، وعلى هذا يحسن الوقف على بوالديه (وَإِن جَاهَدَاكَ) أي: وقلنا إن جاهداك (لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ) بإلاهيته (عِلْمٌ) فإن ما لا يعلم صحته لا يتبع سيما إن علم بطلانه (فَلَا تُطِعْهُمَا) في ذلك فلا طاعة في معصية (إِلَي مَرْجِعُكُمْ) مرجع الكل المؤمن والمشرك والبار والعاق (فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بالجزاء عليه، نزلت في سعد بن أبي وقاص حلفت أمه، إنها لا تأكل ولا تشرب حتى تموت إن لم يرجع ابنها من الإسلام (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي) جملة (الصَّالِحِينَ) وكمال الصلاح منتهى الدرجات (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ) أصابه مضرة من المشركين للإيمان باللهِ (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) ما أصابه من جهتهم في الصرف عن الإيمان (كَعَذَابِ اللهِ) في الآخرة فجزع من عذابهم وأطاعهم كما يجزع ويطيع الله من يخافه وشتان ما بينهما، أو معناه إذا نزل عليهم مصيبة اعتقدوا أنها من نقمة الله للإسلام فارتدوا (وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ من ربِّكً) فتح وغنيمة (لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) في الدين فأعطونا من المغنم (أَوَلَيْسَ اللهُ) عطف على محذوف أي: أقَوْلُهُمْ ينجيهم وليس الله؟ (بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ) من الإخلاص والنفاق (وَلَيَعْلَمَن اللهُ الذِينَ آمنوا) يعرف المؤمنين حقيقة (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ) لا يشتبه عليه ولا(3/271)
يمكن الإلباس عليه (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمنوا اتَّبِعوا سَبِيلَنَا) ديننا وطريقنا (وَلْنَحْمِلْ خَطايَاكُمْ) إن كان ذاك خطيئة عطفوا " ولنحملن " وهو أمر لأنفسهم على " اتبعوا " وهو أمر للمؤمنين إرادة للمبالغة وأن كليهما لا بد من الحصول، وهذا قول صناديد قريش (وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي: شيئًا من خطاياهم (إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) في إنجاز وعدهم هذا (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ) أثقال أنفسهم (وَأَثْقَالًا) أخر (مَعَ أَثْقَالِهِمْ) وهي أثقال أوزار من أضلوه من غير أن ينقص من أوزار متبعيهم شيئًا (وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) سؤال تقريع وتوبيخ (عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) من الأباطيل.
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا(3/272)
فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبثَ فِيهِمْ) بعد نبوته (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم (فَأَخَذَهُمُ الطوفَانُ) بعد هذه المدة لما لم يزدهم دعاؤه إلا فرارًا (وَهُمْ ظالِمُونَ فَأَنجَيْنَاهُ) نوحًا (وَأَصْحَابَ السفِينَةِ) من كان معه فيها (وَجَعَلْنَاهَا) السفينة أو القصة (آيةً لّلْعَالَمِينَ) عن ابن عباس: بعث نوح وهو ابن أربعين سنة وعاش بعد الطوفان(3/273)
ستين، فمجموع عمره ألف وخمسون سنة، وفي جامع الأصول أنه عاش بعد الطوفان خمسين، ومدة الطوفان ستة أشهر آخرها يوم عاشوراء (وَإِبْرَاهِيمَ) عطف على نوحًا (إِذْ قَالَ) ظرف لأرسلنا (لِقَوْمِهِ اعبدُوا الله وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) مما أنتم عليه (إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) الخير والشر (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ) تكذبون (إِفْكًا) كذبًا في أنها شركاء الله شفعاء أو تنحتونها للإفك، جعل نحتهم خلقًا وإيجادًا (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا) ولا يكون المعبود إلا الرازق، ورزقًا مفعول به من غير تأويل، والتنكير للتعميم (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) كله فإنه مالكه وحده (وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فاستعدوا للقائه (وَإِن تكَذِّبُوا) أي: تكذبوني (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) رسلهم كقوم شيث وإدريس ونوح، ولم يضرهم تكذيبهم فلا يضرني تكذيبكم (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ) اللام للجنس (إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) وهذه الآية والتي بعدها إلا قوله: " فما كان جواب قومه " الأظهر أنها من جملة قول إبراهيم لقومه، ويحتمل أن يكون معترضة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتنفيسًا بين نصيحته وجواب قومه، أي: وإن تكذبوا محمدًا إلخ (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) من العدم (ثُمَّ يُعِيدُهُ) عطف على " أولَمْ يَرَوْا " لا على " يُبْدِئُ " فإنه في معرض الاستدلال من الأول على الثاني وما تعلق به رؤيتهم وإنما هو إخبار على حياله (إِنَّ ذَلِكَ) الإعادة بعد الإنشاء (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ قلْ سيروا) حكاية كلام الله لإبراهيم على التقدير الأول (فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ) مع اختلاف أجناسهم (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) عطف على سيروا(3/274)
(إِنَّ اللهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تعلق قدرته على جميع الممكنات على السواء (يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ) تعذيبه (وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ) رحمته (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) تردون (وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ) ربكم إن هربتم (فِي الأَ رْضِ) بالتواري فيها (وَلاَ في السَّمَاءِ) بالتحصن فيه أو ولا في السماء لو كنتم فيها قيل تقديره ولا مَن في السماء (وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِي وَلاَ نَصِير) لو أراد الله بكم ضرًّا.
* * *
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
* * *
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ) بكتبه أو بدلائل وحدته (وَلِقَائِهِ) البعث (أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) لإنكارهم البعث والجنة (وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) لكفرهم(3/275)
(فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ) أي: إبراهيم له (إِلا أَن قَالُوا اقْتلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) أى: عذبوه أحد العذابين (فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) بعد ما قذفوه فيها بأن جعلها عليه بردًا وسلامًا (إِنَّ فِي ذَلِكَ) إنجائه منها (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإن الكفار غير موفقين على التدبر في مثل ذلك (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي: لِتَوَادُّوا بينكم وتتواصلوا كما يتفق الناس على مذهب ليكون ذلك سبب تحابهم، وثاني مفعولي اتخذ محذوف وهو آلهة أو هو مودة بحذف مضاف، أي: سبب مودة، أو بأنَّهَا بمعنى مودودة وقراءة رفعها على تقدير هي مودة، أو سبب مودة على أنها صفة " أوثانًا " أو خبر لـ إنَّ، وما موصولة، أي: إن الذين اتخذتموهم (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) " كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا " (وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ فَآمَنَ لَهُ) لإبراهيم (لوطٌ) هو ابن أخي إبراهيم لا ابن أخته فإنه لوط بن هاران بن آزر وهو أول من آمن به، وفي الحديث " ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك خاطب به امرأته فالمراد والله أعلم أن ليس على وجه الأرض زوجان على الإسلام (وَقَالَ) إبراهيم (إِنِّي مُهَاجِرٌ) من قومي (إِلَى رَبِّي) هاجر من سواد الكوفة إلى حران ثم(3/276)
منها إلى الشام ومعه لوط وامرأته سارة (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فيمنعني من الأعداء، ويوفقني بما هو صلاحي (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) وهو ولد إسحاق ولد في حياة إبراهيم (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) أي: جنسه وكل نبي بعده كان من ذريته (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) جمع له بين السعادتين سعادة الدنيا أي: الرزق الواسع، والمنزل الرحب، والزوجة الحسنة، والثناء الجميل إلى يوم القيامة، وسعادة الآخرة وهي لا يعرفها إلا الله (ولوطًا) عطف على نوحًا (إِذ قَالَ لِقَوْمِهِ) أرسل في حياة خليل الله إلى أهل سدوم (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ) الفعلة القبيحة (مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ منَ العَالَمِينَ) استئناف مقرر لغاية قباحتها (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) فإنهم كانوا يقتلون المارين وينهبون أموالهم، وقيل: يقطعون سبيل النسل (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ) مجلسكم الغاصة (الْمُنْكَرَ) وفي الحديث " هو خذف أهل الطريق بالحصى والاستهزاء بهم "، أو الصفير وَلَعِبُ الْحَمامِ [وَحَلُّ أَزْرَارِ الْقِبَاءِ] ومضغ العلك وتطريف الأصابع بالحنا، أو الضراط والضحك والفحش في المزاح (فَمَا كَانَ(3/277)
جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في النبوة، أو في الوعيد (قَالَ رَبِّ انصرْنِي عَلَى القَوْمِ المُفْسِدِينَ) بإنزال العذاب عليهم.
* * *
(وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا(3/278)
بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
* * *
(وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا) الملائكة (إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى) من الله بإسحاق وولده جاءوا على طريقة أضياف (قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ) سدوم (إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ) مستمرون على الكفر والفسق (قَالَ) إبراهيم (إِنَّ فِيهَا) في القرية (لوطًا) وهو في غير ظالم (قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) الباقين في العذاب (وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ) أن صلة زيدت لاتصال الفعلين، وتأكيدهما (رُسُلُنَا لُوطًا) بعدما ساروا من عند إبراهيم في صورة أمارد حسانٍ (سِيءَ بِهِمْ) جاءته المساءة والغم بسببهم (وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا) أي: عجز وضاق بسببهم وتدبير أمرهم طاقته فإنه خاف عليهم من قومه (وَقَالُوا) لما رأوا غمه(3/279)
(لَا تَخَفْ) علينا (وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) نصب أهلك لعطفه على محل الكاف أو بإضمار فعل (إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا) عذابًا (مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) بسبب فسقهم (وَلَقَد تَّرَكنَا) من كلام الله تعالى (مِنْهَاَ) من قرية لوط (آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) هي آثار منازلهم الخربة أو أنهارهم المسودة أو الأحجار الممطورة التي أهلكوا بها (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا) عطف على نوحًا إلى قومه (فَقَالَ يَا قَوْمِ اعبدُوا اللهَ وَارْجُوا) اخشوا (اليَوْمَ الآخِرَ) وقيل: افعلوا ما ترجون به ثواب [اليوم] الآخر من إقامة المسبب مقام السبب (وَلاَ تَعْثَوْا) العثو أشد الفساد (في الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) يعني لا تزيدوا في الفساد حال كونكم مفسدين (فَكَذبُوهُ فأَخَدتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزلزلة أو الصيحة أخرجت قلوبهم، أو عذاب يوم الظلة، وقد مر في سورة الأعراف وهود والشعراء (فأَصْبحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) باركين على الركب ميتين (وَعَادًا وَثَمُودَ) منصوبان بفعل دل عليه ما قبله مثل أهلكنا وعدم انصراف ثمود بتأويل القبيلة (وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ) بعض مساكنهم باليمن أو تبين لكم إهلاكهم من جهة مساكنهم إذا رأيتموها (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) السيئة (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) عن الطريق المستقيم (وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) عقلاء عند أنفسهم معجبين برأيهم أو كانوا في نفس الأمر متمكنين من النظر أو مستبصرين بضلالهم لكنهم لجوا (وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ) عطف على عادًا وثمودا (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ) فائتين بل(3/280)
أدركهم أمر الله (فَكُلًّا) من المذكورين (أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا) ريحًا صرصرًا تحمل الحصباء فتلقيها عليهم، وتقتلعهم من الأرض ثم تنكسهم على أُمِّ رأسهم فتشدخهم، فكأنهم أعجاز نخل منقعر، وهم قوم عاد (وَمِنهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) وهم ثمود (وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ) قارون (وَمِنْهُم مَّنْ أَغرَقْنَا) فرعون وهامان وروي عن ابن عباس أن الأول قوم لوط، والرابع قوم نوح، والأظهر ما ذكرنا قال بعض المحدثين: الرواية منقطعة عن ابن عباس (وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) فيما فعل بهم (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فاستقوا مقت الله (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ) يتكلون إليه (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا) تعتمد عليه وتحسب أنه لها بيتًا (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) لا بيت أضعف من بيتها مما يتخذه الهوام لا يدفع حرًّا ولا بردًا، ولا يحجب عن الأعين (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) لعلموا أن هذا مثلهم (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ) أي: الذي تدعونه من دون الله من شيء أي: شيء كان فيجازيكم قيل ما نافية ومن شيء مفعول تدعون يعني الله يعلم أنَّهم ما يعبدون شيئًا من دون الله، بل الذي يعبدون لا شيء، فعلى هذا توكيد للمثل وتجهيل لهم، ولا يخفى بعده (وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) فيقدر على الانتقام ولا يظلم، بل فِي أفعاله حِكَم (وَتِلْكَ الأَمْثالُ) هذا المثل ونظائره (نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ) نبينها تقريبًا لما بعد من أفهامهم (وَمَا يَعْقِلُهَا) لا يفهمها ولا يتدبر فيها (إِلا العَالِمونَ) في الحديث في تفسير تلك الآية العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه (خَلَقَ اللهُ(3/281)
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) لا على وجه العبث (إِنَّ فِي ذَلِكَ) الخلق (لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) فإنهم يتدبرون في صنائع ملكه.
* * *
(اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)
* * *
(اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ) أمره بقراءة القرآن (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) أي: إن مواظبتها تحمل على ترك ذلك، وفي(3/282)
الحديث: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بُعدًا) أو مراعاتها تجره إلى الانتهاء، وفي الحديث (قيل له عليه السلام إن فلانًا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق قال: سينهاه ما تقول) والصلاة تنهاه عن ذلك حين الصلاة (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) وأفضل من كل شيء فالصلاة لما كانت كلها مشتملة بذكره تكون أكبر من غيرها من الطاعة، أو ذكر الله لعباده أكبر من ذكرهم إياه، وهذا هو المنقول عن كثير من السلف (وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُون) فيجازيكم (وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلا بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ) إلا بطريقة هي أحسن فإن من أراد الاستبصار منهم إذا رأوا منكم لينًا وسمعوا منكم حججًا لاهتدوا، قال تعالى: " ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة " [النحل: 125] الآية، والظاهر أنها غير منسوخة بآية السيف (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) بالإفراط في المعاداة فانتقلوا معهم من الجدال إلى الجلاد (وَقُولُوا آمَنَّا بِالذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وأُنزِلَ إِلَيْكُمْ) هذا كأنه من المجادلة الحسنة (وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ)، خاصة (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فيه تعريض بأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربانًا من دون الله (وَكَذَلِكَ) مثل ذلك الإنزال (أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ) كتابًا مصدقًا لسائر الكتب قال ابن جرير: معناه أنزلنا إليك الكتاب يا محمد كما أنزلنا على من قبلك من الرسل (فَالَّذِينَ آتيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونُ بِهِ) كمؤمني أهل الكتاب (وَمِنْ هَؤُلاءِ) الذين بين ظهرانيك (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) كمؤمني العرب (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا) مع ظهور معجزاتها (إِلَّا الْكَافِرُونَ) المتوغلون فيه (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ) قبل نزول القرآن (مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ)(3/283)
ذكر اليمين زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتبًا (إِذًا) لو كان شيء من التلاوة والخط (لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) فيقولون لعله قرأه والتقطه من الكتب المتقدمة (بَلْ هُوَ) القرآن (آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) يتلونه من حفظهم لا من مصاحفهم وذلك من خاصة هذا الكتاب فإن سائر الكتب ما كان يقرأ إلا من المصاحف، ولهذا جاء في صفة أمة محمد في الكتب المتقدمة صدورهم أناجيلهم أو معناه، بل العلم بأنك أُمي لا تقرأ أو لا تخط آيات بينات في صدور العلماء الأخيار (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) المكابرون مع وضوح دلائل صدقه (وَقَالُوا لَوْلا) هلا (أنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ) كناقة صالح، وعصا موسى (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ) هو القادر على إنزالها لا غير (وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مبِينٌ) ليس من شأني إنزال الآيات (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) أي: ألم يردعهم عن طلب آية ولم يكفهم (أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) مع علمهم بأنك أُمي لا تخط ولا تقرأ (إِنَّ في ذَلِكَ) القرآن وإنزاله (لَرَحْمَةً) نعمة (وَذكْرَى) تذكرة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فإنهم المنتفعون به.
* * *
(قُلْ كَفَى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ(3/284)
بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
* * *
(قُلْ كَفَى بِاللهِ) الباء يزاد في فاعل كفى (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا) يرى تبليغي ونصحي، وتكذيبكم وتعنتكم (يَعْلَم مَا في السَّمَوَات وَالْأَرْضِ) فلا يخفي عليه حالي وحالكم (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالباطِلِ) كالطواغيت (وَكَفَرُوا بِاللهِ أُوْلَئِكَ هُم الخَاسِرُونَ) في صفقتهم (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ) كما يقولون: أمطر علينا حجارة من السماء (وَلَوْلا أَجَلٌ مسَمًّى) لعذاب قومك (لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ) عاجلاً (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) بإتيانه (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) لا يبقى منهم أحد إلا دخلها (يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العَذَابُ)(3/285)
ظرف محيطة يعني لا يليق استعجالهم، ومثل هذا العذاب معد لهم وعن بعض السلف: إن جهنم هو البحر، وهو محيط بهم ينتثر فيه الكواكب ثم يستوقد فيكون هو جهنم، وفي مسند الإمام أحمد أنه قال عليه السلام: " البحر هو جهنم " فعلى هذا يوم ظرف لمحذوف، أي: يوم يغشاهم العذاب كيت وكيت (مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ) الله (ذُوقُوا) جزاء (مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) نصب فإياي بفعل يفسره ما بعده،(3/286)
وهو جواب شرط محذوف، أي: أرضي واسعة فإن لم تتمكنوا في إخلاص العبادة في أرض فاعبدوني في غيرها ولما حذف الشرط عوض عنه تقديم المفعول مع أن التقديم مفيد للاختصاص نزلت في ضعفة المسلمين الذين لم يستطيعوا الهجرة إلى المدينة، أو في قوم خافوا من ضيق العيش، وتخلفوا عن الهجرة (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) فاستعدوا له بأي طريق تيسر لكم أو خوفهم بالموت ليهون عليهم الهجرة (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) ننزلنهم (مِّنَ الجَنَّةِ غرَفًا) نصب غرفًا على قراءة لنبوئنهم أي: لنقيمنهم مفعول ثان أيضًا لإجرائه مجرى لننزلهم أو بنزع الخافض أو تشبيه الظرف المعين بالمبهم لأنه منكر كـ أرضًا فِي " أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا " [يوسف: 9] (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) ذلك (الذِينَ صَبَرُوا) على مفارقة الأوطان والمشاق لله (وَعَلَى رَبِّهِمْ) لا على غيره (يَتَوَكَّلُونَ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) لا ترفع رزقها معها ولا تدخره (اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ) أيضًا إن كنتم تجمعون وتدخرون فلا تخافوا على معيشتكم بالهجرة (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوال العباد (الْعَلِيمُ) بأحوالهم فلا يغفل عنهم أبدًا (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي: أهل مكة (مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي: إذا كان هذا جوابهم فكيف يصرفون عن توحيده فإنهم مقرون بأنه خالقها (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ) يضيق (لَهُ) هذا الضمير غير عائد إلى من، بل وضع موضع لمن يشاء بجامع كونهم مبهمين، وهذا من توسعهم فيتعدد المرزوق أو عائد إليه والتعدد بحسب أحواله يبسط له تارة ويقبض له أخرى (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم مصالحهم ومفاسدهم وهذه(3/287)
الآية لبيان أنه كما هو خالق فهو رازق، وهم معترفون به أيضًا كما يبين بقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ) فإن المطر هو السبب الكلي لوجود الرزق، وهم مع اعترافهم بخالقيته ورازقيته يعدلون عنه (قُلِ) يا محمد: (الْحَمْدُ لله) على ظهور حجتك عليهم، وعلى عصمتك عن مثل تلك الضلالة (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) ما يقولون من الدلالة على بطلان الشرك.
* * *
(وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
* * *
(وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) إشارة تحقير (إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) كما يجتمع الصبيان سويعة مبتهجين، ثم يتفرقون وليس في أيديهم سوى إتعاب البدن (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) الحياة الحقيقية التي لا موت فيها، فكأنها في نفسها حياة والحيوان مصدر حي وقياسه حية ففيه شذوذان قلب الياء واوًا وترك الإدغام (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) حقيقتها لعلموا صحة ما قلنا (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ(3/288)
الدِّينَ) يدعون أصنامهم ولا يدعونها، يبين أنَّهم مع الاعتراف بخالقيته ورازقيته في بعض الأحيان يعترفون بوحدانيته ومع ذلك يشركون (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) فاجئوا المعاودة إلى شركهم من غير تأمل وسبب، (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ) من النعم (وَلِيَتَمَتَّعُوا) اللام لام الأمر على التهديد من باب " اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ " (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة ما فعلوا (أَوَلَمْ يَرَوْا) أهل مكة (أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا) جعلنا بلدتهم ذا أمن لا يغار على أهله (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) يختلسون تغزوا العرب بعضهم بعضًا حولهم، وهم آمنون مع قلتهم وكثرة العرب (أَفَبِالْبَاطِلِ) أي: أبعد [هذه] النعمة الظاهرة بالصنم (يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) حيث أشركوا به غيره (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ) بالرسول أو القرآن (لَمَّا جَاءَهُ) بلا تأمل واستعمال فكر (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ) تقرير لثوائهم فيها أي ألا يستوجبون الثواء فيها وقد افتروا مثل هذا الافتراء وكذبوا هذا التكذيب (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا) في حقنا ومن أجلنا (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) الطرق الموصلة إلى جنابنا وثوابنا أو لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) بالنصرة والإعانة.
والحمد لله حقَّ حمده.
* * *(3/289)
سورة الروم مكية إلا قوله - " فسبحانَ اللهِ "
وهى ستون أو تسع وخمسون آية وست ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لله الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ (10)
* * *
(الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) غلبوا في أدنى أرض العرب منهم، وهي أطراف الشام أو أدنى أرضهم إلى عدوهم، وهي الجزيرة أو الأردن، (وَهُم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ)،(3/290)
من إضافة المصدر إلى المفعول، (سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ)، البضع ما بين الثلاث إلى العشر أو إلى التسع نزلت حين بلغ خبر غلبة فارس على الروم إلى مكة فشمت أهلها وقالوا: أنتم أيها المؤمنون والنصارى أهل كتاب، ونحن وأهل فارس أميون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ولنظهرن نحن عليكم، (لله الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ): من قبل كونهم غالبين، (وَمِنْ بَعْدُ): بعد كونهم مغلوبين يعني: ليس مغلوبيتهم(3/291)
وغالبيتهم إلا بإرادته وقضائه، (وَيَوْمَئِذٍ): يوم يغلب الروم فارس، (يَفْرَحُ الُمؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ): بتغليبه من له كتاب على من لا كتاب له أو لأجل ظهور صدقهم فيما أخبروا به من غلبة الروم، (يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ): ينتقم من عباده تارة بالمغلوبية، (الرَّحِيمُ) فيتفضل أخرى بالنصر، (وَعْدَ اللهِ)، مصدر مؤكد لنفسه، (لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ): صحة وعده لكفرهم، (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، فإن لها ظاهرًا وهو التمتع بزخارفها، والتنعم بملاذها وباطنًا وهو أنها مجاز إلى الآخرة، ومزرعتها، جملة مستأنفة لبيان موجب جهلهم، (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ): لا يخطر ببالهم، فهم عقلاء في أمور الدنيا بُلهٌ في أمور الدين، (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ)، التفكر لا يكون إلا في القلوب لكن فيها زيادة تصوير لحال المتفكرين كقولك: أضمره في نفسك، (مَا خَلَقَ اللهُ)، ما نافية متعلق بمحذوف، أي: فيقولوا أو فيعلموا ما خلق الله، (السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا): متلبسة، (بِالْحَقِّ): لا عبثًا وباطلاً، (وَأَجَلٍ مسَمًّى) تنتهي عنده وهو قيام الساعة، عطف على الحق، أو معناه أولم يتفكروا في أمر أنفسهم فإنها عالم صغرى فيعلموا حقيقة خلق العالم الكبرى وفناءه، ومن عرف نفسه فقد عرف ربَّه، (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ): قيام الساعة، (لَكَافِرُونَ): جاحدون، (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ): ألم يسافروا؟! (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ): فينظروا مصارع الأمم السالفة المكذبة، فيعتبروا، (كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً)، كعاد وثمود، (وَأَثَارُوا الْأَرْضَ)، قلبوها للزراعة، (وَعَمَرُوهَا): بالأبنية أو بالزراعة، (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا)، فإنهم في واد غير ذي زرع، (وَجَاءتْهُمْ(3/292)
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ): فكذبوهم، (فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ)، فإنه حرم الظلم على نفسه، (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، حيث عملوا ما استحقوا به التدمير، (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى) أي: هم عوقبوا في الدنيا بالدمار، ثم كانت عاقبتهم عقوبة هي أسوء العقوبات السوأى تأنيث الأسوء كالحسني، (أَنْ كَذَّبُوا) أي: لأن، (بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ)، قيل: السوأى مفعول أساءوا أي: اقترفوا الخطيئة، و " أن كذبوا " خبر كان، أي: كان عاقبتهم أن طبع الله على قلوبهم حتى كذبوا واستهزءوا بالآيات.
* * *
(اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
* * *
(اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، بعد الإعادة للجزاء، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ): يسكت أيسًا من كل خير، (المجرِمُونَ): الكاملون في الجرم،(3/293)
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ): ممن أشركوا بالله، (شُفَعَاءُ وَكَانُوا): فى الآخرة، (بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ): يكفرون بهم بعد اليأس من شفاعتهم، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ)، تأكيد ليوم تقوم الساعة، (يَتَفَرَّقُونَ)، أي: المؤمنون والكافرون تفرقًا لا اجتماع بعده، (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ) هي أرض ذات نبات وماء، (يُحْبَرُونَ): يسرون سرورًا تهلل له وجوههم، (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) لا يغيبون عنه أبدًا وهذا تفصيل لتفرقهم، (فَسُبْحَانَ اللهِ)، تنزيه منه تعالى لنفسه الأقدس وإرشاد لعباده إلى تسبيحه وتحميده فى هذه الأوقات المتعاقبة الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه، (حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، أي: هو المحمود فيهما وعلى أهلهما أن يحمدوه، (وَعَشِيًّا) عطف على حين تمسون، وله الحمد إلخ، اعتراض مناسب للتسبيح، (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) الظهيرة وسط النهار وفي الحديث(3/294)
" من قال حين يصبح فسبحان الله حين تمسون (الآية) أدرك ما فاته في يومه، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته "، وعن ابن عباس الآية جامعة للصلوات الخمس حين تمسون المغرب، والعشاء وعشيا العصر والباقي ظاهر، (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ): كالإنسان من النطفة، والنطفة منه، (وَيُحْيِ الْأَرْضَ): بإخراج النبات، (بَعْدَ مَوْتِهَا)؛ يبسها، (وَكَذَلِكَ): مثل ذلك الإخراج، (تُخْرَجُونَ): من قبوركم.
* * *
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
* * *(3/295)
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ)، فإنه أصل الكل، (ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) أي: ثم فاجأتم وقت كونكم بشرًا منتشرين في الأرض، فثم لتراخي الرتبة، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا): من جنسكم، أو المراد خلق حواء من ضلع آدم، قيل: المراد خلقن من نطف الرجال، (لِتَسْكُنُوا): لتميلوا وتألفوا، (إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ) بين الرجال والنساء، (مَوَدَّةً وَرَحْمَةً): بعد أن لم تكن سابقة معرفة ولا سبب يوجب التعاطف، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ): في غرائب صنعه، (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ): لغاتكم وايم الله إنه من غرائب صنعه، فَلِكُلٍّ لغة والكل مركب من تسعة وعشرين حرفًا، ولو تكلم صاحب لغة بلغته من مبدأه إلى منتهاه بحكايات مختلفة متميزة لتمكن منه، ولا يتحد كلام بكلام مع اتحاد ما ركب منه، (وَأَلْوَانِكُمْ)، هيئاتكم وحُلاكم بحيث وقع التمايز حتى بين التوأمين، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) لا تكاد تخفى على أحد، (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) من باب اللف، أي: منامكم، وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار وهما ظرفان والواقع فيهما مظروفهما، والظرف والمظروف كشيء واحد فلا فصل بالأجنبي والنكتة في العدول هي الاهتمام بشأن الظرف، أو المراد منامكم في الزمانين وطلب المعاش فيهما فحذف من أحد المتقابلين ما يقابل الآخر للدلالة، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ): سماع تَفَهمٍ، (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ) أي: إراءة البرق نزل الفعل منزلة المصدر، (خَوْفًا وَطَمَعًا): إراءة خوف وطمع أو إخافة(3/296)
وإطماعًا من الصاعقة، وفي الغيث أو خائفين وطامعين أو مفعول له لفعل يلزم المذكور كأنه قيل يجعلكم رائين البرق خَوْفًا وَطَمَعًا، (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) أي: إنزاله منه، (فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) يعني قائمتان بأمره لهما، وتسخيره إياهما من غير مقيم مشاهد لما كان القيام غير متغير أخرج الفعل بما يدل على أنه اسم، وهو إن ليدل على الثبوت لكن إراءة البرق لما كانت من الأمور المتجددة لم يذكر معها ما يدل على المصدر، (ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ)، عطف على أن تقوم أي: ومن آياته قيام السماء ثم خروجكم من القبور إذا دعاكم دعوة واحدة والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف وثم لعظم ما فيه، ومن الأرض ظرف دعاكم وإذا الثانية للمفاجأة تنوب مناب الفاء في جواب الشرط، (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): خلقًا وملكًا، (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ): منقادون لتصرفه فيهم، (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ) أي: أن يعيده، (أَهْوَنُ عَلَيْهِ)، بالقياس إلى أصولكم وإلا فهما عليه بالسوية، أو أهون بمعنى هين قيل: أهون على الخلق فإنهم يقومون بصيحة واحدة فهو أهون من أن يكونوا نطفًا، ثم كذا ثم كذا (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى): الوصف العجيب الشأن الذي ليس لغيره ما يدانيه كالوحدة والقدرة، (فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ): الذي يغلب ولا يغلب، (الْحَكِيمُ): في أفعاله.
* * *(3/297)
(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
* * *(3/298)
(ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ): منتزعًا من أحوالها من للابتداء، (هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ): من مماليككم، من للتبعيض، (مِّن شُرَكَاءَ)، من زيدت للتأكيد، لأن الاستفهام بمعنى النفي، (فِى مَا رَزَقناكُمْ): من أموال وأولاد، (فَأَنتُمْ فيه سَوَاءٌ)، يعني: هل ترضون أن يشارككم بعض مماليككم في أموالكم فتكونون أنتم وهم على السواء من غير تفصلة في التصرف، (تَخَافُونَهُمْ): تهابون أن يستبدوا بتصرف، (كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ)، كما يهاب بعضكم بعضًا من الأحرار فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فكيف لرب الأرباب مالك الأحرار والعبيد أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء، كان بها يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك، (كَذَلِكَ): مثل ذلك التفصيل، (نُفَصِّلُ): نبين، (الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلمُوا): أشَركوا، (أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْم): جاهلين ليس لهم رادع، (فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللهُ): من يقدر على هداية من أراد الله إضلاله، (وَمَا لَهُم مِن نَّاصِرِينَ): يخلصونهم من الغواية وبوائقها، (فَأَقِمْ وَجْهَكَ): قومه، (لِلدِّينِ حَنِيفًا): لا تلتفت عنه وتوجه بكليتك إليه، وحنيفًا حال إما من فاعل أقم أو من الدين، (فِطْرَتَ اللهِ): الزموا فطرته، أي: خلقته أو دينه، (الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)، فإنه فطر الخلق على معرفته وتوحيده ثم طرأ على بعضهم العقائد الفاسدة، (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ): ما ينبغي أن يبدل تلك الفطرة، وقيل: لا تبديل لما(3/299)
جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة، (ذلِكَ)، إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أو الفطرة المفسرة بالدين، (الدِّينُ الْقَيِّمُ): المستوي الذي لا عوج فيه، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ): استقامته، (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ): راجعين إليه بالتوبة حال من فاعل الزموا أو أقم وخطاب الرسول خطاب لأمته، (وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ) بدل من المشركين، (فَرَّقوا دِينَهم): جعلوه أديانًا مختلفة، (وَكَانوا شِيَعًا): فرقًا، (كل حِزْب): منهم، (بِمَا لَدَيْهِمْ فرِحُون): مسرورون بمذهبهم يحسبون أنَّهم على شيء، (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ): شدة، (دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ): بالدعاء، (ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً): خلاصًا من تلك الشدة، (إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) فاجأ بعضهم بالإشراك بالله، (لِيَكْفرُوا)، اللام لام العاقبة، (بِمَا آتَيْنَاهُمْ) أو لام الأمر للتهديد فيناسب قوله (فَتَمَتَّعُوا)، لكن فيه التفات للمبالغة، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ): عاقبة تمتعكم، (أَمْ أَنزَلْنَا): بل أنزلنا، (عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا): حجة، (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ): ينطق، (بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أي: الحجة، ناطقة بالأمر الذي بسببه يشركون أو بإشراكهم بالله، (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً): نعمة، (فَرِحُوا بِهَا): فرح البطر، (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ): شدة، (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)، من المعاصي، (إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) فاجأوا القنوط من رحمة الله، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ(3/300)
يَشَاءُ وَيَقْدِرُ): يضيق لمن يشاء فما لهم يقنطون من رحمته ولا يشكرون كالمؤمنين، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، فإنهم مستدلون بها على حكمته وقدرته، (فآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ): من الصلة والبر، لما ذكر بسط الرزق أتبعه ذكر الصدقة فجيء بالفاء، (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السبِيلِ)، وحقهم نصيبهم من الصدقة، (ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي: جهته، وجانبه أو يريدون النظر إليه في الآخرة، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، حيث حصلوا بما بسط لهم النعيم المقيم، (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا)، أي: ما أعطيتم من أجل ربا، (لِيَرْبُوَ): ليزيد ويزكو، (فِي أَمْوَالِ النَّاسِ) أى: بين أموالهم، (فَلَا يَرْبُو): لا يزكو، (عِنْدَ اللهِ)، ولا يثاب عليه يعني من يعطى عطية يريد أن يرد المهدى له أكثر مما أهدى فلا ثواب له لكن هذا ليس بحرام أو الآية في الربا المحرم والأول هو قول السلف، (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ): صدقة، (تُرِيدُونَ): به، (وَجْهَ اللهِ) أي: مخلصين، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي: ذو الإضعاف من الثواب وضمير ما محذوف أي المضعفون به، (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ)، " من " موصولة مبتدأ و " من شركائكم " خبره و " من " للتبعيض، و " من شيء " مفعول يفعل ومن زيدت لتعميم المنفي ومن في " من ذلكم " إما للبيان قدم أو للتبعيض، قيل من استفهامية ويفعل خبره ومن شركائكم بيان من قدم عليه وفي هذا الوجه من المبالغة ما ليس في الأول ولما أثبت صفات الألوهية لله ونفاها عن الشركاء استنتج من ذلك تقدسه عن الشركة فقال: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى)، عطف على ناصب سبحانه، (عَمَّا يُشرِكُون).(3/301)
* * *
(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
* * *(3/302)
(ظَهَرَ الفَسَادُ) كالجدب وقلة الأمطار، وقلة الريح وكثرة الوباء، والمحن ومحق البركات، (فِي البَرِ): الفيافي، (وَالْبَحْرِ): الأمصار والعرب تسمى الأمصار البحار أو المراد منهما المعروفان، وقالوا: إذا انقطع القطر عميت دواب البحر وخلت أجواف الأصداف، (بِمَا كسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ): من المعاصي، (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ) أي: جزاء بعض، (الَّذِي عَمِلُوا): في الدنيا واللام للعلة متعلق بظهر، (لَعَلهمْ يَرْجِعُونَ): عما هم عليه، (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ)، ليروا في منازلهم آثار البلاء وكيف خبر كان، (كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ)، استئناف للدلالة على سوء عاقبتهم لفشو الشرك فيهم، (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ): قوم وجهك له وعَدِّله، (القَيمِ): البليغ الاستقامة، (مِن قَبْلِ أَن يَأْتِى يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ): لا يقدر أن يرده أحد، (مِنَ اللهِ)، ظرف يأتي أو مرد أي: لا رد من جهته لأن إتيانه في علمه القديم ومرد مصدر بمعنى الرد، (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ): يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير، (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ): لا على غيره، (كُفْرُهُ): وبال كفره، (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحَّاَ): عملاً صالحًا، (فَلأَنفُسِهِمْ) لا لغيرها، (يَمْهَدُونَ): يسوون في آخرتهم منزلاً، (لِيَجْزِى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِِ مِن فَضْلِهِ)، علة لـ يصدعون أو لـ لا مرد أو لـ يأتي، والاقتصار على جزاء المؤمن للإشعار بأنه المقصود(3/303)
بالذات أو الاكتفاء على فحوى قوله (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)، فإن فيه إثبات البغض لهم والمحبة للمؤمنين، ومن فضله دال على أن الإثابة تفضل محض، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ): بالمطر فالصبا والشمال والجنوب رياح رحمة، (وَلِيُذِيقَكُم مِن رحْمَتِهِ): التابعة لنزول المطر كالخصب، وزكاء الأرض وغيرهما عطف على مبشرات بحسب المعنى أو على محذوف أي مبشرات بالمطر لفوائد جمة وليذيقكم، (وَلِتَجْرِيَ الفُلْكُ): بهذه الرياح، (بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ)، يعني تجارة البحر، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): ولتشكروا نعمة الله، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ) كما أرسلناك، (فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ): المعجزات الظاهرات فبعضهم كذبوا بها، (فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) وهم المكذبون، (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا) من جهة الوعد واللطف، (نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)، فيه تبشير النبي - صلى الله عليه وسلم -(3/304)
عليه السلام والمؤمنين، (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا): تخرجه من أماكنه، (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ): في سمتها، (كيْفَ يَشَاءُ): سائرًا وواقفًا مطبقًا وغيره إلى غير ذلك، (وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا) أي: تارة يبسطه وتارة يجعله قطعًا، (فَتَرَى الْوَدْقَ): المطر، (يَخْرُجُ): في التارتين، (مِنْ خِلالِهِ): وسطه، (فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) فاجأوا بالاستبشار، (وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم): المطر، (مِن قَبْلِهِ) تكرير للتأكيد ومعنى التأكيد الدلالة على بعد عهدهم بالمطر واستحكام يأسهم، (لَمُبْلِسِينَ) آيسين، عن بعض الفضلاء إن الظرف الأول لـ مبلسين، والثاني لـ ينزل، أي: ينزل من قبل وقت نزوله كما إذا كنت معتادًا لعطاء من أحد في وقت معين فتأخر عن ذلك الوقت، ثم أتاك به فتقول: قد كنت آيسًا من قبل أن تجيئني بهذا من قبل هذا الوقت، (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ): الغيث، (كَيْفَ يُحْيي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ) أي: من هو محيي الأرض، (لَمُحْييِ الْمَوْتَى): بعد إماتتهم، (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا): مضرة، (فَرَأَوْهُ) الضمير لأثرها أي: النبات والزرع، (مُصْفَرًّا): من الجائحة، (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ) من بعد اصفرار الزرع، (يَكْفُرُونَ) وأما المؤمنون فيفرحون بنزول الرحمة لا فرح بطر ويشكرون ويرون الجائحة من شؤم أنفسهم ويستغفرون، واللام موطئة للقسم، وقوله " لَظَلُّوا " جواب له ساد جزاء الشرط، (فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى): والكفار في عدم جدوى السماع مثلهم، (وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) الأصم(3/305)
المقبل ربما يفطن من الكلام بمعونة مشاهدة القرائن شيئًا منه بخلاف المدبر، (وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ) والكفار كمن لا عين له يضل الطريق وليس لوسع أحد أن ينزع عنه العمى، ويجعله بصيرًا، (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا): ما ينفعع الإسماع إلا لمن علم الله أنه يصدق بآياته وما طبع على قلبه، (فَهُم مُّسْلِمُونَ): منقادون لما تأمرهم.
* * *
(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
* * *
(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً)، يعني: ابتدأكم ضعافًا كقوله: " خلق الإنسان من عجل " [الأنبياء: 37] يعني أساس أمرهم(3/306)
وما عليه جبلتهم الضعف، (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً): رجح إلى حالة الطفولية، (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ) فإن هذا الترديد في هذه الأحوال أظهر دليل على صانع عليم قدير، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ): القيامة، (يُقْسِمُ): يحلف، (الْمُجْرِمُونَ): المشركون، (مَا لَبثُوا) في الدنيا، (غَيْرَ سَاعَةٍ) واحدة، ومقصودهم بذلك عدم الحجة عليهم وأنَّهم لم ينظروا، أو لم يمهلوا ليؤمنوا أو مرادهم ما لبثوا في قبورهم، (كَذَلِكَ): مثل ذلك الصرف، (كَانُوا يُؤْفَكُونَ)، عن الصدق في الدنيا أراد الله تفضيحهم فحلفوا على ما تحقق كذبه على الكل، (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَالإِيمَانَ): ردًّا عليهم، (لَقَدْ لَبثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ): في علم الله أو اللوح المحفوظ، (إِلَى يَوْمِ البَعْثِ) يعني: مبين في كتاب الله أنكم لبثتم من ساعة، بل إلى يوم البعث، ومعلوم أنه مدة ممتدة، وعن بعض معناه: الذين أوتوا العلم في كتاب الله يعني: الذين قرءوا في القرآن، " ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون " [المؤمنون 100] قالوا للمنكرين: لقد لبثتم في البرزخ إلى يوم البعث، وقيل: معناه لبثتم في تصديق كتاب الله إلى يوم القيامة، (فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ) أي: إن كنتم منكرين البعث فهذا يومه، (وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ): لا يطلب منهم إزالة غضب الله عليهم بالتوبة، (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ): بينا لهم من كل مثل يرشدهم إلى التوحيد والبعث، (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) أي آية كانت، (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ(3/307)
كَفَرُوا): من فرط عنادهم، (إِنْ أَنتُمْ) أي: ما الرسول والمؤمنون، (إِلَّا مُبْطِلُونَ): مزورون، (كَذَلِكَ): مثل ذلك الطبع، (يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون): فلا يدخلها إيمان ولا إيقان والأصل على قلوبهم وضع المظهر موضع المضمر لبيان جهلهم، (فَاصْبِرْ): على أذاهم، (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ): فينصركم ولو بعد حين، (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ): لا يحملنك على الخفة والجزع، (الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ): المشركون.
والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ
* * *(3/308)
سورة لقمان مكية
قيل إلا ثلاثًا من قوله: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام)
وهي أربع وثلاثون آية وأربع ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
* * *
(الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) المشتمل على الحكم، أو المحكم آياته قيل: وصف كتاب الله بصفة الله على الإسناد المجازي، (هُدًى) حال عن الآيات،(3/309)
(وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ): أيقنوا بالدار الآخرة، والجزاء فيها فرغبوا إلى الله وأخلصوا العمل، (أوْلَئِكَ ًهُدًى مِّن ربِّهِمْ وأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ): في الدارين، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ)، من يحب الغناء ويختاره، والمزامير على حديث الحق أو يشتري المغنيات ويرغب الناس في سماعها أي: ذات لهو الحديث أو نزلت في من اشترى كتب أخبار سلاطين العجم، ويحدث بها قريشًا فيختارون استماعه على(3/310)
استماع القرآن، (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ): عن دينه، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حال من فاعل يضل قال قتادة رضى الله عنه: بحسب المرء من الجهل أن يختار حديث الباطل على الحق أو يشريه بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة، (وَيَتَّخِذَهَا) أي: سبيل الله، (هُزُوًا): سخرية، (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ): لإهانتهم الحق، (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى): أعرض عنها، (مُسْتَكْبِرًا) متكبرًا، (كَأَنْ) أي: كأنه، (لَمْ يَسْمَعْهَا)، حال أي: مشابهًا حاله بحاله أو استئناف، (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا)، ثقلاً مانعًا عن الاستماع بدل من كان أو حال من فاعل لم يسمع أو استئناف، (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) فيه تهكم، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد لنفسه، (حَقًّا) مؤكد لغيره، (وَهُوَ العَزِيزُ): الغالب المطلق، (الحَكِيمُ): في أفعاله، (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا): صفة لعمد يعني لها عمد غير مرئية أو استئناف أي: ترونها لا عمد لها، (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ): جبالاً شوامخ، (أَن تَمِيدَ) كراهة أن تميد (بكُمْ) فإن الأرض كانت تضطرب قبل خلق الجبال، فلا يمكن السكون على وجهها، َ (وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ): من كل صنف كثير النفع، (هَذَا خَلْقُ اللهِ): مخلوقه، (فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ(3/311)
دُونِهِ) أي: آلهتكم حتى استوجبوا عندكم عبادتها ونصب ماذا بـ خلق أو ماذا مبتدأ وخبر أي: ما الذي خلق وحينئذ أو أروني معلق عنه، (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بضلال ليس بعده ضلال.
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لله وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) الأصح، بل الصحيح أنه ما كان نبيًّا، بل كان عبدًا صالحًا أدرك داود عليه السلام، وعن كثير من السلف: إنه عبد(3/312)
أسود آتاه الله تعالى الحكمة، وعن بعض: إن الله خيره بين النبوة، والحكمة، فاختار الحكمة فإن فيها السلامة، (أَنِ اشْكُرْ)، أي: لأن أو مفسرة فإن إيتاء الحكمة في معنى القول، (لله وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ): نفعه لا يعود إلا إليه، (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِي): لا يحتاج إلى شيء، (حَمِيدٌ): حقيق بالحمد وإن لم يحمده أحد، (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ)، تصغير إشفاق، (لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، نقل أن ابنه وامرأته كانا كافرين فما زال بهما حتى أسلما، (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ): برعايتهما، (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ): تضعف ضعفًا فوق ضعف أو ذات وهن على وهن، (وَفِصَالُهُ): فطامه، (فِى عَامَيْنِ)، أي: في انقضائهما، وذلك أقصى مدة الرضاع عطف على الجملة الحالية التي هي تهن وهنًا على وهن لما وصى بالوالدين ذكر ما تكابده الأم من المتاعب في حمله، وفصاله إيجابًا للتوصية بها خصوصًا، (أَنِ اشْكُرْ) تفسير لوصينا(3/313)
أو علة له، (لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) فأجازيك، (وَإِن جَاهَدَاكَ): بالغاك وحرضاك، (عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي: ما ليس بإله يعني: ما ليس لك علم باستحقاقه للإشراك تقليدًا للوالدين فـ " ما ليس " مفعول تشرك، (فَلَا تُطِعْهُمَا): في ذلك، (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) أي: صحابًا معروفًا مشروعًا حسنًا بخلق جميلٍ وحلمٍ وبرٍ ومروة، (وَاتبِعْ): في دينك، (سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ): رجع، (إِلَيَّ): بالتوحيد والطاعة، (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أي: المولود والوالدين، (فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ): بجزاء عملكم والآيتان أعني: ووصينا إلى هنا وقعتا في أثناء وصية لقمان على سبيل الاستطراد تأكيدًا لما في وصيته من النهي عن الشرك، وقد نقل أنهما نزلتا حين قالت أم سعد لسعد حين أسلم: لتدعن دينك أو لأدع الطعام والشراب حتى أموت، فأجاب: والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني هذا بشيء إن شئت كلي وإن شئت لا تأكلي، (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا) أي: الخصلة السيئة قيل: إن لقمان قال ذلك في جواب ابنه حين قال له: إن عملت(3/314)
خطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؛ (إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ): في أخفى مكان وأحرزه، وعن بعض إن المراد منها: صخرة تحت الأرضين السبع وهي التي يكتب فيها أعمال الفجار، (أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ)، أو في أعلى مكان أو أسفله، (يَأْتِ بِهَا اللهُ): يحضرها يوم القيامة للجزاء، (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ): يصل علمه إلى كل خفي، (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ): من الشدائد، (إِنَّ ذَلِكَ): الصبر أو المذكور كله، (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي: مما عزمه الله أي قطعه وأوجبه من الأمور، وهو مصدر للمفعول أي من معزوماتها أو مفروضاتها، (وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ): لا تمله، (لِلنَّاسِ)، كما يعمله المتكبرون، يعني: لا تعرض عن الناس بوجهك إذا كلموك تكبرًا، (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا) أي: لا تمرح مرحًا أو للمرح والبطر كما قال تعالى: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس) [الأنفال: 47]، (إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ): ذي تكبر، (فَخُورٍ): يفتخر على(3/315)
الناس، ولا يتواضع، (وَاقْصِدْ في مَشْيِكَ): توسط بين الدبيب والإسراع، (وَاغْضُضْ): وانقص وأقصر، (مِن صَوْتِكَ إِن أَنكَرَ الأَصْوَاتِ): أوحشها، (لَصَوْتُ الحَمِيرِ) أي: لصوت ذلك الجنس من الحيوان، فإنه صوت رافع لا فائدة فيه.
* * *
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِمَا(3/316)
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
* * *
(أَلَمْ تَرَوْا أَن الله سَخَّرَ لَكُم مَّا في السَّمَاوَاتِ): بأن جعله أسباب منافعكم، (وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ): أوفى وأتم، (عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً): محسوسة وما تعرفونه، (وَبَاطِنَةً): معقولة وما لا تعرفونه، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ) أى: مع هذا بعض الناس يجادل في صفاته وإرساله للرسل، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) غير مستند بحجة عقلية، (وَلاَ هُدًى وَلاَ كتابٍ منِيرٍ) أي: ولا نقلية من اتباع رسول وكتاب واضح مضيء، بل قلدوا جهالهم كما قال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آباءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوَهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ): أيتبعونهم ويقلدونهم؟ ولو كان الشيطان يدعوهم إلى جهنم! (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ): انقاد لأوامر الله وتوكل عليه، (وَهُوَ مُحْسِنٌ): في عمله باتباع الشرع، (فقَدِ استمسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى): اعتصم بأوثق حبل، مثل حال المتوكل المطيع بحال من أراد أن يتدلى من شاهق فاستمسك بأوثق عروة من حبل مأمون انقطاعه، (وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الأمورِ): مرجعها إليه، (وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ)، فإنه بإرادتنا ولا يضرك، (إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا) يعني:(3/317)
لا يضرك كفرهم، ونحن ننتقم منهم فعليهم ضره، (إِن اللهَ عَلِيمٌ بذَات الصُّدُورِ): فيجازيهم عليه فضلاً عن أعمالهم الظاهرة، (نمَتِّعُهُمْ): زمانًا، (قليلاً) أو تمتيعًا قليلاً، (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ): نلجئهم في الآخرة، (إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ): شديد ثقيل على المعذب، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لله)، إذ قامت الحجة عليكم باعترافكم، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ): أن ذلك إلزام لهم، (للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الغَنِيُّ) المطلق لا يحتاج إلى عبادة عابد، (الحَمِيدُ): المستحق للحمد وإن لم يحمد، (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ)، عطف على محل (أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ) فإنه في المعنى فاعل لثبت المقدر بعد لو، (يَمُدُّهُ) أي: البحر وهو حال أو البحر مبتدأ ويمده خبره، والواو للحال من غير ضعف، (مِنْ بَعْدِهِ) أي: بعد ذلك البحر، (سَبْعَةُ أَبْحُرٍ)، فاعل يمده وهى للتكثير لا للحصر، وقد نقل أن في العالم سبعة أبحر محيطة بالعالم، (مَا نَفِدَتْ(3/318)
صفحة فارغة(3/319)
كَلِمَاتُ اللهِ) يعني لو ثبت أن أشجار الأرض أقلام، والبحر ممدود بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات علم الله وحكمته لما نفدت ونفدت الأقلام والمداد وهو كقوله:(3/320)
(نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه) نزلت حين قال أحبار اليهود: يا محمد بلغنا أنك تقول، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً أفعنيتنا أم قومك؟ فقال: كُلًّا، فقالوا: إنك تتلوا إنا قد أوتينا التوراة، وفيها تبيان كل شيء، فقال عليه السلام: هي في علم الله قليل، وقد آتاكم ما إن عملتم به انتفعتم، وهذا يقتضي أن الآية مدنية، والمشهور أنها مكية، قال بعض السلف: أمر اليهود وفد قريش أن يسألوه وهو بمكة، (إِذ اللهَ عَزِيزٌ): لا يعجزه شيء، (حَكِيمٌ): في جميع شئونه، (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) أي: إلا كخلق نفس واحدة وبعثها، فإنه يكفى في الكل تعلق الإرادة، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ): يسمع ويبصر كل مسموع ومبصر لا يشغله شأن عن شأن، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ): فيطول النهار ويقصر الليل، (وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ): منهما، (يَجْرِي): في فلكه، (إِلَى أَجَلٍ مسَمًّى): إلى وقت معين الشمس إلى آخر السنة، والقمر إلى آخر الشهر، أو الأجل المسمى يوم القيامة فحيئذ ينقطع جريهما، (وَأَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ذَلِكَ) أي: اختصاصه تعالى بسعة العلم، وشمول القدرة، وعجائب الصنع، (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) لسبب أنه الثابت إلاهيته، (وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ(3/321)
الْبَاطِلُ): إلاهيته، (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) مترفع ومتسلط على كل شيء أو معناه ذلك الذي أوحى إليك بسبب بيان أنه هو الحق وأن إلهًا غيره باطل وأنه على كبيرٌ أن يشرك به.
* * *
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
* * *
(أَلَمْ تَرَ أَن الفُلْكَ تَجْرِى فِي البَحْرِ بِنعْمةِ اللهِ): برحمته وإحسانه، (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي: لكل مؤمن فقد ورد " الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر " أو لأن كون الفلك وأحوالها آية لا يدرى كما هى إلا كثير الصبر والشكر ممن ركبها فلم يقلق فيها وتأمل في غرائبها ثم إذا خرج منها ما كفر، (وَإِذَا غَشِيَهُم): علاهم، (مَوْجٌ كَالظُّلَلِ): كالجبال والسحاب، (دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ): لا يدعون معه غيره تركوا التقليد واتبعوا الفطرة،(3/322)
(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ): متوسط في العمل لا يعمل بكل ما عهد ولا يترك كله، (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ)، الختر: أشد الغدر، (كَفُورٍ) للنعم والحاصل أن الناجي من البحر قسمان قسم بين بين، وقسم ينكر نعم الله، وأما العامل بجميع ما عهد فقليل نادر، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي): لا يقضي، (وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ): فيه، (وَلَا مَوْلُودٌ) مبتدأ، (هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا)، خبره قيل: تغيير للأسلوب بطريق التأكيد لقطع أطماع المؤمنين أن ينفعوا آباءهم الكفرة في الآخرة فإن آباء أكثر الصحابة ماتوا على الجاهلية، (إِنَّ وَعْدَ اللهِ): بالجزاء، (حَقٌّ): لا يمكن خُلفه، (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ): الشيطان فينسيكم عقابه ويطمعكم في رحمته بلا طاعة، (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ): علم وقت قيامها عنده لا يعلمه غيره وعنده خبر علم الساعة والجملة خبر إنَّ، (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ)، الظاهر أنه عطف على خبر إن ولا شبهة أن المقصود اختصاص هذا العلم لا محض القدرة على الإنزال واسم الله الجامع إذا وقع مسند إليه ثم(3/323)
بني عليه الخبر على إرادة تقوى الحكم أفاد تخصيصًا لا سيما إذا كان عطفًا على المختص كما حققه الزمخشري في مواضع، (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ): أنه ذكر أو أنثى لا يعلم أحد وقت نزول الغيث إلا عند أمر الله به فإنه يعلم حينئذ الملك ومن شاءه من خلقه وكذلك لا يعلم أن ما في الرحم ذكر أو أنثى إلا حين ما أمر بكونه ذكر أو أنثى شقيًّا أو سعيدًا، (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا): خيرًا أو شرًّا عطف على جملة إن الله، أثبت اختصاصه به تعالى على سبيل الكناية على الوجه الأبلغ، (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) وإن استوفى حيلها وإذا كان حال شيء أخص به فكيف هو من معرفة ما عداهما، (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ): فلا يخفى عليه خافية، وفي الحديث (مفاتح الغيب خمس) وتلا هذه الآية.
والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *(3/324)
سورة السجدة مكية
قيل إلا ثلاث آيات من قوله " أفمن كان مؤمنًا "
وهي ثلاثون أو تسعٍ وعشرون آية وثلاث ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
* * *
(الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ) هو خبر (الم) إن كان (الم) اسمًا للسورة، والتنزيل بمعنى: المنزل، وإلا فخبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره قوله: (لاَ رَيبَ فيهِ) لأن نافي الريب معه، وهو كونه معجزًا، وقوله: (مِن رَّبِّ العَالَمِينَ) خبر ثان أو هو الخبر و (لا ريب(3/325)
فيه) اعتراض لا محل له وضمير فيه لمضمون الجملة يعني: لا ريب في كونه منزلاً من رب العالمين، (أَمْ يَقولونَ): بل أيقولون، (افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أثبت أولاً أن تنزيله من الله وأن ذلك لا ريب فيه، ثم أضرب عن ذلك بقوله: (أم) إنكارًا لقولهم، وتعجيبًا منه لظهور بطلانه ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من الله، (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) فإنه ما أتاهم رسول منهم مبعوث إليهم ينذرهم، (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) بإنذارك، َ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) قد مر في سورة الأعراف، (مَا(3/326)
مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ)، لا ولي ولا شفيع لكم من دون الله، حال مقدم، (أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) بمواعظ الله، (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ): يدبر أمر الدنيا منزلاً من السماء إلى الأرض إلى يوم القيامة، فإن السماء محل حكم الله ومنه ينزل الأمور، (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) ذلك الأمر كله، أي: يصير إلى الله لأن يحكم فيه، (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وهو من يوم القيامة الذي كله خمسون ألف سنة، يوم يعرض فيه الأعمال أو معناه نزول الملك بتدبير الدنيا وعروجه في يوم واحد من أيام الدنيا ولو قطعه أحد من بني آدم لما قطعه في ألف سنة لأن المسافة بين السماء والأرض خمسمائة فالنزول والعروج لا يمكن إلا بألف سنة، والملائكة يقطعونها في يوم واحد فعلى هذا ضمير إليه للسماء أو ينزل قضاءه وقدره من السماء إلى الأرض ثم يرفع الأعمال إلى ديوانها فوق السماء بيوم واحد مع أن المسافة مسافة ألف، قيل: معناه يدبر من أعلى السماوات إلى أقصى تخوم الأرض يبين ما تحت(3/327)
تصرفه وسلطانه، ثم يرفع الأعمال إلى ديوانها فوق سماء الدنيا، ومسافة ما بين السماء والأرض خمسمائة وسمك السماء خمسمائة أخرى، (ذلِكَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) ما غاب عنكم وما حضر، (العَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُل شَيْءٍ خَلَقَهُ) أتقنه وأحكمه وأوفر عليه ما يستعده على وفق الحكمة، وخَلْقَه بدل اشتمال، وفي قراءة فتح اللام جملة فعلية صفة لكل شيء، (وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ): آدم، (مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ): ذريه، (مِن سُلالَةٍ)، سلالة الشيء: ما استل منه، (مِّن مَّاءٍ مَّهِين): حقير مبتذل، (ثُمَّ سَوَّاهُ): قوَّمه، والضمير لآدم أو لنسله، (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أضافه إلى نفسه تشريفًا، (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ) لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا فتشكروا، (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) ما زائدة أي: تشكرون شكرًا قليلاً، (وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ) بأن تمزقت أجسامنا وصرنا ترابًا أو غبنا فيها، (أَإِنَّا) تكرار الهمزة لتأكيد التعجب والإنكار، (لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) العامل في إذًا نُبْعَثُ الدال عليه أئنا لفي خلق جديد فإن ما بعد إن لا يعمل فيما قبله، (بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ): بالبعث، (كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ): يستوفي روحكم ويميتكم، (مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ): بقبض روحكم، في الحديث(3/328)
(إن ملك الموت قال: يا محمد ما في الأرض بيت مدر ولا شعر إلا أنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات حتى إني لأعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم)، (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ): للجزاء.
* * *
(وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
* * *(3/329)
(وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ): مطأطئوها، (عِنْدَ رَبِّهِمْ)، حياءً وندمًا، (رَبَّنَا)، أي: قائلين: ربنا، (أَبْصَرْنَا) ما كذبناه، (وَسَمِعْنَا) منك تصديق رسلك، قيل معنى أبصرنا وسمعنا: أيقنا حقيقة الأمر، (فَارْجِعْنَا)، إلى الدنيا، (نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) جواب لو محذوف أي: لو ترى لرأيت العجب العجاب، ولو وإذ كلاهما للمضي فإن المترقب من الله بمنزلة الموجود، (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا): ما تهتدي به من الإيمان والأعمال الصالحة، (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) سبق وعيدي وهو (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) الذين هم في علم الله أشقياء، (أَجْمَعِينَ فَذُوقُوا) أي: يقال لهم ذلك على سبيل التقريع، (بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ) أي: جازيناكم جزاء نسيانكم فهو على المقابلة أو النسيان بمعنى: الترك، (وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وهذه الآية جواب عن قولهم: (فارجعنا نعمل صالحًا) يعني: لو أردنا لهديناكم في الدنيا لكن ما أردنا، فذوقوا العذاب المقدر بسبب كسبكم العقائد الفاسدة والأعمال القبيحة، وهذا إما مفعول ذوقوا، أو صفة يومكم، وايم الله إنَّهَا لكسرت أنياب المعتزلة لكن من لم يجعل الله له نورًا فما له من نور، (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا): وعظوا، (بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا): سقطوا على وجوههم ساجدين خوفًا (وَسَبَّحُوا): سبحوه عما لا يليق بجلاله، (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ): حامدين له شكرًا، (وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ)، عن طاعته فيتبعون رسله، (تَتَجَافَى): ترتفع وتتنحى،(3/330)
(جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ): عن الفرش، (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ): داعين إياه، (خَوْفًا) من عقابه، (وَطَمَعًا) في ثوابه، (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ): في مصارف الخير، والمراد التهجد وقيام الليل وفي الأحاديث الصحاح ما يدل عليه، وعن بعض هو صلاة العشاء والصبح فِي جماعة، وعن بعض هو صلاة الأوابين بين العشائين، وعن بعض: هو انتظار صلاة العتمة، (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ) ما موصولة مفعول تعلم بمعنى: تعرف، وفي الحديث القدسي (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) ونعم ما قيل: أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم، (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ): مما تقر به عيونهم، (جَزَاءً) أي: أخفى للجزاء أو جوزوا جزاء، (بمَا كانُوا يَعْمَلُونَ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا): خارجًا عن طاعة ربه، (لا يَسْتَوُونَ) في المثوبة والمنزلة، جمعه للحمل على المعنى، نزلت في عليٍّ رضي الله عنه والوليد أخي عثمان من أمه بينهما تنازع فقال لعلي: إنك صبي وأنا والله أبسط لسانًا وأحد سنانًا وأشجع منك جنانًا، فقال له علي: اسكت فإنك فاسق، (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى) هي المأوى الحقيقي لا الدنيا، (نُزُلًا): هو ما يحضر للنازل قبل الضيافة، منصوب على الحال من(3/331)
جنات، (بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقوا فَمَأوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا): تمنوا، (أَنْ يَخرُجُوا مِنْهَا): فصعدوا إلى أبواب جهنم، (أعِيدُوا فِيهَا): إلى أسفل دركاتها، (وَقِيلَ لَهُمْ)، إهانة: (ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى): مصائب الدنيا، (دُونَ العَذَابِ الأَكْبَرِ): عذاب الآخرة، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ): يتوبون عن الكفر، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا) يعني: ومن أظلم ممن أذقناه المصائب الدنيوية مدة متطاولة وأريناه فيها الآيات، ثم بعد تلك الدة خاتمة أمره الإعراض، فثم وقع موقعه، لكن في سورة الكهف ذكر بالفاء لأنه ما بين أولاً إلا جدالهم مع الرسل واتخاذ الآيات هزوًا فما هو إلا أنَّهم حين رأوا رسلهم وآياتهم أنكروا بادئ الأمر من غير تأمل، (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ): المشركين (مُنْتَقِمُونَ).
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ(3/332)
صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
* * *
(وَلَقَدْ آتيْنَا مُوسَى الكتاب) كما آتيناك، (فَلاَ تَكُن فِي مِريةٍ): شك، (مِنْ لِقَائِهِ) أي: من لقاء موسى ربه فاطمع أنت أيضًا فيه، فالإضافة إلى المفعول، هكذا فسره النبي عليه السلام، رواه الطبراني أو من لقائك موسى ليلة المعراج أو من تلقى موسى الكتاب بالرضاء والقبول، قيل: معناه آتينا موسى مثل ما آتيناك فلا تك في شك من أنك أوتيت مثله، فالضمير للكتاب الذي أريد به الجنس، أي: لقائك الكتاب نحو " وإنك لتلقى القرآن " [النمل: 6]، (وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَني إِسْرَائِيلَ وَجَعَلْنَا مِنهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ) الناس، (بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا) على أوامر الله ومصائبه التي قدرها عليهم، (وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) وكأن هذه الآية وعد وتسلية لنبيه عليه الصلاة والسلام وإرشاد لأصحابه وأمته، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ): يقضي فيميز المحق من المبطل، (فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمور دينهم، (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) عطف على مقدر مثل: ألم ينبههم، (كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) فاعل " يهد " ما يدل عليه ذلك الكلام، كأنه قال: أولم يهد لهم كثرة إهلاكنا، وكم منصوب بـ أهلكنا، وله صدر الكلام لا يعمل فيه ما(3/333)
قبله، (يَمْشُونَ) أهل مكة، (فِي مَسَاكِنِهِمْ) حين يسافرون للتجارة، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ): سماع اتعاظ، (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي: ألم يسمعوا ولم يروا؟، (أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ): التي قطع نباتها، (فَنُخْرِجُ بِهِ): بالماء، (زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ): من الزرع، (أَنْعَامُهُمْ) من أوراقه، (وَأَنفُسُهُمْ) من حبوبه، (أَفَلاَ يُبْصِرُونَ) فيستدلون على كمال القدرة، (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ) أي: في أي وقت يكون النصر كما تزعم يا محمد؟ (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، أن لكم وقتًا علينا تنتقمون منا، (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ): وهو يوم حلول سخط الله وعقابه، كان في نياتهم أنه لو نزل عليهم من السماء بلاء لآمنوا حين يرونها، (وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ): يمهلون، (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تبال بكلامهم، (وَانتَظِرْ) موعد النصر، (إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ) حوادث الزمان عليك، قيل: انتظروا عذابهم إنهم منتظرون ذلك أيضًا، ولذلك لم يؤمنوا، وعن بعض الآية منسوخة وكان عليه السلام لا ينام بالليل حتى يقرأ (تبارك) و (الم تنزيل).
والحمد للهِ وحده.
* * *(3/334)
سورة الأحزاب مدنية
وهى ثلاث وسبعونَ آية وتسع ركوعات
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّبِى اتَّقِ الله): اثبت عليه، (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) نقل أن بعض قريش نزلوا على منافقي المدينة بأمان النبي - عليه السلام - وقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ارفض(3/335)
ذكر آلهتنا بسوء، وقل إنَّهَا تشفع لمن عبدها ندعك وربك فأخرجهم النبي عن المدينة فنزلت، (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا): فهو أحق أن يطاع ويتبع، (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا): فلا تخالفوه، ومن قرأ يعملون بالياء فمعناه إنه خبير بمكائد الكفار والمنافقين فلا تبال فإنه يدفعها عنك، (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا): حافظًا موكولاً إليه كل أمر، (مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) لم ير في حكمته أن يجعل لأحد قلبين لأن القلب سلطان ولا يليق بمملكة إلا سلطان واحد، (وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ) والمظاهرة مثل أن تقول: أنت كظهر أُمي وفي الجاهلية بالمظاهرة تحصل الفرقة الأبدية وتصير كالأم، وتعديته بمن لتضمنه معنى التجنب والتباعد، (أُمَّهَاتِكُمْ): إن أمهاتكم إلا اللائي ولدنكم والأمهات مخدومات والزوجات خادمات، (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ). الذين تدعونهم ولدًا، (أَبْنَاءَكُمْ)، فإن البنوة أمر ذاتي والتبني عارضي فكيف يكون هو إياه، فحاصله أنه تعالى كما لم ير في حكمته أن يجعل لأحد قلبين فيفعل بأحدهما غير ما يفعل بالآخر لئلا يكون أحطهما فضلة غير محتاج إليه فيؤدي إلى اتصاف شخص بالعلم، والظن والمحبة والكراهة وغيرهما في حالة واحدة ولم ير أيضًا أن تكون امرأة لرجل مخدومة وخادمة وأن يكون رجل دعيًّا غير أصيل وابنًا أصيلاً وعن بعض السلف إن الأولين للثالث أي: كما لا يكون لرجل قلبان، ولا يصير غير الأم أُمًّا كذلك لا يكون الدعي ابنًا فلا تسموا زيد بن حارثة مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي تبناه قبل النبوة زيد بن محمد (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) [الأحزاب: 40]، وعن كثير من السلف إن الأول(3/336)
نزل في شخص يقال له ذو القلبين يقول: لي قلبين أعقل بكلٍّ، أفضل من عقل محمد، وعن بعض: لما سها عليه السلام في صلاته قال المنافقون: له قلبان، قلب معهم، وقلب معكم، (ذلِكمْ): إشارة إلى المجموع أو إلى الأخير، (قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ) لا حقيقة له، (وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ): المطابق للواقع، (وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ): طريق الحق، (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ) انسبوهم إليهم، وفي إفراده بالذكر إشعار إلى ما نقلنا من أن الأولين للثالث، (هوَ)، راجع إلى مصدر ادعوهم، (أَقْسَطُ) من القسط بمعنى العدل، (عِندَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ) حتى تنسبوهم إليهم، (فَإِخْوَانُكُمْ) أي: فهم إخوانكم، (فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ): أولياءكم فيه فقولوا أخي ومولاي، (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ): إثم، (فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ): فيما فعلتموه مخطئين على النسيان أو سبق اللسان، (وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبكمْ): ما تعمدت عطف على ما أخطأتم أي: وعليكم جناح فيما أو مبتدأ مقدر خبره أي ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح، (وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا) في الحديث " ثلاث في الناس كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم " وفي الحديث (إن في القرآن المنسوخ، ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم)، (النبِيُّ أَولى بِالْمُؤمِنِينَ مِنْ أَنفْسِهِمْ): في أمور الدارين قال عمر: لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال عليه السلام:(3/337)