بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ـ[تفسير الإيجي جامع البيان في تفسير القرآن]ـ
المؤلف: محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الحسني الحسيني الإِيجي الشافعيّ (المتوفى: 905هـ)
دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الأولى، 1424 هـ - 2004 م
عدد الأجزاء: 4
أعده للشاملة/ أبو إبراهيم حسانين
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مقابل]
__________
تنبيه مهم:
تم تصويب بعض الكلمات الموجودة في أصل الكتاب المطبوع فمثلا كلمات مثل قريش - مكة - بدر - (شهر) صَفَر الخ تجدها مكتوبة هكذا القريش - المكة - البدر - (شهر) الصَفَر.
تم تصويب هذه الكلمات وإضافة بعض التعليقات في بعض المواضع بالإضافة إلى تصويب بعض التصحيفات التي غفل عنها محقق الكتاب - غفر الله تعالى لنا وله.
وقد نبهت على بعضها، لكنها لما كثرت اكتفيت بوضع الصواب بين معقوفتين []. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(1/2)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
لفضيلة الدكتور / عبد الحميد هنداوي الأستاذ بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب والفرقان، وأصلى وأسلم على حامل لواء الفصاحة والبيان، محمد وآله وصحبه ومن تبعه بإحسان.
وبعد، فهذا كتاب في التفسير قلَّ أن تجد مثله، فهو قصد ووسط بين المختصرات والمطولات، يوضح العبارة بأيسر إشارة، ويجمع الكثير من المعاني بقليل من الألفاظ الدواني، ويلخص الأقوال، ويرجح المقال على المقال، ويشير إلى أسرار الإعجاز بشيء من الإيجاز، ويرد الأقوال الممتحلة من الفلاسفة والمعتزلة، وينافح عن كلام رب العالمين برد كلام المبطلين والغالين.
وقد كتبه مصنفه بعد تردد وتأخر، لكنه عزم عليه كما يقول لما لم يجد " في التفسير مختصرًا يغني، وكتابًا يقرب ويدني ".
وبالحق كان كتابه سدًّا لهذه الثغرة، فكان مختصرًا يغني، وكتابًا يقرب ويدني؛ فهو على اختصاره يغني عما سواه من المطوّلات، وعلى وجازة إشارته يقرب المعنى البعيد ويدنيه، وكان من خير ما قدر لهذا الكتاب أنه حاز الفضل من جهتين:
من جهة مصنفه (الإيجى) - رحمه الله - في حسن تصنيفه والعناية بتأليفه، وتحرير مسائله العقدية واللغوية والبلاغية.
ثم من جهة محشّيه (الغزنوي) - رحمه الله - الذي خدم هذا الكتاب خدمة جليلة لا تقل عن خدمة مصنفه الأصلي بل تزيد، حيث إنه قد انبرى لما فات المصنف أن ينبه عليه مما يخالف عقيدة السلف أو ما وقع فيه المصنف نفسه من باب الخطأ والزلل في مخالفة عقيدة السلفى الصالح (رضوان الله عليهم جميعًا) فانبرى لذلك الشيخ الغزنوي - رحمه الله - وقد كان سنيًّا سلفيًّا واضح المذهب مقتديًا بالإمامين ابن تيمية وابن القيم - رحمهم الله تعالى جميعًا - ويكثر النقل عنهما؛ فخلّص الكتاب مما قد يشوبه أو يشينه من(1/3)
المخالفات فأصبح بحمد الله تعالى بارئًا، وصفاه من الكدر فصار بمنة الله تعالى عسلاً مصفى ولبنًا خالصًا سائغًا للشاربين، وهذا من فضل الله ورحمته للعالمين.
هذا، وقد عهدت إلى دار الكتب العلمية بتحقيق هذا السفر العظيم، غير أني قد انتابتني الشواغل والموانع دون إتمامه فقام على إتمام تخريجه وتصحيحه ومراجعته جماعة من الأفاضل، واقتصر دوري فيه على النظر فيه ومراجعته والتعليق على بعض مواضعه والتقديم له، والله أسأل أن ينفع به، وأن يجزل الثوبة لكل من ساعد فيه أو قدم فيه جهدًا مشكورًا، وأسأله سبحانه أن يجزل لنا المثوبة عليه في الدنيا والآخرة، إنه مولى ذلك والقادر عليه.
وكتب
راجي عفو ربه الغفور
عبد الحميد بن أحمد بن يوسف هنداوي
المدرس بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة(1/4)
ترجمة المؤلف
اسمه ونسبه:
هو محمد بن صفي الدين عبد الرحمن بن محمد بن عبد السلام وقيل: عبد الله، معين الدين الحسيني الصفوي الإيجي الشيرازي الشافعي.
وذكر نفسه هو في مقدمة كتابه فقال: " وأنا أحوج الخلق إلى رحمة ربه (معين بن صفي) أدركهما الله بلطفه الجليّ والخفيّ ".
مولده:
ولد الإيجي سنة 832 هـ الموافق 1429 م تقريبًا.
موطنه:
نشاً الإيجي في بلدة " إيج " بنواحى شيراز، وإليهما ينسب.
وإيج " بالجيم ": بلدة كثيرة البساتين والخيرات أقصى بلاد فارس، وأهل فارس يسمونها إيك. ويبدو أنها بلدة يعني أهلها بالعلم والعلماء، فقد نسب إليها عدة من المؤلفين والعلماء، منهم عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي، بل نسب إليها كبار المحدثين، وينسب إليها أبو محمد عبد الله بن محمد الإيجي النحوي، روى عن ابن دريد فأكثر.
وشيراز: بالكسر وآخره زاي: بلد عظيم مشهور معروف مذكور، وهي قصبة بلاد فارس، وهي مما استجد عمارتها واختطاطها في الإسلام، وبها جماعة من التابعين مدفونون، وهي في وسط بلاد فارس، وقد نسب إلى شيراز جماعة كثيرة من العلماء في كل فن.
أبوه:
هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الإيجي صفي الدين أبو الفضل الحسيني العجمي الصوفي الشافعي المتوفى بمكة سنة 864 هـ، له حاشية على شرح التبادكاني لمنازل السائرين، ولقد بدأ الأب في كتابة تفسير سورة الأنعام، فكتب نبذًا ثم ترك، وقال لابنه: أنت مأمور بذلك.
ولما كان الأب له مشاركة في العلوم الشرعية كان لذلك تأثير على الابن، بل كان الأب سببًا لإكمال الابن كتاب التفسير كما سبق.(1/5)
اجتهاده العلمى:
لقد انشغل الإيجي بجوانب متعددة من الفروع العلمية، وبرع في بعضها ومما يدل على ذلك الأوصاف التي وصف بها فى ترجمته فقد وصف بأنه مفسر ومحدث ونسب إلى مذهب الشافعي.
1 - التفسير:
لقد انشغل الإيجي بعلم التفسير، ووقف على كتب عدة في جمعه لمادة تفسيره، وله كتب في التفسير منها: تفسير سورة الفاتحة، جامع البيان في تفسير القرآن وهو الذي نقدم له.
ومما يدل على براعته في التفسير أنه يجمع في تفسير الآية أقوالاً كثيرة بأوجز عبارة وألطف إشارة، وهذا لا يستطيعه إلا من كان بالتفسير خبيرًا وبطرق المفسرين وعباراتهم بصيرًا، حتى قال عن نفسه كما في مقدمة تفسيره: " ثم اعلم أن ما يحتويه أكثر التفاسير ترى في هذا التفسير مع معانٍ صحيحة نفيسة لم تجد في كثير منها ".
2 - الحديث:
كان الإيجي معظمًا للحديث النبوي غير معرض عنه، وله مشاركة بالتأليف في علم الحديث إذ له شرح الأربعين النووية.
وتجده يعيب على من لا يقدم الأخبار النبوية، فيقول في مقدمة التفسير " وكثيرًا تجد الزمخشري ومن يحذو حذوه أعرضوا عن المعنى المنقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الكتب الصحاح لأجل عدم فهم مناسبة لفظية أو معنوية، وإن نقلوه ما ذكروه إلا آخر الأمر بصيغة التمريض، لكن المسلك في تفسيرنا هذا الاعتماد على المعاني الثابتة عمن أنزل عليه الكتاب المتكلم بفصل الخطاب صلى الله عليه وبارك وسلم.
3 - اعتقاده:
لقد حمل الإيجي حملة شديدة على الفلسفة والفلاسفة، إذ كان مبغضًا لها ومحذرًا منها معظمًا للنصوص الشرعية، بل ألَّف كتابا سمَّاه: " تهافت الفلاسفة ".
ويقول في تفسير سورة البقرة آية 74 في حديثه عن بعض الأمور المردودة: " نعم لمن(1/6)
يتبع الفلسفة أن يتمحل التَّمَحُّلَ (1) في أمثال ذلك والله تعالى بمحض فضله قد عصمنا منه ".
وكان له موقف من الاعتزال عمومًا ومن الزمخشري خصوصًا، فيقول في مقدمة لتفسير: " كتاب موفًّى فيه الحكمة والمعرفة، مصفى عن الاعتزال والفلسفة ".
ويقول: " فإن قرع سمعك شيء يخالف الكشاف ومن تبعه فلا تعجل إلى الرد نكارًا، وارجع بصر البصيرة لعلك تجد من جانب طور العلم نارًا ".
ومع تعظيمه للنصوص الشرعية وموقفه من الاعتزال والفلسفة ونقله الكثير عن السلف إلا أننا نجد عنده آثارًا صوفية ربما كان سببها كون أبيه صوفيًّا، ومن أمثال ذلك ما تجده في كلامه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مقدمة التفسير، ولقد أجاد الغزنوي صاحب الحاشية في بيان خطأ ما صنع، والتحذير مما فيه وقع، وأحيانًا يمشي في تفسير آيات أسماء الله وصفاته على طريقة الأشاعرة، وربما ينقل في تفسيرها قول السلف مُتْبعًا إياه بكلام الأشاعرة، فتراه في تفسير قوله تعالى: (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) من سورة البقرة يقول: " لا يرضيه " جاريا مجرى الأشاعرة في تأويل الصفات إلى السبعة التي يثبتوتها، فيقولون معنى الحب: الرضا مخالفين بذلك طريقة السلف، ومثال جمعه بين طريقة السلف وطريقة الأشاعرة قوله في تفسير قوله تعالى: (أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) من سورة البقرة: " مذهب السلف الإيمان بمثل ذلك ووكول علمه إلى الله تعالى أو تقديره: يأتيهم بأسه ".
وجدير بالذكر أن الغزنوي صاحب الحاشية أشار في مواضع كثيرة إلى طريقة السلف في فهم آيات أسماء الله وصفاته وأن هذه الطريقة هي التي يجب اتباعها إلا أنه لم يتتبع كل موضع يحتاج إلى هذا التنبيه.
* * *
مذهبه:
وصفه من ترجموا له بأنه كان شافعيًّا ونقل هو عن مذهب الشافعي في تفسيره.
* * *
لغته:
مع كونه نشأ ببلاد فارس إلا أنه عني بعلوم العربية واجتهد في إتقانها، فضمن
_____________
(1) التمحل: المعاداة.(1/7)
تفسيره كلامًا عن الإعراب وتوجيهات نحوية مما يدل على أن له في علوم العربية باعًا، ولكن ليس كل ما تبغيه تجده فقد ظهر في عباراته جانب من الضعف اللغوي والركاكة فى الأسلوب وعذره في ذلك أنه ليس من العرب الأصلاء وإنما هو أعجمي، وكفى بالمرء نبلا أن تعد معايبه.
* * *
وفاته:
توفى الإيجي في 906 هـ وقيل: 905 هـ الموافق تقريبًا 1500 م. ووقع على غلاف طبعة باكستان لكتاب التفسير (832 هـ - 894 هـ) وعلى طبعة الشيخين شاكر والفقي (832 هـ - 905 هـ).
* * *
كتبه:
لقد أشرنا إلى بعضها آنفًا في طيات حديثنا ولكن ها نحن نذكر ما وقفنا على سبتها له:
1 - تفسير سورة الفاتحة.
2 - جامع البيان في تفسير القرآن، وبعضهم يسمّيه: جوامع التبيان في تفسير القرآن وهو ما نقدم له بهذه المقدمة).
3 - تهافت الفلاسفة.
4 - شرح الأربعين النووية.
5 - شعب الإيمان.
6 - حاشية على التلويح للتفتازاني.
7 - بيان المعاد الجسماني والروح.(1/8)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة للمفسر رحمه الله تعالى
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأظهره على الدين كله فالحقّ أحقَّ، والباطل أزهقَ؛ أنزل معه كتابًا قطع أعناق العتاق السَّبَق، وأبكم به البلغاء من العرب العرباء طبقًا بعد طبق، شهد محكم آياته القديمة بأن المُنَزَّلَ حق غير مختلق، ودل مضمون سوره العظيمة على أن رسوله صادق مصدق، فصلِّ يا رب وسلم على سيدي سرى ليلاً إلى السبع الطباق فخرق؛ وبلغت بلاغة كتابه نحوًا لا يسبق، بل شأوًا لا يلحق؛ ثم على آله مظاهر ألطاف الله وأفضاله الذين كل منهم في سماء الشرف قمر إذا اتسق.
أما بعد، فلما أن رأيت همم أبناء العصر قاصرة، ومساعيهم وإن جدوا في الطلب فاترة، قنعوا عن الحقيقة بالمجاز، ومالوا عن التطويل إلى الايجاز، ولعمري يكاد أن يعد ذلك من علو همتهم، وقوة نهمتهم؛ لأنهم أرادوا حوز العلوم بأسرها، وقصدوا(1/15)
جمع الفنون حبرها وسبرها، وقد علموا بالتجارب أن الخطب خطير، والعمر قصير، والعوائق متلاطمة الأمواج، والبوائق متراكمة الأفواج، فلو استطلعوا على طلل المطولات لوقعوا في فتات الشتات، ويعرض الكل في معرض الفوات، وما رأيت في التفسير مختصرً يغني وكتابً يقرب ويدني - أردت أن أتعرض لهذا مع قلة البضاعة وقصور الباع خصوصً في تلك الصناعة؛ حين كان القلب مشغوفًا بكشف وجوه غمار أسرار نكات الكشاف، والفؤاد مشعوفًا باستخراج فرائد الفوائد عن زخار بحار كلام الأعالي والأشراف، وقد كان الزمان يرافق بالموافقة، والإخوان في ميدان الفضل على المسابقة، وكانت مرآة الذهن مصفاة عن صداء الفتور، ومرقاة الفضل مبرأة عن طراء الكسور، تجول خيول الفهم من غير غائلة الوهم في
معتركهم، وتخول على درك الطرائد في مدركهم ومتركهم، لكن قد استنصت وعادت عواد عن الإقدام على هذا المرام مدة مديدة من الأيام؛ مع أنه قد صدرت(1/16)
إشارة قدسية تتضمن الالتزام؛ فكم من مرة عزمت وأبت المقادير، ونويت وعرضت امعاذير حتى لازمني رفيق التوفيق، وجاورني فناء بيت الله العتيق، وكحل عيني برؤية أهل الله، ونلت زوارف الفيض من بذل الله؛ أنار في أعشاب كبدي تلك الخامدة، وأدار في دار خلدي تلك الجامدة فاستخرت الله تعالى في الملتزم والمستجار حتى أُلقي في روعى أن لا ضرر ولا ضرار في ذاك الاتجار، ثم صرفت الهمة والعزيمة، وأحكمت النية والصريمة، ونهضت الجناح، وأجبت " حيَّ على الفلاح "، ورفضت غوائل الشواغل، ونفضت دوح الأوائل، فجنيت ثمرة طيبة الطعم والريح، وأحظيت -بحمد الله- بالقدح لا بالسفيح؛ فها قد تم تفسير لاح النور من خلاله، وفاح المسك من أذياله، قد حل عقد المغلقات بما قيد، وبيض وجه المشكلات بما سود، يموج رونق التحقيق في حواشيها، ويقول المتأمل اللبيب: لله دَرُّ واشيها، من مطالعه شمس أنوار التبيان قد طلعت، وأيم الله إنه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، كتاب موفًّى فيه الحكمة والمعرفة، مصفًّى عن الاعتزال والفلسفة، في كل سطر حقائق استلفت أكثرها -بوجه حسن- عن السلف، ودقائق أبحتها من غير بخل على الخلف، تعرضت فيه لكلام السلف بوجه يعلم منه كيفية مطابقته مع الآية، وأعرضت عن محتملات لا تجانسه دراية، ولا تؤانسه رواية، لا تستصغر قدر نجمه لصغر حجمه؛ فإنك تراه من بعيد؛ وإنما هو بين الوشوح وحيد؛ وما ذلك كله إلا لأني وسمته لمن صناديد الخافقين عبيده إن قبل؛ بل أملاك الأفلاك جنوده لو سأل، الذي خلق الخلق له،(1/17)
ولولاه لكان آدم بعد في وَلَهٍ، الهاشمي المستل من سلالة عدنان، الأبطحي المنزل عليه القرآن، الناسخ للأديان، صَلِّ وسَلِّمْ وبارِكْ عليه يا ربي المعبود، وأنزله المقام المحمود الموعود، فيا شفيع العصاة توسل الخلق بمثل هذا إلى ذي سلطان لمال أو جاه؛(1/18)
وإليك -رسول الله- هذا وسيلتي، وما لي سؤل سوى القبول والقرب من الله، فخذ بيدى؛ إني هائم في مهالك البعاد، ولا تنهر سائلك فإنك أنت الرسول الجواد
يا من ألوذ به فيما أؤَمله ... ومن أعوذ به فيما أحاذره
أنت ملاذى بك ألوذ وأنت عياذي بك أعوذ، أعوذ من خزيك وكشف سترك ومن نسيان ذكرك، والانصراف عن شكرك.
ثم اعلم أن ما يحتويه أكثر التفاسير ترى في هذا التفسير مع معانٍ صحيحة نفيسة لم تجد في كثير منها؛ نعم قد ترى فيها أحياناً معاني لم تلق فيه؛ وما ذلك إلا لأن مطابقتها(1/19)
مع ظاهر الآية لا تخلو عن شبهة، على أنها غير منقولة عن السلف وقليلاً ترى بعض المعاني المنقول قد ترك فيه لما أن تطبيقه مع الآية متعسر أو متعذر؛ وكثيرًا تجد الزمخشري ومن يحذو حذوه أعرضوا عن المعنى المنقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الكتب الصحاح لأجل عدم فهم مناسبة لفظية أو معنوية وإن نقلوه ما ذكروه إلا آخر الأمر بصيغة التمريض؛ لكن المسلك في تفسيرنا هذا الاعتماد على المعاني الثابتة عمن أنزل عليه الكتاب المتكلم بفصل الخطاب صلى الله عليه وبارك وسلم، وما نقلنا فيه شيئاً إلا بعد اطلاع وتتبع تامٍ؛ فأعتمد على نقل الشيخ الناقد في علم الرواية " عماد الدين بن كثير "؛ فإنه في تفسيره قد تفحص عن تصحيح الرواية؛ وتجسس عن عجرها وبجرها؛ ولو وجدت مخالفة بين تفسيره وتفسير " محيي السنة الإمام البغوي " الذي هو من سراة المحدثين ومهرة المحققين - تتبعت كتب القوم الذين لهم يد في التصحيح ثم بعد الاطلاع كتبت ما رجحوا، لكن أعتمد قليلاً على كلام " ابن كثير "؛ فإنه متأخر معتن في شأن التصحيح، و " محيي السنة " في تفسيره ما تعرض لهذا؛ بل قد يذكر فيه من المعاني والحكايات ما اتفقت كلمة المتأخرين على ضعفه؛ بل على وضعه.
وأما الأحاديث المذكورة في تفسيرنا فمعظمها من الصحاح الستة، وتجد تخريجها مسطوراً في الحاشية عليها.
وكل معنى ذكرنا فيه بصيغة " أو " فما هو إلا للسلف، وما ذكرنا بـ قيل فأكثره من مخترعات المتأخرين؛ ما ظفرنا فيه بنقل.
وأما وجه الإعراب فما اخترت إلا الأظهر، والذي ذكرت فيه وجهين أو وجوهاً فلنكتة لا تخفى على المتأدب، فإن قرع سمعك شيء يخالف الكشاف ومن تبعه فلا(1/20)
تعجل إلى الرد إنكارًا، وارجع بصر البصيرة لعلك تجد من جانب طور العلم ناراً، مع أني لا أدعى عدم الخطأ والخطل والسهو والزلل، نعم، اجتهدت غاية الاجتهاد في تنقيح الكلام، وللمجتهد أجرٌ وإن حرم إصابة المرام، ثم إن مأخذ كتابي هذا: " المعالم "، و " الوسيط "، و " تفسير ابن كثير "، و " النسفي "، و " الكشاف " مع شروحه: " الطيبي "، و " الكشف " و " شرح المحقق التفتازاني " - و " تفسير القاضي ناصر الدين البيضاوي ".
وأدرجت فيه ما سمح به الخاطر الفاتر أو سنح للنظر القاصر، وقلما تجد آية إلا وقد رمزت في تفسيرها إلى دفع إشكال أو إلى تحقيق مقال بعبارة وجيزة، أو أَوْمَاتُ إليه بإشارة لطيفة دقيقة، وفي كثير من المواضع أوضحته في الحاشية، وقد تعرضت فيها لوجوه أُخر من المعاني والإعراب، فللمبتدئ حظ كثير من هذا التفسير وللعالم حظوظ.
وسميته: " جامع البيان في تفسير القرآن "، وأنا أحوج الخلق إلى رحمة ربه: " معين بن صفي " أدركهما الله بلطفه الجلي والخفي، وكان بين ابتدائه وانتهائه سنتان وثلاثة أشهر حين بلغ سني أربعين.
والله أسأل أن يجعل ما تعبت فيه سبباً ينجيني، وذخيرة تسرني لا تشجيني، وهو حسب من توكل عليه، ومعين من فوض الأمر إليه، إنه هو العطوف الرحيم، الرءوف الكريم.(1/21)
سورة الفاتحة
مكية وهي سبع آيات
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
(بِسْمِ اللهِ)، أي: متبركًا باسم مسمى لهذا اللفظ الجامع لجميع صفات الكمال أقرأ أو مستعينًا به كما في: كتبت بالقلم، (الرَّحْمَنِ): الموصوف بصفة إرادة(1/22)
الخير لجميع الخلائق ولا يطلق إلا على الله تعالى، (الرَّحِيمِ): بالمؤمنين ويطلق على غيره، (الْحَمْدُ)، ثناء على مستحسن اختياري نفسه أو أثره تعظيمًا لمن قام به، (للهِ)، أي: حقيقته مختصة به، (رَبّ): مالك، (العَالَمينَ)، المخلوقات بأسرها أو الجن والإنس أو هما والملك، (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)، كرر تعليلاً بأنه الحقيق بالحمد، (مَالك)، بالألف ودونه من المِلْك والمُلْك، (يَوْمِ الدينِ): يوم الجزاء متفرد بالحكمَ، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، نخصك بأقصى غاية التذلل وطلب المعونة لما أثنى عليه كأنه حضر بين يديه فخاطبه وهو إخبار من جميع العباد الذين هو فرد منهم أدرج عبادته في عبادتهم لعلها تقبل ببركتها أو المراد الحاضرون لاسيما إن كان في جماعة وقيل: النون للتعظيم فإنه إذا كان في العبادة(1/23)
فجاهه عريض، (اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ): ثبتنا على الطريق الحق وهو دين الله أو الإسلام، (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، من الأنبياء والملائكة والصديقين والشهداء والصالحين أو قوم موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام قبل تغيير دينهم أو آل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو بدل الكل، (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)، صراط غير الذين أردت العقوبة عليهم أو المراد منهم اليهود، (وَلاَ الضَّالِّينَ): الذين عدلوا عن الطريق والمراد منهم النصارى وقيل المراد من الأول الفساق ومن الثاني الكفار. يستحب لمن قرأها أن يقول بعدها بسكتة " آمين " أي: استجب.(1/24)
سورة البقرة
مدنية
وهي مائتان وست وثمانون آية وأربعون ركوعًا
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
(الم): أوائل مثل هذه السورة مما استأتر الله بعلمه وهو المنقول عن الخلفاء الأربعة وغيرهم أو أسماء السور أو أقسام أقسم بها لشرفها لأنها مباني كتبه المنزلة أو أنا الله أعلم، (ذَلِكَ الكتَابُ): أي: هذا القرآن مصدر بمعنى المفعول (لاَ رَيْبَ فِيهِ): لا شك أنه من عند الله لو تأمل عاقل فيه لا يشك وقيل بمعنى النهي أي: لا ترتابوا، (هُدًى): بيان ونور (لِّلْمُتَّقِينَ): الصائرين إلى الإيمان وترك الشرك أو مزيد هداية لهم، (الذِينَ يُؤْمِنُونَ): يصدقون (بِالْغَيب): أي ما هو غائب كأمور الآخرة والقدر أو محمد عليه الصلاة والسلام من غير رؤيته، (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ)، يعدلون أركان الصلوات الخمس أو يواظبون عليها، (وَمِمَّا رَزَقاهُمْ يُنفقونَ): أعطيناهم يصرفون في الخير أو المراد الزكاة، (وَالّذِينَ يُؤْمِنُون بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ): هذا في مؤمني أهل الكتاب أو عام كالأول، (وَمَا أنزِلَ مِن قَبْلِكَ) سائر الكتب، (وَبِالْآخِرَةِ) الدار الآخرة (هُمْ يُوقِنُونَ) لا يشكون أصلاً، (أُولَئِكَ) من هذه(1/25)
صفته، (عَلَى هُدًى): أي: مستقر ومستعل على بيان ونور (مِّن ربهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ): الفائزون بمطالبهم. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا): ستروا الحق وهجروا التوحيد (سَوَاءٌ): مصدر وصف به (عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) تخويفك وعدمه فهو مبتدأ وسواء خبره والهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء في علم المستفهم كأنه قيل في جواب أأنذِرهم أم لا المستويان في علمك مستويان في عدم النفع (لَا يُؤْمِنُونَ)، جملة مفسرة ومؤكدة، (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)، أي: طبع واستوثق بضرب الخاتم على قلوبهم، (وَعلَى سَمْعِهِمْ)، أي: مواضعه أو أطلق مجازًا على العضو وكذا البصر ووحد السمع لأنه مصدر والمسموع ليس إلا الصوت(1/26)
بخلاف المعقولات والمبصرات فإنها أنواع من الجواهر والأعراض، (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غشَاوَة): غطاء والحاصل أنه أحدث فيهم شيئًا يمرنهم على حب الكفر لا يفقهون الحق ولا يسمعون ولا يبصرون، (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيم): في الآخرة.
* * *
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)(1/27)
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ): حقيقة لأن قلوبهم لا تطابق لسانهم نزلت في المنافقين (يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آمنوا): يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ويعتقدون أنه ينفعهم عند الله كنفعهم عند بعض المؤمنين كما قال تبارك وتعالى: " يوم يبعثهم الله جميعًا " الآية (الممتحنة: 18)، أو يعملون عمل المخادع أو المراد من مخادعة الله مخادعة رسوله، (وَمَا يَخْدَعُون إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُون): دائرة الخداع راجعة إليهم في الدنيا أيضًا مفتضحون ولا يحسون لغفلتهم، (فِي قُلُوبِهِم مرَض): شك ونفاق، (فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا): كلما كفروا بآية ازدادوا مرضًا ونفاقًا، (وَلَهُم عَذاب أَلِيم): مؤلم (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُون): بسبب كذبهم ومن قرأ " يكذبون " بالتشديد فمعناه بتكذيبهم آيات الله، (وَإِذَاقيلَ لَهُمْ): للمنافقين (لاَ تفسدُوا فِي الأَرْض): بالكفر والمعصية وإظهار أسرار المؤمنين مع الكفار (قَالُوا إِنَمَا نَحْنُ مصلِحُون): أي: على الهدى نداري الفريقين المؤمنين والكافرين ونصطلح معهم ونريد الإصلاح بينهم وبين أهل الكتاب، (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ): ردهم أبلغ رد لتعريضهم على المؤمنين في قولهم (إنما نحن مصلحون)، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ): المهاجرون والأنصار أو مؤمنو أهل الكتاب، (قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ): الهمزة للإنكار واللام للناس والسفه خفة رأى وهذا قول سرهم فيما بينهم فأفضحهم الله، (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا): صادفوا(1/28)
(الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ): خلوت بفلان وإلى فلان إذا انفردت معه وشياطينهم سادتهم أو أصحابهم (قَالوَا إِنا مَعَكُمْ): في الدين، (إِنما نَحْن مُسْتَهْزِئُونَ): نلعب بالمؤمنين، (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ): يجازيهم جزاء استهزائهم أو يرجع وباله إليهم أو يعاملهم معاملة المستهزئ، وعن ابن عباس رضى الله عنهما يُفتَحُ لهم بابٌ في الجنة فإذا انتهوا إليه سُدّ عنهم ورُدُّوا إلى النار، (وَيَمدُّهُمْ): يملى لهم ويمهلهم فحذف اللام أو يزيدهم ويقويهم (فِي طُغْيَانِهِمْ): تجاوزهم عن الحد (يَعْمَهُونَ): يتحيرون والعمه فِي البصيرة والعمى في البصر، (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى): أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، (فَمَا رَبِحَت تِّجارتهُمْ)، أسند إليها وهو لأربابها لمشابهة التجارة الفاعل من حيث إنها سبب الربح والخسران، (وَمَا كَانوا مُهْتَدِينَ): لطرق التجارة (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا):(1/29)
أى: حالهم كحال الذين أوقدوا، (فَلَما أَضَاءَتْ): النار (مَا حَوْلَه)، وأمنوا ما يخافون (ذَهَبَ اللهُ بِنورِهمْ)، المراد من إيقادها فبقوا في ظلمة وخوف، (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ): جمع الظلمة لكثرتها، ثم إن المنافقين بإظهار الإيمان أمنوا في الدنيا وإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف، أو المراد إيمانهم أولاً ثم كفرهم ثانيًا، فيكون إذهاب النور في الدنيا كما قال تعالى: " ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا " الآية (المنافقون: 3)، وهذا منقول عن كثير من السلف، (صُمٌّ): أي: هم عن قبول الحق صم، (بُكْمٌ): عن قول الحق، (عُمْيٌ): لا يبصرونه، فهذا فذلكة التمثيل فالضمير للمنافقين أو للمستوقدين والمعنى لما أذهب نورهم أدهشتهم الظلمة بحيث اختلت حواسهم، (فهمْ لاَ يَرْجِعُونَ): إلى الهدى الذي باعوه، (أَوْ كَصَيِّبٍ): كأصحاب مطر أو سحاب وهو مثل آخر وأو للتساوي كجالس الحسن أو ابن سيرين، أي: أنت مخير في التمثيل بأيهما شئت، وقال بعض المفسرين: إن هذين مثلان لقومين أي: مثل بعضهم هذا ومثل بعضهم هذا فإنهم لا يخلون عن أحد هذين المثلين، (مِّنَ السماءِ): من جميع جوانب السماء لا من أفق دون أفق وفهم هذا من السماء المعرف أو من السحاب (فِيهِ ظُلُمَاتٌ): في المطر أو السحاب ظلمة تكاثف المطر والغمامة والليل وهي فاعل الظرف، (وَرَعْدٌ): ملك موكل بالسحاب فيطلق على صوته أو صوت يسمع من السحاب (وَبَرْقٌ): نار تخرج من السحاب أو لمعان صوت الملك أو نار طارت من فيه إذا اشتد غضبه (يَجْعَلُون أَصَابعَهُمْ): أناملهم (فِي آذَانِهِم مّنَ الصَّوَاعِقِ): شدة صوت الرعد (حَذَرَ المَوْتِ): مخافة الهلاك،(1/30)
(وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به لا ينجيهم الخداع، (يَكَادُ البَرْقُ يَخْطَفُ): يأخذ بسرعة (أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهم): أضاء لازم أو متعد، أي: أضاء لهم ممشى (مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ) وكذلك أظلم لازم أو متعد، (قَامُوا): وقفوا، (وَلَوْ شَاءَ اللهُ) أن يذهب بسمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق (لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) فحذف المفعول لدلالة الجواب عليه، (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، فليحذروا شبّه القرآن والإيمان بالصيب وما فيه من شبه المبطلين واعتراضاتهم بالظلمات وما فيه من الوعيد والأهوال وذكر النار والحساب بالرعد وما فيه من الوعد والآيات الباهرة بالبرق وتصامَّهم عن الوعيد بحال من يهوله الرعد فيسد أذنه مع أنه لا خلاص عنها ويدل عليه قوله تعالى: " والله محيط بالكافرين " واهتزازهم لما ظهر لهم من غنمية وراحة يطمح عليه أبصارهم بمشيهم في ضوء البرق وتحيرهم في الأمر وتوقفهم حين عروض شبهة أو بلاء ومحنة بتوقفهم إذا أظلم ثم نبه بقوله: (ولو شاء الله لذهب) إلخ على أن السمع والبصر والتوسل إلى الفلاح وهم صرفوهما إلى الحظوظ العاجلة(1/31)
وسدوهما عن الفوائد الحقيقية ولو شاء الله لجعلهم بالحالة التي يجعلونها فإنه قادر مطلق.
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)(1/32)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) عام للمؤمن والكافر والمنافق (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ): وحدوه، (الَّذِي خَلقَكُمْ): اخترعكم من غير سبق مثال (وَالذِينَ مِن قَبْلِكُم)، عطف على مفعول خلق، (لَعَلكُمْ تَتَّقُون)، أي: اعبدوا ربكم راجين أن تنخرطوا في سلك المتقين، أو خلقكم ومن قبلكم في صورة من يرجى منه التقوى أو خلقكم لكي تتقوا (الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا): بساطًا غير حزنة غليظة، (وَالسَّماءَ بِناءً): قبة مضروبة عليكم، (وَأَنزَلَ مِنَ السَّماءِ): السحاب (مَاءً فَأَخْرَجَ به مِنَ الثَّمَرَاتِ) بيان تقدم (رِزقًا): مرزوقًا أو من للتبعيض ورزقًا مفعول له (لَّكُم): صفة رزقًا على الأول ومفعول المصدر على الثاني، (فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَادًا): أمثالاً تعبدونهم كعبادة الله تعالى (وَأَنتُمْ تَعْلمُون) والحال أنكم من أهل العلم، أو تعلمون أن(1/33)
أن الأنداد لا تماثله بوجه، (وَإِن كُنتُمْ في رَيْبٍ) شك (مِّمَّا نزَّلْنَا): أي: القرآن، (على عَبْدِنَا): محمد عليه الصلاة والسلام (فَأتوا بِسُورَةٍ): طائفة من القرآن معبر عنها بسورة كذا (مِّن مثلِهِ): مثل القرآن في البلاغة والإخبار عن الغيب، (وَادْعُوا شُهَداءكُم): واستعينوا بأعوانكم أو آلهتكم، (مِّن دُونِ اللهِ): أى: ادعوا من شئتم غير الله، وقيل: ادعوا من دون الله شهداء يشهدون لكم بأن ما أتيتم مثله ولا تستشهدوا بالله فإنه علامة العجز، (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): إنه من كلام البشر، (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا): فيما مضى (وَلَن تَفْعَلُوا): بعده أبدًا وهذه معجزة أخرى (فَاتَّقُوا). احذروا واتقوا بالإيمان (النَّارَ الّتِي وَقُودهَا): ما يوقد به النار (الناسُ وَالْحِجَارَةُ): حجارة الكبريت فتكون أشد وأنتن وأظلم وهو قول كثير من السلف وقيل حجارة الأصنام، (أُعِدَّتْ): النار والحجارة (لِلْكَافرِينَ وَبَشِّرِ): البشارة خبر سار يظهر أثر السرور في البشرة (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَات) عملاً بلا رياء، أو كل ما حسنه الشرع (أَنَّ لَهُمْ): بأن لهم (جَنَّاتٍ) دار الثواب وهي سبعة (تَجْرِي مِن تَحْتِهَا): تحَت أشجارها وغرفها (الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا) مبتدأ من الجنات (مِن ثَمَرَةٍ): بيان تقدم كرأيت منك أسدًا (رِّزْقًا): مرزوقًا (قَالُوا هَذَا): مثل (الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ): في(1/34)
الدنيا أو في الجنة، (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا): في الهيئة واللون دون المقدار والطعم فأين طعم فواكه الجنة من الدنيا؟! أو يشبه بعضها بعضًا من جميع الوجوه إذ طعم فواكه الجنة متقاربة عطف على قالوا مقررة للجملة، (وَلَهُمْ فيهَا أَزْوَاجٌ مطَهَّرَةٌ): نساء وجوار مطهرة مما يستقذر ويذم منهن كالحيض ودنس الطبع، (وَهُمْ فِيهَا خَالِدُون) (1): ليس لهم خوف فوات نعمة.
ولما قال الجهلة: الله أجل من أن يضرب الأمثال بالصيب والمستوقد وبيت العنكبوت والذباب فنزلت، (إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا): لا يستنكف من (أَن يَضْرِبَ مَثَلًا): أن يبين شبهًا (مَّا) أي: أي مثل (بَعُوضَةً): صغار البق عطف بيان لمثلاً (فَمَا فَوْقَهَا) في الصغر والحقارة كجناحها أو في الكبر كالذباب،
___________
(1) الخلود المكث الطويل المتناهى أو غير المتناهي وإطلاقه على المتناهي بطريق الحقيقة أو المجاز قولان 12 منه.(1/35)
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنهُ) المثل (الحَقُّ): الثابت الذي لا يسوغ إنكاره (مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا): أي شيء (أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا): نصب علىَ التمييز أوَ الحال، (يُضِل به): بالمثل (كَثيرًا): من الكفار، أي: إضلال كثير وضع الفعل موضع المصدر جواب ماذا، (وَيَهْدِي به كَثيرًا): من المؤمنين، (وَمَا يُضِل بِهِ إِلا الفاسِقِينَ): الخارجين عن حد الإيمان، َ (الَّذِينَ يَنقُضُونَ): يفسدون ويتركون (عَهْدَ اللهِ): هو قوله: " ألست بربكم " (الأعراف: 172)، أو عدم كتمان شيء نزل من عند الله في الكتب (مِنْ بَعْدِ مِيثَاقه): توكيد العهد من الآيات في الكتب (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) أي: كقطع الأرحام والقرابات أو أعم كالإعراض عن موالاة المؤمنين والتفرقة بين الآيات في التصديق وهو بدل من ضمير به، (ويفْسِدُون فِي الأَرْضِ): بأنواع المعاصي، (أُولَئِكَ هُمُ الخاسرُونَ): باشتراء الفساد والعقاب بالصلاح والثواب، (كَيْفَ تَكْفُرُونَ باللهِ): معناه التعجب أي: أخبروني على أي حال تكفرون، (وَكُنتم أَمْوَاتًا): ترابًا أو نطفًا في أصلاب الآباء، (فأَحْيَاكُمْ): بخلق الحياة فيكم أو في الأرحام، ومعنى الفاء في الثاني أظهر، (ثمَّ يُمِيتُكُمْ): في الدنيا، (ثم يُحْيِيكُمْ): عند نفخ الصور، (ثمَّ إِلَيْه تُرْجَعُون): بعد الحشر لجزاء العمل.
(هوَ الذِي خَلَقَ لَكُم): لأجل انتفاعكم (مَّا فِي الأَرض جَميعًا) لكي تنتفعوا به وتعتبروا، جميعًا حال من ما، (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)، قصد وارتفع إليه(1/36)
فخلق السماء بعد خلق الأرض لكن دحوها متأخر هكذا ذكره ابن عباس وفيه إشكال سنذكره في سورة (والنازعات) والأولى أن ثم للتراخي الرتبي لا الزماني على أن فيه أيضًا ما ستقف عليه، (فسَوَّاهُن): الضمير للسماء لأنه في معنى الجمع عدلهن مصونة عن العوج والفتور، (سبْعَ سَمَاوَاتٍ): بدل أو تفسير، (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ) فإن بالعلم يصح الخلق ويحكم الفعل.
* * *
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)(1/37)
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
* * *
(وَإِذْ): أي: واذكر إذ (قَالَ ربكَ لِلْمَلاِئكَةِ): مطلق الملائكة أو ملائكة الأرضين وهو تعداد نعمة ثالثة عامة (إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَة): يعني آدم هو خليفة الله في أرضه ينفذ قضاء الله وأحكامه أو المراد من الخليفة البدل، أي: من الجن والملائكة فإنهما كانا سكان الأرض حينئذ أو المراد قوم يخلف بعضهم بعضًا قرنًا بعد قرن كقوله تعالى: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) (الأنعام: 165)، (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) كما فعله الجن لبلهم وهو تعجب واستكشاف عما خفي عليهم من الحكمة، (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ): نبعدك عن(1/38)
السوء، (بِحَمْدِكَ): متلبسين به، (وَنُقَدسُ): نطهر نفوسنا عن المعاصي، (لَكَ): لأجلك أو نقدسك عما أضاف إليك الكفرة فاللام زائدة، (قَالَ إِني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون): من المصلحة أو بأن أجعل فيهم الأنبياء والصديقين والشهداء أو أعلم أن فيكم من يعصيني وهو إبليس، (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ): خلق في قلبه علمًا (كُلَّهَا): اسم كل شيء حتى القصعة والقصيعة، (وثمَّ عَرَضهُمْ): الضمير للمسميات إذ التقدير أسماء المسميات والتذكير لتغليب العقلاء (عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي): أخبروني (بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ) تبكيت وتنبيه لهم على قصورهم، (إِن كُنتم صَادِقِينَ) أنكم أحقاء بالخلافة أو لن يخلق الله تعالى خلقًا أعلم منكم فإن الملائكة قالوا ذلك بينهم (1)، (قَالُوا) إقرارًا بالعجز (سُبْحَانكَ)، صدروا الكلام به استعذاراً عن الجرأة في الاستفسار والجهل بحقيقة الحال، (لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ): الذي لا يخفي عليه خافية (الْحَكِيمُ):
__________
(1) هذا الكلام يفتقر إلى سند صحيح. والله أعلم.(1/39)
القاضي العدل، أو المحكم لمبدعاته الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة، (قَالَ): لما ظهر عجزهم (يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ): أعلمهم، (بِأَسْمَائِهِمْ)، قال: أنت جبريل، أنت ميكائيل حتى وصل الغراب، (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ) وظهر فضل آدم عليه السلام عليهم (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ): استفهام توبيخ فإن الأدب التوقف لأن يبين، (إِني أَعْلَمُ غيْبَ السمَاوَات وَالأَرْضِ): ما غاب فيهما عن الخلق، (وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتم تكتمُون): أي: أعلم ما تظهرونه بألسنتكم وما تخفونه في أنفسكم، فلا يخفى عليَّ شيء من قولكم علانية أتجعل فيها من يفسد فيها وسرًا لن يخلق الله خلقًا أكرم عليه منا وما أسر إبليس من الكبر في نفسه، (وَإِذْ قُلْنَا) عطف على " وإذ قال " (لِلْمَلاِنكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) السجود حقيقي طاعة لله وتعظيمًا لآدم وهو مشروع قيل انحناء لا وضع جبهة أو السجود لله وآدم قبلة وقد ضعفهما بعض العلماء، (فسَجَدُوا إِلَّا إِبْليسَ) صح عن ابن عباس - رضى الله عنهما - أنه من نوع من الملائكة المسمين بالجن وصح عن الحسن رضى الله عنه أنه ليس منهم، (أَبَى): امتنع، (وَاستكْبَرَ وَكَانَ)، في سابق علم الله أو صار، (مِنَ(1/40)
الكَافرين)، أو كان كافرًا من الجن فأسلم وعمل عمل الملك ثم كفر، (وَقُلْنَا)، بعد سجود الملائكة، (يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)، دار الخلد وقيل بستانًا في الأرض، (وَكلاَ مِنْهَا)، أكلا، (رَغدًا)، واسعًا، (حَيْثُ شِئْتُمَا)، أي: مكان من الجنة، (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)، بالأكل والأصح أنها شجرة معينة لا تتعين عندنا، (فَتكُونَا)، عطف على (تقربا) أو جواب النهي (مِنَ الظَّالِمِينَ): الذين وضعوا أمر الله تعالى غير موضعه، (فأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا): الضمير للشجرة، أي: حملهما على الزلة بسببها أو للجنة أي فبعدهما عن الجنة، (فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ): من النيعم والكرامة، (وَقُلْنَا اهْبِطُوا): انزلوا على الأرض جمع الضمير لأنهما أصلا الإنس فكأنهما الجنس أو المراد هما والشيطان (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُو): أي: متعادين والعداوة بين ذريتهما لقول تعالى: " قال اهبطا منها جميعًا بعضكم لبعض عدو " (طه: 123)، أو بين المؤمنين والشيطان، (وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ): موضع قرار، (وَمَتَاعٌ): تمتع (إِلَى حِين): الموت وقيل القيامة، (فَتَلَقَّى): تلقن (آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ): ومن قرأ برفع كلمات ونصب آدم فمعناه بلغته وهي: " ربنا ظلمنا أنفسنا " الآية (الأعراف: 23)، أو غيرها (فتابَ عَلَيْهِ): رجع عليه بالرحمة، (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ): يقبل التوبة ويكثر إعانتهم عليها (الرَّحِيمُ): المبالغ في الرحمة، (قُلْنَا اهْبطُوا مِنْهَا جَمِيعًا) كرر للتأكيد وليترتب عليه قوله (فإمَّا يَأتِيَنَّكُم): يا بني آدمَ، (مّنِّي هُدًى): أنبياء والبيان، (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ): أَقبل على الهدى وقبل (فَلاَ خَوْفٌ عَليْهِمْ) حين يشتد الأمر على العصاة، (وَلاَ هُمْ يَحْزنونَ) على ما فاتهم من أمور الدنيا، والشرط الثاني مع جوابه جواب للشرط الأول، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) قسيم لمن تبع، أي:(1/41)
كفروا بالآيات المنزلة جنانًا وكذبوا لسانًا، أو كفروا بالله وكذبوا بالآيات (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
* * *
(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
* * *
(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي: أولاد يعقوب هيجهم بذكر أبيهم، أي: يا بني العبد المطيع لله (اذْكُرُوا): احفظوا ولا تنسوا، أو اشكروا، (نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنعَمْتُ(1/42)
عليكُمْ): فلق البحر وجعل الأنبياء فيهم وإنجاءهم من فرعون وغيرها ولا شك أن نعمة الآباء على الأبناء، (وَأَوْفوا بِعَهْدِي) في محمد عليه الصلاة والسلام أو في امتثال أمري، (أوفِ بعَهْدِكم): أرضى عنكم وأدخلكم الجنة، أو بالقبول والثواب، (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونَِ) خصوصًا في نقض العهد، (وَءامِنوا بِمَا أَنزَلْتُ)، أي: القرآن (مُصَدِّقًا لِّما مَعَكُمْ) فإنكم تجدون محمدًا مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل، (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ): أول فوج يكفر بما أنزَلْتُ من أهل الكتاب، (وَلاَ تَشْتَرُوا): لا تستبدلواَ، (بِآياتِي): بالإيمان بها (ثَمَنًا قَلِيلاً): الدنيا بحذافيرها، أو ما يصيب العلماء من السفلة فإنهم عينوا كل سنة للعلماء شيئًا فخافوا إن أسلموا يفوت ذلك عنهم وتفوت الرياسة أيضًا، فكتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم، (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ): أي: فاخشون لا فوات الرياسة، (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ)، أي: لا تخلطوه، فإن علماء اليهود يزيدون في آيات الله ما يشتهون، (وَتَكْتمُوا الحَقَّ)، عطف على المنهي، أو وأن تكتموا الحق فالواو للجمع، أى: لا تجمعوا بينهما، (وَأَنتم تَعْلَمُونَ) بأنكم تكتمون وتلبسون، (وَأَقِيمُوا الصلاةَ) أي: صلاة المسلمين، (وَآتوا الزكَاةَ)، أي: زكواتهم والمراد طاعة الله تعالى والإخلاص، (وَارْكَعُوا مع الراكِعِينَ) أي: كونوا مع المؤمنين في أحسن(1/45)
أعمالهم وهو الصلاة، عبر عن الصلاة بالركوع لأن صلاة اليهود ليس فيها ركوع، (أَتَأمُرُونَ الناسَ بِالْبِرِّ): بالإيمان، (وَتَنسَوْنَ أنْفُسَكُمْ): تتركوها من البر كالمنسيات، نزلت في أحبار اليهود ينصحون سرًا باتباع محمد عليه الصلاة والسلام ولا يتبعونه، (وَأَنتمْ تَتْلُون): تقرءون، (الكِتَابَ): التوراة التي فيها الوعيد على العناد ومخالفة القول العمل، (أَفَلاَ تَعْقِلونَ): قبح صنيعكم، (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ): لما أمروا بما هو شاق عليهم وهو ترك المال والرياسة عولجوا بالاستعانة على طلب الآخرة بحبس النفس عن المعاصي أو الصيام لما فيه من كسر الشهوات أو الصبر على أداء الفرائض والصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، (وَإِنها) أي: الصلاة فإن الصبر داخل فيها، قيل: تقديره إنه لكبير وإنَّها لكبيرة فحذف اختصارًا ولم يقل وإنهما إشارة إلى أن كلاً منهما لكبير، أو الضمير للاستعانة (لَكبِيرَةٌ): ثقيلة (إِلا عَلَى الخَاشِعِينَ): المؤمنين حقًّا الساكنين إلى الطاعة، قال ابن جرير: الآية عامة لبني إسرائيل وغيرهم، (الَّذِينَ يَظُنُّونَ): يتيقنون (أنهم مُّلاقوا ربهِمْ): محشورون إليه، (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ): أمورهم راجعة إليه فيحكم بالعدل.
* * *
(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)(1/46)
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
* * *
(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) وهو كما مر جعل الأنبياء فيهم وخلاصهم من البلاء كرره تأكيدًا، (وَأَني فَضَّلْتُكُمْ): بما أعطيتم من الملك والكتب والرسل (عَلَى العَالَمِينَ): عالمي زمانكم وتفضيل الآباء شرف الأبناء، (وَاتقُوا يَوْمًا): احذروا ما فيه من العقاب (لا تَجْزِي): لا تقضي فيه (نَفسٌ عَن نفسٍ شَيْئا): من الحقوق أو من الجزاء فنصبه على المصدر حينئذ والجملة صفة يومًا، (وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شفاعَةٌ): في شأن الكفار رد عليهم حيث قالوا: آباؤنا الأنبياء(1/47)
شفعاء لنا، (وَلاَ يُؤْخَد مِنْهَا عَدْلٌ): فداء وقيل بدل، (وَلاَ هُمْ يُنصَرُون): ولا لهم ناصر يمنعهم من العذاب.
(وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم): عطف على نعمتي وتفصيل لها (مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ)، أتباعه (يَسُومُونَكُمْ): يبغونكم، والجملة حال، (سُوءَ العَذَابِ): أفظعه وأشده نصب على مفعول يسومونكم (يُذبِّحُون): يقتلون بيان ليسومونكم (أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحيونَ) يتركون أحياء للخدمة (نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم): صنيعهم، (بَلاءٌ): محنة (مِّن ربكُمْ عَظيمٌ): أو الإشارة إلى الإنجاء فالبلاء بمعنى النعمة وهو قول كثير من السلف.
(وَإِذْ فَرَقْنَا): فصلنا بين بعضه وبعض (بِكُمُ البَحْرَ): كما يفرق بين الشيئين بما يوسط بينهما أو بسببكم أو ملتبسًا بكم (فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ) اقتصر على ذكر الآل للعلم بأن فرعون أولى بالغرق، (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ): غرقهم. (وَإِذ وَاعَدْنَا): واعدنا بمعنى وعدنا، أو الله وعد الوحي وموسى المجيء إلى الطور (مُوسَى أَرْبَعينَ لَيْلَةً)، يعني انظر إلى نعمتي عليهم ثم إلى كفرانهم ثم إلى عفوي عنهم، (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ)، إلهًا، (مِنْ بَعْدِهِ): بعد مضى موسى (وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ)، بشرككم، (ثُمَّ عَفَوْنَا): محونا ذنوبكم، (عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ)، أي: الاتخاذ، (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): لكي تشكروا عفوي، (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ) أي: الجامع بين كونه كتابًا وفرقانًا بين الحق والباطل وقيل الفرقان(1/48)
انفراق البحر، (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ): لكي تهتدوا بالكتاب، (وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ): العابدين للعجل، (يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمتمْ أَنْفُسَكُم بِاتّخَاذِكُمُ العِجْلَ): معبودًا، (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ): خالقكم، قالوا كيف نتوب؟ قال: (فَاقْتلُواْ أَنفُسَكمْ) أي: كل منكم من لقي فأصابتهم سحابة سوداء لا ينظر بعضهم بعضًا ففعلوا فغفر الله للقاتل والمقتول والقتلى سبعون ألفًا أو ليقتل البريء المجرم، (ذَلِكُم)، أي: القتل، (خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ)، من حيث إنه وصلة إلى الحياة الأبدية، (فَتَابَ عَلَيْكُمْ)، أي: ففعلتم فتاب عليكم، (إِنه هُوَ التَّوَّابُ): الذي يكثر قبول التوبة، (الرحِيمُ): المبالغ في الرحمة، (وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نؤْمِنَ): لن نقر، (لَكَ)، أي: اذكروا نعمتي بعد الصعق، إذ سألتم ما لا يستطاع لكم، فإن موسى اختار سبعين رجلاً ليعتذورا إلى الله من الشرك، فلما سمعوا كلام الله قالوا ذلك، (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً): عيانًا ونصبه على المصدر أو الحال، (فَأَخَدتْكُمُ الصَّاعِقَةُ): صيحة من السماء أو نار، (وَأَنتم تَنْطرُونَ): ما أصابكم فلما هلكوا بكى وتضرع موسى قائلاً: ماذا أقول لبني إسرائيل إذ أهلكت خيارهم؟، فتضرع وتناشد حتى أحياهم الله تعالى وهذا قوله، (ثمَّ بَعثناكُم): أحييناكم، (مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ): بسبب الصاعقة، (لَعَلكُمْ تَشكرُونَ): نعمة البعث وكلام بعض السلف أن طلب الرؤية حين خرجوا لأجل التوبة من عبادة العجل، وكان قبل الأمر بالقتل وكلام بعض أخران هذا بعد القتل والله أعلم، (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ (1)): السحاب يظلهم من الشمس حين كانوا في التيه، (وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ): الترنجبين أو عسلاً ألذ من عسلنا أو خبز الرقاق،
___________
(1) صرح كثير من السلف أنه ليس من جنس غمامنا، بل نوع أخر ألطف وأبرد وأنور /12 منه.(1/49)
(وَالسَّلْوَى): طير هو السماني أو يشبه السماني، (كُلُوا من طَيِّبَاتِ)، أي: قلنا لهم كلوا من حلالات، (مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا)، يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا فحذف اختصارًا، (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ): بالكفران، (وَإِذ قُلْنا ادْخُلُوا) أمروا به بعد التيه، (هَذه القَرْيَةَ)، بيت المقدس أو أريحا، قيل هم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى، (فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا): واسعًا منصوب على المصدر، (وَادْخُلُوا البَابَ): القرية، (سُجَّدًا): منحنين كالركع تواضعًا أو ساجدين لله شكرًا، (وَقولُوا حِطَّةٌ)، أي: مسألتنا خطة، أي: حط عنا خطايانا، أمروا بالاستغفار كما صح عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: أي: مغفرة استغفروا، وقيل أقروا بالذنب، قال عكرمة: قولوا لا إله إلا الله، (نغفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ): بسجودكم ودعائكم وهو جواب الأمر، (وَسَنَزِيدُ الُمحْسِنِينَ): ثوابًا وإحسانًا، (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ): فقالوا حبة في شعرة، أو حنطة، وحاصله أنَّهم أمروا أن يدخلوا سجدًا فدخلوا يزحفون على أستاههم رافعي رءوسهم، وأمروا أن يستغفروا فاستهزءوا وهذا غاية العناد والمخالفة، ولهذا قال الله تعالى (فَأَنزَلنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ): عذابًا أو طاعونًا أو بردًا، (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُون): بسبب خروجهم عن طاعة الله تعالى.
* * *
(وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ(1/50)
وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
* * *
(وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ)، أي: اذكروا نعمتي في إجابتي دعاء نبيكم في شأنكم لما عطشتم في التيه، (فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الحَجَرَ): حجر خفيف مربع قيل إذا ساروا حملوه على ثور فاستمسك الماء، وعند بعض أنه لم يكن حجرًا معينًا، بل يضرب أي حجر كان فينشق، (فانفجَرَتْ)، تقديره فضرب فانشقت، (مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ): كل سبط، (مَّشْرَبَهم): عينهم التي يشربون منها خاصة بهم، (كُلُوا وَاشْربوا)، أي: قلنا لهم ذلك، (مِن رِّزْقِ الله)، أي: ما رزقكم الله من المن والسلوى وماء العين، (وَلاَ تَعْثَوْا): لا تعتدوا، (فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ): حال إفسادكم، (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نصْبِرَ)، أي: اذكروا نعمتي في إنزال المن والسلوى طعامًا طيبًا نافعًا ثم اذكروا سؤالكم
استبدال الأطعمة الدنية بذلك، (عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ)، كانوا يأكلون المن بالسلوى(1/51)
فيكون واحدًا أو أرادوا بالوحدة أنها لا تتبدل كما يقال طعام فلان واحد، أي لا يتغير ألوانه، (فادْعُ لَنَا رَبكَ): سله بدعائك لنا إياه، (يُخْرِجْ لَنَا): يظهر لنا مجزوم بجواب فادع، (مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا): من الخضروات ما لا ساق لها تفسير لما تنبت وقع موقع الحال، (وَقِثَّائِهَا)، هو معروف، (وَفومها)، هو الحنطة أو الثوم والعرب تقلب الفاء ثاء والثاء فاء، أو الخبز أو اسم لكل حب يؤكل، (وَعَدَسهَا وَبَصَلِهَا قَالَ): موسى، (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى): أخس، (بَالذِي هُوَ خَيْرٌ): المن والسلوى لنفعهما أو طعمهما وعدم الحاجة إلى السعي، (اهْبِطُوا مِصْرًا): مصرًا من الأمصار، أي: هذه الأشياء كثيرة في الأمصار لا حاجة إلى الدعاء أو مصر فرعون وجاز صرفه لسكون وسطه، (فإِنْ لَكُم): فيها، (مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ): كضرب القبة، (الذلةُ): الجزية فيكون المراد يهود وقعوا في عصر نبينا عليه الصلاة والسلام أو الهوان، (وَالمسْكنَةُ): الفاقة أو فقر القلب ولم يزل عليهم أثر البؤس وإن كانوا ذوى مال، (وَبَاءوا)، أي: صاروا(1/52)
أحقاء، (بعضَب مِّنَ اللهِ ذَلِكَ) أي: ما سبق من ضرب الذلة والبوء بالغضب، (بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ): الكتب المنزلة كالإنجيل والقرآن(1/53)
وآية الرجم والتي فيها نعت محمد - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، (وَيَقْتلون النَّبِيِّينَ): شعيبًا وزكريا ويحيى عليهم الصلاة والسلام وغيرهم، (بغَيْرِ الحَقِّ)، عندهم فإنهم غير معتقدين جواز قتلهم، (ذَلِكَ): الكفر والقتل، (بِمَا عَصَوا وَكَانوا يَعْتَدُون)، أي: جرهم العصيان والتمادي في تجاوز أمر الله تعالى إلى ذلك فإن صغار الذنوب تؤدى إلى الكبار، وقيل تكرير للفظ " ذلك " الأول إشارة إلى أن الهوان والمسكنة كما أن سببهما الكفر والقتل سببهما المعاصي واعتداء حدود الله.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ(1/54)
وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
* * *
(إِنْ الذِينَ آمنوا)، أي: قبل البعث مثل " حبيب النجار " و " بحيرا الراهب " وغيرهما أو المؤمنين من الأمم الماضية أو المؤمنين من هذه الأمة أو المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم، (وَالذِينَ هَادُوا): دخلوا في دين اليهودية، (وَالنَّصارَى): أهل دين عيسى، (وَالصَّابِئِينَ): الخارجين من دين إلى دين قوم بين المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دين، أو فرقة من أهل الكتاب أو عباد الملائكة أو قوم يوحدون الله ولا يتبعون نبيًّا، (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعملَ صَالِحًا)، أي: من آمن إيمانًا معتدّا به فدخل فيه من استقر على دينه قبل النسخ كاليهود قبل بعثة عيسى والنصارى قبل بعثة نبينا عليهما الصلاة والسلام، أو معناه المنافقون واليهود والنصارى والصابئون من آمن بدين محمد عليه الصلاة والسلام، (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ): بوعده، (وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ): في الآخرة حين الفزع الأكبر، (وَلاَ هُمْ يَحْزنونَ): على تفويت الثواب، و (مَن) مبتدأ و " فلهم أجرهم " خبره والجملة خبر إن، أو بدل بعض من اسم إن وخبرها، فلهم أجرهم، (وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقَكُمْ): باتباع أحكام التوراة ذكرهم ما أخذ عليهم من العهود، (وَرَفعنا فَوْقَكُمُ الطورَ)، لما نزل التوراة أبوا قبولها لما فيها من التكاليف فأمر جبريل بقلع جبل الطور فظلله فوقهم حتى قبلوا،(1/55)
(خُذُوا): قلنا لهم خذوا، (مَا آتيْنَاكُم): من الكتاب واعملوا به، (بِقُوَّة): بجد وطاعة، (وَاذْكروا مَا فيه): اقرءوا ولا تنسوه، (لَعَلكُمْ تَتَّقونَ): لكي تتقوا عن المعاصي، (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ): أعرضتم عن الوفاء بعد أخذ الميثاق، (فَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكمْ وَرَحْمَته): بتوبته عليكم أو بتأخير العذاب، (لَكنتم مِّنَ الخاسِرِينَ): المغبونين الهالكين، (وَلَقَدْ عَلمتم)، حال، (الَّذِينَ اعْتَدَوْا): جاوزوا عن الحد، (مِنكُمْ في السَّبْتِ)، َ أمرناهم بالعبادة وترك صيد البحر فيه فخالفوا، (فَقلْنَا لَهمْ كونوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)، أي: نودوا يا أهل القرية كونوا قردة أو معناه بتكويننا إياهم، وليس ثم قول والمسخ صورى ومعنوي والخسء الصغار والطرد، (فجَعَلْنَاهَا): المسخة أو القردة أو القرية، (نَكَالاً): عبرة، (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا): لمعاصريهم أو لما بحضرتها من القرى أو لأهل تلك القرية أو لأجل ما تقدم(1/56)
من ذنوبهم وهو قول كثير من السلف، (وَمَا خَلْفَهَا)، من بعدهم أو ما تباعد عنها أو ما حواليها أو لما تأخر من الذنوب، (وَمَوْعِظَةً): وزجرًا، (للْمُتَّقِينَ): الذين من بعدهم إلى يوم القيامة.
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى)، أي: اذكروا نعمتي في خرق العادة لكم، (لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأمُرُكُمْ أَدْ تَدبَحُوا بَقَرَةً)، وذلك أنه وجد قتيل فيهم وكانوا يطالبون بدمه فأمرهم الله بذبح بقرة وأن يضربوه ببعضها ليحيى ويخبر بقاتله، (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا)، أي: مهزوءًا بنا أو نفس الهزؤ للمبالغة، (قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، فإن الهزؤ في مثل ذلك جهل، بل يوهم أن يكون كفرًا لأنه أخبر من الله، (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ): ما صفتها شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة لاَّ فَارِضٌ): لا هرمة كبيرة، (وَلاَ بِكْرٌ)، لا صغيرة لم يلحقها الفحل، (عَوَانٌ): وسط، (بَيْنَ ذلِكَ): المذكور من الفارض والبكر، (فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُون)، أي: تؤمرونه بمعنى تؤمرون به، (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا)، الفقوع خالص الصفرة وأشد ما يكون منها أو صافية اللون تكاد تبيض وفي إسناده إلى اللون وهو صفة صفراء فضل تأكيد كأنه قال صفراء شديد الصفرة صفرتها، (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ): تعجبهم، (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ): أسائمة أم عاملة،(1/57)
(إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا): لكثرة البقر الموصوف بالوصف المذكور، (وَإِنَّا إِن شَاءَ اللًّهُ لَمُهْتَدُونَ): إلى وصفها أو إليها إذا بينتها لنا، (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ): غير مذللة للعمل صفة بقرة، (تُثِيرُ الْأَرْضَ): تقلبها للزراعة صفة ذلول، (وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ)، لا مزيدة للتأكيد، (مُسَلَّمَةٌ)، عن العيب أو أخلص لونها قيل سلمها أهلها من العمل، (لَا شِيَةَ فِيهَا)، لونها واحد لا سواد فيها ولا بياض، (قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ)، بحقيقة وصف البقرة لنا، (فَذَبَحُوهَا)، أي: حصلوها فذبحوها، (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ)، لتطويلهم وكثرة مراجعتهم كذا حاصل كلام ابن عباس رصى الله عنهما أو لغلائها فإنهم اشتروها بثمن كثير وصح عن عكرمة: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل.
* * *
(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)(1/58)
أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
* * *
(وَإِذ قَتَلْتُمْ نَفْسًا)، هذا أول القصة وإنما قدم البعض لاستقلاله بنوع آخر من مساوئهم وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال وترك مسارعة الامتثال، (فَادَّارَأْتُمْ): اختلفتم واختصمتم، (فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنتُمْ تَكْتُمُونَ): مظهر لا محالة أمر القاتل، وإعمال مخرج لأنه حكاية مستقبل، (فَقلْنَا اضْرِبُوهُ)، أى: القتيل عطف على فادارأتم، (بِبَعضِهَا)، أي البقرة وفيه خلاف أنه كان(1/59)
بعضًا معينًا أو لا وإن كان معينًا فأى عضو منها، (كَذَلِكَ يُحْييِ اللهُ الْمَوْتَى)، يدل على محذوف هو فضربوه فحيي، (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ): دلائل كمال قدرته، (لَعَلَّكُمْ تَعْقلُون): لكي تعلموا أن من قدر على إحياء نفس قدر على إحياء الأنفس، (ثم قَسَتْ): غلظت حتى لم تعتبر بالآيات، (قُلُوبُكُم مِّنْ بَعْد ذَلكَ): جميع الآيات التي تقدم ذكرها أو إحياء القتيل وثم للاستبعاد، (فَهِيَ كَالْحجارَةِ): في صلابتها، (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً): منها كالحديد وأو للتخيير أي: من عرف حالها صدر عنه التشبيه بالحجارة، أو القول بأنها أشد أو شبهها بهذا أو ذاك أو بمعنى بل أو قلب بعضهم كالحجارة وبعضهم أشد يعني قلوبهم لا تخرج من أحد المثلين عطف على كالحجارة من غير حذف أي: قلوبهم أشد قسوة من الحجارة أو على حذف مضاف هو مثل أي مثل شيء أشد، (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ)، تعليل للأشدية، (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ)، أي: ولم يكن جاريًا، (وَإِن مِنْهَا لَما يَهْبِط). من رأس الجبل، (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)، وهل لمسلم أن ينكر(1/60)
قدرة الله تعالى في خلق الخشية والتسبيح في الجمادات؟ نعم لمن يتبع الفلسفة أن يتحمل التمحل في أمثال ذلك والله تعالي بمحض فضله قد عصمنا منه، قال بعض السلف الأول كثرة البكاء والثاني (1) قلته والثالث بكاء القلب من غير دمع، (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، وعيد على ذلك، (أَفَتَطْمَعُونَ)، أيها المؤمنون،
__________
(1) أي الانشقاق.(1/61)
(أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ)، تحدث اليهود الإيمان لأجل دعوتكم، (وَقَدْ كَانَ فَرِيق مّنْهُمْ): طائفة من أسلافهم، (يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ)، هم السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام وبعد ما رجعوا حرفوا كلام الله تعالى، أو المراد علماؤهم يحرفون التوراة، (ثمَّ يُحَرِّفونَهُ): يغيرونه، (مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ): فهموه، (وَهُمْ يَعْلَمُون) أنهم مفترون وإذا كان هذا حال علمائهم فما طمعكم بسفلتهم وجهالهم، (وَإِذَا لَقُوا)، أي: منافقو اليهود، (الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا): بأنكم على الحق ورسولكم مبشر في التوراة، (وَإِذا خَلا بَعْضُهمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا)، عاتب من لم ينافق على من نافق بقوله (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ): في التوراة من صفة النبي عليه الصلاة والسلام، (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ): لتكون الحجة للمؤمنين عليكم في الدنيا والآخرة فيقولوا: كفرتم بما علمتم صدقه، (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)، أي: أليس لكم عقل وهو من كلام رؤسائهم أو كلام الله تعالى، أي: لا تعقلون حالهم وأن لا مطمع في إيمانهم، قال مجاهد: قال النبي عليه السلام ليهود قريظة: يا إخوان القردة والخنازير، فقالوا من أخبر بهذا محمدًا ما خرج(1/62)
هذا إلا منا أفتحدثونهم بما أنزل الله عليكم من العذاب ليروا الكرامة لأنفسهم عليكم عند الله والأول قول أكثر السلف ويمكن أن يكون هذا القول تخويف رؤسائهم جهلتهم ليردعوا عن إظهار ما في التوراة مع المؤمنين لا أنه من صميم القلب أو اعتقادهم أنَّهم مؤاخذون بما تكلموا به لا بما اعتقدوا وأسروا في أنفسهم ولهذا قال الله تعالى، (أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ)، من نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (وَمَا يعلنون)، منه فالحجة عليهم ثابتة حدثوا به أو ما حدثوا وما يسرون من الكفر وما يظهرون من الإيمان، (وَمِنهُمْ): من اليهود، (أميون)، من لا يكتب ولا يقرأ، (لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ)، أي: لكن يعلمون الأكاذيب التي سمعوا من كبرائهم أو غير عارفين بالكتاب إلا أنَّهم يقرءون قراءة عارية عن معرفة المعنى وعلى هذا الاستثناء متصل وهذا لا ينافي كونهم أميين فإنهم مع كونهم لا يمكن لهم أن يقرءوا من الكتاب شيئًا يحفظون الكتاب أو يتمنون على الله تعالى كقولهم " لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات " (آل عمران: 24)، و " لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا " الآية (البقرة: 111)، (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنّونَ)، قوم ليس لهم إلا ظن لا علم لهم أو يكذبون، (فَوَيْلٌ): هلاك أو واد في جهنم، (لِّلذِين(1/63)
يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ)، هم أحبارهم حرفوا كتاب الله زادوا فيه ونقصوا، (ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا)، ليستبدلوا به رئاستهم وما يصل إليهم من سفلتهم، (فوَيْلٌ لهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) من الكذب، (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ): من السفلة أو مما يكسبون من المعاصي والأولى أن يكون ما مصدرية في مما كتبت ومما يكسبون، (وَقَالُوا)، أي: اليهود، (لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً): قليلة سبعة أيام بكل ألف سنة من الدنيا يومًا أو أربعين يومًا لأن عبادة العجل كانت أربعين يومًا، (قُلْ): يا محمد صلى الله عليه وسلم، (أَتَّخَذْتُمْ)، همزة الاستفهام دخلت على ألف الوصل، (عندَ اللهِ عَهْدًا)، ميثاقًا بذلك، (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ)، أي: إن اتخذتم عهدًا فهو لا يخلف الميثاق، (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، أم معادلة للاستفهام، أي: أي الأمرين كائن أو منقطعة بمعنى بل، (بَلَى)، إثبات لما نفوه من خلود النار، (مَن كَسَبَ سَيِّئَةً)، أي: شركًا أو كبيرة، (وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)، أي: صار كالشيء(1/64)
كالشيء المحاط لا يخلو عنها شيء من جوانبه وهذا شأن الكافر، (فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82).
* * *
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
* * *
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، ذكرهم بما أمرهم في التوراة، (لَا تَعْبُدُونَ)،(1/65)
وهو نفي بمعنى النهي مقدر بالقول أو تقديره أن لا تعبدوا، فلما حذف " أن " صار الفعل مرفوعًا فيكون بدلاً من الميثاق أو معمولاً له بحذف الجار، (إِلا اللهَ وَبِالْوَالدَيْنِ إِحْسَانًا)، تقديره تحسنون أو وأحسنوا بهما إحساناً، (وَذِي القُربى): القرابةَ، (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ): من لا يجد ما ينفق على نفسه وأهله، (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا): قولاً حسنًا وسماه حسنًا للمبالغة دخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ): بطريق فرض عليكم في ملتكم، (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن الميثاق وهو التفات سواء كان خطابًا مع الموجودين ومن قبلهم بالتغليب أو لا، (إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ): من ثبت على اليهودية قبل نسخها أو من أسلم، (وَأَنتُم معْرِضُونَ): قوم عادتكم الإعراض، (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ): في التوراة، (لاَ تَسْفكُونَ دِمَاءَكُمْ): بأن لا يقتل بعضكم بعضًا، (وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ): ولا يخرجه من منزله، (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ)، اعترفتم بلزوم الميثاق، (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ): على أنفسكم بذلك أو أنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم، (ثُمَّ)، للاستبعاد، (أَنتمْ هَؤُلاءِ)، أي: أنتم بعد ذلك(1/66)
هؤلاء الناقضون فهو مبتدأ وخبر قيل أنتم يا هؤلاء، (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ)، الجملة حال والعامل معنى الإشارة أو بيان لهذه الجملة، (تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم)، تتعاونون والجملة حال، (بالإثْمِ وَالْعُدْوَان) بالمعصية والظلم، (وَإِن يَأتوكمْ أُسَارَى): يطلبون الفداءَ، َ (تُفَادُوَهُمْ)، فديتموهم، كانت قريظة حلفاء الأوس والنضير حلفاء الخزرج فإذا اقتتلا عاون كل فريق حلفاءه في القتل وتخريب الديار وإجلاء أهلها وإذا أسر أحد من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه فنزلت، (وَهُوَ)، أي: الشأن، (مُحَرمٌ عَلَيْكُمْ إِخرَاجُهُمْ)، فاتصل بقوله وتخرجون فريقًا وما بينهما اعتراض أو هو مبهم وإخراجهم تفسيره، (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتاب)، أي الفداء، (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)، أي: القتل والمظاهرة والإخراج، (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ): عذاب وهوان، (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا): خزي قريظة كان القتل والسبي ولبني(1/67)
نضير الجلاء وضرب الجزية على غيرهم، (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ)، أي: أشد أنواعه، (وَمَا اللهُ بِغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ)، تأكيد للوعيد، (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ): آثروها على الآخرة، (فَلاَ يُخَفف)، لا يهون ولا ينقص، (عَنْهُمُ العَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ): يمنعون من عذاب الله.
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)(1/68)
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
* * *
(وَلَقَدْ آتيْنَا مُوسَى الكِتَابَ): التوراة، (وَقَفيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرسُلِ): أرسلنا على أثره الرسل، (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ)، ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى وبعض أحكامه مخالف للتوراة والبينات إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير وإبراء الأسقام وإخباره بالغيب، (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)، أي: جبريل فإنه كان قرينه يسير معه حيث سار، أو الاسم الذي به يحيي الموتى، أو الإنجيل أو الروح الذي نفخ فيه، (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ) وسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به " وهو ولقد آتينا " توبيخًا لهم على تعقيبهم ذاك بها، (رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى): ما لا تحب، (أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ): عن اتباعه، (فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ): كعيسى ومحمد عليهما(1/69)
السلام، (وَفَرِيقًا تَقْتُلُون)، كزكريا ويحيى جاء بلفظ المضارع لحكاية الحال الماضية ولمراعاة الفواصل، (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ): أوعية للعلم لا يحتاج إلى علم آخر، أو عليها غشاوة، أو لا نفقه ما تقول كما في قوله تعالى: " وقالوا قلوبنا في أكنة "، (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أي: ليس الأمر كما زعموا أن قلوبهم أوعية للعلم بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها بكفرهم أو قلوبهم لم تأب قبول الحق لخلل فيها بل لأن الله طبع عليها بالكفر، (فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُون)، أي: يؤمن منهم القليل فقليلاً حال، أو إيمانًا قليلاً وهو إيمانهم ببعض الكتاب، أو لا يؤمنون أصلاً لا كثيراً ولا قليلاً، (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ)، أي: القرآن، (مُصَدِّقٌ لما مَعَهُمْ): التوراة وجوابه محذوف دل عليه جواب لما الثانية، أو لما الثانية تكرار للأول فإن ما عرفوا والكتاب واحد والفاء للإشعار بأن مجيئه كان عقيب استفتاحهم به، (وَكَانُوا): اليهود والواو للحال، (مِن قبلُ): قبل نزوله، (يَسْتَفتحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا): يستنصرون على المشركين يقولون اللهم انصرنا بنبي آخر الزمان المنعوت في التوراة، (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا): من الحق، (كَفَرُوا بِهِ): بغيًا وحسدًا، (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ)، ما نكرة مميزة لفاعل بئس المستتر فيه والفعل صفته، أي: بئس ما باعوا فإنهم باعوا ثوابها بالكفر، (أَن يَّكْفُرُوا)، هو المخصوص بالذم، (بِمَا أَنزَلَ اللهُ بَغْيًا)، أي: أن(1/70)
يكفروا حسدًا، (أَن)، أي: لأن، (يُنَزِّلَ اللهُ مِن فَضْلِهِ): النبوة والكتاب، (عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، فإن كفرهم للحسد على أن النبوة في غيرهم، (فَبَاءُوا): رجعوا، (بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ)، لكفرهم بمحمد - عليه الصلاة(1/71)
والسلام -، أو القرآن بعد كفرهم بعيسى وتضييعهم التوراة والإنجيل، أو عبادتهم العجل وقوله بغضب ظرف لغو وعلى غضب صفة له، (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ)، فإن عذابهم للإهانة وعذاب العاصي للتطهير، (وَإِذَا قيلَ لَهم): لليهود، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ): القرآن، (قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا): َ التوراة، (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ): بما سواه أو بما بعده، (وَهُوَ)، أي: ما وراءه، (الحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ)، فإن القرآن مصدق للتوراة، (قُلْ): يا محمد إن كنتم صادقين في دعوى الإيمان بالتوراة، (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، وفعل آبائهم فعلهم مع أنهم رضوا به ثم يعد عليهم قبائحهم بقوله: (وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ): اليد والعصا وغيرهما، (ثمَّ اتَّخَذْتُمُ العجْلَ)، إلها، (مِنْ بَعْدهِ): بعد مجيئه رسولاً أو ذهابه إلى الطور، (وَأَنتمْ ظَالِمُونَ): قوم عادتكم الظلم، (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطورَ): قلنا لكم، (خُذُوا مَا آتيْنَاكُم): ما أمرتم به في التوراة، (بقُوَّةٍ): بجد، (وَاسْمَعُوا): أطيعوا، (قَالُوا سَمِعْنَا): قولك أو بالأذن، (وَعَصَيْنَا): أمرك أو بالقلوب وليس هذا بألسنتهم لكن لما سمعوا وتلقوه بالمعصية نسب إلى القول اتساعًا، (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ)، أي: أشربوا في قلوبهم حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم وفي كلام السلف: لما أحرق العجل برد بالمبرد ثم نسف في الماء فمن شرب وفي قلبه حب العجل اصفر لونه، (بِكُفْرِهِمْ)، فإنهم مجسمة فَأعْجِبوا العجل، (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ): بالتوراة كما زعمتم فبئس ما أمركم به إيمانكم بها(1/72)
والمخصوص بالذم محذوف أي: هذا الأمر وحاصله لو كنتم مؤمنين ما عبدتم العجل يعني آباءهم، وأنتم لو كنتم مؤمنين ما كذبتم محمدًا عليه الصلاة والسلام، (قلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَة عِندَ اللهِ)، أي: في علم الله وحكمه، (خَالِصَةً)، أي: خاصة بكم كما تقولون: " لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا " الآية (البقرة: 111)، منصوب على الحال، (مِّن دُونِ الناسِ)، أي: الباقين، (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، أي: ادعوا بالموت على الكاذب من الفريقين، والمراد منه المباهلة كما صح عن ابن عباس رضى الله عنهما وغيره من السلف أو معناه فسلوا الموت لأن من أيقن أن مأواه الجنة حن إليها سيما إذا علم أنها لا يشاركه فيها غيره، (وَلَن يَتَمَنَّوْه أَبَدًا): للعلم بكذبهم، (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ): كتحريف التوراة وإضافته إلى اليد، لأن أكثر الجنايات باليد فأضيف إليها الأعمال وإن لم يكن لليد فيها مدخل، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظالِمِينَ): تهديد، (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ)، أي: على نوع من الحياة وهو طول العمر لعلمهم بسوء عاقبتهم، (وَمِنَ الذِينَ أَشرَكوا)، عطف في المعنى على الناس، أي أحرص من الناس ومن الذين أشركوا، أو عطف على أحرص بتقدير وأحرص من الذين وهو عطف الخاص على العام أو اليهود أحرص منهم مع أن المشركين لا يعرفون إلا الحياة الدنيا فحرصهم إليها شديد، وزيادة حرص اليهود لعلمهم بأنهم صائرون إلى النار بخلاف المشركين، قيل:(1/73)
تقديره: ومن الذين أشركوا ناس يود أحدهم فمن الذين أشركوا خبر مبتدأ محذوف صفته " يود أحدهم "، فإن من اليهود من قال: عزير ابن الله فيكون مشركًا، (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ)، أي: اليهود جملة مستأنفة، (لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنةٍ)، لو للتمني، (وَمَا هُوَ بمزَحْزِحِهِ): بمبعده، (مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ)، وضمير هو لمصدر يعمر، وأن يعمر بدله، أو لأحدهم وأن يعمر فاعل بمزحزحه، (وَاللهُ بَصِيرٌ بمَا يَعْمَلُونَ).
* * *
(قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ(1/74)
وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
* * *
(قُلْ مَن كَانَ عَدُوًا لِّجِبْرِيلَ فَإِنهُ نَزَّلَهُ)، أي: القرآن، (عَلَى قَلْبِكَ بإِذْنِ اللهِ): بأمره وجواب الشرط محذوف، أي: من كان عدوه فلا إنصاف له، فإنه نزله أو تقديره فهو عدو لي، فليعلم أنه نزله، أو فليمت غيظًا، (مُصَدِّقًا لِّما بَيْن يَدَيه): لما قبله من الكتب نزلت جوابًا لليهود إذ زعموا أن جبريل عدو لهم ولولا أنه ولي محمد عليه الصلاة والسلام لآمنوا، (وَهُدًى وبشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)، رد عليهم حيث قالوا: إن جبريل ينزل بالحرب والشدة، فقال الله: إنه ينزل بهما على الكافرين وبهدى وبشرى للمؤمنين، (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ)، فيه تنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء فمن عادى أحدهم فقد عادى الجميع ووضع الظاهر أي: للكافرين موضع المضمر للدلالة على أن عداوة الله لهم لكفرهم وعداوتهم كفر وقيل الواو هاهنا بمعنى أو، (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ)، نزلت في ابن صوريا حين قال:(1/75)
يا محمد ما أنزل إليك آية بينة فنتبعك، (وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ)، المتجاوزون عن الحد، (أَوَ كُلمَا عَاهَدُوا عهدًا)، عطف على محذوف والهمزة للإنكار، أي: أكفروا بالآيات، وكلما عاهدوا نزلت حين ذكرهم نبينا عليه الصلاة والسلام ما أخذ عليهم من الميثاق في شأنه قالوا: والله ما عهد إلينا ولا أخذ ميثاق في شأنك، (نَّبَذَهُ فَرِيقٌ منْهُمْ): نقضه وطرحه، (بَلْ أَكْثرُهمْ لاَ يُؤْمِنُونَ)، رد لما يتوهم أن الفريق هم الأقلون، فإنهم بين ناقض عهد أو جاحد معاند، والمؤمنون أقلون، (وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ منْ عِندِ اللهِ مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ)، كعيسى ومحمد عليهما السلام، (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ)، أي: التوراة، فإنهم جحدوا ما فيها من صفة محمد عليه الصلاة والسلام، (وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ)، كشيء يرمى وراء الظهر غير ملتفت إليه، (كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ): ما فيها مع أنهم عالمون، (وَاتبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ)، عطف على نبذ، أي: تركوا كتاب الله واتبعوا كتب السحر التي تقرأها الشياطين وتحدثها، (على): عهد، (مُلْكِ سلَيْمَان)، أي: في زمانه وتعديته بعلى لتضمين الكذب فإن الشياطين كتبوا السحر ودفنوه تحت كرسيه ثم لما مات سليمان أو نزع منه ملكه استخرجوه (1)، وقالوا: تسلطه في الأرض لهذا السحر، فتعلموه، وبعضهم نفوا نبوته وقالوا: ما هو إلا ساحر فبرأه الله مما قالوا فقال: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ): عبر عن السحر بالكفر لتغليظه، (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)، إشارة إلى ما كتبوا من السحر، (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ)، عطف على السحر أو على ما تتلوا، أي: يعلمونهم ما ألهما، (بِبَابِلَ)،
__________
(1) هذا من الإسرائيليات المنكرة، وبعض كتب التفسير مشحونة بالأساطير في تفسير هذه الآية.
قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه:
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: «مَا» فِي قَوْلِهِ: وَما أُنْزِلَ فِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بِمَعْنَى الَّذِي ثُمَّ هَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أقوال. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى (السِّحْرِ) أَيْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَيُعَلِّمُونَهُمْ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ أَيْضًا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ أي وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ افْتِرَاءً عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ لِأَنَّ السِّحْرَ مِنْهُ مَا هُوَ كُفْرٌ وَهُوَ الَّذِي تَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ، وَمِنْهُ مَا تَأْثِيرُهُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمُ اتَّبَعُوا كِلَا الْأَمْرَيْنِ وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى أَحَدِهِمَا، وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَوْضِعَهُ جَرٌّ عَطْفًا عَلَى (مُلْكِ سُلَيْمَانَ) وتقديره مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ افْتِرَاءً عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَعَلَى مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللهُ، وَأَنْكَرَ فِي الْمَلَكَيْنِ أَنْ يَكُونَ السِّحْرُ نَازِلًا عَلَيْهِمَا وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ السِّحْرَ لَوْ كَانَ نَازِلًا عَلَيْهِمَا لَكَانَ مُنْزِلُهُ هُوَ اللهَ تَعَالَى، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لَأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ وَعَبَثٌ وَلَا يَلِيقُ بِاللهِ إِنْزَالُ ذَلِكَ، الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَعْلِيمَ السِّحْرِ كُفْرٌ، فَلَوْ ثَبَتَ فِي الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يُعَلِّمُونَ السِّحْرَ لَزِمَهُمُ الْكُفْرُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ. الثَّالِثُ:
كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُبْعَثُوا لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ فَكَذَلِكَ فِي الْمَلَائِكَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، الرَّابِعُ: أَنَّ السِّحْرَ لَا يَنْضَافُ إِلَّا إِلَى الْكَفَرَةِ وَالْفَسَقَةِ وَالشَّيَاطِينِ الْمَرَدَةِ، وَكَيْفَ يُضَافُ إِلَى اللهِ مَا يَنْهَى عَنْهُ وَيَتَوَعَّدُ عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ؟
وَهَلِ السِّحْرُ إِلَّا الْبَاطِلُ الْمُمَوَّهُ وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ اللهِ تَعَالَى بِإِبْطَالِهِ كَمَا قَالَ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ [يُونُسَ: 81] ثُمَّ إِنَّهُ رَحِمَهُ اللهُ سَلَكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ نَهْجًا آخَرَ يُخَالِفُ قَوْلَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، فَقَالَ: كَمَا أَنَّ الشَّيَاطِينَ نَسَبُوا السِّحْرَ إِلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ مَعَ أَنَّ مُلْكَ سُلَيْمَانَ كَانَ مُبَرَّأً/ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ نَسَبُوا مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ إِلَى السِّحْرِ مَعَ أَنَّ الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِمَا كَانَ مُبَرَّأً عَنِ السِّحْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنَزَّلَ عَلَيْهِمَا كَانَ هُوَ الشَّرْعَ وَالدِّينَ وَالدُّعَاءَ إِلَى الْخَيْرِ، وَإِنَّمَا كَانَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِمَا: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ تَوْكِيدًا لِبَعْثِهِمْ عَلَى الْقَبُولِ وَالتَّمَسُّكِ، وَكَانَتْ طَائِفَةٌ تَتَمَسَّكُ وَأُخْرَى تُخَالِفُ وَتَعْدِلُ عَنْ ذَلِكَ وَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا أَيْ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالْكُفْرِ مِقْدَارَ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، فَهَذَا تَقْرِيرُ مَذْهَبِ أَبِي مُسْلِمٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ «مَا» بِمَعْنَى الْجَحْدِ وَيَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ كَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَكْفُرْ سُلَيْمَانُ وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَى الْمَلَكَيْنِ سِحْرٌ لِأَنَّ السَّحَرَةَ كَانَتْ تُضِيفُ السِّحْرَ إِلَى سُلَيْمَانَ وَتَزْعُمُ أَنَّهُ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ فِي الْقَوْلَيْنِ قوله: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ جَحْدٌ أَيْضًا أَيْ لَا يُعَلِّمَانِ أَحَدًا بَلْ يَنْهَيَانِ عَنْهُ أَشَدَّ النَّهْيِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أَيِ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ فَلَا تَكْفُرْ وَهُوَ كَقَوْلِكَ مَا أَمَرْتُ فُلَانًا بِكَذَا حَتَّى قُلْتُ لَهُ إِنْ فَعَلْتَ كَذَا نَالَكَ كَذَا، أَيْ مَا أَمَرْتُ بِهِ بَلْ حَذَّرْتُهُ عَنْهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَإِنْ كَانَتْ حَسَنَةً إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَحْسَنُ مِنْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَطْفَ قَوْلِهِ: وَما أُنْزِلَ عَلَى مَا يَلِيهِ أَوْلَى مِنْ عَطْفِهِ عَلَى مَا بَعُدَ عَنْهُ إِلَّا لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، أَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ نَزَلَ السِّحْرُ عَلَيْهِمَا لَكَانَ مُنْزِلُ ذَلِكَ السِّحْرِ هُوَ اللهَ تَعَالَى. قُلْنَا: تَعْرِيفُ صِفَةِ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ التَّرْغِيبِ فِي إِدْخَالِهِ فِي الْوُجُودِ وَقَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ أَنْ يَقَعَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
عَرَفْتُ الشَّرَّ لا للشر لكن لتوقيه
قوله ثانياً: أَنَّ تَعْلِيمَ السِّحْرِ كُفْرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، فَالْجَوَابُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ وَاقِعَةُ حَالٍ فَيَكْفِي فِي صِدْقِهَا صُورَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ مَا إِذَا اشْتَغَلَ بِتَعْلِيمِ سِحْرِ مَنْ يَقُولُ بِإِلَهِيَّةِ الْكَوَاكِبِ وَيَكُونُ قَصْدُهُ مِنْ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ إِثْبَاتَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَذْهَبَ حق. قوله ثالثاً: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ فَكَذَا الْمَلَائِكَةُ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَعْثَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لِتَعْلِيمِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ التنبيه على إبطاله. قوله رابعاً: إِنَّمَا يُضَافُ السِّحْرُ إِلَى الْكَفَرَةِ وَالْمَرَدَةِ فَكَيْفَ يُضَافُ إِلَى اللهِ تَعَالَى مَا يَنْهَى عَنْهُ؟ قُلْنَا: فَرْقٌ بَيْنَ الْعَمَلِ وَبَيْنَ التَّعْلِيمِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَنْهِيًّا عَنْهُ؟ وَأَمَّا تَعْلِيمُهُ لِغَرَضِ التَّنْبِيهِ عَلَى فَسَادِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ: (ملكين) بكسر اللام وهو مروي عَنِ الضَّحَّاكِ وَابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَا عِلْجَيْنِ أَقْلَفَيْنِ بِبَابِلَ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ، وَقِيلَ: كَانَا رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ مِنَ الْمُلُوكِ. وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ بِفَتْحِ اللَّامِ وَهُمَا كَانَا مَلَكَيْنِ نَزَلَا مِنَ السَّمَاءِ، وَهَارُوتُ وَمَارُوتُ اسْمَانِ لَهُمَا، وَقِيلَ: هُمَا جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقِيلَ غَيْرُهُمَا: أَمَّا الَّذِينَ كَسَرُوا اللَّامَ فَقَدِ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالْمَلَائِكَةِ تَعْلِيمُ السِّحْرِ، وَثَانِيهَا: كَيْفَ يَجُوزُ إِنْزَالُ/ الْمَلَكَيْنِ مَعَ قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ [الْأَنْعَامِ: 8]، وَثَالِثُهَا: لَوْ أَنْزَلَ الْمَلَكَيْنِ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَجْعَلَهُمَا فِي صُورَةِ الرَّجُلَيْنِ أَوْ لَا يَجْعَلَهُمَا كَذَلِكَ، فَإِنْ جَعَلَهُمَا فِي صُورَةِ الرَّجُلَيْنِ مَعَ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِرَجُلَيْنِ كَانَ ذَلِكَ تَجْهِيلًا وَتَلْبِيسًا عَلَى النَّاسِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ نُشَاهِدُهُمْ لَا يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنْسَانًا، بَلْ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُمَا فِي صُورَةِ الرَّجُلَيْنِ قَدَحَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الْأَنْعَامِ: 9] وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّا سَنُبَيِّنُ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ وَقِرَاءَةُ الْمَلَكَيْنِ بِفَتْحِ اللَّامِ مُتَوَاتِرَةٌ وَخَاصَّةٌ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُمَا فِي صُورَةِ رَجُلَيْنِ وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِي زَمَانِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ لَا يَقْطَعُوا عَلَى مَنْ صُورَتُهُ صُورَةُ الْإِنْسَانِ بِكَوْنِهِ إِنْسَانًا، كَمَا أَنَّهُ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى من شاهد دحية الكلبي أن لا يَقْطَعَ بِكَوْنِهِ مِنَ الْبَشَرِ بَلِ الْوَاجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا قُلْنَا بِأَنَّهُمَا كَانَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِهِمَا فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا أَعْلَمَهُمُ اللهُ بِآدَمَ وَقَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ فَأَجَابَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: 30] ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَعَالَى وَكَّلَ عَلَيْهِمْ جَمْعًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُمُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ فَكَانُوا يَعْرُجُونَ بِأَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ فَعَجِبَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْهُمْ وَمِنْ تَبْقِيَةِ اللهِ لَهُمْ مَعَ مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مِنَ القبائح، ثم أضافوا إليهما عَمَلَ السِّحْرِ فَازْدَادَ تَعَجُّبُ الْمَلَائِكَةِ فَأَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَبْتَلِيَ الْمَلَائِكَةَ، فَقَالَ لَهُمُ: اخْتَارُوا مَلَكَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَلَائِكَةِ عِلْمًا وَزُهْدًا وَدِيَانَةً لِأُنْزِلَهُمَا إِلَى الْأَرْضِ فَأَخْتَبِرَهُمَا، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَرَكَّبَ فِيهِمَا شَهْوَةَ الْإِنْسِ وَأَنْزَلَهُمَا وَنَهَاهُمَا عَنِ الشِّرْكِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالشُّرْبِ، فَنَزَلَا فَذَهَبَتْ إِلَيْهِمَا امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ وَهِيَ الزُّهَرَةُ فَرَاوَدَاهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ أَنْ تُطِيعَهُمَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْبُدَا الصَّنَمَ، وَإِلَّا بَعْدَ أَنْ يَشْرَبَا الْخَمْرَ، فَامْتَنَعَا أَوَّلًا، ثُمَّ غَلَبَتِ الشَّهْوَةُ عَلَيْهِمَا فَأَطَاعَاهَا فِي كُلِّ ذَلِكَ، فَعِنْدَ إِقْدَامِهِمَا عَلَى الشُّرْبِ وَعِبَادَةِ الصَّنَمِ دَخَلَ سَائِلٌ عَلَيْهِمْ فَقَالَتْ: إِنْ أَظْهَرَ هَذَا السَّائِلُ لِلنَّاسِ مَا رَأَى مِنَّا فَسَدَ أَمْرُنَا، فَإِنْ أَرَدْتُمَا الْوُصُولَ إِلَيَّ فَاقْتُلَا هَذَا الرَّجُلَ، فَامْتَنَعَا مِنْهُ ثُمَّ اشْتَغَلَا بِقَتْلِهِ فَلَمَّا فَرَغَا مِنَ الْقَتْلِ وَطَلَبَا الْمَرْأَةَ فَلَمْ يَجِدَاهَا، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَكَيْنِ عِنْدَ ذَلِكَ نَدِمَا وَتَحَسَّرَا وَتَضَرَّعَا إِلَى اللهِ تَعَالَى فَخَيَّرَهُمَا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختار عَذَابَ الدُّنْيَا وَهُمَا يُعَذَّبَانِ بِبَابِلَ مُعَلَّقَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ، ثُمَّ لَهُمْ في الزهرة قولان، أحدهما: أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا ابْتَلَى الْمَلَكَيْنِ بِشَهْوَةِ بَنِي آدَمَ أَمَرَ اللهُ الْكَوْكَبَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الزُّهَرَةُ وَفَلَكَهَا أَنِ اهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ إِلَى أَنْ كَانَ مَا كَانَ، فَحِينَئِذٍ ارْتَفَعَتِ الزُّهَرَةُ وَفَلَكُهَا إِلَى مَوْضِعِهِمَا مِنَ السَّمَاءِ مُوَبِّخَيْنِ لَهُمَا عَلَى مَا شَاهَدَاهُ مِنْهُمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أن المرأة كانت فَاجِرَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَوَاقَعَاهَا بَعْدَ شُرْبِ الْخَمْرِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَعِبَادَةِ الصَّنَمِ، ثُمَّ عَلَّمَاهَا الِاسْمَ الَّذِي كَانَا بِهِ يَعْرُجَانِ إِلَى السَّمَاءِ فَتَكَلَّمَتْ بِهِ وَعَرَجَتْ إِلَى السَّمَاءِ وَكَانَ اسْمُهَا «بِيدَخْتَ» فَمَسَخَهَا اللهُ وَجَعَلَهَا هِيَ الزُّهَرَةَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فَاسِدَةٌ مَرْدُودَةٌ/ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ فِيهِ مَا يُبْطِلُهَا مِنْ وجوه، الأول: ما تقدم من الدلائل الدَّالَّةِ عَلَى عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ عَنْ كُلِّ الْمَعَاصِي، وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ إِنَّهُمَا خُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ عَذَابِ الْآخِرَةِ فَاسِدٌ، بَلْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُخَيَّرَا بَيْنَ التَّوْبَةِ وَالْعَذَابِ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى خَيَّرَ بَيْنَهُمَا مَنْ أَشْرَكَ بِهِ طُولَ عُمُرِهِ، فَكَيْفَ يَبْخَلُ عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ؟ وَثَالِثُهَا: أَنَّ مِنْ أَعْجَبِ الْأُمُورِ قَوْلَهُمْ: إِنَّهُمَا يُعَلِّمَانِ السِّحْرَ فِي حَالِ كَوْنِهِمَا مُعَذَّبَيْنِ وَيَدْعُوَانِ إِلَيْهِ وَهُمَا يُعَاقَبَانِ وَلَمَّا ظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ فَنَقُولُ: السَّبَبُ فِي إِنْزَالِهِمَا وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ السَّحَرَةَ كَثُرَتْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَاسْتَنْبَطَتْ أَبْوَابًا غَرِيبَةً فِي السِّحْرِ، وَكَانُوا يَدَّعُونَ النُّبُوَّةَ وَيَتَحَدَّوْنَ النَّاسَ بِهَا، فَبَعَثَ اللهُ تَعَالَى هَذَيْنِ الْمَلَكَيْنِ لِأَجْلِ أَنْ يُعَلِّمَا النَّاسَ أَبْوَابَ السِّحْرِ حَتَّى يَتَمَكَّنُوا مِنْ مُعَارَضَةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا يَدَّعُونَ النُّبُوَّةَ كَذِبًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الْمُعْجِزَةِ مُخَالِفَةً لِلسِّحْرِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِمَاهِيَّةِ الْمُعْجِزَةِ وَبِمَاهِيَّةِ السِّحْرِ، وَالنَّاسُ كَانُوا جَاهِلِينَ بِمَاهِيَّةِ السِّحْرِ، فَلَا جَرَمَ هَذَا تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ الْمُعْجِزَةِ، فَبَعَثَ اللهُ هَذَيْنِ الْمَلَكَيْنِ لِتَعْرِيفِ مَاهِيَّةِ السِّحْرِ لِأَجْلِ هَذَا الْغَرَضِ، وَثَالِثُهَا: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: السِّحْرُ الَّذِي يُوقِعُ الْفُرْقَةَ بَيْنَ أَعْدَاءِ اللهِ وَالْأُلْفَةَ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللهِ كَانَ مُبَاحًا عِنْدَهُمْ أَوْ مَنْدُوبًا، فَاللهُ تَعَالَى بَعَثَ الْمَلَكَيْنِ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ لِهَذَا الْغَرَضِ، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ تَعَلَّمُوا ذَلِكَ مِنْهُمَا وَاسْتَعْمَلُوهُ فِي الشَّرِّ وَإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللهِ وَالْأُلْفَةِ بَيْنَ أَعْدَاءِ اللهِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ بِكُلِّ شَيْءٍ حَسَنٌ وَلَمَّا كَانَ السِّحْرُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَصَوَّرًا مَعْلُومًا لِأَنَّ الَّذِي لَا يَكُونُ مُتَصَوَّرًا امْتَنَعَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَخَامِسُهَا: لَعَلَّ الْجِنَّ كَانَ عِنْدَهُمْ أَنْوَاعٌ مِنَ السِّحْرِ لَمْ يَقْدِرِ الْبَشَرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا، فَبَعَثَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ لِيُعَلِّمُوا الْبَشَرَ أُمُورًا يَقْدِرُونَ بِهَا عَلَى مُعَارَضَةِ الْجِنِّ، وَسَادِسُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَشْدِيدًا فِي التَّكْلِيفِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ إِذَا عَلَّمَهُ مَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ ثُمَّ مَنَعَهُ مِنِ اسْتِعْمَالِهَا كَانَ ذَلِكَ فِي نِهَايَةِ الْمَشَقَّةِ فَيَسْتَوْجِبُ بِهِ الثَّوَابَ الزَّائِدَ كَمَا ابْتُلِيَ قَوْمُ طَالُوتَ بِالنَّهَرِ عَلَى مَا قَالَ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [الْبَقَرَةِ: 249] فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ مِنَ اللهِ تَعَالَى إِنْزَالُ الْمَلَكَيْنِ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ والله أعلم.
اهـ (مفاتيح الغيب 3/ 629 - 631)(1/76)
ظرف أو حال، وهو اسم موضع من الكوفة، (هَارُوتَ وَمَارُوتَ)، عطف بيان للملكين وعند بعض من السلف أن ما نافية، فيكون عطفًا على ما كفر، أي: ما كفر سليمان ولا أنزل على الملكين، أي جبريل وميكائيل، فإن سحرة اليهود زعموا أن السحر أنزل على لسانهما إلى سليمان فردهم الله وعلى هذا، فقوله: " ببابل " متعلق بـ (يُعَلِّمُونَ) وهاروت وماروت اسمان لرجلين صالحين ابتلاهما الله تعالي بالسحر وقعا بدل بعض من الشياطين، (وَمَا يُعَلِّمَان)، أي: الملكان، أو الرجلان،(1/77)
(مِنْ أَحَدٍ)، أي: أحدًا، (حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ): ابتلاء واختبار، (فَلاَ تَكْفُرْ): بتعلمه وذلك لأن تعلمه للعمل كفر أو تعلم هذا النوع كفر لما فيه من الكفر فهذه نصحية منهما له، (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا)، ضمير الجمع لما دل عليه من(1/78)
أحد، (مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ): من السحر، (به): بسببه، (بَيْنَ المَرْء وَزَوْجِهِ وَمَا هُم)، أي: السحرة، (بِضَارِّينَ بِهِ): بالسحر، (مِنْ أَحَدٍ): أحدًا، (إِلَّا بإذْنِ اللهِ): إرادته، (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ)، أي: نفعًا يوازي ضره، ومجمل قصتهما أن الملائكة طعنوا أهل الأرض فسادهم، فقال الله تعالى لهم: لو كنتم على طبعهم لكنتم مثلهم، فقالوا: نحن لا نعصي إلهنا، فاختار الله تعالى من بينهم ملكين من أعبدهم وركب فيهما الشهوة وأرسلهما إلى الأرض فعصيا فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا، فالآن هما معذبان إلى يوم القيامة والله يمتحن عباده بهما (1)، (وَلَقَدْ عَلِمُوا): اليهود، (لَمَنِ اشْتَرَاهُ): استبدل السحر بكتاب الله تعالى واللام لام الابتداء علقت علموا عن العمل، (مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ): من نصيب، (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ)، أي: باعوا، (أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانوا يَعْلَمُون): حقيقة ما فعلوا، (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا): بمحمد عليه الصلاة والسلام، (وَاتَّقَوْا)، نبذ كتاب الله تعالى واتباع كتب الشياطين، (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ)، أي: لشيء من الثواب خير لهم، أو جواب لو محذوف وهو
__________
(1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه:
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا قُلْنَا بِأَنَّهُمَا كَانَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِهِمَا فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا أَعْلَمَهُمُ اللهُ بِآدَمَ وَقَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ فَأَجَابَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: 30] ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَعَالَى وَكَّلَ عَلَيْهِمْ جَمْعًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُمُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ فَكَانُوا يَعْرُجُونَ بِأَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ فَعَجِبَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْهُمْ وَمِنْ تَبْقِيَةِ اللهِ لَهُمْ مَعَ مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مِنَ القبائح، ثم أضافوا إليهما عَمَلَ السِّحْرِ فَازْدَادَ تَعَجُّبُ الْمَلَائِكَةِ فَأَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَبْتَلِيَ الْمَلَائِكَةَ، فَقَالَ لَهُمُ: اخْتَارُوا مَلَكَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَلَائِكَةِ عِلْمًا وَزُهْدًا وَدِيَانَةً لِأُنْزِلَهُمَا إِلَى الْأَرْضِ فَأَخْتَبِرَهُمَا، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَرَكَّبَ فِيهِمَا شَهْوَةَ الْإِنْسِ وَأَنْزَلَهُمَا وَنَهَاهُمَا عَنِ الشِّرْكِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالشُّرْبِ، فَنَزَلَا فَذَهَبَتْ إِلَيْهِمَا امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ وَهِيَ الزُّهَرَةُ فَرَاوَدَاهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ أَنْ تُطِيعَهُمَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْبُدَا الصَّنَمَ، وَإِلَّا بَعْدَ أَنْ يَشْرَبَا الْخَمْرَ، فَامْتَنَعَا أَوَّلًا، ثُمَّ غَلَبَتِ الشَّهْوَةُ عَلَيْهِمَا فَأَطَاعَاهَا فِي كُلِّ ذَلِكَ، فَعِنْدَ إِقْدَامِهِمَا عَلَى الشُّرْبِ وَعِبَادَةِ الصَّنَمِ دَخَلَ سَائِلٌ عَلَيْهِمْ فَقَالَتْ: إِنْ أَظْهَرَ هَذَا السَّائِلُ لِلنَّاسِ مَا رَأَى مِنَّا فَسَدَ أَمْرُنَا، فَإِنْ أَرَدْتُمَا الْوُصُولَ إِلَيَّ فَاقْتُلَا هَذَا الرَّجُلَ، فَامْتَنَعَا مِنْهُ ثُمَّ اشْتَغَلَا بِقَتْلِهِ فَلَمَّا فَرَغَا مِنَ الْقَتْلِ وَطَلَبَا الْمَرْأَةَ فَلَمْ يَجِدَاهَا، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَكَيْنِ عِنْدَ ذَلِكَ نَدِمَا وَتَحَسَّرَا وَتَضَرَّعَا إِلَى اللهِ تَعَالَى فَخَيَّرَهُمَا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختار عَذَابَ الدُّنْيَا وَهُمَا يُعَذَّبَانِ بِبَابِلَ مُعَلَّقَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ، ثُمَّ لَهُمْ في الزهرة قولان، أحدهما: أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا ابْتَلَى الْمَلَكَيْنِ بِشَهْوَةِ بَنِي آدَمَ أَمَرَ اللهُ الْكَوْكَبَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الزُّهَرَةُ وَفَلَكَهَا أَنِ اهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ إِلَى أَنْ كَانَ مَا كَانَ، فَحِينَئِذٍ ارْتَفَعَتِ الزُّهَرَةُ وَفَلَكُهَا إِلَى مَوْضِعِهِمَا مِنَ السَّمَاءِ مُوَبِّخَيْنِ لَهُمَا عَلَى مَا شَاهَدَاهُ مِنْهُمَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أن المرأة كانت فَاجِرَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَوَاقَعَاهَا بَعْدَ شُرْبِ الْخَمْرِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَعِبَادَةِ الصَّنَمِ، ثُمَّ عَلَّمَاهَا الِاسْمَ الَّذِي كَانَا بِهِ يَعْرُجَانِ إِلَى السَّمَاءِ فَتَكَلَّمَتْ بِهِ وَعَرَجَتْ إِلَى السَّمَاءِ وَكَانَ اسْمُهَا «بِيدَخْتَ» فَمَسَخَهَا اللهُ وَجَعَلَهَا هِيَ الزُّهَرَةَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فَاسِدَةٌ مَرْدُودَةٌ/ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ فِيهِ مَا يُبْطِلُهَا مِنْ وجوه، الأول: ما تقدم من الدلائل الدَّالَّةِ عَلَى عِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ عَنْ كُلِّ الْمَعَاصِي، وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ إِنَّهُمَا خُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ عَذَابِ الْآخِرَةِ فَاسِدٌ، بَلْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُخَيَّرَا بَيْنَ التَّوْبَةِ وَالْعَذَابِ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى خَيَّرَ بَيْنَهُمَا مَنْ أَشْرَكَ بِهِ طُولَ عُمُرِهِ، فَكَيْفَ يَبْخَلُ عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ؟ وَثَالِثُهَا: أَنَّ مِنْ أَعْجَبِ الْأُمُورِ قَوْلَهُمْ: إِنَّهُمَا يُعَلِّمَانِ السِّحْرَ فِي حَالِ كَوْنِهِمَا مُعَذَّبَيْنِ وَيَدْعُوَانِ إِلَيْهِ وَهُمَا يُعَاقَبَانِ وَلَمَّا ظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ فَنَقُولُ: السَّبَبُ فِي إِنْزَالِهِمَا وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ السَّحَرَةَ كَثُرَتْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَاسْتَنْبَطَتْ أَبْوَابًا غَرِيبَةً فِي السِّحْرِ، وَكَانُوا يَدَّعُونَ النُّبُوَّةَ وَيَتَحَدَّوْنَ النَّاسَ بِهَا، فَبَعَثَ اللهُ تَعَالَى هَذَيْنِ الْمَلَكَيْنِ لِأَجْلِ أَنْ يُعَلِّمَا النَّاسَ أَبْوَابَ السِّحْرِ حَتَّى يَتَمَكَّنُوا مِنْ مُعَارَضَةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا يَدَّعُونَ النُّبُوَّةَ كَذِبًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الْمُعْجِزَةِ مُخَالِفَةً لِلسِّحْرِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِمَاهِيَّةِ الْمُعْجِزَةِ وَبِمَاهِيَّةِ السِّحْرِ، وَالنَّاسُ كَانُوا جَاهِلِينَ بِمَاهِيَّةِ السِّحْرِ، فَلَا جَرَمَ هَذَا تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ الْمُعْجِزَةِ، فَبَعَثَ اللهُ هَذَيْنِ الْمَلَكَيْنِ لِتَعْرِيفِ مَاهِيَّةِ السِّحْرِ لِأَجْلِ هَذَا الْغَرَضِ، وَثَالِثُهَا: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: السِّحْرُ الَّذِي يُوقِعُ الْفُرْقَةَ بَيْنَ أَعْدَاءِ اللهِ وَالْأُلْفَةَ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللهِ كَانَ مُبَاحًا عِنْدَهُمْ أَوْ مَنْدُوبًا، فَاللهُ تَعَالَى بَعَثَ الْمَلَكَيْنِ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ لِهَذَا الْغَرَضِ، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ تَعَلَّمُوا ذَلِكَ مِنْهُمَا وَاسْتَعْمَلُوهُ فِي الشَّرِّ وَإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللهِ وَالْأُلْفَةِ بَيْنَ أَعْدَاءِ اللهِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ بِكُلِّ شَيْءٍ حَسَنٌ وَلَمَّا كَانَ السِّحْرُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَصَوَّرًا مَعْلُومًا لِأَنَّ الَّذِي لَا يَكُونُ مُتَصَوَّرًا امْتَنَعَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَخَامِسُهَا: لَعَلَّ الْجِنَّ كَانَ عِنْدَهُمْ أَنْوَاعٌ مِنَ السِّحْرِ لَمْ يَقْدِرِ الْبَشَرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا، فَبَعَثَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ لِيُعَلِّمُوا الْبَشَرَ أُمُورًا يَقْدِرُونَ بِهَا عَلَى مُعَارَضَةِ الْجِنِّ، وَسَادِسُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَشْدِيدًا فِي التَّكْلِيفِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ إِذَا عَلَّمَهُ مَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ ثُمَّ مَنَعَهُ مِنِ اسْتِعْمَالِهَا كَانَ ذَلِكَ فِي نِهَايَةِ الْمَشَقَّةِ فَيَسْتَوْجِبُ بِهِ الثَّوَابَ الزَّائِدَ كَمَا ابْتُلِيَ قَوْمُ طَالُوتَ بِالنَّهَرِ عَلَى مَا قَالَ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [الْبَقَرَةِ: 249] فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ مِنَ اللهِ تَعَالَى إِنْزَالُ الْمَلَكَيْنِ لِتَعْلِيمِ السِّحْرِ والله أعلم. اهـ (مفاتيح الغيب. 3 ص: 631)(1/79)
لأثيبوا ولمثوبة إلخ .. استئناف واختيار الجملة الاسمية في جواب لو للدلالة على ثبوت المثوبة واستقرارها، كما في سلام عليك وأصله لأثيبوا مثوبة خيرًا مما شروا به أنفسهم، (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، أي: من أهل العلم أو يعلمون أن الثواب خير.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا(1/80)
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
* * *
(يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعنا)، في الله تعالى المؤمنين عن أن يقولوا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - راعنا، أي: أرعنا سمعك، أي: اسمع منا وفي لمية المنع خلاف والمشهور أن لهذا اللفظ معنى قبيحًا بلغة اليهود وهم لما سمعوا هذا اللفظ من المسلمين يأتونه ويقولون راعنا ويضحكون سرًا، (وَقُولُوا انظُرْنَا)، أي: إلينا، (وَاسْمَعُوا)، ترك هذه اللفظة سماع قبول لا كاليهود قيل: إنه عليه السلام إذا تكلم معهم قالوا: راعنا، أي: راقبنا وتأن بنا حتى نفهم، فمنعوا من تلك الكلمة وأمروا بـ انظرنا أي: انتظرنا، (وَلِلْكَافِرِينَ): الذين سبوا وتهاونوا رسلنا، (عَذَابٌ أَلِيمٌ) (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ)، هو مفعول يود، (مِنْ خَيْرٍ)، من للاستغراق، (مِنْ رَبِّكُمْ)، من للابتداء والخير هاهنا الوحي أو أعم بين تعالى شدة عداوتهم حسدًا للمؤمنين لئلا يغتروا بنفاقهم، (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ): بنبونه أو أعم، (مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ(1/81)
العَظيمِ)، فحرمان البعض ليس لضيق في الفضل، بل لحكم ومصالح، (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيةٍ): نبطل حكمها أو النسخ رفعها من القرآن، (أَوْ نُنسِهَا): نمحها عن القلوب ومن قرأ ننسأها أي: نؤخرها، أي: في اللوح المحفوظ أو نثبت قراءتها ونبدل حكمها فعلى هذا النسخ عكسه، (نَأْتِ بِخيْرٍ منهَا): أنفع للعباد في الدارين، (أَوْ مِثْلِهَا): في المنفعة نزلت حين قالوا: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يأمر بشيء ثم يأمر بخلافه فما هذا إلا كلامه، (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): من النسخ والتبديل، (أَلَمْ تَعْلَمْ)، خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد هو وأمته بدليل " وما لكم "، (أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): يفعل ما يشاء فيهما من نسخ وتغيير، والآية وإن كانت خطابًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجه الخبر عن عظمته، لكن في الحقيقة رد وتكذيب لليهود لإنكارهم نسخ التوراة، (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ): وال يلي أمركم، (وَلَا نَصِيرٍ): ينصركم قيل الفرق بينهما أن الوالي قد يضعف عن النصرة والنصير قد يكون أجنبيا، (أَمْ تُرِيدُون)، أي: ألم تعلموا أنه يأمر وينهى كما شاء أم تعلمون(1/82)
وتقترحون في السؤال فأم معادلة للهمزة أو منقطعة، (أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ): محمدًا عليه الصلاة والسلام فإنه رسول الله إلى الناس أجمعين، (كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ): أهل الكتاب قالوا ائتنا بكتاب نقرأه وفجر لنا أنهارًا نصدقك فأنزل الله تعالى، أو قريش سألوا أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل فأبوا ورجعوا، (وَمَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإيمَانِ)، أي: يشترى الكفر به، (فَقَدْ ضَل سَوَاءَ السَّبيلِ): وسطه، أي: خرج عن الطريق المستقيم، (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)، كان من أحبارهم رجال جاهدوا في رد الناس عن الإسلام فأنزل الله تعالى، (لَوْ يَرُدونكُم)، لو(1/83)
بمعنى أن، (مِّنْ بَعْدِ إِيمَانكُمْ كُفارًا)، حال من كم، أو مفعول ثان ليردون لتضمين معنى التصيير، (حَسَدًا) علة ود، (منْ عِندِ أَنفسهم)، أي: تمنوا من عند أنفسهم لا من قبل التدين أو معناه حسدًا مبالغًا منبعثًا من أصل نفوسهم، (مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَق): في التوراة، (فَاعْفُوا): عن مجازاتهم، (وَاصْفَحُوا)، وأعرضوا عنهم، (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ): بالقتال أو القتال والسبي والجلاء، أو إسلام بعض والباقي لبعض، (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتوا الزَّكَاةَ)، أي: اصبروا على المخالفة والجئوا إلى الله تعالى بالبر، (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ)، أي: ثوابه، (عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ): فلا يضيع عمل عامل، (وَقَالُوا)، أي: أهل الكتاب، (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)، وهذا لف بين قولي اليهود والنصارى ثقة بفهم السامع، (تِلْكَ)، إشارة إلى ألاَّ ينزل على المؤمنين خير أو أن يردوهم كفارًا وألا يدخل الجنة غيرهم، أو إشارة إلى الأخير بحذف المضاف أي أمثالها، (أَمَانِيُّهُمْ): التي تمنوها على الله تعالي باطلاً، (قُلْ هَاتُوا برْهَانَكُمْ): على(1/84)
اختصاصكم بالجنة، (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى): إثبات لما نفوا من دخول غيرهم الجنة، (منْ أَسْلمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ): أخلص له نفسه، أو دينه أو عمله، (وَهُوَ مُحْسِنٌ): متبع نبي الله عليه الصلاة والسلام، قيل: مؤمن، (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ): ثابت لا ينقص، (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ): في الآخرة عند الفزع الأكبر، (وَلاَ هُمْ يَحْزنونَ): على ما مضى.
* * *
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ(1/85)
مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
* * *
(وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النصارَى عَلَى شَيْءٍ): أمر يعتد به أي: دينهم باطل من أصله نزلت حين قدم وفد نجران فتنازعوا مع اليهود، (وَقَالَت النَّصَارَى لَيْسَت اليَهُودُ عَلَى شَيءٍ): مطلقًا دائمًا، (وَهُمْ)، أي: الفريقان، (يَتْلُونَ الكتابَ)، وفي كتاب كل منهما تصديق من كفروا به، (كَذَلِكَ): مثل ذلك الذي سمعت، (قَالَ الذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ): آباؤهم الذين مضوا أو عوام النصارى أو مشركوا العرب قالوا في نبيهم أو أمم قبلهما، (مِثْلَ قَوْلِهِمْ)، وبَّخهم الله على التشبه بالجهال وهو مفعول مطلق لـ قال وكذلك مفعول به وقيل كذلك مبتدأ ومثل قولهم مصدر أو مفعول لا يعلمون، (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ): بما استحقوا عن الحسن هو تكذيبهم وإدخالهم النار، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا)، عام لكل(1/86)
من خرب مسجدًا، وإن كان سبب نزوله منع المشركين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل مكة ويحج عام الحديبية، وأي خراب أعظم مما فعلوا من إخراج المسلمين واستحواذهم بالأصنام، أو نزلت في الروم خربوا بيت المقدس، (أوْلَئِكَ): المانعون، (مَا كانَ لَهُمْ أَن يَدْخلُوهَا إِلا خَائِفِينَ)، خبر معناه الطلب لا تمكنوهم من دخولها إلا تحت هدنة أو جزية، أو بشارة للمسلمين أنه سيكون كذلك، أو ما كان ينبغي أن يدخلوها إلا خاشعين فضلاً أن يخربوا، أو ليس الحق أن يدخلوا إلا خائفين عن المسلمين فضلاً من أن يمنعوهم منها، (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ): قتل وسبي أو جزية، (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ): له الأرض كلها إن منعتم الصلاة في أحد المساجدَ، (فَأَيْنَمَا تُوَلوا)، أيَّ: في أي مكان توليتم القبلة، (فَثَمَّ وَجْهُ الله)، أي: جهته التي أمر بها لا يختص بمسجد ومكان، أو معناه بأي جهة وجهتم إليها وجهكم فثم قبلة الله(1/87)
المشرق والمغرب، أو ذاته مطلع بكم، (إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ): محيط بالأشياء رحمة لا يضيق على عباده، (عليمٌ): بالأعمال في الأماكن أو نزلت في صحابة عميت عليهم القبلة فتحروا القبلة فصلوا إلى أنحاء مختلفة ثم تبين خطأهم، أو نزلت في صلاة التطوع حين السير أو في تحويل القبلة لما عيرت اليهود بأن ليس لهم قبلة معلومة، أو لما نزلت " ادعوني أستجب لكم " (غافر: 60)، قالوا أين ندعوه فنزلت، أو لما مات النجاشى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صلوا عليه، قالوا إنه كان لا يصلي إلى القبلة كيف نصلي عليه؟ فنزلت، نقله ابن جرير رضى الله عنه، (وَقَالوُا): اليهود في عزير والنصارى في المسيح والمشركون في الملائكة، (اتَّخَذَ(1/88)
اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ): نزه نفسه عن ذلك، (بَل لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْص): أي: مخلوق وملك فلا مناسبة لشيء مع الله فلا ولد، (كُل لَّهُ قَانتُون): منقادون لا يمكن لهم الامتناع عن مشيئته، (بَديع السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ): َ مبدعهما وخالقهما بلا سبق شيء، أو بديع سماواته وأرضه، (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا): قدر وأراد، (فإنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُون)، من كان التامة، أي: يكونه فيكون ولا واجب أن هناك حقيقة قول كما ابتدأ المسيح بأمر كن من غير والد والملائكة كذلك ومن قرأ فيكونَ بالنصب فهو جواب الأمر، (وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلمُون): مشركوا العرب أو بعض اليهود والنصارى، (لَوْلا يُكَلّمنَا اللهُ)، أي: هلا يكلمنا عيانًا، (أَوْ تَأتِينَا آيةٌ)، كما قال تعالى: " لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض " الآية (الإسراء: 10)، (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلهم): من كفار الأمم الماضية، (مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلوبُهمْ): في العناد، (قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ): أيقنوا وطلبوا الحق لا من عاند واستكبر، (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ): متلبسًا، (بِالْحَقِّ): بالصدق، (بَشِيرًا): بالجنة، (وَنَذِيرًا): من النار، (وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجَحِيمِ)، أي: لست بمسئول عنهم لِمَ لَمْ يؤمنوا، ومن قرأ بصيغة النهي فذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم: ليت شعرى ما فعل أبواي، فنزلت وقيل
__________
(1) الصواب أنها نزلت في اليهود والنصارى، ولا علاقة لها بوالدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألبتة. والله أعلم.(1/89)
معناه لا تسئل عن حالهم فإنك لا تقدر أن تخبر عنها لفظاعتها، (وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى)، كانوا يرجون أن يرجع محمد عليه الصلاة والسلام إلى دينهم حين كان يصلي إلى قبلتهم، فلما صرفت القبلة أيسوا منه فأنزل الله، (حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ): دينهم وقبلتهم، (قُلْ): يا محمد، (إِن هُدَى اللهِ): الذي بعثني به، (هُوَ الهُدَى): طريق الحق، (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم): آراءهم الباطلة، (بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ): القرآن والسنة، (مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِي وَلاَ نَصِيرٍ): يدفع عنك العقاب وهو تهديد شديد للأمة، (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ)، أي: جنس الكتاب من الكتب المتقدمة، (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ)، حال(1/90)
كونهم لا يحرفونه ولا يكتمون ما فيه ويحلون حلاله ويحرمون حرامه، (أوْلَئِكَ يُؤْمِنُون بِهِ)، أي: بكتابهم دون من يحرفه ويكتمه ولا يحل ولا يحرم حلاله وحرامه أو أولئك يؤمنون بالقرآن لا من يحرف كتابه، أو معناه الذين آتيناهم القرآن حال كونهم يتبعونه حق اتباعه هم المؤمنون بالقرآن لا غيرهم، (وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)، حيث اشتروا الكفر بالإيمان.
* * *
(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
* * *
(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ): عالمي زمانكم، (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا(1/91)
يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)، كرر ذلك وختم به الكلام معهم مبالغة في النصح وكأنه الفذلكة والمقصود بالذات، (وَإِن ابْتَلَى): اختبر أي: عامل معاملة المختبر، (إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ): رَبُّ إبراهيم، (بِكَلَمَاتٍ)، في الكلمات اختلاف كثير، أي: شرائع وأوامر ونواهي أو ثلاثين خصلة عشر في البراءة، " التائبون العابدون " (التوبة: 112) إلخ .. وعشر في أول سورة " قد أفلح المؤمنون " (المؤمنون: 1 - 9)، و " سأل سائل " (المعارج: 22 - 34)، وعشر في الأحزاب، " إن المسلمين والمسلمات " (الأحزاب: 35) إلخ .. ، أو عشر خصال خمس في الرأس: قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، وخمس في الجسد: تقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء، أو مناسك الحج، أو أنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: " فسبحان الله حين تمسون " (الروم: 17) إلخ الآية أو الآيات التي بعدها " إني جاعلك للناس إماماً " وغيرها، (فأَتَمَّهُنَّ): أداهن تامات وقام بهن حق القيام، (قَالَ)، استئناف كأنه جواب لمن قال ماذا قال له ربه حين أتمهن؟، أو بيان لقوله ابتلي، عند من يقول هي الكلمات، (إِني جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ(1/92)
إِمَامًا): يقتدى بك وإمامته مؤبدة إلى الساعة، (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)، عطف على الكاف، أي: اجعل من أولادى أئمة، (قَالَ): الله، (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، في تفسيره أيضًا كطير خلاف الأرجح أنه إجابة لملتمسه وإشارة إلى أن في ذريته من لا يصلح للإمامة والنبوة، (وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ): الكعبة، (مَثَابَةً لِلنَّاسِ): مرجعًا يأتون ثم يرجعون ثم يأتون أو موضع ثواب، (وَأَمْنًا): من المشركين أبدًا فإنهم لا يتعرضون لأهل مكة ويتعرضون لمن حولها، أو لا يؤاخذ الجاني الملتجئ إليها كما هو مذهب أبي حنيفة وقيل يأمن الحاج من عذاب الآخرة، (وَاتَّخذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهيمَ)، مقام إبراهيم الحجر المعروف، أو مسجد الحرام أو الحرم أَو مشاعر الحج وقد صح أن عمر رضى الله عنه قال: يا رسول الله هذا مقام أبينا إبراهيم؛ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله: " واتخذوا " إلخ. وهو عطف على عامل إذ أعني اذكر، أو مقدر بقلنا، (مصلَّى)، يسن الصلاة خلفها أو مُدَّعى، (وَعَهِدْنَا): أمرنا ولأنه بمعنى الوحي عدى بإلى، (إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ)، أي: بأن طهراه من الأصنام وما لا يليق به أو ابنياه على التوحيد على اسمه وحده، (لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ(1/93)
السُّجُودِ): لمن يطوف ولمن يجلس في المسجد ولمن يصلى، أو المراد من الطائفين الغرباء ومن العاكفين المقيمين والركع السجود جمع راكع وساجد، (وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَب اجْعَلْ هَذَا): المكان، (بَلَدًا آمِنا): ذا أمن، أو آمنا من فيه، (وَارْزقْ أَهْلَه مِنَ الثمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)، من آمن بدل البعض أهله، (قَالَ وَمَن كَفرَ)، عطف على من آمن وهو من كلام الله، نبه الله تعالى أن الرزق عام دنيوى لا كالإمامة، أو مبتدأ تضمن معنى الشرط، (فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا)، خبره وقليلاً نصبه بالمصدر، (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ)، أي: ألجئه إليها، (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، أي: العذاب، (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ): الأساس، (مِنَ البَيْتِ): ورفعها البناء عليها، (وَإِسماعيلُ)، كان يناوله الحجارة يقولان: (ربنَا تَقَبَّلْ منَّا)، بنائنا البيت (إِنكَ أَنتَ السَّمِيعُ): لدعائنا، (العَلِيمُ): بنياتنا، (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ): مخلصين منقادين، (وَمِن ذريتِنا)، أي: اجعل بعض أولادنا، (أمَّةً): جماعة، (مُّسْلمَة لكَ): خاضعة مخلصة والأصح أنها تعم العرب وغيرهم، (وَأَرِنا): أبصرنا، (مَنَاسِكَنَا): معالم(1/94)
حجنا أو مذابحنا، (وَتُبْ عَلَيْنَا): مما فرط عنا، (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ): للتائب، (رَبَّنا وَابْعَثْ فيهِمْ): في الأمة المسلمة، (رَسُولًا مِنْهُمْ)، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -، (يَتْلُو): يقرأ، (عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ): القرآن، (وَالْحِكْمَةَ): السنة أو الفهم في الدين أَو العلم والعمل به (ويزَكّيهِمْ): عن الشرك، (إِنكَ أَنتَ العَزِيزُ): الغالب، (الحَكِيمُ): واضع الأشياء في محالها.
* * *
(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ(1/95)
مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
* * *
(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ): استبعاد عن ذلك أي لا يرغب أحد، (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ): خسرها أو جهل نفسه أو ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره والمستثنى بدل من ضمير يرغب لأنه في معنى النفي، (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا): اخترناه للرسالة، (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ): وهذه حجة وبيان لقوله " ومن يرغب "، (إِذ قَالَ)، ظرف لاصطفينا أو بإضمار اذكر كأنه قال: اذكر ذلك(1/96)
الوقت لتعلم أنه المصطفى، (لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ): استقم على الإسلام أو أخلص العمل لله أو أسلم نفسك إلى الله وفوض أمرك إليه، قال ابن عباس - رضى الله عهما -: حقق ذلك حيث لم يستعن بغير الله حين ألقي في النار، (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا): بالملة أو كلمة الإخلاص، (إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ)، أي وصى هو أيضاً بنيه، (يَا بَنِيَّ)، على إضمار القول أو متعلق بوصى لأنه نوع من القول، (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ): دين الإسلام، (فَلاَ تَمُوتُن إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)، أي: داوموا على الإسلام حتى لا يصادفكم الموت إلا عليه، (أَمْ كُنتمْ شُهَدَاءَ)، منقطعة والهمزة للإنكار أي: ما كنتم حاضرين، وهذا رد على اليهود حيث قالوا للنبي- صلى الله عليه وسلم - ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية، (إِذ حَصرَ يَعْقُوبَ الَموْتُ)، تم الكلام ثم ابتدأ بقوله: (إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ)، كأنه قال: اذكر ذلك الوقت حتى لا تدعى إليه اليهودية أو متعلق بقالوا نعبد، (مَا تَعبدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا)، نصبه على البدل من إله آبائك وإسماعيل عمه فهو من التغليب، (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)، حال من معمول نعبد، (تِلكَ)، أي: إبراهيم(1/97)
ويعقوب وبنوهما، (أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ): مضت، (لَهَا مَا كَسَبَتْ): من العمل، (وَلَكُم): يا معشر اليهود، (مَّا كَسَبتمْ)، أي: انتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم، (وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ): لا تؤاخذون بسيئاتهم، كما لا تثابون بحسناتهم، (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا)، قالت اليهود للمؤمنين: كونوا على ديننا فهو الحق، وقالت النصارى مثله، (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ)، أي: نكون أهل ملته، أو نتبع ملته، (حَنيفًا): مائلاً عن الباطل إلى الحق حال عن إبراهيم، (وَما كَانَ مِنَ الُمشْرِكِينَ)، وهذا تعريض للمخاطبين، (قُولُوا): أيها المؤمنون، (آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا): القرآن، (وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ): أولاد يعقوب وفيهم الأنبياء، (وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى)، أفردهما بحكم أبلغ لأن النزاع فيهما، (وَمَا أوتِيَ النَّبيُّونَ): المذكورون وغيرهم، (مِن ربهِمْ لاَ نفَرقُ بَيْنَ أَحَدٍ منْهُمْ): كاليهود يَكفر ببعض ويؤمن ببعض واحد بحسب الوضع يستوى فيه المفرد والجمع والمذكر والمؤنث، (وَنَحْنُ لَهُ): لله، (مُسْلِمُون): مخلصون منقادون، (فَإِنْ آمَنُوا)، أي: أهل الكتاب، (بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ)، المثل صلة والباء زائدة أي: مثل إيمانكم بالمذكور، أو هو من باب التعجيز إذ لا مثل لدين الإسلام نحو قوله تعالي: " فأتوا بسورة من مثله " (البقرة: 23)، (فَقَدِ اهْتَدَوْا) (وَإِن تَوَلوْا): أعرضوا(1/98)
عن الإيمان، (فَإِنما همْ فِي شِقَاقٍ): خلاف ونزاع، (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ)، تسكين للمؤمنين ووعد بالحفظ والنصرة، (وَهُوَ السمِيع العَلِيم)، من تمام الوعد والوعيد لا في طلب حق، (صِبْغَةَ اللهِ)، من تتمة المقول أي: قولوا التزمنا دين الله، أو صبغنا الله صبغته وهي فطرة الله فإنها حلية الإنسان كما أن الصبغ حلية المصبوغ، نقل أن النصارى يغمسون أولادهم في ماء أصفر ويقولون: هو تطهير لهم وبه يحق نصرانيتهم فيكون للمشاكلة، ونقل أن بني إسرائيل قالوا لموسى: هل يصبغ ربك؟ فناداه ربه أن قل نعم أنا أصبغ الألوان وأنزل الله على نبيه: " صبغة الله " (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً): لا صبغة أحسن من صبغته، (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ): مطيعون لا نشرك به كشرككم عطف على آمنا، (قلْ): يا محمد لأهل الكتاب، (أَتُحَاجُّونَنَا): أتجادلوننا، (في اللهِ)، في دين الله وأمره حيث قالوا(1/99)
الأنبياء منا فنحن أولى بالله منكم، (وَهُوَ ربنَا وَرّبكُمْ): لا اختصاص له بقوم دون قوم، (وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ): لكل جزاء عمله فليس ببعيد أن يكرمنا الله تعالى، (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ): موحدون، أي: لنا هذا المزيد دونكم، (أَمْ تَقُولُونَ)، أم منقطعة والهمزة للإنكار، (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ)، " ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا " (آل عمران: 67)، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ)، يقرأون في التوراة أن الدين الإسلام وأن هؤلاء الأنبياء برآء من اليهودية والنصرانية، فشهد الله بذلك فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك، (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، وعيد لهم، (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، كرر مبالغة في الزجر عما في الطباع من الاتكال بالأشراف من الآباء، قيل: الخطاب فيما سبق لأهل الكتاب وفي الآية لنا، وقيل: المراد بالأمة في الأول: الأنبياء وفي الثاني: أسلاف أهل الكتاب.
* * *
(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِ النَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ(1/100)
وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
* * *
(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ): اليهود ومشركو مكة، (مَا وَلَّاهُمْ): ما صرفهم، (عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)، وهي الصخرة، (قُل لِّلَّهِ المَشْرِقُ(1/101)
وَالْمَغرِبُ): ملكًا لا يختص به مكان دون مكان، (يَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ): تقتضيه الحكمة فتارة إلى الصخرة ثم إلى الكعبة، (وَكَذَلِكَ): كما هديناكم صراطًا مستقيمًا، وقيل إشارة إلى ولقد اصطفيناه في الدنيا، أي: كما اخترنا إبراهيم عليه السلام، (جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا): عدولا خيارًا، (لتَكُونوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ): على صدقكم، (شَهِيدًا)، وذلك لأن الأمم يجحدون يوم القيامة تبليغ الأنبياء، فالأنبياء يأتون بأمة محمد - عليه الصلاة والسلام - فيشهدون بالتبليغ، فتقول الأمم: من أين عرفتم؟، فيقولون: أخبرنا نبينا في كتابه، ثم يزكيهم محمد عليه الصلاة والسلام -، (وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَتِى كُنتَ(1/102)
عَلَيْهَا)، أي: أصل أمرك استقبال الكعبة، فإنها قبلة إبراهيم، لكن جعلنا قبلتك بيت المقدس، وقوله: " التي كنت عليها " أحد مفعولي جعل، أي: الجهة التي كنت عليها، وقيل: تقديره وما جعلنا تحويل القبلة التي كنت عليها، وعلى هذا التي صفة القبلة أقول والله أعلم بمراده: يحتمل أن يراد من التي كنت عليها الكعبة، أي: خاطرك مائل إليها، فإن الأصح أن القبلة قبل الهجرة الصخرة لكن خاطره الأشرف مائل إلى أن تكون الكعبة قبلة، (إِلَّا لِنَعْلَمَ): علمًا حاليًا يتعلق به الجزاء، (مَن يَتَّبِعُ الرَّسولَ): عند نسخ القبلة، (مِمَّن يَنقَلِب عَلَى عَقِبَيْهِ): يرتد، والظاهر أن تقديره متميزًا، ممن ينقلب حال من فاعل يتبع، أو ثاني مفعولي نعلم، وقد نقل أن كثيرًا من المسلمين ارتدوا عند تحويل القبلة، ظنًا منهم أن هذا حيرة منه عليه الصلاة والسلام، (وَإِن كانَتْ)، أي التولية، وإن مخففة، (لَكَبيرَةً): ثقيلة، (إِلا عَلَى الّذِينَ هَدَى الله)، أي: هداهم الله، (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) بالقبلة الأولى، وتصديقكم واتباعكم نبيكم في القبلة الثانية، أو صلاتكم إلى الصخرة، ففى(1/103)
الصحيح أن الصحابة سألوا كيف حال إخواننا الذين ماتوا على القبلة الأولى؟
فنزلت، (إِنَّ اللهَ بِ النَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)، فلا يضيع أجورهم والرءوف أبلغ من الرحيم، (قَدْ نَرَى تَقَلبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ)، أي: تردد وجهك في جهة السماء انتظارًا لجبريل والوحي بتغيير القبلة، فإنه يحب أن تكون " قبلةً " قبلة أبيه إبراهيم، (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ)، نمكننك استقبال قبلة من وليته كذا، أي صيرته واليًا له، (قِبْلَةً تَرْضَاهَا)، تحبها، (فَوَلِّ): اصرف، (وَجْهَكَ شَطْر المَسْجِدِ الحَرَامِ)، أي: نحوه، (وَحيثُ مَا كُنتُمْ)، من بر وبحر، وهو بمعنى الشرط، أي: أينما كنتم فالفاء، (فَوَلوا)، للجزاء، (وُجُوهَكُمْ شَطْرهُ)، حين الصلاة، (وَإِن الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ): اليهود، (لَيَعْلَمُونَ أنَّهُ): أمر الكعبة، (الحَقُّ من ربهِمْ)، ليقينهم بحقية محمد عليه الصلاة والسلام، وبأن الكعبة قبلة إبراهيم، (وَمَا اللهُ بغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ): من العلم وكتمانه، (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آية): دالة على أن الكعبة قبلة، (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ)، لأنَّهُم حساد جاحدون، (وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ)، قطع لأطماع اليهود الرجوع إلى الصخرة ثانيًا، (وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِع(1/104)
قبْلَةَ بَعْضٍ): اليهود تستقبل الصخرة، والنصارى مطلع الشمس، فمحال أن تراعي خاطرهم، إن أردت مثلاً لاختلافهم، (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم)، مثلاً، (مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العِلْمِ)، بأن لك الحق بالوحي، (إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ)، مثلهم وبالحقيقة هذا تهديد لأمته، (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ): علماءهم، َ (يَعْرِفُونه): محمدًا بنعته وصفته، (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْناءهُمْ): كمعرفتهم أبناءهم بلا التباس، (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ)، أي: نعته وصفته، أما العوام فلا يعرفون شيئًا، وأما المؤمنون منهم فلا يكتمون، (وَهُمْ يَعْلَمُون)، فإنهم يقرؤن في كتابهم، (الْحَقُّ مِن رّبِّكَ)، مبتدأ أو خبر واللام للإشارة إلى الحق الذي يكتمونه، أو إلى ما عليه محمد عليه الصلاة والسلام، أو تقديره هو الحق حال كونه من ربك، (فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الُممْتَرِينَ): الشاكين فيما أخبرتك، وهذا مبالغة في تحقيق الأمر، أو أمر للأمة.
* * *
(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ(1/105)
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
* * *
(وَلِكُلٍّ): من أهل الأديان، (وِجْهَةٌ): قبلة، (هُوَ مُوَلِّيهَا): وجهه، ووجهة الله حيث توجه المؤمنون، أو الله مولي الأمم إلى قبلتهم، (فاسْتَبِقُوا): بادروا، (الخَيْرَاتِ): قبول أمر القبلة وغيره، (أَيْنَ مَا تَكُونوا)، أنتم وأهل الكتاب، (يَأتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا): يحشركم إليه ويجازيكم، (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ): من الإماتة والإحياء والجمع، (قَدِيرٌ وَمِنْ حَيثُ خرَجْتَ): من أي مكان خرجت، افعل ما أمرت به، فالفاء في، (فوَلِّ)، للعطف على مقدر، (وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ)، إذا صليت، (وَإِنَّهُ): المأمور به، (لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ(1/106)
وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)، لما كان النسخ من مظان الفتن والشبه، أكد وكرر وبالغ مرارًا، (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ)، أحد من الآحاد، (عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ)، فإن اليهود قالت: ما درى محمد أين قبلته حتى هديناه، فلما صرفت القبلة بطلت صورة حجتهم، (إِلا الذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ): من الناس، كمشركي مكة، فإنهم قالوا: محمد قد تحير في دينه وسيعود إلى ملتنا كما عاد إلى قبلتنا، والاستثناء متصل، قيل: معناه لئلا يكون لأحد من اليهود حجة، إلا للمعاندين منهم، فحجة المنصفين أن يقال لم لا يحول إلى قبلة إبراهيم كما هو مذكور في نعته في التوراة؟ وحجة المعاندين، أنه ما ترك قبلة الأنبياء إلا ميلاً إلى دين قومه، والمراد من الحجة ما يساق سياقها، (فَلاَ تَخْشَوْهُمْ)، المشركين، فمطاعنهم لا تضركم، (وَاخْشَوْنِي): فلا تخالفوا أمرى، (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ)، بتكميل الشريعة، وهو عطف عدى قوله لئلا يكون، (وَلَعَلكُمْ تَهْتدُون): لكي تهتدوا أنتم خصوصًا إلى قبلة إبراهيم، (كَمَا أَرْسَلْنَا فيكُمْ)، متصل بما بعده، أي: كما ذكركم بالإرسال، فاذكرونى، أو بما قبله، ومعناه: ولأتم نعمتي عليكم في الآخرة كما أتممتها في الدنيا بإرسال رسول منكم، (رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ): يحملكم ما تصيرون به أزكياء من رذائل الأخلاق، (وَيعَلِّمُكُم الكِتَابَ): القرآن، (وَالْحِكمَةَ): السنة، (وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ): بالفكر من الأحكام(1/107)
والشرائع، (فَاذْكُرُونِي): بالطاعة أو في الرخاء، (أَذْكُرْكُمْ): بالمغفرة أو في الشدة، (وَاشْكُرُوا لِي): نعمي، (وَلاَ تَكفُرُونِ)، بجحد نعمي، ومن أطاع الله فقد شكر ومن عصاه فقد كفر.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)(1/108)
(يَا أَيُّهَا الذِينَ آمنوا استعِينُوا): على طلب الآخرة، (بالصَّبْرِ): عن المعاصي، (وَالصَّلاةِ)، التي هي أم العبادات، (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ): بالعون(1/109)
والنصرة، (وَلاَ تَقُولُوا لِمْن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ)، هم، (أَمْوَات بَلْ)، هم، (أَحياءٌ)، نزلت في قتلى بدر من المسلمين وأرواح الشهداء في أجواف طير خضر تسرح في الجنة، (وَلَكِن لا تَشْعُرُونَ): ما حالهم، (وَلَنَبْلُونَّكُم): ولنصيبنكم إصابة من يختبركم، (بشَيْءٍ)، أي: قليل، (مّنَ الخوف وَالْجُوع)، أي: القحط، (وَنَقْصٍ منَ الأَمْوَالِ): خسران الأموال، (وَالأَنفُسِ): الموت أو هو المرض والشيب، (وَالثمَرَاتِ): الحوائج، وحكي عن الشافعي رضى الله عنه: الخوف، خوف الله والجوع رمضان، ونقص الأموال الزكوات والصدقات، والأنفس الأمراض، والثمرات موت الأولاد، (وَبَشّرِ): يا محمد، (الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ): مما ذكر، (قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ): عبيد أو ملكًا، (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ): في الآخرة فلا يضيع عمل عامل، (أوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ): مغفرة، أو ثناء من الله وأمنة من العذاب، ولكثرتها وتنوعها جمعها، (مِّن ربهم وَرَحْمَةٌ)، لطف وإحسان، (وأُوْلَئِكَ هُمُ الُمهْتَدُون): إلى الصواب أو إلى الجنة، (إِنَّ الصَّفَا(1/110)
وَالْمَرْوَةَ): جبلان بمكة، (مِن شَعَائِرِ اللهِ): من أعلام مناسكه، (فَمَنْ حَجّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ)، الحج والعمرة عبادتان معينتان في الفقه، (فَلاَ جُنَاحَ): إثم، (عَليْهِ)، في، (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا): بالجبلين، كان فيهما صنمان معروفان، وأهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما، فلما جاء الحق وزهق الباطل، كره المسلمون الطواف بينهما فأنزل الله، وعند الشافعي: هو ركن الحج بدليل الأحاديث والآية لا تنافيه، (وَمَن تَطَوَّعَ خَيرًا)، من صلاة وزكاة وطواف وغيرها، أو تطوع بالسعى عند من يرى أنه سنة ونصب خيرًا على المفعول المطلق، أو تطوع بمعنى: فعل وأتى، (فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ): مجازيه بعمله، (عَلِيمٌ)، لا يخفى عديه خافية، (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا)، علماء اليهود، (مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى)، صفة محمد، وآية الرجم، وغيرهما، (مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ): التوراة، (أُولَئِكَ يلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنُون): جميع الخلق سوى الجن والإنس أو الملائكة والجن والإنس المؤمنون، يعني: يقولون اللهم العنهم قد نقل أن البهائم والطيور إذا اشتدت السنة تلعن عصاة بني(1/111)
آدم، (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا): رجعوا عن الكتمان، (وَأَصْلَحُوا)، ما أفسدوا، (وَبَيَّنُوا): للناس ما كانوا كتموه، (فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ): بالقبول والمغفرة، (وَأَنَا التوَّابُ): المبالغ في قبول التوبة، (الرَّحِيم): كثير الرحمة، (إِنَّ الَّذِين كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفارٌ): ماتوا على الكفر، (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ)، المراد من الناس المؤمنون، أو هذا في الآخرة يوقف الكافر فيلعنه جميع الناس، حتى إنه يلعن نفسه، (خَالِدِينَ فيهَا): في اللعنة، (لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ)، أي: لا يمهلون، أو لا ينتظرون ليعتذروا، وقيل: لا ينظر إليهم نظر رحمة، (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)، كفار قريش قالوا: يا محمد! صف لنا ربك فأنزل الله، (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ): ليس في الوجود إله غيره، (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)، هما كالحجة لوحدانيته، فإنه مولى النعم وحده، فغيره لا يستحق العبودية، ولما سمعه المشركون، قالوا: إن كنت صادقًا في أن لا إله إلا الله فأتنا بآية، فأنزل الله.
* * *
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ(1/112)
الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
* * *
(إِن فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليْلِ وَالنَّهَارِ): تعاقبهما، (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ): بنفعهم أو بالذي ينفعهم من الركوب والحمل، (وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء)، السماء السحاب، أو الفلك، أو جانب العلو، (فَأَحْيَا بِه الأَرْضَ): بَالنبات، (بَعْدَ مَوْتِهَا): جدوبتها، (وَبَثَّ فِيهَا)، فرق في الأرض، عطف على أحيا، والمجموع صلة، أو على ما أنزل بتقدير الموصول، أي: وما بثَّه، (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ)، في مهابها وأحوالها، (وَالسَّحَابِ الُمسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)، َ أي: المذلل لأمر الله، بينهما لا ينزل ولا ينقشع، (لَآيَاتٍ): دلالات على وحدته، (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ): يتفكرون فيها، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا): أصنامًا جعلوا له أمثالاً يعبدونهم، (يُحِبُّونَهُمْ كَحبِّ اللهِ): يعظمونهم كتعظيمه، أي: يسوون بينه(1/113)
وبينهم في الطاعة، أو يحبونهم كحب المؤمنين الله، (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)،(1/114)
لأنه لا تنقطع محبتهم عن الله عز وجل بحال، أما المشركون إذ اتخذوا صنمًا ثم رأوا أحسن منه طرحوا الأول، وأيضًا يعرضون عن معبودهم حال البلاء، قال تعالى: " فإذا ركبوا في الفلك " [العنكبوت: 65]، (وَلَوْ يَرَى): لو يعلم، (الذِينَ ظَلَمُوا)، باتخاذ الأنداد، (إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ): عاينوه يوم القيامة، (أَن القُوَّةَ لله جَمِيعًا وَأَنْ الله شَدِيدُ العَذَابِ)، ساد مسد مفعولي يرى، وجواب لو محذوف، أى: لو يعلمون أن القدرة لله جميعًا لا قدرة لأندادهم، إذ يرون العذاب، أي: يوم القيامة، لندموا أشد الندامة، ومن قرأ ولو ترى بالتاء، فالذين ظلموا مفعوله من رؤية البصر، وإذ يرون العذاب بدل من الذين، وأن القوة بدل اشتمال من العذاب، وجواب لو محذوف أيضًا أي لرأيت أمرًا فظيعًا، (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبعُوا): القادة من الملك وغيره، وهو بدل من إذ يرون، فيكون ظرفًا لقوله أن القوةَ، (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا): الأتباع، يقول الملائكة: " تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون " [القصص: 63]، (وَرَأَوُا العَذَابَ)، الواو للحال، وقد مضمرة، (وَتَقَطعَتْ بِهِمُ)، أي: بسبب كفرهم، أو متلبسًا ومتصلاً بهم، (الأَسْبَابُ)، أي: المودة، أو كل وصلة بينهم في الدنيا، أو الأعمال التي يعملونها في الدنيا، أو الحيل وأسباب الخلاص، (وَقَالَ الذِينَ اتَّبَعُوا): الأتباع، (لَوْ أَن لَنَا كَرَّةً)، أي: ليت لنا رجعة إلى الدنيا، (فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ): من المتبوعين، (كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ): مثل ذلك الإراء الفظيع، (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ): سيئاتهم، أو حسناتهم التي ضيعوها، (حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ): ندامات وهو ثالث مفاعيل يريهم، أو حال على أنه من رؤية البصر، (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار)، أصلاً.
* * *(1/115)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا)، نزلت في قوم حرموا على أنفسهم السوائب والوصائل والبحائر، وحلالاً مفعول كلوا، أو حال من ما في(1/116)
الأرض، والطيب ما يستطاب في نفسه، غير ضار للأبدان والعقول أو المستلذ، (وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطانِ)، أي: سبله وطرقه، يعني لا تقتدوا به، (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ): ظاهر العداوة، عند ذوى البصيرة، (إِنَّمَا يَأمُرُكُم بِالسُّوءِ): المعاصي كلها أو معصية لا حد فيها، (وَالْفَحْشَاءِ): معصية فيها حد أو البخل، (وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُون): كاتخاذ الأنداد، وتحليل الحرام وتحريم الحلال، (وَإِذَا قيلَ لَهُمُ): لهؤلاء المشركين، أو طائفة من اليهود، (اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا): وجدنا، (عَلَيْهِ آباءنَا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شيْئًا وَلاَ يَهتدُون)، الواو للعطف أو الحال والهمزة للتوبيخ والتعجيب، وجواب لو محذوف، أي: لو كان آبائهم جهلاء لاتبعوهم، (وَمَثلُ الذِينَ كَفَرُوا): فيما هم فيه من الجهل والضلال، (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً)، أي: كمثل الدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا نعق بها راعيها، أي: دعاها إلى ما يرشدها لا تفقه ما يقول، بل إنما تسمع صوته فقط، هكذا نقل في تفسيرها عن السلف، وحاصله أنَّهم في انهماكهم في تقليد الجهل كالبهائم التي ينعق راعيها بها(1/117)
فتسمع الصوت ولا تفهم معناه، وقيل: تقديره مثل داعي الذين كفروا معهم " كمثل الذي " الآية وهو الأظهر، (صُمٌّ): عن سماع الحق، (بُكْمٌ): لا يتفوهون به، (عُمْيٌ): من رؤية مسلكه، (فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ): ولا يفهمونه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ): حلالات، (مَا رَزَقْنَاكُمْ)، لما أباح الله للناس ما في الأرض سوى ما حرم، أمر المؤمنين أن يتحروا حلالاته ويقوموا بحقوقها فقال: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ): على ما أحل لكم، (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ): إن صح أنكم تختصونه بالعبادة فإن عبادتكم لا يتم إلا بالشكر، (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ): التي ماتت من غير ذكاة، (وَالدَّمَ)، أي: دمًا مسفوحًا والسمك والجراد والكبد والطحال مستثنى بالحديث، (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ): وتخصيص اللحم بالذكر لأنه معظم ما يؤكل، (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ): ما ذكر اسم غير الله عند ذبحه، وهذه(1/118)
الآية رد على من حرموا على أنفسهم أشياء من عند أنفسهم، فالمراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقًا فلا يرد أن المحرمات غيرها كثيرات، (فَمَنِ اضْطُرَّ): أحوج ولجئ إليه، (غيرَ بَاغٍ): خارج على السلطان أو مستحله أو آكله من غير اضطرار أو متجاوز القدر الذي أحل له وقيل باغ بالاستئثار على مضطر آخر، (وَلاَ عَادٍ)، متعد عاص بسفره أو غيره متعد ما حد له، فيأكل أكثر مما يمسك رمقه، أو يتعدى حلالاً وهو يجد عن الحرام مندوحة، (فَلاَ إِثْمَ عليه)، في تناوله، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رحِيمٌ)، حيث رخص بالأشياء، (إِن الَّذِينَ يَكتُمُونَ)،(1/119)
رؤساء اليهود، (مَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَاب): من نعت محمد - صلى الله عليه وسلم - وغيره، (وَيَشْتَرُونَ به): بما أنزل الله، (ثَمَنًا قَلِيلًا)، من مال يأخذونه من سفلتهم كما مر، (أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ)، أي: لا يأكلون يوم القيامة ملأ بطونهم إلا النار، (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، كناية عن الغضب، أو لا يكلمهم بما يسرهم، (وَلَا يُزَكِّيهِمْ): لا يمدحهم ولا يثني عليهم أو لا يطهرهم من الذنوب، (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ): مؤلم، (أوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدَى): في الدنيا، (وَالْعَذَابَ بِالْمَغفرَةِ): في الآخرة، (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)، تعجب من حالهم، وما تامة مبتدأ، أو استفهامية توبيخية، ما بعدها الخبر، (ذَلِكَ)، أي: ذلك العذاب، (بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ)، أي: جنس الكتاب أو القرآن، (بِالْحَقِّ)، وهم أخذوه هزوًا، (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الكِتَابِ)، أي: في جنس الكتاب، والاختلاف الإيمان ببعض دون بعض، أو في التوراة، والاختلاف التحريف أو في القرآن واختلافهم تكذيبه بأنه سحر وشعر، (لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ): لفى خلاف بعيد عن الحق.
* * *
(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ(1/120)
ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
* * *
(لَيسَ البِرَّ أَن تُولوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغرِبِ)، أي: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا بعد ذلك شيئًا، كما هو في أول الإسلام، فهذا حين نزول الفرائض، أو قبلة اليهود المغرب وقبلة النصارى المشرق، فأنزل الله أو لما تحولت القبلة شق ذلك على أهل الكتاب وبعض المؤمنين، فهذه الآية بيان حكمته، وهو أن المراد امتثال أوامر الله، وهو البر وليس في لزوم التوجه قبل مشرق أو مغرب بر إن لم يكن عن أمر الله، (وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) أي: بَرَّ من آمن، أو ذا البر من آمن بالله، (وَالْيَوْمِ(1/121)
الآخِرِ وَالْمَلائكَةِ وَالْكِتَابِ)، أي: جنسه، أو القرآن، (وَالنَّبِيِّينَ وَآتى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ): حب المال، أي: أخرجه وهو محب له، وقيل: على حبِّ الله، (ذَوِي القُرْبَى): قرابات الرجل، (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ)، من لا يجد ما يكفيه، (وَابْن السَّبِيلِ): المسافر الذي انقطع عنه ما يكفيه في سفره والضعيف صرح به السلف، (وَالسائِلينَ): من ألجأته الحاجة إلى السؤال، (وَفِي الرِّقَابِ)، أي: في تخليصها بمعاونة المكاتبين، وقيل في فك الأسارى، (وَأَقَامَ الصَّلاةَ): المفروضة، (وَآتى الزَّكَاةَ): المفروضة ويكون قوله: " وآتى المال " بيان المصارف، أو صدقات السنة، (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا): الله والناس، عطف على من آمن، (وَالصابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ): حال الفقر ونصبه على المدح لفضل الصبر، (وَالضَّراء): المرض، (وَحِينَ البَأسِ): القتال لله، (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا)، في إبمانهم، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)، لأنَّهُم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات، (يَا أَيُّهَا الذِينَ(1/122)
آمنوا كُتِبَ)، أي: فرض، (عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)، كان بين حيين قتل ودماء، وكان لأحد الحيين فضل على الآخر، فحلفوا أن يقتلوا بالعبد منهم الحر، وبالمرأة الرجل، وبالواحد الاثنين فنزلت: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى)، أي: ليتساووا وليتماثلوا في القصاص فلا يدل على ألا يقتل الحر بالعبد، والذكر بالأنثى كما لا يدل على عكسه، ومن قال بعدم قتل الحر بالعبد فدليله الحديث، وروي عن بعض السلف أنها منسوخة بقوله تعالى: " النَّفْسَ بِالنَّفْسِ " فالقصاص ثابت بين الحر والعبد والذكر والأنثى، (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)، تقديره فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه، أي: ولي الدم شيء من العفو، فإن عفا لازم، يعني: أخذ الدية بعد استحقاق الدم، (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ)، أي: فعلى العافي أن يطالب الدية لمعروف ولا يعنف، (وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ)، أي: وعلى المعفو عنه أن يؤديها بإحسان لا يمطل ولا يبخس، (ذَلِكَ)، الحكم الذي هو أخذ الدية، (تَخْفِيفٌ من ربِّكُمْ وَرَحْمَةٌ): مما كان محتومًا على الأمم قبلكم، من القتل في اليهود، والعفو في النصارى، (فَمَنِ اعتدَى): بالقتل، (بَعْدَ ذَلِكَ): بعد العفو، (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ): في الآخرة، أو في الدنيا بأن يقتل ولا يأخذ منه الدية،(1/123)
(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)، أي: لكم في حكم القصاص نوع حياة عظيمة، لأن العلم به يردع عن القتل مخافة القصاص ويدفع الفتنة المنجرة إلى القتال العظيم، (يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)، ذوي العقول، (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ): عن القتل أو لكي تنزجروا فتتركوا محارم الله، (كُتِبَ): فرض، (عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ)، أي: أسبابه، (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا)، أي: مالاً أيُّ مال، أو مالاً كثيرًا، واختلف في الكثرة، فعن علي رضى الله عنه: لا بد أن يزيد على أربعمائة دينار، (الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِين)، وكان وجوبه في بدء الإسلام فنسخ، (بِالْمَعْرُوف): بالعدل فلا يتجاوز الثلث، (حَقًا)، أي: حق ذلك حقًا، (عَلَى الْمُتَّقِينَ): عن الشرك، (فَمَن بَدَّله): غيره من الأوصياء والشهود، (بَعْدَمَا سَمِعَهُ): من الميت، (فَإِنَّمَا إِثْمُهُ)، أي: التبديل، (عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ)، قد وقع أجر الميت على الله، (إِنَّ اللهَ(1/124)
سَمِيعٌ): يسمع كلام الميت، (عَلِيمٌ): يعلم تبديل المبدل، (فَمَنْ خَافَ)، أي: علم، (مِن مُّوصٍ جَنَفًا)، خطأ في الوصية مثل أن يوصى بأكثر من ثلث، (أَوْ إِثْمًا): عمدًا، (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ): بين الورثة والموصى لهم، (فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ): في التبديل لأنه تبديل باطل إلى حق، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، ذكر الغفران لمطابقة ذكر الإثم.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ(1/125)
لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)، صيام رمضان، أو ثلاثة أيام من كل شهر وعاشور ثم نسخ، (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ)، من لدن نوح أو أهل الكتاب، (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون)، المعاصي فإن الصوم تضييق لمسالك الشيطان، (أيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ)، تقديره صوموا أيامًا، (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، أي: فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر من أيام أُخَرَ، إن أفطر بحذف الشرط، والمضاف والمضاف إليه للقرينة، (وَعَلَى الذِينَ يُطِيقُونَهُ)،(1/126)
أي الصحيح المقيم (فِدْيَةٌ)، إن أفطروا، (طَعَامُ مِسْكِينٍ)، كان في بدء الإسلام الخيار بين الصوم والإطعام عن كل يوم مسكينًا فنسخ، أو الآية غير منسوخة، والمراد الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان الصوم، وعلى هذا معنى (الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) يصومون طاقتهم وجهدهم ويؤيد بعض القراءة وهو " يُطَوَّقُونه " أي: يكلفونه (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا)، بأن أطعم أكثر من مسكين كل يوم، (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا)، أي: الصوم (خَيْرٌ لَكُمْ) أيها المطيقون أو المطوقون من الإفطار والفدية (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ): فضائل الصوم، (شَهْرُ رَمَضَانَ)، مبتدأ خبره ما بعده أو ذلكم شَهْرُ رَمَضَانَ، (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)، جملةً ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم نزل منجمًا إلى الأرض، وهو خبر شَهْرُ رَمَضَانَ أو صفته والخبر (فَمَنْ شَهِدَ) (هُدًى لِلنَّاسِ)، أي: هاديًا بإعجازه، (وَبَيِّنَاتٍ)، آيات واضحات، (مِنَ الْهُدَى): مما يهدي إلى الحق، (وَالْفُرْقَانِ): يفرق بين الحق والباطل، (فَمَنْ شَهِدَ) أي: حضر ولم يكن مسافرًا، (مِنْكُمُ الشَّهْرَ)، أي: فيه، (فَلْيَصُمْهُ)، أي: فيه (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا): مرضًا يشق، أو يضر عليه الصيام، (أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، الآية الأولى تخيير للمريض والمسافر والمقيم، وهذه لهما دون المقيم،(1/127)
بل علم من هذه نسخ الأولى، (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) فلذلك أباح الفطر للسفر والمرض، (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ)، عطف على اليسر مثل "يريدون ليطفئوا " [الصف:8] أو تقديره وشرع لكم ذلك، أي: جملة أحكام الصوم لتكملوا، أي: لتكملوا عدد أيام الشهر بقضاء ما أفطرتم في المرض والسفر، (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ): لتعظموه، (عَلَى مَا هَدَاكُمْ): أرشدكم إليه من وجوب الصوم ورخصة الفطر بالعذر، أو المراد تكبيرات ليلة الفطر، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): الله في نعمه، أو رخصة الفطر، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)، أي: فقل إني قريب أطلع على جميع أحوالهم، قال أعرابي يا رسول الله: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت، وروي أن بعض الصحابة قالوا: أين ربنا؟ فنزلت، وروي لما نزلت (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) قال الناس: لو نعلم أي ساعة ندعوا؟ فنزلت، وروي أن اليهود قالوا: كيف يسمع الله الدعاء وأنت تزعم أن بيننا وبين(1/128)
السماء كذا وكذا سنة؟ فنزلت، (أجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاع إِذَا دَعَان فَلْيَسْتَجِيبُوا لي)، أي: فليجيبوا لي إذا دعوتهم للطاعة كما أجيبهم إذا دعوني إلى مهامهم، (وَلْيُؤْمِنُوا بِي): أمر بالثبات والدوام، (لَعَلَّهُم يَرْشُدُون)، راجين إصابة الرشد، وهذه الآية المتخللة بين أحكام الصوم إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء في الصوم والفطر وروي: " ثلاثة لا ترد دعوتهم، الإمام العادل والصائم حتى أو حين - يفطر، ودعوة المظلوم "، (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ): ليلة الصيام التي تصبح منها صائمًا والرفث عبارة عن الجماع وعدى بـ إلى لتضمنه معنى الإفضاء، كان فى بدء الإسلام غير جائز، (هُنَّ لِبَاسٌ لكمْ)، أي: سكن أو شبه باللباس لاشتمال كل على صاحبه، اشتمال اللباس على اللابس، (وَأَنتمْ لِبَاسٌ لهُنَّ)، سكن أي: لما كان بينكم غاية الخلطة رخصنا لكم لئلا يشق عليكم، (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ): تظلمونها بما هو حرام عليكم ووقع ذلك على عمر - رضى الله عنه - فقال: يا رسول الله أشكو إلى الله وإليك الذي صنعت فنزلت، (فَتَابَ عَلَيْكُمْ): لما تبتم، (وَعَفَا عَنْكُمْ)، محا عنكم أثره، (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ)، والمباشرة(1/129)
كناية عن الجماع، (وَابْتَغوا): اطلبوا، (مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ): ما أثبته في اللوح المحفوظ من الولد أو ليلة القدر أو الرخصة التي كتب الله لكم وما أحل الله لكم، (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا)، جميع الليل، (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ)، بياض الصبح، (مِنَ الخَيْطُ الأَسْوَدِ): من سواد الليل، (مِنَ الفجرِ)، بيان للخيط الأبيض، (تْثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)، فإنه آخر وقته، كان الأكل والشرب بعد العشاء، أو النوم حرامًا فبعض الصحابة نام عن فطره فلما انتصف النهار غشي عليه فنزلت، (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)، كان إذا اعتكف الرجل فخرج من المسجد جامع إن شاء ورجع، فأنزل الله تعالى النهي عن المباشرة ما داموا عاكفين فيها، (تِلْكَ)، أي: الأحكام المذكورات، (حدُودُ اللهِ)، أي: ذوات حدود الله، (فَلاَ تَقْربوها)، نهى أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل، لئلا تدانى الباطل فضلاً أن يتخطى، أو المراد من الحدود المحارم، وتكون تلك إشارة إلى لا تباشروهن، أي هذا وأمثاله محارم، (كَذَلِكَ): مثل هذا التبيين، (يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ): مخالفة الأمر،(1/130)
(وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)، أي: لا يأكل بعضكم مال بعض بوجه لم يبحه الله، (وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ): ولا تلقوا حكومتها إلى الحكام، عطف على المنهي، أو نصب بتقدير أن، (لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا): طائفة، (مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ): بما يوجب الإثم كاليمين الكاذبة، (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ): أنكم مبطلون.
* * *
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)(1/131)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
* * *
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ)، سأل بعض الصحابة ما بال الهلال يبدو دقيقًا ثم يزيد ثم ينقص؟ فنزلت، (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)، سألوا عن حكمة اختلاف حال القمر فأجاب بأن الحكمة الظاهرة أنه معالم للناس يوقتون بما أمورهم سيما الحج، (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا)، كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، أو الأنصار إذا قدموا من سفر لم يدخلوا من قبل بابهم فنزلت، (وَلَكِن البِرَّ): بر، (مَنِ اتَّقَى): المحارم، (وَأتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا): واتركوا(1/132)
سنة الجاهلية، (وَاتَّقُوا اللهَ)، في تغيير أحكامه، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ): لكي تظفروا بالفلاح والهدى، ووجه اتصال هذه الآية بما قبله أنه لما ذكر الحج ذكر أيضًا شيئًا من أفعالهم في الحج استطرادًا، وفيه تنبيه على أنَّهم يخترعون أشياء لا حكمة فيها، ولا يسألون ولا يتفكرون فيها ويسألون عن شيء حكمته ظاهرة، (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ)، إعلاء لكلمته، (الذِينَ يُقَاتِلُونَكمْ)، كما أن همتهم قتالكم فلتكن همتكم كذلك، (وَلاَ تَعْتَدُوا): لا تظلموا في القتال، بأن تقتلوا النساء والشيوخ والصبيان وأنهم ليسوا من الذين يقاتلونكم، وبأن تفعلوا المثلة والغلول، وروي أنها أول آية نزلت في القتال بالمدينة، (إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ): لا يريد بهم الخير، وعن بعض السلف أن قريشًا صدوا المسلمين عن الحج وصالحوهم على رجوعهم من قابل، فخاف المسلمون عن عدم وفاءهم وقتالهم في الحرم شهر الحرام وكره المسلمون ذلك، فنزلت، ومعناه: قاتل من قاتلك ولا تظلم بابتداء القتال، فالآية منسوخة، (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ)؛ وجدتموهم في حل أو حرم، (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ)، أي: مكة فإن قريشًا أخرجوا المسلمين منها، والمسلمون أخرجوا المشركين يوم الفتح، (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)، أي: شركهم في الحرم وصدهم إياكم عنه أشد من قتلكم إياهم في الحرم وجزاء سيئة سيئة مثلها، (وَلاَ تُقَاتِلُوَهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ)، حرمة له، (حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن(1/133)
قَاتَلُوكُمْ)، وابتدأو بالقتال عنده، (فَاقْتلُوَهُمْ): مكافأة، (كَذَلِكَ جَزَاءُ الكافِرِينَ): يفعل بهم ما فعلوا، قال بعضهم: آية " واقتلوهم حيث ثقفتموهم " منسوخة بهذه الآية، وهذه منسوخة بآية السيف في براءة، فهي ناسخة منسوخة والأكثر على أنها محكمة لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، (فَإِنِ انْتَهَوْا): عن القتال والكفر، (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، يغفر لهم ما قد سلف، (وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ): شرك، (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)، خالصًا فلا يعبد شيء غيره، (فَإِنِ انْتَهَوْا): عن الكفر، (فَلاَ عُدْوَانَ): لا قتل ولا نهب، (إِلا عَلَى الظالِمِينَ)، لا عليهم، فإنهم قد ارتدعوا عن الظلم، (الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِ)، صدهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة عن العمرة، وخرج المسلمون لعمرة القضاء في سنة أخرى، وكرهوا القتال لحرمته، فنزلت، أي: هذا بذاك وهتكة بهتكة فلا تبالوا، (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاص)، أي: كل حرمة وهو ما يجب المحافظة عليه يجري فيه القصاص، وهم هتكوا حرمة شهركم بصدكم فافعلوا به مثله، (فمَن اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)، أي: ادخلوا مكة عنوة واقتلوهم إن قاتلوكم، (وَاتَّقُوا اللهَ)، فيما لم يرخص لكم، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)، فيحرسهم ويعلي كلمتهم، (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ): في جهات الخير،(1/134)
(وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، بعدم الإنفاق فيها، وصح عن ابن عباس وغيره أنَّهم قالوا: الآية في النفقة لا في القتال، أو تقديره لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة بالإسراف، بحيث لا يبقى لكم شيء أصلاً، أو معناه: أنفقوا في الجهاد ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة بترك القتال والإمساك عن الإنفاق في الجهاد، والباء زائدة، والمراد من الأيدي الأنفس، أو تقديره ولا تلقوا بأيديكم أنفسكم إليها، وعدى بـ إلى لتضمن معنى الانتهاء، (وَأَحْسِنُوا): أعمالكم، أو الظن بالله، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ): بمناسكهما وحدودهما وسنتهما، أو بأن تحرم من دويرة أهلك، أو بأن تخرج لهما لا لغرض آخر من تجارة وغيرها، أو بأن تكون النفقة حلالاً، (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ): منعتم والمراد حصر العدو، أو أعم كالمرض فيه خلاف، (فَمَا اسْتَيْسَرَ)، أي: فعليكم ما تيسر، (مِنَ الْهَدْيِ)، يعني من أحصر وأراد التحلل تحلل بذبح هَدي من بدنة أو بقرة أو شاة، (وَلاَ تَحْلِقُوا رُءوسَكُمْ(1/135)
حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)، أي: أنتم محرمون حتى يصل هديكم محلاً يحل ذبحه فيه وهو مكان الحبس وعليه الشافعي، أو حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ الحرم وذبح وعليه الحنفي، (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا): مرضًا يحتاج إلى الحلق، (أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ)، كجراحة وقمل، (فَفِدْيَةٌ): فعليه فدية إن حلق، (مِّن صِيَامٍ): ثلاثة أيام، (أَوْ صَدَقَةٍ)، ثلاثة آصاع على ستة مساكين، (أَوْ نُسُكٍ)، ذبح شاة، وهو مخير في الثلاثة، (فَإِذَا أَمِنْتُمْ)، العدو، أو كنتم في حال أمن، أي: إذا تمكنتم من أداء المناسك، (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ)، أي: استمتع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة في أشهر الحج إلى أن وصل الحج فحج، أي: من اعتمر أشهر الحج وأحل ثم حج في تلك السنة، (فَمَا اسْتَيْسَرَ)، أي: فعليه ما استيسر، (مِن الهَدْي فَمَن لمْ يَجِدْ)، أي: الهدى، (فَصِيَامُ ثَلاَثةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ): في أيام الاشتغال به، أي: بعد الإحرام وقبل التحلل، أو في أشهر بين الإحرامين، (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعتمْ): إلى أهليكم، لا قبل الوصول، أو المراد من الرجوع الفراغ من الحج، (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)، فائدتها الحطم بأن الواو لا بمعنى أو، والمراد العدد المعين لا الكثرة، (ذَلِكَ)، أي: هذا الحكم، (لِمَن لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ)، هم أهل الحرم، أو أهل مكة، أو من كان وطنه من مكة دون مسافة القصر(1/136)
أو من دون الميقات، (وَاتَّقُوا اللهَ)، أي: مخالفته، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ): لمن لم يتقه.
* * *
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ(1/137)
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
* * *
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ)، أي: وقته، (مَّعْلُومَاتٌ): معروفات، شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، أو تمامه وفائدته كراهة العمرة في بعضه، أو في تمامه والأكثرون على عدم جواز الإحرام بالحج في غيرها، (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ): أوجب على نفسه بالإحرام، (فَلَا رَفَثَ): لا جماع ومقدماته من التقبيل والتكلم به في حضورهن في حكمه، (وَلاَ فُسُوقَ): هي المعاصي، فإنها في الإحرام أقبح، أو خاص بمحظورات الإحرام فقط، (وَلاَ جِدَالَ): لا مخاصمة، أو لا مراء، وروي أن المشركين يقفون في(1/138)
الحج ويجادلون، فبعضهم يقول نحن أصوب وبعضهم يقول نحن [أبر] (1) أو لا جدال في مناسكه، فإنه قد بين الله تعالى أشهره ومواقفه، (في الحَجِّ): في أيامه وفي شأنه، (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْر يَعْلَمْهُ اللهُ): فلا يضيع، حث على الخير بعد النهي عن الشر، (وَتَزودُوا)، كان أهل اليمن يحجون بلا زاد مظهرين التوكل، ثم يسألون الناس فنزلت، (فَإن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)، ومن التقوى الكف عن السؤال والإبرام، (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)، أي: واتقوا عقابي وغصبي يا ذوي العقول، (لَيْس عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ): إثم، (أًن تَبْتَغوا)، أي: في أن تبتغوا، (فَضلاً مِّن ربِّكُمْ): عطاء ورزقًا منه بالتجارة حين الإحرام، كان المسلمون كرهوا التجارة في الحج، فنزلت، وأيضًا روي أنه سل هل للجالبين حج؟ فنزلت، (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ):
انصرفتم عنها، (فَاذْكُرُوا الله عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ)، بالدعاء والتلبية، (وَاذْكروهُ)، بالتوحيد والتعظيم، (كمَا هَدَاكُمْ): كما ذكركم بالهداية فهداكم أو كما علمكم، (وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ)، أي: الهدى، (لَمِنَ الضَّالّينَ): الجاهلين بالطاعة، وإن: هي المخففة، واللام: هي الفارقة، (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)، أي: من عرفة، كان [أهل قريش] (2) لا يخرجون من الحرم يقفون عند أدنى الحل قائلين: نحن أهل الله، فلا نخرج من الحرم بخلاف الناس، فأمرهم الله أن يقفوا بعرفة
__________
(1) زيادة ضرورية من بعض التفاسير.
(2) في الأصل هكذا " القريش ".(1/139)
ويخرجوا من الحرم كسائر الناس، وحينئذ ثم: للتراخي في الإخبار، أو من مزدلفة إلى منى بعد الإفاضة من عرفة إليها، وحينئذ المراد بالناس: إبراهيم عليه السلام، أو جميع الناس، (وَاسْتَغفرُوا الله)، من جاهليتكم، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، يغفر الذنب وينعم، (فإِذَا قَضيتم مَّنَاسِكَكُمْ): فرغتم من العبادات الحجية، (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ)، أهل الجاهلية يقفون ويذكرون مفاخر آبائهم، فأمرهم الله بذكره كذكرهم مفاخر آبائهم، أو كقول الصبي: أبه أمه، كما يلهج الصبي بذكر أبيه وأمه فالهجو أنتم بذكر الله بعد النسك، (أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)، عطف على كذكركم، أو على ذكركم، والمعنى: ذكرا أشد ذكرًا على الإسناد المجازي، وصفًا للشيء بوصف صاحبه كشديد الصفرة صفرته، أو عطف على آبائكم، أي: كذكركم قومًا أشد مذكور به من آبائكم وأما عطفه على الضمير المضاف إليه لكذكركم فضعيف، قيل: أو بمعنى بل، (فَمِنَ الناسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا)، أي: اجعل إعطاءنا في الدنيا خاصة، (وَمَا لَه فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)، نصيب أو من طلب(1/140)
خلاق، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً)، يدخل فيها كل خير في الدنيا وصرف كل شر، (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً)، مثلها يدخل فيها الخير كله، (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، تخصيص بعد التعميم؛ لأنه هو الفوز، وبعض السلف خصص الحسنة في الموضعين بشيء خاص، والتعميم أولى، (أُولَئِكَ)، أي: الفريق الثاني، (لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا)، أي: مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه، والدعاء كسب، لأنه عمل، أو من أجل ما عملوا، (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)، يحاسبهم مع كثرتهم وكثرة أعمالهم فى لمحة، وقيل: سريع الحساب مع الفريق الثاني لأن يتخلصوا من هوله، (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ): أيام التشريق، والمراد: التكبير بعد الصلوات وعلى الأضاحى وعند الجمرات، (فَمَن تَعَجَّلَ): عجل في النفر، (فِى يَوْمَينِ)، ونفر بعد رمى اليوم الثاني (فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ): في النفر إلى اليوم الثالث، (فَلَا إِثْمَ(1/141)
عَلَيْهِ)، في تأخره، لا كما قال بعض من أهل الجاهلية، فإن منهم من أثم المتعجل ومنهم من أثم المتأخر، (لِمَنِ اتَّقَى)، أي: التخيير، أو الأحكام المذكورة؛ لأنه الحاج حقيقة، أو عدم الإثم لمن اتقى في حجه، (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَموا أنكُمْ إِلَيْهِ تحْشرُونَ)، للجزاء، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ): يروقك ويعظم في نفسك قوله، (فِى الحَيَاةِ الدنيا)، أي: قوله في أمور الدنيا، أو يعجبك فيها لا في الآخرة، (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ): يحلف على أن ما في قلبه موافق للسانه، أو يبارز الله بما في قلبه من الكفر، كما قال تعالى: " يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله " [النساء: 108]، (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ): أشد الخصومة والجدال، نزلت فى أخنس بن شريك، فإنه حلو الكلام سيئ السريرة منافق، أو عام في المنافقين، (وَإِذا تَوَلى): انصرف عنك، أو صار واليًا، (سَعَى)، أي: قصد، (فِى الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ)، كما فعله الأخنس حين رجع إلى مكة أحرق زرع المسلمين وعقر الحمر، أو إذا تولى سعى في الأرض فسادًا - منع الله(1/142)
القطر فهلك الحرث والنسل، (وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ): لا يرتضيه، (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ)، حملته الأنفة، وحمية الجاهلية على الإثم المأمور بتركه لجاجًا -الخصومة- يقال: أخذته بكذا، إذا حملته عليه، (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ): كفته جزاء، (وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ)، أي: والله لبئس المقر جهنم، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي): يبيع، (نفسَهُ)، بالبذل في الجهاد، أو في جميع الأوامر، (ابْتِغَاءَ): طلب، (مَرْضَاتِ اللهِ)، نزلت في صهيب بن سنان الرومي، عذبه المشركون ليرتد فأعطى جميع أمواله وخلص دينه وأتى المدينة، وأكثر السلف على أنه عام في كل مجاهد في سبيل الله، (وَاللهُ رَءوفٌ بِالْعِبَادِ)، لإرشادهم إلى الهدى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً): في الإسلام، أو في الطاعة، وكافة: حال من السلم، أي: خذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه(1/143)
أو حال من الفاعل، أي: ادخلوا فيه بكليتكم لا تخلطوا به غيره وهو خطاب للمسلمين وعن بعضهم أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب، فإنهم [ما] (1) أن أسلموا عظموا السبت وحرموا الإبل وأحبوا قراءة التوراة، فأُمروا بتركها، (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ): آثاره التي زين لكم، (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ): ظاهر العداوة، (فَإِن زَلَلْتُم): عدلتم عن الحق، (مِّنْ بَعْد مَا جَاءتْكُمُ البَيناتُ)، على أن الإسلام هو الحق، (فَاعْلَمُوا أَن الله عَزِيزٌ): لا يعجزه الانتقام، (حَكِيمٌ): لا ينتقم بظلم، (هَلْ يَنظُرُون)، استفهام بمعنى النفي، (إِلا أَن يَأتِيَهُمُ اللهُ)، مذهب السلف الإيمان بمثل ذلك ووكول علمه إلى الله تعالى، أو تقديره: يأتيهم بأسه، (فِي ظُلَلٍ)، جمِع ظلة، (مِنَ الْغَمَامِ)،
__________
(1) في الأصل هكذا " مع ".(1/144)
السحاب الأبيض، والعذاب إذا جاء من مكان يجيء الخير منه يكون أصعب،(1/145)
(وَالْمَلاِئكَةُ)، هو على الحقيقة، (وَقُضِي الأَمْرُ): تم أمر هلاكهم، أو فرغ من حسابهم فأوقعوا من عقابهم وذلك يوم القيامة، (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ)، فيجازيهم.
* * *
(سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
* * *
(سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، وهو سؤال تقريع، (كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ)، معجزة ظاهرة على نبوة موسى، أو آية في الكتاب، على نبوة محمد عليهما السلام، وكم:(1/146)
مفعول ثان، أو مبتدأ والعائد محذوف، وآية: مميزة، ومن: للفصل، والجملة إما مفعول ثان لـ سل وتقديره: سلهم قائلاً كم آتياناهم؟ أو في موقع المصدر، أي: سلهم هذا السؤال، (وَمَن يُبدّلْ نِعْمَةَ اللهِ)، أي: آياته، فإنها أجل نعمة لأنها سبب الهداية فجعلوها سبب الضلالة، أو حرفوها، (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءته)، وعرفوها، (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ): يعاقبه أشد عقاب، (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)، حسنت في أعينهم حتى أعرضوا عن غيرها، (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذِينَ آمنوا): فقراء(1/147)
المؤمنين كبلال وعمار، (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا)، الشرك، (فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامَةِ)، لتقواهم لأنَّهُم في الجنة وهم في النار، (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، في الدارين، فلربما يعطي الفقراء في الدنيا، أو في الآخرة، أو فيهما، أو إشارة إلى أن كثرة الرزق لا يدل على الكرامة، بل ربما تكون استدراجًا، (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)، بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على الحق، أو متفقين على الجهل على عهد إبراهيم، (فبَعَثَ اللهُ)، أي: اختلفوا فبعث على الوجه الأول، وحذف لدلالة قوله " فيما اختلفوا " عليه، (النبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ)، مع الأنبياء، لا مع كل واحد، (بِالْحَقّ)، متلبسًا به، (لِيَحْكُمَ)، أي: الكتاب، مجازًا، أو الله، (بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)، أي: في شيء التبس عليهم، (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ): في الكتاب الذي أنزل لدفع الاختلاف، (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ)، أي: الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف، (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ)، الحجج الظاهرات الواضحات، (بَغْيًا بَيْنَهُمْ)، أي: اختلفوا حسدًا وظلمًا، واختلافهم: كفر بعضهم بكتاب بعض وتحريفهم كتاب الله، (فهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)، أي: لمعرفته، (مِنَ الحَقِّ)، بيان لما، (بإذْنِهِ): بإرادته، كاختلافهم في القبلة وفي إبراهيم وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، (وَاللهُ يَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ)، لا من جمع له أسباب الهداية، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ(1/148)
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ)، أم منقطعة، ومعنى الهمزة الإنكار، لما هاجر المسلمون وتركوا الديار والأموال فأصابهم ما أصابهم من الجهد وضيق العيش نزلت تشجيعًا لهم وتطييبًا لقلوبهم، (وَلَمَّا يَأتِكُم)، أي: لم يأتكم وزيدت عليه ما، (مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا)، مضوا، (مِن قَبْلِكُم): حالهم التي هي مثل في الشدة أو سنتهم (مَّسَّتْهُمُ البَأسَاءُ وَالضرَّاءُ)، الفقر والأسقام والمصائب والنوائب، (وَزُلْزِلُوا)، بأنواع البلايا وخوف العدو، (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)، أي: إلى الغاية التي يقول الرسول ومن معه فيها، (مَتَى نصْرُ اللهِ)، أي: بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى استبطئوا النصر، (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)، أي: قيل لهم ذلك إجابة لطِلْبتهم، يعني لابد لكم أن يصيبكم مثل ما أصابهم فتصبروا كما صبروا، (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ)، نزلت في شيخ كبير كثير المال، قال يا رسول الله: بما نتصدق وعلى من ننفق؟، (قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)، حاصله أن المنفق هو كل خير والاهتمام في شأن المصرف؛ لأن الخير لا يعتد به إلا بعد وقوعه موقعه، (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)، فيجازيكم بقدره، والآية في نفقة التطوع، وعن بعضهم هي منسوخة بفرض الزكاة، (كُتِب عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لكُمْ)، شاق مكروه طبعًا عليكم، (وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا(1/149)
شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ)، وهذا عام في الأمور كلها، (وَاللهُ يَعْلَمُ): ما هو خير لكم، (وَأَنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ)، واعلم أن الجهاد فرض كفاية.
* * *
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)(1/150)
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ)، نزلت في سرية قاتلوا المشركين أول رجب وهم يظنون أنه من الجمادى فعيرهم المشركون وقالوا: إن محمدًا استحل الشهر الحرام، (قِتَالٍ فِيهِ)، بدل اشتمال، (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)، أي: ذنب كبير، واختلف في أنه منسوخ أو لا، (وَصَدٌّ): منع، (عَن سَبيلِ اللهِ)، كمنعهم المسلمين عن العمرة، (وَكُفْرٌ بِهِ): بالله، (وَالْمَسْجدِ الحَرَامِ)، أي: صد عنه، (وَإخْرَاجُ أَهْلِهِ): أهل المسجد، وهم المؤمنون، (منهُ): من المسجد، (أَكْبَرُ عِندَ اللهِ)، وزرًا مما فعلته السرية خطأً، (وَالْفِتْنَةُ)، أي: الشرك، أو ما يرتكبونه من الإخراج والكفر، (أَكبَرُ مِنَ القَتْلِ): أفظع مما ارتكبوه، (وَلاَ يَزَالُونَ)، أي: المشركون، (يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدوكُمْ عَن دِينِكُمْ)، أي: ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين،(1/151)
وحتى معناه التعليل، أي: يقاتلونكم كي يردوكم، (إِنِ اسْتَطَاعُوا)، هو استبعاد لاستطاعتهم كقول الواثق بنفسه: إن استطعت فاضربني، (وَمَن يَّرتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ): من يرجع عن دينه إلى دينهم، (فيَمُتْ وَهُوَ كَافرٌ)، أي: يرجع ثم يموت على الكفر، (فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ): النافعة وبطلت، (فِى الدنيا)، لما يفوتهم بالردة ما للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام، (وَالْآخِرَةِ)، بسقوط الثواب، (وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، قيد الردة بالموت عليها في إحباط الأعمال وهو مذهب الشافعي، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَروا وَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللهِ)، نزلت فى تلك السرية لما ظن بهم أنهم لو سلموا من الإثم ليس لهم أجر، (أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ): ثوابه، (وَاللهُ غفور)، لما فعلوا من قلة الاحتياط، (رحِيمٌ): بإجزال الأجر، (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ)، أي: عن تعاطيهما، قال عمر ومعاذ(1/152)
وسعد: يا رسول الله أفتنا في الخمر واليسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال؟ فنزلت، واليسر: القمار، (قُلْ فيهِمَا)، أي: في تعاطيهما، (إِثْمٌ كَبيرٌ)، حيث يؤدي إلى مخاصمة وفحش وزور وهذا لا يدل صريحًا على حرمتهما لأَنه مؤدي إلى الإثم لا أن الإثم يحصل منه، والمحرِّمة ما في المائدة، (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ): من كسب المال والطرب وغيرهما، (وَإِثْمُهُمَا أَكبرُ مِن نَّفْعِهِمَا)، فإن مفاسدهما التي تنشأ منهما أعظم من المنافع المتوقعة منهما، (وَيَسْألونَكَ مَاذَا يُنفقون)، لما نزل قوله: " فللوالدين والأقربين " سأل عمرو بن الجموح عن مقدار ما ينفق فنزل، (قُلِ العَفْوَ)، أي: ما فضل من المال عن العيال، أو أفضل مالك وأطيبه، قيل: إنها منسوخة بآية الزكاة، وقيل: مبينة بها قاله مجاهد وغيره، (كَذَلِكَ)، أي: مثل ما فصل وبين لكم هذه الأحكام، (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ)، أي: سائر الآيات في أحكامه ووعده ووعيده، أى يبين تبييناً مثل لهذا، (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي)، أمر، (الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، لتعلموا زوالها وفناءها وإقبال الآخرة وبقاءها، وقيل: متعلق بـ يبين أي: يبين لكم الأَيات في أمر الدارين لعلكم تتفكرون، (وَيسْألونكَ عَنِ اليَتَامَى)، لما نزل " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا " [النساء: 10] إلخ، اعتزلوا مخالطة اليتامى ولا يأكل أحد معهم، فشق ذلك عليهم فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت، (قُلْ إِصْلاحٌ لهُمْ(1/153)
خَيْرٌ)، أي: على حدة، أو مداخلتهم لإصلاحهم خير من مجانبتهم، قيل: أو إصلاح أموالهم من غير أجرة خير، (وَإِن تُخالِطُوهُمْ)، أي: إن خلطتم طعامكم وشرابكم بطعامهم وشرابهم، وقيل: إن تصيبوا من أموالهم أجرة من قيامكم بأمورهم، (فَإِخْوَانُكُمْ)، أي: فهم إخوانكم، ولا بأس من الخلطة أو من إصابة بعضكم من مال بعض، (وَاللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ)، أي: يعلم من قصده الإفساد أو الإصلاح فيجازيه، (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ)، العنت: المشقة، أي: لو شاء الله إعناتكم لأعنتكم: كلفكم ما يشق عليكم من المجانبة مطلقًا دون المخالطة، (إِنَّ الله عَزِيزٌ): غالب يقدر على الإعنات، (حَكِيمٌ): يحكم بحكمته فيتسع لكم، (وَلاَ تَنكِحُوا الُمشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ)، كانت لأبي مرثد الغنوي خليلة مشركة فبعدما أسلم أراد أن يتزوج بها، فنزلت (والمشركات) هاهنا عامة في كل من كفرت بالنبي عليه الصلاة والسلام لكن خصت منها حرائر الكتابيات بقوله: " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب " [المائدة: 5]، وقيل: المراد بها عبدة الأوثان؛ فلا يدخل فيها أهل الكتاب، (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ)، أي: من حرة مشركة كانت لعبد الله(1/154)
بن رواحة فأعتقها كفارة أن لطمها وتزوجها فطعنوا فيه وعرضوا عليه نسيبة مشركة، فنزلت، (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ)، الواو للحال، وبمعنى أن، أي: وإن أعجبتكم بمالها وجمالها، (وَلاَ تُنكِحُوا الُمشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا)، أي: لا تزوجوا منهم المؤمنات حتى يؤمنوا وهو على عمومه، (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ)، أي: رجل مؤمن وإن كان عبدًا خير من مشرك وإن كان سريًا، (أُولَئِكَ)، أي: المشركون والمشركات، (يدْعُونَ إِلَى النَّارِ)، أي: الأعمال الموجبة لها، (وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ)، أي: العمل الموجب لهما، قيل: تقديره وأولياء الله يدعون، بإقامة المضاف إليه مقام المضاف تعظيمًا لهم، (بِإِذْنِهِ)، أي: بأمره وشرعه أو بتوفيقه أو بقضائه، (وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ): لكي يتذكروا، أو ليكونوا بحيث يرجى عنهم التذكر.
* * *
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا(1/155)
وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
* * *
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ)، إذا حاضت نساء اليهود لا يؤاكلونهن ولا يخالطونهن فسأل أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، فنزلت، والمحيض مصدر، (قُلْ هُوَ أَذى)، أي: الحيض مستقذر، (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ)، اجتنبوا مجامعتهن إذا حضن، (وَلاَ تَقربوهُن)، بالجماع، (حَتَّى يَطْهُرْنَ): من الدم، أو يغتسلن وقراءة حمزة والكسائى وهو " يطَّهَّرن " دالة عليه سيما مع قوله، (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ)، أى: بالماء، (فَأْتُوهُنَّ): بالوقاع، (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ)، أن تعتزلوهن منه وهو الفرج، أو من المأتي الذي حلله لكم وهو القبل، (إِنْ الله يُحِبّ التَّوَابِينَ): من(1/156)
الذنوب، (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ): المتنزهين عن الأقذار، كإتيان الحائض وفي الدبر، (نسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لكمْ)، أي: مزرع للولد، (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ): مزرع الولد لا غير، (أَنَّى شِئْتُمْ)، من أي جهة شئتم مقبلة أو مدبرة لا كما قالت اليهود: إن مجامعة المرأة من دبرها في قبلها يجعل الولد أحول ودنس عند الله، (وَقَدِّمُوا لأَنفُسكُم): ما يدخر لكم الثواب، وعن ابن عباس رضى الله عنهما هو التسمية عند الجماع، (وَاتَّقُوا الله)، في معاصيه، (وَاعْلَموا أَنَّكُم مُّلاقُوهُ)، فاحذروا عن الفضيحة، (وَبَشِّر الْمُؤْمِنِينَ): الكاملين في الإيمان الذين اجتنبوا المعاصي، (وَلاَ تَجْعَلُوا الله عُرْضَةً)، اسم لما يعرض دون الشيء، (لأَيْمَانِكُم): أراد منها الأمور المحلوف عليها من البر(1/157)
والتقوى، وهي صلة عرضة أو الفعل، (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ)، عطف بيان للإيمان، أي: لا تجعلوا الله مانعًا لما حلفتم عليه من الخير، بل افعلوا الخير ودعوا اليمين كما قال السلف في معنى الآية: لا تجعلن الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير لكن كفر عن يمينك واصنع الخير ويجوز أن يكون اللام للتعليل، أى: لا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به مانعًا لأن تبروا، وقيل: والعرضة بمعنى المعرض للأمور وأن تبروا علة النهي، أي: لا تجعلوه معرضًا للإيمان فتبتذلوه بكثرة الحلف به إرادة بركم فإن الحلاف مجترئ على الله وهو غير متق، (وَاللهُ سَمِيعٌ): لأيمانكم، (عَليمٌ): بمقاصدكم، (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللغوِ فِى أَيْمَانِكُمْ)، هو المجرى على اللسان عادة كـ: لا والله وبلى والله، أو(1/158)
هو حلف يرى أنه صادق ولا يكون كذلك، أو أنت تحلف وأنت غضبان، أو أن تحرم ما أحل الله لك، أو أن تحلف عن الشيء ثم تنساه، (وَلَكِن يُؤَاخِدكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ): وهو أن يحلف ويعلم أنه كاذب، (وَاللهُ غفُورٌ): لم يؤاخذ باللغو، (حَلِيمٌ): لا يعجل بالعقوبة وإن حلف كاذبًا، (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ)، أي: يحلفون على أن لا يجامعوهن، وعدى بمن لمعنى البعد، وهو خبر لقوله، (تَرُّبصُ)، أي: توقف، (أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ)، أي: للحالف حق التلبث في تلك المدة لا يطالب فيها بوطء ولا طلاق، (فَإِنْ فَاءُوا): رجعوا بالحنث، (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، للمولي إثم الحنث وإضرار المرأة، والأصح أنه يجب عليه الكفارة، (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ): وطلقوا، (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ): بما يقولونه، (عَلِيمٌ): بما يفعلونه، وعند كثير من السلف: أنه تقع تطليقة بمجرد مضى أربعة أشهر، إما بائنة أو رجعية، وفي الآية دلالة على أنه يوقف، فيطالب إما بهذا أو بهذا، وعليه كثير من السلف أيضًا، (وَالْمُطَلَّقَاتُ): المدخول بهن من ذوات الأقراء، (يَتَرَبَّصْنَ(1/159)
بِأَنْفُسِهِنَّ)، يحملنها على الانتظار، خبر معناه الأمر للتأكيد، (ثَلاَثةَ قُرُوءٍ)، أي: أطهار أو حيض، ثم يجوز لهن أن يتزوجن، ونصبه على الظرفية، أي: مدتها، أو المفعولية أي: مضيها، وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمة إذا طلقت، فإنها تعتد بقرأين، (وَلاَ يَحِل لَهُنَّ أَن يَّكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ)، من حبل أو حيض، (إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)، هذا تغليظ وتأكيد لا تقييد، (وَبُعُولَتُهُنَّ): أزواجهن جمع بعل والتاء لتأنيث الجمع، (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ): إلى النكاح والرجعة، (فِي ذَلِكَ): في زمان التربص وهو العدة، وكان الرجل يرجع إلى امرأته وإن طلقها مائة إلى أن نزلت " الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ " [البقرة: 229] فصار قسمين بائنة ورجعية، فليس الضمير أخص من المرجوع إليه، (إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا): بالرجعة لا إضرارًا وهو تقييد للأحقية، (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ)، أي: لهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن (بِالْمَعْرُوفِ): بالوجه الذي لا ينكر في الشرع والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب الواجب في الحسنة لا في جنس الفعل، (وَلِلرِّجَالِ(1/160)
عَلَيْهِن دَرَجَةٌ): زيادة في الحق وفضل فيه، أو شرف وفضل في الدنيا والآخرة، (وَاللهُ عَزِيز حَكِيمٌ)، يأمر كما أراد بمقتضى حكمته.
* * *
(الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
* * *
(الطلاقُ مَرتَانِ)، كان الطلاق غير محصور في الجاهلية في عدد، ثم إن رجلاً من الأنصار غضب على امرأته فقال: لا أطلقك ولا أؤويك أبدًا، أطلقك حتى إذا دنا أجلك راجعتك وهكذا، فشكت ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام، فنزلت، وحاصله أن الطلاق الرجعي مرتان، (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) أي: إذا طلقتها واحدة أو اثنتين فلك(1/161)
الخيار في المراجعة وحسن المعاشرة، (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ): بالطلقة الثالثة، أو بألا تراجعها ضراراً، (وَلاَ يَحِل لَكُمْ) أيها الولاة (أًن تَأخُذُوا مِمَّا آتيتمُوهُنَّ): من الصداق، (شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافا) أي: الزوجان، (أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ) من مواجب الزوجية، ولما كان الولاة يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع كأنهم الآخذون والمؤتون، (فَإِنْ خِفْتُمْ) أيها الحكام في المزاوجة، (أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أي: لا جناح على المرأة فيما أعطت ولا على الرجل فيما أخذ، وحاصله أنه لا يجوز أن تضيقوا عليهن ليفتدين منكم بما أعطتموهن من الصداق، نعم إذا تراضيا وطبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئًا مريئًا، ولهذا كثير من السلف والخلف على أن الخلع حرام إلا أن يكون الشقاق من المرأة، لكن ذهب الشافعي إلى أنه إذا جاز في حال شقاقها فبطريق الأولى عند الاتفاق، لكن في غير هاتين الصورتين فحرام، (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا) بالمخالفة، (وَمَن يَتَعَدَّ(1/162)
حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ): عقب النهي بالوعيد مبالغة في التهديد، (فَإِن طَلقَها)، أي: بعد اثنتين، فهو مرتبط بقوله: " الطلاق مرتان "، نوع تفسير لقوله: " أو تسريح بإحسان "، وذكر بينهما الخلع دلالة على أن الطلاق يكون مجانًا تارة وبعوض أخرى، (فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) أي: بعد ذلك الطلاق (حَتى تَنكِحَ زَوْجًا غيْرَهُ) أي: حتى يطأها زوج آخر، يعني في نكاح صحيح، أو المراد من النكاح: العقد، والإصابة قد علم من الأحاديث الصحاح، (فَإِنْ طَلَّقَهَا): الزوج الثاني (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا)، بنكاح جديد (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ): من حقوف الزوجية، (وَتِلْكَ) أي: الأحكام المذكورة (حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ): يفهمون، ثم اعلم أن شرط التحليل في النكاح فاسد إلا عند أبي حنيفة، وقد صح " لعن الله المحلِّلَ والمحلَّلَ له "، والخلاف في أن الناكح بنية التحليل هو المحلل أم لا، وكلام السلف يدل على أنه المحلل الملعون.
* * *
(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)(1/163)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
* * *
(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ)، الأجل يطلق للمدة ولمنتهاها والبلوغ: الوصول، وقد يقال للدنو على الاتساع، وهو المراد هاهنا، (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوف): راجعوهن من غير ضرار، (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوف): أو خلوهن لتنقضي عدتهن من غير تطويل، وهذا إعادة لبعض ما سبق للاهتمام به، (وَلاَ تُمْسِكُوهنَّ ضِرَارًا): لا تراجعوهن إرادة إضرارهن كما سبق (لتَعتدُوا)(1/164)
لتظلموهن بالتطويل والإلجاء إلى الافتداء وهو عين الضرر، (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) بتعريضها للعقاب، (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا) كان الرجل يطلق أو يعتق أو ينكح فيقول: كنت لاعبًا فنزلت، (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ): التي منها الهداية، (وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ): القرآن، (وَالْحِكْمَةِ): السنة، وقيل: مواعظ القرآن، أفردهما بالذكر لشرفهما (يَعِظُكُمْ بِهِ): بما أنزل، (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تأكيد وتهديد.
(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أي: انقضت عدتهن (فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ):(1/165)
لا تمنعوهن أيها الأولياء، وقيل: الضمير للناس كلهم، أي: لا يوجد فيما بينكم هذا الأمر، (أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) أي: الذين كانوا أزواجًا لهن، نزلت في أخت معقل بن يسار، طلقها زوجها، فلما انقضت عدتها جاء يخطبها، ومعقل منع أن يتزوجها، (إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ) أي: الخطاب والنساء، وهو ظرف لا تعضلوهن أو لأن ينكحن، (بِالْمَعُروف): بما يعرفه الشرع، وهو حال عن الفاعل، (ذلِكَ) أى: النهي والخطاب لكل أَحد، أو الكاف لمجرد الخطاب دون تعيين المخاطب، أو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، يعني: ما أنزل إليك وقلنا لك (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ) أي: ترك العضل، (أَزْكى): أنفع (لَكُمْ وَأَطْهَرُ). من دنس الإثم، (وَاللهُ يَعْلَمُ)، النافع الصالح، (وَأَنتمْ لاَ تَعْلَمونَ): لقصور علمكم.(1/166)
(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ)، لفظه خبر ومعناه أمر، على سبيل الاستحسان، (أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ): سنتين، (كَامِلَيْنِ): تحديدًا لا تقريبًا (لِمَنْ أَرَادَ)، أي: ذلك لمن أراد (أَن يُتمَّ الرَّضَاعَةَ) فعلم أن أقصى مدتها سنتان، ولا اعتبار بالرضاعة بعدهما وعليه السلف وأنه يجوز أن ينقص عنهما، (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) أي: الأب، وعبر عنه بهذه العبارة إشارة إلى جهة وجوب المؤن عليه (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ)، أي: على والد الطفل نفقة أمه المطلقة مدة الإرضاع (بِالْمَعْرُوفِ) حسبما يراه الحاكم وهو يقدر، (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا) تعليل للتقييد بالمعروف ولإيجاب المؤن، (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) بأن تدفعه عن نفسها لمضرة أبيه بتربيته، بل عليها إرضاعه، (وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ)، أي: الأب (بِوَلَدِهِ) بأن ينزع عنها إضراراً لها، ولا(1/167)
" تضار " إلخ تفصيل لما قبله، أي: لا يكلف كل منهما الآخر ما ليس في وسعه ولا يضاره بسبب الولد، (وَعَلَى الوَارِث) عطف على " وعلى المولود له "، وما بينهما تعليل معترض، أي: وعلى وارث الأب وهو الصبي نفسه، فإنه إذا مات أبوه فمؤن مرضتعه من ماله إن كان له مال وإلا تجبر الأم، أو المراد وارث الطفل، يعني إن مات الأب يجبر جميع ورثة الطفل على فرض موته -عصبة كانوا أو غيرهم- على نفقة مرضعته، أو يجبر وارث الطفل المحرم منه بحيث لا يجوز النكاح بينهما على تقدير أن يكون أحدهما ذكرًا والآخر أنثى لا الجميع، أو عصبات الطفل فقط (مِثْلُ ذَلِكَ): مثل ما على والده من الإنفاق وعدم الإضرار أو المراد عدم الإضرار فقط لا الإنفاق، (فَإِنْ أَرَادَا) أي: الأبوان (فِصَالاً): فطامًا صادرًا (عَن تَرَاضٍ منْهُمَا وَتَشَاوُرٍ): بينهما قبل الحولين (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا): في ذلك ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد في الفطام (وَإِنْ أَرَدتمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا): المراضع (أَوْلادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ): إلى المراضع، (مَّا آتيتم)، أي: أردتم إيتاءه، يعني: أجرتها، أو إلى الأمهات أجرتهن بقدر ما أرضعن (بِالْمَعْرُوفِ): بالوجه المتعارف
شرعًا ومروءة، ونفى الجناح مقيد بالتسليم لا لأنه شرط جواز الاسترضاع، بل إرشاد إلى أن الأكثر ثوابًا أن يكون الاسترضاع مقرونًا بتسليم ما يعطى المرضع، فشبه ما هو من شرائط الأولوية بما هو من شرائط الصحة، فاستعيرت له العبارة مبالغة، (وَاتَّقُوا اللهَ): في محافظة حدوده، (وَاعْلَموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، حث(1/168)
وتهديد، (وَالَّذِينَ يُتَوَفوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ): ويتركون، (أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ): يحملنها على التوقف، خبر في معنى الأمر، (أَرْبَعَةَ أَشهُرٍ وَعَشْرًا)، أى: عشر ليال، وتقديره وأزواج الذين، أو تقديره يتربصن بعدهم، لأنه لابد من الضمير في الخبر إذا كان جملة، وخص عنه الحامل لقوله: " وأولات الأحمال أجلهن " [الطلاق: 4] إلخ، والجمهور على أن عدة الأمة نصفها، (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ): انقضت عدتهن، (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكمْ): أيها الأولياء أو المسلمون، (فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ): من التعرض للخطاب والتزين، (بِالْمَعْروفِ): بوجه لا ينكره الشرع، (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير)، فيجازيكم عليه، (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ)، التعريض: إيهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجازًا، كقول المحتاج: جئتك لأسلم عليك، (مِنْ خِطْبَةِ)، الخطبة بالكسر: طلب المرأة، (النِّسَاءِ): المعتدات للوفاة، كقولك: إنك جميلة وإن النساء من حاجتي ونحوه، وحرم التصريح بخطبتهن، وأما الرجعية فحرام على غير زوجها التصريح والتعريض، (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ): أضمرتم فيه من غير تصريح ولا تعريض، (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ)، أي: في أنفسكم فرفع عنكم الحرج في ذلك، (وَلَكِن)، أي:(1/169)
فاذكروهن ولكن، (لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًا): بأن تأخذوا الميثاق عنهن في عدم تزوج غيره، وقال كثير من السلف يعني: الزنا، وقيل: أن يتزوجها في العدة سرًّا، (إِلا أَن تَقُولُوا قَوْلاً مَّعْرُوفًا)، أي: لا تواعدوهن بشيء إلا بأن تقولوا، أي: بالتعريض، أو لا تواعدوهن مواعدة إلا مواعدة معروفة وهي التعريض، (وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النكَاحِ)، أي: لا تعزموا عقد عقدة النكاح، (حَتَّى يَبْلغَ الكتابُ أَجَلَهُ): حتى ينتهى ما كتب من العدة، والإجماع على أنه لا يصح العقد في العدة، وعند مالك أن من تزوج امرأة في عدة ودخل بها، حرام عليه تلك المرأة بالتأبيد، (وَاعْلَمُوا أَن اللهَ يَعْلَمُ مَا في أَنفُسكُمْ): من عزم ما لا يجوز، (فَاحْذَرُوهُ): فخافوا الله ولا تعزموا، (وَاعْلَمُوا أَن الله غَفُورٌ حَلِيمٌ) وبخهم أولاً ثم لم يؤيسهم من رحمته.
* * *
(لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)(1/170)
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
* * *
(لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ)، أي: لا تبعة من مهر، أو لا وزر لأنه ليس ببدعي، (إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ)، تجامعوهن، (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَة): توجبوا لهن صداقًا، ونصب فريضة بمعنى مفروضة على المفعول به، وأو بمعنى إلا أن، أو بمعنى إلى أن، أو بمعنى الواو، يعني: لا تبعة من مطالبة مهر إذا كانت المطلقة غير ممسوسة، ولم يُسَمَّ لها مهرٌ، فإذا كانت ممسوسة فعليه مهر المثل، وإذا كانت غير ممسوسة وسمى لها مهرًا فلها نصف المسمى، (وَمَتعُوهُنَّ)، تقديره: فطلقوهن ومتعوهن من مالكم وهى قبل المسيس وتسمية المهر تستحق المتعة فقط إجماعًا، (عَلَى الْمُوسِعِ): الغني، (قَدَرُهُ): ما يقدره ويليق به، (وَعَلَى الُمقتِرِ): الفقير، (قَدَرُهُ): كذلك، (متاعًا): تمتيعًا، (بِالْمَعْرُوفِ): بالوجه المستحسن شرعًا ومروءة، (حَقًا)، واجبًا صفة متاعًا أو مصدر، (عَلَى الُمحْسنِينَ)، على من أحسن إلى نفسه أو إلى المطلقات فسماهم بالمحسنين ترغيبًا، (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ)، أي: فلهن أو الواجب لهن، ومنه يؤخذ أنه(1/171)
لا متعة حينئذ وأن الجناح المنفى هو تبعة الهر، (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ)، على وزن يفعلن، أي: يتركن حقهن، (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ)، المراد الزوج بأن يسوق إليها المهر كلا فقيل: تسميتها عفوًا على المشاكلة، أو لأن المقرر عند العرب سوق المهر إليها حين الزواج فمن طلق قبل المسيس استحق استرداد النصف، فإن لم يسترد فقد عفا عنه، أو المراد الولي، يعني: إذا كانت بكرًا، وإليه ذهب مالك، وقيل: وإن كانت كبيرة، (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، خطاب للرجال والنساء، (وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ)، أي: لا تنسوا أيها الرجال والنساء أن يتفضل بعضكم على بعض، (إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ): فلا يضيع تفضلكم وإحسانكم، (حَافِظُوا): داوموا، (عَلَى الصَّلَوَاتِ)، ذكرها بين الآيات إشعارًا بألا تلهيكم الأزواج والأولاد عن ذكر الله، (وَالصَّلاةِ الوُسْطَى)، صلاة(1/172)
العصر وعليه الأكثرون، وأنَّهَا بين صلاتي النهار وصلاتي الليل أو الصبح لأنها مثل العصر، أو الظهر لأنها في وسط النهار، أو واحدة من الخمسة لا بعينها كليلة القدر، وقيل: المغرب لأنها الوسطى في العدد بين الرباعية والثنائية، وقيل: العشاء لأنها بين جهريتين وقيل: صلاة الجماعة، وقيل: الجمعة، وقيل: العيد، وقيل: الضحى، وقيل: الوتر، (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)، أي: خاشعين ذليلين بين يديه والمراد القنوت في الصبح، (فَإِنْ خِفْتُمْ)، من عدو أو غيره، (فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا): فصلوا راجلين وراكبين مستقبلي القبلة وغيرها وعند أكثر السلف يومئ برأسه حيث كان وجهه،(1/173)
وفيه دلالة على جواز الصلاة حال المشى والمضاربة وإن لم يكن الوقوف، (فَإِذَا أَمِنْتُمْ): زال خوفكم، (فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)، أي: فصلوا كما علمكم الله بلسان نبيه ما لم تكونوا تعلمون من صلاة الأمن وقيل: إذا أمنتم فاشكروا الله واذكروه بالعبادة كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع، (وَالَّذِينَ يُتَوَفوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً)، بالنصب أي: يوصون وصية، أو كتب الله عليهم وصية، وبالرفع أي: عليهم وصية، أو كتب عليهم وصية، أو حكم الذين يُتوفون وصية، (لأَزْوَاجِهِم): لنسائهم، (مَّتَاعًا)، ناصبه يوصون، أو وصية في قراءة الرفع على حذف الجار أي: بتمتيع، (إِلَى الحَوْلِ عيْرَ إِخرَاج)، مصدر مؤكد لأنه دل يوصون لأزواجهم ما يمتع به سنة على أنهن لا يخرجن فأكد، أو حال من الأزواج يعني وحق المتوفي أن يوصوا قبل أن يحتضروا، بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولاً كاملا وينفق عليهن من تركته غير مخرجات من مساكنهن، وهذا في ابتداء الإسلام ثم نسخت المدة بقوله: (أربعة أشهر وعشرًا) والنفقة بالإرث، هذا ما عليه(1/174)
أكثر السلف فكانت الآية متأخرة في التلاوة متقدمة في النزول، (فَإِنْ خَرَجْنَ): عن منزل الأزواج، (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ)، يا أولياء الميت، (فِى مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ): من التطيب وترك الحداد، (مِن مَّعْرُوفٍ): مما لم ينكره الشرع، وهذا يدل على أنها كانت مخيرة بين الملازمة فأخذ النفقة وبين الخروج وتركها، (وَالله عَزِيزٌ): لا يدفعه أحد عن الانتقام، (حَكِيمٌ): يرعى المصالح، (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ): الذين يتقون الشرك، لما نزل في المتة: " حَقًّا عَلَى المحسنين "، قال رجل: إن شئت أحسنت وإن شئت لم أفعل، فنزلت، وكثير من العلماء استدلوا بهذه الآية على أن المتعة لكل مطلقة، (كَذَلِكَ)، مثل أحكام الطلاق والعدة، (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ): في إحلاله وتحريمه، (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ): تفهمون وتدبرون.
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ(1/175)
مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ): فرارًا من الطاعون، (وَهُمْ أُلُوفٌ): أربعة آلاف، أو ثمانية وأربعون ألفًا والاختلاف كثير، (حَذَرَ الْمَوْتِ)،(1/176)
مفعول له، (فَقَالَ لَهُمُ اللهُ): في أثناء طريقهم، (مُوتُوا)، أي: حكم عليهم بالموت، فماتوا ليعلموا أن لا فرار من قدر الله، (ثُمَّ أَحْيَاهُمْ)، بمعجزة نبي، ثم دعا ربه بعد مدة طويلة أن يحييهم وهم قائلون: سبحانك لا إله إلا أنت، وكان فيها عبرة ودليل قاطع على المعاد الجسماني، (إِنَّ اللهَ لَذُو فضل عَلَى النَّاسِ): حيث أحياهم ليعتبروا ويصدقوا رسله، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)، حيث لم يعتبروا، وكان سوق هذه القضية بعث على الجهاد فلذلك قال (وَقَاتِلُوا في سَبِيلِ الله): لما علمتم أنه لا ينفع الفرار من الموت، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ): لما يقوله المتخلف، (عَلِيمٌ): بما يضره، (مَن ذَا الذِي يُقْرِضُ الله)، مبتدأ وذا خبره والذي صفة ذا وإقراض الله مثل لتقديم العمل الذي يطلب به ثوابه، (قَرْضًا حَسَنًا)، وهو الإنفاق في سبيله، (فيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا)، نصب على الحال من الضمير المنصوب، أو على المصدر على أن الضعف اسم المصدر، وجمعه للتنويع، (كَثيرَةً)،(1/177)
عن ابن عمر لما نزلت " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة " [للبقرة: 261] الآية، قال عليه السلام: رب زد أمتي، فنزلت " من ذا الذي يقرض الله " [البقرة: 261] إلخ، قال رب زد أمتي فنزلت " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " [الزمر: 10]، (وَالله يَقْبِضُ): يمسك الرزق، (وَيَبْسُطُ): يوسع على ما أراد فلا تبخلوا، (وَإِلَيْه تُرْجَعُونَ): فيجازيكم على ما قدمتم، (أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلإ)، أى: الجماعة، (مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ): وفاة، (مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِي لَّهُمُ)، أشمويل، أو شمعون أو يوشع، (ابْعثْ لَنَا مَلِكًا): أنهض أميرًا لنا للقتال ننتهي إلى أمره، (نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) جزمه على الجواب، (قَالَ): لهم نبيهم، (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا)، هو خبر عسيتم، والشرط فاصل بينهما، يعني: أتوقع جبنكم عن القتال إن كُتب عليكم، وأدخل هل مستفهمًا عما هو المتوقع عنده تقريرًا وتثبيتًا، (قَالُوا وَمَا لَنَا)، أي: داع لنا، (أَلاَّ نُقَاتِلَ)، أي: إلى أن نترك القتال، (فِى سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)، أي: أخذت منا البلاد وسبيت الأولاد (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا): عن الحرب، (إِلَّا قَلِيلًا)، قيل: ثلاثمائة وثلاثة عشر، (وَاللهُ عَلِيمٌ بَالظَّالِمِينَ): فيجازيهم على ظلمهم في ترك الجهاد، (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا):(1/178)
أميرًا سألتموه للقتال، (قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ): من أين يستأهل الإمارة؟ (عَلَيْنَا وَنحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ)، لأنه لم يكن من سبط يهوذا، والملك كان فى سبطه، قيل: إنه سقاء، وقيل: دباغ، (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المالِ)، أي: وهو مع هذا فقير لا مال له يقوم بالملك، (قَالَ) لهم نبيهم (إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ)، أجاب عن اعتراضهم أولاً بأنه لست أنا الذي عينته، بل الله أمرني به، وهو أعلم منكم، وثانيًا بقوله، (وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالْجِسْمِ): ووفور العلم وقوة البدن عماد الملك لأنه أعرف بطرق السياسة ولأنه أقوى على مقاومة العدو، وثالثًا بقوله، (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ)، أي: هو مالك الملك، فله أن يؤتيه من يشاء من غير اعتراض عليه، ورابعًا: بقوله، (وَاللهُ وَاسِعٌ): يوسع على الفقير فيغنيه، (عَلِيمٌ):. بمن يليق بالملك نسيبًا أو غيره، (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ)، لما طلبوا دليلاً على أن الله اصطفى طالوت، (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ): صندوق أخذ العمالقة منهم، (فِيهِ سَكِينَةٌ من ربكُمْ) وقار ورحمة، من ذهب الجنة تغسل فيه قلوب الأنبياء، فوضع موسى فيه الألواح، وروح من الله إذا اختلفوا في شيء يخبرهم ببيان ما يريدون، وفيه أقوال(1/179)
أخر، وفي الجملة في أي مكان كان فيه تطمئن القلوب، (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ) عصاه ورضاض الألواح والتوراة، وقيل: ثياب هارون وقفيز من المن، (تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ): جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض، حتى وضعته بين يدي طالوت، والناس ينظرون، (إِنَّ فِي ذَلِكَ)، أي: رجوع التابوت،(1/180)
(لَآيَةً لَكُمْ): علامة لصدقي في اصطفائه، (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ): مصدقين، وهذا من تتمة كلام ذلك النبي عليه السلام، وجاز أن يكون ابتداء خطاب من الله.
* * *
(فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
* * *
(فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ)، انفصل بهم عن بلده لقتال العمالقة، وكانوا ثمانين ألفًا، (قَالَ)، لهم طالوت، (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ): يعاملكم معاملة المختبر، (بنَهَرٍ): هو بين الأردن وفلسطين، (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ)، أي: شرب بفمه من النهر، (فَلَيْسَ(1/181)
مِنِّي): ليس من أشياعي فلا يصحبني، (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي)، من طعم الشيء، إذا ذاقه مأكولاً أو مشروبًا، (إلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)، استثناء منقطع من قوله فمن شرب، (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)، أي: وقع أكثرهم في النهر وكرعوا إلا قليلاً، أو أفرطوا إلا قليلاً، فإنه أيام الحر فكان من اغترف روي، ومن شرب منه لم يرو، والقليل ثلاث مائة وبضعة عشر، أو أربعة آلاف من ثمانين ألفًا، (فَلَمَّا جَاوَزَهُ)، أي: النهر، (هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)، أي: القليل الذي لم يخالفوه، (قَالُوا): بعضهم لبعض، أو ضمير قالوا للذين خالفوا وشربوا، (لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِِهِ): لكثرتهم وقلتنا، (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ): يعلمون، (أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ): تيقنوا لقاءه وثوابه، وهم العلماء من القليل، ومن قال ضمير قالوا للذين خالفوا، يقول: المراد من الذين يظنون، هم القليل بجملتهم، فهم والكثيرون تقاولوا بذلك والنهر بينهما، (كَمْ مِنْ فِئَةٍ): فرقة، وكم خبرية، أو استفهامية، ومن زائدة أو مبينة، (قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ): بحكمه وأمره، (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ): بالنصر والإثابة، (وَلَمَّا بَرَزُوا): ظهروا ودنوا، (لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ): أصبب وأنزل، (عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا): بتقوية قلوبنا، (وَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكافِرِينَ فَهَزَمُوهُم): كسروهم، (بِإِذْنِ اللهِ): بقضائه ونصره، (وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ)، كان في عسكر طالوت، وقد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشركه في أمره ونعمته، فوفى بوعده، ثم آل الأمر إلى داود، (وَآتاهُ اللهُ الُملْكَ): ملك بني إسرائيل، (وَالْحِكْمَةَ): النبوة، (وَعَلَّمَه مِمَّا يَشَاءُ)، من صنعة الدروع ومنطق الطير، (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ)،(1/182)
كما دفع العمالقة بجنود طالوت، (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ): بغلبة الكفار، أو بشؤمهم، (وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ): فيدفع عنهم ببعضهم بعضًا، (تِلْكَ)، إشارة إلى حديث الألوف، والتابوت، وطالوت وجالوت، (آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ): بالوجه المطابق، (وَإِنَّكَ): يا محمد، (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ): ومنها يعلم رسالتك، حيث تخبر بها عن تلك المغيبات من غير أن تقرأ وتسمع، أو إنك منهم، فلابد أن تصبر كما صبروا، (تِلْكَ الرُّسُلُ): المذكورة قصصهم، أو اللام للاستغراق، (فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، بأن خصصناه بمنقبة، وإن استووا في(1/183)
القيام بالرسالة، (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) هو موسى كلمه في الطور، قيل: هو ومحمد عليهما الصلاة والسلام كلمه ليلة المعراج، (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)، أي: محمدًا عليه الصلاة والسلام، فخواصه أكثر، وأبهمه لأنه متعين الرجحان، وقيل: إبراهيم، وقيل: إدريس، وقيل أولو العزم، (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ): الحجج القواطع، خصه بالذكر لإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه، (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ): جبريل عليه السلام، كان يسير معه حيث سار، (وَلَوْ شَاءَ اللهُ)، هداية الناس واتفاقهم، (مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ): من بعد(1/184)
الرسل، فلا يختلفون في الدين، ولا يكفر بعضهم بعضًا، (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ): الواضحات، (وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ): ثبت على الإيمان بتوفيقه، (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ): كالنصارى، صاروا فرقًا وتحاربوا، (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا)، كرره تأكيدًا ليعلم كل أحد أنه من عند الله لا من عند أنفسهم، (وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) فيوفق بعضا فضلاً، ويخذل بعضهم عدلاً.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
* * *
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ)، أراد الزكاة المفروضة، أو الإنفاق في سبيل الخير مطلقًا، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ)، فتحصلون ما تنفقونه،(1/185)
أو تفتدون به من العذاب، (وَلَا خُلَّةٌ)، حتى يعينكم، " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " [الزخرف: 67]، (وَلَا شَفَاعَةٌ)، حتى تتكلوا على شفعاء، إلا لمن أذن له الرحمن ورضى له قولاً، (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، قيل: وُضع الكافرون موضع التاركين للزكاة (1) تغليظًا، ويمكن أن يكون المراد منه: والكافرون هم الذين يضعون الأشياء غير موضعها، فلا تكونوا أيها المؤمنون مثلهم، في ألا تنفقوا، فتضعوا أموالكم غير موضعها، (اللهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ): هو المتفرد بالألوهية للكائنات، (الحَي): في نفسه لا يموت أبدًا، (القيوم): دائم القيام بتدبير الخلق، (لاَ تَأخُذُهُ سِنَةٌ): فتور يتقدم النوم، أي: لا تأخذه سنة بلا نوم، (وَلاَ نَوْمٌ): فلا يستغني ذكر أحدهما عن الآخر، وفي تقديم السّنة مراعاة ترتيب الوجود، وهو كالمبين للحي القيوم، (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ): ملكًا وخلقًا، تقرير لقيوميته، وتفرده بالألوهية، (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)، بيان
___________
(1) في الأصل " التاركون للزكاة ".(1/186)
لعظمته وجلاله، ونفي لزعم الكفار أن الأصنام شفعاء، (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِم): ما قبلهم، أو أمور الدنيا، أو ما يعلمون، أو ما حضر عندهم، والضمير لما في السَّمَاوَات وما في الأرض، فإن فيهم العقلاء، (وَمَا خَلْفَهُمْ)، ما بعدهم، أو أمور الآخرة، أو ما لا يعلمون، أو ما غاب عنهم، (وَلاَ يُحِيطُونَ بشَيْءٍ منْ عِلْمِهِ): مْن معلوماته، (إِلا بمَا شَاءَ): أن يعلموا، (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)، الكرسي: العلم، أو الكرسي المشهور وهو يدل على عظمته، وقيل: هو الملك(1/187)
والسلطنة، (وَلَا يَئُودُهُ)، لا يثقله (1)، (حِفْظُهُمَا): السَّمَاوَات والأرض، والإضافة إلى المفعول، (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ): ذاتًا وقدرًا وقهرًا، المتعالي عن الأنداد،
__________
(1) في الأصل " لا يثقلها ".(1/189)
(الْعَظِيمُ): كل شيء دونه حقير، (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، نزلت في رجل مسلم له ابنان نصرانيان أراد إكراههما لدخولهما في الإسلام، فالحكم خاص بأهل الكتاب، أو منسوخ بآية القتال، وهو خبر بمعنى الأمر، وقيل: خبر حقيقة، إذ الإكراه إلزام الغير فعلاً لا يرى فيه خيرًا، لكن قد تميز الإيمان من الكفر بالحجج والآيات، فلا يحتاج إلى الإكراه، ولهذا قال: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ): بالشيطان، (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ): طلب الإمساك من نفسه أو تمسك، (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى): من الحبل الوثيق المحكم، (لاَ انفِصَامَ لَهَا): المأمون من الإنقطاع، وهو الإيمان، (وَاللهُ سَمِيعٌ): بالأقوال، (عَلِيمٌ): بالنيات، (الله وَلِيُّ الذِينَ آمَنُوا): ناصرهم، ومتولي أمورهم، (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ): الجهل، وهو أجناس كثيرة، (إِلَى النُّورِ): الهدى والعلم، وهو واحد، والجملة خبر بعد خبر أو حال، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ): الشياطين يتولون أمورهم ويزينون الجهل لهم، (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ): الفطري، أو لما كان سببًا لعدم إيمانهم كأنه أخرجهم، (إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، وعيد وتحذير.
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ(1/190)
فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ): جادل، تعجيب من حماقة نمرود، (إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ)، أي: لأن آتاه، يعني: بطر الملك حمله على ذلك، (إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ)، ظرف لـ (حَاجَّ)، (ربيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)، أي: الدليل على وجوده حدوث الأشياء بعد عدمها، وعدمها بعد وجودها، فإنه يدل على وجود فاعل مختار، (قَالَ): الذي حاج، (أَنَا أُحْيِي وأُمِيتُ): بالعفو عن القتل والقتل، أو(1/191)
قاله عنادًا ومكابرة، وأوهم أنه الفاعل لذلك، وهذا القول أظهر، (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ)، أي: إذا كنت كما ادعيت من الإماتة والإحياء فمن هذا صفته هو المتصرف في الوجود، في خلق ذواته وتسخير الكواكب وحركاتها، وهذه الكواكب تبدو كل يوم من المشرق، فإن كنت إلهًا تحيي وتميت فأت بها من المغرب!، (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ): أخرس في هذا المقام، وصار مبهوتًا مغلوبًا، (وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ): الذين ظلموا أنفسهم بالاتباع عن الحق، قيل: لا يهديهم محجة الاحتجاج، (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ)، الأول في قوة قوله: أرأيت مثل الذي حاج، فعطف عليه بقوله: " أو كالذي "، وقيل: الكاف مزيدة والمار عزير، أو الخضر، أما القرية فالمشهور أنها
بيت المقدس، حين خربه بختنصر، (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشهَا): ساقطة على سقوفها، أي: خرت سقوفها ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، أو من خوى إذا خلا، أي: خالية مع سلامة عروشها، (قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا): استبعادًا لتعميرها بعد شدة خرابها، والظاهر أن المراد به أهل القرية، فيكون استعظامًا لإحيائها، (فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ)، أي: فألبثه ميتًا مائة عام، أراه آية في نفسه، (ثُمَّ بَعَثَهُ): بالإحياء، (قَالَ): الله له بواسطة ملك، أو بلا واسطة، (كَمْ لَبِثْتَ(1/192)
قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، كقول الظان، (قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ)، ذُكر أن معه عنبًا وتينًا وعصيرا، فالطعام الأولان، والشراب الأخير، (لَمْ يَتَسَنَّهْ): لم يتغير لا العنب والتين تعفنا، ولا العصير استحال، أفرد الضمير، لأنهما كجنس واحد، (وَانظُرْ إلَى حِمَارِكَ)، كيف تفتت عظامه، حتى تعلم مكثك مائة سنة، (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ)، أي: وفعلنا ذلك لنجعلك، وقيل عطف على مقدر، أي: فعلنا ذلك ليزداد بصيرتك ولنجعلك، قيل: كان هو أسود الشعر وبنو بنيه شيب، (وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ): عظام الحمار، (كَيْفَ نُنشِزُهَا): نحييها، أو نرفعها، فنركب بعضها على بعض، والجملة حال من العظام، وكيف منصوب بـ ننشزها، (ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ): ما أشكل عليه، قيل: تقديره لما تبين له أن الله على كل شيء قدير، (قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، ففاعل تبين مضمر يفسره ما بعده، أي: صار العلم عينيًّا بعدما كان غيبيًّا، (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى)، ذكروا لسؤاله أسبابًا منها، أنه لما قال لنمورد: ربي الذي يحيي ويميت، أحب أن يترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، ومنها أنه رأى جيفة أكلتها السباع والطيور فسأل، (قَالَ): الله، (أَوَلَمْ تُؤْمِن): بأني قادر على الإحياء، قال له ذلك ليجيب بما أجاب، فيعلم الناس غرضه، أي: أتنكر ولم تؤمن؟، (قالَ بَلَى)، آمنت، (وَلَكِن)، سألت، (ليَطْمَئِنَّ قلبي)، بالمعاينة، (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ)، اختلفوا في أنها ما هي، قيل: غرنوق وطاوس وديك وحمامة، (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ)، أي: قطعهن منضمات إليك، أو اضممهن إليك لتعرف شأنها لئلا تلتبس عليك بعد الإحياء، (ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ): من الجبال التي بحضرتك، وكانت أربعة أو سبعة، (مِنْهُنَّ(1/193)
جُزْءًا)، تقديره على المعنى الثاني: فصرهن وجزّئهن، ثم اجعل إلخ، (ثُمَّ ادْعُهُنَّ): قل تعالين، (يَأْتِينَكَ سَعْيًا): ساعيات مسرعات، أمر بخلط ريشها ولحومها ففعل، وأمسك رؤوسها ثم دعاهن فجعلت أجزاءهن يطير بعضها ببعض، حتى اتصلت ثم أسرعن إلى رءوسهن، (وَاعْلَمْ أَنْ الله عَزِيزٌ): لا يعجزه شيء، (حَكِيمٌ): في تدبيره.
* * *
(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
* * *(1/194)
(مَثلُ الذِينَ يُنفِقُونَ أَموالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ): في طاعته أو الجهاد أو هو والحج، (كَمَثَلِ حَبَّةٍ) حث على الخير بعد أدلة التوحيد، وتقديره: مثل نفقتهم كمثل، أو مثلهم كمثل باذر حبة، (أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) أي: يخرج منها ساق له سبع شعب لكل منها سنبلة فيها مائة حبة، وهذا تمثيل لا يجب وجوده (وَاللهُ يُضَاعِفُ): تلك المضاعفة، أو على تلك المصاعفة ويزيد عليها (لِمَن يَشَاءُ)، بحسب الإخلاص (وَاللهُ وَاسِعٌ): لا يضيق عليه الإنفاق (عَلِيمٌ): بقدر الإنفاق ونياتهم (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا): لا بقول ولا بفعل على من أعطوه (وَلاَ أَذًى): لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها، ثم للتفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى (لهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ ربهِمْ): بلا منة أحد (وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ): من أهوال القيامة، (وَلاَ هُمْ يَحْزنونَ)، على ما فات منهم، (قوْلٌ معْرُوفٌ): كلام(1/195)
حسن ورد جميل، (وَمَغْفِرَةٌ): عفو عن ظلم، أو تجاوز عن استطالة السائل، (خَيْرٌ مِّن صَدَقَة يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌ)؛ عن إنفاق كل منفق، (حَليمٌ): لا يعجل في العقوبة، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا)، ثواب (صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ)، أي: كإبطال المنافق الذي ينفق، (رِئَاءَ النَّاسِ)، نصب على المفعول له أي: كمن يتصدق لأجل مدحة الناس وشهرته بالصفات الجميلة، مظهرًا أنه يريد وجه الله، (وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ) أي: مثل المرائي، أو مثل من أتبع إنفاقه منًّا أو أذى، (كَمَثَلِ صَفْوَانٍ): حجر أملس، (عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ): مطر كبير القطر، (فَتَرَكَهُ صَلْدًا): أملس نقيًّا من التراب، كذلك أعمال المرائين تضمحل عند الله، وإن ظهر لهم أعمال مما يرى الناس
كالتراب (لا يَقْدِرُون)، الضمير للذي ينفق، باعتبار المعنى فإنهم كثيرون (عَلَى شَيْءٍ مما كسَبوا)، لا ينتفعون بما فعلوا (وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافرِينَ)، الخير وفيه إيماء إلى أن الرياء من صفة الكفار، فعلى المؤمن أن يحذر عنها (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ): تصديقًا وتيقنًا من أصل أنفسهم أن الله سيجزيهم على ذلك، أو يثبتون أين يضعون صدقاتهم (كَمَثَلِ جَنَّةٍ)، أي: مثلهم في الزكاة (1) كمثل بستان، (بِرَبْوَةٍ): بموضع مرتفع،
__________
(1) في الأصل " الزكاء ".(1/196)
زاد ابن عباس والضحاك: فيها الأنهار (أَصَابَهَا وَابِلٌ): مطر شديد (فَئَاتَتْ): أعطت، (أُكُلَهَا): ثمرتها، (ضِعْفَيْنِ)، بالنسبة إلى غيرها من البساتين (فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ) أي: فيصيبها طل وهو المطر الصغير القطر، يعني: نفقاتهم زاكية عند الله، وإن كانت تتفاوت بسبب أحوالهم، كما أن الجنة تثمر قَلَّ المطر أو كَثُرَ، أو يضعف ثواب صدقاتهم قلَّت النفقة أو كثرت (وَاللهُ بما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، تحذير عن الرياء وترغيب في الإخلاص (أَيَوَدُّ)، الهمزة للإنكارَ (أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)، هما لما كان أشرف وأنفع الأشجار جعل الجنة منهما تغليبًا لهما، ثم ذكر سائر الأشجار ليدل على التغليب (وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ): كبر السن، فإن الفقر فيه أصعب، والواو للحال بتقدير: قد (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ): صغار ونسوان (فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ): ريح عاصف (فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ)، فصار أحوج ما كان إليها عند الشيخوخة وكثرة ضعاف الأولاد، والمثل لرجل غني يعمل بطاعة الله، ثم نكص على عقبيه فعمل آخر عمره بالمعاصي، حتى أغرق أعماله، أو للمنافق والمرائي(1/197)
فإنهم إذا ماتوا واحتاجوا غاية الاحتياج إلى أعمالهم، فقدوها بمرة، (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)، لكي تتفكروا فتعتبروا.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)(1/198)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا): تصدقوا، (مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ): حلاله وخياره (وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ)، أي: من طيبات ما أخرجنا من الحبوب والثمار والمعادن، (وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ): لا تقصدوا الرديء، (مِنْه تُنفقُون)، حال من الفاعل، أو من المفعول، ومنه متعلق به، والضمير للخبيث، أي تخصونه بالإنفاق، أو منه حال من الخبيث، والضمير للمال، كانت الأنصار يعلقون أقناء البسر على حبل في مسجد المدينة للفقراء، فتعمد الرجل منهم إلى الحشف، فأدخله مع أقناء البسر، فأنزل الله فيمن فعله " ولا تيمموا " إلخ، (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ)، أي: والحال أنكم لا تأخذونه في حقوقكم، إلا(1/199)
بإغماض بصر ومساهلة، فلا تجوزوا في حق الله ما لا تجوزون في حقوقكم، عن ابن عباس رضي الله عنهما معناه: لو كان لكم على أحد حق، فجاء بحق دون حقكم، لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ)، عن إنفاقكم (حَمِيدٌ)، بقبوده وإثابته، (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ): يخوفكم الفقر لتبخلوا ولا تنفقوا في مرضات الله، (وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ): بالبخل، أو المعاصي مطلقًا، (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ)، الوعد للخير والشر، أي: يعدكم جزاء إنفاقكم مغفرة ذنوبكم، (وَفَضْلًا)، خلفًا أفضل مما أنفقتم (وَاللهُ وَاسِعٌ): واسع الفضل (عَلِيمٌ): بالإنفاق، (يُؤْتِي الحِكْمَةَ): تفسير القرآن، أو الإصابة في القول، أو خشية الله، أو الفهم، أو السنة، أو الفقه في الدين، أو العقل، أو النبوة، (مَن يَشَاءُ)، مفعول أول، (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)، فِي الحديث " لا حسد إلا في(1/200)
اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها "، (وَمَا يَذّكرُ): ما يتعظ بالآيات، (إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ): ذوو العقول، (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نفَقَةٍ)، قليلة أو كثيرة، حق أو باطل (أَوْ نَذَرْتُم مِّن نذْرِ)، في طاعة، أو معصية (فإن الله يَعْلَمُهُ)، فيجازيكم عليه (وَمَا لِلظَّالِمِينَ): الذين يضعون المال في غير موضعه، (مِنْ أَنْصَارٍ): ينصرونهم ويمنعونهم من العقوبة، (إِن تُبْدُوا الصدقَات فَنِعِمَّا هِيَ): إن أظهرتموها فنعم شيئًا إبداؤها (وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ)، تعطوها مع إخفائها، (فَهُوَ)، أي: إخفاؤها، (حيْرٌ لكُمْ)، والآية عامة في كل صدقة، لكن عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن السر في التطوع أفضل من العلانية بسبعين ضعفًا، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل بخمسة وعشرين ضعفًا، (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ) أي: الله، أو الإخفاء، ومن قرأ مجزومًا فهو عطف على محل جواب الشرط (مِّن سَيِّئَاتِكُمْ)، " من " للتبعيض، أو لتبيين الجنس، أي يكفر شيئًا، هو السيئات (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)، ترغيب في الإخفاء (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَن يَشَاءُ) أي لا يجب عليك جعل الناس مهديين، فإنه ليس في يدك وقدرتك، ولكن الهداية من الله، (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ) أي: ثوابه، فلا تمنوا على أحد، (وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ)، الواو حال، أو عطف، يعني: المؤمن لا ينفق إلا لمرضات الله،(1/201)
وقيل: نفي في معنى النهي، قال عطاء الخراساني: معناه: إذا أعطيت لوجه الله، فلا عليك ما كان عمله، فإنك مثاب لنيتك، سواء كان السائل مستحقًا أو غيره، برًا أو فاجرًا (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَ إِلَيْكُمْ): ثوابه، (وَأَنتمْ لاَ تُظْلَمُونَ)، فلا ينقص ثواب صدقاتكم، " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بأن لا يتصدق إلا على المسلمين، حتى نزلت ليس عليك هداهم، فأمر بالصدقة بعدها على كل سائل من كل دين "، وهذا في التطوع، أما الواجب، فلا يجوز صرفه إلى الكافر (لِلْفُقَراءِ) أي: الصدقات لهم، وهم الأولى والأحق، وإن جاز صرفها إلى غيرهم كما علم من الآية الأولى (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ)، حبسوا أنفسهم في الجهاد، أو أصحاب الصفة، الذين انقطعوا بكليتهم إلى الله (لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ): ذهابًا فيها للتجارة لاشتغالهم بالجهاد، أو بالله (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ) بحالهم، (أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) من أجل(1/202)
تعففهم عن السؤال، (تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ) من التخشع وأثر الجهد والصفاء، (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) أي: إن سألوا عن ضرورة لم يلحوا في السؤال، (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)، ترغيب في الإنفاق سيما على من تعرفه بسيماه.
* * *
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
* * *(1/203)
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً) أي: يعُمُّون الأحوال بالخير، نزلت في ربط الخيل يعلفونها دائماً في سبيل الله، أو في علي بن أبي طالب - رضى الله عنه - كان له أربعة دراهم فتصدق درهمًا ليلاً، ودرهمًا نهارًا، ودرهمًا سرًا، ودرهمًا علانية، (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ ربِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في القيامة، (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ): على ما فات عنهم، قال تعالى: " لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ " [الأنبياء: 103]، (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا) لما ذكر الأبرار المخرجين للصدقات، شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالظلم، وعبر عن الأخذ بالأكل، لأن الأكل أعظم المنافع، والربا شائع في المطعومات، (لَا يَقُومُونَ) من قبورهم، (إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ) أي: إلا قيامًا كقيام المصروع، (مِنَ الْمَسِّ)، أي: الجنون، وهو متعلق بـ لا يقومون، أو بيقوم، وفي الحديث " مر عليه(1/204)
السلام ليلة الإسراء على قوم بطونهم كالبيوت، وأخبر أنَّهم أكلة الربا "، (ذَلِكَ) أي: العقاب، (بِأنهُمْ): بسبب أنَّهم، (قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا): اعترضوا على أحكام الله، وقالوا: البيع مثل الربا، وإذا كان الربا حرامًا فلا بد أن يكون البيع كذلك، (وَأَحَل اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الربا) يحتمل أن يكون تتمة كلام المعترض المشرك، ويحتمل أن يكون من كلام الله ردًّا عليهم، أي: اعترضوا، والحال أن الله فرق بين هذا وهذا، وهو الحكيم العليم، (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ): بلغه وعظ من الله، (فَانْتَهَى): فاتعظ وتبع النهي حال وصول الشرع إليه، (فَلَهُ مَا سَلَفَ) من المعاملة، أي: له ما كان أكل من الربا زمن الجاهلية، (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ): يحكم يوم القيامة بينهم، وليس من أمره إليكم شيء، (وَمَنْ عَادَ) إلى(1/205)
تحليله وأكله، (فأوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) لكفرهم، (يَمْحَقُ اللهُ الربا): يذهب بركته، فلا ينتفع في الدنيا والآخرة؛، قد ورد: " ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة "، (وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ): يكثرها وينميها، وقد ورد " إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة، كما يربي أَحدكم فلوه أو فصيله حتى يكون مثل أحد "، (وَاللهُ لاَ يُحِبُّ): لا يرتضي، (كُلَّ كَفَّارٍ): مصر على تحليل الحرام (أَثِيمٍ): فاجر بارتكابه، (إِن الذِينَ آمَنُوا)، بما جاء من الله، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ) عطفهما على الأعم لشرفهما َ، (لَهُمْ أَجرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من آت، (وَلاَ هُمْ يَحْزنونَ) على فائت، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ(1/206)
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ): اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رأس المال بعد الإنذار، إن كنتم مؤمنين بشرع الله، كان بين ثقيف وبني مخزوم ربا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، طلبت ثقيف فتشاجروا فنزلت، (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) ولم تذروا ما بقي من الربا، (فَأْذَنوا): فاعلموا، (بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ)، يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، أو لابد للإمام أن يستتيبهم، فإن تابوا وإلا وضع فيهم الحرب والسلاح، (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ) بأخذ الزيادة، (وَلَا تُظْلَمُونَ) بوضع رءوس الأموال، وقيل فهم منه أن المصر، أي: على التحليل ليس له رأس ماله، لأنه مرتد وماله فيء، (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ): وقع غريم ذو عسرة، (فَنَظِرَةٌ) أي: فعيكم تأخير، (إِلَى مَيْسَرَةٍ): يسار، لا كفعل الجاهلية إذا حل الدين، يطالب إما بالقضاء وإما بالربا، (وَأَنْ تَصَدَّقُوا) بإبراء رأس المال، (خَيْرٌ لَكُمْ): أكثر ثوابًا، وقيل: خير مما تأخذونه، (إِنْ كُنتُم تَعْلَمُونَ) ما فيه من الأجر، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ): يوم القيامة، أو يوم الموت، (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ) أي: جزاء ما عملت، (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب وهذه آخر آية نزلت من القرآن، عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها تسع ليال، أو واحد وثلاثين يومًا.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ(1/207)
فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)، أي: تعاملتم بمعاملات مؤجلة فاكتبوها، قال ابن عباس رضى الله عنهما: أنرلت في السلف، حرم الله الربا وأباح السلف، وهذا أمر إرشاد لا أمر إيجاب، وعن كثير من السلف: أن الأمر للوجوب، ولكن نسخ بقوله: " فإن أمن بعضكم بعضًا " (البقرة: 283)، (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ): بالسوية، لا يزيد ولا ينقص،(1/208)
(وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ) أي: لا يأب أن ينفع الناس بكتابته، كما نفعه الله بتعليمها، أو مثل ما علمه من كتابة الوثائق، قال عطاء ومجاهد: واجب على الكاتب أن يكتب، (فَلْيَكْتُبْ) أمر بما بعد النهي عن الإباء تأكيدًا، قيل: جاز أن يتعلق كما علمه الله به، فالنهي مطلق والأمر مقيد، (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ): الإملال والإملاء واحد، أي: وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين، (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا) أمر بأن يقر بمبلغ المال من غير نقصان، (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا): محجورًا عليه بتبذير ونحوه، (أَوْ ضَعِيفًا): صبيًا، أو مجنونًا، (أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) بخرس، أو جهل باللغة، (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ): الذي يلي أمره، من وكيل، أو قسيم، أو مترجم، (بِالْعَدْلِ): بالصدق، (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ)، اطلبوا شاهدين، أن يشهدوا على الدين، (مِن رِّجَالِكُمْ): رجال المسلمين، (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ) أي: إن لم يكن الشهيدان رجلين، (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) أي: فالمستشهد رجل وامرأتان، وهذا مخصوص بالأموال عند الشافعي، وبما عدا الحدود والقصاص عند أبي حنيفة، (مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) لعلمكم بعدالتهم، (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) أي: إن نسيت إحدى المرأتين الشهادة، ذكرتها الأخرى، فهو علة اعتبار العدد، والعلة في الحقيقة التذكير، ولما كان الضلال سببًا له نزل منزلته، (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) لأداء الشهادة، وعند بعض معناه: إذا دعوا للتحمل، وحينئذ تسميتهم شهداء باعتبار المشارفة، وما زائدة ومنه علم أن تحمل(1/209)
الشهادة فرض كفاية، (وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ) أي: لا تملوا، ولا تمنعكم الملالة أن تكتبوا الحق، (صَغِيرًا أَوْ كبِيرًا): قليلاً كان الحق أو كثيرًا، (إِلَى أَجَلِهِ): إلى وقت حلوله، (ذلِكُمْ) إشارة إلى أن تكتبوه، (أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ): أعدل، (وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ): أثبت لها، وهما مبنيان من أقسط وأقام على مذهب سيبويه، (وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا) أي: أقرب في ألا تشكوا، لأن ترجعوا بعد الشك في كتابتكم، (إِلا أَن تَكُونَ) التجارة، (تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا) استثناء من الأمر بالكتابة، وإدارتها بينهم: تعاطيهم إياها، يداً بيد، ومن قرأ: (تِجَارَةٌ) بالرفع فعنده كان تامة، أو تديرونها خبر كان، (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) مطلقًا مؤجلاً، أو معجلاً، وهذا الأمر محمول على الندب، وعند الشعبي والحسن للوجوب لكن نسخ، (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) نهي عن الضرار بهما، مثل أن يكلفا ترك حاجاتهم ومهامهم ولا يعطى جعل(1/210)
الكاتب، وعلى هذا يضار مبني للمفعول، أو معناه فيهما عن الضرار بزيادة ونقصان، وتحريف وتغيير، فعلى هذا يكون مبنيًا للفاعل، (وَإِنْ تَفْعَلُوا) ما نهيتم عنه، (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) أي: لاحق لازم بكم، (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة أمره، (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) أحكامه وشرائعه، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ) تكرار لفظ الله في الجمل الثلاث لاستقلال كل منها، ولأنه أدخل في التعظيم، (وَإِنْ كنتُمْ عَلَى سَفَرٍ) أي: مسافرين، (وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا) يكتب لكم، (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) أي: فليؤخذ بدل الكتابة، رهان مقبوضة في يد صاحب الحق، وعند بعض السلف أن الرهن لا يجوز إلا في السفر، والحديث يرده، (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا): بعض الدائنين بعض المديونين، (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) سمى الدَّين أمانة لائتمانه عليه بترك الإرتهان منه، (وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ) في الخيانة، (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) قلبه فاعل آثم، أو مبتدأ، وآثِمٌ خبره، والجملة خبر إن، وإسناده إليه للمبالغة، كقوله: هذا مما عرفه قلبي، ولئلا يظن أنه من آثام اللسان، بل من آثام القلب، الذي هو أشرف الأعضاء، قال ابن عباس(1/211)
رضى الله عنهما: كتمانها من أكبر الكبائر، (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) تهديد ووعيد.
* * *
(لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
* * *
(لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) خلقًا وملكًا، (وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفوهُ): ما خطر ببالكم من السوء، (يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ) في(1/212)
الآخرة، لما نزلت غمت الصحابة " فقالوا هلكنا، فقلوبنا ليست بأيدينا، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قولوا سعنا وأطعنا، فقالوها " فنزلت " آمن الرسول " إلى " عليها ما اكتسبت " فنسختها، وتجاوز لهم عن حديث النفس وصرح بنسخها أكثر السلف، وبعضهم صرحوا بعدم نسخها، وقالوا: يخبرهم الله يوم القيامة بما أخفوا في أنفسهم، فيغفر للمؤمنين، ويؤاخذ أهل الشك والنفاق، فمعنى المحاسبة: الإخبار، وعن عائشة رضى الله عنها " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين سألت عن الآية: هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه الله من الحمى والنكبة، حتى البضاعة يضعها في يد قميصه فيفقدها، فيفزع لها، حتى أن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير "، فعلى هذا المحاسبة المؤاخذة، لكن المحاسبة إما في الدنيا، وإما في الآخرة، (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ) مغفرته، (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) تعذيبه، (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من المحاسبة وغيرها، (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) وجه نزول الآية قد ذكرناه وهو أنهم قالوا: " سمعنا وأطعنا " لا كما قال أهل الكتاب: " سمعنا وعصينا " (البقرة: 93) قوله: " والمؤمنون " عطف على الرسول، (كُل): من الرسول والمؤمنين، (آمَنَ بِاللهِ وَمَلاِئكَتهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) يقولون، (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) في الإيمان بهم، ولا نقول: " نؤمن ببعض ونكفر ببعض " [النساء: 150]، (وَقَالُوا سَمِعنا)، قول الله، (وَأَطَعْنَا) أمره، نسأل، أو اغفر،(1/213)
(غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ): المرجع بعد الموت، (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ما يسعه قدرتها ويتسع فيه طوقها، لا ما لا يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها، (لَهَا مَا كَسَبَتْ): من خير، (وَعَلَيْهَا مَا اكْتسَبَتْ): من شر، ولما كان الشر مما تشتهيه النفس، وهي أَجَدُّ واعْمَلُ فيه، جعلت لذلك مكتسبة فيه بخلاف الخير، فإنها لما لم تكن فيه كذلك وصفت بما ليس فيه الاعتمال، فقال: كسبت، (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) سألوا الله التجاوز عنهما فأجاب، ففي الحديث " وضع عن أمتي الخطأ والنسيان "، وأما دعاؤنا حينئذ بهما، فيمكن أن يكون لإدامة الوعد، وأن يجعلنا ممن وعد له التجاوز عنهما، (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا): تكاليف شاقة، تأصر صاحبه: تحبسه في مكانه، وإن أطقناها، (كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَ)، مثل الذي حَمَّلْتَهُ إياهم فيكون صفة إصرا وهو التكاليف الشاقة وما أصابهم من المحن، (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ):(1/214)
من المصائب، والتشديد هاهنا لتعديته إلى مفعول ثان، (وَاعْفُ عَنَّا): امح عنا ذنوبنا، (وَاغْفِرْ لَنَا): واستر لنا عيوبنا، (وَارْحَمْنَا) في الدنيا، فلا توقعنا في ذنب (1) آخر، (أَنْتَ مَوْلانَا): ولينا وناصرنا، (فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، وفي الحديث: " في آخر كل دعوة من هذه الدعوات، قال الله تعالى: فعلت ونعم "، وفي الحديث، " فضلنا على الناس بثلاث: أوتيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة من بيت تحت العرش، لم يعطها أحد قبلي ولم يعطها أحد بعدي.
والحمد لله حقَّ حمده.
___________
(1) عن بعض السلف، الذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء: أن يعفو الله عنه، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره/ 12 منه.(1/215)
سورة آل عمران
وآياتها مائتان وركوعاتها عشرون
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الم (1) اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
* * *
(الم) قد مر تفسيرها، فلا نعيده (اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) المتفرد بالألوهية(1/216)
(الحَيُّ) الذي يصح أن يعلم أو يقدر (القيوم) دائم الحفظ للكائنات (نَزَّلَ عَلَيْكَ(1/217)
الْكِتَابَ): القرآن. (بِالْحَقِّ): بالصدق، أو بالعدل؛ وهو حال (مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيه) من الكتب أنه من عند الله (وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ) على موسى (وَالإِنجِيلَ) على عيسى (من قَبْلُ) من قبل تنزيل القرآن (هُدًى لِّلنَّاسِ) في زمانهما (وَأَنزَلَ الفُرْقَان) الفارق بين الحق والباطل، وهو جنس الكتب الإلهية عَمَّ بعد ما خص ذكر الثلاثة، أو القرآن كرر ذكره بوصفه تعظيمًا له (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) يوم القيامة (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب لا يغلب (ذُو انْتِقَامٍ) عقوبة على من خالف الرسل (إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) قيده(1/218)
بهما، إذ الحس لا يتجاوز عنهما (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ) من الصور المتنوعة (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ) الغالب في الأمور (الحَكِيمُ) في الأفعال (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) القرآن (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ)(1/219)
واضحات الدلالة (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) أصله يرد إلِيها غيرها، وهن ناسخ القرآن، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه، وما يؤمن به، ويعمل به أو قوله: " قل تعالوا "، والآيتان بعدها، وقوله: " وقضى ربك " (الإسراء: 23)، إلى ثلاث آيات بعدها، والآيات كلها في تكاملها كآية واحدة، أو كل واحدة منهن أم الكتاب.(1/220)
(وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) فيها اشتباه في الدلالة لكثير من الناس إلا للمهرة من العلماء، وهذا يظهر فضلهم، وهن المنسوخة، والمقدم والمؤخر منه، والأمثال والأقسام، وما يؤمن به ولا يعمل به، أو الحروف التي فِي أوائل السور (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) عدول عن الحق، كاليهود، وقالت: الحروف المقطعة بيان مدة أجل هذه الأمة (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) يتعلقون به لينزلوه على مقاصدهم الفاسدة، وأما المحكم فتركوه لأنه لا نصيب لهم فيه. (ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ): الإضلال. (وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) على ما يشتهونه أو بطلب حقيقته وما يئول أمره إليه. (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) أي ما هو(1/221)
الحق، أو حقيقته. (إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) اختلفوا في الوقف على " الله " عند أكثر السلف أن تأويل بعض الآيات لا يعلمه أحد إلا الله، ومن القراء من يقف على قوله: " والراسخون في العلم "، وهو قول مجاهد وربيع بن أنس، وروي عن ابن عباس أنه قال: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله. (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) خبر الراسخون إن جعلته مبتدأ، وإلا فهو استئناف أو حال. (كُلٌّ): من المتشابه، والمحكم. (مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) وما يتعظ بالقرآن ولا يفهمه إلا ذوو العقول السليمة، وفي الحديث حين سئل عن الراسخين: " من برت يمينه وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه فذلك من الراسخين في العلم ".
(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا): من مقال الراسخين أي: لا تملها عن الحق إلى اتباع لمتشابه بتأويل غير مراد الله. (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا): إلى الإيمان بالمحكم، والمتشابه. (وهَبْ لَنَا(1/222)
من لدنك رحمة) تثبت بها قلوبنا (إنك أنت الوهاب): بكل سؤل. (ربنا إنك جامع الناس ليوم): لجزاء يوم أو في يوم. (لا ريب فيه): في وقوعه. (إن الله لا يخلف الميعاد).
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ(1/223)
وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
* * *
(إِن الذِينَ كفرُوا) بمحمد (صلى الله عليه وسلم) أو المراد يهود قريظة والنضير.(1/224)
(لَن تُغنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا) أي: لا يدفع عنهم شيئًا من عذاب الله أو ما أجزأ عنهم وما كفاهم من رحمة الله شيئًا من الإجزاء على أن يكون شيئًا مصدرًا. (وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ): حطبها.
(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) متعلق بـ لن تغني أي: لن تغني عنهم كشأن آل فرعون يعني: مثل ما لم تغن عنهم، أو استئناف أي: صنيعهم وسنتهم كصنيع آل فرعون. (وَالذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) عطف على آل فرعون. (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا): حال بإضمار قد أو استئناف، وقيل: الذين من قبلهم مبتدأ وكَذَّبُوا خبره (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) تهويل وتشديد للمؤاخذة.
(قُل): يَا محمد. (للذِينَ كفَرُوا سَتُغلَبُونَ): في الدنيا. (وتحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ) جهنم وهو استئناف أو تمام ما يقال لهم لما رجع (رسول الله صلى الله عليه وسلم) من بدر حذر اليهود أن ينزل عليهم ما نزل على قريش، فقالوا: لا يغرنك أن قتلت أغمارًا لا يعرفون القتال ولو قاتلتنا لعرفت الناس فنزلت إلى قوله: " لعبرة لأولى الأبصار "، وقيل: الخطاب لقريش.
(قَدْ كَانَ لَكُمْ): أيها اليهود وقيل: أيها المشركون والمؤمنون. (آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا): يوم بدر. (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ(1/225)
يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) الجملة حال، وتقاتل خبر لـ فئة أو صفة لها، والجملة خبرها أي: يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثلي عدد المسلمين أو المشركين، ليحصل لهم الرعب، والمسلمون كانوا ثلاث مائة وبضعة عشر، وهم ما بين تسع مائة إلى ألف، وهذا في أول الأمر وأما في حال القتال فكل من المسلمين والكافرين قللوا الآخر كما قال تعالى: " وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ " (الأنفال: 43)، إلخ. لتقدموا عليهم، ويقضي الله أمرًا كان مفعولاً أو يرى المسلمون الكافرين مثلي عدد المسلمين مع أنَّهم أكثر ليقوى قلوبهم بوعد الله، وهو قوله: " فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ " [الأنفال: 66]. أو مثلي عدد المشركين ليتوكلوا أو يطلبوا الإعانة من الله، وحين القتال قللهم الله في أعينهم حتى سأل بعض المسلمين بعضهم: هل تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. (رَأْيَ العَيْنِ): رؤية ظاهرة معاينة. (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ): نصره (إِنَّ فِي ذلِكَ): أي: التقليل والتكثير وغلبة القليل عليهم.
(لَعِبْرَةً): عظة. (لأُوْلِي الأَبْصَارِ): لذوى البصائر.(1/226)
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ) أي: المشتهيات سماها شهوات مبالغة. (مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ) القناطر المال الكثير. (الُمقَنطَرَةِ) ذكرت للتأكيد كبدرة مبدرة أو القنطار ألفا أوقية أو ألف دينار أو ألف ومائتا دينار، وقيل غيرها. (مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ): عطف على النساء. (الْمُسَوَّمَةِ): الراعية، والمطهمة الحسان أو الغرة والتحجيل وقيل غيرهما. (وَالأَنعَامِ) الإبل، والبقر، والغنم. (وَالْحَرْثِ ذلِكَ): إشارة إلى ما ذكر. (مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنيا): وهي فانية. (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) أي: المرجع والثواب وفيه تزهيد من الدنيا. (قلْ): يا محمد. (أَؤنَبِّئكمَ بِخَيْرٍ من ذَلِكمْ) أأخبر بخير مما زين للناس؟! (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا): الشرك. (عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا): من تحت أشجارها.
(الأَنهَار خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مطَهرَةٌ): من الحيض وسائر الدنس. (وَّرضْوَانٌ منَ(1/227)
اللهِ): فلا يسخط عليهم أبدًا. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) بأعمالهم وأحوالهم، فيعطيهم ما يستحقونه.
(الذينَ يَقُولُونَ): مرفوع أو منصوب بالمدح. (رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا): بإيماننا لك. (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). (الصَّابِرِينَ): على الشرع.
(وَالصَّادِقِينَ): في اللسان. (وَالْقَانِتِينَ): المطعين الخاضعين. (وَالْمُنفِقِينَ): من أموالهم في أموالهم في جهات الخير. (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) فإنها وقت الإجابة، أو المصلين، قيل: هو الذي يصلي الصبح بالجماعة (شَهِدَ(1/228)
اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ): بأن نصب أدلة التوحيد أو بين الله أو حكم الله (وَالْمَلاِئكَةُ وأُولو العِلْمِ) بالإقرار، وهذه مرتبة جليلة للعلماء. (قَائِماً بِالْقِسْطِ): بالعدل في أحكامه، وهو حال من الله. (لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ): كرره تأكيدًا، وليبنى عليه قوله (العَزِيزُ) فلا يرام جنابه عظمةً. (الحَكِيمُ) فلا يصدر عنه شيء إلا على وفق الاستقامة. (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلامُ) جملة مؤكدة للأولى أي: لا دين مقبول عنده سوى الإسلام، وهو اتباع سيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أوتُوا الكِتَابَ) مطلقًا(1/229)
أو اليهود في دين الإسلام بأنه حق أو باطل (إِلا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العِلْمُ): بحقية الإسلام. (بَغْيًا): حسدًا. (بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ) بما أنزلهِ في كتابه (فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) المجازاة.
(فَإِنْ حَاجُّوكَ): جادلوك في الدين، والتوحيد. (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ): أخلصت نفسي وعبادتي له. (وَمَنِ اتَّبَعَنِ): عطف على الضمير المتصل يعني: ديني دين التوحيد الذي ثبت عندكم أيضًا وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني. (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ): الذين لا كتاب لهم من العرب (أَأَسْلَمْتُمْ) لما وضحت الحجة لكم أم أنتم بعد على الكفر؟ وفي هذا النوع من السؤال تعيير لهم،(1/230)
وقيل: استفهام بمعنى الأمر (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا): أعرضوا. (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ): وقد بلغت وليس عليك هداهم. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ): وعد ووعيد.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ(1/231)
نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ) كأهل الكتاب كفروا بنعت محمد - صلى الله عليه وسلم - وآية الرجم. (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ): كبني إسرائيل قتلوا أربعين نبيًّا في ساعة من أول النهار وفعل آباؤهم فعلهم، وذلك لأن الأنبياء على طريقتهم راضون عن فعلهم. (بِغيرِ حَقٍّ): أي: عندهم أيضًا وإنما حملهم على ذلك اتباع الهوى.
(وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ): بالعدل (مِنَ النَّاسِ): قام مائة وسبعون رجلاً من بني إسرائيل أمروا على من قتل الأنبياء بالمعروف فقتلوا في آخر النهار.
(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) اعلم أن من لم يجوز الفاء في خبر إن قال: خبره " أولئك الذين " نحو قولك زيد فافهم رجل صالح.
(أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ): بطلت. (فِي الدُّنْيَا) لأنها لم تحقن دماءهم وأموالهم (وَالْآخِرَةِ): ما استحقوا ثوابًا (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ): ليدفعوا عنهم العذاب.(1/232)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ): كاليهود ومن للتبعيض. (يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ): التوراة أو القرآن. (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) قيل: نزلت في الرجم سألوا محمدًا عليه الصلاة والسلام حد المحصن فحكم بالرجم فما صدقوه فطلب التوراة، فلما أتوا بها ستروا آية الرجم بأكفهم، وابن سلام (1) رفع كفهم عنها وقرأها على اليهود فغضبوا وانصرفوا، أو نزلت لما قالوا: كان إبراهيم يهوديًا. فلما قيل لهم هلموا التوراة فأبوا، وعن ابن عباس وقتادة إنهم دعوا إلى القرآن فأعرضوا عنه. (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ)، ثم لاستبعاد توليهم مع العلم. (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) قوم عادتهم الإعراض أو معرضون عن كتابهم. (ذَلِكَ) أي: الإعراض. (بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ): قلائل، أربعين يومًا بعدد أيام عبادة العجل أو سبعة أيام بإزاء كل ألف سنة يوم أي: الإعراض بسبب تسهيلهم عذاب الله (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) كقولهم: " لن تمسنا النار " وأن الله وعد يعقوب أن لا يعذب ذريته. (فَكَيْفَ): يكون حالهم (إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ): لجزاء يوم. (لا رَيْبَ فِيهِ): لا شك في وقوعه مع أنَّهم كذبوا رسلهم، وقتلوهم، وافتروا. (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ) أي: جزاءه. (وَهُمْ) أي: كل نفس لأنه في معنى كل إنسان. (لَا يُظْلَمُونَ) بنقصان الحسنات وتضعيف السيئات. (قُلِ اللهُمَّ): يا الله. (مَالِكَ
المُلْكِ): لك الملك كله وهو نداء ثانٍ عند من يجعل الميم مانعا من الوصفية. (تؤْتِي
__________
(1) في الأصل " ابن السلام ".(1/233)
الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ): كمحمد وأصحابه أو الملك بمعنى النبوة. (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ): أن تنزع منه كاليهود، وصناديد قريش (1). (وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ): إذلاله كاليهود والمشركين. (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) اكتفى بالخير، لأنه المرغب فيه أو لأن الكلام في الملك والنبوة وهما خير، أو لأن الخير مقضى بالذات إذ ما من شر إلا وفيه أنواع الخير أو لمراعاة الأدب في الخطاب وتقديم الخبر للحصر. (إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ): من الخير والشر. (قَدِيرٌ)، وهذه الآية إرشاد إلى شكر نعمه، من تحويل الملك والنبوة والعز للمسلمين، والذل لليهود، وقيل: نرلت لما فتح مكة ووعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح ملك فارس والروم وقالت اليهود والمنافقون: هيهات.
(تُولِجُ) تدخل أي: بالتعقيب أو بالزيادة والنقص. (اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ): كالحيوان من النطف والنطف منه، والبيض من الطير وعكسه أو كالمؤمن من الكافر وعكسه.
(وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ): فمن قدر على مثل ذلك قدر على كل شيء. (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ): نهوا عن موالاتهم بصداقة، أو قرابة أو غيرهما (مِن دُونِ الُمؤْمِنِينَ) إشارة إلى أنَّهم الحقيق بالمحبة. (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ): اتخاذهم أولياء بأن يظهر عليهم أسرار المسلمين. (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ): من دين الله
__________
(1) في الأصل " القريش ".(1/234)
وولايته. (فِي شَيْءٍ): فإن محبتي متعاديين لا تجتمعان. (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) أي: إلا أن تخافوا من جهتهم ما يجب أن يتقى فيكون تقاة مفعولاً به وجاز أن تضمن تتقوا معنى تحذروا فيكون معدى بـ من، وتقاة مصدر نهوا عن الموالاة في جميع الأوقات إلا وقت المخافة فإنه جازت المداراة حينئذ باللسان. (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) يعني عن عقاب يصدر عن نفسه، وهذا غاية التحذير كما يقال: احذر غضب السلطان نفسه، (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) فاحذروا كل الحذر.
(قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ): من ولايتهم وغيرها، (أَوْ تُبْدُوهُ) قيل: إن تخفوا ما في قلوبكم من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تظهروه بحربه، (يَعْلَمْهُ اللهُ): يحفظه الله حتى يجازيكم (وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ): فكيف لا يعلم سركم وجهركم؟! (وَاللهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على عقوبة متخذي الولاية لهم كأنه قال: " يحذركم نفسه " فإنه متصف بعلم ذاتي محيط بجميع الكون وقدرة ذاتية تعم المقدورات. (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) أي: جزاء ما عملت أو صحائفه، وعامل يوم " تود " أي: تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم أمدًا يوم تجد الخير والشر حاضرين عنده، ولو للتمني وجملة " لو أن بينها " كالبيان للتمني أو تقديره: اذكر يوم تجد، و (تَوَدُّ) حال من فاعل عملت أو ما عملت مبتدأ لا عطف على ما عملت(1/235)
وتود خبره، وحينئذ ضمير " بينه " لما عملت. (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) كرره تأكيدًا ليكون على بال منه. (وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ): ومن رأفته بهم حذرهم بنفسه.
* * *
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
* * *(1/236)
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي): نزلت حين سجدوا للأصنام زعمًا منهم أن الباعث لعبادتهم حب الله، وقيل: نزلت لما قالت اليهود: نحن أبناء الله وأحباؤه وقيل: نزلت في وفد نجران لما قالوا نعبد المسيح حبًّا لله. (يُحْبِبْكُمُ اللهُ) أي: يرض(1/237)
عنكم ويثبكم، (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ): والجزم لجواب الأمر يعني يحصل لكم فوق ما طلبتم كما قيل: " ليس الشأن أن تحِب إنما الشأن أن تحَب " (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ): باتباعكم للرسول.
(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا): عن الطاعة. (فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ): لا يرضى عنهم أتى بالظاهر بدل المضمر دلالة على أن التولي كفر. (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى): بالرسالة (آدَمَ ونوحًا) ونوح أول رسول بعثه لما عبد الناس الأوثان. (وآلَ إِبْرَاهيمَ) منهم سيد البشر عليه الصلاة والسلام (وَآلَ عِمْرَانَ): هو والد مريم أو والد موسى وهارون. (عَلَى الْعَالَمِينَ): ومن العالمين الملائكة.(1/238)
(ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) حال أو بدل من نوح والآلين أي: إنهم ذرية واحدة متشعبة بعضها من بعض. (وَاللهُ سَمِيعٌ): لأقوال الناس، (عَلِيمٌ) بأعمالهم فيصطفي مستقيم القول والعمل. (إِذ قَالَتِ) مفعول لاذكر، قيل: ظرف لـ سميع وعليم أي: سميع عليم بقول امرأة عمران وبنتها إذ قالت (امْرَأَتُ عِمْرَانَ): هي أم مريم. (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي) أوجبت على نفسى أن يكون ما في بطني لك لا أستخدمه، (مُحَرَّرًا) حال أي: معتقًا مخلصًا للعبادة قيل: كانت لا تحمل فرأت طائرًا يُطعم فرخه؛ فاشتهت الولد؛ فدعت؛ فاستجيب دعاؤها، (فَتَقَبَّلْ مِنِّي): ما نذرت، (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ): بقولي، (العَلِيمُ): بنيتي.
(فَلَمَّا وَضَعَتْهَا) تأنيث الضمير لأن ما في البطن كان أنثى. (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى) قالته تحسرًا وعذرًا مما نذرت فإنها ترجو ذكرًا، ولذلك حررته، وأنثى حال عن مفعول وضعت. (وَاللهُ أَعْلَمُ بمَا وَضَعَتْ): هو قول الله تعظيمًا لموضوع كان آية للعالمين، وقرئ: " وَضَعْتُ " فيكوَن من كلامها تسلية لنفسها لعل للهِ فيها سرًّا، (وَلَيْسَ الذكَرُ كَالأُنثَى) فيما نذرت لما فيها من الحيض والنفاس وعدم القوة، وقيل: هو قول الله أيضًا أي: ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت، (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ): عطف على إني وضعتها أنثى قيل: معنى المريم في لغتهم العابدة. (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ): أجيرها بحمايتك، (وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ): المطرود، في الحديث: " ما من مولود يولد؛ إلا مسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخًا من مسه إياه،(1/239)
إلا مريم وابنها (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا): رضي بها مكان الذكر. (بِقَبُولٍ حَسَنٍ): بوجه حسن يقبل به النذائر، (وَأَنْبَتَهَا): رباها، (نَبَاتًا حَسَنًا) بشكل مليح، ومعرفة وطاعة بالله وكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام، (وَكَفَلَهَا زَكَرِيَّا)؛ لتقتبس منه علمًا وعملاً، وكان زوج خالتها أو زوج أختها وقرئ بتشديد الفاء ونصب زكريا على أن يكون مفعولاً ثانيًا والفاعل هو الله. (كلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ) أي الغرفة التي بنى لها في المسجد، (وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا): فاكهة الصيف في الشتاء وبالعكس، أو(1/240)
صحفا فيها علم والأول أصح، (قَالَ يَا مَريمُ أنى لَكِ هَذا): من أين لك في غير أوانه والأبواب مغلقة؟! (قَالَتْ هُوَ منْ عِندِ اللهِ)، فلا يستبعد قيل: هي كعيسى تكلمت صغيرة، وقيل: لم ترضع ثديًا ويأتي رزقها من الجنة (1)، (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)؛ لكثرته وسعة جوده، وهو يحتمل أن يكون من كلام الله، أو من كلامها.
(هُنَالِكَ) في ذلك المكان أو الوقت الذي رأى الأشياء في غير أوانها، وعلم منزلتها، وكرامتها على الله، (دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ): طمع في الولد من العاقر، ورغب في أن يكون له ولد. (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ): من غير أسباب ظاهرة (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) كما وهبتها لأم مريم العجوز العاقر (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) مجيبه.
(فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ) أي: جنس الملائكة فإن المنادي جبريل وحده، (وَهُوَ قَائِمٌ): في الصلاة، (يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ أَنَّ الله) أي: بأن الله، (يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى) أي: بولد من صلبك اسمه يَحْيَى سمي به لأنه أحياه الله بالإيمان، (مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) أي: بعيسى سمي بالكلمة لأنه أوجده بخطاب كن دون أب، وهو أول من صدق عيسى، كانا ابني خالة، وكانت أم يَحْيَى تقول لمريم إني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك، وقيل بكلمة من الله أي: بكتاب الله، (وَسَيِّدًا): حليمًا يفوق في الخلق والكرم والدين، (وَحَصُورًا): لا يأتي النساء أو الذي لا يولد له أو الذي لا ينزل الماء وقيل
__________
(1) لا يخفى ما فيه من بعد.(1/241)
والدين، (وَحَصورًا): لا يأتي النساء أو الذي لا يولد له أو الذي لا ينزل الماء وقيل حصورًا في حبس النفس عن الشهوات، وفي الحديث: " كل ابن آدم يلقى الله بذنب إلا يحيى بن زكريا فإنه كان سيدًا وحصورًا " ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها فقال: " كان ذكره مثل هذه القذاة ". (وَنَبِيًّا): ناشئا، (مِنَ الصَّالِحِينَ) أو كائنا ممن لم يأت ذنبًا. (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) استبعاد من حيث العادة واستعظام أو اشفهام عن كيفية حدوثه، (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ(1/242)
وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ): لا تلد. (قَالَ): أي الملك، (كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) أي: يفعل ما يشاء من العجائب مثل ذلك الفعل، فكذلك متعلق يفعل وقيل: " كذلك الله " مبتدأ وخبر و " يفعل ما يشاء " بيان أو تقديره: الأمر كذلك، و " الله يفعل " بيان. (قَالَ رَبّ اجْعَل لّي آيةً) علامة أستدل على وجود الولد، فأزيد في العبادة شكرًا لك، (قَالَ): الله، (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) أي: لا تقدر عليه مع أنك سوى صحيح تقدر الحمد والتسبيح، (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا): إشارة بنحو يد ورأس وحاجب، والاستثناء متصل جعله من جنس الكلام؛ لأنه فهم من الرمز ما يفهم من الكلام أو منقطع (وَاذْكُر ربَّكَ كَثِيرًا): في أيام الحبسة، (وَسَبّحْ بِالْعَشِيِّ): آخر النهار. (وَالإِبْكَارِ): أول النهار.
* * *
(وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ(1/243)
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
* * *(1/244)
(وَإِذْ قَالَتِ المَلائكَةُ) أي: جبريل وهو من جنس الملك، (يَا مَريمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ) اختارك أولاً لشرفك، (وَطَهَّرَكِ): من الأكدار والوساوس، وقيل من الحيض أو من تهمة اليهود (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ): مطلقًا أو على عالمي زمانها، (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أمرت بالخشوع والطاعة وغاية الخضوع والصلاة مع الجماعة، وجماعة الرجال أفضل أو كوني معهم، قيل ركدت في محرابها راكعة وساجدة وقائمة حتى نزل الماء الأصفر في قدميها، (ذلِكَ): القصص، (مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ): من الغيوب التي لا تعرفها إلا بالوحي، (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقلامَهُمْ): ليعلموا، (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ): في كفالتها وذلك أن أمها يوم ولدتها أتَت بها سدنة بيت المقدس وقالت: " دونكم هذه النذيرة فإني حررتها فتنافس الأحبار(1/245)
فيها لأنها ابنة إمامهم فأقرعوا بالأقلام التي يكتبون بها التوراة عليها؛ فخرجت القرعة لزكريا فكفلها.
(إِذ قَالَتِ المَلائكَة) أي: جبريل بدل من إذ يختصمون على أن الاختصام، والبشارة في زمان متسع أو من إذ قالت، (يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ): من الله أى: عيسى، (اسْمُه) ذكر ضمير الكلمة؛ لأن المسمى مذكر، (المَسِيحُ) معرَّب مسيحا بالعبرية أي: المبارك قال بعض السلف لكثرة سياحته سمي به، أو لأنه ما مسح ذا عاهة إلا برئ، (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) نسبه إلى أمه حيث لا أب له، (وَجِيهاً): له وجاهة ومكانة (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) نصب وجيهًا ومن المقربين على الحال من كلمة؛ لأنها نكرة موصوفة، (وَيكَلِّمُ النَّاسَ)، عطف(1/246)
على وجيها، (فِي الْمَهْدِ): طفلاً وهو آية (وَكَهْلاً) بالمرة، وقيل إنه رفع شابًّا فامراد كهلاً بعد نزوله فهو آية أخرى قيل: في ذكر " وكهلاً " بشارة لمريم ببقائه أو إشارة إلى أنه لا يصل إلى سن الشيخوخة أو إلى أن كلامه فِي الحالتين من جنس واحد، (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي: في قوله وعمله عطف على وجيهًا أو على في المهد.
(قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) استبعاد عادي؛ لأنها كانت محررة لله والمحررة لا تتزوج أبدًا. (قَالَ): جبريل، (كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) أي يخلق مثل ذلك الأمر، (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي: إذا أراد شيئًا فإنما يقول له: احدث فيحدث، كان تامة، والمراد تمثيل حصول ما تعلقت به إرادته بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف أو القول حقيقي، (وَيُعَلِّمُهُ(1/247)
الْكِتَابَ) أي: الكتابة أو جنس الكتب المنزلة وهو عطف على يبشرك أو وجيها أو كلام مبتدأ من تمام بشارة مريم، (وَالْحِكْمَةَ): الفهم أو معاني كلام الله وقد مر، (وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) نزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى، وكان يحفظهما. (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) تقديره ويجعله رسولاً مخبرًا بأني قد جئتكم أو عطف على وجيهًا أو كهلاً وطفلاً مضمنا معنى النطق كأنه قال: وناطقًا بأني، وتخصيص بني إسرائيل بتخصيص بعثته بهم أو للرد على من قال: إنه ليس مبعوثًا إليهم، (أَني أَخْلُقُ لَكُم) أقدر وأصور (مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطيرِ): مثل صورته بدل من " أني قد جئتكم " أو من آية أو تقديره: هي أني أخلق (فَأَنفُخُ فِيهِ) أي: في المثل، فالضمير له كاف (فَيَكونُ طَيْرًا يِإِذْنِ اللهِ) أي: حيًّا طيارًا بإذن الله، (وأُبْرِئُ الأَكْمَهَ): من ولد أعمى، وقيل من يبصر نهارًا لا ليلاً، وقيل بالعكس، (وَالْأَبْرَصَ وَأُحْييِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ) تكرار " بإذن الله " لدفع وهم الألوهية فإن الإحياء ليس من فعل البشر، (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ): الآن، (وَمَا(1/248)
تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ): للغد، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ): مصدقين للحق.
(وَمُصَدِّقًا) منصوب بفعل مقدر أي: وجئتكم مصدقًا (لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ): لكتاب أنزل من قبلي، (مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ) تقديره: وقد جئتكم لأحل، قيل عطف على معنى مصدقًا نحو: جئتك معتذرًا ولأطيب قلبك، (بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ)، في شرع موسى كالشحوم، ولحوم الإبل، وغيرهما، وفيه دلالة على أن شرعه نسخ بعض شرع موسى، وهو الصحيح من القولين، (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ): حجة على صدقي، (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ): فيما أقول.
(إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ): لما أظهر المعجزة شرع في الدعوة، وقيل الآية قوله: " إن الله ربي وربكم " فإنه المجمع عليه بين الأنبياء والفارق بين النبي والساحر، (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي: طريق مشهود له بالاستقامة، (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ): تحقق عنده تحقق المحسوسات، (قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ) أي: من يتبعني إلى الله أو إلى بمعنى مع وقيل بمعنى في أو اللام أو تقديره: من أنصاري ذاهبًا إلى الله أو في الدعوة إلى الله، (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ) من الحور، وهو البياض الخالص، وحواري الرجل خالصته، وقيل: كانوا قصارين سموا بذلك لبياض أثوابهم، وقيل: ملوكًا لا يلبسون إلا البيض، (نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ) أي: أنصار دينه، (آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا(1/249)
مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: مع الأنبياء فإنهم شهداء لأتباعهم، وقيل: مع الشاهدين بوحدانيتك، (وَمَكَرُوا) أي: الذين أحس منهم الكفر في قتل عيسى، (وَمَكَرَ اللهُ): جازاهم على مكرهم حين رفع عيسى، وألقى شبهه على أحد، فأخذوه، وقتلوه، (وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) أقواهم وأقدرهم.
* * *
(إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ(1/250)
مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
* * *
(إَذْ قَالَ اللهُ) ظرف لمكر الله، (يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) المراد من الوفاة ها هنا النوم، وعليه الأكثرون أو في الآية تقديم وتأخير تقديره إني رافعك إليَّ ومتوفيك يعني بعده أو توفاه الله ثلاث ساعات حين رفعه إليه أو سبع ساعات (1) ثم أحياه أو متوفيك من الدنيا، وليس بوفاة موت أي: قابضك من الأرض وافيًا لم ينالوا منك شيئًا من توفيت مالي، (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) إلى محل كرامتي، (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذِينَ
__________
(1) كلام باطل يتفق مع أساطير النصارى قاتلهم الله.
قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه:
اعْتَرَفُوا بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى شَرَّفَ عِيسَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِصِفَاتٍ:
الصِّفَةُ الْأُولَى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [الْمَائِدَةِ: 117] وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى طَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا: إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ، وَلَا تَأْخِيرٍ فِيهَا وَالثَّانِي: فَرْضُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِيهَا، أَمَّا الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ فَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: مَعْنَى قَوْلِهِ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أَيْ مُتَمِّمٌ عُمُرَكَ، فَحِينَئِذٍ أَتَوَفَّاكَ، فَلَا أَتْرُكُهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوكَ، بَلْ أَنَا رَافِعُكَ إِلَى سَمَائِي، وَمُقَرِّبُكَ بِمَلَائِكَتِي، وَأَصُونُكَ عَنْ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ قَتْلِكَ وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ وَالثَّانِي: مُتَوَفِّيكَ أَيْ مُمِيتُكَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالُوا: وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَصِلَ أَعْدَاؤُهُ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى قَتْلِهِ ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَكْرَمَهُ بِأَنْ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: قَالَ وَهْبٌ: تُوُفِّيَ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، ثُمَّ رُفِعَ وَثَانِيهَا: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: تُوُفِّيَ سَبْعَ سَاعَاتٍ، ثُمَّ أَحْيَاهُ اللهُ وَرَفَعَهُ الثَّالِثُ: قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: إِنَّهُ تَعَالَى تَوَفَّاهُ حِينَ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ تَعَالَى: اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزُّمَرِ: 42].
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ تُفِيدُ التَّرْتِيبَ فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ بِهِ هَذِهِ الْأَفْعَالَ، فَأَمَّا كَيْفَ يَفْعَلُ، وَمَتَى يَفْعَلُ، فَالْأَمْرُ فِيهِ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ، وَقَدْ ثَبَتَ الدَّلِيلُ أَنَّهُ حَيٌّ
وَوَرَدَ الْخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ سَيَنْزِلُ وَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ»
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَتَوَفَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: فِي التَّأْوِيلِ مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْوَاسِطِيُّ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ عَنْ شَهَوَاتِكَ وَحُظُوظِ نَفْسِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَصِرْ فَانِيًا عَمَّا سِوَى اللهِ لَا يَكُونُ لَهُ وُصُولٌ إِلَى مَقَامِ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَأَيْضًا فَعِيسَى لَمَّا رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ صَارَ حَالُهُ كَحَالِ الْمَلَائِكَةِ فِي زَوَالِ الشَّهْوَةِ، وَالْغَضَبِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ.
وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ التَّوَفِّيَ أَخْذُ الشَّيْءِ وَافِيًا، وَلَمَّا عَلِمَ اللهُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَخْطُرُ بِبَالِهِ أَنَّ الَّذِي رَفَعَهُ اللهُ هُوَ رُوحُهُ لَا جَسَدُهُ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رُفِعَ بِتَمَامِهِ إِلَى السَّمَاءِ بِرُوحِهِ وَبِجَسَدِهِ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
[النِّسَاءِ: 113].
وَالْوَجْهُ السَّابِعُ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أَيْ أَجْعَلُكَ كَالْمُتَوَفَّى لِأَنَّهُ إِذَا رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ وَأَثَرُهُ عَنِ الْأَرْضِ كَانَ كَالْمُتَوَفَّى، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الشَّيْءِ عَلَى مَا يُشَابِهُهُ فِي أَكْثَرِ خَوَاصِّهِ وَصِفَاتِهِ جَائِزٌ حَسَنٌ.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: أَنَّ التَّوَفِّيَ هُوَ الْقَبْضُ يُقَالُ: وَفَّانِي فُلَانٌ دَرَاهِمِي وَأَوْفَانِي وَتَوَفَّيْتُهَا مِنْهُ، كَمَا يُقَالُ: سَلَّمَ فُلَانٌ دَرَاهِمِي إِلَيَّ وَتَسَلَّمْتُهَا مِنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا تُوُفِّيَ بِمَعْنَى اسْتَوْفَى وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ كَانَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْأَرْضِ وَإِصْعَادُهُ إِلَى السَّمَاءِ تَوَفِّيًا لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ التَّوَفِّي عَيْنَ الرَّفْعِ إِلَيْهِ فَيَصِيرُ قَوْلُهُ وَرافِعُكَ إِلَيَّ تَكْرَارًا.
قُلْنَا: قَوْلُهُ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ التَّوَفِّي وَهُوَ جِنْسٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ بَعْضُهَا بِالْمَوْتِ وَبَعْضُهَا بِالْإِصْعَادِ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا قَالَ بَعْدَهُ وَرافِعُكَ إِلَيَّ كَانَ هَذَا تَعْيِينًا لِلنَّوْعِ وَلَمْ يَكُنْ تَكْرَارًا.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ: أَنْ يُقَدَّرَ فِيهِ حَذْفُ الْمُضَافِ وَالتَّقْدِيرُ: مُتَوَفِّي عَمَلِكَ بِمَعْنَى مُسْتَوْفِي عَمَلِكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ أَيْ وَرَافِعُ عَمَلِكَ إِلَيَّ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فَاطِرٍ: 10] وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى بَشَّرَهُ بِقَبُولِ طَاعَتِهِ وَأَعْمَالِهِ، وَعَرَّفَهُ أَنَّ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَتَاعِبِ وَالْمَشَاقِّ فِي تَمْشِيَةِ دِينِهِ وَإِظْهَارِ شَرِيعَتِهِ مِنَ الْأَعْدَاءِ فَهُوَ لَا يُضِيعُ أَجْرَهُ وَلَا يَهْدِمُ ثَوَابَهُ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجْرِي الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَا بُدَّ فِي الْآيَةِ مِنْ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْتَاجَ فِيهَا إِلَى تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ، قَالُوا إِنَّ قَوْلَهُ وَرافِعُكَ إِلَيَّ يَقْتَضِي أَنَّهُ رَفَعَهُ حَيًّا، وَالْوَاوُ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَقُولَ فِيهَا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: أَنِّي رَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمُتَوَفِّيكَ بَعْدَ إِنْزَالِي إِيَّاكَ فِي الدُّنْيَا، وَمِثْلُهُ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوُجُوهَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا تُغْنِي عَنِ الْتِزَامِ مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ (مفاتيح الغيب 8/ 237 - 238)(1/251)
كَفَرُوا): من سوء جوارهم، (وَجَاعِلُ الذِينَ اتَّبَعُوكَ): هم المسلمون من أمة محمد عليه الصلاة والسلام ومن تبعه من النصارى. أو الحواريون، (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى(1/253)
يَوْمِ الْقِيَامَةِ): بالغلبة والعزة وإلى الآن لم تسمع غلبة اليهود، (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ): أيها التابعون والكافرون، (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمر عيسى ودينه.
(فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا) بالسبي والقتل والجلاء وهو بيان حال الفريقين لا تفصيل الحكم الأخروي، لأنه ينافيه قوله: في الدنيا، (وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) لا في الدنيا، ولا في الآخرة.
(وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ): بلا نقص، (وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ): لا يرحمهم فهو سبحانه لا يظلم.
(ذلِكَ): ما سبق من القصص، (نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ): حال من مفعول نتلو، أو خبر ذلك ونتلوه حال والعامل معنى الإشارة أو خبر بعد خبر، (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) أي من القرآن المحكم الممنوع عن الباطل أو من اللوح المحفوظ، أو من الذكر المشتمل على الحكم. (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ): شأنه الغريب كشأنه، (خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ) أي: خلق قالبه من تراب، والجملة مفسرة للتمثيل، (ثمَّ قَالَ لَهُ كن): بشرًا، (فَيَكُون) حكاية حال ماضية شبه الغريب وهو ما لا أب له بالأغرب وهو ما لا أمَّ ولا أبَ له ليكون أحسم لمادة شبهة الخصم. (الحَقُّ مِن ربك) أي: هو الحق أو الحق المذكور من الله، (فَلاَ تَكُن مِّنَ الُممْتَرِينَ) خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام والمراد ثباته ونهي غيره عن الشك.(1/254)
(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ): في عيسى، (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العِلْمِ)، بأنه عبد الله ورسوله، (فَقُلْ تَعَالَوْا): هلموا، (نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ)، أنفسنا: رسول الله، وعلي بن أبي طالب عليهما الصلاة والسلام، والعرب تسمى ابن عم الرجل نفسه، وأبناءنا: الحسن، والحسين، ونساءنا: فاطمة رضى الله عنهم هكذا ذكره السلف، وقيل: معناه يدع كلٌّ مني ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة، وقدم الأبناء والنساء على النفس؛ لأن الرجل يقدمهم على نفسه ويفدى بنفسه لهم، (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) نتضرع في الدعاء أو نتلاعن من الابتهال الالتعان (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) الفاء على المعنى الأول ألصق، وسبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة في وفد نجران النصارى يحاجون في عيسى يزعم بعضهم أنه وهو الله، وبعضهم أنه ولد الله وبعضهم أنه ثالث ثلاتة، فأنزل الله فيهم صدر هذه السورة إلى بضع وثمانين آية، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي ودعاهم إلى المباهلة فقالوا: دعنا(1/255)
ننظر، فاستشاروا فقال كبيرهم: ما لاعَنَ قوم نبيًا قط فبقى كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإني أراهم وجوهًا لو سألوا الله أن يزيل جبلاً لأزال، فأتوا وقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا ألاَّ نلاعنك، ونتركك على دينك ونرجع على ديننا ونبذل لك الخراج.
(إِن هَذَا) أي: قصص عيسى ومريم، (لَهُوَ القَصَصُ الحَقُّ): دون ما ذكروه، (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللهُ) ردًّا على النصارى في تثليثهم، (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) فلا أحد يساويه في القدرة، والحكمة، فلا إله غيره، (فَإِن تَوَلَّوْا) عما أوحيت إليك، (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ)، وضع المظهر موضع المضمر، دلالة على أن الإعراض عن التوحيد (1) والحجج إفساد للدين.
__________
(1) في الأصل " عن التوحيد "
* * *(1/256)
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
* * *
(قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَاب): اليهود، والنصارى، ومن جرى مجراهم، (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَة سوَاءٍ): مستوية، (بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ): لا يختلف فيها رسول، ولا كتاب، والكلمة تطلق على الجملة وتفسيرها قوله: (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ): نوحده بالعبادة، (وَلاَ نشْرِكَ بِه شَيْئًا): في استحقاق العبادة، (ولاَ يَتخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ):(1/257)
لا يطيع بعضنا بعضًا في معصية الله، أو لا نسجد لأحد، قيل: كما اتخذت النصارى عيسى واليهود عزيرًا، (فَإِنْ تَوَلَّوْا): عن إجابة التوحيد، (فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ): مقرون بالتوحيد دونكم.
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ) تنازعت نصارى نجران، وأحبار اليهود فى أن كلاًّ منهما ادعوا أن إبراهيم منهم، (وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ)، الجملة حالية أي: اليهودية والنصرانية حدثتا بنزولهما على موسى وعيسى،(1/258)
وإبراهيم قبلهما بدهر طويل، فكيف يكون عليهما؟!! (أَفَلاَ تَعْقِلُون): فتدعون المحال.
(هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ): ها: حرف تنبيه، وقيل: أصله أأنتم على الاستفهام التعجبي، فقلبت هاء وأنتم مبتدأ خبره هؤلاء، والجملة التي بعده مبينة للأولى، وقيل: هؤلاء بمعنى الذين، وحاججتم صلته، وقيل: هؤلاء نداء أي: أنتم يا هؤلاء الحمقى جادلتم عنادًا فيما وجدتموه في كتابكم، ولكم به علم، (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ): ولم يذكر في كتابكم من دين إبراهيم، فإنه ربما يجادل الرجل فيما يعلم عنادًا لكن فيما لا يعلم لا يبحث عنه إلا فهمًا وطلب علم، (وَاللهُ يَعْلَمُ): شأنه، (وَأَنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ).
(مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانيًّا)، صرح بما دلت عليه الحجة، (وَلَكِن كان حَنِيفًا): مائلاً عن الباطل إلى الحق، (مُسْلِمًا): منقادًا لله (وَمَا كَانَ مِنَ الُمشْرِكِينَ) تعريض بهم لإشراكهم به عزيرًا والمسيح ورد على مشركي قريش في زعمهم أنَّهم على دين إبراهيم، (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ)، أقربهم وأحقهم به، (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ): على دينه، (وَهَذَا النبِيُّ وَالذِينَ آمَنُوا): من المهاجرين والأنصار، ومن بعدهم في الحديث: " إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي " ثم قرأ الآية، (وَاللهُ وَلِيُّ الُمؤْمِنِينَ): ينصرهم لإيمانهم برسله.(1/259)
(وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) أي: اليهود حين دعوا بعض الصحابة إلى اليهودية (لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) لو بمعنى أن، (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ)، فإن المؤمنين لا يقبلون قولهم، ويحصل لهم إثم (وَمَا يَشْعُرُون) اختصاص ضرره بهم.
(يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ): من التوراة والإنجيل أو القرآن، (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ): صدقها. (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ): تخلطونه بما تخترعونه حتى لا يميز بينهما، أو لم تجعلونه ملتبسًا بسبب خلط الباطل الذي تكتبون في خلاله أو تخلطون الإيمان بعيسى بالكفر بمحمد، (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ): نعت محمد عليه الصلاة والسلام، (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ): عالمون بحقية ما تكتمون.
* * *
(وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ(1/260)
مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
* * *
(وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ)، أوله سمي وجهًا لأنه أول ما يواجهه الناظر، (وَاكْفُرُوا آخرَهُ لَعَلهُمْ) أي: المؤمنين (يَرْجِعُون): عن الإسلام، أطلع الله نبيه على مكيدة اليهود، فإنهم اشتوروا أن يظهروا الإيمان أول النهار، ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح فإذا جاء آخر النهار ارتدوا؛ ليقول المسلمون: ما رجعهم إلى دينهم إلا اطلاع نقيصة في ديننا ولعلهم يرجعون عن الإسلام.
(وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ): لا تعترفوا، ولا تظهروا التصديق إلا لأشياعكم، (قُلْ إِنَّ الهُدَى هُدَى اللهِ): يهدى من يشاء، (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ)، متعلق بلا تؤمنوا أي: لا تعترفوا بأن يُؤْتَى أحد مثل ما أوتيتم من العلم، والمعجزات، ولا بأن يغالبوكم بالحجة يوم القيامة إلا لأشياعكم،(1/261)
ولا تفشوه لا إلى المسلمين ولا إلى المشركين يعني: إن علمكم بذلك حاصل، لكن لا تظهروه وأوثر في العطف كلمة " أو " ليفيد العموم مثل: " وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا " [الإنسان: 24]، وقوله: " إن الهدى هدى الله " جملة معترضة دالة على أن كيدهم لا طائل تحته، وقيل: قد تم الكلام عند قوله: " إلا لمن تبع دينكم "، والمعنى على الوجهين الأولين الآتيين ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر، وهو إيمانكم وجه النهار إلا لمن تبع دينكم قبل ذلك ثم أسلم لعلهم يرجعون، فإن رجوعهم أرجى عندكم، وأشجى لحلوق المسلمين حينئذ، ففى موقع " أنْ " يؤتى ثلاثة أوجه:
الأول: أن يتعلق بفعل مضمر على حذف اللام أي وقل فعلتم ما فعلتم من الكيد لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولما يترتب من غلبتهم بالحجة يوم القيامة، أي: لم يكن لكم داع إلى هذا الكيد سوى الحسد، ووجه العدول عن الواو إلى حينئذ الإشارة إلى أن كلا من الأمرين مستقل بكونه سببًا للحسد.
الثاني: أن يكون الخبر إن الهدى وهدى الله بدل من الهدى وحين أو بمعنى إلى أن يعني حتى يحاجوكم فيدحضوا حجتكم.
الثالث: أن ينتصب بفعل مضمر تقديره قل. إن الهدى هدى الله ولا تنكروا أن يؤتى أحد أو يكون لأحد وسيلة غلبة عليكم عند الله، ويدل على هذا المضمر لا تؤمنوا إلا(1/262)
لمن تبع دينكم؛ لأن معناه حينئذ لا تقروا بحقية دين لأحد إلا لمن هو على دينكم فإنه لا دين سواه يماثله، وهذا إنكار لأن يؤتى أحد مثل دينهم، وقد بسطت الكلام هنالك فاستفده، (قُلْ إِن الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ) فضله (عَلِيمٌ): بكل شيء.
(يَّخْتَص بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ): لحكمته، (وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ) هذا كله رد وإبطال لزعمهم الفاسد.
(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ)، كعبد الله بن سلام أودعه رجل ألفا وكل ومائتي أوقية من ذهب، فأداه، (وَمِنْهُم مَّنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّه إِلَيْكَ)، كفنحاص بن عازوراء أودع دينارًا فجحده، (إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْه قَائِمًا). إلا مدة دوامك قائمًا على رأسه مبالغًا بالتقاضي أو الترافع، (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) أي: ترك الأداء بسبب أنَّهم قالوا: ليس علينا في شأن العرب ذم وعتاب، وأحل الله أموالهم لنا (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ): اخترعوا، واختلقوا، وليس في التوراة شيء مما قالوا، (وَهُمْ يَعْلَمُونَ): إنهم كاذبون.
(بَلَى) أي: بلى عليهم فيهم سبيل، وقوله: (مَنْ أَوْفَى) إلى آخره استئناف، (بِعَهْدِهِ) أي بعهد الله الذي عهد إليه في التوراة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وأداء الأمانة أو بعهد نفسه، (وَاتَّقَى) أي: الكفر والخيانة، (فَإِنْ الله يُحِبُّ الُمتَّقِينَ) أي: يحبه فإنه متق، وقيل: بلى بمعنى لكن.(1/263)
(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ): يستبدلون بما عاهدوا من الإيمان برسله، (وَأَيْمَانِهِمْ)، وبما حلفوا من قولهم: والله لنؤمنن به ولننصرنه، (ثَمَنًا قَلِيلًا): من الدنيا رشوة في تحريف التوراة، وتبديلُ نعتِ محمدٍ عليه الصلاة والسلام، (أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ): لا نصيب، (لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ): بما يسرهم، (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ): نظر رحمة (يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ): ولا يثني عليهم أو لا يطهرُهم من الذنوب، (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) فعلى هذا الآية في اليهود أو نزلت في ترافع بين صحابي ويهودي في أرض فتوجه الحلف على اليهودي، أو في رجل أقام سلعة في سوق فحلف لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها أحدًا من المسلمين.
(وَإِنَّ مِنْهُمْ): من اليهود، والنصارى، (لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ) يميلونها عن المنزل إلى المحرف ويفتلونها عنه، فالباء للاستعانة أو الظرفية، والمضاف محذوف أي:(1/264)
بقراءة الكتاب (لِتَحْسَبُوهُ)، أيها المؤمنون، وضمير المفعول لما حصل باللي وهو المحرف، (مِنَ الْكِتَابِ) التوراة، (وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ): التوراة، (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ): تأكيد لقوله وما هو من الكتاب، وتشنيع عليهم (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الكَذبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ): أنَّهم كاذبون.
(مَا كَانَ لِبَشَرٍ): ما ينبغي له، وما يتأتى منه، (أن يَّؤْتِيَهُ اللهُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ): الحكمة أو إمضاء الحكم من الله، (وَالنبوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كونوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ)، رد على اليهود حين قالوا: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال صلى الله عليه وسلم معاذ الله ما بذلك بعثني؛ فنزلت، أوْ رد على النصارى حيث قالوا: إن عيسى أمرهم أن يتخذوه ربًّا فنزلت، (وَلَكِنْ): يقول، (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ): حكماء،(1/265)
وحلماء وعلماء، أو فقهاء، أو من يرب علمه بعمله أو منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ): أي: بسبب كونكم معلمين الكتاب ودارسين له.(1/266)
(وَلاَ يَأمُرَكُمْ): بقراءة النصب عطف على " ثم يقول "، ولا لتأكيد معنى النفي، وبالرفع استئناف، وقيل حال، (أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا): كما فعلت النصارى، (أَيَأمُرُكُم)، استفهام تعجب، والضمير للبشر، (بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مسْلِمُونَ): منقادون لله.
* * *
(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا(1/267)
وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
* * *
(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ): كل نبي بعثه من لدن آدم، (لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ)، أي رسول كان واللام لتوطئة القسم، وما شرطية، وقوله: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ)، جواب القسم والشرط أو موصولة أي: للذي آتيتكموه، وقرئ بكَسر اللام وحينئذ ما مصدرية أي: لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب، ثم مجيء مصدق أخذ الله الميثاق لتؤمنن به أو المراد من النبيين أنبياء بني إسرائيل، والمراد من رسول مصدق محمد عليه الصلاة والسلام، أو النبيين عام كما تقدم، لكن المراد من رسول محمد عليه الصلاة والسلام كما صح عن علي، وابن عباس رضى الله عنهم ما بعث الله نبيًّا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به، ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته (قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ): بالإيمان والنصر، (وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي): عهدي، (قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ): الله، (فَاشْهَدُوا): ليشهد بعضكم على بعض بالإقرار أو قال الله تعالى للملائكة: " فاشهدوا " (وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) على إقراركم وتشاهدكم.(1/268)
(فَمَن تَوَلَّى): أعرض، (بَعْدَ ذَلِكَ): الميثاق، (فَأُولئكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ): الخارجون عن الإيمان.
(أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ)، عطف جملة على جملة، والهمزة توسطت للإنكار، وقدم المفعول؛ لأنه المقصود بالإنكار قيل: نزلت في أهل الكتاب حين اختصموا فزعم كل فريق أنه على دين إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - " كل منكم برئ من دينه " فقالوا: لا نرضى بقضائك (وَلَهُ أَسْلَمَ): انقاد، (مَن في السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا): الملائكة والمسلمون، (وَكَرْهًا): الكفرة حين البأس أو لأنهم مسخرون تحت حكمه وسلطانه أو خوف السيف والسبي أو المراد منه الأسير يجاء به فى السلاسل قيل هذا يوم الميثاق حين قال لهم: " ألست بربكم " (الأعراف: 172)، فقال بعضهم: " بلى " (الأعراف: 172) كرهًا، ونصبهما على الحال أي: طائعين، ومكرهين، (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) وعيد لهم أي: أيبغون غير دين الله مع أن المرجع إليه.
(قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) من الصحف والوحي، (وَالأَسْبَاطِ): هم بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد إسرائيل، (وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن ربِّهِمْ): أمر للرسول أن يخبر(1/269)
عن نفسه ومتابعيه أو أن يتكلم عن نفسه على طريقة الملوك تعظيمًا له، (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ): بالتصديق، (وَنَحْنُ لَهُ): لله، (مُسْلِمُونَ): منقادون مخلصون.
(وَمَن يَّبْتَغ غَيْرَ الإِسْلامِ): غير الانقياد، والتوحيد، (دِينا فَلَن يُّقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) بإبطال فطرته السليمة.
(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ)، استفهام إنكار (قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا) عطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل؛ لأن معناه بعد أن آمنوا، (أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) البراهين على صدق ما جاء به الرسول (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ): الذين وضعوا الكفر موضع الإيمان.
(أوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلاِئكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي: يوم القيامة. (خَالِدِين فِيهَا): في اللعنة، (لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ): لا يمهلون أو لا ينتظرون ليعتذروا أو لا ينظر نظر رحمة إليهم. (إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ): الارتداد، (وَأَصْلَحُوا): ما أفسدوا أو دخلوا في الصلاح، (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ): لذنبهم، (رَحِيمٌ): فيقبل توبتهم، الآية في رجل من الأنصار(1/270)
آمن ثم ارتد ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا هل لي من توبة؟ فنزلت فرجع وأسلم، وقيل: في اليهود آمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام قبل مبعثه ثم كفروا لما بعث.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)؛ لأن توبتهم حين إشرافهم على الموت، (وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) نزلت في اليهود كفروا بعيسى عليه السلام بعد ما آمنوا بموسى، ثم ازدادوا كفرًا بمحمد عليه الصلاة والسلام، أو في اليهود والنصارى، وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن قومًا أسلموا ثم ارتدوا، ثم أسلموا ثم ارتدوا فأرسلوا إلى قومهم يسألون فنزلت: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا): نصب على التمييز، (وَّلَوِ افْتَدَى به) أي: لا يقبل منهم ذلك بوجه من الوجوه من التصدق وغيره ولو كان بوجه الافتداء، وقيل: الواو مقحمة، (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) فى رفع العذاب، وفي الحديث (يقال للرجل يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديًا به؟ يقول: نعم، فيقال له: قد أردت منك شيئًا أهون من ذلك وأقل فأبيت، فيرد إلى النار).
* * *(1/271)
(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
* * *
(لَن تَنَالُوا البِرَّ): الجنة، أو التقوى، أو كمال الخير، (حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبونَ) أي: بعضه، والمراد منه أداء الزكاة أو صدقة السنة، ويدل على الثاني أن كثيرًا من الصحابة تصدقوا بأراضيهم، وأعتقوا جواريهم حين نزلت، أو المعنى: لن تنالوا البر حتى(1/272)
تنفقوا وأنتم أصحاء أشحاء، (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازى بحسبه.
(كُلُّ الطعَامِ) أي: المطعومات، (كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) أي: حلالاً لهم، (إِلا مَا حَرَّمَ)، وهو لحمان الإبل، وألبانها، أو العروق (إِسْرَائِيلُ): وهو يعقوب، (عَلَى نَفْسِهِ) لنذر: نذر في مرض لئن عافاه الله لا يأكل أحب الطعام والشراب ولحم الإبل ولبنه أحب إليه، أو نذر لا يأكل العروق لأن وجعه عرق النسا، أو العروق تضره فاتبعه بنوه في إخراج العروق من اللحوم (مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ) جاز أن يتعلق بـ حَرَّمَ أو بـ حِلًّا نزلت ردًّا على اليهود حين طعنوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت تزعم أنك على ملة إبراهيم، وكان حرامًا عليه أشياء من لحم، ولبن الإبل أو العروق وأنت تحلله فنزلت إن كل المطعومات حلال على الخلائق قبل نزول التوراة، وبشؤم ذنوبهم حرم في التوراة ما حرم (قُلْ): يا محمد، (فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) إن لحم ولبن الإبل أو العروق حرام على الأنبياء كلهم فلما قال لهم بهتوا.(1/273)
(فَمَنِ افْتَرَى): ابتدع، (عَلَى اللهِ الكَذِبَ) بأن الله حرم لحم ولبن الإبل عليهم، (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ): ما علم أن التحريم إنما كان من جهة يعقوب (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أو الآية رد على اليهود حيث زعموا أن كل ما هو حرام عليهم كان حرامًا على الخلائق قبلهم لا أن الله حرم عليهم بشؤم ظلمهم، (قُلْ صَدَقَ اللهُ): في جميع ما أخبر، وكذبتم أنتم، (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا): مائلاً عن الباطل، وهي ملة الإسلام التي في الأصل ملته أو مثل ملته، (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ): تعريض على اليهود.
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ) أي: أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض قبل خلق الأرض بألفي عام، أو بيت بناه ملائكة هم سكان الأرض قبل آدم عليه السلام أو بناه آدم أو أول بيت وضع لعبادة الله، وكانت البيوت قبله، وهو قول على رضى الله عنه، قيل سبب نزوله أن اليهود قالوا: قبلتنا أفضل وأقدم فأنزل الله، (لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) أي: للبيت الذي ببكة وهي لغة في مكة أو مكة من الفج إلى التنعيم، وَبكة من البيت إلى البطحاء، أو هي البيت والمسجد، وما وراءه مكة أو موضع البيت، (مُبَارَكًا): كثير الخير حال من ضمير الظرف، (وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) فإنه قبلتهم ومتعبدهم، (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) كل جبار قصده بسوء كأصحاب الفيل قهره، (مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ) أي من جملتها أو بدل من الآيات بدل البعض وأتر قدميه في المقام آية بينة، (وَمَن دخَلَهُ) أي: مكة، (كَانَ آمِنًا): من القتل، والغارة ما دام فيه لكن لا يطعم ولا يسقى حتى يخرج فيؤخذ بذنبه، أو من دخله(1/274)
معظمًا له أمن يوم القيامة من العذاب قيل: جملة شرطية عطف على مقام من حيث المعنى أي أمْنُ من دخله من جملتها.
(وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ) أي: قصده على وجه مخصوص، (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) كل مأتى إلى الشيء فهو سبيله، وهو بدل من الناس مخصص له والاستطاعة ألا يكون عاجزًا بنفسه يقدر على الركوب بلا مشقة شديدة وله راحلة وزاد رواح ورجوع فاضل عن نفقة من يلزم عليه نفقته وكسوته، ثم إن اليهود حين أمروا بالحج قالوا: ما وجب علينا فنزل قوله: (وَمَن كَفَرَ) أي: جحد فرضّيته، (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) أي: من وجد ما يحج به، ولم يحج حتى مات فهو كفر به وقيل: وضع كفر موضع لم يحج تغليظًا، (قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ): النقلية، والعقلية الدالة على صدق القرآن، ومن أنزل عليه، (وَاللهُ)، الواو، للحال، (شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُون)، فلا ينفعكم التحريف، والكتمان.(1/275)
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ): عن دينه، وكانوا يحتالون لصدهم عن الإسلام، (مَنْ آمَنَ)، مفعول تصدون، (تَبْغُونَهَا عِوَجاً): حال من فاعل تصدون أي: طالبين لسبيل الله اعوجاجًا بتلبيسكم على الناس وتغييركم صفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتحريشكم بين المؤمنين، وهو متعد إلى مفعوليه بلا واسطة، (وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ) أن الصد عن الإسلام ضلال، وكتمان أمر محمد غواية، (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، ولما كان إنكارهم للقرآن مجاهرة منهم قال: (والله شهيد)، ولكن الصد عن الإسلام والتحريف من أسرارهم قال: (وما الله بغافل).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ): ثاني مفعولي يرد فإنه بمعنى التصيير، نزلت إلى قوله (لعلكم تهتدون) فى الأوس والخزرج حين ذكرهم اليهود الحروب وعداوات الجاهلية؛ ليفتتنوا ويعودوا لمثل ما فيهم من الجاهلية (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ): القرآن، وغيره، (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ): الزاهر الباهر السراج الظاهر عليه الصلاة والسلام، (وَمَن يَّعْتَصِم بِاللهِ): يلتجئ إليه ويتمسك بدينه، ويؤمن به، (فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ) طريق واضح لا اعوجاج له.(1/276)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)، أصله وقاة فقلبت الواو تاء كتؤدة وتخمة، وهو أن يطاع ولا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، وكثير من(1/277)
السلف قالوا: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: " فاتقوا الله ما استطعتم " (التغابن: 16)، وعن ابن عباس رضى الله عنهما: إنها لم تنسخ لكن حق تقاته أن يجاهد في سبيله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم، وأبنائهم، (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي لا تكونن على حال سوى الإسلام إذا أدرككم الموت فهو في الحقيقة أمر بدوام الإسلام، (وَاعْتَصِمُوا): واسمتمسكوا، (بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) أي: بدين الله أو بالجماعة أو بعهد الله أو بالقرآن، (وَلَا تَفَرَّقُوا) أمرهم أن يكونوا على الحق مجتمعين ثم نهاهم عن التفرقة كما افترق أهل الكتاب، (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ): التي من جملتها الإسلام والتألف، (إِذ كنتُمْ): أيها الأوس والخزرج (أَعْدَاءً): وقع بينكم القتال والخوف، (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) بالإسلام، (فَأَصْبَحتم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا): متحابين، (وَكنتُمْ): في الجاهلية (عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ): مشفين على الوقوع في جهنم لكفركم وشفا بمعنى الطرف، (فَأَنْقَذَكُمْ): أنجاكم (مِّنْهَا): بالإسلام، والضمير للشفا، أو للحفرة أو للنار، (كَذَلِكَ): مثل ذلك التبيين، (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إرادة ثباتكم على الهدى.
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ)، من للتبعيض؛ لأن الأمر بالمعروف من فروض الكفايات وللمتصدى له شروط قال الضحاك: هم الصحابة، والمجاهدون، والعلماء، والخطاب للجميع؛ لأنه لو تركوه أثموا جميعًا أو للتبيبن كما ورد (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (أُمَّةٌ): جماعة، (يَدْعُونَ): الناس، (إِلَى(1/278)
الخَيْرِ): اتباع القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، (وَيَأْمرُونَ بِالمَعْروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ الُمنكَرِ)، عطف الخاص على العام لشرفه؛ لأن الخير أعم، (وأُولَئِكَ هُم الُمفْلِحونَ) المخصوصون بكمال الفلاح، (وَلاَ تَكونُوا كَالَّذِينَ(1/279)
تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ): الحجج المبينة للحق كالأمم السابقة، (وأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ): وعيد لهم وتهديد للتشبه بهم، (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ): تَبْيَضُّ وجوه أهل السنة والجماعة وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ أهل البدعة أو المؤمنين والكافرين أو المخلصين والمنافقين، قيل: البياض والسواد كنايتان عن بهجة السرور وكآبة الحزن، والأصح أنهما علامتان حقيقيتان، والظرف لمتعلق لهم أو نصب بإضمار اذكر (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) فيقال لهم: (أَكَفَرتم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) يوم الميثاق أو هم المرتدون أو هم المنافقون تكلموا بالإيمان أو هم أهل الكتاب، والهمزة للتوبيخ، (فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ): بسبب كفركم.
(وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ): جنته عبر عنها بالرحمة إشارة إلى أنه لا ينالها من ينالها إلا برحمته، (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أخر ذكرهم ليكون أول الكلام وآخره صفة المؤمنين.(1/280)
(تِلْكَ آيَاتُ اللهِ): حججه، (نَتْلُوهَا عَلَيْكَ): يا محمد (بِالْحَقِّ): متلبسة به لا شبهة فيها، (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ)، لأنه حكم عدل لا يجرى في ملكه إلا ما يشاء فلا يحتاج إلى ظلم لأحد فلهذا قال: (وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فيجازي بما وعد وأوعد وأما بحث إنه على الظلم قادر لكن لا يظلم كما دل عليه القرآن والأحاديث أو ليس بقادر؛ لأنه محال في حقه - فقد أفردناه في رسالة.
* * *
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)(1/281)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
* * *
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) أي: فيما مضى بين الأمم أو في اللوح المحفوظ أو في علم الله تعالى، (أُخْرِجَتْ): أظهرت (لِلنَّاسِ): يعني هم خير الناس للناس وأنفع الناس للناس، والأصح أنه عام وأمة محمد (صلى الله عليه وسلم) خير الأمم كلهم، (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) استئناف بين به خيرتهم، (وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أخر الإيمان إشعارًا بأن أمرهم ونهيهم للإيمان بالله وإظهار دينه، (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ): بمحمد، (لَكَانَ): الإيمان، (خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ): كعبد الله بن سلام،(1/282)
(وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ): المتمردون. روي أن اليهود قالت -مع عصابة من الصحابة- نحن أفضل، وديننا خير، فنزلت (كنتم خير أمة) إلخ، (لَن يَّضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى): ضررًا يسيرًا قيل: قصدت اليهود عبد الله بن سلام وأصحابه فنزلت: (وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ): ينهزموا، ولا يضروكم بالقتل، (ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ): ثم لا يكون لهم النصر أبدًا، (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلةُ) ألزمهم الله المذلة والصغار، (أَيْنَ مَا ثُقِفُوا): أينما وجدوا وكانوا، (إِلا بِحَبْل مِّنَ اللهِ وَحَبْل منَ النَّاسِ) أي: ضربت عليهم الذلة في كل حال إلا معتصمين بذمة الله، وعهده، وأمان المسلمين وعهدهم، وهو عقد الذمة، وضرب الجزية والمعاهدة والمهادنة أي: لا عز لهم قط إلا هذه الحالة الواحدة (وَبَاءوا بِغَضَب مِّنَ اللهِ): رجعوا به مستوجبين، (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ): الجزية أو الفقر والتذلل كضرب القبة، (ذلِكَ) أي: ضرب المسكنة، والذلة، والبوء بالغضب، (بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ): بسبب كفرهم بآية الرجم، وأمثالها، وقتل الأنبياء بسبب الحسد وهم يعلمو أنه غير حق، (ذلِكَ) أي: الكفر، والقتل، وقيل: هذا أيضًا إشارة إلى المشار إليه بذلك الأول أي: الصغار والهوان له سببان (بِمَا عَصَوْا وكَانوا يَعتَدُون): بسبب(1/283)
عصيانهم واعتدائهم في حدود الله فإن الإصرار والمداومة على الذنوب يفضي إلى الكفر ومقت الله تعالى. (لَيْسُوا سَوَاءً): نزلت في اليهود حين قالت: ما آمن بمحمد إلا شرارنا، وأرادوا به عبد الله بن سلام وأصحابه أي: ليس أهل الْكِتَاب على حد مستو. (مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ)، استئناف بيَّن نفي الاستواء، (قَائِمَةٌ): على الحق مستقيمة، وقيل: قائمة في الصلاة (يتْلُونَ آيَاتِ اللهِ): يقرءون القرآن، أو يتبعونها (آناءَ الليْلِ): ساعاته، (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) يصلون التهجد أو العشاء فإن أهل الكتب لا يصلونها، (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ(1/284)
وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)، وصفهم بما ليس في اليهود إلا نقيضه كإلحاد في صفاته ووصفهم اليوم الآخر بخلاف صفته، وهم مداهنون في الحق متباطئون عن الخير، (وأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ): ممن صلحت أحوالهم عند الله، فاستحقوا رضاه (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ): لا يضيع عند الله، ولا ينقص ثوابه، ولتضمنه معنى الحرمان عدي إلى مفعولين، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) لم يقل عليهم بهم إشعارًا بأنهم موصوفون بالتقوى أيضًا، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ): لن تدفع (عَنْهمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم منَ اللهِ): من عذابه، (شَيْئًا وأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ): ملازموها، (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثل مَا يُنفِقُون): مثل ما ينفق الكفار، وقيل: نفقة اليهود على علمائهم، (فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ): برد شديد، أو سموم حارة (أَصَابَتْ حَرْثَ): زَرع، (قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ): بالكفر والمعاصي، (فَأَهْلَكَتْهُ): فلم ينتفعوا بحرثهم لدى احتياجهم إليه، فكذا أعمال الكفار، وتقديره: مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح ليطابق المثلان، (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ)، بأن فعل بهم ما ليسوا أهلاً له، (وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لأنَّهُم ارتكبوا ما استحقوا العقوبة.(1/285)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً) بطانة الرجل خاصة أهله الذي يطلعه على أسراره، (مَن دُونِكُمْ): من دون المسلمين، متعلق بـ لا تتخذوا أو صفة بطانة أي لا تتخذوا أولياء أصفياء من غير أهل ملتكم، (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا): لا يقصرون في الفساد، وخبالاً مفعول ثان لتضمين معنى المنع، والجملة مستأنفة أو صفة بطانة، وكذا الجملتان بعده، (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ): تمنوا شدة ضرركم، (قَدْ بَدَتِ البَغضَاءُ): ظهرت علامة العداوة، (مِنْ أَفوَاهِهِمْ): فلتات كلامهم، (وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ): من البغضاء (أَكْبَرُ) أكثر مما بدا، (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ): الدالة على صلاح أحوالكم، (إِن كُنتُمْ تَعْقِلُون): ما بيّن لكم، نزلت في مواصلة اليهود لما بينهم من القرابة أو في مصافاة المنافقين، (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ) أي أنتم أولاء الخاطئون في موالاتهم، والجملة بعده بيان خطئِهم أو أولاء نداء أو بمعنى الذين كما مر، (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ) أي: بجنس الكتاب حال من مفعول لا يحبون(1/286)
أى: لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم أيضًا، وهم لا يؤمنون بكتابكم، فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم، (وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا): نفاقًا، (وَإِذا خَلَوْا): خلا بعضهم مع بعض، (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ): أي: من أجله تأسفا حيث لم يجدوا سبيلاً إلى الغلبة عليكم، وهذا يدل على أن الآية للمنافقين، (قُلْ): يا محمد، (مُوتُوا بغَيْظِكُمْ): دعاء عليهم بدوام غيظهم وزيادته بتضاعف أهل الإسلام حتى يموتوا به، (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ): بما فيها من خير وشر، فيجازيكم، وهو يحتمل أن يكون من المقول.
(إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ): خير ومنفعة، (تَسُؤْهُمْ): تحزنهم، (وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ): ضر وشدة، (يفْرَحُوا بِهَا)، فهم في نهاية العداوة معكم، (وَإِن تَصْبِرُوا): على أذاهم، (وَتَتَّقُوا) موالاتهم أو ما حرم الله، (لاَ يَضُركُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا): كنتم(1/287)
فى كنف الله؛ فلا يضركم كيدهم، وضمة الراء في لا يضر كضمة مد للاتباع؛ لأنه جزاء شرط مضارع مضاعف، فجاز فيه أربعة أوجه، وقرئ لا يضركم بكسر الضاد من ضاره بمعنى ضره (إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ): علمه فيجازيهم بما هم أهله.
* * *
(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
* * *
(وَإِذْ غَدَوْتَ) أي: واذكر إذ غدوت (مِنْ أَهْلِكَ): منزل عائشة رضى الله عنها (تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ): لتسوي وتهيئ لهم، (مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ): مواقف وأماكن له، (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالهم (عَليمٌ): بضمائركم وأحوالكم، هذه وقعة أحد، وقيل يوم(1/288)
الأحزاب، (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ)، بدل من إذ غدوت أو متعلق بـ سميع عليم، وهما بنو حارثة، وبنو سلمة، (أَنْ تَفْشَلَا): تجبنا وتضعفا، فإنهم هموا بالانصراف عن الحرب، لكن عصمهم الله، (وَاللهُ وَلِيُّهُمَا): ناصرهما فعصمهم عن اتباع الخطرة أو فما لهما (1) تفشلان، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ): لا على العَدَد والعُدَد.
(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ ببَدْرٍ) تذكير بقصة إفادتهم التوكل، وهو موضع بين مكة (2)، والمدينة، (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ): بقلة العدد والسلاح، (فاتَّقُوا اللهَ): في الثبات، (لَعَلكُم تَشْكُرُون) عاقبته بمزيد الإنعام، وقيل معناه اتقوني فإنه شكر نعمتي، (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) ظرف لنصركم، وهو في بدر، أو بدل ثان من إذ غدوت، وهو في أحد، وقالوا: لم يحصل الإمداد يوم أحد لا بخمسة آلاف ولا بثلاثة؛ لأن المسلمين لم يصبروا بل فروا، (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ)، هو فاعل يكفيكم، (رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ): للنصر، (بَلَى): إيجاب لما بعد لن، أي: بلى يكفيكم، ثم وعد لهم الزيادة بشرط الصبر والتقوى فقال: (إِن تَصْبِرُوا): على العدو، (وَتَتَّقُوا): مخالفتي، (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا): من غضبهم فإنهم رجعوا لحرب يوم أحد من غضبهم ليوم بدر، أو من ساعتهم، والمعنى إن يأتوكم في الحال، (يُمْدِدْكُمْ ربّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلاِئكَةِ) في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم (مُسَوِّمِينَ): معلمين بسيما الصوف الأبيض أو بالعهن الأحمر في نواصي خيولهم أو بالعمائم البيض، أو السود أو الصفر أو بسيما القتال
__________
(1) في الأصل " قبالهما " والتصويب من الكشاف.
(2) في الأصل " المكة ".(1/289)
أنزل الله الملائكة يوم بدر ألفا كما قال: (فاستجاب لكم أني ممدكم بألف) [الأنفال: 9]، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم خمسة آلاف، (وَمَا جَعَلَهُ اللهُ) أي: الإمداد، (إِلا بُشْرَى): بشارة، (لَكمْ): بالنصر، (وَلِتَطْمَئِنَّ): ولتسكن، (قلوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ): لا من عدة وعدد، (العَزِيزِ): الذي لا يغالب في قضائه (الحَكِيمِ) في أفعاله، (لِيَقْطَعَ طَرَفًا) أي: لقد نصركم الله ببدر ليهلك طائفة، أو يهدم ركنا من أركان الشرك، أو متعلق بقوله (وما النصر إلا من عند الله). (مّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ): يخزيهم وأو للتنويع، (فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ): منقطعي الآمال، (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) بل الأمر كله إلى الله، نزلت حين قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلعن فيه على قوم قتلوا سبعين رجلاً من قراء(1/290)
الصحابة بعثوا ليعلموا الناس، أو نزلت يوم أحد حين شج في رأسه الأشرف، ويقول " كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيّهم؟! " (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ)، عطف على الأمر بإضمار أن أي: ليس لك من أمرهم شيء أو من التوبة عليهم أو تعذيبهم أو على شيء أي ليس لك من أمرهم شيء، أو التوبة أو تعذيبهم أو بمعنى إلا أن أي: ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب عليهم فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتتشفى منهم، أو عطف على أو يكبتهم، (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) اعتراض وقع في البين، وأنت تعلم أن هذا توجيه لو يلائمه سبب النزول يلائم اللفظ والمعنى، (فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ): استحقوا التعذيب.
(وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ): خلقًا وملكًا فالأمر له لا لغيره، (يَغفِرُ لِمَن يَشَاءُ): غفرانه، (وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ): تعذيبه، (وَاللهُ غَفُورٌ رحِيمٌ): فلا تبادر إلى اللعن، والدعاء عليهم.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا(1/291)
لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً)، أي: لا تزيدوا زيادات مكررة فإنهم إذا بلغ الدَّين محله زادوا في الأجل؛ فاستغرقوا بالشيء الحقير مال المديون، (وَاتقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون): راجين الفلاح، (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ(1/292)
لِلْكَافِرِينَ): بالتحرز عن متابعتهم، وفيه تنبيه على أن النار بالذات للكافر وبالعرض للعاصي، (وَأَطِيعُوا الله وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَسَارِعُو ا): بادروا، (إِلَى مَغفرَةٍ من ربَكُمْ): أعمال توجب المغفرة، كالإسلام، والتوبة، وأداء الفرائض، (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ) أي: عرضها كعرضهما قيل فيه تنبيه على اتساع طولها كما قال تعالى: (بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) [الرحمن: 54] أي: فما ظنك بالظهائر؟! وقيل عرضها كطولها؛ لأنها قبة تحت العرش، (أُعِدَّتْ): هيئت، (لِلْمُتَّقِينَ)، فالجنة بالذات للمتقين، وبالعرض لفساق المؤمنين، (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ)، صفة مادحة لهم، (فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاءِ): في اليسر والعسر أو المراد جميع الأحوال؛ لأنه لا يخلو الإنسان منهما، (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ): الكافين عن إمضائه مع القدرة(1/293)
عليه، (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ): التاركين عقوبة من استحقها، (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ): إشارة إلى أن هؤلاء في مقام الإحسان، (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً): قبيحة بالغة في القبح، نزلت حين قال المؤمنون: " كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا؛ لأنَّهُم إذا أذنبوا ذنبًا أصبحت كفارة ذنوبهم مكتوبة على عتبة أبوابهم، أو نزلت لرجل قبَّل امرأة وعانقها ثم ندم، وقيل الفاحشة الزنا والكبائر، (أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ): بالصغائر وما دون الزنا، (ذَكَرُوا الله): أي: وعيده، أو ذكروه باللسان: (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ)، استفهام بمعنى النفي معترض بين المعطوف والمعطوف عليه دال على سعة رحمته، (وَلَمْ يُصِروا عَلَى مَا فَعَلوا): لم يقيموا على ذنوبهم، بل أقروا واستغفروا وفي الحديث " ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة "، (وَهُمْ يَعْلَمُون): أنها معصية أو أن الإصرار ضار أو أن الله يملك مغفرة الذنوب، أو أنَّهم إن استغفروا غفر لهم (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغفرَةٌ مِّن ربِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا)، أي: من تحت غرفها وأشجارها (الأَنهَارُ خَالِدِينَ فيهَا)، خبر للذين إذا فعلوا إن جعلته مبتدأ، وإلا فجملة مستأنفة مبينة لما قبلها، (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) أي: ذلك، يعني المغفرة والجنات، وكم فرق بين القبيلتين فصل آيتهم بالمحبة والإحسان، وفصل آية هؤلاء بالعمل والأجر، (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) أي: وقائع سنها الله في الأمم الماضية، وقيل معنى السنن(1/294)
الأمم، (فَسِيروا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُكَذِّبِينَ): فتعتبروا ولا تحزنوا على ما وقع عليكم يوم أحد فإني آخذهم أشد الأخذ عاقبة الأمر لما فرغ عن حديث الربا الذي هو حرب مع الله كما قال الله استأنف حديث الجهاد الأكبر الذي كان الكلام فيه، (هَذا بَيَانٌ للنَّاسِ) أي: القرآن، وقيل إشارة إلى مفهوم قد خلت، أو فانظروا أي: القرآن بيان الأمور للناس عامة، (وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ للْمُتَّقِينَ) أي زيادة بصيرة، وزاجر لهم خاصة، (وَلاَ تَهِنوا وَلاَ تَحْزنوا): لا تضعفوا عن الحرب بسبب غلبة الكفار يوم أحد، ولا تحزنوا على ما وقع عليكم، (وَأَنتم الأَعْلَوْن)، والحال إنكم الأعلى والغالب في الدنيا والآخرة، والعاقبة لكم، والخسار لهم، (إِن كُنتُم مؤْمِنِينَ) متعلق بـ لا تهنوا أي: لا تهنوا إن صح إيمانكم؛ فإن الإيمان يورث قوة القلب، ويمكن أن يتعلق بـ أنتم الأعلون أي: غلبتكم، ونصرتكم متحققة إن كنتم(1/295)
مؤمنين أي: إن كان إيمانكم متحققًا فالنصرة متحققة، (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ): جراح وكسر يوم أحد، (فقَدْ مَسَّ القَوْمَ): المشركين، (قَرْحٌ مِثْلُهُ): يوم بدر، ولم يجبنوا فأنتم أحق ألا تهنوا، (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ) أي: أيام الدنيا أو أيام الغلبة، (نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ): نصرفها بينهم نديل لهؤلاء تارة، وتارة لهؤلاء، وهو خبر لتلك، والأيام صفتها، (وَلِيَعلمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا): علم رؤية ومشاهدة أي: ليتميزوا عن المنافقين، وهو عطف على علة محذوفة أي: نداولها ليكون كذا، وكذا، أو ليعلم الله إشارة إلى تعدد العلة أو تقديره: وليعلم الله الذين آمنوا فعلنا ذلك، (وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ)، وليكرم قومًا بالشهادة في سبيله، (وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظالِمِينَ): يعني: غلبتهم لا لمحبتهم بل لما ذكرنا، (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي: ليطهرهم من الذنوب بما يقع عليهم من قتل وجرح، وجملة " والله لا يحب الظالمين " معترضة، (وَيَمْحَقَ الكَافرِينَ): يهلكهم فإنهم إذا ظفروا بغوا فهو سبب هلاكهم أو مغلوبية المؤمنين لتطهيرهم، ومغلوبية الكفار لإهلاكهم في الدارين، والمحق نقص الشيء قليلاَّ قَليلاً.
(أَمْ حَسِبتمْ): بل أحسبتم (أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا منكُمْ) (1) أي: لا تحصل الجنة لكم حتى يرى الله منكم المجاهدين، ويبتليكم بالشدائد أو معناه لا تحصل لكم والحال أنكم لما تجاهدوا كما يقال: ما علم الله في فلان خيرًا، أي: مما فيه خير، (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ): ويرى الصابرين على القتال، أو نصبه بإضمار أن، والواو بمعنى الجمع، (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) أي: الشهادة أو الحرب فإنها من أسباب الموت، (مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ): تشاهدوا وتعرفوا شدته، (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ
___________
(1) لما كان علم الله بالشيء من لوازم تحققه جعل عدم العلم كناية عن عدم ذلك الشىء فصار معنى لم يعلم الله الجهاد لم يجاهد فلما بمعنى لم إلا أن فيه ضربًا من التوقع فدل على نفى الجهاد فيما مضى، وعلى توقعه فيما يستقبل.(1/296)
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ): رأيتموه معاينين له حين قتل من قبل من إخوانكم فأنتم تمنيتم غلبة الكفار لأنكم تمنيتم الشهادة أو إذا طلبتم لقاء العدو فاصبروا.
* * *
(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
* * *
(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ): بالموت، أو القتل، فيخلو محمد صلى الله علمه وسلم أيضًا (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ): عن الدين، ورجعتم إلى دينكم الأول وذلك لما شاع يوم أحد أن رسول الله - صلى الله(1/297)
عليه وسلم - قد قتل قال المنافقون للمؤمنين: الحقوا بدينكم الأول فنزلت (وَمَن ينقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئًا): بل يضر نفسه، (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ): على نعمة الإسلام (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي: محال أن يموت أحد إلا بقدر الله، (كِتَابًا مُؤَجَّلًا) أي كتب الموت كتابًا مؤقتًا لا يتقدم ولا يتأخر فالتأخير عن القتال والإقدام عليه لا يزيد ولا ينقص في العمر، (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا) أي: من عمله، (نُؤْتِهِ مِنْهَا) إن أردنا، قيل هذا تعريض بمن شغلتهم الغنائم يوم أحد، وتركوا المركز الذي وقفهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَة): كمن ثبت حتى قتل، (نؤْتِهِ مِنْهَا) أي: من ثوابها، (وَسَنَجْزِي الشاكِرِينَ): الذين لم تشغلهم زينة الدنيا، (وَكَأَيِّنْ) أصله أيّ دخلت الكاف عليها، وصارت بمعنى كم، وأثبتت النون في الخط، وهي تنوين،(1/298)
عليها، وصارت بمعنى كم، وأثبتت النون في الخط، وهي تنوين، ومعناه كم، (مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) أي: جموع كثيرة منسوب إلى الربة وهي الجماعة أو علماء كثير، وفاعل قاتل ربيون أو ضمير للنبي ومعه ربيون حال عنه، (فمَا وَهنوا): ما فتروا (لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ سَبِيلِ اللهِ) من قتل بعضهم أو من قتل نبيهم، (وَمَا ضَعُفُوا): عن العدو، (وَمَا اسْتَكَانُوا): ما تخشعوا وما ذلوا لعدوهم (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ): فينصرهم في الدين، (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ)، مع أنَّهم ثابتون(1/299)
ربانيون مصابون (إِلا أَن قَالُوا) اسم كان (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي(1/300)
أَمْرِنَا): صغائرنا، وكبائرنا، (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا): بحولك وقوتك، (وَانصُرْنَا عَلَى القَومِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا): النصر، والعافية، والغنيمة، (وَحُسْن ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الُمحْسِنِينَ).
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ(1/301)
الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
* * *
(يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الذِينَ كَفَرُوا): اليهود، والمنافقين حين قالوا يوم أحد: ارجعوا إلى دين آبائكم (يَرُدوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ): يرجعوكم إلى الشرك، (فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ): مغبونين في الدارين، (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ): ناصركم، (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ): فلا تستنصروهم، (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) لما ارتحل المشركون عن أحد عزموا في أثناء الطريق الرجوع لاستئصال المسلمين، فألقى الله الرعب في قلوبهم فلم يقدروا على الرجوع (بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ): بسبب إشراكهم، (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) أي: أشركوا شيئًا لم يزل الله بإشراكه حجة ودليلاً (وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) أي: النار، وضع الظاهر موضع المضمر تغليظًا وتعليلاً، (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ): بالنصر والظفر بشرط الصبر والتقوى (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ): تقتلون المشركين أول الأمر يوم أحد (بِإِذْنِهِ): بقضاء الله، (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ): جبنتم، (وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أراد اختلاف الرماة حين انهزام المشركين قال بعضهم ندع مكاننا للغنيمة، وقال بعضهم: نترك الغنيمة، ولا نخالف نبي الله (وَعَصيتم): الرسول بترك المركز، (مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم): الله (مَا تُحِبُّونَ): من الغنيمة، وجواب إذا محذوف وهو امتحنكم أو منعكم نصره، (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا): وهم من ترك المركز للغنيمة، (وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ): وهم(1/302)
الثابتون عند المركز، (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ): كفكم عنهم، وردكم بالهزيمة (لِيَبْتَلِيَكُمْ): يمتحن ثباتكم، (وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ): مخالفة الرسول لندمكم، أو عفا عنكم فلم يستأصلكم، (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الُمؤْمِنِينَ إِذْ تُصْعِدُونَ): تبعدون فى الهزيمة متعلق بـ عفا عنكم، أو بـ صرفكم، أو ليبتليكم، (وَلاَ تَلْوُون): لا تقفون، ولا تقيمون، (عَلَى أَحَدٍ): ولا يلتفت بعض إلى بعض، (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ) أي: في جماعتكم الأخرى أي المتأخرة يقول: " إليَّ عباد الله فأنا رسول الله من يكر فله الجنة) (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ): جازاكم عن فشلكم غما متصلاً بغم غم الذنب وظن قتل نبيكم والخوف وظفر المشركين وقيل غمًّا بسبب غم أذقتموه رسول الله بمخالفته، (لكَيْلا تَحْزنوا عَلَى مَا فاتَكُمْ): من الغنيمة، والظفر بعدوكم، (وَلاَ): على، (مَا أَصَابَكُمْ): من القتل والجراح وقيل معناه لتتمرنوا على الصبر في الشدائد؛ فلا تحزنوا فيما بعد على نفع فائت وضر لاحق، وقيل (لا) في لكيلا زائدة، (وَاللهُ خَبِيرٌ بمَا تَعْمَلُونَ): عالم بأعمالكم وقصدكم، (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا): أمنة مفعول، ونعاسًا بدل منه، وهذا كما قال الزبير: لقد(1/303)
رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره، والله لا أسمع قول معتب بن قشير إلا كالحلم لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا، وعن ابن مسعود: النعاس في القتال من الله، وفي الصلاة من الشيطان، (يَغْشَى): النعاس (طَائِفَةً مِنْكُمْ)، وهم المؤمنون حقًا، (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) ما بهم إلا هَمُّ أنفسهم وطلب خلاصها، وهم المنافقون، (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ): نصب (غَيْرَ الْحَقِّ) بالمصدر أي يظنون غير الظن الحق، وظن الجاهلية بدله أو هو مفعول مطلق، وغير الحق مصدر لمضمون الجملة أي يظنون ظن الجاهلية يقولون قولاً غير الحق، وهو أنَّهم يظنون أنه ما بقي من أمر محمد صلى الله عليه وسلم شيء، (يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) أي: هل لنا من النصر والغلبة شيء، ونصيب قط؛ وهذا إنكار منهم، (قُلْ): يا محمد، (إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لله): النصر والظفر والقضاء والقدر، (يُخْفُونَ فِي أَنفسِهِم): من النفاق استئناف، أو حال من فاعل يقولون، (مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُون)، بدل من يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك أو استئناف أي إذا خلا بعضهم إلى بعض يقولون،: (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) أي: لو كنا على الحق،(1/304)
(مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا): لما قتل منا في هذه المعركة، (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) أي: لخرج الذين قدر القتل عليهم إلى مصارعهم ولم يستطيعوا الإقامة في المدينة (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا في صُدُورِكُمْ)، ليمتحن، ويظهر سرائركم من الإخلاص وعدمه، وهو عطف على محذوف أي برز لنفاذ القضاء وليبتلي، أو علة فعل محذوف أي: فعلنا ذلك، (وَلِيُمَحِّصَ مَا في قُلُوبِكُمْ): يكشفه، ويميزه أو يطهره، ويخلصه من الوساوس (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ): بضمائرها، (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ): أيها المؤمنون، (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ): في أحد، (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) أي: انهزم من انهزم لأجل استزلال الشيطان إياهم ببعض الذنوب، وإيقاعهم فيه يعني اقترفوا ذنوبًا لم يستحقوا معها التأييد الإلهي، وتقوية القلب فلذا فروا أو لأجل أنه حملهم على الذلة التي هي الفرار بسبب ذنب هو بمخالفة الرسول أعني ترك المركز أو بشؤم ذنوب تقدمت لهم فإن المعاصي يجر بعضها بعضًا كالطاعة، (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) تلك الخطيئة، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ): للذنوب، (حَلِيمٌ): لا يعاجل بعقوبة العصاة.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ(1/305)
فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ(1/306)
بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونوا كالذِينَ كَفَرُوا) أي: المنافقين، (وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ): لأجل أصحابهم وفيهم، (إِذَا ضَربوا): سافروا أي قالوا لأجل الأحوال العارضة للإخوان إذا ضربوا بمعنى حين كانوا يضربون، (في الأَرْضِ): للتجارة وغيرها فماتوا فى تلك السفر: (أَوْ كَانُوا غُزًّى)، فقتلوا جمع غاز (لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا)، مقول قالوا، (لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي: لا تكونوا مثلهم فى ذلك الاعتقاد ليجعل ذلك الاعتقاد حسرة في قلوبهم خاصة دون قلوبكم أو معناه قالوا ذلك واعتقدوا ليجعل، وحينئذ اللام لام العاقبة كقولهم: " لدوا للموت وابنوا للخراب " (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي: المؤثر فيهما هو الله لا الإقامة والسفر، (وَاللهُ بمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، فلا تكونوا أيها المؤمنون كالكفار، (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ) أي: في سبيله، (لَمَغفِرَةٌ منَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيرٌ ممَّا يجمَعُون)، جواب القسم ساد مسد الجزاء أي لو وقع القتل أو الموت فما تنالون من المغفرة بالموت خير مما يجمعون من حطام الدنيا الفانية، (وَلَئِن متمْ أَو قُتِلتُمْ(1/307)
لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) لا إلى غيره، فلا رجاء ولا خوف إلا منه، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ)، ما مزيدة للتأكيد أي: برحمة وإحسان منه سهلت أخلاقك يا محمد لهم، (وَلَوْ كنتَ فَظًّا): سيئ الخلق، (غَلِيظَ القَلْبِ): قاسيه، (لانفَضُّوا): تفرقوا، (مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ) فيما يختص بك، (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ): فيما لله، (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمر): فيما تصح المشاورة فيه تطييبًا لقلوبهم، (فَإذَا عَزَمْتَ): وجزمت على أمر بعد الشورى، (فَتَوَكلْ عَلَى اللهِ): فيه، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الُمتَوَكِّلِينَ): فينصرهم، ويهديهم، (إِن يَّنصُرْكُم اللهُ فَلاَ غالِبَ لَكُمْ): فلا أحد يغلبكم، (وَإِن يَخْذُلْكُمْ): بغلبة العدو (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ): من بعد الخذلان، أو من بعد الله، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، فليخصوه بالتوكل عليه لما علموا ألا ناصر سواه، (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ): ما ينبغي لنبي أن يخون في الغنيمة، نزلت فيما قال(1/308)
المنافقون يوم بدر حين فقد قطيفة حمراء لعل رسول الله أخذها، أو في ظن الرماة يوم أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعطيهم الغنيمة، ولهذا اشتغلوا بالغنيمة، وتركوا المركز أو معناه ما كان لنبي أن يكتم شيئًا من الوحي وقرئ على البناء للمفعول أي ينسب إلى الخيانة، أو يخونه أمته فقيل نزلت يوم بدر، وقد غل بعض أصحابه (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ): حاملاً له على عنقه، وقد ورد أن الحجر ليرمى به في جهنم فيهوي سبعين خريفًا ما يبلغ قعرها، ويؤتى بالغلول فيقذف معه، ثم يقال لمن غل ائت به فذلك قوله (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ): جزاؤه وإذا كان كل كاسب مجزيًا بعمله فالغال لعظم ذنبه بذلك أولى، (وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ): بنقص الثواب، وازدياد العقاب، (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ): بطاعته، (كمَنْ بَاءَ): رجع، (بِسَخَطٍ منَ اللهِ): بمخالفة شرعه، (وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئسَ المَصِير): جهنم، (هُمْ درَجَاتٌ عندَ اللهِ) أي أهل الخير وأهل الشر(1/309)
درجات أي كدرجات في التفاوت أو ذو درجات، (وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُون)، فيجازيهم على حسب الأعمال، (لقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهم) من جنسهم لا من ملك وغيره ليفهموا كلامه، ويتمكنوا من مجالسته والانتفاع به، (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) أي: القرآن، (وَيُزَكِّيهِمْ): من دنس الشرك والجهل، (ويعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ): القرآن، (وَالْحكمَةَ): السنة، (وَإِن كانوا مِن قَبْلُ)، إنْ هي المخففة أي: إن الشأن كانوا قبل بعثته، (لَفِي ضَلالٍ مبينٍ): ظاهر، (أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) يوم أحد من قتل سبعين منكم، (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا): يوم بدر من قتل سبعين، وأسر سبعين، (قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا): القتل والهزيمة، ونحن مسلمون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، والهمزة متخللة بين المعطوف والمعطوف عليه، وهو ما سبق من قصة أحد(1/310)
للتقرير والتقريع وقلتم جواب لما فإنه ظرف بمعنى حين يستعمل استعمال الشرط مضاف إلى الجملة بعده، وناصبه ما وقع موقع الجزاء، وأني خبر هذا وقع مقول القول، وقد أصبتم صفة لمصيبة، (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ): من مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بترك المركز أو فيما صنعتم من أخذكم الفداء يوم بدر، (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): من النصر، ومنعه (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ): جمع المسلمين، والمشركين يوم أحد، (فَبِإِذْنِ اللهِ): فهو بقضائه، وقدره، (وَلِيَعْلَمَ)، عطف على بإذن الله، (الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا) أي: ليتميز المؤمنون من المنافقين ويظهر إيمان هؤلاء، وكفر هؤلاء، (وَقيلَ لَهُمْ) أي: لعبد الله بن أبي وأصحابه لما انصرفوا في أثناء الطريق، عطف على نافقوا أو كلام مبتدأ، (تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا): عنَّا القوم بتكثيركم سوادنا، وقيل تخيير بين المقاتلة للآخرة أو للدفع عن الأنفس والأموال، (قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ)، لكن لا يكون اليوم قتال، ونافقوا في هذا أيضًا، لأنَّهُم ظنوا القتال ورجعوا وقيل معناه لو نعلم أن ما ترتكبونه قتال لاتبعناكم، لكن هو إلقاء الأنفس إلى التهلكة، (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذ أَقْرَبُ مِنهُمْ لِلإِيمَانِ)، لانخزالهم وكلامهم، (يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم ما لَيسَ فِي قُلُوبِهِمْ): من كلمة الإيمان، وقولهم لو نعلم قتالاً على التوجيه الأول، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ): من النفاق، (الذِين)، بدل من فاعل يكتمون أو نصب أو رفع على
الذم، (قَالُوا لإِخوَانِهِمْ) أي: لأجل أقاربهم المقتولين يوم أحد أو قالوا لإخوانهم من(1/311)
المنافقين، (وَقَعَدُوا) أي: والحال أنهم قد قعدوا عن الحرب، (لَوْ أَطَاعُونَا) أي: شهداء أحد في الانصراف، (مَا قُتِلُوا): كما لم نقتل، (قُلْ فَادْرَءُوا): ادفعوا (عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): إنكم تقدرون دفع القتل عمن كتب عليه، (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً)، نزل في شهداء أحد أو في شهداء بدر أو في سبعين من الصحابة قتلوا في بئر معونة حين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجد، (بَلْ): هم، (أَحياءٌ عِندَ ربهِمْ): في دار كرامته، (يُرْزقُون): من الجنة حيث شاءوا، فإن أرواحهم في أجواف طيور خضر، (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ): لوقوع محذور، (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ): لفوات محبوب وألا خوف بدل اشتمال من(1/312)
الذين أي يستبشرون بعدم الخوف والحزن على الذين خلفهم من المؤمنين بشرهم الله(1/313)
بذلك أو يسرون بلحوق من لحقهم عن إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم ليشركوهم فيما هم فيه من الكرامة قال السدى: يؤتى الشهيد بكتاب فيه يقدم عليك فلان يوم كذا وفلان يوم كذا، فيسر بذلك كما تسرون بقدوم الغائب، وقال: بعضهم لما قتلوا ورأوا الكرامة قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما عرفناه، فباشروا القتال بالرغبة، فأخبر الله نبيه بأمرهم، ثم الله أخبرهم بأني قد أخبرت بأمركم نبيكم، فاستبشروا بذلك فذلك قوله: (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا) إلى آخره (يَسْتَبْشِرُونَ)، كرره تأكيدًا، وليتعلق به قوله: (بِنِعْمَةٍ من اللهِ)، ثوابًا لأعمالهم، (وَفَضْلٍ): زيادة عليها، (وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)، عطف على نعمة أي: استبشروا لما عاينوا من وفاء الموعود.
* * *
(الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ(1/314)
شَيْئًا يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلله مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
* * *
(الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ): الجرح، وهو صفة للمؤمنين أو نصب على المدح، (لِلذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ): بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومِن للتبيين، وهو أي للذين خبر قدم على مبتدئه، والجملة استئنافية أو الذين استجابوا مبتدأ وجملة للذين أحسنوا إلخ خبره، (وَاتَّقَوْا): مخالفته، (أَجْرٌ عظيمٌ الذِينَ)، بدل من الذين، (قَالَ لَهُمُ النَّاسُ): رسول المشركين، (إِنَّ النَّاسَ)، أي: المشركين، (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ)، ذلك القول، (إِيمَانًا) يقينًا وتصديقًا، (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ): محسبنا وكافينا، (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ): الموكول إليه هو، (فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ منَ اللهِ)، سلامة بدن، (وَفَضْلٍ): ربح مال، (لّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ): قتل وجرح، (وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ): في طاعة رسوله، (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم)، أنعم عليهم بإنعامات جمة دينية ودنيوية نزلت آية (الذين استجابوا) إلخ فيمن بقى من غزوة أحد فإنهم أطاعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جراحاتهم فى الخروج عقب المشركين فإنهم إذا رجعوا من أحد ندموا في أثناء الطريق، وقالوا:(1/315)
نرجع ونستأصلهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مَن كان معه في أحد فلما سمع المشركون بخروجهم ألقى الله الرعب فيهم فأرسلوا أحدا يخوف المسلمين منهم، والمسلمون يقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل، ورجعوا فرجع المسلمون بعافية وربح وهو أن عيرًا مرّت فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم وربح فيها مالاً وقسم بين أصحابه أو نزلت فيمن خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام القابل من غزوة أحد حين خرج المشركون من مكة وألقى الله الرعب فيهم في أثناء الطريق، وندموا من الخروج وأرسلوا أحدًا يخوف المسلمين في المدينة، وهم متأهبون للقتال قائلون حسبنا الله ونعم الوكيل، ورجعوا من الطريق فرجع المسلمون بسلامة وربح في تجارة من سوق بدر ورضًا من الله، (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ) أي: قائل إن الناس قد جمعوا لكم شيطان يصدكم عن سبيل الله، مبتدأ، وخبر، (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ):(1/316)
يخوفكم أولياءه بإيهامكم أنَّهم ذوو قوة وبأس، (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ): مصدقين موقنين، (وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ) أي: لا تهتم، ولا تبال بمن يبادر إلى العناد وكسر الإسلام، وهم كفار قريش أو المنافقون أو هم واليهود، (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا) أي: دين الله، وشيئًا مصدر أو مفعول، (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ): نصيبًا من الثواب فيها (ولَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ)، مع حرمان الثواب، (إِنَّ الَّدينَ اشْتَرَوُا الكُفْرَ بِالإِيمَان): استبدلوا هذا بهذا (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا)، ولكن يضرون أنفسهم، (ولَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ)، ما مصدرية، وإن مع ما في حيزه مفعول، وفي قراءة: " ولا تحسبن " بالتاء تقديره لا تحسبن يا محمد حال الذين كفروا أن الإملاء أي: الإمهال خير بحذف مضاف أو إنما نملي بدل من المفعول، واستغني به عن المفعول الثاني (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا)، استئناف بما هو علة الحكم قبلها، وما كافة، (وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) نزلت في مشركي مكة، أو في قريظة والنضير، (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ): يا معشر المسدمين من التباسكم بالمنافقين أو يا معشر المؤمنين والمنافقين من الالتباس والاختلاط (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) المنافق من المخلص بالوحي أو بتكاليف لا تذعن لها إلا الخلص كما ميز يوم أحد، (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ)، فتعرفوا قلوب المخلصين والمنافقين، (وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ)، فيخبره ببعض المغيبات(1/317)
نزلت حيث قال المشركون: إن كان محمد صادقًا فليخبرنا بمن يؤمن به، ومن يكفر أو لما قال عليه الصلاة والسلام: (عرضت عليَّ أمتي وأعلمت من يؤمن لي ومن يكفر بي) قال المنافقون: إنه يزعم عرفان المؤمن من الكافر، ونحن معه ولا يعرفنا، (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ): بصفة الإخلاص، (وَإِن تؤْمِنُوا): حق الإيمان، (وَتَتَّقوا فَلَكمْ أَجْر عَظِيمٌ وَلاَ يَحْسَبَن الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ)، بقراءة التاء تقديره ولا تحسبن بخل الذين بحذف مضاف، وكذا بقراءة الياء إن كان الفاعل ضمير الرسول وأما إذا كان الذين يبخلون فاعله فتقديره ولا يحسبن البخلاء بخلهم هو خيرًا لهم نزلت في مانعي الزكاة وقيل في أهل الكتاب بخلوا بما في أيديهم من الكتب المنزلة، (بَلْ هوَ) أي: البخل، (شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يجعل ماله الذي لم يؤد زكاته حية يطوق في عنقه تنهشه من فرقه إلى قدمه، أو يجعل طوقًا من نار، (وَلله مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): يفنى الملاك، وتبقى الأملاك بلا مالك إلا الله، فلا تبخلوا، (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلون): من المنع، والإعطاء، (خبِيرٌ)، فيجازيكم.
* * *(1/318)
(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)(1/319)
(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)، قالت اليهود لما نزلت: (من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا) [البقرة: 245، الحَديد: 11] أو لما دعاهم أبو بكر إلى الإسلام قالوا: إن الله إلينا لفقير ونحن عنه أغنياء، ولولا ذلك ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا): في صحيفة أعمالهم أو سنحفظه ولا نهمله، (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ): بحسدٍ وعناد قرنه به لأنهما كجنس واحد في العظم، (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) المحرق أي: ننتقم منهم بأن نقول لهم ذلك (ذلِكَ) أي: العذاب، (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ): بسبب ذنوب صدرت من أنفسكم، وهو من جملة المقول معهم، (وَأَنَّ الله لَيْسَ بظَلاَّمٍ للْعَبيدِ)، عطف على ما قدمت أي: عدلنا يقتضي تعذيبكم، وصيغة المبَالغة لكثرة العبيد فإنها جمع محلى باللام، (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) أي: حتى يأتي بتلك المعجزة الخاصة، وهي أن من تَصدق بصدقة من أمته فتقبلت منه تنزل نار من السماء تأكلها كما كانت لأنبياء بني إسرائيل (قُلْ): يا محمد تكذيبًا لهم، وإلزامًا؛ (قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ): المعجزات، (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ):(1/320)
تلك المعجزة الخاصة التي تطلبون مني، (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ): أنكم تتبعون من جاء بتلك المعجزة، ثم قال مسليًا لرسوله صلى الله عليه وسلم (فَإِنْ كَذَّبُوكَ): فليس ببدع منهم، (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ): الكتب المقصورة على الحكم وعلى المواعظ، (وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ): الواضح المعنى المتضمن للشرائع والأحكام، (كُل نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ): وعد للمصدق، ووعيد للمكذب، (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ): تعطون تامًا جزاء أعمالكم، (فَمَنْ زُحْزِحَ): جنب، وبعد: (عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ): ظفر بالبغية، (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) أي: زخارفها، (إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ): كمتاع يدلس به على المستام فيغر ويشتريه فمن اغتر بها وآثرها فهو مغرور، (لَتُبْلَوُنَّ) أي: والله لتختبرن، (فِي أَمْوَالِكُمْ): بإهلاكه، والأمر بالإنفاق، (وَأَنْفُسِكُمْ): بالجهاد والقتل، والأمراض، والحقوق كالصلاة، والحج، (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا)، من هجاء الرسول، والطعن، وتشبيب النساء أمرهم بالصبر قبل الوقوع ليوطنوا أنفسهم عليه، (وَإِن تَصْبِرُوا) على الأذى، (وَتَتَّقُوا): الله، (فَإنَّ ذَلِكَ): أي الصبر، والتقوى، (مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ): معزوماتها أي: التي يجب العَزم عليها أو مما عزم الله وأمر وبالغ فيه قال عطاء: من حقيقة الإيمان، (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ) أي: اذكره، (مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ): بلسان أنبيائهم، (لَتُبَيِّنُنَّهُ(1/321)
لِلنَّاسِ): حكاية لمخاطباتهم أي: والله لتبينن الكتاب بجملته لهم، (وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ) أي: الميثاق، (وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ): هو مثل في ترك الاعتداد والاعتبار، (وَاشْتَرَوْا به ثَمَنًا قَلِيلاً) أخذوا بدله قليلاً من حطام الدنيا، (فَبئْسَ مَا يَشْتَرُونَ): يختارون، (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ): تأكيد للأَول، (بِمَفَازَةٍ): منجاة، (مِّنَ العَذَابِ) أَى: فائزين بالنجاة منه، ومن قرأ بالياء ففاعله الذين، ومفعوله الأول متصل بالتأكيد ولا(1/322)
حذف، (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) بكفرهم، وكتمانهم آيات الكتاب، وقد صح أن مروان أرسل أحدًا إلى ابن عباس رضى الله عنهما وقال: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا لنعذبن أجمعين، فقال ابن عباس رضى الله عنهما: ما لكم وهذه إنما نزلت في أهل الكتاب، وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء وأخبروه بغير الواقع، فظنوا أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه، وفرحوا بكتمانهم أو نزلت في قوم تخلفوا عن الغزو، ثم اعتذروا وحلفوا واستحمدوا وقيل في المنافقين يفرحون بنفاقهم، ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان، (وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): فلا يعجز عن الانتقام.
* * *
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى(1/323)
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لله لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
* * *
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، هذه في ارتفاعها واتساعها مع ما فيها من الكواكب المختلفة، وهذه في انخفاضها، وكثافتها، وما فيها من البحار، والجبال، والأشجار، والأنهار، والزروع، والثمار، (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) تعاقبهما، وتقارضهما الطول والقصر فتارة يطول هذا أو يقصر ذلك، ثم يعتدلان، ثم يطول الذي كان قصيرًا، ويقصر الذي كان طويلاً، وكل ذلك تقدير العزيز العليم، (لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ): دلالات على الوجود، والوحدة والعلم، والقدرة لذوي العقول الخالصة، وقد ورد: " ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها "، (الَّذِينَ يَذكُرُونَ الله)، وصف لأولي الألباب، (قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ): يصلون قائمين فإن لم يستطيعوا فقعودًا، فإن لم يستطيعوا فعلى جنب، أو المراد مداومة الذكر لأن الإنسان قلما يخلو عن إحدى هذه(1/324)
الحالات (وَيَتَفَكرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) وما أبدع فيهما استدلالاً قائلين: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا) أي: الخلق، (بَاطِلًا) أي: خلقًا عبثًا بل خلقته لحكم عظيمة، (سُبْحَانَكَ): أنزه تنزيهًا لك من خلق العبث، (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ): علمنا أنك منزه عن خلق العبث، بل ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى فقنا عذاب النار بحولك، (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ) للخلود فيها فإنه الخزي كما قال تعالى (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ) [التحريم: 8] إلخ، (فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ)، أهنته غاية الإهانة، وفيه إشعار بأن العذاب الروحاني أفظع، (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ): ينصرونهم في الخروج من النار، وضع الظاهر موضع المضمر ليعلم أن سبب الخلود ظلمهم، وهذا دليل على أن المراد بالدخول هاهنا الخلود لأن للداخلين من المؤمنين أنصارًا، (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا) أي: محمدا عليه الصلاة والسلام أو القرآن، (يُنَادِي لِلْإِيمَانِ)، والنداء يعدى بإلى، واللام لتضمنه معنى الانتهاء والاختصاص (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ) أي: بأن آمنوا، (فَآمَنَّا رَبَّنَا(1/325)
فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا): كبائرنا، (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا): صغائرنا بقبول الطاعات (وَتَوَفنَا مَعَ الأَبْرَارِ): معدودين في زمرة الصالحين، (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ) أي: على ألسنتهم أو على تصديق رسلك من الثواب فعلى الحقيقة استعاذة من سوء العاقبة مخافة ألا يكونوا من الموعودين، (وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ): لا تفضحنا على رءوس الأشهاد، (إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) البعث بعد الموت، (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ): يعدى بنفسه وباللام (أَنِّي) أي: بأق، (لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى): بيان عامل، (بَعْضُكُم مِّنْ بَعْض): في الدين أو كلكم من آدم أو لأن الذكر من الأنثى، والأنثى من الذكر قالت أم سلمة: يا رسول الله لا نسمع الله تعالى ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله تعالى (فاستجاب لهم) إلخ. (فالذِينَ هَاجَروا): تفصيل للأعمال، (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا): الكفار، (وَقُتِلُوا): في الجهاد، (لَأُكَفِّرَنَّ): لأمحون، (عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) تحت أشجارها، (ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ) أيَ: لأثيبنهم ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ العظيم، (وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الثوَابِ): على الطاعات.
(لاَ يَغُرنكَ تَقَلبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي البِلادِ): من السعة والتبسط في المكاسب والمزارع والمتاجر قال بعض المؤمنين: أعداء الله فيما نرى من الخير، ونحن في الجهد نزلت فالخطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره، (مَتَاعٌ قَلِيلٌ) أي: ذلك التقلب متاع قليل لقلة مدته وفي جنب ما أعد الله للمؤمنين، (ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ): ما مهدوا(1/326)
لأنفسهم، أو الفراش جهنم، (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ): هو مما يعد للنازل، ونصبه على الحال من جنات، والعامل الظرف، (وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ): مما يتقلب فيه الفجار في الدنيا، (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ)، دخلت اللام على اسم إن للفصل بالظرف نزلت لما تُوفي النجاشي، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى كما يصلي على الجنائز فقال المنافقون: تصلى على علج مات بأرض الحبشة أو في ابن سلام وأصحابه، أو في جمع من الحبشة والروم أسلموا أو في مؤمني أهل الكتاب كلهم، (وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ): القرآن (وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ): من كتبهم، (خَاشِعِينَ لله)، حال من فاعل يؤمن، (لاَ يَشْتَرُونَ)، حال آخر، (بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا): لا يأخذونه بدلها كما يفعله المحرفون (أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)، فالأجل الموعود سريع الوصول إليهم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا): على دينكم وعلى أمر الله أو على البلاء، (وَصَابِرُوا): على عدوكم، (وَرَابِطُوا) أنفسكم في مكان العبادة أي داوموا أو أبدانكم وخيولكم فى الثغور أو المراد انتظار الصلاة بعد الصلاة، (وَاتَّقُوا اللهَ): في جميع الأمور وفيما بينه وبينكم، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لكي تفلحوا في الدنيا، والآخرة.
والحمد لله رب العالمين أكمل الحمد وأتمه.(1/327)
سورة النساء
وهى مائة وست وسبعون آية وأربعة وعشرون ركوعًا
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا (6) لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا(1/328)
مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ): هي آدم. (وخَّلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا): حواء من ضلع من أضلاعها. (وَبَثَّ): نشر. (مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) أي: كثيرًا. (وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَسَاءلُونَ بِه) أي: تتساءلون فيما بينكم حوائجكم به، كما تقولون: أسألك بالله، أدغمت التاء الثانية في السين، وقرئ بطرحها (وَالأَرْحَامَ) أي: اتقوا الأرحام أن تقطعوها (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) حافظا مطلعًا فاتقوه.
(وَءاتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) نزلت في رجل معه مال لابن أخ يتيم له فطلبه بعد البلوغ ومنعه (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ): ولا تستبدلوا حرام أموالهم بحلال(1/329)
أموالكم، نقل أنَّهم كانوا يأخذون الجيد من مال اليتامى ويجعلون مكانه الردى فنزلت، وعلى هذا أيضًا الجيد هو الخبيث باعتبار حرمته فلا يرد عليه شيء (وَلاَ تَاكلُوا أَمْوَالَهُمْ): منضمة. (إِلَى أَمْوَالِكُمْ) أي: لا تنفقوهما معًا (إِنهُ): الضمير للأكل. (كَانَ حُوباً): إثمًا (كَبِيراً).
(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا): تعدلوا. (فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) أي: إن خفتم يا أولياء اليتامى ألا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن فانكحوا غيرهن من الغرائب، وإن خفتم ألاّ تعدلوا في اليتامى فخافوا أيضًا من عدم العدل بين النساء فانكحوا مقدارًا يمكنكم الوفاء بحقوقه أي: كما تخافون هذا فخافوا ذاك أيضًا، أو كما خفتم من ولاية اليتامى فخافوا من الزنا فانكحوا ما طاب لكم (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) أي: اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة حال مما طاب (فَإِنْ(1/330)
خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا): بين هذه الأعداد أيضًا. (فَوَاحِدَةً) أي: فاختاروها (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) سوى بين واحدة والسراري من غير تعيين عدد فإنه لا قسم بينهن وعبر عن النساء بما في الموضعين لنقصان عقلهن أو ذهابًا إلى الصّفة (ذلِكَ) أي: التقليل، أو اختيار الواحدة أو التسري (أَدنى أَلَّا تَعُولُوا): أقرب ألاّ تميلوا ولا تجوروا.
(وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ): الخطاب للأزواج أو الأولياء؛ لأنَّهُم كانوا يأخذون مهور مولياتهم (نِحْلَةً) أي: فريضة أو عطية وهبة عن طيب نفس، مصدر أي: إيتاء نحلة (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا) الضمير للصداق أو للإيتاء، ونفسًا تمييز، وعدى الطيب بعن لتضمين معنى التجافي أي: إن وهبن لكم من الصداق عن طيب نفس (فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) هَنَا الطعام ومَرَأ إذا ساغ من غير غص، صفتان أقيمتا مقام المصدر أو صفة مصدر أو حال.
(وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) هم النساء والصبيان كما قال ابن عباس: لا تعمد إلى ما جعله الله لك معيشة فتعطه امرأتك أو أولادك ثم تنظر إلى ما في أيديهم لكن أمسكه وأصلحه وكن أنت منفقًا عليهم، أو اليتامى فيكون منعًا للأولياء من إعطاء(1/331)
الذين لا رشد لهم أموالهم، وإضافة المال إلى الأولياء لأنه في تصرفهم (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا): تقومون وتنتعشون بها، فعلى الثاني تأويله التي من جنس ما جعله الله لكم قيامًا، وسمي ما به القيام قيامًا مبالغة (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ) اجعلوا لهم فيها رزقًا وكسوة بأن تتجروا فيها وتحصلوا من نفعها (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا) قولا لينًا يطيب به أنفسهم.
(وَابْتَلُوا الْيَتَامَى): اختبروهم قبل البلوغ في عقلهم (حَتَّى إِذَا بَلَغوا النِّكَاحَ) كناية عن البلوغ، لأنه عند البلوغ يصلح للنكاح (فَإِنْ آنَسْتُمْ): أبصرتم (مِنْهُمْ رُشْدًا) صلاحًا في الدين والمال (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) فدفع المال بعد البلوغ بشرط الرشد (وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً) حال، أو مفعول له (أَن يَكْبَروا) أي: مسرفين مبادرين كبرهم مخافة نزعها عن أيديكم عند كبرهم (وَمَن كَان غَنِيًّا) من الأوصياء (فَلْيَسْتَعْفِفْ): من أكل شيء منها (وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأكلْ بِالْمَعْرُوفِ) أجرة مثله، أو القرض فيجب الأداء، أو لا يأكل إلا أن يضطر كأكل الميتة ويقضي، أو لا يأكل إلا بقدر الحاجة (فإِذَا دَفَعتمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهمْ) بعد البلوغ والرشد (فأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) بقبضهم، وهذا أمر إرشاد لقطع الخصومة (وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا): محاسبًا فاعدلوا في أموالهم.
(لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أي: المتوارثون بالقرابة (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) بدل مما ترك(1/332)
(نَصِيبًا مَفْرُوضًا) مصدر مؤكد، أو بتقدير: أعني، نزلت لما كانوا يجعلون المال للرجال الكبار دون النساء والأطفال.
(وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ): قسمة الميراث (أُولُو الْقُرْبَى): ممن لا يرث (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ): مما ترك، وهو أمر ندب للبلّغ، أو أمر وجوب على الصغير والكبير منسوخ أو غير منسوخ، أو المراد أن الميت يوصي لهم، أو واجب مما طابت به النفس (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا): هو أن يدعو لهم ويلطف في العبارة معهم، وإن كانت الورثة صغارًا اعتذروا إليهم.
(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) أمر لمن حضر الميت بأن يخشوا على أولاد المريض خشيتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضرّ بهم بصرف المال عنهم ويسددوه للصواب، أو للأولياء بأن يخشوا الله ويتقوه في أمر اليتامى فيفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريهم بعد وفاتهم، وأن يقولوا لليتامى بالشفقة وحسن الأدب و (لو) بما في حيزه صلة للذين.
(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا): ظالمين أو على وجه الظلم (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا: ملء بطونهم ما يجر إلى النار، وقد نقل أن في القيامة يخرج لهب(1/333)
النار من فيه ومسامعه وأنفه وعينه يعرفه من رآه (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) وسيدخلون نارًا.
* * *
(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ(1/334)
خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
* * *
(يُوصِيكُمُ اللهُ): يعهد إليكم (في أَوْلادِكُمْ) في شأن ميراثهم (لِلذَّكَرِ) منهم (مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ) أي: المولودات (نِسَاءً) خلصًا ليس معهن ذكر (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) صفة نساءَ (فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ) المتوفى منكم (وَإِن كَانَتْ) المولودة (وَاحِدَةً فَلَهَا النصْفُ) وللبنتين حكم ما فوقهما، لأنهما أمس رحمًا من الأختين، وقد فرض لهما الثلثين بقوله: فلهما الثلثان مما ترك، وقيل: لفظ الفوق صلة زائدة وما فوق الواحدة جماعة (وَلِأَبَوَيْهِ) أي: الميت (لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) بدل (السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ): للميت (وَلَدٌ) ذكر أو أنثى، يعني: بطريق الفرضية (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ) فحسب (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) يعني: وللأب الباقي وهو الثلثان (فَإِن كَانَ لَهُ): للميت (إِخوَةٌ) وحكم الأخوين كحكم الأخوة (فَلِأُمِّهِ(1/335)
السُّدُسُ) وإن كانوا لا يرثون مع الأب (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) أي: هذه الأنصباء للورثة من بعد ما كان من وصية أو دين، وقدم الوصية على الدين وإن كان الدين مقدمًا حكمًا، لأنها تشبه الميراث شاقة على الورثة (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا): لا تعرفون من أنفع لكم من أصولكم وفروعكم، فاتبعوا ما قررت لكم من الميراث ولا تكونوا على ما كنتم عليه في الجاهلية من حرمان النساء والأطفال، وعلى ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من كون المال للولد، وللأبوين الوصية (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) مصدر يوصيكم الله، لأنه في معنى: يفرض عليكم أو مصدر مؤكد (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا) بالمصالح (حَكِيمًا) فيما قضى.
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) وحكم أولاد البنين وإن سفلوا حكم أولاد الصلب (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ) أي: الزوجات (الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) وسواء في الربع والثمن الواحدة والأكثر (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ): منه (كَلَالَةً)(1/336)
لا ولد له فيورث: صفة رجل من ورث، وكلالة: خبر كان، والرجل هو الميت (أَوِ امْرَأَةٌ) عطف على رجل (وَلَه) أي: للرجل، ومنه يعلم حكم المرأة فاكتفى به (أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) من الأم بالإجماع وهو مذكور في بعض القراءة (فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا) الضمير لمن يرث، وجمعه محمول على المعنى (أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) أي: من واحد (فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثلُثِ) ذكرا كانوا أو أنثى (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) لورثته بحرمان بعضهم أو زيادة أو تنقيص مما قدر من الفريضة، ولا يكون غرضه من الوصية الإضرار بل القربة، حال من فاعل يوصى، وفي قراءة البناء للمفعول ما يدل عليه وهو الفاعل المتروك (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) مصدر أو مفعول به لغير مضار (وَاللهُ عَلِيمٌ): بالمضار وغيره (حَلِيمٌ) لا يعاجل بعقوبته.
(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي: ما تقدمت من الأحكام شرائعه التي كالحدود التي لا يجوز مجاوزتها (وَمَن يُّطِع الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ): من تحت أشجارها (خَالِدِينَ فيهَا) جمعه باعتبار المعنى (وَذَلِكَ) أي: الخلود فيها (الفَوْزُ العَظِيمُ).(1/337)
(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) يتجاوزه (يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) لأنه لم يرض بما قسم الله وحكم به بل ضاد في حكمه، وخالدين: حال وكذا خالدًا لا صفة جنات ونارًا؛ لأنه لا بد أن يقول حينئذ: خالدين هم وخالدًا هو فيها؛ لأنهما جريا على غير من هما له.
* * *
(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ(1/338)
أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
* * *
(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ): يفعلن (الْفَاحِشَةَ) الزنا (مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) من رجال المسلمين (فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ) أجلسوهن (فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) أي: ملائكة الموت، أو يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن كان ذلك عقوبتهن في بدء الإسلام فنسخ بالحد (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) السبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك.
(وَاللذَانِ) أي: الرجل والمرأة (يَأْتِيَانِهَا) أي: الفاحشة (مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا) بالشتم والتعيير والضرب بالنعال وكان الحكم كذلك حتى نسخ، وعن بعضهم: أنها نزلت في الفتيان قبل أن يتزوجوا أو في الرجلين إذا عملا عمل قوم لوط والظاهر أن الإيذاء(1/339)
مشترك بين الرجل والمرأة والحبس خاصة المرأة، فإذا تابا أزيل الإيذاء عنهما وبقي الحبس عليها، وقيل: هذه الآية سابقة على الأولى نزولاً، وكانت عقوبة الزناة الأذى ثم الحبس ثم الجلد (فَإِنْ تَابَا) من الفاحشة (وَأَصْلَحَا) العمل (فأَعْرِضُوا عَنْهُمَا) اتركوا أذاهما ولا تعنفوهما بعدُ بكلامٍ قبيح (إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا).
(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) أي: ليس قبول التوبة واجبًا على الله بمقتضى وعده لأحد إلا (لِلذِينَ يَعْمَلُون السُّوءَ) ملتبسين (بِجَهَالَةٍ) أجمع الصحابة على أن من عصى الله عمدًا أو خطأ فهو بجهالة (ثمَّ يَتُوبُونَ من قَرِيبٍ) زمان قريب قبل معاينة الموت، أو قبل أن يحيط السوء بحسناته فيحبطها، أو في صحته قبل مرض موته (فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) تاب الله عليه قبل توبته وغفر ذنبه (وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا) بنياتهم (حَكِيمًا) بأفعاله.
(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ) أي: منفية قبولها (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) أي: لا توبة لهؤلاء الفريقين؛ فإنه كما لا تقبل توبة الآخرة لا تقبل توبة الدنيا حين الاحتضار (أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) الاعتداد: التهيئة.(1/340)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ): أي: ذواتهن (كَرْهًا) في الجاهلية إذا مات زوج امرأة ورث امرأته من يرث ماله إذا ألقى عليها ثوبًا فإن شاء تزوجها بغير صداق، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها، وإن شاء منعها من الأزواج لتموت فيرث، أو لتُعطي ما ورثت من الميت، وإن انفلتت قبل أن يلقي عليها ثوبًا نجت فنهى الله عنه، وكرها حال أي: كارهات (وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتيتمُوهُنَّ) كان للرجل امرأة كاره هو صحبتها فيقهرها ويضربها لتحل مهرها أو حقًا من حقوقها فالخطاب للأزواج، وأصل العضل التضييق، وهو عطف على (أن ترثوا) ولا لتأكيد النفي (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي: الزنا أو النشوز والعصيان أو أعم أي: لا تضجروهن للافتداء إلا وقت أن يأتين بفاحشة فإنه جاز ضجرها لتخالعه (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أجملوا بالقول والفعل معهن (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ) فاصبروا عليهن (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) مثل أن يرزق منها ولدٌ ويكون في الولد خير كثير.
(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ) طلاق امرأة وتزوج أخرى (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ) الضمير للزوج؛ لأن المراد منها الجنس (قِنْطَارًا) مالا كثيرًا أي:(1/341)
وقد جعلتم صداقهن قنطارًا (فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ) من القنطار (شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) أي أتأخذونه باهتين آثمين، أو مفعول له نحو: قعدت عن الحرب جبنًا، فإنهم إذا أرادوا طلاق امرأة نسبوها إلى فاحشة لتفتدي صداقها، أو حال من المفعول أي: ظلمًا وإثمًا ظاهرًا، وفيه ما لا يخفى من المبالغة.
(وَكَيْفَ تَأخُذُونَهُ) أي: شيئًا من الصداق (وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) والحال أنه وصل إليه، وهو كناية عن الجماع (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) هو العقد أو ما أخذ الله من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أو ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ".
(وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) كان نكاح زوجات الآباء معمولاً به في الجاهلية (مِنَ النِّسَاءِ) بيان ما، وعبر بما لأنه أراد به الصفة (إِلا مَا قَدْ سَلَفَ) الاستثناء من لازم النهي أي: تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف، أو منقطع أي: لكن ما قد سلف فإنه معفو عنه (إِنَّهُ) أي: نكاحهن (كَانَ فَاحِشَةً) أقبح المعاصي (وَمَقْتًا) وبغضًا شديدًا من الله (وَسَاءَ سَبِيلًا) وبئس ذلك طريقًا.
* * *(1/342)
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)(1/343)
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ) أي: حرم نكاحهن (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ) الربيبة بنت زوجته (اللاتي في حُجُورِكُم) في تربيتكم وبيتكم، وهذا القيد خرج مخرج الغالب لا أنه تقييد الحرمة، وقد صح عن علي كرم الله وجهه أنه جعله شرطًا، وإليه ذهب داود الظاهري وابن حزم، ونقل عن المالك (مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) أي: دخلتم معهن في ستر، وهو كناية عن الجماع، ومن ابتدائية متعلقة بالربائب، وعن عليّ وزيد ابن ثابت وعبد الله بن الزبير ومجاهد وابن عباس رضى الله عنهم أنه قيد لأمهات النساء والربائب فيكون من لاتصال الشيء بالشيء حينئذ لا للابتداء، أي: أمهات النساء وبناتهن متصلات بهن (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) في نكاحهن، وهذا تصريح بالمقصود (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ) لا من تبنيتموه، وأما امرأة ابنه من الرضاعة فيعلم حكمها من حديث " يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب " (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) في النكاح، وكذا جماعهما في ملك اليمين(1/344)
على الصحيح، وهو في محل الرفع عطف على المحرمات (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) لكن ما مضى مغفور (إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا).
(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ) ذوات الأزواج (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) بالسبي فإنها تحل بعد الاستبراء مع أن لهن أزواجًا من الكفار، وعن بعض من السلف أن بيع الأمة طلاق لها من زوجها فتحل لسيدها لعموم الآية (كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي: كتب الله عليكم تحريم هؤلاء كتابًا (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) عَطف على حرمت أي: ما سوى المحرمات المذكورات، وما في معنى المذكورات الذي علم بالسنة (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) مفعول له أي: أحل ما وراء ذلك لأن تطلبوا ما وراءه بصرف الأموال في المهر والثمن حال كونكم محصنين ناكحين غير مسافحين زانين، ومفعول تبتغوا متروك كأنه قيل: إن تصرفوا أموالكم، أو بدل اشتمال من وراء، والمفعول محذوف (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) موصولة أي: من تمتعتم به من المنكوحات، أو موصوفة أي: ما استمتعتم به منهن من جماع (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) مهورهن (فَرِيضَةً) حال أو مصدر مؤكد أو صفة لمصدر أي: إيتاء مفروضًا، قال بعض السلف: الآية في نكاح المتعة، وقد صح عن عليٍّ أن(1/345)
نكاح المتعة (1) نسخت يوم خيبر (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) من إبراء الصداق أو بعضه، ومن حمل ما قبله على المتعة فعنده معناه إذا عقدتم إلى أجل بمال وتم الأجل إن شاءت زادت في الأجل وزاد في الأجر وإلا فارقها (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا) بالمصالح (حَكِيماً) في أحكامه.
(وَمَن لَّمْ يَستَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً) فضلاً وزيادة في المال يبلغ بها نكاح المحصنات، فهو مفعول يستطع (أَن يَنكِحَ الُمحْصَنَاتِ) أي: الحرائر متعلق بـ طَوْلاً على حذف حرف الجر أي: إلى أن ينكح (الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) أي: فلينكح أمة غيره (مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) فلا يجوز نكاح الأمة الكتابية، وقال بعضهم: طول المحصنات هو أن يملك فراشها على أن النكاح الجماع، وحمل قوله: " من فتياتكم المؤمنات " على الإرشاد بالأفضل فعنده جاز نكاح الأمة الكتابية إذا لم يكن تحته حرة (وَاللهُ أَعْلَمُ يِإِيمَانِكُمْ) فاكتفوا بظاهر الإيمان والله أعلم بالسرائر (بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) أنتم وأرقائكم في النسب والدين متناسبون فلا تستنكفوا عنها عند الحاجة (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) أي: أربابهن (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) مهورهن (بِالْمَعْرُوفِ) بغير نقص ومطل استهانة بهن (مُحْصَنَاتٍ) عفائف حال من مفعول
___________
(1) ذهب عامة أهل العلم إلى أن نكاح المتعة حرام والآية منسوخة، وكان ابن عباس يذهب إلى أن الآية محكمة وترخص في نكاح المتعة، وقيل: إن ابن عباس رجع عن ذلك كذا في المعلم.(1/346)
فانكحوا (غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ) مجاهرات بالزنا (وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ) أحباب يزنون بهن في السر، كانت العرب تحرم الأولى لا الثانية (فَإِذَا أُحْصِنَّ) بالتزوج، ومن قرأ بفتح الهمزة والصاد فمعناه: حفظن فروجهن أو أسلمن (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ) زنا (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ) الحرائر الأبكار (مِنَ الْعَذَابِ) من الحد، والجمهور على أن حد الأمة مزوجة أو بكرًا خمسون جلدة؛ ففائدة الشرط نفي ما يتوهم من تفاوت حالهن قبل التزوج وبعده كما في الحرائر وعند بعض السلف أنه لا حد على غير المحصنة منها بل تضرب تأديبًا (ذلِكَ) أي: نكاح الأمة (لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) أي: خاف الوقوع في الزنا، يعني: المشقة بغلبة الشهوة فلنكاح الأمة شرطان: عدم الطول وخوف العنت (وَأَنْ تَصْبِرُوا) عن نكاح الأمة مع العفاف (خَيْرٌ لَكُمْ) لئلا يصير الولد عبدًا (وَاللهُ غَفُورٌ) لمن لم يصب (رَحِيمٌ) بأن رخص.
* * *
(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ(1/347)
أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
* * *
(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) ما خفي من الشرائع عليكم. واللام زائدة، وأن يبين مفعول يريد (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) شرائعهم ومناهجهم المحمودة كملة إبراهيم (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) من المآثم والمحارم ويعفو عنكم (وَاللهُ عَلِيمٌ) بمصالحكم (حَكِيمٌ) فيما قرر وقدر.
(وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) إن صدر عنكم تقصير (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ) الزناة أو اليهود والنصارى أو المجوس الذين يحلون نكاح(1/348)
الأخت وبناتها أو أهل الباطل (أَنْ تَمِيلُوا) عن الحق (مَيْلاً عَظِيماً) على اتباع الشهوات.
(يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ) في شرائعه، ولهذا رخص لكم نكاح الأمة (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) فيناسبه التخفيف لضعفه في نفسه وضعف همته، أو في الصبر عن النساء فإنه يذهب عقله عندهن.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) بالحرام كالسرقة والقمار ونحوهما (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) لكن كون تجارة صادرة عن تراض بين المتبايعين غير منهى عنه؛ فالاستثناء منقطع، ومن قرأ تجارةً بالنصب تقديره: يكون التجارة تجارة، ومن قرأ بالرفع فيكون كان تامة (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) من كان من جنسكم من المؤمنين أو بإلقائها إلى التهلكة أو أراد قتل المسلم نفسه(1/349)
كما يفعله بعض الجهلة، أو بارتكاب محارم الله (إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) فما نهاكم عن مضاركم إلا من رحمته، أو حيث لم يكلفكم بقتل أنفسكم للتوبة كما كلف بني إسرائيل.
(وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ) ما سبق من المحرمات أو القتل (عُدْوَانًا وَظُلْمًا) تجاوزًا عن الحد ووضعًا للشيء في غير موضعه (فَسَوْفَ نصْلِيهِ نَاراً) ندخله إياها (وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا) لا عسر ولا صارف عنه.
(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ) كل ذنب فيه وعيد شديد (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) نمح عنكم سيئاتكم (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) وهو الجنة، فمحو الصغائر لمن أجتنب الكبائر وعد مقطوع به ومحوها لمن تعاطى الكبائر ليس كذلك بل فى مشيته وإرادته تعالى.(1/350)
(وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) نهى الله تعالى عن قولهم: ليت لي مال فلان وأهله، أو نزلت في أم سلمة حيث قالت: يغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث، أو حين قالت امرأة: للرجل مثل حظ الأنثيين في الميراث وشهادة امرأتين برجل، أفنحن في الثواب هكذا، أو حين قال الرجال: نريد أن يكون لنا من الأجر ضعف النساء، وقالت النساء: نريد أجر الشهداء ولو كُتب علينا القتال لقاتلنا، أو حين قالت النساء عند نزول " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ": نحن أحوج فإنا ضعفاء لا نقدر على طلب المعاش (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا) من العمل (وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) فاطلبوا الفضل بالعمل لا بالتمني، أو لهم نصيب من الجهاد ولهن من طاعة الأزواج وحفظ الفروج، والكل بعشر أمثالها (وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) أي: لا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم فإنه أمر محتوم ولا يجدي تمنيه نفعًا ولكن سلوني من فضلي أعطكم (إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) فهو يعدم من يستحق شيئًا فيعطيه.
(وَلِكُلٍّ) منكم (جَعَلْنَا مَوَالِيَ) ورثة أو عصبة، والعرب تسمي ابن العم مولى (مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) مما متعلق بـ موالي لتضمنه معنى الفعل أي: ورثة مما ترك، يعني: يرث من تركتهم، أو معناه: لكل شيء مما تركوا من المال جعلنا موالي وراثًا يحرزونه (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) عهودكم يأخذ بعضهم بيد بعض على(1/351)
الوفاء، وقرئ عاقدت، أي: عاقدكم أيديكم (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) من الإرث وهو السدس كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة كان هذا في ابتداء الإسلام ثم نسخ وأمروا بأن يوفوا لمن عاقدوا ولا ينشئوا بعد نسخه بقوله: " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض " معاهدة في الإرث لكن يجب الوفاء بالمعاهدة الماضية أو نسخت مطلقًا فلا يجوز إنشاء المعاهدة ولا الوفاء بالعهد السابق للميراث، وقوله: " والذين عقدت أيمانكم " غير منسوخ بمعنى: وآتوهم نصيبهم من النصرة لا من الإرث، أو كان يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه بالأخوة التي آخى بينهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما نزلت: " ولكل جعلنا موالي " نسخت ثم قال: " وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ " أي: من النصر والنصيحة وقد ذهب الميراث (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا) فلا تتجاوزوا عما أمركم.
* * *
(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ(1/352)
شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا (42)
* * *
(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) قيام الولاة على الرعايا (بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) فضلهم عليهن بكمال العقل والدين والقوة (وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ(1/353)
أَموالِهِمْ) كالمهر والنفقة، اشتكت امرأة عن زوجها بأنه لطمها فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام: أردت أمرًا وأراد الله غيره فرجعت بغير قصاص (فالصَّالِحَاتُ قَانتَاتٌ) مطيعات لأزواجهن (حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ) تحفظ في غيبته نفسها وماله (بِمَا حَفِظَ اللهُ) بحفظ الله إياها فالمحفوظ من حفظه، أو بما حفظ الله لهن من إيجاب حقوقهن على الرجال (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ (نُشُوزَهُنَّ) عصيانهن على أزواجهن (فَعِظُوهُنَّ) بعقاب الله في عصيانها (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) بأن يوليها ظهره ولا يجامعها ولا يكلمها، أو معناه لا يضاجعها (وَاضْرِبُوهُنَّ) إن لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران ضربًا غير شديد (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) بالإيذاء، وقيل: لا تكلفوهن محبتكم فالقلب بيد الله (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) فهو أقَدرَ عليكم منكم على أزواجكم، ويتجاوز عنكم ليلاً ونهارًا.
(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) خلافًا بين المرء وزوجه، والإضافة إلى الظرف على الاتساع (فَابْعَثُوا) أيها الحكام (حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا) يحكمان بينهما فيما يرى المصلحة من الجمع والتفريق، والأقارب أعرف ببواطن الأحوال فهُم الأولى، وهما من جانب الحاكم ينفذ حكمهما مطلقًا بغير رضى المحكوم عليه على الأصح (إِن يُرِيدَا) أي: يقصد الحكمان (إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا) بين الزوجين بحسن سعي الحكمين (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) بالظاهر والباطن.(1/354)
(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) من المخلوقات أو من الإشراك قليلاً وكثيرًا جليًّا وخفيًّا (وَ) أحسنوا (بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى) صاحب القرابة (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ) من لا يجد ما يكفيه وعياله (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى) من جمع بين القرابة والجوار، أو الجار الأقرب أو الجار المسلم (وَالْجَارِ الْجُنُبِ) الأجنبي والذي جواره بعيد، أو أهل الكتاب (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) المرأة، أو رفيق السفر، أو الحضر أيضًا (وَابْنِ السبِيلِ) المسافر، أو الضعيف (وَمَا ملَكَتْ أَيْمَانُكمْ) المماليك (إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً) متكبرًا (فَخُوراً) يتفاخر على المسلمين.
(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله من بر الوالدين والأقربين، بدل ممن كان، أو نصب أو رفع على الذم (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) أيضًا كاليهود قالوا ": لا تنفقوا على محمد فإنا نخشى عليكم الفقر (وَيَكْتُمُونَ مَا آتاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ) يعني: الغنى، وحمل بعض السلف الآية على بخل اليهود بإظهار ما عندهم(1/355)
من العلم بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتمانهم ذلك (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) أي: أعتدنا لهم فإنهم كافرون بنعمة الله.
(وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ) لا لوجه الله، ذكر الباذلين رياء بعد الممسكين والمراد اليهود أو المنافقون أو مشركو مكة، وهو عطف على الذين يبخلون (وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا) أى فبئس الشيطان قرينًا (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين).
(وَمَاذَا عَلَيْهِمْ) أي: أي تبعة تحيق بهم (لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) في سبيله (وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) وعيد لهم.
(إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) زنة نملة صغيرة، أو جزء من أجزاء الهباء إن كان مؤمنًا فله الأجر في الدارين، وإن كان كافرًا فمقصور على الدنيا، أو تخفيف في عذابه فلا يظلم وهو قادر عليه (وَإِنْ تَكُ) مثقال الذرة (حَسَنَةً) وحذف النون من غير قياس تشبيهًا بحرف العلة (يُضَاعِفْهَا) أي: ثوابها (وَيُؤْتِ) صاحبها (مِنْ لَدُنْهُ) من عنده بفضله (أَجْرًا عَظِيمًا) جزيلاً وهو الجنة.(1/356)
(فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) أي: كيف حال هؤلاء الكفرة إذا جئنا بنبي كل أمة يشهد بصلاحهم وفسادهم (وَجِئْنَا بِكَ) يا محمد (عَلَى هَؤُلاء) على جميع الأمم أو المنافقين أو المشركين (شَهِيدًا).
(يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) لو يدفنون وتبتلعهم الأرض فتسوى، أو لم يبعثوا، أو يكونون ترابًا، والباء للملابسة فهو حال، أو بمعنى: على فظرف لغو (وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا) بشهادة أيديهم وأرجلهم عليهم، عطف على جملة يود لما رأو أن الجنة خاصة للمسلمين قالوا: " والله ربنا ما كنا مشركين " [الأنعام: 23]، كذبوا رجاء زجهم في المسلمين فختم الله على أفواههم وشهدت عليهم أيديهم وأرجلهم، " وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا " [النساء: 42]، أو داخل في التمني بمعنى: يتمنون أنهم لم يكونوا كتموا نعت محمد صلى الله عليه وسلم وأمره.
* * *(1/357)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا(1/358)
تَقُولُونَ) اجتنبوها حال السكر، نزلت في جمع من الصحابة شربوا الخمر قبل تحريمه وتقدم أحدهم للإمامة وقرأ " قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون " قال الضحاك: عنى به سكر النوم لا سكر الخمر (وَلَا جُنُبًا) عطف على " وأنتم سكارى " (إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ) مسافرين حين فقد الماء فإنه جائز للجنب حينئذ الصلاة، أو معنى الآية لا تقربوا مواضع الصلاة في حال السكر ولا في حال الجنابة إلا حال العبور فيها فجاز المرور لا اللبث وعليه كلام أكثر السلف (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) من الجنابة (وَإِن كنتُم مَّرْضَى) مرضًا يخاف معه من استعمال الماء، وقيل: مطلقًا، قال(1/359)
مجاهد: نزلت في مريض من الأنصار لم يكن له خادم ولم يستطع أن يقوم ويتوضأ (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) طويلاً أو قصيرًا (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ منكُم مِّنَ الغَائِطِ) هو المكان المطمئن، وهو كناية عن الحدث الأصغر (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) جامعتموهن أو ماسستم بشرتهن ببشرتكم (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) الظاهر أنه قيد للكل، والمريض الخائف من استعماله أو غير المستطيع أخذه كأنه لم يجد، فالحاصل أن الله تعالى رخص في التيمم لفاقد الطهرين حال فقدان الماء لخوف عدو أو إرهاف في موضع لا ماء فيه، أو عدم آلة استقاء أو غير ذلك مما يقع قليلاً، ويمكن أن يكون قيدًا للآخرين ولهذا غير الأسلوب ولم يقل: أو جنبتم وأما المرضى إذا خافوا من استعمال الماء أو لم يقدروا والمسافر إذا احتاج هو أو رفيقه أو حيوان محترم معه حالاً أو مالاً فلهم التيمم، وأما فاقدوا الطهرين إذا لم يجدوا ماء فلهم التيمم (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) أي: قصدوا ترابًا أو ما يصعد من الأرض طاهرًا أو حلالاً (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكمْ وَأَيْدِيكُمْ) اليد يطلق على ما يبلغ المرفقين كما في الوضوء، وعلى ما يبلغ الكوعين كما في السرقة " فاقطعوا أيديهما " (المائدة: 38)، فلذلك اختلفوا أنه يجب المسح إلى المرفقين أو لا (إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) يسهل ولا يعسر.
* * *(1/360)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ(1/361)
تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) ألم تنظر إلى من له حظ يسير من التوراة، أعني: الأحبار (يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) يختارونها على الهدى (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلوا) أيها المؤمنون (السَّبِيلَ) طريق الحق.
(وَاللهُ أَعْلَمُ) منكم (بأَعْدَائِكُمْ) وقد أعلمكم فاحذروهم (وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا) يلي أمركم (وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا) ينصركم فاكتفوا به عن غيره، والباء في فاعل كفى: للتأكيد.
(مِنَ الذِينَ هَادُوا) بيان للذين أوتوا أو لأعدائكم أو صلة نصيرًا أي: ينصركم من الذين، أو خبر مبتدأ تقديره: من الذين هادوا قوم (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) يميلونه عن مواضعه التي أثبته الله فيها بإزالته وإثبات غيره فيها، أو(1/362)
يفسرونه بغير مراد الله على مقتضى هواهم (وَيَقولونَ سَمِعْنَا) قولك (وَعَصيْنَا) أمرك (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أي: اسمع ما نقول لا سمعت، فهو حال من المخاطب أى: مدعوا عليك بلا سمعت، أو اسمع غير مسمع ما ترضى قيل: قولهم وعصينا وغير مسمع قول سرهم (وَرَاعِنَا لَيًّا) فتلاً (بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) أي: يوهمون أنهم يقولون: أرعنا سمعك وإنما يريدون الرعونة أو السب بلغتهم (وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ) أي: لو ثبت هذا مكان ما قالوه لكان قولهم ذلك خيرًا وأعدل لهم (وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) فلا يهتدون إلى خيرهم (فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا) إيمانًا (قَلِيلًا) لا ينفعهم أو إلا قليلاً منهم فهو استثناء من مفعول لعنهم المرتب عليه فلا يؤمنون فليس المختار فيه الرفع.(1/363)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَ) نحو العين والأنف ونجعلها من قبل الأقفية فلهم عينان من القفى يمشون قهقرى، أو نجعلها كالأقفاء بلا عين وأنف، أو بأن نجعلها منابت الشعور كالقردة، أو أن نطمس وجوهًا عن صراط الحق فنردها على أدبارها في الضلالة، أو نردهم إلى بلاد الشام من أرض الحجاز، فالمراد إجلاؤهم من أوطانهم، والطمس والمسخ يكونان لهم قبل القيامة أو لهم هذا في القيامة، أو مشروط بعدم الإيمان وقد آمن بعضهم (أَوْ نلْعَنَهُمْ) الضمير للذين على طريقة الالتفات (كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ) نخزيهم بالمسخ فنجعلهم قردة وخنازير كما فعلنا بأصحاب السّبت (وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا) لا راد لحكمه.(1/364)
(إِنَّ اللهَ لاَ يَغفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) لا يغفر لعبد لقيه مشركًا ويغفر ما دون الشرك صغيرًا أو كبيرًا لمن يريد تفضلاً (وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً) يحتقر دونه الذنوب.
(أَلَمْ تَرَ) تنظر (إِلَى الذِينَ يُزَكونَ أَنْفُسَهُمْ) بقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، أو بما قال اليهود: إن أبناءنا ماتوا وهم لنا قربة سيشفعون ويزكوننا، أو يقدمون أطفالهم في الصلاة لعصمتهم ويزعمون أن المأموم يصير مثلهم (بلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ) المرجع في ذلك إلى الله فإنه عالم بالحقائق (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) مما يكون في شق النواة أو ما فتلت بين أصابعك من الوسخ أي: لا ينقص ثوابهم مقدار الفتيل.
(انظُرْ) يا محمد (كَيْفَ يَفْتَرُون عَلَى اللهِ الكَذِبَ) في تزكيتهم أنفسهم (وَكَفَى بِهِ) بالافتراء (إِثْماً مُّبيناً) ظاهرًا لا يخفى. (أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصيباً) حظًا قليلاًْ (مِّنَ الْكِتَابِ) التوراة (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطاغُوتِ) السحر والشيطان، أو الأوثان وشياطينها، أو الكاهن والساحر، أو الساحر والكاهن بلسان الحبشة، أو الجبت شيطان بلسان الحبشة والطاغوت كل ما يعبد من دون الله (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قريش (هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) سأل قريش عن أحبار(1/365)
اليهود: ديننا خير أم دين محمد؟ فقالوا: دينكم خير وأنتم أهدى وقيل: سجدوا لأصنامهم حين حالفوا قريشًا في حرب المؤمنين (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا) يمنعه من الطرد والخسار (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ منَ الْمُلْكِ) أم منقطعة والهمزة لإنكار ملكهم كما يزعمون أن الملك سيصير لهم، ومعناه الإضراب عن ذمهم بتزكيتهم أنفسهم إلى ذمهم بالبخل والحسد اللذين هما شر خصلتين. (فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا) أي إن كان لهم ملك فإذن لا يؤتون أحدًا ما يوازي نقيرًا، وهو النقرة في ظهر النواة يعني: هذا إكمال بخلهم في حال ملكهم وغناهم فما ظنك بحال فقرهم وذلهم (أَمْ يَحْسُدُون النَّاسَ) بل يحسدون محمدًا أو أصحابه، أضرب عن البخل إلى الحسد الذي هو شر منه (عَلَى مَا آتاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ) النبوة والكتاب والنصرة وكثرة النساء، وقالوا: لو كان نبيًا لشغله أمر النبوة عن النساء (فقَدْ آتيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) كداود وسليمان كتابهم ونبوتهم (وَآتيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً) ملك داود وسليمان وما أوتى من النساء لهما (فَمِنْهُم مَنْ آمَنَ بِهِ) بهذا الإيتاء والإنعام (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) أعرض عنه وسعى في صد الناس عنه مع أنهم من جنسهم من بني إسرائيل، فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل؟ أو معناه: هم يحسدون عليكم وقد آتينا آل إبراهيم الذين هم من أسلافك يا محمد(1/366)
من فضلنا فلا يبعد أن يؤتيك الله مثل ما آتاهم، ثم قال: فمن اليهود من يؤمن بمحمد ومنهم من صد عنه ولم يؤمن به (وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) نارا مسعورة يعذبون بها.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ) ندخلهم (نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) غير الجلود المحترقة، ويحتمل أن يعاد ذلك الجلد بعينه إلا أنه على صورة أخرى (لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) وقد ورد أنه في الساعة الواحدة عشرون ومائة مرة (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً) غالبًا لا يغلب (حَكيماً) فتعذيبه وفق حكمته لا ظلمًا (وَالَّذِينَ آمنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا) تحت أشجارها (الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) من الحيض والأذى (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا) دائمًا لا حر فيه، والظليل صفة مشتقة من لفظ الظل لتأكيده كليل أليل وشمس شامس.
(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) الآية كما قال السلف عامة: لكل بر وفاجر ودخل فيها حقوق الله وحقوق الناس، وإن نزلت في رد مفتاح الكعبة على عثمان بن طلحة حين أخذ منه والتمس علي أو عباس رضى الله عنهما أن تكون له الحجابة والسقاية (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) أي:(1/367)
وأن تحكموا بالإنصاف إذا حكمتم (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) أي: نعم شيئًا يعظكم به، فما موصوفة منصوبة بـ يعظكم، أو نعم الشيء الذي يعظكم به فيكون مرفوعة موصولة، والمخصوص بالمدح محذوف، أي: نعما يعظكم به ذاك وهو أداء الأمانات والعدل (إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) بالأقوال والأحكام في الأمانات وغيرها.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) السلاطين والأمراء فيما وافقوا الحق، وأهل العلم والدين (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ) أنتم وأولو(1/368)
الأمر (فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ) فراجعوا فيه (إِلَى اللهِ) إلى كتابه (وَالرَّسُولِ) في زمانه وسنته بعده (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ) أي: الرد (خَيْرٌ) لكم (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) مآلاً وعاقبة.
* * *(1/369)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا (70)
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) الطاغوت ههنا ما سوى كتاب الله وسنة رسوله من الباطل، نزلت في يهودي ومنافق اختصما فقال اليهودي: بيني وبينك محمد،(1/370)
وقال المنافق بيننا كعب بن الأشرف، أو في جماعة من المنافقين أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية (وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ) بالطاغوت (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) لا يمكن لهم الرجوع إلى الحق أبدًا. (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ) حال كونهم (يَصُدُّونَ) يعرضون (عَنْكَ صُدُودًا فَكَيْفَ) يكون حالهم (إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) احتاجوا إليك في دفعها (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بسبب شؤم ذنوهم (ثُمَّ جَاءوكَ) حين يصابون للعذر، عطف على إصابتهم (يَحْلِفُونَ) حال (بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا) ما أردنا من تحاكمنا إلى غيرك (إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا) مداراة ومصانعة لا اعتقادًا منا تلك الحكومة، أو إحسانًا لخصومنا وتوفيقًا بين الخصمين لا مخالفتك، وبعضهم على أن الكلام تم عند قوله: " بما قدمت أيديهم " و " ثم جاؤك " عطف على " يصدون " وما بينهما اعتراض (أُولئِكَ الّذِينَ يَعْلمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) من النفاق (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) فلا تعنفهم (وَعِظْهُم) وانصحهم بلسانك (وَقُل لهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ) سرًّا ليس معهم غيرهم (قَوْلاً بَلِيغًا) وقيل: في أنفسهم متعلق بليغًا أي: قل لهم قولاً بليغًا في أنفسهم مؤثرًا في قلوبهم (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ) فيما حكم لا ليطلب الحكم من غيره (بِإِذْنِ اللهِ) بسبب إذن الله في طاعته، فالإذن بمعنى الأمر والرضا، أو بتيسير الله وتوفيقه في طاعته، فالإذن بمعنى التوفيق (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بمثل التحاكم إلى غيرك (جَاءُوكَ) خبر إن، وإذ ظلموا متعلق به (فاسْتَغْفَرُوا اللهَ) بالإخلاص (وَاسْتَغْفَرَ(1/371)
لَهُمُ الرَّسُولُ) عدل عن الخطاب تعظيمًا لشأن الرسول عليه الصلاة والسلام (لَوَجَدُوا اللهَ) صادفوه حال كونه (تَوَّاباً رحِيماً) أو لعلموه قابلاً لتوبتهم (فَلاَ وَربكَ لاَ يُؤْمِنُونَ) لا مزيدة لتأكيد القسم، أو معناه: فليس الأمر كما يزعمون أنَّهم آمنوا وهم يخالفون حكمك (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ) اختلف واختلط (بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا) ضيقًا أو شكًّا (مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا) إنقادوا لأمر رسوله (تَسْلِيمًا) نزلت حين خاصم الزيير رجلاً فقضى(1/372)
رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير فقال الرجل: قضى له لأنه ابن عمته، أو اختصم رجلان فقضى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الذي قضى عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب فلما أتيا إليه قالا: قضى لنا رسول الله صلى الله عيه وسلم ثم جئنا إليك لتقضي بيننا، فقال عمر: مكانكما فخرج بالسيف وقتل من لم يرض بحكم رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن " (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) كما كتبنا على بني إسرائيل، وأن مصدرية (أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ) كما أمرناهم من ديار مصر (ما فَعَلوهُ) أي: المكتوب، أو الضمير لمصدر أحد الفعلين (إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) وهم(1/373)
المخلصون، نزلت حين افتخر صحابي ويهودي فقال اليهودي: لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا، فقال الصحابي: لو كتب الله علينا لقتلنا (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ) من مطاوعة النبي ومتابعته طوعًا (لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) في الدارين (وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) لإيمانهم وتصديقهم (وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا) كأنه قيل: ما يكون لهم بعد التثبيت، فقال: وَإِذًا والله لآتيناهم فإن إذا جواب وجزاء (وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطً مُّسْتَقِيماً) بسلوكه يصلون إلى الفلاح. (وَمَن يُطِع اللهَ وَالرَّسُولَ) في الفرائض والسنن (فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَئعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) نزلت حين قال بعض الصحابة: إني محزون، لأني لا أطيق فراقك يا محمد وإني إن دخلت الجنة أكون في منزلة دون منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدا، وفي الحديث أن الأعلين ينحدرون إلى من هو أسفل منهم فيجتمعون في رياضها وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهون فهم في روضة يحبرون (وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفيقاً) الرفيق كالصديق يطلق على الواحد والجمع أو المراد كل واحد منهم ونصبه على التمييز أو الحال وهو كلام في معنى التعجب. (ذلِك) أي: ما أعطى المطيعين من مرافقة المنعم عليهم (الفَضْلُ مِنَ اللهِ) الأول صفة ذلك أو خبره والثاني خبره أو حال (وَكَفَى بِاللهِ عَلِيماً) بمن أطاع الله ورسوله فلا يضيع أجرهم.
* * *(1/374)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) من عدوكم أي: استعدوا للحرب واحذروا من الأعداء (فانفِرُوا) أخرجوا إلى الجهاد (ثُبَاتٍ) جماعة بعد جماعة متفرقين (أَوِ انفرُوا جَمِيعًا) مجتمعين أي بادروا إلى الجهاد كيفما أمكن من غير أن تلقوا أنفسكم إلى التهلكة. (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) يتثاقلن ويتخلفن عن الجهاد من بطأ بمعنى أبطأ لازم أو ليبطئن غيره منقولاً من بطأ والخطاب لعسكر الرسول. والبعض: المنافقون(1/375)
واللام الأولى للابتداء والثانية جواب قسم تقديره: وإن منكم لمن أقسم بالله ليبطئن (فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) من قتل أو هزيمة (قَالَ) المبطئ (قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا) حاضرًا. (وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) كفتح وغنيمة (لَيَقُولَن) أكد تنبيهًا على فرط تحسرهم (كَأَنْ) مخففة من الثقيلة (لمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) اعتراض بين الفعل ومفعوله وهو (يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ) منصوب بجواب التمني (فَوْزًا عَظِيمًا) نصيبًا وافرًا من الغنيمة يعني أن قولهم هذا قول من لا مواصلة بينكم وبينه وليس من أهل دينكم فإن الحظ من المال غاية بغيتهم لا إعانتكم وأجرهم (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ) معناه: إن بطأ هؤلاء عن القتال فليقاتل الذين يبيعون دنياهم بآخرتهم وهم المؤمنون حقًا أو معناه ليغير ما بهم من النفاق فليقاتل الذين يشترون الدنيا الفانية بالآخرة الباقية فعلى الأول حث المؤمنين على القتال وعلى الثاني حث المبطئين على ترك ما هم عليه (وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) له الأجر الجزيل غَلَبَ أو غُلِبَ. (وَمَا لَكُمْ) مبتدأ وخبر (لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) حال، يعاتبهم على ترك الجهاد ويحرضهم عليه (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) أي: في سبيل المستضعفين وهو تخليصهم عن أيدي العدو أو في المستضعفين على حذف المضاف أي فِي تخليصهم (مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) بيان للمستضعفين الذين هم بمكة تحت أيادى المشركين (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا) أرادوا مشركي مكة (وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) يلي أمرنا (وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ(1/376)
نَصِيرًا) فاستجاب الله تعالى دعاءهم يسر لبعضهم الهجرة إلى المدينة وفتح مكة على نبيه عليه الصلاة والسلام فنصرهم وتولاهم (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فيما يصلون به إلى الله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) فيما يبلغ بهم إلى الشيطان (فَقَاتِلُوا) أيها المؤمنون (أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) أي: مكره المؤمنين بالنسبة إلى مكر الله للكافرين ضعيف فلا تخافوهم.
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ(1/377)
غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا (87)
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الذِينَ قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ) عن قتال المشركين حين التمسوا قتالهم في مكة وهم ضعفاء قليلون (وَأَقِيمُوا الصلاةَ وَآتوا الزَّكَاةَ) واشتغلوا بما أمركم الله (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتالُ) في المدينة وهم أقوياء كثيرون (إِذا فَرِيقٌ منْهُمْ) إذا للمفاجأة جواب لما (يَخْشَوْن النَّاسَ) الكفار خبر فريق ومنهم صفته (كَخَشْيَةِ اللهِ) إضافة المصدر إلى المفعول أي: خشية مثل خشيتهم لله (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) عطف على كخشية الله أي: أو خشية أشد تلك الخشية خشية من خشيتهم لله بأن جعل الخشية خاشيًا كجد جده أو كخشية الله حال من ضمير الجمع أي: حال كونهم مثل(1/378)
أهل خشية الله أو أشد خشية من أهل خشية الله (وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي: الموت يعني هلا تركتنا نموت بآجالنا قيل: القائلون منافقون أو مؤمنون وقالوه خوفًا وحرصًا على الحياة ثم تابوا، أو مؤمنون تخلفوا ونافقوا لما فرض عليه القتال (قُلْ) يا محمد (مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) سريع التقضي (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) لا ينقص من ثوابكم مثل فتيل النواة (أينَمَا تَكُونوا يُدْرِككمُ المَوْتُ وَلَوْ كنتُمْ فِي بُرُوجِ مُّشَيَّدَةٍ) حصون مرفوعة منيعة عالية قيل: نزلت في المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد: لو كانوا عندنا ما ماتوا (وَإِن تُصِبْهُمْ) المنافقين واليهود (حَسَنَةٌ) كخصب ورزق من ثمار وأولاد (يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) كجدب ونقص من هلاك ثمار وموت أولاد (يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) قالوا: ما هي إلا بشؤم محمد وأصحابه (قُلْ كُلٌّ) من الحسنة والسيئة (مًّنْ عِندِ اللهِ) (1) بإرادته وقضائه يبسط ويقبض (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ
___________
(1) وتعلق أهل القدر بظاهر هذه الآية فقالوا: نفى الله تعالى السيئة عن نفسه ونسبها إلى العبد، فقال: وما أصابك من سيئة فمن نفسك، ولا متعلق لهم فيه؛ لأنه ليس المراد من الآيات حسنات الكسب ولا سيئاته من الطاعات والمعاصي بل المراد منه ما يصيبهم من النعم والمحن، وذلك ليس من فعلهم بدليل أنه نسبها إلى غيرهم ولم ينسبها إليهم فقال: ما أصابك ولا يقال في الطاعة والمعصية أصابني إنما يقال: أصبتها ويقال في المحن: أصابني بدليل أنه لم يذكر عليه ثوابًا ولا عقابًا فهو كقوله تعال: " فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه " (الأعراف: 131)، فلما ذكر حسنات الكسب وسيئاته نسبها إليه ووعد عليها الثواب والعقاب فقال: " من جاء بالحسنة فله
عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها " (الأنعام: 160)، وقيل معنى الآية: ما أصابك من حسنة من النصر والظفر يوم بدر فمن الله أي من فضل الله، وما أصابك من سيئة من القتل والهزيمة يوم أحد فمن نفسك، أي: بذنب نفسك من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن قيل: كيف وجه الجمع بين قوله: " قل كل من عند الله " أي:
=(1/379)
لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) أي: القرآن فإنه لو فهموه لعلموا أن الكل منه تعالى، أو حديثًا ما كبهائم لا أفهام لهم (مَا أَصَابَكَ) يا إنسان (مِنْ حَسَنَة) من نعمة (فَمِنَ اللهِ) تفضلاً منه (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) بلية (فَمِنْ نَفْسِكَ) بسبب شؤم ذنوبك وإنما كتبتها عليك فالحسنة إحسان، والسيئة مجازاة يصل الكل من الله تعالى (وَأَرْسَلْنَاكَ) يا محمد (لِلنَّاسِ رَسُولًا) حال قصد به التأكيد ويجوز تعلق للناس به فحينئذ قصد به التعميم أي: رسولاً للناس كلهم (وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً) على رسالتك (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا
__________
= الخصب والجدب والنصر والهزيمة كلها من عند الله، وقوله: فمن نفسك أي: وما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك كما قال الله تعالى: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم "، يدل عليه ما روي مجاهد عن ابن عباس أنه قرأ (وما أصابك من سيئة فمن نفسك "، وأنا كتبتها عليك) وقال بعضهم: هذه الآية محصلة بما قبله والقول فيها مضمر تقديره " فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا " يقولون: ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك، قل: كل من عند الله ". / 12 معالم.(1/380)
وَحْيٌ يُوحَى، نزلت حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أطاعني وأحبني أطاع الله تعالى وأحبه فقال المنافقون: يريد أن نتخذه ربًّا كما اتخذ النصارى عيسى عليه السلام (وَمَن تَوَلَّى) أعرض عن طاعته (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) عن المعاصي إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب (وَيَقولُون) أي: المنافقون (طَاعَةٌ) أي: أمرنا وشأننا طاعة (فَإِذَا بَرَزُوا) خرجوا (مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) أي: قدر وبدل ليلاً وسرًّا خلاف ما قلت لهم أو خلاف ما قالت طائفة من الطاعة (وَاللهُ يَكْتُبُ) يثبت في صحائف أعمالهم (مَا يُبَيِّتُونَ) ما يسرون ويقدرون ليلاً (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) فاصفح عنهم ولا تؤاخذهم (وَتَوَكلْ عَلَى اللهِ) سيما في شأنهم (وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا) يكفيك شرهم قيل: الآية منسوخة بآية القتال (أَفَلاَ يَتَدَبَّرونَ القرْآنَ) لا يتفكرون فيه (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ) كما زعم الكفار والمنافقون (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) تفاوتًا وتناقضًا لا يكون كله في طبقة البلاغة، ويكون في إخبار الغيب بما كان ويكون خلاف واقع (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ) مما يوجب أحدهما (أَذَاعُوا به) أفشوه إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من فتحهم أو هزيمتهم يفشونه قبل أن يحدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه مضار كثيرة وهم المنافقون وقيل: ضعفة المؤمنين وأذاع جاء متعديًا بنفسه وبالباء (وَلَوْ رَدُّوهُ) ذلك الخبر (إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) ذوي الرأي من أصحابه أو أمراء السرايا (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(1/381)
يستخرجونه ويستعملونه من معادنه يعني: لو سكتوا لحصل لهم العلم به من الرسول وأولي الأمر، ولا ضر فيه أو لو ألقوا ذلك الخبر إليهم لعلمه الذين يستخرجون تدبيره بتجاربهم وأنظارهم على أي وجه يذكر من إفشاء ما فيه المصلحة وكتمانه، وقد صح أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه وجد الناس يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه فجاء إليه وسأل عنه فقال عليه الصلاة والسلام: لا فنادى عمر بأعلى صوته: لم يطلق، ونزلت هذه الآية فقال عمر: أنا الذي استنبطت ذلك الأمر (وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بإرسال الرسل وإنزال الكتب (لاتَّبَعتمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً) ممن تفضل عليه بعقله الصائب فاهتدى به كورقة بن نوفل وقيل: إلا اتباعًا قليلاً نادرًا (فَقَاتِل فِي سَبِيلِ اللهِ) ولو كنت وحدك (لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) إلا فعل نفسك فتقدم إلى الجهاد وإن لم يساعدك أحد فالله ناصرك (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أي: على القتال فما عليك إلا التحريض (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: شدة المشركين بتحريضك إياهم على القتال، وقد فعل بأن ألقى الرعب في قلوبهم فرجعوا عن الطريق في البدر الثاني (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) صولة وشدة من قريش (وَأَشَدُّ تَنكِيلاً) عقوبة (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً) تجوز في الدَّين قُبلت أو لا (يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا) وهو ثواب الشفاعة (وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً) لا يجوز أن يشفع فيه (يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا) نصيب من(1/382)
وزرها (وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا) مقتدرًا أو حفيظًا (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) أي: إذا سلَّم عليكم فأجيبوا بزيادة أو ردوا كما سلَّم فإذا قال أحد: السلام عليك ورحمة الله فزد عليه: وبركاته، والزيادة سنة، والرد واجب، وقال قتادة: الزيادة للمسلمين والرد لأهل الذمة (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) يحاسبكم ويجازيكم. (اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) مبتدأ وخبر (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) أي: والله ليحشرنكم من قبوركم إلى يوم القيامة أو ليجمعنكم في القبور إلى يوم القيامة (لَا رَيْبَ فِيهِ) في اليوم أو في الجمع (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا) وعدًا ووعيدًا.
* * *(1/383)
(فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
* * *
(فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ) تفرقتم في أمرهم فرقتين، " فئتين " حال، وعاملها لكم " وفي المنافقين " متعلق بما دل عليه فئتين أي: متفرقين فيهم نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه حين رجعوا عن طريق أُحد فبعض المسلمين قالوا: نقتلهم، وفرقة تقول: لا فإنهم مسلمون.(1/387)
أو في قوم من العرب نزلوا المدينة وأسلموا ثم أصابتهم حمى المدينة فخرجوا ولحقوا المشركين وكتبوا إلى المسلمين إنا على دينكم فقال: بعضهم نافقوا وقال بعضهم: هم مسلمون.
أو في قوم كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين وقعدوا عن الهجرة (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا) ردهم إلى الكفر بسبب عصيانهم أو أهلكهم (أَتُرِيدُونَ) أيها المؤمنون (أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ) تجعلوه من المهتدين (وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجدَ لَهُ سَبِيلاً) إلى الهدى (وَدُّوا) تمنوا هؤلاء (لَوْ تَكْفُرُونَ) أنتم (كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ) أنتم وهم (سَوَاءً) في الضلال وهو عطف على تَكْفُرُونَ (فَلاَ تَتَخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ) لا توالوهم (حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) فتحققوا إيمانهم (فإِن تَوَلَّوْ ا) عن الهجرة وأظهروا الكفر (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) لا تقبلوا منهم ولاية ولا نصرة (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) استثناء من مفعول واقتلوهم أي: لا تقتلوا الذين يلجأون وينتهون إلى قوم عاهدوكم واجعلوا حكمهم كحكمهم وهم الأسلميون، فإنه عليه الصلاة والسلام وادع لهلالاً اللأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ومن وصل إليه فله من الجوار مثل ما له، أو بنو بكر بن زيد مناة أو خزاعة (أَوْ جَاءُوكُمْ) عطف على الصلة (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) حال أي: قد ضاقت عن (أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ) أو لأن أو كراهة أن (أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ) هؤلاء قوم آخرون من المستثنين عن الأمر بقتلهم وهم الذين يخشون المصاف وصدورهم كارهة عن قتالكم(1/388)
ولا يهون عليهم أيضًا أن يقاتلوا قومهم معكم لا عليكم ولا لكم، كجماعة خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين وكرهوا القتال كعباس ونحوه وقيل: معناه أن يقاتلوا قومهم أي: إذا أسلموا وقيل عطف على صفة قوم أي: إلا الذين يلجأون إلى قوم جاءوكم كافين عن القتال (وَلَوْ شَاءَ اللهُ) تسليطهم (لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ) أي: من لطفه بكم أن أذلَّهم عندكم وضيق صدورهم عن قتالكم فكفوا عنكم (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) الصلح والانقياد (فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) في أخذهم وقتلهم (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) هم أسد وغطفان أو بنو عبد الدار أظهروا الإسلام مع المسلمين ليأمنوا عندهم على دمائهم وأموالهم وحققوا الكفر مع قومهم (كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) دعوا إلى الشرك وقيل: إلى القتال مع المسلمين (أُرْكِسُوا فِيهَا) (فَإن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) لم يصلحوا (وَيَكُفوا أَيْدِيَهُمْ) عن قتالكم (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) حجة بينة في قتالهم لظهور عداوتهم وعدم وفائهم.
* * *
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا(1/389)
مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
* * *
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ) ما صح له وليس من شأنه (أَنْ يَّقْتُلَ مُؤْمِناً) في شيء من الأحوال (إِلَّا خَطَأً) أي: حال الخطأ أو إلا قتلاً خطأ، وقيل: الاستثناء منقطع، وما كان نفى بمعنى النهي أي: لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما يذكر (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي: فعليه إعتاقها (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) مؤداة إلى(1/390)
ورثته يقسمونها قسمة الميراث (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) يعفوا وسمي العفو عنها صدقة ترغيبًا عليه أي: فعليه التحرير والدية في جميع الأحيان إلا حين أن يتصدق أهله بالدية فحينئذ تسقط الدية (فَإِنْ كَانَ) المؤمن المقتول (مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) كفار محاربين (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ولم يعلم القاتل إيمانه (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) دون الدية لأهله لأنه لا وراثة بين مسلم وكافر (وَإِن كاَنَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنهُم مِّيثَاقٌ) ككفار معاهدين أو أهل الذمة (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي: فحكمه حكم المسلم في وجوب الكفارة والدية إن كان المقتول مؤمنًا وكذا إن كان كافرًا أيضًا عند كثير من العلماء (فَمَن لَمْ يَجِدْ) رقبة ولم يجد ثمنها (فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) أي: فعليه ذلك (تَوْبَةً مِنَ اللهِ) مفعول له أي: شرع ذلك له توبة من تاب الله عليه إذا قبل توبته (وَكاَنَ اللهُ عَليماً) بحاله (حَكِيماً) فيما حكم عليه (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) عشرة من كبار السلف بل أكثر على أنه لا يقبل توبة قاتل المؤمن عمدًا ويؤيدهم بعض الأحاديث كقوله عليه الصلاة والسلام: " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا " والجمهور على أنه له توبة(1/391)
ويدل عليه الآيات والأحاديث فقال بعض السلف: هذا جزاؤه إن جوزي عليه لكن قد يكون لذلك الجزاء معارض من عمل صالح أو عفو، وقيل الإخلاف في الوعيد ليس بخلف وذم، أو المراد بالخلود المكث الطويل، أو الخلود لمن يستحله فإنه نزلت في رجل خرج من المدينة وقتل مؤمنًا وارتد. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) ذهبتم للغزو وسافرتم (فَتَبَيَّنُوا) اطلبوا بيان الأمر ولا تعجلوا فيه (وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُم السَّلامَ) لمن حياكم بتحية الإسلام، ومن قرأ السَّلَم فمعناه: الانقياد وقيل: معناه: قول لا إله إلا الله محمد رسول الله (لَسْتَ مُؤْمِنًا) وإنما فعلت ذلك متعوذًا (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) تطلبون حطام الدنيا، هو حال من فاعل لا تقولوا (فَعِندَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) ربما يفنيكم عن قتل من أظهر الإسلام لما له (كَذَلِكَ كنتم مِّن قَبلُ) تخفون إيمانكم أو لم تكونوا مؤمنين أو محصونة دماؤكم بمجرد كلمة الشهادة (فمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) بالاشتهار بالإيمان أو بالهداية (فَتَبَيَّنُوا) لا تبادروا ظنًّا بأنهم دخلوا في الإسلام اتقاءً وخوفًا. تأكيد لما تقدم (إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) عالمًا بالغرض من القتل فاحتاطوا. نزلت في رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم، فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا فقتلوه وأخذوا غنيمته، أو في(1/392)
رجل له مال كثير بقي من قوم كافرين أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم السرية وقد تفرقوا فقال: أشهد أن لا إله إلا الله فأهوى إليه أحد من المسلمين فقتله، فأنزل الله الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للقاتل: " كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل " (لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ) عن الحرب (مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ) صفة القاعدون، فإنه ما أراد به قومًا معينًا فهو كالنكرة أو بدل، ومن قرأ منصوبًا فهو حال أو استثناء، نزلت أولاً " لا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " إلخ فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى فقال: يا رسول الله وكيف بمن لا يستطيع الجهاد؟ فغشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه ثم سرى عنه فقرأ: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) (وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) يعني لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الحرب من غير عذر (فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ) غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ صرح به ابن عباس والحديث الصحيح يدل عليه (دَرَجَةً) الجملة موضحة، لما نفي الاستواء فيه ونصب درجة بنزع الخافض أي: بدرجة عظيمة تندرج تحت الدرجات أو على المصدر، لأنه تضمن معنى(1/393)
التفضيل (وَكُلًّا) من القاعدين والمجاهدين (وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى) الجنة والجزاء الجزيل (وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيمًا) بمعنى آجرهم أجرًا عظيمًا (دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) كل واحد بدل من " أجرًا " كرر تفضيل المجاهدين وبالغ فيه إجمالاً وتفصيلاً قيل: الدرجة: ارتفاع منزلتهم عند الله، والدرجات: منازلهم في الجنة، وقال بعض المفسرين: القاعدون الأول هم الأضراء خلاف ما صرحناه فإنهم أفضل بدرجة واحدة؛ لأن لهم نية بلا عمل ولهم نية وعمل، والقاعدون الثاني: هم غير أولي الضرر فإن بينهم درجات كثيرة (وَكَانَ اللهُ غَفُورًا) لما فرط عنهم (رحِيماً) بأن جعل نية المؤمن كعمله.
* * *(1/394)
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ) يحتمل أن يكون ماضيًا ومضارعًا (المَلائكَةُ) ملك الموت وأعوانه ولا يبعد أن يقال معناه: قتلهم الملائكة فإن الملائكة محاربون يوم بدر (ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) حال ظلمهم أنفسهم بترك الهجرة وبالخروج مع المشركين (قَالوا): الملائكة، توبيخًا لهم (فِيمَ كُنْتُمْ) أي: في أي شيء كنتم من أمر الدين حيث ما هاجرتم وما أظهرتم دينكم (قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) عاجزين عن الخروج من مكة إلى المدينة (قَالوا): الملائكة، تبكيتًا لهم (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) إلى جانب وبلد آخر (فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) لمساعدتهم الكفار وهو خبر إن و " قالوا فيم كنتم ": حال بإضمار قد أو خبر بحذف العائد أي: قالوا لهم وحينئذ فأولئك عطف على الجملة قبلها مستنتجة منها (وَسَاءَتْ مَصِيرًا) جهنم نزلت في ناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يهاجروا وخرجوا مع(1/395)
المشركين فقتلوا يوم بدر (إِلا الُمسْتَضْعَفِينَ) استثناء منقطع (مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) الصبيان أو المماليك وذكر الصبيان إن أراد المراهقين فظاهر وإلا فللمبالغة والإشارة إلى أن على القوم أن يهاجروا بهم (لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) أسباب السفر من قوة أو مال حال عن المستضعفين أو صفة له إذ لا تعيين في الألف واللام (وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) لا يعرفون طريقًا (فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ) هم وإن كانوا عاجزين لكن ربما تمكنوا من الهجرة وقتًا ما بنوع ما ولم يدروا ولهذا أطمعهم في العفو وليعلم أن تلك الهجرة أمر خطير من شأنه أن لا يأمن المعذور فكيف بغيره (وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا) تمتعًا يراغم به الأعداء، وعن كثير من السلف أن المراغم التحول من أرض إلى أرض وعن بعضهم متزحزحًا عما يكره (وَسَعَةً) في الرزق أو من الضلالة إلى الهدى (وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ) في الطريق (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) ثبت أجره عند الله نزلت في ضمرة بن جندب شيخ كبير مصاب البصر هاجر من مكة فمات في الطريق (وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا) فبرحمته يجعل الناقص كالتام.
* * *
(وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا(1/396)
كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
* * *
(وَإِذَا ضَرَبتُمْ فِي الأَرْضِ) سافرتم (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) حرج (أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) هذه العبارة تدل على جواز القصر لا على وجوبه، لكن أكثر السلف على وجوبه، وقال كثير منهم: هذه الآية في صلاة الخوف، فالمراد: أن تقصروا من جميع الصلوات بأن تجعلوها ركعة واحدة أو من كيفيتها لا من كميتها، والآية التي بعدها تبيين وتفصيل لها كما سنذكر، سئل ابن عمر رضى الله عنهما أنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ولا تجد قصر صلاة المسافر؟ فقال ابن عمر: إنا وجدنا نبينا يعمل فعملنا به وما يدل على ذلك كثير ولهذا لما عقد البخاري كتاب صلاة(1/397)
الخوف صدره بهذه الآية وعلى هذا قوله (إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذِينَ كَفَرُوا) شرط له لا باعتبار الغالب في ذلك الوقت ويعتبر ولا يعتبر مفهومه فإن الإجماع على(1/398)
جواز القصر في السفر من غير خوف (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ) أيها الرسول، علمه طريق صلاة الخوف ليقتدي الأئمة بعده به عليه(1/399)
الصلاة والسلام (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ منْهُم مَّعَكَ) أي: اجعلهم طائفتين فلتقم إحداهما معك فصلِّ بهم (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) أي: الباقون وذكر الطائفة الأولى يدل عليهم أو المصلون حزمًا (فَإذَا سَجَدُوا) المصلون (فَلْيَكُونُوا) أي: غير المصلين (مِن وَرَائِكُمْ) يحرسونكم (وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا) أي الذين كانوا من ورائهم يحرسونهم (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا) أي: الذين صلوا قبل أو الذين أتوا (حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) جعل الحذر وهو التحرز والتيقظ آلة يستعملها الغازي فجمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ روي في طريق صلاة الخوف ستة أوجه أو سبعة، وأنا أذكر بعضها.
أحدها: أن يجعلهم صفين ويصلي بهما إلى أن يرفعا رأسهما من الركوع سجد وسجد الصف الأول والصف الأخير قيام يحرسونهم فلما قام الصف الأول إلى الركعة الثانية سجد الصف الثاني، ثم يقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وهؤلاء إلي مصاف هؤلاء ثم ركع وركعوا جميعًا ورفعوا من الركوع ثم سجد وسجد الصف الذي يليه والآخر قيام يحرس فلما جلسوا سجد الصف الثاني وتشهد الكل وسلموا.(1/400)
والثانية: أن يصلي بالطائفة الأولى ركعة وينتظر قائمًا حتى يتموا صلاتهم منفردين ويذهبوا إلى المصاف، وتأتي الأخرى فيتم به الركعة الثانية وينتظرهم قاعدًا حتى يتموا صلاتهم ويسلم بهم.
والثالثة: قال جابر عن عبد الله الركعتان في السفر تمام إنما القصر واحدة عند القتال، وهو أنه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام صف قبله وصف خلفه فصلى بالذين خلفه ركعة وسجدتين، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا مقام أصحابهم وجاء أولئك حتى قاموا خلفه مقام هؤلاء، فصلى بهم ركعة وسجدتين، ثم سلم وسلموا فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ولهم ركعة ركعة، وهذا الطريق مروي عن كثير من الصحابة بروايات متعددة صحيحة.
والرابعة: أن يصلي بكل من الطائفتين ركعتين فيكون للإمام أربع ركعات وللمأمومين ركعتان (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً) بالقتال فلا تغفلوا عنها (وَلاَ جُنَاحَ) لا وزر (عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) هذا يدل على أن الأمر بأخذ السلاح للوجوب، وهو قول بعض العلماء، وأكثرهم على أنه سنة مؤكدة (وَخُذُوا(1/401)
حِذْرَكُمْ) أي: لا بد من التيقظ وعدم الغفلة في أي صفة وحال كنتم (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) وعد للمؤمنين بالنصر وإشارة على أن الأمر بالحزم ليس لضعفهم وغلبة عدوهم، بل لأن الواجب في الأمور التيقظ (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ) فرغتم من صلاة الخوف (فَاذْكُرُوا الله قِيَاماً وَقُعوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) أي: في سائر أحوالكم وكثرة الذكر عقب صلاة الخوف آكد لما فيها من التخفيف ومن الرخصة في الذهاب والإياب، وغيرها قيل: معناه إذا أردتم الصلاة واشتد الخوف فصلوها كيف ما أمكن (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) سكنت جآشكم من الخوف (فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) عدلوا أركانها واحفظوا شرائطها (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) مفروضًا محدودًا أو منجما كلما مضى وقت جاء وقت (وَلَا تَهِنُوا فِي
ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ) في طلب قتال الكفار (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ) من الحرج (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ) فضرر القتال لا يختص بكم (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ) ولكم هذا المزيد رجاء المثوبة والنصر والتأييد، فينبغي أن تكونوا أصبر على الحرب وأرغب (وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا) بضمائركم (حَكِيمًا) فيما حكم.
* * *
(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا(1/402)
أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
* * *
(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ) في الحكم لا بالتعدي فيه (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ) بما عرفك وأوحى به إليك نزلت في طعمة بن أبيرق سرق درعًا فجاء صاحبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن طعمة سرق درعي فلما رأى السارق ذلك ألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته: إني ألقيتها في بيت فلان فانطلقوا ليلاً إلى نبى الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن صاحبنا بريء وسارقها فلان فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس، وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فعذره وقيل: هم أن يبرئه فنزلت (وَلاَ تَكن لِّلْخَائِنِينَ) لأجلهم (خَصِيماً) للبراء(1/403)
(وَاسْتَغْفرِ اللًهَ) من موافقتهم في نسبة السرقة إلى البرىء أو من ذلك الهم والقصد (إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً) لمن استغفر (وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانونَ أَنْفُسَهُمْ) يخونونها بالمعصية، لأن الضرر راجع إليهم أي: لا تجادل عن كل من خان (إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا) مبالغًا في الخيانة (أَثِيمًا) منهمكًا في الإثم (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) يسترون سرقتهم (وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) وهو أحق أن يستحيي ويخاف (وَهُوَ مَعَهُمْ) لا يخفى عليه شيء فطريق إخفاء شيء عنه عدم فعله (إِذْ يُبَيِّتُونَ) يدبرون وأصله أن يكون بالليل (مَا لاَ يَرْضَى) الله (مِنَ القَوْلِ) رمي البرىء وشهادة الزور (وَكَانَ اللهُ بمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) فيجازيهم. (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ) مبتدأ وخبر (جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ) خاصمتم عن طعمة وقومه. جملة هي مبينة لوقوع أولاء خبرًا، أو صلته عند من يقول: إنه موصول (في الحَيَاةِ الدُّنْيَا فمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ) إذا أخذهم بعذابه (أَم مَّن يَكُون عَلَيْهِمْ وَكِيلاً)(1/404)
فيروج دعواهم (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا) يسوء به غيره أو صغيرة أو إثمًا دون الشرك (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بما لا يتعداه أو بكبيرة أو بالشرك (ثُمَّ يَسْتَغفِرِ الله يَجِدِ اللهَ غفُوراً رحِيماً) فيه عرض التوبة على طعمة لكن كما قيل: ما تاب بل ارتد (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ) ولا يتعدى ضرره إلى غيره، لا تزر وازرة وزر أخرى (وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) فمن علمه وحكمته أنه لا يأخذ أحدًا بذنب آخر (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً) صغيرة، أو ذنبًا بينه وبين الله (أَوْ إِثْماً) كبيرة، أو ما بينه وبين الناس (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ) بأحدهما (بَرِيئًا) كما رمي طعمة (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) برمى البريء وتنزيه الخاطئ.
* * *
(وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ(1/405)
يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
* * *
(وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمتُهُ) بإعلام ما وقع منهم (لَهَمَّت طَائِفَةٌ منْهُمْ) من قوم طعمة (أَنْ يُضِلوكَ) عن القضاء بالحق، وليس المراد نفي همهم بل المراد أن من فضل الله عدم تأثيرهم فيك (وَمَا يُضِلونَ إِلا أَنفُسَهُمْ) لأن الله عصمك وهم ارتكبوا خطايا (وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْء) شيئًا من الضر فإن الله عاصمك من الناس (وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) القرآن والسنة (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ) قبل نزول ذلك من خفيات الأمور (وَكَان فَضْلُ اللهِ عليْكَ عَظِيماً) فإنه لا فضل أعلى من النبوة (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ) النجوى سر بين اثنين (إِلَّا) نجوى (مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوف) هو كل ما يستحسنه الشرع (أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) خصه لشرفه، والاستثناء بدل من كثير وقيل: منقطع أي: لكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير (وَمَن يَّفْعَلْ ذَلِكَ) أي: الأمر بالصدقة (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ) أي: مخلصًا محتسبًا ثوابه عند الله (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) فإن من فعل خيرًا رياءً لم يستحق جزاءً أصلاً، لأن كل جزاء من الله عظيم في جنب أغراض الدنيا وقيل: قوله " ذلك إشارة إلى الصدقة والمعروف والإصلاح، لا إلى الأمر بها فالأول حكم الدال على الخير، والثاني حكم فاعله (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ) يخالفه (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى) ظهر له الحق بوقوفه على المعجزات (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ) غير(1/406)
طريقهم (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى) ندعه وما اختار ونزينه له وقيل نكله في الآخرة لما تولى وأعرض في الدنيا (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) ندخله فيها (وَسَاءَتْ مَصِيرًا) جهنم نزلت في طعمة حين حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يده فهرب إلى مكة مرتدًا وخالف.
* * *
(إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
* * *(1/407)
(إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) لمن لقيه مشركًا (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) غفرانه (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) فإنه أعظم أنواع الضلالة وأبعدها عن الثواب قيل: نزلت في طعمة أيضًا فإنه مات مشركًا، أو في شيخ جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله شيئًا، ولم أوقع المعاصي جرأة على الله وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هربًا، وإني لنادم تائب مستغفر، فما حالي؟ (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) ما يعبدون من دون الله (إِلَّا إِنَاثًا) اللات والعزى ومناة، لأن لكل حي صنمًا يسمونه أنثى بني فلان، أو لأن مع كل صنم جنية، أو لأن الإناث كل شيء ميت لا روح فيه من شجر أو حجر، أو المراد الملائكة لقولهم الملائكة بنات الله (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا) المريد المارد: الخارج بالكلية عن طاعة الله، فإنه أمرهم بعبادتها فعلى الحقيقة هم يعبدونه (لَعَنَهُ اللهُ) أبعده عن رحمته صفة ثانية للشيطان (وَقَالَ) إبليس (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) لأن أغويهم وأضلهم (نصِيباً مَّفرُوضاً) معينًا معلومًا عطف على لعنه الله، أي: يعبدون شيطانًا ماردًا مطرودًا عدوًا لكم غاية العداوة (وَلأُضِلَّنَّهُمْ) عن الصواب (وَلأُمَنِيَنَّهُمْ) إدراك الآخرة مع المعاصي وطول الحياة، يأمرهم بالتسويف والتأخير أو أنه لا جنة ولا نار (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ) يشقونها ويجعلون ركوب تلك الأنعام حرامًا ويسمونها بحائر: ما يجيء في المائدة وهو إشارة إلى تحريم كل حلال(1/408)
(وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) هو الخصاء أو الوشم أو دين الله (وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دونِ اللهِ) فيطيعه ولا يطيع الله (فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مبِيناً) إذ ضيع بالكلية رأس ماله وباع الجنة بالدنيا (يَعِدُهُمْ) ولا ينجز (وَيُمَنِّيهِمْ) ما لا يدركون (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) هو إيهام النفع فيما فيه الضرر (أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ) مرجعهم (جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا) معدلاً ومهربًا (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) تحت(1/409)
غرفها وأشجارها (الأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا) مصدران الأول مؤكد لنفسه، والثاني لغيره (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) جملة مؤكدة مقابلة لمواعيد الشيطان (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتَابِ) أي: ليس الدين بالتمني نزلت في المسلمين واليهود حين افتخروا فقال اليهود: نبينا وكتابنا قبل ونحن أولى منكم بالله، وقال المسلمون: نحن أولى نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على جممِع الكتب، وقال مجاهد قالت العرب: أي: المشركون لن نبعث ولن نعذب، وقالت اليهود والنصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى فنزلت (مَن يَعْمَلْ سوءاً يُجْزَ بِهِ) إما في الدنيا أو في الآخرة، وقد صح المصائب والأمراض في الدنيا جزاء (وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) يواليه وينصره من عذاب الله (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) من للبيان حال من ضمير يعمل وليس(1/410)
للابتداء (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) شرط للجزاء المرتب (فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) مقدار النقير، وهو النقرة التي في ظهر نواة التمر بأن ينقص من فضله على المطيع وهو أرحم الراحمين فمعلوم أنه لا يزيد في عقاب العاصي (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله) أخلص العمل لربه (وَهُوَ مُحْسِنٌ) تابع للشرع في علمه أو(1/411)
أخلص نفسه له لا يعرف لها ربًا سواه ثم يعمل الحسنات ويترك السيئات أو خضع في عبادته وهو موحد (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) الموافقة لدين الإسلام (حَنِيفاً) مائلا عن سائر الأديان حال من إبراهيم، أو من فاعل اتبع، أو من مدة (وَاتَّخَد اللهُ إِبْرَاهِيم خَليِلاً) صفيًا خالصًا ليس في محبته خلل، روي أنه لما نزلت (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) الخ قال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء فنزلت " ومن يعمل من الصالحات " " ومن أحسن دينًا " الخ فتبجح به المسلمون (وَللهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ) خلقًا وملكًا (وَكَان اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً) بعلمه وقدرته فيجازيهم على الخير والشر.
* * *
(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ(1/412)
الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
* * *
(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ) في طريق المعاشرة مع اليتامى، نزلت في كل من عنده يتيمة هو وليها ووارثها فيرغب في نكاحها إن كانت جميلة ويأكل مالها، وإن كانت دميمة يعضلها حتى تموت فيأخذ ميراثها، أو في ميراث بنات أم كجّة من أبيهن فإن ْالعرب كانت لا تورث النساء والصبيان وحينئذ معناه في ميراث النساء (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فيهِنَّ) الإفتاء تبيين المبهم (وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ) عطف على لفظ الله أو على الضمير في يفتيكم والإفتاء مسند إلى الله وإلى ما في القرآن من قوله: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) إلخ أو من قوله: " يوصيكم الله في أولادكم " إلخ على ما ذكرنا من اختلاف سبب النزول على طريقة قولهم: أغناني زيد وكرمه (فِى يَتَامَى النِّسَاء) صلة يتلى أو بدل من فيهن والإضافة بمعنى من (اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ) من صداقهن أو ميراثهن (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) أي: عن أن تنكحوهن لدمامتهن فنهاهم الله عن عضلهن طمعًا في ميراثهن، كما ذكرنا في قوله: (وإن خفتم(1/413)
ألا تقسطوا) إلخ أو معناه: ترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن ومالهن ولا تعطون صداقهن وتأكلون مالهن (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدَان) عطف على يتامى النساء، فإن العرب لا يورثونهم كما لا يورثون البنات (وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ) أي: العدل عطف على يتامى النساء أيضًا أي: يفتيكم في أن تقوموا أو منصوب بإضمار فعل أي: ويأمركم أن تقوموا، أو عطف على فيهن بإضمار في (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا) فما ينساه ويجزيكم (وَإِنِ امْرَأَةٌ) مرفوع بفعل يفسره قوله (خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا) علمت منه (نشُوزاً) تجافيا عنها ومنعا لحقوقها (أَوْ إِعْرَاضاً) بأن يقل مجالستها (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) على المرأة والزوج (أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا) بأن تحط له بعض المهر أو القسم أو النفقة، وصلحا مصدر، وبينهما مفعول به ومن قرأ: يصَّالحا فمعناه: يتصالحا (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) من الفرقة وسوء العشرة (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) يعني أن النفس مطبوعة على البخل لا يغيب عنها، فلا تكاد المرأة تسمح بحط شيء من مهرها وقسمها ولا الزوج يسمح بأن يمسكها ويقوم بحقها إذا لم يردها، وهو وقوله: " الصلح خير " اعتراض للترغيب في المصالحة وتمهيد العذر في المماكسة (وَإِنْ تُحْسِنُوا) في العشرة (وَتَتَّقُوا) النشوز ونقص الحق (فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ) من الإحسان (خَبِيرًا) فيثيبكم (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ) أي تساووا بينهن من جميع الوجوه فإنه لا بد من التفاوت في(1/414)
المحبة والشهوة والجماع (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) على العدل (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) إلى واحدة منهن فإن ما لا يدرك كله لا يترك كله (فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ) أي: الواحدة الأخرى كالتي ليست بذات بعل ولا مطلقة (وَإِن تُصْلِحُوا) بالعدل في القسم (وَتَتَّقُوا) فيما يستقبل الجور فيها (فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رحِيماً) يغفر لكم ما كان من ميل إلى واحدة (وَإِن يَتَفَرَّقَا) بالطلاق ولم يصلحا بينهما (يُغْنِ اللهُ كُلًّا) منهما عن صاحبه (مِّن سَعَتِهِ) فضله الواسع وقدرته (وَكَانَ اللهُ وَاسِعاً) واسع(1/415)
الفضل (حَكِيماً) فيما حكم وأمر (وَلله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْضِ) فله السعة وكمال القدرة (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ) من اليهود والنصارى وغيرهم (مِن قَبْلِكُمْ) متعلق بـ أوتوا أو بـ وصينا (وَإِياكم) عطف على الذين (أَن اتقُوا الله) أي: بتقوى الله وجاز أن يكون أن مفسرة، فإن التوصية في معنى القول (وَإِن تَكْفُرُوا) أي: وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا (فإنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ) مالك الملك كله لا يضره كفركم كما لا ينفعه شكركم فما الوصية إلا لحاجتكم وصلاحكم (وَكَان اللهُ غَنِيًّا) عن الخلق. (حَمِيداً) في ذاته حمد أو لم يحمد (وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً) (1) فتوكلوا عليه فكأنه قال له ما في السماوات وما في الأرض فاقبلوا وصيته وله ذلك فهو الغني فاسألوا الله وله ذلك فاتخذوه وكيلاً لا غيره (إِنْ يَشَأْ) إذهابكم (يُذْهِبْكُمْ) يفنيكم (أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) يوجد قومًا آخرين (وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ) الإعدام والايجاد (قَدِيرًا) بليغ القدرة وهذا تقرير لغناه وتهديد لمن كفر (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ
___________
(1) فإن قيل: فأى فائدة في تكرار قوله تعالى: " ولله ما في السماوات وما في الأرض " قيل: لكل واحد منها وجه أما الأول: فمعناه لله ما في السَّمَاوَات وما في الأرض وهو يوصيكم بالتقوى، فاقبلوا وصيته.
وأما الثاني فيقول: فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا أي: هو الغني وله الملك فاطلبوا منه ما تطلبون.
وأما الثالث: فيقول: ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً أي له الملك فاتخذوه وكيلاً ولا تتوكلوا على غيره.(1/416)
الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) فلا يقتصرن قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، أو معناه فيعطيه ما يريد وليس له في الآخرة من نصيب (وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) فلا يخفى عليه خافية ويجازى بحسب قصده.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
* * *(1/417)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) مواظبين على العدل لا تعدلوا عنه يمينًا ولا شمالاً (شُهَدَاءَ لله) ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله (وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْربِينَ) أي: ولو عاد ضررها على نفسك أو عليهم أو تقول الإقرار شهادة على نفسه (إِن يَكُنْ) المشهود عليه (غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فاللهُ أَوْلَى بِهِمَا) أي: بالغني والفقير منكم فكلوا أمرهما إليه فلا ترحم فقره ولا ترهب غناه، وضمير التثنية لما دل عليه المذكور وهو جنس الغني والفقير لا إليه وإلا لوحد (فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا) أي: لأن تعدلوا عن الحق (وَإِن تَلْوُوا) أي: تحرفوا الشهادة وتغيروها (أَوْ تُعْرِضُوا) عن أدائها (فإن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) فيجازيكم عليه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب للمؤمنين كلهم أو لمؤمني أهل الكتاب حين قالوا: يا رسول الله آمنا بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه، أو خطاب لليهود والنصارى (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) اثبتوا عليه أو آمنوا بمحمد كما آمنتم بموسى وعيسى (وَالْكِتَابِ الَّذِي نزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ) القرآن (وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن(1/418)
قَبْلُ) يعني جنس الكتاب لا بكتاب دون كتاب (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي: بشئ من ذلك (فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) عن المقصد بحيث لا يكاد يعود على سواء السبيل (إِنْ الذِينَ آمنوا) بالتوراة (ثُمَّ كَفَرُوا) بها بعبادة العجل (ثُمَّ آمنوا) بها بعد عود موسى إليهم (ثُمَّ كَفَرُوا) بعيسى (ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) بمحمد عليه الصلاة والسلام واستمروا عليه حتى ماتوا (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا) طريقًا إلى الهدى، ولا فرجًا ولا مخرجًا، فإن الكافر إذا أسلم يغفر الله كفره السابق، لكن من تقرر منه الإيمان والكفر ثم استمر على الكفر لا يغفر الله كفره اللاحق والسابق.
أو نزلت في قوم مرتدين آمنوا ثم ارتدوا مرارًا لا في اليهود فقيل معناه: من تكرر منه الإيمان فالكفر لا يغفر الله له لاستبعاد التوبة منه، لأن قلوبهم طبعت على الباطل فلا يثبت على الحق، وعن علي رضى الله عنه يقتل ولا يقبل توبته (بَشِّرِ المُنَافِقِينَ) من باب التهكم (بِأَنْ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) فإنهم أيضًا آمنوا بالظاهر وكفروا بالباطن مرارًا، ثم استمروا بالإصرار على النفاق (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) مرفوع أو منصوب بالذم (أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ) والغلبة على المسلمين أو يتعززون بموالاتهم (فإِن العِزةَ للهِ جَمِيعاً) أي: له القوة والغلبة لا يعز إلا من أعزه(1/419)
(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ) في القرآن (أَنْ) أي: أنه (إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا) حالان من الآيات (فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ) مع من يكفر ويستهزئ (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) الاستهزاء، وهذا تذكار ما نزل عليهم بمكة من قوله " وإذا رأيت الذين يخوضون في ءاياتنا " الآية [الأنعام: 68]، (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) في الكفر إن رضيتم بذلك، أو في الإثم فإنكم قادرون على الإعراض والإنكار، وقيل: هي منسوخة بقوله: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء) إلخ (إِنَّ الله جَامِعُ الُمنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) كما اجتمعوا على الاستهزاء بالآيات (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) ينتظرون وقوع أمر بكم، بدل من الذين أو مبتدأ وخبره (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) ففي الدين والنصرة فأسهموا لنا من الغنيمة (وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ) من الظفر فإن الحرب سجال (قَالُوا) للكافرين (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فما فعلنا شيئًا من ذلك (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بأن ثبطناهم عنكم بتخييلنا لهم ما ضعفت به قلوبهم وتوانينا في مظاهرتهم، أو معناه نصرفكم عن الدخول في جملتهم، فإن(1/420)
المنافقين حذروا الكافرين ومنعوا الإسلام (فاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ) بما يعلمه منكم من البواطن (وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الُمؤْمِنِينَ سبِيلاً) حجة في الآخرة أو ظهور أو استيلاء كليًّا في الدنيا.
* * *
(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لله فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
* * *(1/421)
(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ) بزعمهم الباطل كما يحلفون يوم القيامة أنَّهم على الاستقامة (وَهُوَ خَادِعُهُمْ) يجازيهم على خداعهم أو يعاملهم معاملة المخادع في الدنيا بإمهالهم واستدراجهم في طغيانهم، وفي الآخرة بأنهم يعطون نورًا يوم القيامة، فإذا مضوا قليلاً يطفأ نورهم (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصلاةِ قَامُوا كُسَالَى) متثاقلين كالمكره (يُرَاءُونَ النَّاسَ) ليحسبوهم مؤمنين لا لإخلاص ومطاوعة أمر الله، صفة كسالى أو مستأنفة (وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا) لأنَّهُم يفعلونه رياءً ولو أرادوا بذلك القليل وجه الله لكان كثيرًا وقيل: لأن ذكرهم باللسان فقط وقيل المراد من الذكر الصلاة أو لا يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلا على ندرة (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ) مترددين متحيرين بين الكفر والإيمان حال من واو الجمع أي: يرونهم غير ذاكرين إلا قليلاً مذبذبين (لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ) لا منضمين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين (وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً)(1/422)
إلى الصواب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) فإن مصاحبتهم ومصادقتهم وإسرار المودة إليهم صنيع المنافقين فلا تكونوا مثلهم (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) حجة بينة في عقابكم بموالاتكم إياكم (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) هو الطبقة التي في قعر جهنم، أو توابيت من حديد مقفلة في النار أو بيوت مقفلة عليهم توقد من تحتهم وفوقهم (وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) يخرجهم منها (إِلا الذِينَ تَابُوا) عن النفاق (وَأَصلَحُوا) العمل (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) وثقوا به والتجأوا إليه (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لله) من شوائب الرياء فلا يعملون إلا لله (فَأُولئِكَ مَعَ الُمؤْمِنِينَ) في زمرتهم يوم القيامة (وَسَوْفَ يُؤْت اللهُ المُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيمًا) فيشاركونهم فيه (مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) أيدفع به ضرًّا أو يستجلب به نفعًا وهو الغني المتعالي لا كالملوك فمن أخرج نفسه عن خساستها الباعثة للمذلة فلا تهان ولا تخذل، قيل: تقديم الشكر لأن الناظر بأدنى نظر في النعم يعرف أن لها منعمًا فيشكر وإن لم يعرفه زيادة معرفة، ثم يفضي به إلى زيادة النظر في معرفته، والتصديق به قدر ما يجب على العبد، فالشكر المبهم أصل التكليف من الإيمان وغيره (وَكَانَ اللهُ شَاكِراً) يرضى بالقليل (عَلِيماً) بظاهركم وباطنكم.(1/423)
(لاَ يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ) أي: إلا جهر من ظلم بالدعاء على الظالم، وقيل: هو من يشتمك فتشتمه بمثله فالبادئ ظالم، والأصح أنها نزلت فيمن ضاف أحدًا فلم يؤد إليه حق ضيافته، فلما خرج أخبر الناس فرخص الله شكايته (وَكَان اللهُ سَمِيعًا) لدعاء المظلوم (عَلِيمًا) بفعل الظالم (إِن تُبْدُوا خيْرًا) عمل بر (أَوْ تُحفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) يأتيكم من أخيكم (فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا) لمن عفى (قَدِيرًا) على الانتقام وهو إشارة إلى حثِّ المظلوم على العفو وإن جاز له الشكاية (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) بأن يؤمنوا به ويكفروا برسله (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ) أي: ببعض الأنبياء (وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) أي: بعضهم (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ) أي: الإيمان والكفر (سَبِيلًا) وسطًا ولا واسطة بين الكفر والإيمان وهم اليهود والنصارى (أُولئِك هُمُ الكَافرُونَ) الكاملون في الكفر، ما نقص ذاك الإيمان من كفرهم شيئًا (حَقًّا) مصدر مؤكد لغيره (وَأَعْتَدنا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ منْهُمْ) في الإيمان به (أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ عفُوراً رّحِيماً) عليهم بتضعيف حسناتهم.
* * *(1/424)
(يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
* * *
(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ) قالت اليهود: إن كنت صادقًا فأتنا بكتاب من السماء جملة أو صحفًا مكتوبة بخط سماوي (فَقَدْ سَأَلُوا(1/425)
مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ) أي: إن استعظمت ما سألوك، فقد سألوا موسى أعظم من ذلك، وهذا السؤال وقع من آبائهم لكنهم تابعون لهذيهم وقوم مثل ذلك لا يستغرب عنهم (فقَالُوا أَرِنَا الله جَهْرَةً) أي: أرنا الله نره عيانا قيل معناه قالوا جهرة لا سرًّا وخفية (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) نار من السماء (بِظُلْمِهِمْ) أي: بسبب ظلمهم وهو تعنتهم في السؤال وطلب ما يستحيل في تلك الحال لهم (ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ) إلهًا (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البَيِّنَاتُ) معجزات موسى عليه السلام (فَعَفَونا عَن ذَلِكَ) ولم نستأصلهم بالكلية وقبلنا توبتهم (وَآتيْنَا مُوسى سُلْطَاناً مُّبِيناً) يعني هم إن بالغوا في العناد معه لكن نصرناه وعفونا عن قومه، ففيه إشارة ببشارة المصطفى عليه الصلاة والسلام (وَرَفعْنَا فَوْقَهُمُ الطورَ) عند امتناعهم قبول شريعة التوراة(1/426)
(بِمِيثَاقِهِمْ) بسبب ميثاقهم ليقبلوه (وَقُلْنَا) بلسان نبيهم (لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) متواضعين منحنين (وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) لا تظلموا في اصطياد السمك فيه (وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) على ذلك (فَبمَا نقْضِهِم) ما مزيدة للتأكيد (مِّيثَاقَهُمْ) فعلنا بهم ما فعلنا (وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ) المعجزات الباهرات (وَقَتْلِهِمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) بعناد وتشهي نفس (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ) في غطاء لا نسمع ما تقول أو أوعية للعلم ولا نحتاج إلى شيء آخر (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ) على الأول معناه: نعم صدقوا فيما ادعوا من عدم السماع لكن بختم الله على قلوبهم بسبب كفرهم، وعلى الثاني: عكس عليهم ما ادعوه من أن قلوبهم أوعية للعلم (فَلاَ يُؤْمُنونَ إِلا قَلِيلاً) إلا إيمانًا قليلاً لا ينفعهم أو إلا قليلاً منهم (وَبِكفْرِهِمْ) بعيسى (وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَريمَ بُهْتَاناً عَظِيمًا) نسبتها إلى الزنا (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ)،، أي: من يزعم أنه رسول الله أو سموه رسولاً استهزاء، فالذم بسبب جرأتهم على الله تعالى وتبجحهم بقتله بعد ما أظهر المعجزات (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ) أي: لكن وقع لهم التشبيه بين(1/427)
عيسى والمقتول فقتلوا شابًا من أنصاره حسبوه عيسى، أو شبه لهم من قتلوه بأن ألقى الله على رجل من اليهود شبهه فقتل (وَإِن الذِينَ اخْتَلَفوا فيه) في شأن عيسى فإنهم لما قتلوا ذلك الرجل قال بعضهم: عيسى، وقال بعضهم: ليس بعيسى وجهه وجه عيسى والبدن بدن غيره، وقال بعضهم: كذاب قتلناه وقال بعضهم: ابن الله رفع إلى السماء (لَفِي شَكّ مِّنْهُ) تردد من قتله (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) لكنهم يتبعون الظن (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) يقينا تأكيد لـ " ما قتلوه " نحو: ما قتلوه حقًا أي: حق انتفاء قتله حقًّا قيل: ما قتلوه متيقنين أنه هو، بل شاكين متوهمين (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) فإن السماء محل ظهور سلطانه (وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً) لا يغلب إراداته (حَكِيمًا) فيما دبر (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) أي: أحد منهم (إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي: قبل موت عيسى بعد نزوله عند قيام الساعة فتصير الملل واحدة وهي ملة الإسلام الحنيفية، أو قبل موت الكتابي إذا وقع في الباس حين لا ينفعه إيمانه (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) يشهد عليهم أنه قد بلغ الرسالة وأقر على نفسه بالعبودية، قيل: يشهد على اليهود بالتكذيب وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) أي: ما استمر(1/428)
تحريمها إلا بظلم عظيم منهم، " وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ " الآية [الأنعام: 146]، (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا) صدًّا كثيرًا أو ناسًا كثيرًا (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنهُ) في التوراة (وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) بالرشوة وغيرها (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ) دون من آمن وتاب (عَذَابًا أَلِيمًا). (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ) كعبد الله بن سلام وأصحابه (وَالْمُؤْمِنُون) منهم، وقيل أي: الصحابة (يُؤْمِنُونَ) خبر المبتدأ (بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ) نصب على المدح، وهو شائع في كلام الفصحاء، وقيل: مخفوض عطف على ما أنزل أي: آمنوا بإقامة الصلاة أي بوجوبه، أو المراد بالمقيمين: الأنبياء (1) (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) قدم الإيمان بالقرآن والكتب، لأنه المقصود من الآية (أوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيمًا).
* * *
(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا
__________
(1) قال العلَّامة السمين ما نصه:
قوله: والمقيمين «قراءةُ الجمهورِ بالياء، وقرأ جماعة كثيرة» والمقيمون «بالواو منهم ابن جبير وأبو عمرو بن العلاء في رواية يونس وهارون عنه، ومالك بن دينار وعصمة عن الأعمش، وعمرو بن عبيد، والجحدري وعيسى بن عمر وخلائق. فأما قراءة الياء فقد اضطربت فيها اقوال النحاة، وفيها ستةُ أقوال، أظهرهما: وعزاه مكي لسيبويه، وأبو البقاء للبصريين - أنه منصوبٌ على القطع، يعني المفيدَ للمدح كما في قطع النعوت، وهذا القطعُ مفيدٌ لبيان فضل الصلاة فَكَثُر الكلامُ في الوصفِ بأن جُعِل في جملة أخرى، وكذلك القطعُ في قوله {والمؤتون الزكاة} على ما سيأتي هو لبيانِ فَضْلِها أيضاً، لكن على هذا الوجه يجب أن يكونَ الخبرُ قولَه:» يؤمنون «ولا يجوز أن يكون قوله {أولئك سَنُؤْتِيهِمْ} لأن القطع إنما يكونَ بعد تمامِ الكلام. قال مكي:» ومَنْ جَعلَ نَصْبَ «المقيمين» على المدحِ جَعَلَ خبرَ «الراسخين»: «يؤمنون»، فإنْ جَعَل الخبر «أولئك» سنؤتيهم «لم يجز نصب» المقيمين «على المدح، لأنه لا يكون إلا بعد تمام الكلام» وقال الشيخ: «ومَنْ جعل الخبرَ: أولئك سنؤتيهم فقوله ضعيفٌ» قلت: هذا غيرُ لازمٍ، لأنه هذا القائلَ لا يَجْعَلُ نصبَ «المقيمين» حينئذٍ منصوباً على القطع، لكنه ضعيفٌ بالنسبةِ إلى أنه ارتكبَ وجهاً ضعيفاً في تخريج «المقيمين» كما سيأتي. وحكى ابنُ عطية عن قومٍ مَنْعَ نصبه على القطع من أجلِ حرف العطف، والقطعُ لا يكونُ في العطف، إنما ذلك في النعوت، ولما استدلَّ الناسُ بقول الخرنق:
167 - 4 - لا يَبْعَدَن قومي الذين همُ ... سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ
النازلين بكلِّ معتَركٍ ... والطيبون معاقدَ الأزْرِ
على جواز القطع فَرَّق هذا القائلُ بأن البيت لا عطفَ فيه؛ لأنها قطعت «النازين» فنصبته، و «الطيبون» فرفعَتْه عن قولِها «» قومي «، وهذا الفرقُ لا أثرَ له؛ لأنه في غيرِ هذا البيت ثبت القطع مع حرف العطف، أنشد سيبويه:
167 - 5 - ويَأْوي إلى نِسْوةٍ عُطَّلٍ ... وشُعْثاً مراضيعَ مثلَ السَّعالِي
فنصب» شعثاً «وهو معطوف.
الثاني: أن يكونَ معطوفاً على الضمير في» منهم «أي: لكن الراسخون في العلمِ منهم ومن المقيمين الصلاة. الثالث: أن يكون معطوفاً على الكاف في» إليك «أي: يؤمنون بما أُنْزل إليك وإلى المقيمين الصلاةَ وهم الأنبياء. الرابع: أن يكونَ معطوفاً على» ما «في» بما أُنْزِل «أي: يؤمنون» بما أنزل إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبالمقيمين، ويُعْزَى هذا الكسائي. واختلفت عبارة هؤلاء في «المقيمين» فقيل: هم الملائكة قال مكي: «ويؤمنون بالملائكة الذين صفتُهم إقامةُ الصلاةِ كقوله: {يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]. وقيل: هم الأنبياء، وقيل: هم المسلمون، ويكون على حَذْفِ مضافٍ أي: وبدين المقيمين. الخامس: أن يكونَ معطوفاً على الكاف في» قبلك «أي: ومِنْ قبلِ المقيمين، ويعني بهم الأنبياءَ أيضاً. السادس: أن يكونَ معطوفاً على نفسِ الظرف، ويكونَ على حَذْفِ مضاف أي: ومن قبل المقيمين، فحُذِف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقامه. فهذا نهايةُ القولِ في تخريجِ هذه القراءةِ.
وقد زعم قومٌ لا اعتبارَ بهم أنهم لحنٌ، ونقلوا عن عائشة وأبان بن عثمان أنها خطأ من جهةِ غلط كاتبِ المصحف، قالوا: وأيضاً فهي في مصحفِ ابن مسعود بالواو فقط نقله الفراء، وفي مصحف أُبيّ كذلك، وهذا لا يَصحُّ عن عائشة ولا أبان، وما أحسن قولَ الزمخشري رحمه الله:» ولا يُلتفت إلى ما زعموا مِنْ وقوعِه لَحْناً في خط المصحف، وربما التفت إليه مَنْ لم ينظر في الكتاب الكتاب ومَنْ لم يعرف مذاهبَ العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغَبِيَ عليه أنَّ السابقين الأولين الذين مَثَلُهم في التوراة ومثلُهم في الإنجيل كانوا أبعدَ همةً في الغَيْرة عن الاسلام وذَبَّ المطاعنِ عنه من ان يقولوا ثُلْمَةً في كتاب اله ليسُدَّها مَنْ بعدهم، وخَرْقاً يَرْفوه مَنْ يلحق بهم «وأمَّا قراءةُ الرفعِ فواضحةٌ.
قوله: {والمؤتون} فيه سبعةُ أوجهٍ أيضاً. أظهرها: أنه على إضمار مبتدأ، ويكون من باب المدحِ المذكورِ في النصب. الثاني: أنه معطوفٌ على» الراسخون «، وفي هذا ضَعْفٌ؛ لأنه إذا قُطِع التابعُ عن متبوعِه لم يَجُزْ أن يعودَ ما بعده إلى إعراب المتبوع فلايُقال:» مررت بزيدٍ العاقلَ الفاضلِ «بنصب» العاقل «وجر» الفاضل «فكذلك هذا.
الثالث: أنه عطفٌ على الضمير المستكنِّ في «الراسخون»، وجاز ذلك للفصل. الرابع: أنه مطعوفٌ على الضمير في «المؤمنون» الخامس: أنه معطوفٌ على الضمير في «يؤمنون» السادس: أنه معطوفٌ على «المؤمنون»، السابع: أنه مبتدأ وخبره «أولئِك سنؤتيهم» فيكون «أولئك» مبتدأ، و «سنؤتيهم» خبره، والجملةُ خبرُ الأولِ، ويجوزُ في «أولئك» أن ينتصِبَ بفعلٍ محذوفٍ يفسِّرُه ما بعده فيكونَ من باب الاشتغال، إلا أنَّ هذا الوجهَ مرجوحٌ من جهةِ أنَّ «زيدٌ ضرتبه» بالرفع أجودُ مِنْ نصبه، لأنه لا يحوج إلى إضمار، ولأنَّ لنا خلافاً في تقديم معمول الفعل المقترن بحرف التنفيس في نحو «سأضربُ زيداً» مَنَعَ بعضهم «زيداً سأضرب»، وشرطُ الاشتغالِ جوازُ تسلُّط العامل على ما قبله، فالأَوْلى أَنْ نَحْمِلَه على ما خلاف فيه. اهـ (الدر المصون في علوم الكتاب المكنون. 4/ 153 - 156)(1/429)
حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا (171)
* * *
(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) يعني شأنك في الوحي كشأن الأنبياء فما لهم والعناد معك (وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ) أي: أولاد يعقوب ((وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ) خصهم بالذكر، لأنَّهُم أشرف الأنبياء وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا)(1/430)
(وَرُسُلاً) نصب على مضمر يدل عليه أوحينا أي: أوحينا إليك وأرسلنا رسلاً أو على مضمر يفسره قوله: (قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ) في السور المكية (وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) نصب على المدح أو على الحال أو على تقدير أرسلنا (مُّبَشِّرِينَ) بالثواب على الطاعة (وَمُنْذِرِينَ) بالعقاب على المعصية (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) فيقولوا ما أرسلت إلينا رسولاً يعلمنا الدين متعلق: بـ " أرسلنا " وبـ " منذرين " ومبشرين وأحد المجرورين خبر كان، والآخر حال والظرف لحجة (وَكَانً اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) فيما أراد ودبر (لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) استدراك عما فهم من قبل من تَعَنُّتِهِمْ بأنَّهم لا يشهدون (بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ) من القرآن الدال على نبوتك (أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) متلبسًا بعلمه الذي(1/431)
أراد أن يطلع عباده من صفاته ومغيباته وأوامره ونواهيه، أو أنزله عالمًا بأنك أهل لإنزاله إليك (وَالْمَلاِئكَةُ يَشْهَدُونَ) أيضًا بنبوتك نزلت في جماعة من اليهود قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني والله أعلم أنكم لتعلمون أني رسول الله، فقالوا: ما نعلم ذلك " (وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً) فإنه أقام الحجج والبينات الواضحة على صحة نبوتك (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا) فإنهم جمعوا بين الضلال والإضلال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا) محمدًا صلى الله عليه وسلم بكتمان نعته أو الناس بصدهم أو أنفسهم (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) بعد ما ماتوا عليه أو هذا فيمن علم أنه يموت على الكفر (وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا) إلى النجاة (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) استثناء منقطع أو متصل على السخرية (خَالِدِينَ) حال مقدرة (فيهَا أَبَدًا وَكَان ذلِكَ) أي: عدم الغفران والخلود (عَلَى اللهِ يَسِيرًا يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) لما قرر أمر النبوة وأوعد المنكر خاطب الناس بالدعوة (فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ) أي: إيمانًا خيرًا لكم أو ائتوا أمرًا خيرًا لكم مما أنتم عليه أو يكن الإيمان خيًرا لكم (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فهو الغني عنكم (وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا) بأحوالكم (حَكِيمًا) فيما أراد لكم (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) النصارى تجاوزوا الحد في عيسى عليه السلام بل في الأحبار، كما قال: " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا " (التوبة: 31)، (وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ) لا تفتروا عليه (إِلا الحَقَّ) لكن قولوا الحق فنزهوه عن شريك وولد (إِنَّمَا(1/432)
المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَريمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) أوجده بكلمة كن (أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) يعني خلقه بالكلمة التي أرسل الله بها جبريل إلى مريم فنفخ في جيب درعها فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة إلقاح الأب الأم (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي: صدر منه بغير مادة وإضافة الروح إلى الله للتشريف (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثةٌ) أي: آلهتنا ثلاثة الله والمسيح ومريم (انتَهُوا) عن التثليث وائتوا أمرا (خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) لا تعدد فيه أصلاً (سُبْحَانَهُ) أي: أسبح سبحانه من (يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ملكًا وخلقًا لا يماثله شيء حتى يكون له ولد (وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً) فلا يحتاج إلى ولد؛ لأن الولد وكيل والده وهو وكيل كل شيء.
* * *
(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا(1/433)
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
* * *
(لَن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ) لن يأنف من (أَنْ يَكُون عَبْدًا للهِ) فإن عبوديته شرف، قيل: نزلت حين " قال وفد نجران لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعيب عيسى تقول: إنه عبد الله؟ قال: إنه ليس بعار أن يكون عبدًا لله قالوا بلى " (وَلاَ المَلاِئكَة الُمقَربون) عطف على المسيح أي لا يستنكفون مع أن ما بعثكم في دعوى الإلهية(1/434)
لعيسى أقوى وأشد فيهم لا أب ولا أم لهم ولهم قوة لا تفي بها طاقة البشر كقلع الجبال والتصرف في الأهوال والأحوال وهم مع ذلك لا يستنكفون (وَمَن يَسْتنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ) الاستنكاف تكبر مع أنفة والاستكبار بدونه (فسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا) مجازاة (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) وهذا تفصيل للمجازاة العامة الدال عليها فحوى الكلام، وإن لم يجر سوى ذكر المستنكفين فكأنه قال: ومن استنكف ومن آمن فسيحشرهم.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني: محمدًا عليه الصلاة والسلام أو القرآن وقيل: المعجزات (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) أي: القرآن (فَأَمَّا الّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ) جمع بين مقامي العبادة والتوكل على الله أو اعتصموا بالقرآن (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ منْهُ وَفَضْلٍ) زائد على قدر أعمالهم (وَيَهْدِيهِمْ(1/435)
إِلَيْهِ) إلى الله (صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) في العلم والعمل فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة، وفي الآخرة على صراط مستقيم يفضي إلى روضات الجنات، وصراطًا: إما بدل من إليه أو مفعول يهديهم وإليه حال مقدم (يَسْتَفتُونَكَ) أي: عن الكلالة (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) نزلت في جابر بن عبد الله حين " سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني مريض وكللة، فكيف أصنع في مالي؟ " (إِذ امْرُؤٌ) مرفوع بفعل يفسره ما بعده (هَلَكَ) مات (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) أصلاً ولا والد أيضًا فإن الأخت لا ترث مع الأب، وهو صفة لا غير (وَلَهُ أُخْتٌ) أي: من الأبوين أو الأب، فإن ذكر ولد الأم مضى حكمه فِي أول السورة (فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ) أي المرء (يَرِثُهَا) أي الأخت (إِن لَّمْ يَكُن لهَا وَلَدٌ) أي إذا ماتت الأخت فجميع ميراثها للأخ إن لم يكن لها ولد أصلاً ولا والد (فَإِن كَانَتَا) أي: الأختان (اثْنَتَيْنِ) فصاعدًا (فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) الأخ (وَإن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاءً) أصله: وإن كانوا إخوة وأخوات فغلب الذكر (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ) الحق كراهة (أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فهو عالم بمصالح العباد في المعاش والمعاد.
والحمد لله حقَّ حمده.
* * *(1/436)
سورة المائدة
مدنية
وهى مائة وعشرون آية وستة عشر ركوعًا
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ(1/437)
حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أي: العهود وهو ما حد في القرآن كله (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) تفصيل للعقود والإضافة بيانية وهي الإبل والبقر والغنم وألحق بها الظباء وبقر الوحش (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) تحريمه أو إلا محرم ما يتلى عليكم وهو قوله: " حرمت عليكم الميتة " [المائدة: 3] (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) حال من ضمير لكم أو من ضمير أوفوا (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) حال من ضمير محلي يعني أحلت لكم جميع الأنعام إنسيًّا ووحشيًّا وإحلالها عن عمومها مختص بحال كونكم غير محلين للصيد في الإحرام إذ معه تحريم البعض وهو الوحشي أو الاول: حال من الفاعل الحقيقي المتروك لأحلت، والثاني: حال من ضمير لكم المقدر أي: أحللنا حال كوننا غير محلين الصيد لكم في حال إحرامكم (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ): من تحليل وتحريم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ): مناسك الحج أو محارم الله أو الهدايا المعلمة للذبح بمكة (وَلاَ الشَّهْرَ الحَرَامَ) بعدم تعظيمه والقتال فيه والجمهور على أنه منسوخ يجوز ابتداء القتال مع أهل الشرك في أشهر الحرم (وَلاَ الهَدْيَ): ما أهدي إلى(1/438)
الكعبة بأن تتعرضوا له (وَلاَ القَلاِئدَ): ذوات القلائد من الهدي ذكرها لأنها أشرف الهدي، قال بعضهم: معناه لا تتركوا الإهداء إلى البيت، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها (وَلاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ) أي: لا تستحلوا قتال قوم قاصدين إلى بيت الله (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ): رزقًا بالتجارة حال من ضمير أمين (وَرِضْوَانًا) بزعمهم؛ لأن الكافرين ليس لهم نصيب من الرضوان، نزلت فيمن أغار على سرح المدينة، فلما كان من العام المقبل اعتمر من البيت فأراد بعض الصحابة أن يتعرضوا عليه في طريقه إلى البيت، وهذا الحكم منسوخ الآن فيهم. قال بعضهم: أهل الجاهلية يقلدون أنفسهم بالشعر والوبر في سفر الحج في غير أشهره وإبلهم من لحا شجر الحرم فيأمنون به، فنهى الله التعرض لهم بقوله: " ولا القلائد " وهو أيضًا منسوخ وقيل: معناه يتقلدون من لحا شجر الحرم فنهى الله عن قطع شجرة (وَإِذَا حَلَلْتُمْ): من الإحرام (فَاصْطَادُوا) إذن فى الاصطياد بعد الإحرام (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ): يحملنكم (شَنَئَانُ قَوْمٍ): بعضهم (أَن صَدُّوكُمْ) أي: لأن صدوكم (عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) وقرئ إن فحَّرَف الشرط معترض بين العامل والمعمول (أَنْ تَعْتَدُوا) بالانتقام وهو ثاني مفعولي يجرمنكم فإنه يعدى إلى واحد وإلى اثنين ككسب، نزلت حين أراد الصحابة صد بعض المشركين عن العمرة انتقامًا من أصحابهم لما صدوهم عن البيت بالحدييية (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ) المأمورات عطف على لا يجرمنكم (وَالتَّقْوَى) عن المنهيات (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ): المعاصي (وَالْعُدْوَانِ): الظلم (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) أي: المسفوح (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) لقوله عند الذبح: بسم اللات والعزى، والإهلال: رفع الصوت(1/439)
(وَالْمُنْخَنِقَةُ): التي ماتت بالخنق (وَالْمَوْقُوذَةُ) هي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت، وذلك من عادات الجاهلية (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) التي أطيحت من موضع فماتت (وَالنَّطِيحَةُ) كشاتين تناطحتا فماتتا أو ماتت إحداهما، والتاء فيها للنقل (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ). منه فمات (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء، وفيه حياة مستقرة فإنه حلال (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) هي حجارة حول(1/440)
البيت يذبحون عندها وينضحونها بدماء تلك الذبائح، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب، فحرم الله أكل هذا اللحم وإن ذكر عليها اسم الله لما فيه من الشرك، وقال بعضهم: هي الأصنام ومعناه: ما ذبح على النصب، وعلى هذا هو وما أهل لغير الله واحد (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ) أي: حرم الاستقسام بالأزلام وهي عبارة عن قداح مكتوب في بعضها افعل وفي بعضها لا تفعل، وبعضها غفل لا شيء عليه، يستقسمون بها في الأمور فإذا خرج الأمر فعلوه وإذا خرج الناهي تركوه وإذا خرج الغفل أجالوها ثانيًا (ذَلِكُمْ فِسْقٌ) أي: تعاطيه فسق وضلالة وجهالة (اليَوْمَ) أريد به الأزمان الحاضرة (يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ): من إبطاله بأن ترجعوا إلى دينهم (فَلَا تَخْشَوْهُمْ): بعد ما أظهرت دينكم (وَاخْشَوْنِ): أخلصوا الخشية لي(1/441)
(اليَوْمَ) قيل المراد يوم النزول يوم عرفة في حجة الوداع (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فلا زيادة بعده ولم ينزل بعده حرام ولا حلال (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي): بالهداية وإكمال الدين (وَرَضِيتُ) اخترت (لَكُمُ الْإِسْلَامَ دينًا) من بين الأديان فلا أسخطه أبدًا، ودينا، إما حال أو تمييز (فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى تناول شيء من هذه المحرمات وهو متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض (فِي مَخْمَصَةٍ): مجماعة (غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ) غير مائل لمعصية بأن يأكلها تلذذًا أو مجاوزًا حد الرخصة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) حيث رخص فلا يؤاخذه به (يَسْأَلُوئكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ) نزلت حين سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله قد حرم الميتة فماذا يحل لنا؟ وماذا مبتدأ وأحل لهم خبره (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) أي: الذبائح الحلال، وقيل: كل ما يستطيبه العرب من غير أن ورد بتحريمه نص (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ) يعني(1/442)
أحل لكم صيد ما علّمتم من كواسب الصيد على أهلها من سباع وطيور (مُكَلِّبِينَ) حال كونكم معلمين إياه الصيد وذكرها للمبالغة في التعليم (تُعَلِّمُونَهُنَّ) حال أو استئناف (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ): من طرق التأديب (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) كثير من السلف على أن الجوارح إذا أخذت الصيد وأكلت شيئًا منه ولم يدركه صاحبه حيًّا فيذبحه فهو حرام، وبعض آخر منهم عليٌّ وابن عباس على حلته وإن أكل منه ثلثيه (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ): على ما علمتم أي عند إرساله إلى الصيد وهذا الأمر على الندب عند الأكثرين (وَاتَّقُوا اللهَ): في الحرام (إِنْ الله سَرِيعُ الحِسَابِ) فيؤاخذكم بما كسبت أيديكم (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ): الذبائح على اسم الله (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) من اليهود والنصارى يعني ذبائحهم (حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) بمعنى حل وجاز لكم أن تطعموهم من ذبائحكم (وَالْمُحْصَنَاتُ): الحرائر العفائف أو الحرائر أو العفائف (مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ) أكثر السلف على أنه لا يجوز تزوج الذمية الزانية، وهو يعم كل كتابية عفيفة، وقيل: المراد بها الذميات دون الحربيات، وعن ابن عباس - رضى الله عنهما -: لما نزلت " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " (البقرة: 221) حجر الناس عنهن حتى نزلت والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم فنكح الناس نساء أهل الكتاب (إِذَا آتيتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ): مهورهن وتقيد الحل به لتأكييد وجوبها، وقيل المراد بإيتائها: التزامها محصنين (مُحْصِنينَ) أعفاء بالنكاح (غَيْرَ مُسَافِحِينَ) مجاهرين بالزنا (وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ) مسرين به والخدن: الصديق. بعض السلف ذهب إلى أنه لا يصح نكاح البغية من عفيف وعقد(1/443)
الفاجر على عفيفة حتى يتوبا وسيأتى الكلام فيه (وَمَن يَكفُرْ بِالإِيمَان): بالله الذي يجب الإيمان به، قيل: أراد بالكفر الإنكار، وبالإيمان: الشرائع والإسلام (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لله شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا(1/444)
نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) أي: إذا أردتم القيام إليها وهو مطلق أريد به التقييد أي: إذا قمتم إليها محدثين وقيل: الأمر شامل للمحدثين على الإيجاب وللمطهرين على وجه الندب وقال بعضهم: إن الآية نزلت إعلامًا من الله أن الوضوء لا يجب إلا عند القيام إلى صلاة دون غيرها من الأعمال، لأنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) أي مع المرافق فالجمهور على دخول المرفقين في الغسول، قيل: ومنه علم وجوب النية كما إذا قلنا إذا رأيت الأمير فقم أي: فقم له (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) الباء للإلصاق (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ) نصبه نافع والكسائى وابن عامر وحفص ويعقوب عطفا على (وجوهكم)، وجرَّه الباقون وعلى الإنصاف ظاهر قراءة النصب على وجوب الغسل وظاهر الثانية على وجوب المسح، فإن جر الجوار وإن كان بابًا واسعًا فهو خلاف الظاهر، والأحاديث الصحاح تدل على وجوب الغسل دلالة(1/445)
لا محيص عنها (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) فاغتسلوا (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) قد مر تفسيره في سورة النساء ولعل فائدة التكرار بيان أنواع الطهارة هنا أيضًا (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ): بما فرض من الغسل والوضوء والتيمم (مِنْ حَرَجٍ): ضيق (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ): من الإحداث والذنوب (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) ببيان ما هو مطهرة للقلوب والأبدان عن الآثام والإحداث (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): نعمتي فأزيدها عليكم (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ): من القديم والحديث لأجل الدين والدنيا (وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) حين بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطهم ومكرهم أو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجهم من صلب آدم، وقيل: هذا تذكار لليهود بما أخذ عليهم من العهود في متابعة محمد عليه الصلاة والسلام (وَاتقُوا اللهَ) في نقض عهده (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بذَاتِ الصدورِ) بخفياتها فضلاً عن جلياتها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونوا قَوَّامِينَ لله) أي: قائمين بالحق لله لا للرياء (شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) بالعدل لا بالجور (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ) يحملنكم (شَنَئَانُ قَوْمٍ) عداوتهم (عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) بل الزموا العدل مع العدو والصديق (اعْدِلُوا هُوَ) أي: العدل (أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) اللام للاختصاص واستعمل أفعل التفضِيل في محل(1/447)
ليس في الجانب الآخر منه شيء كقوله تعالى: " أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا " [الفرقان: 24] وكم مثله في كلام البلغاء (وَاتَّقوا الله إِنْ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) فيجازيكم به (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغفرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) مستأنفة مبنية لثاني مفعولي وعد أو وعد واقع على تلك الجملة كأنه قال: وعدهم هذا القول (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) فلا ينفكون عنها (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكرُوا نعْمَتَ اللهِ عَلَيْكمْ إِذْ هَمَّ) متعلق بنعمة الله (قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ): بَالقتل (فكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ) رد مضرتها عنكم (وَاتَّقوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكلِ الْمُؤْمِنونَ) فمن توكل عليه كفاه اللهُ أربه، نزلت لما أراد قوم من العرب أن يكبوا على رسول الله وأصحابه صلى الله عليه وسلم إذا اشتغلوا بصلاة العصر، فأخبرهم جبريل وجاء بصلاة الخوف. أو في قوم من اليهود صنعوا طعامًا ليقتلوهم فأوحى الله إليه بشأنهم. أو في بني النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأسه عليه الصلاة والسلام الرحا إذا جلس تحت الجدار فأطلعه على كيدهم، أو في قوم أرسلوا أعرابيًا لقصده فجاءه وهو صلى الله عليه وسلم راقد تحت شجرة فسل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من يمنعك مني؟ فقال: اللهُ فأسقطه جبريل من يده وأخذه الرسول - صلى الله عليه وسلم.
* * *
(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ(1/448)
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
* * *(1/449)
(وَلَقَدْ أَخَد اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) لما أمر المؤمنين بالوفاء بعهده وأمرهم بالحق والعدل وذكرهم نعمه شرع يبين لهم كيفية أخذ العهود على من كان قبلهم وطردهم ولعنهم لما نقضوها ليتعظ المؤمنون (وَبَعَثْنَا منْهُمُ اثْنيْ عَشَرَ نَقيباً) كفيلاً ضمنوا عن قومهم الوفاء بالعهد (وَقَالَ اللهُ إِنِّيَ مَعَكُمْ) بالنصرة (لَئِنْ) أي: والله لئن (أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) صدقتموهم بما جاءوا به (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) نصرتموهم وعظمتوهم (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا) بأن تنفقوا فى سبيل الخيرات نصب بالمصدر أو بالمفعول الثاني (لَأُكَفِّرَنَّ) جواب القسم سد مسد جواب الشرط (عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) تحت غرفها (الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ) الميثاق (منكُمْ فَقَدْ ضَل سَوَاءَ السَّبِيلِ) صراط الحق فإن الضلال بعده أظهر وأعظم وأقبح (فَبِمَا نَقْضِهِم) ما زائدة للتأكيد (مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) أبعدناهم عن رحمتنا (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسيَةً) يابسة غليظة لا تنتفع بالمواعظ وقرئ (قَسِيَّة) أي: مغشوشة (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) كلام الله (عَنْ مَوَاضِعِهِ) يبدلون نعت محمد أو يأولون الآيات بسوء تأويل (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) تركوا نصيبهم من التوراة فلم يعملوا بها أو زلت بعض آياتها عن حفظهم(1/450)
(وَلَا تَزَالُ) يا محمد (تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) خيانة وغدر فاعل بمعنى المصدر (إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) " لم يخونوا استثناء من ضمير منهم (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) نسخ باية السيف، وقيل: معناه إن تابوا أو عا@دوا والضزموا الجزية (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) تعليل للأمر بالعفو (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ) كما أخذنا من اليهود، سموا أنفسهم نصارى ادعاء لنصرة الله (فَنَسُوا حَظًّا): نصيبًا وافيًا (مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) من اتباع محمد عليه الصلاة والسلام (فَأَغْرَيْنَا) ألصقنا وأوقعنا (بَيْنَهُمُ) بين اليهود والنصارى أو بين فرق النصارى وهم كذلك (الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) بشنيع صنيعهم بأقطع جزاء (يَا أَهلَ الْكِتَابِ) عام لكل كتابي (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ) كآية الرجم وبشارة عيسى بأحمد (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) لا يتعرض لكثير مما حرفوه وأخفوه لأنه لا يحتاج إلى بيانه (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) أي: قرآن أو محمد عليه الصلاة والسلام (وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ) أي: بالنور والكتاب المبين، فإنهما واحد أو في حكم(1/451)
الواحد (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ): من آمن منهم (سُبُلَ السَّلَامِ) طرق السلامة والنجاة (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ): أنواع الكفر (إِلَى النُّورِ) إلى الإيمان (بِإِذْنِهِ) بإرادته وتوفيقه (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ): يوصلهم إلى رحمة الله.
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) اليعقوبية من النصارى قالوا: المسيح هو الله (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا): من يستطيع إمساك شيء من قدرة الله (إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) أي: هو وجميع الخلائق مقهور تحت قدرته قابل للفناء فلا يكون إلهًا (وَلله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على إيجاد شيء من غير أصل ومادة ولا أب وأم (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ) أي: هو كالأب لنا في العطوفة أو وجدوا في التوراة يا أبناء أحباري فبدلوا بيا أبناء أبكاري، وقيل: نحن أبناء رسل الله، وقيل: جمع ابن الله للابن وأشياعه والابن بزعم الفريقين عزير وعيسى كقول أقارب الملك: نحن الملوك (وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ): في الدنيا والآخرة، فإن الحبيب لا يعذب حبيبه أقبح لتعذيب والوالد لا يعذب ولده بل يؤدبه ويزكيه (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ): كسائر المخلوقات (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ) وهو من آمن برسه (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) من مات(1/452)
على الكفر لا مزية لكم على سائر الخلق (وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ) فيجازي المحسن والمسيء (يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ): الدين (عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ) أي جاء على حين فتور من الوحي أو حال من ضمير يبين (أَن تَقُولُوا) كراهة أن تقولوا (مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ) فتعتذروا به (فَقَدْ جَاءكُم بَشِرٌ وَنَذِيرٌ) أي: لا تعتذروا فقد جاءكم (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فقادر على إرسال الرسل تترى، وعلى الإرسال على فترة، وعلى عقاب العاصي وثواب المطيع.
* * *
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا(1/453)
مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
* * *
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ) كلما هلك نبي قام فيكم نبي من لدن إبراهيم حتى ختم بعيسى (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا) أصحاب خدم وحشم وهم أول من ملك الخدم أو كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له منزل وخادم سمي ملكًا، قيل: ملكوا أنفسهم بعد ما كانوا مملوكين في أيدي القبط (وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) من فلق البحر والمنِّ والسلوى أو من الفضل والشرف على عالمي زمانهم (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) بيت المقدس أو الطور وما حوله أو الشام، فإنه مقر الأنبياء مطهر من الشرك (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ): وعدكموها الله أنه وراثة من آمن منكم (وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ) لا ترجعوا مدبرين خوفًا من الجبابرة وجاهدوهم فإنكم غالبون (فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) ثواب الدارين (قَالُوا يَا مُوسَى إِن فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ) متغلبين أقوياء (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلانِ) يوشع وكالبُ (مِنَ الذِينَ يَخَافون) أمر الله وعقابه وقيل: هما من الجبابرة أسلما واتبعا موسى فمعناه يخافون أي بنو إسرائيل منهم (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بالعصمة هو الثبات صفة ثانية لرجلين أو(1/454)
اعتراض (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البَابَ) باب قريتهم أي: ازحفوا عليهم (فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ) لما جربنا ضعف قلوبهم ولتيقُن انجاز وعد الله في نصرة نبيه (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) به مصدقين لوعده (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا) تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول (مَا دَامُوا فِيهَا) بيان للأبد (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا): الجبارين (إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) قال بعض الصحابة يوم بدر: " إنا لا نقوله كما قالت بنو إسرائيل، بل نقول اذهب أنت وربك إنا معكم مقاتلون " (قَالَ): موسى لبث الحزن إلى الله (رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي) عطف على نفسى (فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) اقض بيننا وبينهم بما نستحق أو خلصنا من صحبتهم (قَالَ) الله (فَإِنَّهَا) أي: الأرض المقدسة (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ): دخولها (أَرْبَعِينَ سَنَةً) ظرف لمحرمة فيكون التحريم مؤقتًا فقد نقل عن بعض(1/455)
السلف أن موسى سار بمن بقي من التيه بعد الأربعين ففتح بيت المقدس أو ظرف لقوله (يَتِيهُونَ) أي: يسيرون متحيرين (فِي الْأَرْضِ) فيكون التحريم مؤبدًا وقد نقل عن كثير من السلف أن موسى وهارون ماتا في التيه ولم يبق أحد من أهل التيه -سوى يوشع وكالبُ- إلا مات فيه، ويوشع سار بأولادهم وفتح الشام (فَلاَ تَأْسَ): لا تحزن (عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) هذا تسلية لموسى فإنهم مستحقون لما عاملناهم.
* * *
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ(1/456)
أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
* * *
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ): هابيل وقابيل (بِالْحَقِّ) أي: تلاوة متلبسة بالصدق (إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا) ظرف للنبأ. والقربان: اسم لكل ما يتقرب به إلى الله من ذبيحة وغيرها (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا) هابيل (وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ) قابيل كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه فبينما هما قاعدان فقالا: نقرب قربانا فقرب هابيل خير غنمه وقرب الآخر أبغض زرعه، فجاءت نار من السماء وأكلت الشاة وتركت الزرع وكان هذا علامة القبول والرد وهذا الكبش هو الذي فدي به إسماعيل أتى به من الجنة فحسد قابيل أخاه (قَالَ لأَقتلَنَّكَ قَالَ) هابيل (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الُمتَّقِينَ) أي: لم تقتلني ولا ذنب لي وإنما أتيت من قبل نفسك بتركك التقوى (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) لا أقابلك على صنيعك الفاشل بمثله (إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) كان هابيل أشد وأقوى لكن(1/457)
منعه الورع (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي) بإثم قتلى (وَإِثْمِكَ) الذي عملته قبل ذلك فلم يتقبل من أجله قربانك أي: ترجع متلبسًا بالإثمين حاملاً لهما وقيل: معناه إثمي لو بسطت يدي إليك وإثمك ببسطك يدك إليَّ ونحوه المستبان ما قالا فعلى البادي ما لم يعتد المظلوم فإن على البادي إثم سبه ومثل إثم صاحبه، لأنه الباعث، والإثم محطوط عن صاحبه؛ لأنه دافع مكافئ عن عرضه إذا لم يخرج عن حد المكافأة (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظالِمِينَ) وهذا الكلام من هابيل موعظة لأخيه وزجر له، قال ابن عباس رضى الله عنهما: خوفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر، وقيل: هو يعلم أن أخاه ظالم وإرادة جزاء الظالم حسن (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) سهلته ووسعت له (فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ): في الدنيا والآخرة (فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا(1/458)
يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) لما قتله تحير في أمره لم يدر ما يصنع به فبعث الله غرابًا إلى غراب ميت فبحث عليه من التراب حتى واراه (لِيُرِيَهُ): الله أو الغراب (كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ) أي: جسده، فإنه مما يستقبح أن يرى، وكيف: حال من ضمير يواري، والجملة ثاني مفعولي (لِيُرِيَهُ) (قَالَ يَا وَيْلَتَى) كلمة جزع والألف بدل من ياء المتكلم أي: احضري يا هلاكى فهذا أوانك (أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ) عطف على أكون أو جواب استفهام؛ لأنه للإنكار بمعنى النفي أي: إن لم أعجز واريت (سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) على قتله قيل اسود جسده وتبرأ منه أبواه، وقد ذكر أكثر المفسرين إن الله قد شرع لآدم أن يزوج بناته من بنيه، وكان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى وكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر فكانت أخت هابيل دميمة وأخت قابيل جميلة فأراد أن يستأثر بها على أخيه فأبى آدم ذلك، وأمرهما بأن يقربا قربانًا فمن تقبل منه فهي له فتقبل من هابيل فحسد. هذا ما نقلوه والذي صح عن ابن عباس ما نقلناه أولاً وهو يشعر بل يدل على أن قربانهما لا عن سبب ولا عن بداءة في امرأة، وهو ظاهر القرآن فلذلك اخترناه (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) أي: بسبب قتله أخاه ظلمًا (كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) حكمنا وقضينا عليهم(1/459)
(أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي: بغير قتل نفس يوجب القصاص (أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ) أو بغير فساد فيها كالشرك وقطع الطريق (فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) أى: من استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس أو لأنه يقتل قصاصًا كما لو قتل الجميع أو كما قتل الناس وزرًا أو إثمًا (وَمَنْ أَحْيَاهَا) حرم قتلها وكف عنها أو عفا عن قاتل أو أنجاها عن هلكة (فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) حيى الناس منه جميعًا وحرم قتل جميع الناس أو في الأجر والثواب والمقصود تعظيم القتل والإحياء في القلوب (وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ) أي: بني إسرائيل (رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ) بالمعجزات الظاهرات على صدقهم (ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ): إرسال الرسل مع البينات (فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ): في مثل القتل (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ)(1/460)
يحاربون أولياءهما من قاطع الطريق وغيره (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا): مفسدين أو كأنه قال: يفسدون في الأرض فسادًا أو يسعون في الفساد، والفساد يطلق على أنواع الشر قال بعضهم نزلت في بعض أهل الكتاب بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ميثاق فنقضوا وأفسدوا في الأرض أو في جماعة مرضوا في المدينة فداواهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ألبان الإبل وأبوالها، فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الإبل فلما أخذوا قطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم ثم ألقوا في الرمضاء حتى ماتوا فعلى هذا تكون تعليمًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهذا ما سمر بعد ذلك عينًا (أَنْ يُقَتَّلُوا) أي من غير صلب إن أفردوا القتل (أَوْ يُصَلَّبُوا) مع القتل إن قتلوا وأخذوا المال (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ) أيدي اليمنى وأرجل اليسرى إن أخذوا المال فقط (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) إن اقتصروا على الإخافة والنفي هو أن يطلبهم الإمام فيقام عليهم الحد أو يهربوا من دار الإسلام أو ينفى من بلد إلى بلد وهكذا وقال بعضهم لا يخرجون من أرض الإسلام أو المراد من النفي السجن أو يخرج من بلده إلى آخر فيسجن فيه حتى تظهر توبته وقال كثير من السلف: إن الإمام مخير بين هذه العقوبات الأربعة في كل قاطع طريق فيكون أو للتخيير(1/461)
لا للتفصيل (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ) فضيحة (فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) هذا يدل على أن الآية نزلت في جمع من المشركين وإلا فالجمهور على أن من أذنب ذنبًا وعوقب في الدنيا فهو كفارة له (إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) على قول من قال هي في أهل الشرك فظاهر لأن من آمن ما بقي عليه شيء وأما المحاربون المسلمون إذا تابوا قبل القدرة سقط عنهم حد الله لا حقوق بني آدم وكثير من السلف يدل على أنه يسقط حقوق بني آدم، أيضًا إلا إذا أخذ مالاً معينًا فيجب الضمان (فَاعْلَمُوا أَن الله غَفُورٌ رحِيمٌ).
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي(1/462)
الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) أي: القربة بطاعته (وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) بمحاربة أعداء الله (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ): لكي تفوزوا (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ومِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ) ليجعلوه فدية لأنفسهم، واللام متعلق بثبت الدال عليه " لو " وإفراد ضمير به لإجرائه مجرى اسم الإشارة أو لأنه من قبيل إني قيار بها لغريب لا أن ومثله مفعول معه (مِنْ عَذاب يَوْمِ القِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) جواب لو ولو بما في حيزه خبر إن (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) مؤلم (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)(1/463)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) أي: أيمانهما وتقديره عند سيبويه: حكم السارق والسارقة فيما يتلى عليكم، فيكون جملتين وجملة عند المبرد والفاء للسببية أي: الذي سرق والتي سرقت فاقطعوا (جَزَاء بمَا كَسَبَا نَكَالاً) عقوبة (مِّنَ اللهِ) منصوبان على المفعول له (وَاللهُ عَزِيزٌ) في الإنتقام (حَكِيمٌ) فيما حكم من القطع (فَمَن تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) سرقته (وَأَصْلَحَ) العمل (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) يقبل توبته (إِنْ الله غَفُورٌ رحِيمٌ) فلا يعذبه في الآخرة، وأما القطع فلا يسقط عنه على الأصح (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ(1/464)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) أي: لا تهتم بمسارعَّتَهم فيه (مِنَ الَّذِينَ قَالوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ) متعلق بقالوا (وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ) وهم المنافقون (وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا) اليهود عطف على من الذين (سَمَّاعُونَ) أي: هم سَمَّاعُونَ أو تقديره: ومن اليهود قوم سَمَّاعُونَ (لِلْكَذِبِ) أي: قابلون له يقبلون من أحبارهم ما يفترونه وقيل: سَمَّاعُونَ كلامك لأجل الكذب أي: ليكذبوا ويفترون عليك (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) أي: يسمعون من جمع من اليهود لا يأتون مجلسك ويقبلون كلامهم أو معناه سَمَّاعُونَ منك لأجله، وقيل: سَمَّاعُونَ الثاني للتأكيد، ولقوم متعلق بالكذب أي: سَمَّاعُونَ ليكذبوا لقوم لم يأتوا مجلسك تجافيًا عنك وتكبرًا (يُحَرِّفُونَ الكلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ): من بعد أن وضعه الله مواضعه إما لفظًا وإما معنى بحمله على غير مراده، الجملة صفة لقوم أو مستأنفة أو خبر محذوف، وكذلك قوله (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ) أي: إن أوتيتم هذا المحرف فاقبلوه (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ) بل يفتى بخلافه (فَاحْذَرُوا) قبوله. " نزلت في رجل وامرأة محصنين من اليهود زنيا وهم قد بدلوا الرجم في التوراة بمائة جلدة والتحميم والإركاب على حمار مقلوبًا فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستفتوا وقالوا: إن حكم بمثل ما قلنا اعملوا أو يكون نبي من أنبياء الله قد حكم بذلك فيكون حجة بينكم وبين الله، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه فأمر عليه الصلاة والسلام بالرجم(1/465)
وألزمهم أنه حكم التوراة فرجما " (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ): ضلالته (فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا) في دفع الفتنة عنه (أوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) من خبائث الشرك (لَهُمْ في الدُّنْيَا خِزْيٌ): فضيحة وهتك ستر للمنافقين وجزية وخذلان لليهود (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) كرره للتأكيد (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ): الحرام كالرشى، فإنه مسحوت البركة (فَإِن جَاءوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) تخيير في الحكم والإعراض (وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا) فإن الله يعصمك من الناس قال كثير من السلف: الآية منسوخة بقوله: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) (المائدة: 48) (وَإِذ حَكَمْتَ فاحْكم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ) أي: العدل وإن كانوا ظلمة مستحقين للتعذيب (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الُمقْسِطِينَ): يرضى عنهم ويعظمهم (وَكَيْفَ) حال من فاعل (يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ) تعجب من تحكيمهم من لا يؤمنون به والحال أن الحكم في كتابهم المؤمن به منصوص (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ): التحكيم فلا يقبلون حكمك المطابق لما في كتابهم عطف على يحكمونك (وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ): لا بك ولا بكتابك.
* * *(1/466)
(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
* * *(1/467)
ثم مدح التوراة بقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى): يهدى إلى الحق (وَنُورٌ): به ينكشف المبهم (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ): أنبياء بني إسرائيل (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) فيه تعريض باليهود وأنهم بمعزل عن دين الأنبياء (لِلذِينَ هادُوا) متعلق بـ أنزلنا أو بـ يحكم أى: لأجل اليهود (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ) عطف على " النبيون "، وهم الزهاد والعلماء (بِمَا استحْفِظُوا مِن كَتابِ اللهِ): بسبب أمر الله إياهم بحفظ كتابه، وإظهاره وضمير ما محذوف ومن للتبيين (وَكَانوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ): رقباء لئلا يبدل أو بأنه من عند الله (فَلاَ تَخشَوُا النَّاسَ وَاخشَوْن) نهي للحكام عن المداهنة خشية الناس (وَلاَ تَشْتَرُوا): تستبدلوا (بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً): الرشوة والجاه (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) نزلت في أهل الكتاب دون من أساء من هذه الأمة(1/468)
أو من تركه عمدًا وأجاز وهو يعلم فهو من الكافرين، فيكون في المسلمين أو ليس(1/469)
بكفر ينقل عن الملة والدين، ولكن كفر دون كفر (وَكتبنا عَلَيْهِمْ): فرضنا على اليهود (فِيهَا): في التوراة (أَن النَّفْسَ) مقتولة (بِالنفْسِ وَالْعَيْنَ) مفقوءة (بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ) مجدوع (بِالأَنفِ وَالأذُنَ) مصلومة (بِالأذُنِ وَالسِّنَ) مقلوعة (بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) أي: ذات قصاص فيما يمكن الاقتصاص منه، وأما ما لا يمكن القصاص ككسر عظم وجرح لحم مما لا يمكن الوقوف على نهايته فلا قصاص فيه، ومن قرأ (والعينُ بالعينِ) بالرفع وكذلك الباقى فيكون عطفًا على أن وما في حيزه أي: كتبنا عليهم فيها العين بالعين (فَمَن تَصَدَّقَ به): بالقصاص بأن عفا عنه (فهُوَ) أي: التصدق (كَفارَةٌ له): للمتصدق يكفر الله به ذنوبه أو للجاني لا يؤاخذه الله به كما أن القصاص كفارة له (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم بالعدل نزلت لما اصطلحوا أن لا يقتل شريف بوضيع ورجل بامرأة (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ) أي: وأتبعناهم فحذف المفعول لدلالة الظرف عليه والضمير للنبيين (بعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) مفعول ثان متعدى إليه بالباء (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ): حاكمًا بما فيها (وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى) إلى الحق (وَنُورٌ) يستضاء به في إزالة الشبهات، والجملة أعني: " فيه هدى " في موضع نصب على الحال (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) لا يخالفه إلا في قليل (وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) زاجرًا عن ارتكاب المحارم لمن اتقى الله وخاف عقابه (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) عطف على وآتيناه الإنجيل أي: وآتيناه الإنجيل، وقلنا لهم: ليحكم ومن قرأ (لِيحكمَ) بكسر اللام وفتح الميم فتقديره وآتيناه ليحكم (وَمَنْ لَمْ(1/470)
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ): الخارجون عن طاعة ربهم (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ) أي: القرآن (بِالْحَقِّ) متلبسًا به (مصَدّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْه مِنَ الكِتَابِ): من جنس الكتب المنزلة (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ): رقيبًا على سائر الكتب وشهيدًا. فكل خبر يوافقه فحق وما خالفه منها فمحرف باطل أو حاكمًا على ما قبله من الكتب (فَاحْكُم بَيْنَهُم) بين أهل الكتاب (بمَا أَنزَلَ اللهُ) إليك (وَلاَ تَتَّبِع أهْواءَهُمْ) بالانحراف (عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ) وَلتضمن لا تتبع معنى الانحراف تعلق به عن أو حال عن الفاعل أي: مائلاً عما جاءك (لِكل جَعَلْنَا منكُمْ) أيها الناس (شِرْعَةً): سبيلاً (وَمِنْهَاجاً): سنة السنن هي مختلفة في التوراة شريعة وفي الإنجيل(1/471)
شريعة يحل الله فيها أشياء هي حرام في غيرها ليتميز المطيع من العاصي (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) جماعة متفقين على دين وطريقة واحدة في جميع الأعصار ومفعول شاء محذوف لدلالة الجواب عليه (وَلَكِنْ) أراد (ليَبْلُوَكُمْ): ليختبركم (فِي مَا آتَاكُمْ) من الشرائع المختلفة في كل عصر هل تعملون بها وتعتقدون حكمتها (فَاسْتَبِقُوا الخيْرَاتِ) ابتدروا وسارعوا إلى الأعمال الصالحة (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) أيها الناس (جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) بالجزاء فيجزي الصادقين بصدقهم ويعذب الكافرين (وَأَنِ احْكُم) عطف على الكتاب أو على الحق أي: أنزلنا إليك الحكم أو أنزلنا إليك الكتاب بأن احكم أو تقديره وأمرنا أن احكم (بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيَّرًا بين أن يحكم بينهم وبين أن يعرض عنهم ويردهم إلى حكامهم فأمر أن يحكم بينهم بالقرآن ولا يردهم إلى حكامهم (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ) أهل الكتاب (أَن يَفْتِنُوكَ) بدل اشتمال من هم أو مفعول له أي: مخافة أن يفتنوك ويضلوك (عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) نزلت حين قالت رؤساء اليهود ننطلق إلى محمد لعلنا نفتنه، فقالوا قد تعلم أنا إن اتبعناك [اتبعك] (1) الناس ولنا خصومة فاقض لنا على خصمنا إن جئنا نتحاكم إليك فنؤمن بك (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عما حكمت (فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) لما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت نكالهم (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ): خارجون عن طاعة ربهم (أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) أي: يريدون، وعن حكم الله يعدلون
__________
(1) في الأصل اتبعناك.(1/472)
(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا) تمييز (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي: عندهم فاللام للبيان أي: هذا الخطاب وهذا الاستفهام لمن له اليقين بأنه أعدل العادلين وأرحم الراحمين.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) فلا تعاشروهم معاشرة الأحباب (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) فهم متفقون على مخالفتكم ومعاداتكم(1/473)
(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) يحشر معهم (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فاحذر عن موالاة من ظلم نفسه فإنهم الظالمون (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ): شك ونفاق كابن أبى ابن سلول وأضرابه (يُسَارِعُونَ فِيهِمْ) في محبتهم (يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ) بأن ينقلب الأمر وتكون الدولة للكفار (فَعَسَى اللهُ أَن يَأتِيَ بِالْفَتْحِ) للمسلمين على أعدائهم (أَوْ أَمْرٍ منْ عِندِهِ) كضرب الجزية عليهم وهتك ستر المنافقين (فيُصْبِحُوا) هؤلاء المنافقون (عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ) من النفاق ودس أخبار المسلمين على أعدائهم (نَادِمِينَ وَيَقُولُ الذِينَ آمَنوا) قرئ بالنصب عطف على يأتي بتقدير الضمير أي: عسى الله أن يقول الذين آمنوا به أو باعتبار أن قولهم لما كان مسببًا عن الإتيان بالفتح أقيم مقامه مبالغة في اتحاده معه وبالرفع كلام مبتدأ وبغير أو على أنه جواب قائل يقول: فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) يقول المؤمنون بعضهم لبعض تعجبًا من كذبهم وحلفهم بالباطل أهؤلاء الذين(1/474)
أقسموا لكم بأغلظ الأيمان أنهم أولياؤكم ومعاونوكم على الكفار أي: يجتهدون جهد أو مصدر من لفظ أقسموا لأنه بمعناه (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) بطل كل عمل خير لهم (فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ) في الدنيا والآخرة وهو من قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) قد ارتد عن الإسلام قبائل العرب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي خلافة أبى بكر وعمر رضى الله عنه (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ) بدلهم ومكانهم (يُحِبُّهُمْ) يهديهم ويثبتهم (وَيُحِبُّونَهُ) هم أبو بكر(1/475)
وأصحابه أو أهل اليمن أو الأشعريون (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ): متذللين لهم عاطفين عليهم خافضين لهم أجنحتهم (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ): شداد متغلبين عليهم (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) صفة أخرى لقوم (وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِم) لا كالمنافقين يخافون ويراقبون لوم الكفار (ذَلِكَ) أي: ذلك الأوصاف (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ): كثير الفضل (عَلِيمٌ) بمن هو أهله (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي: ليس اليهود بأوليائكم بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين (الذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) بدل من الذين آمنوا أو مرفوع،(1/476)
أو منصوب على المدح (وَيُؤتونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكعُونَ) متخشعون في صلاتهم وزكاتهم، أو حال من الذين بمعنى أنهم دائمون للركوع أي لصلاة التطوع أو حال من فاعل يؤتون؛ فإن عليًّا رضى الله عنه أعطى خاتمة في ركوعه لسائل فنزلت (وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي: من يتخذهم أولياء (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) أي: فإنهم الغالبون: كأنه قال فهم حزب الله وجنده وحزب الله هم الغالبون.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا(1/477)
كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ) قرئ والكفار بالجر فيكونون داخلين في المستهزئين، وبالنصب عطف على الذين اتخذوا (وَاتَّقُوا اللهَ) في اتخاذ هؤلاء أولياء (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بشرعه ودينه الذي اتخذه هؤلاء هزوًا (وَإِذَا نَادَيْتُمْ) الناس (إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا) أي: المناداة (هُزُوًا وَلَعِبًا) تضاحكوا فيما بينهم(1/478)
يحكونه ويستهزءونه (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) فإن العقل يمنع من الاستهزاء بأمر معقول مشروع (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ): تنكرون وتعيبون (مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) قيل: نزلت في اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن يؤمن به فقال: " نؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل " إلى قوله " ونحن له مسلمون " فقالوا لما سمعوا ذكر عيسى والله لا نعلم دينًا شرًا من دينكم (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ) عطف على " أن آمنا " وحاصله: أنكم ما تنكرون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا الإيمان وأنتم خارجون عنه، أو عطف على علة محذوفة تقديره: تنكرون منا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم ويجوز أن يكون حالاً من فاعل تنقمون (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ): المنقوم (مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) تمييز عن شر أي جاء ثابتًا عنده، وهو من باب: تحيتهم بينهم ضرب وجيع. فإن المثوبة مختصة بالخير (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) أي: هو دين من لعنه الله فلا بد من حذف مضاف هنا أو في قوله بشر من ذلك أي: من أهل ذلك (وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) عطف على لعنه والطاغوت: العجل أو الكهنة أو الشيطان (أوْلَئكَ شَرٌّ مكَاناً) فيه مبالغة ليست في قوله أولئك شر قيل: لأن مكانهم سقر (وَأَضَل عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ): قصد الطريق المتوسط والمراد من صيغتي التفضيل الزيادة مطلقًا لا بالإضافة إلى المؤمنين (وَإِذَا جَاءُوكمْ قَالوا آمنَّا) يعني(1/479)
منافقي اليهود (وَقَد دخَلُوا) حال من ضمير قالوا (بِالْكُفْرِ) حال من فاعل دخلوا (وَهُمْ قَدْ حرَجُوا بِه) أي: دخلوا كافرين وخرجوا كافرين لم يؤثر فيهم كلامك (وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانوا يَكْتُمُون): من الكفر وفيه وعيد (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ): من منافقيهم أو من اليهود (يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ): المحارم أو الكذب (وَالْعُدْوَانِ): الاعتداء على الناس أو مجاوزة الحد في المعاصي (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ): الحرام خُصَّ بالذكر للمبالغة (لَبئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون): شيئًا عملوه (لَوْلا يَنْهَاهمُ الربانِيُّونَ): زهادهم (وَالأَحْبَارُ): علماؤهم (عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ): كذبهم وافتراءهم (وَأَكْلِهِم السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ): من عدم النكير عليهم التحضيض لهم على(1/480)
النهي عن ذلك، فإن لولا إذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض (وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَة) مجاز عن البخل أي هو مسك كف الله عنهم نعمة الدنيا حين جحدوا القرآن بعد ما كانوا في خصب ورخاء فقالوا ذلك (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) أي: هم البخلاء أو دعا عليهم بالبخل. قيل: هي من الغل في النار (وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) ليس له بخل أصلاً وله غاية الجود وتثنية اليد تدل عليها، وقيل يداه أي: نعمة الدنيا والآخرة (يُنفقُ كيْفَ يَشَاءُ) تأكيد لذلك أي هو مختار يوسع ويقتر بحسب مشيئته وإرادته (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ) فاعل يزيدن (إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا): كلما نزلت آية كفروا وازدادوا طغيانًا وكفرًا (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ): بين طوائف اليهود (الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) فلا يتفق
كلمتهم (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ): مع المسلمين (أَطْفَأَهَا اللهُ) بأن أوقع(1/481)
بينهم منازعة كف بها شرهم (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا): للفساد أو يسعون بمعنى يفسدون (وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ): لا يرضى عنهم ولا يعزّهم (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ) مع هذه الجرائم (آمَنُوا): بالقرآن (وَاتَّقَوْا): معاصيهم (لَكَفرْنَا عَنْهُمْ َ سَيًّئَاتِهِمْ): الماضية (وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ): بأن يصدقوا ولا يحرفوا ويعملوا بالأحكام (وَمَا أنزِلَ إِلَيْهِم مِّن ربهِمْ) أى: القرآن أو كتب الأنبياء مطلقًا (لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم): لأنزل عليهم المطر وأخرج لهم نبات الأرض، أو من الأشجار والزروع أو من غير كَدٍّ وتعب قيل أراد به التوسعة كقولهم: فلان بالخير من قرنه إلى قدمه (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ): جماعة غير غالية ولا مقصرة كمؤمني أهل الْكِتَاب (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ): مقول في شأنه (سَاءَ مَا يَعْمَلُون): بئس ما يعملونه، وفيه معنى التعجب أي ما أسوأ عملهم.
* * *
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ(1/482)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
* * *(1/483)
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي: جميعه غير خائف من شيء (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ): ولم تبلغ جميعه وكتمت آية منه (فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ): وما أديت شيئًا منها كمن أضاع ركن صلاة، أو فكأنك ما بلغت شيئًا منها، فإن كتمان البعض والكل سواء في الشناعة (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أي: أنا ناصرك وحافظ روحك فلا تخف أحدًا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس من قبل ذلك، فلما نزلت تلك الآية تركت الحراسة ويجاهد الأعداء بعيب دينهم وسب آلهتهم بلا خوف. قيل: المائدة آخر ما نزل من القرآن فلا يشكل بشج رأسه الأشرف صلى الله عليه وسلم، أو المراد حفظ روحه (إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ) أي: بلغ إليهم رسالتك والله الهادي وليس عليك هداهم قيل معناه: لا يمكنهم مما يريدون بك من الهلاك. قيل: الأمر بتبليغ كل ما قصد منه اطلاع الناس فإن من الأسرار ما يحرم إفشاؤه (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ) أي: دين يصح أن يسمى شيئًا (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي: تؤمنوا بجميع الكتب وتصدقوها ولا تكتموا شيئًا منها فمن إقامتها الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا) كرره ليتعقب عليه قوله: (فَلَا تَأْسَ): لا تحزن (عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ) لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإنهم الأشقياء وضرر كفرهم لا يلحق لغيرهم (إِنَّ الذَينَ آمَنُوا): باللسان كالمنافقين أو المراد منه المسلمون (وَالذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) مرفوع بالابتداء وخبره محذوف(1/484)
أي وَالصَّابِئُونَ كذلك (1) وهو اعتراض مشعر بأنهم مع كمال ضلالهم إن آمنوا يتاب عليهم فغيرهم من باب الأولى وهم طائفة من النصارى أو من عبدة الملائكة أو قوم يعرفون الله وحده وليست لهم شريعة، وقيل: غير ذلك (وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ): بقلبه أو ثبت على الإيمان مبتدأ خبره " فلا خوف " والجملة خبر إن وضمير اسمها محذوف أي: من آمن منهم أو بدل من اسم إن وخبره فلا خوف (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُ): على ما فات عنهم من الدنيا (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا): ليذكروهم (كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى): تشتهي (أَنفُسُهُمْ) جملة شرطية وقوله: (فرِيقًا): من الأنبياء (كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) دال على جواب الشرط وهو استكبروا، وقوله: " فريقًا كذبوا " مستأنفة كأنه قيل: كيف فعلوا برسلهم؟ وجملة الشرط والجزاء صفة " رسلا " أى كلما جاءهم رسول منهم (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي: حسب بنو إسرائيل أن لا يصيبهم شر بما صنعوا ومن قرأ " أَلَّا تَكُونُ " بالرفع يكون أن مخفف من المثقلة (فَعَمُوا): عن الدين والدلائل (وَصَمُّوا): عن إسماع الحق حين عبدوا العجل (ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي: ثم تابوا فقبل الله توبتهم (ثمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) كرة أخرى (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) بدل من ضمير الجمع (وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُون): فيجازيهم (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي: إني مخلوق مثلكم فاعبدوا خالق الكل (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ): في عبادته (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأوَاهُ): منزله (النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ): ما لهم أحد ينصرهم لأنهم ظلمة (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) أي: أحد ثلاثة من الآلهة هو والمسيح وأمه (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ
__________
(1) قال العلَّامة السمين ما نصه:
قوله تعالى: {والصابئون}: الجمهور على قراءته بالواو وكذلك هو في مصاحف الأمصار. وفي رفعةِ تسعة أوجه، أحدها: وهو قول جمهورِ أهلِ البصرة: الخليل وسيبويه وأتباعِهما - أنه مرفوع بالابتداء وخبرُه محذوفٌ لدلالةِ خبر الأول عليه، والنيةُ به التأخيرُ، والتقدير: إنَّ الذين آمنوا والذين هادُوا مَنْ آمنَ بهم إلى آخره والصابئون كذلك، ونحوه: «إن زيداً وعمروٌ قائمٌ» أي: إنَّ زيداً قائم وعمرو قائم، فإذا فَعَلْنا ذلك فهل الحذفُ من الأول / أي: يكونُ خبرُ الثاني مثبتاً، والتقدير: إنَّ زيداً قائمٌ وعمروٌ قائم، فحذف «قائم» الأول أو بالعكس.؟ قولان مشهوران وقد وَرَد كلٌّ منهما: قال:
176 - 9 - نحنُ بما عِنْدنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأيُ مختلفُ
أي: نحن رضوان، وعكسه قوله:
177 - 0 - . ... . ... . ... . ... . ... . ... ... فإني وقَيَّار بها لَغَريبُ
التقدير: وقيارٌ بها كذلك، فإن قيل: لِمَ لا يجوزُ أَنْ يكونَ الحذفُ من الأول أيضاً؟ فالجوابُ أنه يلزم من ذلك دخولُ اللام في خبر المبتدأ غيرِ المنسوخِ ب «إنَّ» وهو قليلٌ لا يقع إلا في ضرورة شعر، فالآية يجوز فيها هذان التقديران على التخريج. قال الزمخشري: «والصابئون: رفعٌ على الابتداء، وخبرُه محذوفٌ، والنيةُ به التأخير عمَّا في حَيِّز» إنَّ «من اسمها وخبرها، كأنه قيل: إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمُهم كذلك والصابئون كذلك، وأنشد سيبويه شاهداً على ذلك:
177 - 1 - وإلاَّ فاعلَمُوا أنَّا وأنتمْ ... بُغاةٌ ما بَقِينا في شِقاقِ
أي: فاعلموا أنَّا بُغاةٌ وأنتم كذلك» ثم قال بعد كلام: «فإنْ قلت: فقوله» والصابئون «معطوف لا بد له من معطوف عليه فما هو؟ قتل: هو مع خبره المحذوفِ جملةٌ معطوفة على جملة قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} إلى آخره، ولا محلَّ لها كما لا محلَّ للتي عَطَفَتْ عليها. فإن قلت: فالتقديمُ والتأخير لا يكون إلا لفائدةً فما هي؟ قلت: فائدتُه التنبيه على أن الصابئين يُتاب عليهم إنْ صَحَّ منهم الإِيمان والعملُ الصالحُ فما الظنُّ بغيرهم؟ وذلك أنَّ الصابئين أبينُ هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدُّهم عتياً، وما سُمُّوا صابئين إلا أنهم صَبَؤوا على الأديان كلها أي: خَرَجوا، كما أن الشاعر قدَّم قولَه:» وأنتم «تنبيهاً على أن المخاطبين أوغل في الوصف بالبغي من قومِه، حيث عاجل به قبل الخبر الذي هو» بُغاةٌ «؛ لئلا يدخُلَ قومُه في البغي قبلهم مع كونِهم أوغَل فيه منهم وأثبت قدماً. فإن قلت: فلو قيل:» والصابئين وإياكم «لكانَ التقديمُ حاصلاً. قلت: لو قيل هكذا لم يَكُنْ من التقديم في شيء لأنه لا إزالةَ فيه عن موضعه، وإنما يُقال مقدمٌ ومؤخرٌ للمُزال لا للقارِّ في مكانه، وتجري هذه الجملة مَجْرى الاعتراض».
الوجه الثاني: أن «إنَّ» بمعنى نعم فهي حرفُ جوابٍ، ولا محلَّ لها حينئذ، وعلى هذا فما بعدها مرفوعُ المحلِّ على الابتداء، وما بعده معطوفٌ عليه بالرفع، وخبرُ الجميع قوله: {مَنْ آمَنَ} إلى آخره، وكونُها بمعنى «نعم» قولٌ مرجوح، قال به بعضُ النحويين، وجَعَل من ذلك قول تعالى: {إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] في قراءةِ مَنْ قرأه بالألف، وفي الآية كلامٌ طويل يأتي إنْ شاء الله تعالى في موضعِه، وجعل منه أيضاً قولَ عبد الله بن الزبير: «إنَّ وصاحبُها» جواباً لمن قال له: «لَعَن الله ناقة حملتني إليك» أي: نعم وصاحبُها، وجَعَلَ منه قولَ الآخر:
177 - 2 - بَرَزَ الغواني في الشبا ... بِ يَلُمْنَني وألومُهُنَّهْ
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قد عَلا ... كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ أي: نعم والهاءُ للسكت، وأُجيب بأنَّ الاسمَ والخبرَ محذوفان في قولِ ابن الزبير، وبقي المعطوفُ على الاسمِ دليلاً عليه، والتقدير: إنها وصاحبها معلونان، وتقدير البيت: إنه كذلك، وعلى تقديرِ أن تكونَ بمعنى «نعم» فلا يَصِحُّ هنا جَعْلُها بمعناها؛ لأنها لم يتقدَّمْها شيء تكون جواباً له، و «نعم» لا تقع ابتداءَ كلام، إنما تقع جواباً لسؤال فتكونُ تصديقاً له. ولقائل أن يقولَ: «يجوزُ أن يكونَ ثَمَّ سؤالٌ مقدر، وقد ذكروا ذلك في مواضع كثيرةٍ منها قولُه تعالى: {لاَ أُقْسِمُ} [القيامة: 1] {لاَ جَرَمَ} [هود: 22]، قالوا: يُحتمل أن يكونَ رَدَّاً لقائلِ كيتَ وكيتَ.
الوجه الثالث: / أن يكون معطوفاً على الضميرِ المستكنِّ في» هادوا «أي: هادوا هم والصابئون، وهذا قول الكسائي، ورَدَّه تلميذه الفراء والزجاج قال الزجاج:» هو خطأ من جهتين «إحداهما: أن الصابئ في هذا القول يشارك اليهودي في اليهودية، وليس كذلك، فإن الصابئ هو غيرُ اليهودي، وإن جُعِل» هادوا «بمعنى تابوا من قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] لا من اليهودية، ويكون المعنى: تابوا هم والصابئون، فالتفسيرُ قد جاء بغير ذلك؛ لأنَّ معنى» الذين آمنوا «في هذه الآية إنما هو إيمانٌ بأفواههم لأنه يريد به المنافقين، لأنه وصفُ الذين آمنوا بأفواهِهم ولم تؤمِنْ قلوبُهم، ثم ذَكَر اليهود والنصارى فقال: مَنْ آمنَ منهم بالله فله كذا، فجعَلَهم يهوداً ونصارى، فلو كانوا مؤمنين لم يحتجْ أَنْ يقال:» مَنْ آمنَ فلهم أجرهم «. قلت: هذا على أحدِ القولين أعني أن» الذين آمنوا «مؤمنون نفاقاً. ورَدَّه أبو البقاء ومكي ابن أبي طالب بوجهٍ آخرَ وهو عدمُ تأكيدِ الضمير المعطوفِ عليه. قلت: هذا لا يلزمُ الكسائي، لأنَّ مذهبَه عدمُ اشتراط ذلك، وإنْ كان الصحيحُ الاشتراطَ، نعم يلزم الكسائي من حيث إنه قال بقولٍ تردُّه الدلائلُ الصحيحة، والله أعلم.
وهذا القولُ قد نقله مكي عن الفراء، كما نَقَله غيرُه عن الكسائي، وردَّ عليه بما تقدَّم، فيحتمل أن يكونَ الفراء كان يوافق الكسائي ثم رجَع، ويحتمل أن يكون مخالفاً له ثم رجع إليه، وعلى الجملةِ فيجوز أن يكونَ في المسألة قولان.
الوجه الرابع: أنه مرفوعٌ نسقاً على محلِّ اسم «إنَّ» لأنه قبل دخولها مرفوعٌ بالابتداء، فلمَّا دخلَتْ عليه لم تغيِّر معناه بل أكَّدته، غايةُ ما في الباب أنها عَمِلَتْ فيه لفظاً، ولذلك اختصَّتْ هي و «أن» بالتفح، ولكن على رأي بذلك دون سائر أخواتها لبقاء معنى الابتداء فيها، بخلافِ ليت ولعل وكأن، فإنه خَرَج إلى التمني والتَّرَجي والتشبيه، وأجرى الفراء البابَ مُجرى واحداً، فأجاز ذلك في ليت ولعل، وأنشد:
177 - 3 - يا ليتني وأنتِ يا لميسُ ... في بلدٍ بها أنيسُ
فأتى ب «أنت»، وهو ضميرُ رفعٍ نسقاً على الياء في «ليتني»، وهل يَجْري غيرُ العطف من التوابع مَجْراه في ذلك؟ فذهَبَ الفراء ويونس إلى جوازِ ذلك وجَعَلا منه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق عَلاَّمُ الغيوب} [سبأ: 48] فرفعُ «عَلاَّم» عندهما على النعت ل «ربي» على المحلِّ، وحكوا «إنهم أجمعون ذاهبون»، وغَلَّط سيبويه مَنْ قال مِن العرب: إنهم أجمعون ذاهبون «فقال:» واعلم أنَّ قوماً من العرب يغْلَطون فيقولون: «إنهم أجمعون ذاهبون» وأخذ الناس عليه في ذلك من حيث إنه غَلَّط أهل اللسان، وهم الواضعون او المتلقُّون من الواضع، وأُجيب بأنهم بالنسبةِ إلى عامة العرب غالطون وفي الجملة فالناسُ قد رَدُّوا هذا المذهبَ، أعني جوازَ الرفعِ عطفاً على محلِّ اسم «إنَّ» مطلقاً، أعني قبلَ الخبرِ وبعده، خَفِي إعرابُ الاسمِ أو ظهر. ونقل بعضُهم الإِجماع على جوازِ الرفعِ على المحلِّ بعد الخبر، وليس بشيء، وفي الجملةِ ففي المسألةِ أربعةُ مذاهبَ: مذهبُ المحققين: المنعُ مطلقاً، ومذهبُ بعضهم، التفصيل قبل الخبر فيمتنع، وبعده فيجوز، ومذهب الفراء: إنْ خَفِي إعرابُ الاسم جاز ذلك لزوال الكراهية اللفظية، وحُكِي من كلامهم: «إنك وزيد ذاهبان» الرابع: مذهب الكسائي: وهو الجوازُ مطلقاً ويَسْتدل بظواهرِ قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ} الآية، وبقوله: - وهو ضابئ البرجمي -
177 - 4 - فَمَنْ يَكُ أمسى بالمدينةِ رحلُه ... فإني وقَيَّارٌ بها لغريبُ
وبقوله:
177 - 5 - يا ليتنا وهما نَخْلُو بمنزلةٍ ... حتى يَرى بعضُنا بعضاً ونَأْتَلِفُ
وبقوله:
177 - 6 - وإلاَّ فاعلموا أنَّا وأنتمْ ... ... . ... . ... . ... . . .
البيت، / وبقوله:
177 - 7 - يا ليتني وأنتِ يا لميسُ ... وبقولهم: «إنك وزيدٌ ذاهبان» وكلُّ هذه تَصْلُح أن تكونَ دليلاً للكسائي والفراء معاً، وينبغي أن يوردَ الكسائي دليلاً على جوازِ ذلك مع ظهور إعرابِ الاسم نحو: «إنَّ زيداً وعمروٌ قائمان» وردَّ الزمخشري الرفع على المحل فقال: «فإنْ قلت: هَلاَّ زَعَمْتَ أن ارتفاعه للعطف على محل» إنَّ «واسمها.
قلت: لا يَصِحُّ ذلك قبل الفراغ من الخبر، لا تقول: «إنَّ زيداً وعمرو منطلقان» فإنْ قلت: لِمَ لا يَصِحُّ والنيةُ به التأخيرُ، وكأنك قلت: إنَّ زيداً منطلق وعمرو؟ قلت: لأني إذا رفعته رفعتُه على محل «إنَّ» واسمِها، والعاملُ في محلهما هو الابتداء، فيجب أن يكون هو العاملَ في الخبر؛ لأنَّ الابتداءَ ينتظم الجزأين في عمله، كما تنتظِمُها «إنَّ» في عمِلها، فلو رَفَعْتَ «الصابئون» المنويَّ به التأخيرُ بالابتداء وقد رفَعْتَ الخبرَ ب «إنَّ» لأَعْمَلْتَ فيهما رافعين مختلفين «وهو واضحٌ فيما رَدَّ به إلا أنه يُفْهِمُ كلامُه أن يُجيز ذلك بعد استكمال الخبر، وقد تقدَّم أنَّ بعضَهم نَقَل الإِجماعَ على جوازِه.
الخامس: قال الواحدي:» وفي الآيةِ قولٌ رابعٌ لهشام بن معاوية: وهو أَنْ تُضْمِرَ خبرَ «إنَّ» وتبتدئ «الصابئون» والتقدير: «إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا يُرْحَمُون» على قولِ مَنْ يقولُ إنَّهم مسلمون، و «يُعَذَّبون» على قولِ مَنْ يقول إنهم كفار، فيُحْذَفُ الخبرُ إذ عُرِف موضِعُه، كما حُذِف مِنْ قولِه: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر} [فصلت: 41] أي: «يُعاقَبون» ثم قال الواحدي: «وهذا القولُ قريبٌ من قولِ البصريين، غيرَ أنَّهم يُضْمِرون خبرَ الابتداءِ، ويَجْعلون» مَنْ آمن «خبرَ» إن «، وهذا على العكس من ذلك لأنه جَعَل» مَنْ آمَن «خبرَ الابتداء وحَذَفَ خبرَ» إنَّ «قلت: هو كما قال، وقد نَبَّهْتُ على ذلك في قولي أولاً: إنَّ منهم مَنْ يُقَدِّر الحذفَ مِن الأول، ومنهم مَنْ يعكس.
السادس: أنَّ» الصابئون «مرفوعٌ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ كمذهب سيبويه والخليل، إلا انه لا يُنْوى بهذا المبتدأِ التأخيرُ، فالفرقُ بينه وبين مذهبِ سيبويه نيةُ التأخيرِ وعدمُها. قال أبو البقاء» وهو ضعيفٌ أيضاً؛ لِما فيه من لزومِ الحذفِ والفصلِ «أي: لِما يلزمُ من الجمع بين الحذفِ والفصلِ، ولا يَعْني بذلك أنَّ المكانَ من مواضع الحذف اللازمِ، لأنَّ القرآنَ يلزمُ أَنْ يُتْلَى على ما أُنْزِل، وإنْ كان ذلك المكان في غيره يجوزُ فيه الذكرُ والحذفُ.
السابع: أنَّ» الصابئون «منصوبٌ، وإنما جاء على لغةِ بني الحرث وغيرِهم الذين يَجْعَلون المثَّنى بالألفِ في كل حال نحو:» رأيت الزيدان ومررت بالزيدان «نقلَ ذلك مكي بن أبي طالب وأبو البقاء، وكأنَّ شبهةَ هذا القائلِ على ضَعْفِها أنه رأى الألفَ علامةَ رفعِ المثنى، وقد جُعِلَتْ في هذه اللغةِ نائبةً رفعاً ونصباً وجراً، وكذا الواو هي علامةُ رفعِ المجموعِ سلامةً، فيبقى في حالةِ النصب والجر كما بَقِيت الألف، وهذا ضعيفٌ بل فاسدٌ.
الثامن: أنَّ علامةَ النصبِ في «الصابئون» فتحةُ النون، والنونُ حرفُ الإِعراب كهي في «الزيتون» و «عربون» قال أبو البقاء: «فإنْ قيل: إنما أجاز أبو علي ذلك مع الياءِ لا مع الواوِ قيل: قد أجازه غيرُه، والقياسُ لا يَدْفَعُه» قلت: يشير إلى مسألة وهو: أن الفارسي أجازَ / في بعضِ جموع السلامة وهي ما جَرَتْ مَجْرى المكسِّر كبنين وسنين أن يَحُلَّ الإِعرابُ نونَها، بشرطِ أن يكونَ ذلك مع الياءِ خاصةً دونَ الواوِ فيقال: «جاء البنينُ» قال:
177 - 8 - وكان لنا أبو حسن عليٌّ ... أباً بَرّاً ونحنُ له بنينُ
وفي الحديث: «اللهم اجْعَلْها عليهم سنيناً كسنينِ يوسف».
وقال:
177 - 9 - دعانيَ مِنْ نجدٍ فإنَّ سنينَه ... لَعِبْنَ بنا شِيباً وشَيَّبْنَنا مُرْدَا
فأثْبَتَ النونَ في الإِضافة، فلمَّا جاءت هذه القراءةُ ووجِّهت بأن علامة النصبِ فتحةُ النونِ، وكان المشهورُ بهذا القولِ إنما هو الفارسي، سأل أبو البقاء هذه المسألةَ. وأجاب بأنَّ غيرَه يُجيزه حتى مع الواو، وجعل أنَّ القياسَ لا يأباه. قلت: القياسُ يأباه، والفرقُ بينه حالَ كونه بالياء وبين كونِه بالواوِ ظاهرٌ قد حَقَّقْته في «شرح التسهيل» نعم إذا سُمِّي بجمعِ المذكرِ السالمِ جاز فيه خمسةُ أوجه، أحدُها: أَنْ يُعْرَبَ بالحركاتِ مع الواوِ، ويصيرَ نظيرَ «الَّذُوْن» فيقال: «جاء الزيدون ورأيت الزيدون ومررت بالزيدون» ك «جاء الذون ورأيت الذون ومررت بالذون» هذا إذا سُمِّي به، أمَّا ما دام جمعاً فلا أحفظُ فيه ما ذكره أبو البقاء، ومن أَثْبَتَ حجةٌ على مَنْ نفى لا سيما مع تقدُّمِه في العلم والزمان.
التاسع: قال مكي: «وإنما رفع» الصابئون «لأن» إنَّ «لم يظهر لها عملٌ في» الذين «فبقي المعطوفُ على رفعه الأصلي قبل دخول» إنَّ «على الجملةَ» قلت: هذا هو بعينه مذهب الفراء، أعني أنه يجيز العطف على محل اسم «إنَّ» إذا لم يظهر فيه إعراب، إلا أن عبارة مكي لا توافق هذا ظاهراً.
وقرأ أُبي بن كعب وعثمان بن عفان وعائشة والجحدري وسعيد بن جبير وجماعة: «والصابئين» بالياء، ونقلها صاحب «الكشاف» عن ابن كثير، وهذا غير مشهور عنه، وهذه القراءة واضحةُ التخريجِ عطفاً على لفظِ اسم «إنَّ» وإن كان فيها مخالفةٌ لسوادِ المصحفِ فهي مخالفةٌ يسيرة، ولها نظائرُ كقراءة قنبل عن ابن كثير: {سراط} وبابِه بالسين، وكقراءة حمزة إياه في روايةٍ بالزاي، وهم مرسومٌ بالصاد في سائر المصاحف، ونحو قراءةِ الجميع: {إيلافهم} بالياء، والرسم بدونها في الجميع.
وقرأ الحسن البصري والزهري: {والصابِيُون} بكسر الباء بعدها ياء خالصة، وهو تخفيف للهمزة كقراءة من قرأ {يَسْتهزِيُون} بخلوص الياء. اهـ (الدر المصون في علوم الكتاب المكنون. 5/ 353 - 362)(1/485)
وَإِن لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) أي: ولم يوحدوا (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وضع الظاهر موضع الضمير ليعلم أن ترتب العذاب لكفرهم، ومن للبيان (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ) بالانتهاء عن تلك العقيدة الوخيمة بعد هذا التهديد (وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ): يغفر لهم ويرحم عليهم بعد التوبة مع هذا الذنب الجسيم (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ): ما هو إلا رسول كالرسل السابقة (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ): صدقت بكلمات ربها وكتبه (كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ): يحتاجان إليه، فكيف يكونان إلهين؟!! (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي: كيف يصرفون عن الحق وتدبر الآيات (قُلْ): يا محمد لمن يعبد غير الله ومنهم النصارى (أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا): لا يملك أن يدفع عنكم ضر المصائب ولا أن يوصل إليكم نفع الصحة(1/486)
والسعة (وَاللهُ هُو السمِيعُ): بالأقوال (العَلِيمُ): بالعقائد فيجازي عنها (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ): لا تتجاوزوا عن الحد فيه (غَيْرَ الْحَقِّ): حال كون دينكم غير الحق أي باطلاً وقيل: صفة مصدر أي غلوًّا باطلاً فإن غلو الحق وهو التفحص عن حقائقه محمود (وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) أي: أئمتهم الذين ضلوا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم (وَأَضَلُّوا): خلقًا (كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) أي: استمروا على الضلال أو بعد بعثته أو ضلوا قبل عن مقتضى العقل ثم عن مقتضى الشرع.
* * *
(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا(1/487)
وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
* * *
(لعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَريمَ) أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود: اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة وأصحاب المائدة لما لم يؤمنوا قال عيسى: اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا خنازير أو ملعونون في الزبور والإنجيل على لسانهما (ذلِكَ) أي: اللعن (بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) أي: بسبب عصيانهم واعتدائهم ما حرم عليهم (كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ): لا ينهى بعضهم بعضًا عن معاودة منكر فعلوه قيل: أي لا ينتهون من تناهى عن الأمر إذا امتنع (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) تعجيب مؤكد بالقسم (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ): من أهل الكتاب (يَتَوَلَّوْنَ): يوالون (الذِينَ كَفَرُوا) فإن المنافقين يوالون المشركين (لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) ما بعد أن هو المخصوص بالذم كأنه قال: لبئس زادهم إلى الآخرة سخط الله عليهم أي(1/488)
موجب سخطه (وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ باللهِ وَالنَّبِيِّ) أي: محمد عليه الصلاة والسلام (وَمَا أنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوَهُمْ أَوْلِياءَ) إذ الإيمان يمنع عن ذلك (وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنهُمْ فَاسِقُونَ): خارجون عن طاعة الله (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) فإنهم متفقون في الانهماك فى حسدهم وعنادهم (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى) نزلت في وفد بعثهم النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأ عليهم القرآن بكوا وأسلموا ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبره وقيل: غير ذلك (ذلِكَ بِأَنَّ مِنهُمْ قِسِّيسِينَ) أي: علماء (وَرُهْبَاناً) أي: عبادًا (وَأنَّهُمْ لاَ يَسْتَكبِرُونَ) كما يتكبر المشركون واليهود (وَإِذا سَمِعُوا) عطف على يستكبرون بيان لرقة أفئدتهم (مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ): محمد عليه الصلاة والسلام (تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) جعلت أعينهم من كثرة البكاء كأنها تسيل بأنفسها (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ)(1/489)
من الأولى للابتداء والثانية للتبيين (يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) من الذين شهدوا بأنه حق أو من أمة محمد عليه الصلاة والسلام فإنهم شاهدون يوم القيامة لنبيهم أنه قد بلغ، وللرسل أنَّهم قد بلغوا (وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ) نقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: لعلكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم فأجابوا. أي: أي شيء حصل لنا؟ وقوله: لا نؤمن حال من ضمير " لنا " أي: غير مؤمنين (بِاللهِ): بتوحيده (وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ): أمة محمد عليه الصلاة والسلام، ونطمع حال وعامله عامل الحال الأولى، لكن مقيدًا بالحال الأولى بتقدير: ونحن نطمع وعطف على لا نؤمن أو حال من فاعل لا نؤمن (فَأَثَابَهُمُ اللهُ): أعطاهم (بِمَا قَالُوا): سألوا ربهم وتمنوا (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ): من تحت غرفها (خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ): الذين أحسنوا القول والعمل (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) التكذيب بالآيات وإن كان داخلاً في الكفر لكن كفرهم لأجل تكذيبهم آيات ربهم والكلام في بيان المكذبين وذكرهم في معرض المصدقين.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ(1/490)
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) أي: ما طاب ولذ منه (وَلاَ تَعْتَدُوا): لا تبالغوا في التضييق على أنفسكم في تحريم المباحات عليها، أو لا تجاوزوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم، أو لا تعتدوا في تناول الحلال بل خذوا منه بقدر الكفاية (إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ): لا يرضى عمن تجاوز الحد في الأمور(1/491)
نزلت في جمع من الصحابة منهم علي بن أبي طالب رضى الله عنه تبتلوا واعتزلوا النساء وطيبات الطعام واللباس وهموا بالإخصاء ولذلك قيل الاعتداء: الإخصاء (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا) من ابتدائية متعلقة بكلوا وحلالاً مفعوله أو للتبعيض مفعول كلوا وحلالاً حال من الموصول (وَاتَّقُوا الله الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ) قيل لما نزلت الآية في منعهم عما اتفقوا عليه من الإخصاء وغيره قالوا: يا رسول الله: إنا قد حلفنا على ذلك فنزل قوله (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ): هو قول الرجل في الكلام من غير قصد: لا واللهِ، وبلى واللهِ، أو في الهزل أو في المعصية أو على(1/492)
غلبة الظن أو في الغضب أو في النسيان أو هو في ترك المأكل والملبس (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ): بما صممتم عليه وقصدتموه إذا حنثتم (فَكَفارَتُهُ) أى: كفارة نكثه التي تذهب إثمه (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ): وهو من لا يجد ما يكفيه (مِنْ أَوْسَطِ) صفة إطعام أو تقديره إطعامًا من أوسط أو طعامًا من أوسط (مَا تُطْعِمُون أَهْلِيكُمْ) أي: من أعدله أو من أمثله، قال كثير من السلف: لكل واحد مدّ من برٍّ ومعه إدامه، وقال بعضهم: نصف صاع من برٍّ أو تمر ونحوهما وعند الشافعي مدّ بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم وقيل غير ذلك (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) عطف على إطعام أى: ما يقع عليه اسم الكسوة أو كسوة تجوز صلاته فيها وقيل غير ذلك (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ): مؤمنة عند الشافعي فالحانث مخير بين هذه الثلاثة (فمَن لمْ يَجِدْ): واحدًا منها بأن لم يفضل ما يطعم عشرة مساكين من قوته وقوت عياله في يومه وليلته (فصِيَامُ ثَلاَثةِ أَيَّامٍ) أي: فكفارته ذلك، والتتابع ليس بشرط عند الشافعي (ذلِكَ) أى: المذكور (كَفارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ) يعني: حنثتم (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) لا تتركوها بغير تكفير أو لا تحلفوا أو عن الحنث إذا لم يكن على ترك مندوب أو فعل مكروه فإن الأفضل الحنث والكفارة حينئذ (كَذَلِكَ): مثل ذلك البيان (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): نعمه فيزيدنكم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ): هو القمار بجميع أنواعه (وَالأَنصَابُ): هي حجارة كانوا يذبحون(1/493)
قرابينهم عندها (وَالأَزلامُ): هي قداح كانوا يستقسمون بها وقد مر (رِجْسٌ): سخط وإثم خبر للخمر وخبر الباقي محذوف أو تقديره تعاطي الخمر والميسر رجس (مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَان)، لأنه مسبب من تسويله (فاجْتَنِبُوهُ) أي: الرجس (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ): لكي تفلحوا بالاجتناب عنه (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ): يمنعكم (عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَن(1/494)
الصَّلاةِ) ذكر الأنصاب والأزلام اللذين هما من الكفر مع الخمر والميسر كأنه للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة، ولذلك خصهما بإعادة الذكر (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) من أبلغ عبارة في النهي كأنه قال قد تلوت عليكم من أنواع الصوارف فهل أنتم معها منتهون أم أنتم على ما كنتم عليه ولم ينفعكم الزجر؟! (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا): مخالفتهما (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن الطاعة (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) فلا ضرر له، وإنما ضررتم به أنفسكم، ولما نزل تحريم الخمر قالوا كيف بمن كان يشربها قبل التحريم وبعض الذين قتلوا يوم أحد شهداء والخمر في بطونهم فأنزل الله تعالى (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ): إثم (فِيمَا طَعِمُوا): مما لم يحرم عليهم (إِذَا مَا اتقَوْا): الحرامَ (وَآمنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ): وثبتوا على الإيمان والأعمال الصالحات (ثُمَّ اتَّقَوْا) ما حرم عليهم بعد (وَآمنوا) بتحريمه (ثُمَّ اتَّقَوْا) استمروا على اتقاء المعاصي (وَأَحْسنوا): العمل ومعناه في الأول: اتقوا الشرك وآمنوا ثم اتقوا أي: داموا على ذلك وآمنوا وثبتوا عليه وازدادوا إيمانًا ثم اتقوا المعاصي كلها وأحسنوا العمل (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فلا يؤاخذهم بشيء.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ(1/495)
الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ): يختبرنكم (بِشَيْءٍ مَنَ الصَّيْدِ) هذا في عمرة الحديبية المسلمون محرمون والصيد من الوحش والطير تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط (تَنالُهُ أَيْدِيكمْ): تتمكنون من أخذه باليد، لأن فيه صغارًا وفراخًا (وَرِمَاحُكُمْ): تحتاجون إلى مزاولة الرمح لأن فيه الكبار (لِيَعْلَمَ اللهُ): ليرى الله وليتميز (مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ): من يخاف الله ولم يره أو من يخاف عقاب الله وهو غائب غير شاهد (فمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ): الإعلام والإنذار (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي: محرمون جمع حرام (وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً): ذاكرًا لإحرامه، والأصح عند السلف والخلف أن العمد والخطأ سيان في لزوم الكفارة(1/496)
دون الإثم والآية فيهما ولذلك قيده بمتعمد، أو يدل عليها صريحًا قوله " ومن عاد فينتقم الله " (فجَزَاءٌ): أي فعليه أو فواجبه جزاء (مِثْلُ مَا قَتَلَ) صفة جزاء (مِنَ النَّعَمِ) بيان للمثل ومن قرأ (فجزاءُ) بالإضافة فمن إضافة المصدر إلى المفعول والمثل غير زائد، لأنه بصدد بيان أن الجزاء ما هو لا بيان أن عليه جزاء ما قتل، وهذه المماثلة باعتبار الخلقة والهيئة على الأصح المنقول عن السلف (يَحْكُمُ بِهِ): الجزاء (ذَوَا عَدْلٍ): رجلان صالحان فإن الأنواع تتشابه، ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، (مِّنكُمْ): من المسلمين فما حكم الصحابة بالمثلية فهو المتبع وإلا فلا بد من عدلين يحكمان، هذا هو الأصح، (هَدْياً) حال من ضمير به، (بَالِغَ الكَعْبَةِ)، صفة هديًا، والإضافة لفظية أي: واصلاً إليه بأن يذبح فيه، ويتصدق به، (أَوْ كَفارَةٌ)، عطف على جزاء، (طَعَامُ مَسَاكِينَ) بدل منه أو تقديره هي طعام وظاهره التخيير وعليه الأكثرون، وقال بعض من السلف: إن لم يجد هديًا يعدل على أن يقوم مثل ما قتل، فيشترى بثمنه طعامًا لكل مسكين مدّ فإن لم يجد يصوم، (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ(1/497)
صِيَامًا) أي: ما ساواه من الصوم فيصوم عن إطعام كل مسكين يومًا وصيامًا تمييز للعدل، (ليَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ): ثقل أمره، وجزاء معصيته أي: أوجبنا عليه ذلك ليذوق، (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ): قبل التحريم، (وَمَنْ عَادَ): إلى مثل ذلك، (فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ): في الآخرة أي: فهو ينتقم الله منه ليصح دخول الفاء وعليه مع ذلك الكفارة، وعن ابن عباس رضى الله عنهما لا كفارة عليه فإن الأمر أشد، (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ): على المصر بالمعاصي، (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ): مما لا يعيش إلا في(1/498)
الماء في جميع الأحوال (وَطَعَامُهُ) أي: ما يتزود منه يابسًا مالحًا أو ما لفظه ميتًا، (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ): منفعة للمقيم، والمسافر، وهو مفعول (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) أي: مصيدها، وعن بعضهم المراد بالصيد في الموضعين فعله (مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) وأما أكل لحم صيد غير المحرم لا لأجله في حال الإحرام فالأصح الجواز بدليل الحديث، (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ جَعَلَ اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ)، عطف بيان للكعبة على جهة المدح، (قِيَامًا لِلنَّاسِ): في أمر دينهم ودنياهم به الحج وبه يلوذ الخائف، وهو ثاني مفعولي جعل، (وَالشَّهْرَ الحَرَامَ)، عطف على الكعبة جعل الأشهر الحرم قيامًا للناس فيه الحج، والأمن من القتال، (وَالْهَدْيَ): ما أهدى إلى الكعبة، (وَالْقَلَائِدَ): ذوات الْقَلَائِدَ من الهدي ما قلد به الهدي من نعل، أو لحاء شجر أي: علامة يعلم منها أنه هدي، وكانوا يؤمنون بتقليد الهدي فبه يحصل القيام، (ذلِكَ) أي: الجعل وقيل إشارة إلى ما في السورة من أخبار الغيب، (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)، فإن شرع الأحكام لدفع المضار قبل الوقوع، وجلب المنافع دليل كمال علمه أو لتعلموا أنا نعلم مصالح دينكم ودنياكم،(1/499)
فتستدلوا بهذا على أنه عالم بما في السماوات والأرض، (وَأَنْ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، تعميم بعد تخصيص.
(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ): لمن انتهك محارمه، (وَأَن الله غَفُورٌ رحِيمٌ) لمن حافظ عليها (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ): فإذا بلغ ليس لكم عذر في التفريط، (وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكتُمُونَ): من تصديق وتكذيب، (قُل لا يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ): الحرام والحلال، (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كثْرَةُ الخَبِيثِ): فإن ما قلَّ وكفى خير مما كثر وألهى (واتَّقُوا اللهَ): في الخبيث (يَا أُولِي الْأَلْبَابِ): أرباب العقول السليمة، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ): راجين أن تبلغوا الفلاح.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى(1/500)
الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْألوا): رسول الله صلى الله عليه وسلم. (عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ): تظهر لكم، (تَسُؤْكُمْ): تغمكم وتضركم. الشرطية وما عطف عليها من الشرطية الأخرى صفة أشياء نزلت لما سئل من يطعن في نسبه مَن أبي فعينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال آخر أيت أبي؟ قال: " فى النار " أو نزلت(1/501)
لما نزل وجوب الحج، فقال: " في كل عام، فقال: ولو قلت نعم لوجبت فاتركوني ما تركتم " (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) أي: وإن تسألوا عنها فى زمان الوحي تظهر لكم، (عَفَا اللهُ عَنْهَا) أي: عما سلف من مسألتكم، فلا تعودوا لمثلها فهي استئناف أو صفة أخرى أي عن أشياء عفا الله عنها ولم يكلف بها، (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ): لا يعاجلكم بالعقوبة، (قَدْ سَأَلَهَا) أي: عن الأشياء بالحذف والإيصال، وقيل الضمير إلى المسألة التي دل عليها " لا تسألوا " فيكون في موقع الصدر وليس من قبيل سألته درهما، لأنهم ما طلبوه، بل سألوا عنه، (قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ)، متعلق بسألها، (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا) أي: بالأشياء أو بسببها، (كَافِرِينَ)، لأنهم تركوها وهجروها وقد ورد " اتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم " (مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) أي ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير، فلا يطلب إلا مفعولاً واحدًا و (مِن) زائدة، وهي ناقة ولدت خمسة أبطن بحروا أى: شقوا أذنها وتركوا الحمل، والركوب عليها، (وَلَا سَائِبَةٍ): هي ناقة لا تركب، ولا تحبس عن كلاء وماء لنذر صاحبها إن حصل ما أراد من شفاء المريض، أو غيره أنها سائبة، (وَلاَ وَصِيلَةٍ): الشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظر إن كان السابع ميتًا فهو(1/502)
للرجال دون النساء، وإن كان ذكرًا فهو مذبوح للرجال، وإن كان أنثى تركوها فلم يذبح، وإن كان ذكرًا وأنثى خلوا الذكر أيضًا من أجل أنثى، وقالوا: وصلت أخاها ولبنها للرجال (وَلاَ حَامٍ): هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يحمل عليه، وقد قيل في تفسير كل واحد غير ما نقلنا، (وَلَكِنَّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ): في تحريمهم هذه الأنعام، (وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُون): جهلة كالأنعام، بل هم أضل أو أكثرهم مقلدون لرؤسائهم لا يعرفون أن ذلك افتراء منهم، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ): في الفرائض والسنن، (قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آباءَنَا): من سننهم السيئة، (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)، الواو للحال والهمزة للإنكار أي: أحَسبهم وجدان آبائهم على هذا المثال، ولو كان الحال أن آباءهم جهلة ضلال، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الجار والمجرور اسم فعل أي: الزموا صلاحها، (لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، فيه رخصة في ترك الحسنة إذا علم عدم قبولها أو فيها مفسدة وإضرار له منها اتفقت كلمة السلف على ذلك،(1/503)
والأحاديث تدل عليه أو معنى إذا اهتديتم إذا ائتمرتم بالمعروف، وأمرتم به، وانتهيتم عن المنكر، ونهيتم عنه حسب طاقتكم أو المراد المنع عن هلاك النفس أسفًا على ما عليه الكفرة والفسقة كقوله: " فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ " [فاطر: 8]، وهو استئناف أو جواب للأمر أي: إن لزمتم أنفسكم لا يضركم، والقياس الفتح لكن أوثرت ضمة الراء لاتباع الضاد، (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كنتُمْ تَعْمَلُونَ)، وعد ووعيد للفريقين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ)، إضافة إلى الظرف على الاتساع، (إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ)، ظرف للشهادة، وحضوره: ظهور أماراته، (حِينَ الوَصِيَّةِ)، بدل من الظرف وفيه دليل على أن الوصية مما لا ينبغي التساهل فيها، (اثْنَانِ)، خبر شهادة أي: شهادة بينكم شهادة اثنين أو فاعلها أي: فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان، (ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ): من المسلمين، وقيل من أقاربكم وهما صفتان لاثنان، (أَوْ(1/504)
آخَرَانِ)، عطف على اثنان، (مِنْ غَيْرِكُمْ): من غير المسلمين أو من غير أقاربكم، (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ): أي: شهادة غير المسلم إذا كنتم في السفر يعني: لم تجدوا مسلمًا، (فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ)، عطف على ضربتم، وجواب الشرط محذوف أي: إن كنتم في سفر ولم تجدوا مسلمين، فيجوز إشهاد غير المسلمين، (تَحْبِسُونَهُمَا): تقفونهما صفة للآخران، أو استئناف كأنه جواب ما قيل كيف نعمل إن ارتبنا في الشاهدين؟! (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) أي: صلاة العصر، فإن أهل الكتاب أيضًا يعظمونها أو بعد صلاة ما، أو بعد صلاتهم، (فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي: إن ارتاب أحد الوارثين فيهما حبسهما للحلف، (لَا نَشْتَرِي بِهِ) بالقسم، (ثَمَنًا)، الجملة مقسم عليه أي: لا نستبدل به عرضًا من الدنيا أي: لا نحلف كاذباً، (وَلَوْ كَان): من نقسم له، (ذا قُرْبَى): قريبًا منا لا نحلف له كاذبًا أي نحن رجال عادتنا الصدق لنا أو علينا، (وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ) أي: الشهادة التي أمر الله بإقامتها، (إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ): إن كتمنا، (فَإِنْ عُثِرَ): اطلع (عَلَى أَنَّهُمَا) أي: آخرين (اسْتَحَقَّا إِثْمًا): استوجبا إثمًا بيمينهما الكاذبة، (فَآخَرَانِ): فشاهدان آخران، (يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا)، خبر لقوله (فَآخَرَانِ)، (مِنَ الذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ): من الذين جنى عليهم، وهم الورثة، فضمير استحق للإثم أي ارتكب الذنب بالقياس إليهم، (الْأَوْلَيَانِ) أي: أحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما استئناف كأنه قيل من هما قال:(1/505)
هم الأوليان، أو بدل من آخران، ومن قرأ الأولين فهو صفة، أو بدل من الذين، ومن قرأ اسْتَحَقَّ غير مجهول، فهو فاعل أي: من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة، (فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ)، عطف على يقومان، (لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ): بالاعتبار، (مِن شَهَادَتِهِمَا)، أو أصدق، (وَمَا اعْتَدَيْنَا): ما تجاوزنا عن الحق فيها، (إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ): إن اعتدينا، (ذَلِكَ) أي: الحكم الذي تقدم، (أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا) أي: أقرب أن يأتى الشهداء بشهادتهم على نحو تلك الحادثة، فلا يغيرونها، (أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ): على المدعين، وهم أولياء الميت، (بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ): إذا ظهر للأولياء أمارات كذب الشاهدين، فيفتضحوا أي: أقرب إلى أحد الأمرين أداء الشهادة على الصدق أو الامتناع عن أدائها بالكذب، (وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا): بسمع إجابة ما أمرناكم، (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ): أي إن لم تسمعوا كنتم فاسقين والله لا يهديهم، ومحصل الآية أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد على وصيته اثنين من المسلمين أو من قرابته، فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخرين من غيرهم، ثم إن وقع(1/506)
ارتياب فيهما أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت أيضًا، فإن اطلع بأمارة، ومظنة على كذبهما أقسم آخران من أولياء الميت، هكذا قرر هذا الحكم على مقتضى هذه الآيات غير واحد من أئمة السلف والتابعين، وهو مذهب الإمام أحمد، والقاضي شريح في خاصة مثل هذه الواقعة، وقال بعضهم حكم الآية منسوخ إن أريد من الغير الكافرون فإن شهادة الكافر كانت في بدأ الإسلام ثم نسخت، وقال بعضهم المراد من الشهادة الوصاية وكون الوصي اثنين للتأكيد فإنهم قالوا: لا نعلم حكمًا يحلف فيه الشاهد وهو خلاف الظاهر المتبادر، وسبب نزول الآية أن رجلاً من المسلمين خرج مسافرًا معه رجلان من أهل الكتاب، ومات بأرض ليس فيها مسلم فلما قدموا بتركته فقدوا جاما من فضة مموهًا بالذهب، فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فأحلفهما بعد صلاة العصر فحلفا على أنهما ما اطلعا على الإناء، ثم وجد الإناء عند من اشترى منهما، فقام رجلان من أوليائه فحلفا أن الإناء لنا وأخذا.
* * *
(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا(1/507)
وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
* * *
(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) أي: اذكر يوم جمعهم، وقيل ظرف لـ (لا يَهْدِي) (1)، أو بدل اشتمال من مفعول اتقوا، (فَيَقُولُ): لهم، (مَاذَا أُجِبْتُمْ) أي إجابة أجبتم، إجابة إقرار أو إنكار، (قَالُوا لاَ عِلْمَ لنا): إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم، أو لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا أو بالنسبة إلى علمك، (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ): فتعلم ما نعلم، وما لا نعلم، وهذا السؤال لتوبيخ الأمم، (إِذْ قَالَ اللهُ)، بدل من يوم الجمع
__________
(1) أى لا يهديهم طريق الجنة.(1/508)
أو بتقدير اذكر، (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ): قويتك ظرف نعمتي، أو حال منهما، (بِرُوحِ الْقُدُسِ): جبريل، وقيل بكلام ونفس يحيى به الدين، والموتى، (تُكَلِّمُ النَّاسَ): بدعوتهم إلى الله تعالى، (فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا)، عطف على محل في المهد فإنه حال قالوا، وما وصل إلى سن من الكهولة، ففيه إشارة إلى نزوله من السماء، وهو آية من آياته، (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ): الخط، (وَالْحِكْمَةَ): الفهم، (وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ): تشكله وتصوره على هيئة طائر، (بِإِذْنِي): لك في ذلك، (فَتَنْفُخُ فِيهَا): في تلك الصورة، (فَتَكُونُ طَيْرًا): تطير، (بِإِذْنِي): وأمري (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي): بأن تدعوهم فيقومون من قبورهم بإرادة الله وقدرته، (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ) أي: عن قتلك (إِذْ جئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ)، ظرف لكففت، (فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذَا) أي: ما هذا، َ (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَإِذْ أَوْحَيْتُ): ألهمت أو بلسانك (إِلَى الحَوَارِيِّينَ): أصحابه، وأنصاره، (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ): يا الله أو يا أيها الرسول، (بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ): منقادون مخلصون، (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ)، منصوب باذكر، (يَا عِيسَى(1/509)
ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ)، وهذا كما تقول: هل تستطيع أن تجيء معي؟ عالمًا باستطاعته أي هل تفعل أم لا؟ أو بمعنى هل يعطيك ربك بإجابة سؤالك فيكون أطاع واستطاع بمعنى كأجاب واستجاب، وقيل: شكُّوا أي في قدرة الله، ولذلك أجابهم عيسى عليه السلام بقوله: " اتقوا الله " (1)، ومن قرأ (هل تستطيع) بالتاء، و (ربَّك) بالنصب، فمعناه هل تستطيع سؤال ربك؟ (أَن يُنَزِّلَ عَلَينَا مَائِدَةً مّنَ السَّمَاءِ قَالَ): عيسى، (اتَّقُوا اللهَ): في سؤالها، (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي: لا يليق اقتراح الآيات بعد الإيمان، (قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا)، فأجابوا بأن طلبها لأجل الحاجة لا أنا نطلب آية، (وَتَطْمَئِنَّ قلوبُنَا): بزيادة علمنا، (وَنَعْلَمَ): علم مشاهدة بعد ما علمناه علم إيمان، (أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا): فيما وعدتنا أو في نبوتك، (وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي: من الشاهدين على تلك المائدة الدالة على نبوتك أو من الشاهدين عليها عند من لم يحضرها من بني إسرائيل، وعليها متعلق بمحذوف يفسره من الشاهدين، (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنَا)، نداء ثان فإن اللهم لا يوصف، ولا يبدل منه، (أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً) أي: خوان إذا كان فيه الطعام، (مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا)، العيد اسم ليوم فيه سرور مخصوص فضمير تكون للمائدة على حذف مضافين أي: تكون يوم نزولها أو اسم سرور يعود فلا حذف، لكن في الإسناد مجاز، (لِأَوَّلِنَا)، بدل من لنا، (وَآخِرِنَا): لمتقدمينا ومتأخرينا أو يأكل منها أولنا وآخرنا (وَآيَةً مِنْكَ): على كمال قدرتك، وصحة نبوتي، (وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِين قَالَ اللهُ): مجيبًا له، (إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ): بعد نزولها، (مِنكُمْ
__________
(1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه:
(هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) قَرَأَ الْكِسَائِيُّ هَلْ تَسْتَطِيعُ بِالتَّاءِ رَبَّكَ بِالنَّصْبِ/ وَبِإِدْغَامِ اللَّامِ فِي التَّاءِ، وَسَبَبُ الْإِدْغَامِ أَنَّ اللَّامَ قَرِيبُ الْمَخْرَجِ مِنَ التَّاءِ لِأَنَّهُمَا مِنْ حُرُوفِ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأُصُولِ الثَّنَايَا وَبِحَسَبَ قُرْبِ الْحَرْفِ مِنَ الْحَرْفِ يَحْسُنُ الْإِدْغَامُ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانُوا أَعْلَمَ بالله مِنْ أَنْ يَقُولُوا هَلْ يَسْتَطِيعُ وَإِنَّمَا قَالُوا هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْأَلَ رَبَّكَ.
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تَسْتَطِيعُ بِالتَّاءِ رَبَّكَ بِالنَّصْبِ
وَالْبَاقُونَ يَسْتَطِيعُ بِالْيَاءِ رَبُّكَ بِرَفْعِ الْبَاءِ وبالإظهار فأما القراءة الأولى فمعناها: هل تسطيع سُؤَالَ رَبِّكَ؟ قَالُوا وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَوْلَى مِنَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ تُوجِبُ شَكَّهُمْ فِي اسْتِطَاعَةِ عِيسَى، وَالثَّانِيَةُ تُوجِبُ شَكَّهُمْ فِي اسْتِطَاعَةِ الله، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأُولَى أَوْلَى، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ فَفِيهَا إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ [المائدة: 111] وَبَعْدَ الْإِيمَانِ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ بَقُوا شَاكِّينَ فِي اقْتِدَارِ الله تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى مَا وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ بَلْ حَكَى عَنْهُمُ ادِّعَاءَهُمْ لَهُمَا ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْهُمْ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا شَاكِّينَ مُتَوَقِّفِينَ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَصْدُرُ عَمَّنْ كَانَ كَامِلًا فِي الْإِيمَانِ وَقَالُوا: وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَرَضٍ فِي الْقَلْبِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمْ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا كَامِلِينَ فِي الْإِيمَانِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنَّهُمْ طَلَبُوا هَذِهِ الْآيَةَ لِيَحْصُلَ لَهُمْ مَزِيدُ الطُّمَأْنِينَةِ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] فَإِنَّ مُشَاهَدَةَ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ لَا شَكَّ أَنَّهَا تُورِثُ الطُّمَأْنِينَةَ وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالُوا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ اسْتِفْهَامُ أَنَّ ذَلِكَ هَلْ هُوَ جَائِزٌ فِي الْحِكْمَةِ أَمْ لَا وَذَلِكَ لِأَنَّ أَفْعَالَ الله تَعَالَى لَمَّا كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى رِعَايَةِ وُجُوهِ الْحِكْمَةِ فَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَحْصُلُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ وُجُوهِ الْحِكْمَةِ يَكُونُ الْفِعْلُ مُمْتَنِعًا فَإِنَّ الْمُنَافِيَ مِنْ جِهَةِ الْحِكْمَةِ كَالْمُنَافِي مِنْ جِهَةِ الْقُدْرَةِ، وَهَذَا الْجَوَابُ يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الله تَعَالَى هَلْ قَضَى بِذَلِكَ وَهَلْ عَلِمَ وُقُوعَهُ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْضِ بِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ وُقُوعَهُ كَانَ ذَلِكَ مُحَالًا غَيْرَ مَقْدُورٍ لِأَنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ غَيْرُ مَقْدُورٍ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَالَ السُّدِّيُّ: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَيْ هَلْ يُطِيعُكَ رَبُّكَ إِنْ سَأَلْتَهُ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ اسْتَطَاعَ بِمَعْنَى أطاع والسين زائدة.
والوجه الْخَامِسُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ بِالرَّبِّ: هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ كَانَ يُرَبِّيهِ وَيَخُصُّهُ بِأَنْوَاعِ/ الْإِعَانَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ [المائدة: 110] يَعْنِي أَنَّكَ تَدَّعِي أَنَّهُ يُرَبِّيكَ وَيَخُصُّكَ بِأَنْوَاعِ الْكَرَامَةِ، فَهَلْ يَقْدِرُ عَلَى إِنْزَالِ مَائِدَةٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْكَ.
وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ كَوْنَهُمْ شَاكِّينَ فِيهِ بَلِ الْمَقْصُودُ تَقْرِيرُ أَنَّ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ كَمَنْ يَأْخُذُ بِيَدِ ضَعِيفٍ وَيَقُولُ هَلْ يَقْدِرُ السُّلْطَانُ عَلَى إِشْبَاعِ هَذَا وَيَكُونُ غَرَضُهُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ جَلِيٌّ وَاضِحٌ، لَا يَجُوزُ لِعَاقِلٍ أَنْ يَشُكَّ فِيهِ، فَكَذَا هَاهُنَا. اهـ (مفاتيح الغيب 12/ 461 - 462)(1/510)
فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا): تعذيبًا، (لَا أُعَذِّبُهُ)، الضمير للمصدر فيكون في موقع المفعول المطلق ويقوم مقام العائد فإن لا أعذبه صفة عذابًا أو من باب الحذف والإيصال أي: لا أعذب به، (أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ): عالمي زمانهم والأصح أن المائدة نزلت وكفروا بها فمسخوا قردة وخنازير، قيل ما مسخ أحد قبلهم خنزيرًا، فالعالمين مطلق قال عبد الله بن عمر: أشد الناس عذاباً (1) يوم القيامة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون.
* * *
(وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ
__________
(1) في الأصل " عتاباً " والتصويب من بحر العلوم للسمرقندي.(1/511)
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
* * *
((وَإِذْ قَالَ اللهُ): يوم القيامة تقريعًا وتوبيخًا للنصارى على رءوس الأشهاد، (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ)، صفة إلهين أو متعلق بـ اتخذوني، (قَالَ سُبْحَانَكَ): أنزهك تنزيهًا من أن يكون لك شريك، (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ): ما ينبغي أن أقول قولاً لا يحق فى أن أقوله فمتعلق لي بحق المقدر قبله، فإن تقدم صلة الجار على المجرور ممتنع، (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ): نعلم ما أخفيه، ولا أعلم ما تخفيه، (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ)، تصريح بنفى المستفهم عنه، (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ)، بدل من ضمير به، والمبدل ليس في حكم المطروح بالكلية أو عطف بيان له، (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ(1/512)
شَهِيدًا): مشاهدًا لأحوالهم، (مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي)، بالرفع إلى السماء، والتوفي أخذ الشيء وافيًا، (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ). المراقب لأحوالهم، (وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ): مطلع عليه، (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ): لا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل في ملكه، (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) مع كفرهم (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ): القوي القادر على الثواب، والعقاب لا تثيب ولا تعاقب إلا عن حكمة، والمغفرة وإن كانت قطعية الانتفاء في الكفار بحسب الوعيد، لكن يحتمل الوقوع، واللاوقوع بحسب العقل فجاز استعمال إن فيه، ومسألة الكلام أن غفران الشرك جائز عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة قيل معناه، إن تعذبهم أي: من يكفر منهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم أي: من أسلم منهم، (قَالَ اللهُ): مجيبًا لرسوله فيما أنهاه إليه من التبري من النصارى، (هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ): المستمرين، (صِدْقُهُمْ): في دنياهم إلى آخرتهم وعن ابن عباس رضى الله عنهما معناه ينفع الموحدين توحيدهم، والمشار إليه يوم القيامة، ومن قرأ (يومَ) بالنصب فيكون ظرفًا لقال، والمشار إليه قوله " يا عيسى ابن مريم ءأنت " إلخ، (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ): هذا نفعهم، (ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ لله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ): خلقًا وملكًا فلا شك فى كذب زعم النصارى، (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): فلا يكون إلا هو وحده إلها لأنه لو كان متعددًا لابد أن يكون كل واحد قادرًا على كل شيء، وهذا محال.
والحمد لله حقَّ حمده ..
* * *(1/513)
سورة الأنعام
مكية غير ست أو ثلاث آيات:
من قوله " قُلْ تَعَالَوْا " وهي مائة وخمس، أو ست وستون آية وعشرون ركوعًا
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا(1/514)
وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (10)
* * *
(الْحَمْدُ لله الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ) جمع السَّمَاوَات لظهور تعددها دون الأرض، (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) أي: أنشأهما، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها، فإن لكل جرم نور، (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)، عطف على الحمد لله وثم للاستبعاد ومفعول يعدلون محذوف أي: يسوون الأوثان (بِرَبِّهِمْ) أو بِرَبِّهِمْ متعلق بـ " كفروا " و " يعدلون " من العدول لا من العدل وصلته محذوفة أي: يعدلون عنه، وقيل: الباء بمعنى عن فيتعلق بـ يعدلون، (هُوَ الذِي خَلَقَكُمْ): ابتدأ خلقكم، (مِن طِينٍ) فإن آدم منه، (ثُمَّ قَضَى أَجَلًا) أي: الموت، (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) أي: الآخرة، (عِندَهُ): لا يعلمه إلا هو، أو مدة الدنيا وعمر الإنسان، أو النوم والموت، أو مدة العمر ومدة البرزخ، والواو إما للعطف على (هو الذي) أو للحال، (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ): تشكون في أمر الساعة، (وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ): متعلق بالله باعتبار المعنى الوصفي الذي ضمنه اسم الله وهو مقولية هذا الاسم عليه خاصة(1/515)
أو متعلق بقوله: (يَعْلَمُ) ولا يلزم كون ذاته أو علمه فيهما: بل يكفي كون المعلوم فيهما وهو إما خبر ثان أو حال، (سرِّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُون): من خير وشر، (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) (من) زائدة للاستغراق، (مِنْ آياتِ ربِّهِمْ): الدالة على وحدانيته، و (من) تبعيضية لا تبيينية إلا أن تكون النكرة في النفي بمعنى جميع الأفراد، (إِلا كَانُوا عَنْهَا): عن التفكر فيها، (مُعْرِضِينَ): لا يلتفتون إليها، (فَقَدْ كَذبُوا بِالْحَقِّ) أي: القرآن، (لَمَّا جَاءَهُمْ) أي: إن أعرضوا فلا تعجب فإنهم كذبوا بأعظم آية، وهذا أشد من الإعراض، (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) أي: أخبار القرآن وأحواله بأنَّهم بأي شيء استهزءوا، وهذا تهديد ووعيد شديد، (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ): قوم، (أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) والقرن أهل كل عصر أو مدة أعمار الناس، (مَكنَّاهُمْ فِي الأرْضِ): أعطيناهم من العمر، والمال، (مَا لَمْ نمكِّن لَكُمْ): ما لم نعطه لكم، (وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ): المطر والسحاب، (عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا): كثير الدر أي: الصب، (وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ): بالعذاب من القحط والصواعق وغيرهما، (وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ): بدلاً منهم فليخافوا أن نفعل بهم كما فعلنا بهؤلاء، (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا): مكتوبًا، (فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) واللمس أبلغ في إيقاع العلم من المعاينة، فإن الأكثر أنه بعد المعاينة، وأكثر السحر والتزوير في المراءي، (لَقَالَ الذِينَ كَفَرُوا): عنادًا، (إِنْ هَذا): ما هذا، (إِلا سِحْر مُبِين) قيل: نزلت حين قالوا لا نؤمن بك حتى تأتينا(1/516)
بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملك يشهدون أنه من عند الله، (وَقَالُوا لَوْلا): هلا (أُنزِلَ عَلَيْهِ): على محمد، (مَلَكٌ): يخبرنا أنه نبي، (وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا): بحيث يرونه كما اقترحوا، (لَقُضِيَ الْأَمْرُ): لحق إهلاكهم وعذابهم، فإن سنة الله جرت على أن من اقترح آية ولم يؤمن بها بعد نزولها استؤصلوا بالعذاب، (ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ): لا يمهلون، (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ) أي: الرسول الذي أنزل على محمد، (مَلَكًا): يشهد على صدقه، (لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا): في صورة رجل فإن القوة البشرية لا تقوى على رؤية الملك في صورته، أو معناه؛ ولو جعلنا الرسول إليكم بدل الرسول البشري ملكًا فإنهم قالوا أيضًا: " لو شاء ربنا لأنزل ملائكة " (فصلت: 14)، (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ)، ولو جعلناه رجلاً لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم فينفون رسالته، ويقولون هو بشر مثلنا كما يقولون في شأن محمد حليه الصلاة والسلام، (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ)، تسلية لمحمد عليه الصلاة والسلام (فَحَاقَ): أحاط أو نزل، (بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ): من الرسل وبال، (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ قُلْ): لهم يا محمد. (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ).
* * *
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لله كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ(1/517)
الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
* * *
(سيروا في الأرض): بالأقدام، أو بالعقل والفكر، (ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين): فتعتبروا، (قل لمن ما في السَّمَاوَات والأرض): خلقًا(1/518)
وملكًا (قُلْ لله)، فإن الكفرة متفقون معكم في ذلك، فإن هذا من الظهور بحيث لا يقدر أحد أن ينكره، (كَتَبَ): التزم، (عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ): لطفًا وفضلاً فمن أقبل إليه مع عظم ذنبه قبله، (لَيجْمَعَنَّكُمْ) أي: في القبور، (إِلَى يَوْمِ الْقِيامَةِ): فيجازيكم بأعمالكم، (لا رَيْبَ فِيهِ) أي: في اليوم، (الَّذِينَ خسِرُوا أَنفُسَهُمْ): بتضييع الفطرة، والعقل نصب على الذم أو رفع أو مبتدأ ما بعده خبره، (فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) فإن استعمال العقل باعث على الإيمان، (وَلَهُ) عطف على الله في " قل لله "، (مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَار) أي: وله ما استقر في الأزمنة، وهو من السكنى قيل: تقديره ما سكن فيهما وتحرك واكتفى بأحد الضدين عن الآخر، (وَهُوَ السمِيعُ): لكل مسموع، (الْعَلِيمُ): بكل معلوم فلا يخفى عليه شيء، (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا)، إنكار لاتخاذ غير الله تعالى وليًّا معبودًا ربًا، (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): مبدعهما، صفة الله، فإنه بمعنى الماضي فالإضافة معنوية (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) يَرْزُقُ ولا يُرْزَقُ لا أحد إلا يحتاج إليه، وهو غير محتاج إلى أحد، (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ): من هذه الأمة، (وَلَا تَكُونَنَّ) عطف على أمرت أي: قيل لي لا تكونن، أو على قل، (مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، جواب الشرط دال عليه (أخاف)، والشرط معترض بين الفعل ومفعوله،(1/519)
وفيه تعريض بأنَّهم مستوجبون للعذاب بألطف وجه، (مَنْ يُصْرَفْ): العذاب، (عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ): وأنعم عليه، ومن قرأ (يَصْرِفْ) مبني للفاعل فالضمير لله، والمفعول وهو العذاب محذوف، (وَذَلِكَ) أي: الصرف والرحم، (الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ): كمرض وبلاء، (فَلا كَاشِفَ لَه): لا قادر على رفعه، (إِلا هوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ): كصحة ونعمة، (فَهُوَ عَلَى كلِّ شَيْء قَدِيرٌ): فيقدر على حفظه وإدامته، ولا راد لفضله، (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ): قهره استعلى عليهم فهم تحت تسخيره، (وَهُوَ الْحَكِيمُ): في أمره، (الْخَبِيرُ) بخفايا العباد.(1/520)
(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً)، نزلت حين زعم قريش أن أهل الكتاب أنكروا نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فسألوا عنه من يشهد بنبوتك، (قُلِ اللهُ) أعظم شهادة، فإن أعظمية شهادة الله تعالى أمر لا ينكر، (شهِيدٌ) أي: هو شهيد، (بَيْنِي(1/521)
وَبَيْنَكُمْ) أو الله مبتدأ، وشهيد خبر فإنه إذا كان هو الشهيد فأكبر شيء شهادة شهيد له، (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ): الذي ترونه ناطقًا بحجج وبينات، (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ): يا أهل مكة، (وَمَنْ بَلَغَ): وسائر من بلغه من الأسود والأحمر قل: (أَئِنَّكُم لَتشْهَدُونَ أَن مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى) تقرير لهم مع إنكار، (قُلْ لا أَشْهَدُ): بما تشهدون، (قلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَىٌ وَاحِدٌ وَإِننِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون): من الأصنام، (الذِينَ آتيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَه) أي: محمدًا - عليه الصلاة والسلام - بنعته المذكور في التوراة والإنجيل، (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ): بحيث لا يشكون في رسالته، فعدم شهادكم برسالته لعنادهم، (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ): من أهل الكتاب، وهجروا ما في كتابهم، (فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ): به.
* * *
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ(1/522)
يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
* * *
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى): اختلق، (عَلَى اللهِ كَذِبًا): ككذب المشركين، وأهل الكتاب، (أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ): كالقرآن، ومعجزات محمد - عليه الصلاة والسلام - أي: لا أظلم ممن ذهب إلى أحد الأمرين فكيف بمن جمع بينهما؟! (إِنَّهُ) أي: إن الشأن، (لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ): فضلاً ممن هو أظلم، (وَيَوْمَ) أي: اذكر، (نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا): العابد والمعبود، (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ): آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله، (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي: تزعمونهم شركاءهم "حينئذ" يشاهدون آلهتهم في غاية الهوان، فيسأل عنهم تقريعًا وتوبيخًا، (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا) أي: لم تكن غاية فتنتهم، ومقاتلتهم وكفرهم في الدنيا إلا التبرؤ، في الآخرة أو عاقبة افتتانهم ومحبتهم في الأصنام إلا التبرؤ أو معذرتهم أو جوابهم وسماه فتنة لأنه كذب أو لأنهم قصدوا به الخلاص يقال: فتنت الذهب إذا خلصته، ومن قرأ بنصب (فِتْنَتَهُمْ)، فون تأنيث الفعل للخبر كقولك: من كانت أمك؟ (وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) فيحلفون(1/523)
بالكذب لحيرتهم "فحينئذ" يختم على أفواههم، ويشهد عليهم جوارحهم، (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ): في الآخرة بنفي شركهم في الدنيا (وَضَل عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)، وغاب عنهم ما كانوا يفترون إلهيته، وشفاعته، (وَمِنهُمْ مَّنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) إذا قرأت القرآن كأبي جهل، والوليد، وأضرابهم، (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً): أغطية كراهة (أَن يَفْقَهُوهُ) أو عن أن (وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا): ثقلا وصمما مثل نبو قلوبهم ومسامعهم عن قبول القرآن، واعتقاد صحته بالأكنة والوقر، (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا) لقوة عنادهم، (حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ): بلغ عنادهم إلى أنَّهم إذا جاءوك، (يُجَادِلُونَكَ) جملة حالية، (يَقُولُ الذِينَ كَفَرُوا) جواب إذا وحتى هي التي تقع بعدها الجمل لا عمل لها، (إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) والأساطير: الأباطيل أو أحاديث الأمم السالفة التي سطروها في كتبهم (وَهُمْ يَنْهَوْنَ): الناس (عَنْهُ) استماع القرآن أو عن الإيمان، (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) يتباعدون(1/524)
عنه بأنفسهم وعن بعض السلف أنه في شأن أبي طالب، فمعناه ينهون عن التعرض لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وإيذائه، ويتباعدون عنه، فلا يؤمنون به، (وَإِن يُّهْلِكُونَ): وما يهلكون بذلك (إِلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ): ذلك، (وَلَوْ تَرَى)، جوابه محذوف أي: لرأيت أمرًا فظيعًا، وحالاً عجيبًا، (إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ): وعاينوا ما فيها من أنواع العذاب، (فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ): إلى الدنيا، (وَلَا نُكَذِّبَ)، عطف على (نُرَدُّ) فيكون المعنى على تمني مجموع الأمرين، أو عطف على التمني عطف إخبار على إنشاء، وهو جائز باقتضاء المقام أو حال وأما على قراءة النصب فبإضمار أن بعد الواو كما بعد الفاء، (بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُم): إضراب عن إرادة الإيمان المفهوم من التمني، (مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) أي: ظهر لهم قبائح أعمالهم فتمنوا ذلك ضجرًا لا محبة للإيمان، (وَلَوْ رُدُّوا): إلى الدنيا، (لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ): من الكفر لقضاء شقاوتهم في الأزل، (وَإِنَّهُمْ(1/525)
لَكَاذِبُونَ): فيما وعدوا صريحًا ضمنًا، (وَقَالُوا)، عطف على لعادوا أو نهوا أو استئنَاف بذكر ما قالوه في الدنيا، (إِنْ هِيَ) أي: الحياة، (إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى): مسألة، (ربهِمْ): وتوبيخهم، وقيل أي: بين يديه، (قَالَ)، استئناف فكأن سائلاً قال: ماذا قال ربهم حينئذٍ؟ (أَلَيْسَ هَذَا): البعث (بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا): إقرار مؤكد باليمين، لكن لا ينفعهم، (قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتمْ تَكْفُرُونَ): بسبب كفركم.
* * *
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ(1/526)
أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
* * *
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذبُوا بِلِقَاءِ اللهِ): بالبعث، وما يتبعه، (حَتَّى إِذَا جَاءَتهُمُ السَّاعَةُ): غاية لكذبوا، أو من مات فقد قامت قيامته، (بَغْتَةً): فجأة، مفعول مطلق لأنها نوع من المجيء أو حال، (قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا): تعالى فهذا أوانك، (عَلَى مَا فَرَّطْنَا): قصرنا، (فِيهَا): في الدنيا أو في الساعة أي: في شأنها، (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ): آثامهم، (عَلَى ظُهُورِهِمْ): تمثل ذنوبهم بأقبح صورة منتنة فتركب عليهم وتسوقهم إلى النار، (أَلا سَاءَ مَا يَزِرُون): بئس شيئًا يزرونه وزرهم، (وَمَا الْحَياةُ الدُّنيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)، لأنها تنقضي عن قريب، ولا تعقيب منفعة، (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ): لدوام لذاتها ومسراتها، (أَفَلا تَعْقِلُونَ):(1/527)
إنها كذلك، (قَدْ نَعْلَمُ) أي: الشأن، (إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ): تسلية لرسوله فيما قال الكفار: إنك كذاب، (فَإِنَّهمْ لا يُكَذِّبُونَكَ): في نفس الأمر، أو في السر، (وَلَكِن الظالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدونَ): لكنهم لظلمهم جحدوا الآيات، وكذبوا بها، نزلت حين قال أبو جهل: لا نكذبك لكن نكذب بما جئت به، أو لما سئل أبو جهل عنه قال: والله إنه لصادق وما كذب قط، لكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والنبوة فماذا يكون لسائر قريش، (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا): بمعونتهم وإهلاك أعدائهم فاصبر أنت أيضًا كما صبروا فسيجيء نصرك، وما مصدرية، (وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ): لمواعيده وحكمه، (وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ): بعض أخبارهم كيف صبروا، وكيف دمرنا قومهم، (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ): عظم وشق، (عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ): عن الإيمان، (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا): تطلب منفذًا، (في الأرْضِ): تنفذ فيه إلى جوفه، (أَوْ سُلَّمًا): مصعدًا، (فِي السَّمَاءِ): تصعد به إليه، (فَتَأْتِيَهُمْ): من الأرض أو السماء، (بِآيَةٍ)، وجواب الشرط الثاني مقدر أي: فافعل، والجملة جواب الأول يعني لا مغير لحكم الله فاصبر، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى) أي: لو أراد جمعهم على الهدى لجمعهم وهداهم، ولكن(1/528)
لم يتعلق به مشيئته (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ): بالحرص على خلاف مرادنا والجزع فإنه دأب الجهلة، (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ) أي: يجيب دعوتكم بالإيمان، (الذِينَ يَسْمَعُونَ)، لا من ختم الله على سمعه فلا يتأمل ولا يفهم، (وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) أي: الكفار الذين كالموتى لا يسمعون يبعثهم الله فيعلمون حين لا ينفعهم، (ثمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ): للجزاء، (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) كمَلَكٍ يشهد له، وكقولهم: " حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا " [الاسراء: 90] (قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيةً): وفق ما طلبوا (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ): أنه قادر على ذلك، وأنه لو أنزل ثم لم يؤمنوا لعاجلهم بالعقوبة كما هو سنة الله، (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ): إتيان الصفة لدابة وطائر لزيادة التعميم، والمبالغة بحيث لا يبقى وهم خروج شيء من الإفراد لكون الوصفين من أوصاف الجنس دون النوع، فيشعر بأن القصد فيها إلى الجنس، (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ): مقدرة أرزاقها وآجالها محفوظة أحوالها أصناف تعرف بأسمائها وجمع الأمم للحمل على المعنى، (مَا(1/529)
فَرَّطْنَا): ما أهملنا، (فِي الْكِتَابِ): في اللوح المحفوظ (مِنْ شَيْءٍ): فإنه مشتمل على ما يري في العالم ومن شيء أي: شيئًا من التفريط، فيكون مصدرًا فإن فرط غير متعد بنفسه، (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) أي: الأمم كلها، فينصف بعضها عن بعض، " وإذا الوحوش حشرت " (التكوير: 5)، وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - موت البهائم حشرها، (وَالذِينَ كَذبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ): عن سماع آياته سماع قبول وتأثر، (وَبُكْمٌ): لا ينطقون بالحق، (في الظُّلُمَاتِ)، خبر ثالث، أو حال عن المستكن في الخبر ظلمة الكفر، والجهل، والعناد، (مَنْ يَشَإِ اللهُ): إضلاله، (يُضْلِلْهُ): فيميته على الكفر، (وَمَنْ يَشَإِ): هدايته، (يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ): فيميته على الإيمان، (قُلْ): يا محمد للكفرة، (أَرَأَيْتَكُمْ): أخبروني استفهام وتعجب، والكاف لتأكيد الفاعل لا محل له من الإعراب، وهو من وضع السبب موضع المسبب فإنه وضع الاستفهام عن العلم موضع الاستخبار؛ لأنه لا يخبر عن الشيء إلا العالم به، (إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ): قبل الموت، (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ): القيامة، وأهوالها، (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ): في صرف العذاب عنكم، وهو متعلق الاستخبار، (إِن كُنتمْ(1/530)
صَادِقِينَ) في أن الأصنام آلهة فأخبروني لم لا تعبدون أصنامكم في ذلك الحال؟! (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ): تخصونه بالدعاء كما قال تعالى: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [لقمان: 32] (فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ): الله، (إِلَيْهِ): إلى كشفه، (إِنْ شَاءَ) لكن لم يشأ كشف عذاب الآخرة عنهم، (وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ) فلا تذكرونه في ذلك الوقت.
* * *(1/531)
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي(1/532)
مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِن قَبْلِكَ) أي: الرسل فكذبوهم، (فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ): بالشدة والجوع، (وَالضَّرَّاءِ): الأمراض والنقصان، (لَعَلهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)،: لكي يسألوا ربّهم متذللين تائبين، (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا)، حاصله نفي التضرع، لكن جاء بـ (لولا) ليفيد أنه لم يكن لهم عذر سوى العناد والقساوة، لأن (لولا) يفيد اللوم والتنديم، وذلك إنما يحسن إذا لم يكن في ترك الفعل عذر، وعنه مانع، (وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ): ما رقت، (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ): فأصروا عليه، (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ): من البأساء والضراء ولم يتعظوا به، (فتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْء): من أنواع النعم استدراجًا ليكون الأخذ والهلاك أشد عليهم وأفظع، (حَتَّى إِذا فرِحُوا بِمَا أُوتُوا): وحسبوا أنَّهم على شيء، (أَخَذنَاهُمْ بَغتَةً): فجأة، مفعول مطلق لأنها نوع من الأخذ، (فإذَا هُم مُبْلِسُونَ): آيسون من كل خير، (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا):(1/533)
آخرهم لم يترك منهم أحد، (وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ): على إهلاك الظلمة الذين من شؤمهم تقطع الرحمة، وتحزن الطير في وكره، (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ): أيها المشركون، (إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ): أصمكم وأعماكم، (وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ): حتى لا تفهموا شيئًا، (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ): بما أخذ وختم أو بأحد هذه المذكورات، (انظُرْ كَيْفَ نصَرِّفُ الآيَاتِ): نوضحها ونكررها، (ثُمَّ هُم يَصْدِْفُون): يعرضون، (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ): أخبروني، (إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً): على غفلة أو ليلاً، (أَوْ جَهْرَةً): معاينة تعلمون نزوله أو نهارًا، (هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظّالِمُون) فإن الموحدين لا يهلكون بالعذاب ألبتة بل (أولئك لهم الأمن) كما فعل بالأمم الماضية ما نزل العذاب إلا بعد تمييز المسلمين، ولو نزل على مسلم مصيبة فهي ليست بعذاب، (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ): العمل، (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ): بالعذاب، (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما فات من دنياهم، (وَالّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ): يصيبهم، (بِمَا كَانُوا يفْسُقُون): بسبب فسقهم، (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ): فأعطيكم ما(1/534)
تريدون، (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ): فأخبركم بكل ما تسألون، عطف على (عندي خزائن الله)، وقيل: على (لا أقول)، (وَلا أَقولُ لَكُمْ إِني مَلَكٌ): فأقدر على ما يقدر، (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) وحاصله لا أدعي ما تستبعده العقول؛ بل أدعي النبوة كما كان لكثير من البشر، (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ): مثل للجاهل، والعالم أي: لا يستوي متبع الوحي ومن ضل، (أَفَلا تَتَفكَرونَ) أنه لا تستوي كقوله تعالى: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى) [الرعد: 19].
* * *
(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)(1/535)
(وَأَنذِرْ بِهِ): بالقرآن، (الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ): يخافون هول يوم الحشر لا من جزم استحالته، (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ): يتولَّى أمرهم، (وَلا شَفِيعٌ):(1/536)
يشفع بغير إذنه إن أراد العذاب بهم، والجملة حال، (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ): عن كفرهم ومعصيتهم، (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ): لا تبعدهم عنك، (يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ): يصلون المكتوبات في ليلهم ونهارهم، أو صلاة الصبح، والعصر، أو يذكرون ربَّهم، (يُرِيدُون وَجْهَهُ) أي: يعبدونه حال كونهم مخلصين فيها، (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)، (من) زيدت للاستغراق وهو فاعل عليك لاعتماده على النفي، ومن حسابهم حال من شيء، أو من شيء مبتدأ وما عليك خبره، والحال من ضمير في الخبر أي: من شيء من تبعة حسابهم ليست عليك، ولا تكلف أمرهم، (وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ): وليست تبعة حسابك عليهم، ولا يكلفون أمرك أو(1/537)
معناه إنما حسابهم على الله ليس عليك كما أنه ليس عليهم من حسابك من شيء كقول نوح - عليه السلام - في جواب: (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) قال: (قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)) [الشعراء: 111 - 113]، (فَتَطْرُدَهُمْ)، جواب النفي، (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) جواب النهي نزلت في فقراء المؤمنين قال رؤساء قريش: يا محمد نَحِّ هؤلاء الأعبد عن مجلسك حتى نجالسك ونسمع كلامك، (وَكَذَلِكَ): مثل ذلك الفتن العظيمة (فَتَنَّا): ابتلينا، (بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا): رؤساء قريش قالوا في شأن فقراء المسلمين وضعفائهم: (أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِّن بَيْنِنَا) إنكارا لأن يخصهم الله بهداية ونعمة كما قالوا: " لو كان خيرًا ما سبقونا إليه " [الأحقاف: 11]، واللام للعاقبة للتعليل، (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)؛ هذا جواب لقولهم أي: الله أعلم بمن يشكر الإيمان وطبعه مستقيم فيهديه، (وَإِذَا جَاءكَ الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا) هم فقراء الصحابة الذين في الله طردهم، (فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ): أكرمهم ببدء السلام عليهم، (كَتَبَ ربُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ): بشرهم بسعة رحمة الله، (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا): من قرأ (أَنَّهُ) بفتح الهمزة يكون بدلاً من الرحمة، ومن قرأها بكسرها فاستئناف، (بِجَهَالَةٍ) في موضع الحال أي: جاهلاً بما يورثه ذلك الذنب أو متلبسًا بفعل الجهالة، لأن ما يؤدي إلى الضرر لا يرتكبه سوى الجاهل قال بعض السلف: كل(1/538)
من عصى الله فهو جاهل نزلت في عمر حين أشار بإجابة قريش إلى طرد المؤمنين فأنزل الله، " ولا تطرد الذين " إلخ ثم جاء واعتذر من مقالته، (ثمَّ تَابَ مِن بعدِهِ): العمل أو السوء، (وَأَصلَحَ) عمله أو أخلص توبته، (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) من قرأ (فأنه) بفتح الهمزة تقديره فأمره، أو فله غفرانه ألبتَّة، ومن قرأ بالكسر فتقديره: فالله يغفره ويرحمه ألبتَّة فإنه غفور رحيم، (وَكَذَلِكَ): مثل ذلك التبيين الواضح، (نُفَصِّلُ الْآيَاتِ): التي يحتاج الناس إلى بيانها، (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ): من قرأ تستبين بالتاء وسبيلَ بالنصب فمعناه: ولتعرف طريقهم، فتعاملهم بمقتضى علمك، ومن قرأ بالتاء، ورفعها أي: ولتبين سبيلهم ومن قرأ بالياء ورفعها فلأن السبيل يذكر ويؤنث وهو إما عطف على مقدر أي: فصلنا ليظهر الحق ولتستبين وإما تقديره: ولتستبين فصلنا هذا التفصيل.
* * *
(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
* * *(1/539)
(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ): عن (أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ): تعبدون، (مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ) فيه إشارة إلى علة النهي، ومبدأ ضلالهم فإن طريقهم اتباع الهوى لا الهدى، (قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا) أي: إن فعلت ذلك فقد ضللت، (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) فيه تعريض بأنَّهم كذلك، (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ): حجة واضحة، (مِنْ رَبِّي): غير متبع الهوى، وهو صفة لبينة، (وكَذبتم بِه): بربي، حيث أشركتم أو الضمير للبينة فإنها بمعنى الدليل، (مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ): من العذاب كما قالوا: " إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً " [الأنفال: 32] (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله): في تعجيل العذاب وتأخيره، (يَقُصُّ الْحَقَّ): يتبع الحق والحكمة فيما حكم، ومن قرأ " يقضي الحقَّ " أي: يحكم القضاء الحق فيكون صفة مصدر أو يصنع، الحق فيكون مفعولاً به، (وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ): القاضين، (قُلْ لَوْ أَنْ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ): من العذاب، (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي: لعجلته حتى أتخلص منكم حين سألتم أنتم العذاب، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) أي: لكن هو أعلم بوقت العقوبة، (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ): خزائنه جمع مفتح بالميم وهو(1/540)
المخزن أو جمع مِفتاح بكسر الميم وهو المفتاح، وقد صح أن مفاتيح الغيب خمس " إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ " [لقمان: 34] (لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي: يحيط علمه بالمغيبات والمشاهدات، (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا)، لأنه لا تسقط إلا بعد تعلق إرادته به، (وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ): فوق الأرض أو تحته عطف على ورقة، (وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ) المراد منه كل شيء، (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ): في اللوح المحفوظ، وهو صفة للمذكورات كما أن " إلا يعلمها " صفة لورقة، (وَهُوَ الذِي يَتَوَفاكُم بِالليلِ): هو التوفي الأصغر استعار التوفي للنوم لما بين الموت والنوم من المشاركات، (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ): كسبتم، (بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ): يوقظكم، (فِيهِ)، الضمير للنهار وقيل: في المنام، (لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى): أجل الحياة إلى الممات أي: ليستوفي مدة عمره، (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ):(1/541)
بالموت، (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ): يجزيكم بعملكم إن خيراً فخير وإن شرًّا فشر.
* * *
(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
* * *(1/542)
(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ): تصوير لقهره وعلوه بالقدرة، (ويرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً): من الملائكة تحفظ أبدانكم كما قال تعالى: " له معقبات من بين يديه " [الرعد:11]. أو تحفظ جميع أعمالكم وهم الكرام الكاتبون، (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ): حان أجله، (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) لملك الموت أعوان يخرجون الروح فيقبض ملك الموت، (وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ): فيما أمروا يفعلون ما يؤمرون (ثم رُدُّوا) أي: الملائكة أو الخلائق كلها، (إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ): الذي يتولى أمرهم، (الْحَقِّ): العدل الذي لا يظلم فضلا (أَلَا لَهُ الْحُكْمُ): يومئذ لا حكم بوجه لغيره فيه، (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ): لا يحتاج في الحساب إلى ضرب وقسمة وفكر وروية وعقد يد لا يشغله حساب عن حساب، (قُلْ مَن يُنَّجِّيكُمْ): سؤال توبيخ، (مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ): شدائدها وأحوالها (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً): معلنين(1/543)
ومسرين، أو إعلانًا وإسرارًا (لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ) أي: يقولون لئن أنجيتنا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ): لا من الكافرين، (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا): الظلمة، (وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ): غم سواها، (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ): فلا تشكرون، (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ): كما فعل بعاد وثمود وقوم لوط ونوح، (أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ): كالخسف، والزلزلة نقل عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عذاب الفوق أمراء السوء والتحت خدم السوء، (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا): يخلطكم فرقًا مختلفين على أهواء شيء، (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ): يسلط بعضكم على بعض بالعذاب، والقتل وفي الحديث الصحيح " سألت ربي ثلاثًا فأعطاني(1/544)
ثنتين ومنعني واحدة سألت أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم فأعطانيها، وسألت أن لا يظهر علينا عدوًّا من غيرنا فأعطانيها، وسألت أن لا يلبسنا شيعًا فمنعنيها "، (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ): نوضحها ونكررها، (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ): لكي يفهموا ويتدبروا، (وَكَذبَ بِهِ): بالقرآن وقيل: بالعذاب، (قَومُكَ): قريش، (وَهُوَ الْحَقُّ): الصدق أو الواقع، (قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيل): ما وكل إليَّ أمركم إنما عليَّ البلاغ، (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ): لكل خبر من أخبار الله تعالى وقوع، ولو بعد حين، (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ): بعضه في الدنيا، وبعضه في الآخرة، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا): بالطعن والاستهزاء، (فَأَعْرِضْ عَنْهمْ): اترك مجالستهم، (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ): الضمير للآيات(1/545)
باعتبار القرآن، (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ): النهي عن مجالستهم بوساوسه، (فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى) بعد أن تذكر، (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، معهم فإنهم ظلمة لوضع التكذيب، والسخرية موضع التصديق والتعظيم، (وَمَا عَلَى الّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْء): ما عليهم شيء مما يحاسبون عليه أي: من آثام الخائضين إن قعدوا معهم، (وَلَكًن ذِكرى) أي: لكن عليهم أن يذكروهم، ويمنعوهم، ويعظوهم، (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون): يجتنبون الخوض كراهة لمساءتهم نقل أنه لما نزل النهي عن مجالستهم قال المسلمون: إذا لم نستطع أن نجلس في الحرم ونطوف فإنهم يخوضون أبدًا، فنزلت رخصة لهم في القعود بشرط التذكير، قال كثير من السلف: هذا منسوخ بآية النساء المدنية، وهي قوله " إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ " [النساء: 140]، وفي رواية قال المسلمون: نخاف الإثم حين نتركهم ولا ننهاهم وحينئذ معنى قوله: " ولكن ذكرى " أي: ولكن عليكم التجنب وتذكر النهي لعلهم يتقون حين يروا إعراضكم عنهم، وصح عن سعيد ابن جبير: إن معناه ما عليكم أن يخوضوا في آيات الله شيء من حسابهم إذا تجنبتم، وأعرضتم عنهم أي: عليكم الإعراض، (وَذَرِ الذِينَ اتخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا) أي: استهزءوا بالدين الحق الذي يجب أن يعظم غاية التعظيم، أو معناه جعلوا اللعب كعبادة الأصنام وتحريم البحائر وغيرها دينا واجبًا أي: أعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم، (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) حتى اطمأنوا بها، (وَذَكِّرْ بِهِ): بالقرآن، (أَنْ(1/546)
أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ): مخافة أن تسلم إلى الهلكة بسوء عملها، أو تفضح، أو تجس أو تؤاخذ أو تجزى، (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ): يدفع العذاب عنها، والجملة إما صفة أو حال، (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ): وإن تَفْدِ النفس كل فداء، ونصبه على المصدر، (لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا): فاعله منها لا ضمير العدل؛ لأنه مصدر وهو ليس بمأخوذ، (أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا): سلموا للعذاب، (بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ): الماء المغلي، (وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ).
* * *
(قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ(1/547)
هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
* * *
(قُلْ أَنَدْعُو): نعبد، (مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا): لا يملك نفعًا ولا ضرًّا، (وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا): نرجع إلى الشرك، (بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ): كالذي ذهبت به الغيلان مردة الجن، وأضلته، و (كالذي) حال من ضمير (نرد) أي: ننكص مشبهين من أضلته الغيلان (فِي الْأَرْضِ): في المهمه (1) (حَيْرَانَ): متحيرًا، (لَه): لهذا المستهوى، (أَصحابٌ): رفقاء، والجملة (كحيران)، (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى): إلى الطريق المستقيم، (ائْتِنَا) أي: قائلين إيتنا، فلا يلتفت إليهم، ويصير مع الغول حتى يلقيه إلى الهلكة، (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى): فما عداه ضلال وهلكة، (وَأُمِرنا): عطف على (إن هدى الله)، (لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) أي: بأن نُسْلِمَ،
___________
(1) أي: البادية.(1/548)
ونخلص له العبادة أو اللام للتعليل أي: أمرنا بذلك لنسلم (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ)، عطف على لنسلم، (وَهُوَ الذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُون).
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ): بالعدل والحكمة، (وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فيَكُون)، عطف على السماوات فذكر بدء الخلق وإعادته أو على مفعول اتقوه أو بتقدير واذكر، والمراد يوم القيامة فإن الأمر فيه غير تدريجي، (قَوْلُهُ الْحَقُّ) أي: الصدق الواقع لا محالة مبتدأ وخبرًا أو (قوله) مبتدأ و (الحق) صفته " ويوم يقول " خبره أى: قضاؤه الحكمة والصواب حين يقول للشيء كن فيكون ذلك الشيء يعني ما ظهر من مكوناته شيء إلا عن حكمة وصواب، فلا يكون المراد من يوم يقول يوم القيامة، (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) إما ظرف لقوله: " له الملك " كقوله: " لِمَنِ(1/549)
الْمُلْكُ الْيَوْمَ لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ " [غافر: 16] وإما بدل من " يقول " والصور القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل، وقيل: جمع صورة أي ينفخ فيها فتحيا، (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) أي: هو عالم الغيب، (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ)، عطف بيان لأبيه والأصح أنه اسم أبيه وله اسمان (آزر) و (تارخ) أو أحدهما لقبه، (أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً): دون الله، (إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ): عن الحق، (مُبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ) أي: مثل هذا التبصير نبصره، وهو حكاية حال ماضية، (مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) أي: ملكها والتاء زائدة للمبالغة، (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أي: ليستدل، وليكون، أو وفعلنا ذلك ليكون، (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليْلُ): ستره بظلامه، وهذا تفصيل لإراءته، (رَأَى كَوْكَبًا): هو الزهرة أو المشترى، (قَالَ هَذا ربي)، قول من ينصف خصمه مع علمه أنه مبطل، ثم يكر عليه فيبطله بالحجة وهذا النوع أدعى إلى القبول فإن قومه يعبدون الكواكب، وهذا هو الأصح، أو قال ذلك على وجه النظر والاستدلال في أول بلوغه (1)، بل قبله فقد نقل أنه في السرب سبع سنين أو أكثر لخوف والديه من نمرود لأنه يقتل الصبيان، فإنه قد أخبر بمولود ذهاب ملكه على يديه، وهو ما رأى في السرب لا سماء ولا أرضًا فلما خرج ورأى كوكبًا قال هذا ربي، (فَلَمَّا أَفَلَ): غاب، (قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ): عبادة شيء يتغير عن حال إلى حال فعرفهم جهلهم، (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا): طالعًا، (قَالَ هَذَا رَبِّي
__________
(1) الصواب أن الخليل - عليه السلام - كان مناظرًا ولم يكن ناظرًا. والله أعلم.(1/550)
فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا) أي: الشيء الطالع صان ما سماه ربا عن وصمة التأنيث، (رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ) جرمًا، وإضاءة، فأليق بالربوبية، (فَلَمَّا أَفَلَتْ): وظهر حدوثه، وأنه مسخر، (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ): من الأجرام المفتقرة إلى محدث يحدثها، ثم توجه إلى موجدها الذي دلت هذه الممكنات عليه وقال: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ): أخلصت ديني وأفردت عبادتي، (لِلذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْض): ابتدعهما على غير مثال سبق، (حَنيفًا): حال كوني مائلاً عن الشرك إلى التوحيد، (وَمَا أَنا مِنَ الْمُشْرِكِينَ): لله، (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ) جادلوه في التوحيد، (قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ): في وحدانيته، (وَقَدْ هَدَانِ): إلى التوحيد، وأنا على بينة منه، (وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُون بِهِ) أي: معبوداتكم فإنها لا تملكَ ضَرًّا ولا نفعًا وهم يخوفونه منها، (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا)، استثناء منقطع، أي: لكن أَخاف مشيئة الله، أو متصل تقديره لا أخاف معبوداتكم في وقت قط إلا وقت مشيئة ربي شيئًا من مكروه يصيبني من جهتها مثل أن يرحمني بكوكب أو يجعلها قادرة على مضرتي، (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ): فتعتبروا أن ما قلت لكم حق(1/551)
فتتركوا عبادتها، (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ) وهو لا يملك ضرًا، (وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ): الذي هو حقيق بأن يخاف منه، لأنكم أشركتم المصنوع بالصانع، وسويتم بين العاجز والقادر، (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا): شيئًا لم ينزل بإشراك ذلك الشيء حجة من كتاب وغيره، (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ): من الموحدين والمشركين، (أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كنتُمْ تَعْلَمُونَ): إن لم يكن لكم جهل، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ): لم يخلطوه بشرك، (أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ): وقد صح أنها لما نزلت قد شق على الصحابة، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال - عليه الصلاة والسلام -: " ليس كما تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح:(1/552)
" يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ " [لقمان: 30] " إنما هو الشرك "، وقد فسره السلف بذلك، والمراد من الخلط النفاق، أو المراد من الإيمان مجرد تصديقه وشركه عدم توحيده، أو المراد الثبات على الإيمان وكثير من الناس يزعمون إيمانهم وهم عنه بمراحل لفساد عقيدتهم بصفة من صفات الله.
* * *
(وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
* * *
(وَتِلْكَ) إشارة إلى ما مر من قوله: " فلما جنَّ " إلى قوله: " وهم مهتدون "، (حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ): ألهمناها، (عَلَى قَوْمِهِ) متعلق بـ (حُجَّتُنَا)، (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ(1/553)
نَشَاءُ) قرئ بالإضافة، وبلا إضافة فـ (من نشاء) مفعول (نرفع) و (درجات) إما مصدر أو ظرف أو تمييز إن جوزنا تقديمه، (إِن رَبَّكَ حَكِيمٌ) في الرفع والخفض، (عَلِيمٌ)، بحال من يرفعه ويخفضه وقابليته، (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا): منهما، (هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ) أي: من قبل إبراهيم وهداية الوالد شرف للولد، (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ)، الضمير لإبراهيم، ولوط هو ابن أخيه أدخل في ذريته تغليبًا أو الضمير لنوحٍ - عليه السلام (دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ) أي: هدينا من ذريته داود وسليمان، (وَأيوبَ ويُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ): مثل ما جزينا إبراهيم برفع الدرجة، وكثرة أولاد مهتدين، (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيىَ وَعِيسَى)، فيه دليل على أن ولد البنت من الذرية، (وَإِلْيَاسَ) الصحيح أنه غير إدريس، (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ): بالنبوة، (وَمِن آبائِهِمْ) عطف على (كُلًّا) أي: فضلناهم وبعض آبائهم، (وَذرّيَّاتِهِمْ) وفيهم سيد الكونين - عليه السلام - فهم أفضل جميع المخلوقات بأسرها، (وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ): اخترناهم، (وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ ذَلِكَ) إشارة إلى ما هم عليه، (هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا) بحسب الفرض أي: هؤلاء الأنبياء مع علو درجتهم (لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ): بطل عملهم كآحاد الناس، (أُولَئِكَ الذِينَ آتيْنَاهُمُ الْكِتَابَ)، يريد جنس الكتاب، (وَالْحُكْمَ): العلم والحكمة، (وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا): بالنبوة، أو بهذه الثلاثة،(1/554)
(هَؤُلاءِ): أهل مكة (فَقَدْ وَكلْنَا بِهَا): بمراعاتها، (قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) وهم المهاجرون والأنصار، ومن تبعهم إلى يوم الدين، وعن قتادة هم الأنبياء المذكورون ومن تبعهم، (أُولَئِكَ) أي: الأنبياء المذكورون، (الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ): في التوحيد، والصفات الحميدة، والهاء للوقف، (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ): على التبليغ أو القرآن، (أَجْرًا): جعلا كما لم يسأل الأنبياء، (إِنْ هُوَ) أي: القرآن، (إِلَّا ذِكْرَى): تذكرة وعظة، (لِلْعَالَمِينَ).
* * *
(وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ(1/555)
الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
* * *
(وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِه): ما عظموه حق تعظيمه، أو ما عرفوه حق معرفته في اللطف والرحمة على عباده، (إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ): إذ كذبوا إرسال الرسل الذي هو من عظائم نعمه، (قُلْ): لهم، (مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ): نزلت في قريش، وهم يسمعون كتاب موسى من اليهود، ويسلمونه، ويقولون: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ، أو في طائفة من اليهود حين قالوا ذلك مبالغة في إنكار القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فألزموه ما لابد لهم من الإقرار به أو رجل معين من اليهود قال: ما أنزل الله على بشر من شيء حين غضب، (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا) أي: جملتها بجعلها قطعًا قطعًا، ويجزئونها جزءًا جزءًا يبدون ما يحبون ويخفون بعضًا لا يشتهون، مثل صفة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وآية الرجم، وقراءة الخطاب يؤيد كلام من يقول: إن الآية في اليهود اللهم إلا أن يقال إن قريشًا واليهود والنصارى متشاركون في إنكار القرآن، فلم يبعد أن يكون الكلام بعضه خطابًا مع قريش، وبقية(1/556)
مع اليهود، والنصارى كأنهم طائفة واحدة، وأما قراءة الياء أي: الغيبة تكون التفاتًا عند من يقول الآية في اليهود، (وَعُلِّمْتُمْ): بسبب القرآن، (مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ): من خبر ما سبق ونبأ ما يأتي، وإذا كان الخطاب مع اليهود فمعناه علمتم بالقرآن زيادة على التوراة وبيانًا لما التبس عليكم، وعلى آباءكم كما قال تعالى " إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ " [النمل: 76]، (قُل اللهُ): أنزله أَجِبْ عنهم ذلك، لأنه متعين وفيه إشعار بأنَّهم تحيروا في الجواب (ثمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ): دعهم في أباطيلهم، (يَلْعَبُونَ): يعملون ما لا ينفع، وهو حال من مفعول ذر، (وَهَذَا): القرآن، (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ): كثير النفع، (مُصَدّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ): من الكتب السماوية، (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى) أي: أهل مكة فـ (عطف على) صريح لفظ مبارك أي: كتاب مبارك كائن للإنذار، (وَمَنْ حَوْلَهَا): أهل الشرق والغرب، (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْأخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ): بالقرآن، (وَهُمْ عَلَى صَلاِتهِمْ يُحَافِظُونَ)، فإن لازم الإيمان بها الخوف، والخوف يجره إلى الإيمان بالقرآن والمداومة بصلاته فإنها عماد الدين، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا): كمن ادعى أنه أرسله كاذبًا، (أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ)، نزلت في مسيلمة الكذاب ادعى النبوة والوحي، (وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ):(1/557)
كما قالوا: " لو نشاء لقلنا مثل هذا " [الأنفال: 31]، (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ)، جوابه محذوف أي: ولو ترى زمان سكراتهم لرأيت أمرًا فظيعًا، (فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ): شدائده، (وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ)، بتعذيبهم لقبض أرواحهم، فقد ورد أن أرواح الكفرة تتفرق في أَجسادهم وتأبى الخروج فتضربهم الملائكة حتى تخرج، (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) أي: قائلين ذلك تعنيفًا وتغليظًا وزجرًا وإضرارًا لهم، (الْيَوْمَ): يوم الموت، (تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ): الهوان والذل، (بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ): كإثبات الشريك والولد، وإدعاء النبوة، (وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ): فلا تؤمنون بها، فالهوان لاستكبارهم، (وَلَقَدْ جئتُمُونَا فُرَادَى).(1/558)
منفردين عن الشفعاء، والأموال، والأهل، (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، وقد كنتم تنكرون ذلك حال ثانية أو صفة مصدر جئتمونا أي: مجيئًا مثل خلقناكم أو بدل من فرادى، (وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ): تفضلنا عليكم من المال، (وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ): تركتموه كليًّا وليس معكم شيء منه، (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ): في ربوبيتكم واستعبادكم، (شُرَكَاءُ): لله، (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ)، على قراءة رفع (بينُكم) يكون بمعنى الوصل ليس بظرف، أو ليس بلازم الظرفية، وعلى قراءة النصب أسند لتقطع إلى ضمير الأمر لتقرره في النفوس أي: تقطع الأمر بينكم، (وَضَلَّ عَنْكُمْ): ضاع وبطل، (مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ): تزعمونه شفيعًا.
* * *
(إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ(1/559)
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لله شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
* * *
(إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) يشقهما في الثرى فينبت منهما الزرع والشجر، (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ): النبات والحيوان من الحب والنطف، (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ): الحب والنطف (مِنَ الْحَيِّ): النبات والحيوان عطف على فالق الحب فإن (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالبيان له ولذا ترك العطف، (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) لا يصلح للبيان، لأن فلق الحب ليس إلا لإخراج الحي، (ذَلِكُمُ اللهُ) أي: فاعل هذه الأشياء هو الله، (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ): تصرفون عنه إلى غيره، (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ): شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل، (وَجَعَلَ الليْلَ)، إعمال اسم الفاعل، لأنه بمعنى الدوام التجددي نحو:
" ولقد أمر على اللئيم يسبني "
لا بمعنى الثبوت الدائمي كـ " مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ "، (سكَنًا): يسكن فيه خلقه، ويستريح، (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا) أي: تجريان بحساب معين لا(1/560)
تتجاوزان، أو معناه جعلهما علمي حسبان؛ لأن حساب الأوقات يعرف بدورهما، (ذلِكَ) أي: المذكور من فلق الصبح، وجعل الليل، والشمس، والقمر، (تقدِيرُ الْعَزِيزِ): الذي يفعل ما يريد، (الْعَلِيمِ): بما قدر وأراد، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُم النُّجُومَ): خلقها لكم، (لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي: في ظلمات الليل فيهما، (قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ): بيناها مفصلاً لا مجملاً، (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، فإن الجاهل لا ينتفع به، (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) أي: آدم، (فَمُسْتَقَرٌّ) أي: فلكم مستقر في الأرحام، (وَمُسْتَوْدَعٌ): في الأصلاب، أو بالعكس أو في الأرحام، وعلى ظهر الأرض أو في القبر وفي الدنيا أو في الرحم والقبر أو في الجنة أو النار وفي القبر وهما اسما مكان أو مصدران، وفي قراءة كسر القاف الأول اسم فاعل، والثاني اسم المفعول أي: فمنكم قار ومنكم مستودع، (قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ(1/561)
لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ)، الفقه: تدقيق النظر، فهو أليق بالاستدلال بالأنفس لدقته بخلاف الاستدلال بالآفاق، ففيه ظهور ولهذا قال في الأول: " لقوم يعلمون ".
(وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ): من جانبه، (مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِه): بسبب الماء، (نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ): تنبت، (فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ): من النبات أو الماء، (خَضِرًا): زرعًا وشجرًا أخضر، (نُخْرِجُ مِنْهُ): من الخضر، (حَبًّا مُتَرَاكِبًا): بعضه على بعض كسنابل البر وغيره، (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ)، الطلع: أول ما يخرج من ثمرها والقنو: العرجون، وهو مبتدأ " ومن النخل " خبره، " ومن طلعها " بدل، (دَانيَةٌ): سهلة المجتنى لقصر النخل اللاصقة عذوقها بالأرض، أو قريب بعضها من بعض على التفسير الأول ذكر الدانية لأن النعمة فيها أظهر أو دل بذكر القريبة على ذكر البعيدة كقوله " سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ " [النحل: 81] أي: والبرد، (وَجَنَّاتٍ من أَعْنَابٍ) عطف على (نبات)، أو على (خضراً) (وَالزَّيتونَ وَالرُّمَّانَ) أي: شجريهما بدليل انظروا إلى ثمره، (مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ) أي: متشابهًا ورقهما، فإن ورقهما قريب غير متشابه(1/562)
ثمرهما، أو بعضه متشابه ببعض آخر منه في الهيئة، واللون والطعم وبعضه غير متشابه، (انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ): ثمر كل واحد من ذلك، (إِذَا أَثْمَرَ): أخرج ثمره، (وَيَنْعِهِ): وإلى نضجه نظر استدلال بعد أن كان حطَبًا صار عنبًا ورطبًا وبعد أن كان جافًّا تفها صار لذيذًا، (إِن فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ) أي: على كمال قدرته، (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ): يصدقون بالله.
(وَجَعَلُوا لله شُرَكاَءَ الْجِنَّ): عبادة غير الله تعالى، عبادة الشيطان هم جعلوا الشيطان شريكًا له، أو كما قال الثنوية: الله خالق النور، والشيطان خالق الشرور، (وشركاء الجن) مفعول (جعلوا) أو (للهِ) متعلق بـ (شركاء) أو حال منه أو (لله شُرَكَاءَ) مفعولاه، و (الْجِنَّ) منصوب بمقدر، كأنه قيل: من جعلوه شركاء؟ فقال: " الجن "، (وَخَلَقَهُمْ)، حال بتقدير قد والضمير إما إلى الكفار أي: جعلوا غير خالقهم شريكًا لخالقهم، وإما إلى الجن: أي جعلوا المخلوقين شركاء للخالق، (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ): اختلقوا وافتروا، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حال من فاعل خرقوا أي: خرقوا عن عمى وجهالة لا عن فكر وروية، (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ) تعالى عطف على أسبح.
* * *
(بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ(1/563)
فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
* * *
(بَدِيع السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) أي: هو مبدعهما ومحدثهما على غير مثال سبق قيل: من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أي: هو بديع سماواته، وقيل الإضافة حقيقية بمعنى في أي هو عديم النظير فيهما، (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ)، والولد إنما يكون بين متجانسين ولا يناسبه شيء فإنه خالق الأشياء وأين الخالق من المخلوق؟! (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، لم يقل وهو به عليم لأن علمه أشمل من خلقه، (ذلِكُمُ) أي: الموصوف بما سبق من الصفات، وهو مبتدأ، (اللهُ رَبُّكُمْ(1/564)
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، أخبار مترادفة، (فَاعْبُدُوهُ)؛ لأن من له هذه الصفات استحق العبودية، (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ): متولي أموركم فكلوها إليه، (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) أي: في الدنيا أو لا يحيط به الإبصار، فإن الإدراك أخص من الرؤية أو لا يراه أحد على ما هو عليه لا بشر ولا ملك، لكن إذا تجلى بوجه يمكن رؤيته تدركه الأبصار، أو لا يراه جميع الأبصار؛ بل الكفار عنه محجوبون، (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ): يحيط علمه بها ويراها، (وَهُوَ اللَّطِيفُ): بأوليائه، (الْخَبِيرُ):(1/565)
بأعمالهم قيل من باب اللف والنشر أي لا تدركه الأبصار، لأنه لطيف لا كثافة فيه بوجه، وهو يدرك الأبصار؛ لأنه خبير، (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ): البصيرة للقلب كالبصر للجسد أي: جاءتكم بالوحي الآيات البينات، والحجج القرآنية التي هي للقلوب كالبصائر، (فَمَنْ أَبْصَرَ): يرى تلك الآيات وآمن بها، (فَلِنَفْسِهِ): أبصر، وله نفعه، (وَمَنْ عَمِيَ)، فلا يؤمن بها، (فَعَلَيْهَا): فعلى نفسه عمى، وعليها ضره، (وَمَا أَنَا عَلَيْكم بِحَفِيظٍ): أحفظ أعمالكم فأجازيكم إنما أنا منذر والله الحفيظ، وهذا وارد على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم (وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ): مثل ذلك التبيين نبينها ونكررها، (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ)، معلله محذوف أي: وليقولوا درست نصرفها، والدرس القراءة، والتعلم أي: ليقول المشركون درست، وتعلمت من اليهود، ثم تزعم أنه من عند الله عليك يعني لشقاوة بعض كما قال تعالى: " يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا " [البقرة: 26]، فيكون اللام على أصله أو اللام لام العاقبة، وقرئ (دارست) أي: دارست أهل الكتاب وقارءتهم، وقرئ (دَرَسَتْ) أي: قدمت هذه الآيات وعفت كقولهم أساطير الأولين، (وَلِنُبَيِّنَهُ)، الضمير للقرآن أو الآيات باعتبار أنها قرآن أي: كررناه لنبينه، (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي: لهداية المؤمنين، وحاصله تصريف الآيات لشقاوة بعض وسعادة بعض آخر، (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ): بالعمل به، (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) حال مؤكدة (مِنْ رَبِّكَ) أي: منفرداً بالألوهية، (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ: لا تجادلهم، واحتمل أذاهم حتى ينصرك الله فإن لله حكمة في(1/566)
إضلالهم، (وَلَوْ شَاءَ اللهُ): توحيدهم، (مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا): رقيبًا تحفظ أعمالهم وتجازيهم أو تحفظ من عذاب الله، (وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل): تقوم بأمرهم.
(وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ): يعبدون، (مِن دُون اللهِ) أي: أصنامهم، (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا): ظلمًا، (بِغَيْرِ عِلْمٍ): على جهالة بالله يعني سب آلهتهم، وإن كان حقًا لكن فيه مفسدة عظيمة، نزلت حين قالوا: يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا، أو لنهجون ربك أو كان المسلمون يسبون آلهتهم وهم يسبون الله عدوًا، (كَذَلِكَ): مثل ذلك التزيين، (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ): من أمم الكفار، (عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ): بالمجازاة.(1/567)
(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ): أوكدها أي: أقسموا قسمًا غليظًا (لَئِنْ جَاءَتهُمْ آيةٌ): كما لموسى وعيسى، (لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ): لا عندي حتى آتيكم بها (وَمَا يُشْعِرُكُمْ) ابتداء كلام وليس في حيز (قل) و (ما) استفهام إنكار (أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ): تلك الآية التي طلبوها، (لَا يُؤْمِنُونَ) أي: لا تدرون أنهم لا يؤمنون والله يعلم ذلك، ولا ينزلها وقيل: لا مزيدة، وقيل: فيه حذف تقديره: ما يدريكم أنَّهم لا يؤمنون، أو يؤمنون وقيل: إن بمعنى لعل، ومن قرأ إنها بكسر الهمزة على أن الكلام قد تم قبله بمعنى وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بما علم منهم فقال ذلك، والخطاب للمؤمنين أو للمشركين، ويؤيده قراءة التاء في " لا تؤمنون " نزلت حين قالوا: والله لئن تجعل لنا الصفا ذهبًا لنتبعنك أجمعين، (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ): عن الحق لو أنزلنا ما اقترحوا من الآيات فلا يفقهونه عطف على (لا يؤمنون) أو جملة على حيالها، (وَأَبْصَارَهُمْ): فلا يبصرونه، ولا يؤمنون بها، (كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ): بما أنزل من الآيات، (أَوَّلَ مَرَّةٍ): من انشقاق القمر وغيره، أو المراد كما لم يؤمنوا بما أنزلنا على موسى، وعيسى لقوله: " أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ " [القصص: 48]، وعن بعض السلف نقلبهما فلا يؤمنون لو ردوا من الآخرة إلى الدنيا كما لم يؤمنوا به أول مرة في الدنيا، (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ): في كفرهم، وضلالهم متحيرين.
* * *
(وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا(1/568)
هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
* * *
(وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ): فرأوهم عيانًا، (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى): فشهدوا لك، (وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا): جمع قبيل بمعنى كفيل، أو بمعنى جماعات، أو هو مصدر بمعنى القابلة، وهو حال من (كل)، (مَا كَانوا لِيُؤْمِنوا): في حال، (إِلا أَنْ يشَاءَ اللهُ) أي: إلا حال مشيئته، فيبدل طبعهم لتمرنهم في الكفر وسبق القضاء(1/569)
بشقاوتهم، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ): أنَّهم لو أتوا بكل آية لم يؤمنوا، فيقسمون جهد أيمانهم قيل: أو إن أكثر المسلمين يجهلون أنَّهم لا يؤمنون فيتمنون نزول آية طمعًا في إيمانهم، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) أي: كما جعلنا لك عدوًّا جعلنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا، (شَيَاطِينَ): مردة، (الْإِنسِ وَالْجِنِّ) بدل من (عَدُوًّا)، أو أحد مفعولي (جعلنا لِكُلِّ نَبِيٍّ) ظرف (عَدُوًّا)، (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ): يوسوس ويلقى بعضهم بعضًا، (زُخْرُفَ الْقَوْلِ): أباطيله المزينة يغرونهم، (غُرُورًا) أو للغرور، يعني أن مردة الجن يوحون إلى مردة الإنس، ويغرونهم بالإضلال، وهذا هو الأصح، وقال بعضهم: معناه الشيطان الموكل بالجن يوحي، ويعلم الشيطان الموكل بالإنس أباطيل القول في إضلال المسلمين وبالعكس، (وَلَوْ شَاءَ ربُّكَ): ألا يكون لهم عدو، (مَا فَعَلُوهُ) أي: إيحاء الزخارف، (فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ): ولا تغتم أنت منهم، (وَلِتَصْغَى) أي: ولتميل، (إِلَيْهِ): إلى زخرف القول، (أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ)، عطف على (غرورًا) إن جعلته مفعولاً له، وإلا فهو متعلق بمحذوف أي: وجعلنا لكل في عدوا لتصغى، أو تقديره: جعلنا ذلك لمصالح لا تحصى ولتصغى، (وَلِيَرْضَوْهُ): ليحبوه، (وَلِيَقْتَرِفُوا): ليكتسبوا، (مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ):(1/570)
من الآثام، (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا) أي: قل أغير الله أطلب من يحكم بيني وبينكم، و (حكما) حال من غير الله، (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ): القرآن، (مُفَصَّلًا): بين وميز الحق والباطل، (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ): من اليهود والنصارى، (يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ)، لأن وصفه مذكور في كتبهم، (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) في أنه من عند الله، وهذا من باب التحريض، والتهييج، قال تعالى: " فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ " الآية [يونس: 94]، وقد جاءت في الحديث أنه عليه السلام قال حين نزوله: " لا أشك ولا أسأل " أو المراد نهي الأمة، وقيل: معناه لا تكن من الشاكين في أنَّهم يعلمون ذلك، (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ): بلغت الغاية، وعداته وأقضيته، (صِدْقًا): فيما وعد،(1/571)
(وَعَدْلًا): فيما حكم وهو إما حال أو تمييز، (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ): لا راد لقضائه، ولا مغير لحكمه، ولا خلف لوعده، (وَهُوَ السَّمِيعُ). لأقوالهم، (الْعَلِيمُ): لما في صدورهم، (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ): فإن أكثرهم على الضلال، (يُضِلوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ): الموصل إليه، (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ): فإن دينهم ظن وهوى لم يأخذوه عن بصيرة، (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ): يكذبون على الله، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) أي: بمن يضل، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ): أعلم بالفريقين، (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ)، أي: على ذبحه لا مما مات حتف أنفه، ولا مما ذكر عليه اسم غيره، (إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ) فإن الإيمان يقتضي(1/572)
استباحة ما أحله الله لا ما أحله الظن، والهوى، (وَمَا لَكُمْ): أيُّ غرضٍ لكم، (أَلَّا تَأْكلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أي: منه وحده وتأكلوا من غيره، (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ): في " حرمت عليكم الميتة " الآية [المائدة: 3]، (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) (ما) موصولة والاستثناء من ضمير حرم، أو (ما) مصدرية في معنى المدة أي: الأشياء التي حرمت عليكم إلا وقت الاضطرار إليها، (وَإِنْ كثِيرًا لَّيُضِلونَ): بتحليل الحرام وتحريم الحلال، (بِأَهْوَائِهِمْ): بتشهيهم، (بِغَيْرِ عِلْمٍ): غير متعلقين بدليل، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ): المتجاوزين الحق إلى الباطل، (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ): معصية العلن والسر، (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ): يكسبون، (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) الضمير لـ " ما " أو للأكل، وعند بعض السلف إن ذبيحة تركت التسمية عليها عمدًا أو سهوًا حرام، والآية دليلهم وعند بعض التسمية مستحبة، وقالوا: الآية فيما ذبح لغير الله، وقيل: الواو في (وإنه لفسق) حالية، والفسق: ما أهل لغير الله بدليل قوله: " أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ "، وقال بعض منهم المراد من الآية الميتة، وعند كثير من السلف: إن ترك التسمية نسيانًا لا يضر أما عمدًا، فالذبيحة حرام، (وَإِنَّ(1/573)
الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ): يوسوسون، (إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ): من الكفار، (لِيُجَادِلُوكُمْ): يقولون تزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك، والصقر والكلب حلال، وما قتله الله حرام، وهو يؤيد التأويل بالميتة، (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ): في استحلال ما حرم، (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ): فإن اتباع غير الله في الدِّين إشراك وكفر.
* * *
(أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ(1/574)
حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
* * *
(أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا): بالكفر والجهل، (فَأَحْيَيْنَاهُ): بالعلم والإيمان، (وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ): يهتدي كيف يسلك وكيف ينصرف والنور القرآن أو الإسلام، (كَمَنْ مَثَلُهُ): صفته، (فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا): بقي على الضلالة لا يفارقها بحال حال من المستكن في الظرف وحاصله أنه كمن إذا وصف يقال له " في الظلمات ليس بخارج "، فـ (في الظلمات ليس بخارج) خبر مثله على سبيل الحكاية، والجملة صلة من، (كَذَلِكَ): كما زين للمؤمنين الإيمان، (زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) قيل: الآية نزلت في حمزة وأبي جهل، أو في عمر وأبي جهل، أو في عمار بن ياسر وأبي جهل، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا) أي: كما صيرنا فساق مكة أكابرها صيرنا مجرمي كل قرية رؤساءَها، ومترفيها و (أكابر مجرميها) بالإضافة هي المفعول الأول والثاني (في كل قرية) أو (ليمكروا فيها) مفعولاه قيل: جاز أن يكون (أكابر) مضافًا إلى مجرميها مفعوله الأول، و (ليمكروا) مفعوله الثاني، (لِيَمْكُرُوا فِيهَا): لصد الناس عن الهدى، (وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ): فإن وباله يحيط بهم، (وَمَا يَشْعُرُون): ذلك، (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ): دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام، (قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) أي:(1/575)
حتى تأتينا الملائكة بتصديقك كما يأتي إلى الرسل، (اللهُ أَعْلَمُ حَيثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ): استئناف يرد عليهم أنَّهم ليسوا بأهل الوحي والرسالة أي: أعلم بالمكان الذي فيه يضعها، (سَيُصِيبُ الّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَار): ذل وحقارة، (عِندَ اللهِ): يوم القيامة، (وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ): بسبب مكرهم، (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ): يوسع قلبه، (لِلْإِسْلَامِ): للتوحيد وفي الحديث تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآيات قالوا: يا رسول الله ما هذا الشرح؟ قال: " نور يُقذف به في القلب " قالوا: هل لذلك من أمارة؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله "، (وَمَن يُّرِدْ): الله، (أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا): فلا يبقى فيه منفذ للخير، ومكان حرج أي: ضيق كثير الشجر لا تصل إليه الراعية، (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ): أي: مثله في امتناع قبول الإيمان مثل صعود السماء، فإنه ممتنع غير مستطاع أو معناه كأنما يتصاعد إلى السماء هربًا من الإيمان، وتباعدًا عنه، (كَذَلِكَ): كما ضيق الله صدره، (يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ): يسلط الشيطان أو العذاب، (عَلَى الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي: عليهم لعدم إيمانهم، (وَهَذَا): الذي أنت عليه يا محمد، (صِرَاطُ رَبِّكَ): الطريق الذي ارتضاه، (مُسْتَقِيمًا): لا عوج فيه حال، وعامله معنى الإشارة، (قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ(1/576)
لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ): لهم فهم ووعي، (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ): الجنة، لأن فيه سلامة عن الآفات أو السلام من أسماء الله، (عِنْدَ رَبِّهِمْ): في ضمانه أو يوم القيامة، (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ): ناصرهم، (بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ): بسبب أعمالهم، (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا) أي: اذكر يوم نحشر الثقلين قائلين: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ) أي: الشياطين، (قَدِ(1/577)
اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي: من إغوائهم أي: أضللتم كثيرًا، (وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ): محبوهم ومطعوهم، (مِنَ الْإِنْسِ): مجيبين لله عن ذلك، (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ): بعضهم مطاع وبعضهم مطيع، أو كان في الجاهلية إذا نزلوا مفازة قالوا: أعوذ بكبير هذا الوادي، فيفتخر كبير الجن بتعوذ الإنس بهم، ويقولون: نحن سيد الإنس والجن، وهذا هو الاستمتاع، (وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا) أي: القيامة والبعث، وهذا اعتراف بطاعة الشيطان وتكذيب البعث، وتحسر على حالهم، (قَالَ): الله، (النَّارُ مَثْوَاكُمْ): منزلكم، (خَالِدِينَ فِيهَا)، حال، والعامل معنى الإضافة، (إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) أي: هم مخلدون جميع الأوقات إلا مدة حياتهم في الدنيا والبرزخ أو المراد الانتقال من النار إلى أنواع أُخر من العذاب كالزمهرير، وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا نارًا، (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ): في أفعاله، (عَلِيمٌ): بأعمال خلقه.
(وَكَذَلِكَ): كما خذلنا عصاة الجن والإنس حتى استمتع بعضهم ببعض، (نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ): نسلط بعضهم على بعض، كما ورد(1/578)
" من أعان ظالمًا سلطه الله عليه " أو نتبع بعضهم بعضًا في النار أو نكل بعضهم إلى بعض فيغويهم أو نجعل الكافر ولي الكافر أينما كان.
* * *
(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لله مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لله بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لله فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا(1/579)
إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
* * *
(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ) هو الله سبحانه يقرع الكافرين يوم القيامة بهذا السؤال وهو استفهام تقرير، والأصح بل الصحيح أن الرسل من الإنس والجن تبع لهم قالوا نظيره " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " [الرحمن: 22] وهما لا يخرجان من العذب كما سنذكر إن شاء الله تعالى، (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا): يوم القيامة، (قَالُوا): جوابًا، (شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا): أنَّهم قد بلغوا ذلك حين شهدت عليهم جوارحهم قال تعالى: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا): فأعرضوا عن رسلنا ولم يرفعوا إليهم رأسا، (وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ): يوم الميامة، (أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ): في الدنيا، (ذَلِكَ): أي: إرسال الرسل، (أَن لَمْ يَكُن ربُّكَ) خبر ذلك، وأن إما مصدرية أو مخففة، واللام محذوف أي: لأن، أو تقديره الأمر ذلك لأن لم يكن إلخ، (مُهْلِكَ الْقرَى بِظُلْمٍ وأَهْلُهَا غافِلُونَ): أي: لانتفاء كون ربك مهلك أهل القرى بسبب ظلمهم وأهلها غافلون(1/580)
لم ينبهوا برسول كما قال تعالى: " وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا " [الإسراء: 15] أو (بظلم) حال من (ربك)، وحاصله أنه لا يهلكهم دون التنبيه بالرسل والآيات فإنه ظلم والله غير ظلام للعبيد (وَلِكُلٍّ): من المكلفين، (دَرَجَاتٌ): مراتب، (مِمَّا عَمِلُوا): من أعمالهم، (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ): فيخفى عليه خافية.
(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ): عن خلقه من جميع الجهات، (ذُو الرَّحْمَةِ) بهم فلا يعجل بالعقوبة، (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ): إذا عصيتم، (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ): قومًا آخرين يعملون بطاعته، (كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) أي: هو قادر على ذلك كما أذهب القرن الأول وأتى بالذي بعده، (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ): من أمر المعاد، (لَآتٍ): كائن ألبتَّة، (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ): اللهَ في قدرته، (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ): على تمكنكم من أمركم أو على جهتكم، وحالكم التي أنتم عليها، (إِنِّي عَامِلٌ): على ما أنا عليه أي: اثبتوا على الكفر فإني ثابت على الإسلام، وهو أمر تهديد شديد، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ) أي: سوف تعلمون أينا له العاقبة المحمودة، والجنة أو المراد من عاقبة الدار أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، و (من) استفهامية مبتدأ خبره تكون، وفعل العلم علق عنها أو موصولة فهو مفعول (تعلمون) على أنه متعد إلى مفعول واحد بمعنى يعرفون، (إِنَّهُ): إن الشأن، (لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ): لا يسعد من كفر، (وَجَعَلُوا) أي: مشركو العرب، (لِلّهِ مِمَّا ذَرَأَ): خلق، (مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لله بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لله فَهُوَ(1/581)
يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ): كانوا يجعلون من أموالهم نصيبًا لله ومصرفه الضيفان، ونصيبًا لآلهتهم ومصرفه خدم أصنامهم فإن سقط شيء من الثمر مثلاً من نصيب الوثن فيما سمي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن وإن هلك أو انتقص منه شيء أخذوا بدله مما جعلوا لله، وإن سقط شيء من نصيب الله في نصيب الأوثان خلوه أو مات شيء منه لم يبالوا به، وقالوا: الله غني، وهذا معنى قوله: " فما كان لشركائهم " الآية، وفي قوله: " مما ذرأ " إشارة إلى جهلهم بأنهم أشركوا الخالق في خلقه جمادًا، ثم جعلوا له النصيب الأوفر، وقوله: " بزعمهم " إشارة إلى أن هذا مخترعهم ليس من أمر الله، ولا يصل إليه، (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ): حكمهم هذا، (وَكَذَلِكَ): مثل هذا الفعل القبيح، (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ)، فإن الشياطين وهم(1/582)
آلهتهم أمروهم وزينوا لهم وأد أولادهم، ومن قرأ (زُيَّنَ) بالمجهول ورفع القتل، ونصب الأولاد، وجر الشركاء على إضافة القتل إليها، والفصل بينهما يدل على أن هذا الفصل جائز فصيح، والمطعون من طعن فيه، (لِيُرْدُوهُمْ): ليهلكوهم بالإغواء، (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ): ليدخلوا الشك في دينهم، فكانوا على دين إسماعيل فرجعوا عنه بلبس الشيطان، وقيل: دينهم الذي يجب أن يكونوا عليه، (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ) أي: المشركون ما زين لهم، أو الشركاء التزيين، (فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ): ما يختلقون من الكذب على الله، (وَقَالُوا هَذِهِ): إشارة إلى مما جعل للآلهة، (أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ): حرام، (لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ): من رجال خدم الأوثان، (بِزَعْمِهِمْ): لا حرمة من الله، (وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا): كالسائبة والبحيرة والحام، (وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا): يذبحونها باسم الأصنام لا باسم الله، أو لا يحجون على ظهورها، والمعنى أنهم قسموا أنعامهم، فقالوا: هذه حجر، وهذه محرمة الظهور، وهذه لا يذكر عليها اسم الله (افْتِرَاءً عَلَيْهِ)، نصبه على أن قالوا بمعنى افتروا أو حال أي: مفترين أو مفعول له، (سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ): بسبب افترائهم، (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنعَامِ) أي: أجنة البحائر والسوائب، (خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا): نسائنا خاصة للذكور دون الإناث إن ولد حيًّا، (وَإِن يَّكُن مَّيْتَةً فَهُمْ): الذكور والإناث، (فِيهِ شُرَكَاءُ)، وتأنيث خالصة، وتذكير محرم لمعنى ما فإنه الأجنة ولفظه أو التاء للمبالغة، (سَيَجْزِيهِمْ): الله، (وَصْفَهُمْ) أي: جزاء وصفهم الكذب على الله قيل: تقديره على وصفهم، (إِنَّهُ حَكِيمٌ): في فعله، (عَلِيمٌ): بأعمال خلقه، (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ):(1/583)
بناتهم بالوأد، (سَفَهًا): للسفه أو سفهاء، (بِغَيْرِ عِلْمٍ): جاهلين، (وحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ): من البحائر ونحوها، (افْتِرَاءً عَلَى اللهِ): يحتمل المصدر، والحال والمفعول له، (قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ).
* * *
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
* * *
(وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ): أبدع، (جَنَّاتٍ): بساتين من الكروم، (مَعْرُوشَاتٍ):(1/584)
مرفوعات على ما يحملها، (وغير معروشات) قيل: الأول ما غرسه الناس، والثاني ما نبت في البراري، (والنخل والزرع مختلفًا أكله) أي: أكل كل واحد منهما يعني ثمره في الكيفية، والهيئة و (مختلفًا) حال مقدرة، لأنه لم يكن وقت الإنشاء كذلك، (والزيتون والرمان متشابهًا): في النظر، (وغير متشابه): في الطعم قيل: بعض أفرادهما يتشابه في اللون والطعم ولا يتشابه بعضها، (كلوا من ثمره): ثمر كل واحد، (إذا أثمر): وإن لم ينضج، (وآتوا حقه يوم حصاده): هذا شيء كان واجبًا قبل وجوب الزكاة، وعن بعض السلف أنه الزكاة، قيل فيه دليل على رخصة الأكل قبل أداء الزكاة، (ولا تسرفوا): في التصدق أو في الأكل والتصدق أو في البخل فلا تعطوا حق الله، (إنه لا يحب المسرفين): لا يرتضي فعلهم، (ومن الأنعام) عطف على جنات أي: أنشأ من الأنعام، (حمولة): ما يحمل الأثقال، (وفرشًا): ما يفرش المنسوج من شعره أو الصغار منها ولدنوها من الأرض كأنها فرش أو ما يفرش للذبح، (كلوا مما رزقكم الله): من الثمار، والزروع، والأنعام، (ولا تتبعوا خطوات الشيطان): طرائقه وأوامره كما اتبعها المشركون افتراء على الله، (إنه لكم عدو مبين): ظاهر العداوة، (ثمانية أزواج): بدل من حمولة وفرشًا أو مفعول كلوا أو الزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه، (من الضأن): زوجين، (اثئين): الكبش والنعجة، وهو بدل من ثمانية إن جوزنا البدل من البدل، وإلا فمن(1/585)
الضأن بدل من الأنعام واثنين من حمولة وفرشًا، (وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ): التيس، والعنز، (قُلْ): يا محمد، (آلذكَرَيْنِ): من الضأن والمعز، (حَرَّمَ): الله عليكم أيها المشركون، (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ): منهما، (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ) أو ما حملت إناث الجنسين ذكرًا كان أو أنثى كما قالوا " ما في بطون هذه الأنعام خالصة " الآية [الأنعام: 139]، (نَبِّئونِي بِعِلْمٍ): دليل على حرمته، (إن كنتمْ صَادِقِينَ): في دعوى التحريم، (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ) بل أكنتم حاضرين: (إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذا): حين وصاكم بتحريم بعض وتحليله وهذا من باب التهكم، (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ): متلبسًا بغير دليل، (إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، وأول من دخل في هذه الآية عمرو بن لحي فإنه أول من غير دين إسماعيل.
* * *
(قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا(1/586)
حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلله الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
* * *
(قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ): طعامًا، (مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يطْعَمُهُ): يعني أن التحليل والتحريم إنما يعلم بالوحي لا بالهوى، ولا يعلم بالوحي أن شيئًا من الطعام حرام في وقت، (إِلا): في وقت، (أَنْ يَّكُونَ): الطعام، (مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفوحًا): مصبوبًا سائلاً لا كالكبد والطحال، ومن قرأ برفع (مَيْتَةٌ) فعنده كان تامة(1/587)
و (دمًا) عطف على أن يكون أي: إلا وجود ميتة، (أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ): لحمه أو الخنزير، (رِجْسٌ): حرام، (أَوْ فِسْقًا) عطف على لحم خنزير (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) صفة له موضحة، (فَمَنِ اضْطُرَّ): إلى كل شيء من ذلك، (غَيْرَ بَاغٍ): على مضطر مثله، (وَلَا عَادٍ): قدر الضرورة وقد مرَّ معناهما في البقرة، (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ): لا يؤاخذه، والآية دالة على أن ما أُوحي في حرمته إلى تلك الغاية هو ذلك، وهذا لا ينافي التحريم في أشياء أخر بعد هذا، (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ(1/588)
ذِي ظُفُرٍ) أي: حرمنا على اليهود ما لم يكن مشقوق الأصابع كالإبل والنعامة والبط، أو كل ذي حافر، وقيل: كل ذي مخلب من الطير، (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا) أي: حرمنا جميع شحومهما، (إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا): ما علق بالظهر من الشحوم (أَوِ الْحَوَايَا): ما اشتمل على الأمعاء، (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) أي: ما اختلط من الشحوم بالعظام فإنه حلال وأو هاهنا كأو في قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين، وما بقي على الحرمة الثروب وشحوم الكلى، (ذلِكَ): التحريم والتضييق، (جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ): بسبب ظلمهم ومخالفتهم أوامرنا، (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ): فيما أخبرنا من تحريمنا ذلك عليهم كما زعموا أن إسرائيل حرمه، (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ): فيمهلكم، (وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ): عذابه إذا نزل، (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ): فلا تغتروا بالإمهال.
(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ): خلاف ذلك، (مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ): فإن ما لم يشأ لم يكن، وما شاء فهو مرضي مأمور به فأرادوا بذلك أن ما هم عليه مرضى عند الله مأمور به، (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) أي: بهذه الشبهة الداحضة كذب الأمم السالفة أنبياءهم، (حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا): فعلموا(1/589)
أنهم على دين مبغوض غير مرضي أراد الله لهم خزيهم وسوء شكيمتهم، (قُلْ هَل عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ): يدل على رضى الله عنكم فيما أنتم عليه، (فَتُخْرِجُوهُ لَنَا): تظهروه لنا، (إِن تَتبِعُونَ إِلا الظّنَّ): في ذلك لا العلم، (وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُون): تكذبون على الله فإنه منع الشرك، وغضب على المشركين مع أنه لا يجري في ملكه إلا ما يشاء لا يزاحمه أحد تعالى الله عما يقول الجاهلون علوًّا كبيرًا، (قُلْ فَلله الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ): التي بلغت غاية المتانة وهي الكتاب والرسول والبيان، (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) لكن شاء هداية قوم، وضلال آخرين، والمعنى وإذ قد ظهر ألا حجة لكم فلله الحجة لكن لا يهدي الله الكل إليها لعدم مشيئته، وله في ذلك حكم، ومصالح لا يهتدي إليها إلا من هداه الله، (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ): أحضروهم، اسم فعل متعد ويكون لازمًا، (الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا): وهم قدوتهم ليلزمهم الحجة، (فَإِنْ شَهِدُوا): عنادًا، (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ): لا تصدقهم فيه وبين فسادهم، (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) أي: لا تتبعهم فإنهم يكذبون بآياتنا، (وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ): كعبدة الأوثان، (وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ): يجعلون له عديلاً سبحانه!
* * *(1/590)
(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
* * *
(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ): أقرأ، (مَا حَرَّمَ ربُّكمْ عَلَيْكمْ): حقًّا لا ظنًّا ولا تخرصًا متعلق بـ (حَرَّمَ) أو (أَتْلُ)، (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ): (أن) مفسرة يعني أي: لا تشركوا، ولا للنهي، (شَيْئًا) مصدر أو مفعول به، (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أي: أحسنوا بهم، وضع أحسنوا موضع ألا تسيئوا للدلالة على أن عدم الإساءة في شأنهما غير كاف، (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ): من أجل فقر، (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)، بدل من (الفواحش) أي: العلانية والسر فإن المشركين لا يستقبحون الزنا سرًا، (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ): بجهة من الجهات، (إِلَّا بِالْحَقِّ): القود، والارتداد والرجم، (ذَلِكمْ) إشارة إلى المذكور، (وَصَّاكمْ بِهِ): بحفظه، (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ): عنه أمره ونهيه أو ترشدون، (وَلا تَقْربوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالتي هِيَ أَحْسَنُ) أي: إلا بطريقة هي أحسن الطرق كحفظه(1/591)
وتثميره، (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ): حتى يصير بالغًا فادفعوا إليه جمع شده، (وَأَوْفُوا
الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ): بالعدل أي: لا تبخسوهما، (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا): إلا ما يسعها ولا تعجز عنه فإن أخطأ بعد بذل جهَده فلا حرج، (وَإِذَا قُلْتُمْ): تكلمتم في شيء، (فَاعْدِلُوا): في القول لا تجوروا فيه، (وَلَوْ كَانَ): المقول له أو عليه، (ذَا قُربى): من قرابتكم، (وَبعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا): وبوصيته أوفوا فاعملوا بكتابه لا تنكثوه، (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ): تتعظون به، (وَأَنَّ هَذَا) إشارة إلى ما في الآيتين، وقيل إلى ما في السورة، (صِرَاطِي): ديني، (مُسْتَقِيمًا): لا عوج فيه، (فَاتَّبِعُوهُ): عطف على لا تشركوا " وأن هذا صراطي " إلخ علة الاتباع أي: لأن (هذا) إلخ، والجمع بين حرفي العطف الواو والفاء عند تقديم المعمول فصلاً بينهما شائع، (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)، وقيل عطف على لعلكم تذكرون أي وصاكم به لأن هذا ديني المستقيم، (وَلا تَتَّبعُوا السُّبُلَ) أي: الطرق المختلفة التي عدا هذا الطريق، (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ) الباء للتعدية، (عَن سَبِيلِهِ): الذي هو اتباع الحق، (ذَلِكُمْ): الاتباع، (وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ): الضلال، (ثُمَّ آتيْنَا مُوسَى(1/592)
الْكِتَابَ)، عطف على ذلكم وصاكم وثم للتراخي للإخبار، (تَمَامًا): كاملاً جامعًا لما يحتاج إليه، (عَلَى الذِي أَحْسَنَ) أي: جزاءً على إحسانه في الطاعة وتبليغ الرسالة أو تمامًا بمعنى كرامة، ونعمة أي: حال كون الكتاب نعمة على من أحسن القيام به أي: على المحسنين أو معنى تمامًا زيادة أي: حال كون الكتاب زيادة على ما أحسنه من العلم أي: على علمه، (وَتَفْصِيلاً): بيانًا مفصلاً، (لِكلِّ شَيْءٍ): يحتاج إليه عطف على تمامًا، فهو حال، وقيل نصبهما بالعلية أو بالمصدر، (وَهُدًى وَرَحْمَة لَعَلَّهُمْ): بني إسرائيل، (بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ): لكي يؤمنوا بالبعث.
* * *
(وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا(1/593)
كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
* * *
(وَهَذَا) أي: القرآن، (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ): كثير النفع، (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا): مخالفته، (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون): بواسطة العمل به، (أَنْ تَقُولُوا): علة لـ أنزلناه أي: كراهة أن تقولوا، (إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ): اليهود، والنصارى، (مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا) أي: وإنه كنا، (عَنْ دِ رَاسَتِهِمْ): قراءتهم (لَغَافِلِينَ): ما نفهم ما يقولون فإنه ليس بلساننا، (أَوْ تَقُولُوا)، عطف على ما تقولوا، (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ) أي: إن صدقتم فيما(1/594)
قلتم فقد جاءتكم حجة واضحة فيها بيان الحلال والحرام، (وَهُدًى وَرَحْمَةٌ): لمن عمل به، (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ): بعد ما تمكن من معرفته، (وَصَدَفَ عَنْهَا): أعرض أو صدَّ الناس عنها، (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ): بسبب إعراضهم أو صدهم، (هَلْ يَنْظُرُونَ) أهل مكة أي: ما ينتظرون، (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ): لقبض أرواحهم، وهم إن كانوا غير منتظرين لذلك لكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بهم، (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ): المراد يوم القيامة، (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ): كطلوع الشمس من(1/595)
المغرب، (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ): التي تضطرهم إلى الإيمان، (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) صفة نفسًا، (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا): عطَف على، آمنت أي: لا ينفع الكافر إيمانه في ذلك الحين ولا الفاسق الذي ما كسب خيرًا في إيمانه وتوبته، فحاصله أنه من باب اللف التقديري أي: لا ينفع نفسًا إيمانها ولا كسبها في الإيمان إن لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فيه أي: لا ينفعهم تلهفهم على ترك الإيمان بالكتاب، ولا على ترك العمل بما فيه، (قُلِ انْتَظِرُوا): إتيان أحد هذه الثلاث، (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ): له، وعيد شديد (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ): اليهود والنصارى أخذوا بعض ما أمروا وتركوا بعضه، أو أهل الشبهات والبدع من هذه الأمة، (وَكَانُوا شِيَعًا): فرقًا بعضهم يكفر بعضًا، وقد ورد " ستفترق أمتي على ثلات وسبعين كلها في النار إلا واحدة "، (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ): لست من عقابهم في شيء، ومن قال: إنه نهي عن التعرض لهم، فعنده الآية منسوخة وإذا كان المراد هذه الأمة فيحتمل أن يكون معناه أنت بريء منهم، (إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ): بالعقاب، (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) أي: عشر(1/596)
حسنات أمثالها فضلاً من الله، وهذا أقل ما وعد لا ينقص منه، (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) أي: إلا جزاء مثلها لا يضاعف، (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ): بنقص الثواب، وزيادة العقاب، (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي): بالوحي، (إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا) أعني دينًا أو بدل من محل (صراط) إذ معناه وهداني صراطًا: (قِيَمًا)، مصدر بمعنى القيام أي: قائمًا ثابتًا لا زوال له كرجل عدل، (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ)، عطف بيان لـ (دينًا) لما في الإضافة من زيادة التوضيح، (حَنِيفًا): مائلاً عن غير الصواب حال عن إبراهيم فإنه بمنزلة الحال من المضاف الذي هو معمول الفعل، (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ): كما يقول المشركون، (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي): الذبح في الحج والعمرة وقيل: عبادتي (1) كلها، (وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي) أي: حياتي وموتي، (لله رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي: ملك له، وهو خالقه فأنا خالص في العبادة لا شرك أو ما أنا عليه في حياتي ومماتي من الإيمان والطاعة خالص له، (لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ): القول والطريق، (أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ): من هذه الأمة، (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) غير الله حال من ربًا والهمزة للإنكار، (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)، حال في موقع العلة،
__________
(1) في الأصل " عبادة " والتصويب من تفسير البيضاوي.(1/597)
(وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا)، فإثم الجاني عليه لا على غيره، (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى): لا تؤخذ نفس آثمة بإثم نفس أخرى، وهذا جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم قائلين: " اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ " [العنكبوت: 12]، (ثُمَّ إِلَى ربَِّكُم مَّرْجِعُكُمْ): يوم القيامة، (فَيُنَبِّئُكُم بمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) فتعلموا أننا على الحق أو أنتم، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ). يا أمة محمد، (خَلائِفَ الأرْضِ): خلفاء الأمم السالفة، وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة، لأنه يخلفه في الأرض، وقيل: يخلف بعضكم بعضًا أو خلفاء الله في أرضه تتصرفون فيها فالخطاب عام، (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ): بالغنى والرزق منصوب على التمييز أو بدل من بعضكم أو بنزع الخافض أي: بدرجات، (لِيَبْلُوَكُمْ): ليختبركم، (فِي مَا آتَاكُمْ): يمتحن الغني في غناه، ويسأله عن شكره والفقير في فقره ويسأله عن صبره، (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ): بمن عصاه، وخالف رسله وكل ما هو آت قريب، (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ): لمن والاه واتبع رسله.
والحمد لله حقَّ حمده ..(1/598)
سورة الأعراف مكية إلا ثمان آيات
من قوله " وَاسْأَلْهُمْ " إلى قوله " وَإِذْ نَتَقْنَا " وقيل إلى قوله " وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ " وآياتها مائتان وست.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة الأعراف
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
* * *
(المص كِتَابٌ) أي: هو كتاب أو خبر (المص) إن كان اسم سورة (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) صفته، (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي: شك ونهيه عنه للمبالغة،(1/599)
أو نهي لأمته أو ضيق قلب من تبليغه مخافة التكذيب (لِتُنذِرَ بِهِ) متعلق بأنزل أو بـ فلا يكن فإنه إذا لم يكن ذا حرج كان أجسر على الإنذار (وَذكْرَى) موعظة، (لِلْمُؤْمِنِينَ) تقديره: لتنذر به الكافرين ولتذكر ذكرى للمؤمنين أو عطف على محل تنذر، أو عطف على كتاب (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) اتبعوا أوامر الله ونواهيه، (وَلا تَتَّبعُوا مِن دُونِهِ): من دون ربكم، (أَوْلِيَاءَ) من الجن والإنس فيضلوكم (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) تتعظون اتعاظًا قليلاً وما مزيدة لتأكيد القلة (وَكَم مِّن قَريةٍ) كثيرًا منها (أَهْلَكْنَاهَا) بالعذاب لمخالفة الرسل، أي: أردنا إهلاك أهلها (فَجَاءَهَا بَأْسُنَا) عذابنا (بَيَاتًا) بايتين ليلاً (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) عطف على بياتًا فإنه حال من القيلولة، أي: الضحى وكلا الوقتين وقت غفلة واستراحة فالعذاب فيهما أفظع (فمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ) دعاؤهم وقولهم (إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) أي: أقروا بحقية العذاب تحسرًا (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِليهم) عن إجابتهم الرسل (وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) عن إبلاغ الرسالة وعما أجيبوا به(1/600)
(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ) على الرسل والأمم يخبر عباده بما عملوا من جليل وقليل (بِعِلْمٍ) عالين بجملته (وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) عنهم فيخفى علينا (وَالْوَزْنُ) أي: للأعمال (يَوْمَئِذٍ) يوم السؤال (الْحَقُّ) العدل ووزن الأعمال بتقليبها أجسامًا أو بوزن(1/601)
صحيفة الأعمال أو صاحب الأعمال، قيل: تارة توزن الأعمال وتارة صحيفتها وتارة صاحبها جمعًا بين الأحاديث، ويومئذ خبر الوزن والحق صفته. (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) جمع موزون أي: أعماله مطلقًا أو ميزان وجعه على الثاني باعتبار كثرة الموزون.
(فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلحُونَ) الفائزون الناجون.
(وَمَنْ خَفتْ مَوَازَينُهُ فأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ) بتضييع الفطرة السليمة. (بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) فينكرونها. (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) بالتمليك والتصرف والقدرَة. (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) أسباب تعيشون بها. (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) أي: شكرًا قليلاً، وما مزيدة.
* * *
(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ(1/602)
لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
* * *
(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) خلق آدم من طين غير مصور ثم صوره نزل خلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويره، لأنه أبو البشر، أو خلقناكم يا بني آدم ثم صورناكم في أرحام أمهاتكم أو صورناكم في ظهر آدم أو يوم الميثاق حين أخرجهم(1/603)
كالذر، أو خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء، وعلى هذا (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ): للتراخي في الإخبار.
(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) وقد مر الكلام في أن المأمور به جميع الملك، أو ملائكة الأرضين وأن إبليس منهم، أو من الجن (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) منع بمعنى أحوج واضطر؛ لأن الممنوع عن شيء مضطر إلى خلافه، أي: ما أحوجك إلى عدم السجدة؟ أو لا زائدة مؤكدة معنى الفعل الداخلة هي عليه والسؤال للتوبيخ (إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) كأنه قال: المانع أني خير منه.
(خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) والنار ألطف وأنور، فقاس وقصر النظر بالعنصر، وما نظر إلى تشريف خلقه بيده ونفخ روحه فيه، وأخطأ في القياس أيضًا؛ فإن (مِنْ طِينٍ) الحلم والوقار والرزانة والصبر وهو محل النبات والنمو، ومن النار الإهلاك والطيش والسرعة والارتفاع.
(قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا) من الجنة أو من السماء أو من منزلتك (فمَا يَكُونُ لَكَ) ما يستقيم (أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) ممن أهانه الله لكبره.(1/604)
(قَالَ أَنظِرْنِي) أمهلني فلا تمتني (إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) إلى ابتداء القيامة وهي النفخة الثانية فتموت حين موت الخلائق.
(قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) أي: بسبب إغوائك إياي أقسم بالله لأقعدن لهم كما يقعد القطاع للسابلة طريق الإسلام والباء متعلق بأقسم القدر، ولأن لام القسم مانع من تعلقه بأقعدن، ونصب صراط على الظرف، أو تقديره على صراطك (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) من قبل آخرتهم فأشككهم فيها أو دنياهم (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) دنياهم أزين لهم أو آخرتهم (وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ) من قبل حسناتهم، (وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ) قبل سيآتهم، أو المراد من أي وجه ممكن، (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) مطيعين، وإنما قاله ظنًّا وقياسًا، ولقد صدق عليهم إبليس ظنه.
(قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا) معيبًا، والذأم: أشد العيب (مَدْحُورًا) مطرودًا، (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) لام توطئة القسم وجوابه (لأمْلأَن جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) وهو ساد مسد جواب الشرط.
(وَيَا آدَمُ) أي: قلنا (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) وقد مر الخلاف في الشجرة (فَتَكُونَا) يحتمل النصب على الجواب، والجزم على العطف (مِنَ الظَّالِمِينَ).(1/605)
(فوَسْوَسَ لَهُمَا) فعل الوسوسة لأجلهما (الشَّيْطَانُ) والوسوسة حديث يلقيه في القلب (لِيُبْدِيَ لَهُمَا) ليظهر لهما، واللام إما للعاقبة وإما للغرض، فإن اللعين يعلم أن العصيان في الجنة سبب لسلب اللباس والفضيحة (مَا وُورِيَ عَنْهُمَا) ما غطى عنهما وستر (مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا) أكل (عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا) كراهة (أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ) يحصل لكما ما للملائكة من القوة والاستغناء عن الغذاء وغيره (أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) في الجنة (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) أي: أقسم لهما على ذلك، و " لكما " متعلق بـ الناصحين على حذف المفسر، أو التوسع في الظرف (فَدَلَّاهُمَا) خدعهما (بِغُرُورٍ) بما غرهما به من القسم (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ) وجد طعمها (بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا) بأن تافت عنهما لباسهما
(وَطَفِقَا) أخذا (يَخْصِفَان) يلزقان (عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ) أشجار (الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) الهالكين، والأصح أن هذه كلمات تلقاها آدم من ربه فتاب عليه(1/606)
(قَالَ اهْبِطُوا) الخطاب لآدم وحواء وإبليس والحية (1) والعمدة في العداوة آدم وإبليس كما قال تعالى في سورة طه " اهبطا منها جميعًا " [طه: 123]، أو الخطاب لآدم وحواء وذريتهما (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُو) في موضع الحال أي: متعادين لكم (وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ) موضع قرار (وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) وتمتع إلى آجال معلومة (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) يوم القيامة.
* * *
(يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
* * *
___________
(1) ما ورد في أمر الحية من الإسرائيليات المنكرة. والله أعلم.(1/607)
(يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ) أي: خلقنا لكم ولما كان بقضاء سماوي، وأسباب من السماء قال: (وأنزلنا) وكم مثله في القرآن (لِبَاسًا يُوَارِي) يستر (سَوْءَاتِكُمْ) فأغناكم عن خصف الورق (وَرِيشًا) مالاً أو ما يتجمل به من الثياب، أو جمالاً (وَلِبَاسُ التَّقْوَى) خشية الله أو الإيمان أو العمل الصالح، أو العفاف، أو هو اللباس الأول يعني لباسًا يواري عوراتكم، أو لباس الحرب وهو مبتدأ (ذلِك خَيْرٌ) خبره (ذلِكَ) أي: خلق اللباس (مِنْ آيَاتِ اللهِ) الدالة على فضله (لَعَلَّهُمْ يَذكرونَ) يتعظون فيتورعون عن كشف العورة.
(يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) لا يضلنكم (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ) فتنهما فأخرجهما (مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا) حال من أبويكم أو من فاعل أخرج، والشيطان سبب الإخراج والنزع (لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا) فإن كل واحد منهما ما رأى عورة صاحبه قط (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) جنوده (مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) تعليل للنهي فإن عدوًا يراك ولا تراه لشديد المؤنة (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ) أحباء (لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) فإنهم متابعوهم، أو سلطناهم عليهم ليزيد غيهم(1/608)
(وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) ككشفهم عورتهم في الطواف نسائهم ورجالهم (قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا) على تلك الفعلة المتناهية في القبح (آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا) اعتقدوا أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع (قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) فإنه لا يأمر إلا بما لا ينفر عنه الطبع السليم، ولا يستعيبه العقل المستقيم (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) بالعدل لا الإفراط ولا التفريط (وَأقِيمُوا) عطف على أمر ربي، ومثله شائع (وُجُوهَكمْ عِنْدَ كلِّ مَسْجِدٍ) استقيموا في العبادة في محالها وهي متابعة الأنبياء أو وجهوا وجوهكم إلى الكعبة في الصلاة حيث كنتم، أو صلوا في أي مسجد كنتم فيه إذا حضرت الصلاة ولا تؤخروها إلى مساجدكم (وَادْعُوهُ مخلصينَ) فلا تقبل عبادة إلا إذا كانت موافقة للشريعة خالصة (لَهُ الدِّينَ) الطاعة (كَمَا بَدَأَكُمْ) أنشأكم ابتداء (تَعُودُونَ) بإحيائكم وإيجادكم بعد موتكم وفنائكم أو كما خلقكم مؤمنًا وكافرًا تعودون مؤمنًا وكافرًا (فَرِيقًا هَدَى) فوفقهم للإيمان (وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) وانتصابه بمقدر(1/609)
تفسيره ما بعده، أي: وفريقًا أضل (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ) فيتبعونهم (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ) ثيابكم التي تستر عورتكم (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) بصلاة وطواف (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) نزلت حين كان بنو عامر لا يأكلون دسمًا في أيام حجهم، ولا يأكلون إلا قوتًا فقال المسلمون: نحن أحق أن نفعل ذلك، أي: كلوا ما طاب (وَلَا تُسْرِفُوا) بتحريم الحلال (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ) لا يرتضي فعل (الْمُسْرِفِينَ) المعتدين حده في حلال أو حرام، أو معناه لا تسرفوا بإفراط الطعام والشراب.
* * *
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي(1/610)
فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
* * *
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ) التي حرمتموها على أنفسكم في الطواف (الَّتِي أَخْرَجَ) من النبات والحيوان والمعادن كالقطن والحرير والدروع (لِعِبَادِهِ وَالطّيِّبَاتِ مِن الرِّزقِ) المستلذات من المآكل والمشارب كما حرمتم من عند أنفسكم في أيام الحج (قُلْ هِيَ) أي: الطيبات مخلوقة (لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنيَا) بالأصالة والكفرة شريكهم تبعًا (خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) لا يشاركهم الكافرون وقيل: خالصة في الآخرة من التنغيص والغم خلافًا للدنيا، ونصبه على الحال من المستكن في الظرف (كَذَلِكَ) كتفصيلنا هذا الحكم (نفَصِّلُ) جميع (الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أن الله هو الذي يحرم ويحلل أو لقوم غير جاهلين (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ) ما تزايد قبحه كالكبائر (مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) جهرها وسرها (وَالْإثْمَ) كل ذنب، أو الصغائر أو(1/611)
الخمر (وَالْبَغْيَ) الظلم (بِغَيْرِ الْحَقِّ) متعلق بالبغي مؤكد له معنى (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) برهانًا ومن المحال إنزال البرهان على الإشراك فيكون هذا تهكمًا واستهزاء (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) بالافتراء عليه (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) كذبت رسولها (أَجَلٌ) وقت معين لنزول العذاب والاستئصال (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) أي: إذا جاء وقت العذاب لا يتأخر ولا يتقدم أقصر وقت، ويصل إليهم في ذلك الوقت المقدر، أو لا يطلبون التأخر والتقدم؛ لشدة الهول (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) إن حرف شرط وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي) التي فيها الفرائض والأحكام (فَمَنِ اتَّقَى) الشرك منكم (وَأَصْلَحَ) عمله (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في الآخرة (وَلا هُمْ يَحْزنونَ) وهذا الشرط والجزاء إما يأتينكم (وَالّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) منكم عطف على من اتقى (وَاستَكْبَرُوا عَنْهَا) فتركوا العمل بها (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا) تَقَوَّل عليه ما لم يقله (أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) أو كذب ما قاله (أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ) ينالهم(1/612)
ما كتب عليهم وهو قوله: " وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ " [الزمر: 60]، أو ما وعدوا في الكتاب من خير وشر أو ما أثبت لهم في اللوح المحفوظ أو مما كتب لهم من العمل والرزق والعمر (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا) ملكْ الموت وأعوانه (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) أي: أرواحهم حال من الرسل (قَالُوا) جواب إذا (أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) ما موصولة أي: أين الآلهة التي كنتم (تَدْعُون) تعبدونها (مِنْ دُونِ اللهِ) وهو سؤال وتقريع (قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا) غابوا فلا نراهم ولا ننتفع بهم (وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ قَالَ) الله لهم يوم القيامة (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) أي: ادخلوا في النار كائنين في زمرة أمم تقدم زمانهم أي: كفار الجن والإنس (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ) في النار (لَعَنَتْ أُخْتَهَا) في الدين التي ضلت بالاقتداء بها (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا) تلاحقوا واجتمعوا (فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ) دخولاً في النار (لأُولاهُمْ) أي: لأجل أولهم دخولاً، أي: الأتباع للمتبوعين، فإن المتبوع دخل قبل التابع، لأنه أشد جرمًا، أو آخر كل أمة لأولها، أو أهل آخر الزمان لأولهم الذين شرعوا لهم ذلك الدين (رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا) أي: سنوا لنا الضلال فاقتدينا بهم (فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا) مصاعفًا (مِنَ النَّارِ) أي: أضعف عليم العقوبة (قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ) أي: لكل واحد(1/613)
ضعف من عذاب جهنم في هذا الحين، أو لكل عذاب لا مزيد له، أو عذاب ضعف ما يتصور أحدكم في شأن الآخر (وَلَكِن لَا تَعْلَمُون) ما لكل فريق منكم من العذاب.
(وَقَالَتْ أُولَاهُمْ) القادة (لِأُخْرَاهُمْ) الأتباع (فَمَا كاَنَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْل) رتبوا هذا الكلام على قول الله يعني: أن القادة لما سمعوا قوله تعالى: (لكل ضعف) قالوا للسفلة: ما لكم فضل علينا فإنا متساوون في الضلال والعذاب (فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتمْ تَكْسِبُونَ) من قول القادة، أو من قول الله.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
* * *(1/614)
(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا) أي: عن الإيمان بما (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ) لأرواحهم (أَبْوَابُ السَّمَاءِ) بل يُهوَى بما إلى السجين أو لا يصعد لهم عمل صالح ولا دعاء (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) أي: حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة وذلك مما لا يكون فكذا ما توقف عليه (وَكَذَلِكَ) مثل ذلك الجزاء الفظيع (نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ) فراش (وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) لحاف جمع غاشية (وَكَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ) سماهم مرة ظالمًا ومرة مجرمًا؛ لتعدد قبائحهم وتكثرها (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) " لا نكلف " جملة معترضة بين المبتدأ والخبر للترغيب والإعلام بأن هذه المرتبة الجليلة ممكنة الوصول إليها بسهولة (وَنزَعْنَا) أخرجنا (مَا في صُدُورِهِم مّنْ غِلٍّ) حسد وحقد كان بينهم في الدنيا فلم يبق بينهم إلا التواد (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ) تحت منازلهم (الْأَنْهَارُ وَقَالُوا) لما رأوا تلك النعمة (الْحَمْدُ لله الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا) لعملٍ هذا ثوابه (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ) اللام لتوكيد النفي ويدل ما قبل لولا على جوابه (لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) فحصل لنا هذه النعمة بإرشادهم (وَنُودُوا أَن تِلْكُم الْجَنَّةُ) إذا رأوها من بعيد، أو بعد دخولها، وأن هي المخففة أو مفسرة فإن المناداة من القول (أورِثْتُمُوهَا) حال من الجنة أو خبر والجنة صفة (بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون)(1/615)
أعطيتموها بلا تعب كالميراث، أو ميراثكم من أهل الجنة، فقد ورد " ما من أحد إلا وله منزل في الجنة وفي النار، والكافر يرث المؤمن منزله من النار والمؤمن الكافر من الجنة " (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ) تبجحًا بحالهم وشماتة بالكفرة (أَن قَد وَجَدْنَا) يحتمل المخففة والتفسير (مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا) في الدنيا من الثواب (حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ) من العذاب وأهوال الآخرة (حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذنَ مُؤَذِّنٌ) نادى مناد (بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) " أن " كما مر (الَّذِينَ يَصدُّونَ عَن سبِيلِ اللهِ) صفة الظالمين أي: يمنعون الناس عن اتباع شرعه (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) زيغًا وميلاً حتى لا يتبعها أحد (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ) بين الجنة والنار حاجز يمنع من وصول أهل النار إلى الجنة، وهو الأعراف (وَعَلَى الأعْرَافِ) وهو السور المضروب بينهما (رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا) من أهل الجنة والنار (بِسِيمَاهُمْ) بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها قبل دخول أهل الجنةِ الجنةَ والنارِ النارَ وَبَعَّدَه لارتفاع محلهم وإشرافهم، وبإعلام الله تعالى إياهم فهم يعرفونهم بأشخاصهم، والأصح بل الصحيح أنهم قوم استوت حسناتهم وسيآتهم (وَنَادَوْا) عطف على يعرفون (أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) وأن مثل ما مر (لَمْ يَدْخُلُوهَا) استئناف (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) في دخولها عطف، أو حال من النفي أي: هم عند عدم الدخول(1/616)
كانوا طامعين (وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ) فيه إشارة إلى أن نظرهم إلى أصحاب النار لا برغبة منهم وميل (تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) في النار.
* * *
(وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
* * *(1/617)
(وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالاً) من الكفرة (يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهمْ) من رؤساء الكفرة يقولون: يا وليد بن المغيرة يا أبا جهل يا فلان يا فلان (قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) لم تنفعكم كثرتكم أو جمعكم المال (وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرونَ) عن الحق (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) من تتمة قول أهل الأعراف لأولئك الكفار، والإشارة إلى ضعفاء الجنة التي كانت الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون أنَّهم لا يدخلون الجنة (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أي: ثم يقال لأهل الأعراف ذلك، أو لما عير أهل الأعراف أهل النار قال أهل النار: إن دخل هؤلاء الجنة فوالله أنتم لا تدخلونها تعييرًا لهم فقال الملائكة: أهؤلاء أي: أهل الأعراف الذين أقسمتم يا أهل النار أنه لا ينالهم الله برحمته؟!، ثم قالت الملائكة لهم " ادخلو الجنة " الآية (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ) ألقوا علينا (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من الطعام (قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا) أي: ماء الجنة وطعامها (عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا) فاستهزءوا به أو جعلوا اللهو واللعب دينهم، وهو ما زين لهم الشيطان كتحريم البحيرة والتصدية وغيرهما (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) فتركوا الآخرة (فَالْيَوْمَ نَنسَاهمْ) نعاملهم معاملة الناسين فنخليهم في جهنم (كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا) فلم يستعدوا له (وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) وكما كانوا منكرين أنه من عند الله.(1/618)
(وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ) قرآن (فَصَّلْنَاهُ) بينا مواعظه وأحكامه (عَلَى عِلْمٍ) منا بما فصلناه به حال من المفعول (هُدًى وَرَحْمَةً) نصبهما بالحال من المفعول (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ) ينتظرون (إِلا تَأوِيلَهُ) ما يئول إليه أمر الكتاب من صدق وعده ووعيده وكذبهما (يَوْمَ يَأتِي تَأوِيلُهُ) وهو يوم القيامة (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ) تركوا الإيمان به والعمل له (مِن قَبْلُ) قبل إتيانه أي: في الدنيا (قَدْ جَاءَتْ رُسُل ربنَا بِالْحَقِّ) ونحن كذبناهم (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا) اليوم (أَوْ نُرَدُّ) أي: هل نرد إلى الدنيا؛ (فَنَعْمَلَ) جواب هل نرد (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بصرف العمر في الكفر (وَضَلَّ) غاب وبطل (عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أي: لم ينفعهم آلهتهم.
* * *
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي(1/619)
أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
* * *
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي: في مقدار ستة أيام الدنيا أو أيام الآخرة كل يوم ألف سنة (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)(1/620)
أجمع السلف على أن استواءه على العرش صفة له بلا كيف نؤمن به ونكل العلم إلى الله تعالى وليس المراد منه خلق العرش بعد السماوات والأرض كما فسر بعض العلماء (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ) يغطيه به وفيه حذف، أي: ويغشى النهار الليل ولم يذكر للعلم(1/621)
به (يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) يعقبه سريعًا كالطالب له لا يفصل بينهما شيء، والجملة حال من النهار وحثيثًا صفة مصدر، أي: طلبًا سريعًا (وَالشَّمْسَ) عطف على السماوات (وَالْقَمَرَ وَالنجُومَ مُسَخَّرَاتٍ) نصب على الحال (بِأَمْرِهِ) بقضائه وتصريفه (أَلا لَهُ الْخَلْقُ) لا خالق إلا هو (وَالأمْرُ) لا يجري في ملكه إلا ما يشاء (تَبَارَكَ اللهُ) تعالى وتعظم (رَبُّ الْعَالَمِينَ).
(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضرعًا وَخُفْيَةً) أي: ذوي تذلل واستكانة وخفية، فالأصح أنه يكره الصياح والنداء في الدعاء (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) المتجاوزين في شيء أمروا به ومنه الإطناب في الدعاء بمثل مسألة الجنة ونعيمها وإستبرقها وقصورها وأمثال ذلك (وَلا تُفسِدُوا في الأرضِ) بالشرك والمعاصي (بَعْدَ إِصْلاحِهَا) ببعث الأنبياء، وقيل: لا تفسدوا بالمعاصي فإن من شؤمها يمسك المطر فتخرب الأرض بعدما كانت مخضرة (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا) من عقابه وثوابه حالان من الفاعل (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) المطيعين في أمره ونهيه لم يقل قريبة، لأن الرحمة بمعنى الثواب ولاكتساب المرجع التذكير من المضاف إليه كما صرح الزمخشري في " ما إن مفاتحه لينوء " [القصص: 76]، بالياء التحتانية (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا) جمع بشير(1/622)
يبشر بالمطر، أي: باشرات، أو للبشارة، ومن قرأ نُشُرًا بالنون وضمها وشين مضمومة أو ساكنة أو فتح النون وسكون الشين فمن النشر أي: ناشرات للسحاب الثقال (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) قدام المطر قيل: الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه (حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ) حملت الرياح (سَحَابًا) أي: سحائب (ثِقَالًا) بما فيها من الماء (سُقْنَاهُ) أي: السحاب (لِبلَدٍ ميِّتٍ) لأجل أرض لا نبات فيها (فَأَنْزَلْنَا بِهِ) بالبلد أو بسبب السحاب (الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ) بسبب الماء أو بالبلد فالباء للظرفية (مِن كُلِّ) أنواع (الثمَرَاتِ كَذَلِكَ) مثل إخراج الثمرات وإحياء البلد (نُخْرِجُ الْمَوتى) من قبورهم بعد إحيائهم (لَعَلكُمْ تَذَكرُونَ) أن من قدر على ذلك قدر على هذا (وَالْبلَدُ الطيِّبُ) أي: أرض كريمة التربة (يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) بمشيئته وتيسيره سريعًا حسنًا (وَالذِي خَبُثَ) ترابه (لا يَخْرُجُ) أي: نباته حذف المضاف وأقيم المضاف إليه، أي: الضمير المجرور مقامه فصار مرفوعًا مستترا (إِلَّا نَكِدًا) بطيئًا عديم النفع ونصبه على الحال (كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ) نبينها مكررًا (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) فيتفكرون في الآية وهذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر.
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا) جواب قسم محذوف (نوحًا إِلَى قَوْمِهِ) لما ذكر قصة آدم في أول السورة شرع في قصص الأنبياء (فقَالَ يَا قَوْمِ اعبدُوا اللهَ) أي: وحده (مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) صفة إله باعتبار محله (إِني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) القيامة(1/623)
(قَالَ الْمَلأ) أي: الأشراف والسادة (مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مبِينٍ) بين لأنك تركت دين آبائك (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) أي: أقل ما يطلق عليه اسم الضلال (وَلَكِنِّي رَسُولٌ من ربِّ الْعَالَمِينَ) ثابت على الصراط المستقيم (أبَلِّغُكُمْ) صفة لرسول أو استئناف (رِسَالاتِ ربي وَأَنصَحُ لَكُمْ) يقال نصحته ونصحت له (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ) من جهته بالوحي (مَا لا تَعْلَمُون) من صفات لطفه وقهره (أَوَعَجِبْتُمْ) الهمزة للإنكار، أي: أكذبتم وعجبتم من (أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ) موعظة (مِن ربكُمْ عَلَى) لسان (رَجُلٍ مِنْكُمْ) من جنسكم (لِيُنذِرَكُمْ) عاقبة المعاصي (وَلِتَتَّقُوا) من المعصية بسبب الإنذار (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بالتقوى (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) ظرف معه أي: صاحبوه في الفلك، أو حال من ضمير معه، أو من الموصول، والأصح أنَّهم ثمانون (وَأَغرَقنا) بالطوفان (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ) عمى القلوب عن معرفة الله تعالى.
* * *
(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا(1/624)
لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
* * *
(وَإِلَى عَادٍ) أي: إلى قومه عطف على " نوحًا " (أَخَاهُمْ) في النسب، أو واحد منهم كقولك: يا أخا العرب (هُودًا) عطف بيان لـ أخاهم (قَالَ يَا قَوْمِ اعبدُوا الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتقُونَ) عذاب الله (قَالَ الْمَلأ) الأشراف (الذِين كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ) ومن أشرافهم من آمن به (إِنَّا لَنَرَاكَ في سَفَاهَةٍ) في خفة عقل (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي) كامل العقل لأني(1/625)
(رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ ربِّي وَأَنَا لَكمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) على الرسالة لا أكذب فيها (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) قد مر تفسيره قريبًا فلا نعيده (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نوحٍ) في مساكنهم أو في الأرض بأن أخذ منهم وأعطاكم (وَزَادَكمْ في الْخَلْق بَصْطَةً) قامة وقوة (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) تعميم بعد تخصيص (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بسبب ذكر النعم وشكره (قَالُوا أَجِئْتَئنا) مجاز من القصد والتعرض أي: أقصدتنا (لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) من الأصنام (فَأتِنَا بِمَا تَعِدُنَا) من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في الوعد (قَالَ قَدْ وَقَعَ) وجب وحق أو جعل متحقق الوقوع كالواقع (عَلَيْكُمْ مِنْ ربِّكمْ رِجْسٌ) عذاب (وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ) أي: في أشياء ما هي إلا أسماء أحدثتموها فما هي إلا من موضوعاتكم ومخترعاتكم وليس تحتها مسميات، فإن معنى الإلهية فيها بالكلية منتف فكيف تتخذونها إلها (مَا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) ما جعل الله لكم في عبادتها حجة ولا دليلاً (فانتَظِروا) أمر الله تعالى (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) حتى تروا حالكم وحالنا (فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا(1/626)
دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) أهلكناهم عن آخرهم واستأصلناهم (وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ) والناجي في الدارين المؤمنون.
* * *
(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ(1/627)
أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
* * *
(وَإِلَى ثَمُودَ) أي: إلى قبيلته (أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ) معجزة (مِنْ ربِّكُمْ) على صدقي (هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيةً) استئناف يبين البينة وإضافة الناقة إلى الله؛ لأنها جاءت من عنده بلا سبب معهود، فإنها خرجت من الصخرة يوم عيدهم بمحضرهم حين سألوا تلك المعجزة وعهدوا أن يؤمنوا به بعد ما تظهر، ونصب آية على الحال والعامل معنى الإشارة (فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ) من الضرب والطرد والأذى (فَيَأخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) جواب للنهي (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ) في مساكنهم (وَبَوَّأَكُمْ) سكنكم (فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا) تبنون القصور من سهولة الأرض مما تصنعون منها من اللبن والآجر (وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا) كانوا يثقبون في الجبال ويسكنون في الشتاء فيها لتنعمهم، ونصب بيوتًا على الحال المقدرة، لأن الجبل ما كان بيتًا في حال النحت، أو تقديره من الجبال(1/628)
بيوتًا (فَاذْكرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا) العثي: أشد الفساد (فِي الأرْضِ مُفْسدِينَ) أي: لا تبالغوا في الفساد في حال فسادكم (قَالَ الْمَلأ) الأشراف (الَّذِينَ استَكْبَرُوا) عن الإيمان (مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استُضْعِفوا) أي: الرعايا (لِمَنْ آمَن مِنْهمْ) بدل من للذين بدل البعض؛ لأن ضمير منهم راجع إلى للذين فإن المستضعفين كثيرون والمؤمنون أربعة آلاف (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) قيل قالوه على الطنز والسخرية. (قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) عدلوا به عن مثل نعم إشارة إلى أن إرساله معلوم مسلم إنما الكلام في الإيمان به ونحن مؤمنون (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) فما سلموا إرساله الذي ادعوا ظهوره (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) نحروها وكلهم راضون بنحرها فأسند الفعل إلى جميعهم (وَعَتَوْا) استكبروا (عَنْ) قبول (أَمْرِ ربهِمْ وَقَالوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا) من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهمُ الرَّجْفَةُ) الزلزلة فإنه كان عذابهم صيحة من السماء وزلزلة من الأرض تقطعت قلوبهم في صدورهم (فأَصْبَحُوا في دَارِهِمْ) أرضهم ومسكنهم (جَاثِمِينَ) خامدين ميتين (فَتَوَلَّى) أعرض (عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) خاطبهم به بعد هلاكهم كما خاطب نبينا - عليه الصلاة والسلام - قليب بدر بقوله " هل وجدتم ما(1/629)
وعد ربُّكم حقًا " قيل: ويجوز أن يتولى عنهم ويقول ذلك حين مقدمة نزول العذاب وهذا كما قال بعضهم في الآية تقديم وتأخير.
(ولوطًا) أي: أرسلنا، أو واذكر لوطًا (إِذ قَالَ) ظرف على الأول وبدل من لوطًا على الثاني (لِقَوْمهِ أَتَأتونَ الْفَاحِشَةَ) تلك الفعلة القبيحة (ما سَبَقَكُمْ) استئناف مقررة للإنكار (بِهَا) الباء للتعدية (مِنْ أَحَدٍ) من زائدة للاستغراق (مِنَ الْعَالَمِينَ) من للتبعيض أي: ما فعلها أحد قط قبلكم (إِنَّكُمْ) الهمزة للإنكار (لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ) من أتى المرأة إذا غشيها (شَهْوَةً) للاشتهاء أنكر أن يكون الحامل على هذه القباحة مجرد الشهوة، أو حال أبي: مشتهين غير ملتفتين إلى سماجتها (مِنْ دُون النسَاءِ) المخلوق لكم (بَلْ أَنتمْ قَوْمٌ مُسْرِفون) إضراب على الإنكار إلى الإخبار عن طريقتهم وعادتهم كأنه قال: بل أنتم قوم لكم الإسراف في الأمور كلها وهو الباعث لكم إلى تلك القبيحة (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) أي: قال بعضهم لبعض: أخرجوهم في مقابلة النصح والإرشاد (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) من دبر الرجال والنساء قيل قالوا سخرية (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ) فإنه ما من(1/630)
أحد سوى أهل بيته (إِلَّا امْرَأَتَهُ) فإنها تستر الكفر (كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) الباقين في ديارهم فهلكت (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا) نوعًا من المطر وهو حجارة (فَانْظُرْ) يا محمد (كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ).
* * *
(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا(1/631)
لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
* * *
(وَإِلَى مَدْيَنَ) قبيلة، أو المراد بلد مدين (أَخَاهُمْ) في النسب (شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُمْ بَيّنَةٌ) معجزة (مِنْ ربِّكُمْ) وليس في القرآن أنها ما هي (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ) أراد بالكيل الذي هو المصدر ما يكال به كالعيش على المعاش (وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) لا تنقصوهم حقوقهم قيل كانوا مكاسين (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالكفر (بَعْدَ إِصْلاحِهَا) ببعث(1/632)
النبي وأمره بالعدل (ذَلِكُمْ) إشارة إلى العمل بما أمرهم (خيْرٌ لَكُم) في الدنيا والآخرة (إِنْ كنتمْ مُؤْمِنِينَ) مصدقين بمقالي (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُون) فإنهم يقعدون طرق الناس يوعدون الآتين إلى شعيب للإيمان بالقتل وغيره، أو معناه النهي عن وعيد الناس لإعطاء أموالهم فإنهم مكاسين ويوعدون في موضع الحال (وَتَصُدُّونَ) عطف على توعدون (عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ) بشعيب أو بالله وتوعدون وتصدون تنازعا في من آمن والعمل للثاني (وَتَبْغونَهَا) وتطلبون لسبيل الله (عِوَجًا) بإلقاء الشبه ووصفها للناس بالاعوجاج (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا) في العدد والعُدد (فَكَثَّرَكُمْ) بالأموال والبنين (وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) قبلكم فاعتبروا منهم (وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا) بتعذيب المكذبين (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) لا حيف في حكم@ ولا معقب له (قَالَ الْمَلأُ) الأشراف (الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان (مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) أي: ليكونن أحد الأمرين إما الإخراج أو العود، وشعيب - عليه السلام - قط لم يكن على ملتهم لكن غلَّبوا قومه عليه فإنهم كانوا على ملتهم (قَالَ) شعيب (أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) أي: أنعود في ملتكم وإن كنا(1/633)
كارهين لها؟ (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا) يدل على جواب الشرط قد افترينا، أي: قد افترينا الآن إن هممنا بالعود بعد الخلاص منها فإن المرتد مفترى في إثبات الند، وفي ظهور الحقية عنده للدين الباطل فهو أقبح من الكافر (وَمَا يَكُونُ) لا يمكن (لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ ربُّنَا) ارتدادنا فإنه مصرف القلوب كيف يشاء، ولو أراد الله بأحدٍ سوءًا فلا مرد له (وَسِعَ ربُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) أحاط علمه بما كان وما يكون وعلمًا تمييز (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا) في تثبيتنا على الإيمان وتخليصنا منكم (رَبَّنَا افْتَحْ) اقض واحكم (بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ) أنزل على كل منا ما يستحقه لا أن تهلكهم بدعائي وهم غير مستحقين للعذاب (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) لاستبدالكم دينه الباطل بدين آبائكم الحق، وجملة إنكم إذًا لخاسرون ساد مسد جواب القسم والشرط (فأَخَدتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزلزلة (فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ) مدينتهم (جَاثِمِينَ) ميتين قد اجتمع عليهم أنواع من العذاب بسحابة فيها شرر من النار ولهيب وهو قوله تعالى " عَذَابُ يَوْمِ(1/634)
الظُّلَّةِ " [الشعراء: 189] في سورة الشعراء ثم جاءتهم صيحة من السماء وهو قوله تعالى " فأخذتهم الصيحة " [الحجر: 83] في سورة الحجر ورجفة من الأرض فزهقت أرواحهم وخمدت أجسادهم (الذِينَ كَذبُوا شُعَيْبًا) مبتدأ (كَأَنْ لَمْ يَغنَوا فِيهَا) خبره أي: كأن لم يقيموا فيها قط (الَّذِينَ كذبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ) لا الذين صدقوه كما زعموا (فتَوَلى عَئْهُمْ) الظاهر أنه بعد عذابهم وموتهم (وَقَالَ) تأسفًا بهم (يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) وقد كفرتم (فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ) مستحقين للعذاب.
* * *
(وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
* * *
(وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ) فكذبه أهلها (إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ) الفقر (وَالضَّرَّاءِ) المرض (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) كي يتضرعوا ويتركوا الاستكبار عن الإيمان (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أعطنا السلامة والسعة مكان البلاء والشدة ابتلاء واستدراجًا (حَتَّى عَفَوْا) كثروا عددًا ومالاً (وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ(1/635)
وَالسَّرَاءُ) فأصابنا مثل ما أصابهم وهذا عادة الدهر ولم ينتبهوا وغفلوا (فأَخَذناهُمْ بَغتَةً) فجأة مصدر أي: هذا النوع من الأخذ (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بنزول العذاب (وَلَوْ أَنَّ أَهلَ الْقُرَى) أي: تلك القرى التي أرسلنا فيها رسلاً (آمنوا وَاتَّقَوْا) المعاصي (لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ) يسرنا الخير لهم (مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) من كل جانب أو قطر السماء ونبات الأرض (وَلَكِنْ كَذبُوا) رسلنا (فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) بسبب كفرهم وعصيانهم (أَفَأَمِنَ) الهمزة للإنكار وهو عطف على فأخذناهم بغتة، أو فأخذناهم بما كانوا، وحاصله فعلوا كيت وكيت فأخذناهم بغتة أبعد ذلك أمن (أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا) عذابنا (بَياتًا) أي: وقت بيات، أي: بيتوتة فنصبه على الظرف بحذف المضاف (وَهُمْ نائِمُون) جملة حالية (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى) ضحوة النهار ظرف (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) من فرط غفلتهم (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر واستدراجه (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) فطرتهم.
* * *(1/636)
(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
* * *
(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِنْ بعْدِ أَهْلِهَا) أي: يرثون ديار من قبلهم (أَنْ) أي: أن الشأن (لَوْ نَشَاءُ أَصَباهُمْ) بالبلاء (بِذُنُوبِهِمْ) بسببها كما عذبنا من قبلهم وجملة أن لو نشاء فاعل يهد ومن قرأ بالنون فهو مفعول وفي الهداية حينئذ تضمين التبيين ولهذا عدي باللام (وَنَطْبَعُ) نختم (عَلَى قُلُوبِهِمْ) هو استئناف ولهذا غير الأسلوب أي: نحن نطبع، أو عطف على مدلول أو لم يهد يعني يغفلون ونطبع وليس بعطف على أصبناهم؛ لاستلزام انتفاء كونهم مطبوعين مع بطلانه لقوله: " فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ " وقوله: " كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين " وقوله: " فما كانوا ليؤمنوا "؛ لدلالته على أن حالهم منافية للإيمان (فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) الموعظة أبدًا سماع قبول.(1/637)
(تِلْكَ الْقُرَى) إشارة إلى قرى الأمم التي مر ذكرها (نَقُصُّ عَلَيْكَ) حالٌ، أو خبرٌ إن جعلت القرى صفة تلك (مِنْ أَنْبَائِهَا) أي: بعض أخبارها (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) المعجزات (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي: ما صلحوا للإيمان بعد رؤية المعجزات (بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) أي: قبل رؤيتهم تلك المعجزات يعني بعدما طبعناهم لا يمكن لهم الإيمان بما جاءهم الرسول أو الباء للسببية أي: كفرهم السابق سبب كفرهم اللاحق وعن بعض السلف المراد من قبل يوم أخذ الميثاق فإنهم حينئذ أقروا باللسان وأضمروا التكذيب (كذَلِكَ) مثل ذلك الطبع الشديد (يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافرينَ) الوارثين والموروثون (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ) أي: الأمم الماضية (مِنْ عَهْدٍ) وفاء بالعهد الذي عاهدهم يوم الميثاق، أو عهدهم مع أنبيائهم (وَإِنْ وَجَدْنَا) أي: إن الشأن علمنا (أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) خارجين عن طاعتنا وعند الكوفيين أن نافية واللام بمعنى إلا.
(ثمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي: الرسل الذين مر ذكرهم (مُوسَى بِآيَاتِنا) المعجزات (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَظَلَمُوا بِهَا) أي: بالآيات بأن وضعوا الكفر بها مكان الإيمان (فَانْظُرْ) يا محمد (كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسدِينَ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) على بمعنى الباء أي: بألاَّ أقول، كما تقول: رميت على القوس أو أصله حقيق على ألاَّ أقول كما هو قراءة نافع فقلب لأمن الإلباس، أو أراد موسى أن يغرق في وصف نفسه بالصدق فيقول: أنا حقيق على قول الحق، أي: واجب على قول الحق أن أكون أنا قائله، ولا(1/638)
يرضى إلا بمثلي ناطقًا به أو معناه أني حريص على ألَّا أقول (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنةٍ) وهي العصا (مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) خلهم حتى يرجعوا معي إلى الأرض المقدسة فإن فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقة (قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ) من عند من أرسلك (فَأتِ بِهَا) أحضرها عندي (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) حية عظيمة لا يشك في أنها حية (وَنَزَعَ يَدَهُ) أخرجها من جيبه بعدما أدخلها فيه (فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ) لها شعاع غلب نور الشمس ثم أعادها إلى كمه فعادت إلى لونها الأول وللناظرين متعلق بـ بيضاء، أي: بيضاء للنظارة (1).
* * *
(قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ
__________
(1) في الأصل " للنضارة " والتصويب من تفسير البيضاوي.(1/639)
لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)
* * *
(قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) في صنعته أي: قالوا ذلك موافقين لقول فرعون كما حكاه تعالى: " قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم " [الشعراء: 34]، فوافقوه وقالوا كمقالته أو قال الملأ بطريق التبليغ من لسان فرعون إلى القوم يعني القبط (1) (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ) يا معشر القبط (مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأمُرُون) تشيرون في أمره (قَالُوا) بعدما اتفقوا رأيهم (أَرْجِهْ وَأَخَاهُ) الإرجاء التأخير أي: أخر أمره وأمر أخيه أو احبسه وأصله أرجئه (وَأَرْسِلْ في الْمَدَائِن حَاشرينَ) أي رجالاً يحشرون إليك من في مدائن صعيد مصر من نواحي مصر من السحرة (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) على موسى (قَالَ) فرعون (نَعَمْ) إن لكم أجرًا (وَإِنَّكُم لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) فهو معطوف على محذوف سد مسد نعم (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) عصاك (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) ما معنا من الحبال ورغبتهم في أن
__________
(1) في الأصل " قبط " والتصويب من الكشاف.(1/640)
يلقوا قبله، ولهذا غيروا نظم الكلام إلى آكد وجه (قَالَ) موسى كرمًا ووثوقًا على الله (أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) خيلوا إليها ما لا حقيقة له (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) خوفوهم (وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) قيل خمسة عشر ألف ساحر وقيل أكثر، ومع كل عصي وحبال غلاظ طوال، وألقوا فإذا حيات قد ملأت (1) الوادي تركب بعضها بعضًا (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ) فألقاها (فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ) تبتلع (مَا يَأْفِكُونَ) ما يزورونه من الإفك، فلما أكلت حبالهم وعصيهم بأسرها، قالت السحرة: لو كان هذا سحرًا لبقيت حبالنا وعصينا (فَوَقَعَ الْحَقُّ) ثبت وظهر (وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) من السحر (فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ) صاروا أذلاء، وأرجعوا إلى مدينتهم أذلاء مغلوبين، والضمير لفرعون وقومه (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) ألقاهم الله تعالى، أو ألهمهم أن يسجدوا، أو من سرعة سجودهم كأنهم ألقوا (قَالُوا آمَنَّا بِرَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ مُوسَى وَهَارونَ) لا رب
__________
(1) في الأصل " امتلأت " والتصويب من تفسير البيضاوي.(1/641)
القبط فإنه فرعون (قَالَ فِرْعَوْن آمَنتمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكمْ) في الإيمان (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ) أي: حيلة صنعتموها أنتم وموسى في مصر قبل الخروج إلى هنا (لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا) أي: القبط فتبقى مصر (1) لكم (فَسَوْفَ تَعْلَمونَ) عاقبة صنيعكم، ثم فصل ما أجل وقال: (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ) من كل شق طرفًا (ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا) بالموت (مُنْقَلِبُونَ) فلا نخاف من وعيدك، أو مصيرنا ومصيرك إلى الله فيحكم بيننا (وَمَا تَنْقِمُ) تنكر (مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا) ثم أعرضوا عنه وفزعو إلى الله تعالى، وقالوا: (رَبَّنَا أَفْرِغْ) أفض (علَيْنَا صَبْرًا) حتى لا نرجع من الدين (وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره: كانوا أول النهار سحرة وفي آخره شهداء.
* * *
(وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ
___________
(1) في الأصل " المصر "(1/642)
عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
* * *
(وَقَالَ الْمَلاً مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ) لفرعون (أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ) بني إسرئيل (لِيُفْسِدُوا فِي الأرْضِ) بدعوتهم إلى مخالفتك (وَيَذَرَكَ وَآلِهتَكَ) عطف على يفسدوا، أو جواب للاستفهام بالواو، كما يجاب بالفاء قيل: [كان] لفرعون بقرة يعبدها ويأمر أن يعبدوا بقرة حسناء، وقيل علق على عنقه صليبًا يعبده، وقيل: اتخذ لقومه أصنامًا وأمر بعبادتها، وقال لهم: هذه آلهتكم وأنا ربكم الأعلى (قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ) كما كنا نفعل من قبل حين حكمت الكهنة بوجود مولود على يده زوال ملكنا (وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ) نتركهن أحياء للخدمة (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) هم تحت أيدينا مقهورون (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ) حين شكوا إليه (اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) فلربما يأخذ منهم ويعطيكم بسهولة كالميراث (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي: عاقبة الأمر بالنصر والظفر للمتقين فثقوا بالله تعالى وقال بعضهم معناه الآخرة للمتقين خاصة (قَالُوا) بنوا إسرائيل (أُوذِينَا) بقتل
الأبناء (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأتِيَنَا) بالرسالة (وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) بإعادة القتل (قَالَ)
__________
(1) ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق.(1/643)
موسى (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أرضهم وملكهم (فَيَنْظُرَ) يرى (كَيْفَ تَعْمَلُونَ) من شكر وكفران وطاعة وعصيان.
* * *
(وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ(1/644)
آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
* * *
(وَلَقَدْ أَخَدنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) بالجدوب لقلة الأمطار (وَنَقْصٍ مِن الثمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذكرونَ) لكي ينتبهوا ويتعظوا (فَإِذَا جَاءَتْهُم الْحَسَنَة) السعة والمال (قَالوا لَنا هَذِه) لأجلنا ونحن مستحقوها ولم يشكروا منعمها (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) بلاء وجدب (يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ) يتشاءموا بهم وقالوا ما هذا إلا بشؤمهم (أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) أي: شؤمهم من قبل الله ومن عنده، أو سبب شؤمهم وهو أعمالهم القبيحة عنده مكتوب (وَلكِنَّ أَكثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ما أصابهم من الله تعالى (وَقَالُوا) لموسى (مَهْمَا تَأتِنَا بِهِ) أي: أيما شيء تأتنا به فمحل مهما الرفع وجاز النصب بفعل يفسره (تَأتِنَا) أي: أيما شيء تحضرنا تأتنا به (مِنْ آيَةٍ) بيان لهما وسموها آية على زعم موسى (لِتَسْحَرَنَا بِهَا) الضمير لما في(1/645)
مهما باعتبار المعنى فإن من آية فضلة جيء للتبيين (فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) فدعا عليهم موسى عليه السلام (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ) أرسل الله تعالى مطرًا سبعة أيام امتلئت بيوت القبط ماء حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ولم يدخل بيوت بني إسرائيل مع أن بيوتهم مشتبكة أو المراد من الطوفان الوباء أو الجدري ثم فزعوا إلى موسى وعهدوا بالإيمان إن كشف عنهم العذاب، فلما كشف نقضوا عهودهم (وَالْجَرَادَ) فأرسل الله إليهم الجراد فأكل زروعهم وثيابهم حتى مسامير أبوابهم ثم عهدوا وكشف فنقضوا (وَالْقُمَّلَ) فأرسل الله إليهم السوس أو أولاد الجراد قبل أجنحتها أو الحمنان صغار القردان أو دواب سود صغار أو القمل بفتح القاف حتى أكلت أبدانهم ومصت دماءهم فعهدوا فلما كشف نقضوا (وَالضَّفَادِعَ) فأرسل الله تعالى إليهم الضفادع حتى لا يستطيعوا الطبخ والأكل فإنه يمتلئ قدورهم وظروفهم وأفواههم فعهدوا ونقضوا (وَالدَّمَ) صارت مياههم دمًا وسالت النيل عليهم بالدم أو المراد بالدم(1/646)
الرعاف فعطشوا فعهدوا ونقضوا (آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ) مبينات لا يشتبه على أحد أنها نقمة من الله ونصبها على الحال (فَاسْتَكْبَرُوا) عن الإيمان (وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِين وَلَما وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) الآيات المفصلات أو الطاعون فهو عذاب سادس (قَالُوا يَا مُوسى ادعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) أي: بحق عهده عندك وهو النبوة أو بما أنت تعلمه من أسمائه التي تدعو بها فيستجيب الدعاء (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ) حد من الزمان هم بالغوه فمعذبون أو مهلكون فيه وهو الغرق (إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ) عهدهم أي: فلما كشفنا العذاب فجاءوا النقض بلا مهل وتأمل (فَانْتَقَمْنَا) أردنا الانتقام (مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ) البحر العميق (بِأَنَّهُمْ كَذبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) لا يتفكرون في آياتنا (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) بقتل أبنائهم واستخدام نسائهم (مَشَارِقَ الأرْضِ) أرض الشام (وَمَغَارِبَهَا التِي بَارَكْنَا فيهَا) بالسعة والرخاء (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ ربِّكَ) هي وعده إياهم بالنصر والظفر (الْحُسْنَى) صفة الكلمة (عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا) بسبب صبرهم على الشدائد (وَدَمَّرْنَا) استأصلنا (مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) من العمارات (وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) يرفعون من البيوت والقصور أو من البساتين.(1/647)
(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ) عبرنا بهم (فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ) مروا عليهم (يَعْكُفُونَ) يقيمون (عَلَى) عبادة (أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا) مثالاً نعبده (كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) ما كافة (قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) لأن العاقل لا(1/648)
يطلب معبودًا مخلوقًا لا يضر ولا ينفع (إِنَّ هَؤُلاءِ) إشارة إلى القوم (مُتَبَّرٌ) مكسر مدمر (مَا هُمْ فِيهِ) أي: دينهم فاعل متبراً أو مبتدأ و (مُتَبَّرٌ) خبره (وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ألبتة لا محالة (قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ) أطلب لكم (إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) بأن أعطاكم نعمًا وخصكم بها (وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أي: واذكروا هذا اللطف العظيم (يَسُومُونَكُمْ) استئناف أو حال أي: يبغونكم (سُوءَ الْعَذَاب) شدته (يُقَتِّلُونَ) بدل من يسومون مبين له (أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ) أي: العذاب (بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) قيل الإشارة إلى الإنجاء فالبلاء بمعنى المنحة لا المحنة.
* * *
(وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ(1/649)
الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
* * *
(وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاِثينَ لَيْلَةً) ذا القعدة للمناجاة وإرسال كتاب من عنده (وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ) من ذي الحجة نقل أنه بعد صوم الشهر استاك فزال خلوفه فلذلك أمر بصوم عشر ليكون لفمه خلوف (فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي) كن خليفتي (فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ) ارفق بهم واحملهم على طاعة الله تعالى (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) لا تطع من دعاك إلى الفساد.(1/650)
(وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا) أي: لوقتنا الذي وقتنا له (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) فلما سمع كلامه اشتاق لقاءه (قَالَ رَبِّ أَرِنِي) نفسك بأن تتجلى إلي (أَنْظُرْ إِلَيْكَ) أراك (قَالَ لَنْ تَرَانِي) في الدنيا وقد وردت أحاديث صحاح صريحة على رؤية الله تعالى في الآخرة وأجمعت الأمة على ذلك سوى المعتزلة وحسبهم من الخسران والحسرة أن عاملهم الله تعالى في الآخرة بعقيدتهم وحرمهم من نعمة لقائه كما قال جدي قدس سره (وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ) ويطيق الرؤية مع أنه أعظم(1/651)
وأئقل جسمًا (فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) ظهر نور ربه وقد ورد ما تجلى إلا قدر الخنصر (جَعَلَهُ دَكًّا) أي: مدكوكًا كالتراب ومن قرأ دكاء فمعناه أرضًا مستوية (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) سقط مغشيًا عليه (فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ) أنزهك مما لا يليق بك أو قال سبحانك لعظمة ما رأى (تُبْتُ إِلَيْكَ) من مسألة الرؤية بغير إذن (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) بأنه لا يراك أحد إلى يوم القيامة أو أول قومي إيمانًا.
(قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ) اخترتك (عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي) بوحيي (وَبِكَلامِي) من غير واسطة (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ) أعطتك من الرسالة (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) ولا تطلب ما لا طاقة لك به.
(وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ) ألواح التوراة وقيل الألواح قبل نزول التوراة وهي من خشب أو من جوهرة (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) هم إليه محتاجون في أمر دينهم (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) تبيينًا لكل أمر ونهي حلال وحرام فنصبهما على المفعول له أي: للموعظة ولتبيين الحلال والحرام وقيل من كل شيء مفعول كتبنا وموعظة وتفصيلاً بدل منه (فَخُذْهَا) أي: فقلنا له خذ الألواخ (بِقُوَّةٍ) بجد وعزيمة (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) أي: التكليف عليك يا موسى أشد من التكليف على قومك قيل في الألواح ما هو أحسن كالصبر بالإضافة إلى الانتصار مثلاً فأمرهم على طريقة الندب(1/652)
أن يتبعوا أفضل ما فيها وهو الصبر والعفو (سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) أي: سترون عاقبة من خالف أمري كيف تصير إلى الهلاك أو هي جهنم فاحذروا أن تكونوا منهم أو منازلهم كيف تكون خاوية على عروشها قيل هذا بشارة بأنه سيرزقهم أرض أعدائهم (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ) أي: أمنعهم عن فهم الحجج والأدلة الدالة على وحدانيتي وعظمتي وأنزع عنهم فهم كلامي (بِغَيْرِ الْحَقِّ) صلة يتكبرون أو حال فإن تكبر المحق على المبطل حق والتكبر على المتكبر صدقة (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ) معجزة (لَا يُؤْمِنُوا بِهَا) لعنادهم (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ) طريق الهدى والسداد (لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ) طريق الضلال (يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ) إشارة إلى مصيرهم إلى هذه الحالة (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) لا يتدبرون فيها (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ) أي: لقائهم الدار الآخرة (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) بطلت فليس لها نفع (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) إلا جزاء أعمالهم.
* * *
(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي(1/653)
فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
* * *
(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى) أي: اتخذ السامري لهم بإعانتهم ورضاهم فكأنهم هم الذين اتخذوا (مِنْ بَعْدِه) من بعد ذهابه إلى الجبل (مِنْ حُلِيِّهِمْ) التي استعاروا من القبط (عِجْلًا جَسَدًا) بدنا ذا لحم ودم بدل من عجلا (لَهُ خُوَارٌ) صوت البقر قال بعضهم: استمر على كونه من الذهب إلا أنه يدخل في فيه الهواء فيصوت كالبقر (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا) أي: ألم يروا حين اتخذوه إلها أنه حيوان لا يقدر على كلام ولا على إرشاد فكيف اعتقدوا على أنه خالق القوى والقدر؟! (اتَّخَذُوهُ) إلهًا (وَكَانُوا ظَالِمِينَ) فلوضعهم الأشياء في غير موضعها اتخذوه إلها (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) كناية عن الندامة فإن النادم يعض يده (وَرَأَوْا) اعلموا (أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا) بقبول توبتنا (وَيَغْفِرْ لَنَا) هذا الذنب العظيم (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) الهالكين.(1/654)
(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ) عليهم (أَسِفًا) شديد الغضب أو حزينًا فإنه قد أعلمه الله بذلك وهو على الطور كما قال تعالى: " فإنا قد فتنا قومك من بعدك " [طه: 85]، (قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتمونِي مِنْ بَعْدِي) أي: فعلتم بعد ذهابي وفاعل بئس ضمير يفسره ما والمخصوص بالذم محذوف أي: بئس فعلاً فعلتموه من بعدي فعلكم (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) وهذا كما يقال لمن ولى أحدًا غير مستحق للولاية: عجلت أمر السلطنة أي: في حالها وأمرها أو ضمن عجل معنى سبق فعدى تعديته أي: سبقتم أمر ربكم أو ميعاد ربكم أو سخط ربكم (وَأَلْقَى الألْوَاحَ) طرحها غضبًا (وَأَخَد بِرَأْسِ أَخِيهِ) بشعره (يَجُرُّهُ إلَيْهِ) خوفًا عن أن يكون قد قصر في نهيهم وهارون أكبر من موسى (قَالَ ابْنَ أُمَّ) كانا أخوين من أب وأم وذكَر الأم ليرققه (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي) أي: بذلت وسعي في النهي حتى قهروني وقاربوا قتلى (فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ) لا تفعل بي شيئًا يشمتون(1/655)
لأجله (وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) معدودًا في عداد عابدي العجل في عقوبتك.
(قَالَ) لما علم براءة ساحته (رَبِّ اغْفِرْ لِي) ما صنعت بأخي (وَلِأَخِي) إن قصر في نهيهم (وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ) بمزيد الإنعام أو في جنتك (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
* * *(1/656)
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) إلهًا (سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ) وهو أمرهم بقتل أنفسهم للتوبة كما مر فهو حكاية عما أخبر الله تعالى به موسى حين أخبره أو غضب في الآخرة (وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) إخراجهم من ديارهم وهوانهم إلى الأبد وقيل المراد من الذين اتخذوا العجل: أبناؤهم وهم يهود زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصف الأبناء بقبائح فعل الآباء (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) على الله تعالى (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ) أي: الشرك (ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا) بعد السَّيِّئَاتِ (وَآمَنُوا) أخلصوا الإيمان واشتغلوا بما هو مقتضى الإيمان (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا) بعد التوبة (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَمَّا سَكَتَ) أي: سكن (عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ) التي ألقاها (وَفِي نُسْخَتِهَا) أي: في الألواح فإنها نسخت من اللوح المحفوظ أو لما ألقى الألواح تكسرت ثم رد عليه لوحان أو لما تكسرت نسخ منها نسخة أخرى (هُدًى) من الضلال (وَرَحْمَةٌ) من العذاب (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) للخائفين ودخول اللام في المفعول لضعف الفعل بالتأخير وقيل في يرهبون تضمين معنى الخضوع (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ) منصوب بنزع الخافض أي: من قومه (سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنا) أمر موسى أن يختار من بني إسرائيل سبعين ليدعوا ربَّهُم فلما دعوا قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدًا من قبلنا ولا من بعدنا فكره الله تعالى ذلك(1/657)
فأخذكم الرجفة أو اختار سبعين ليعتذروا من عبادة العجل فلما سمعوا كلام الله تعالى قالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا أو أخذتهم الرجفة فإنهم علماء وما نهوا بني إسرائيل عن عبادة العجل، وقال بعضهم: ما ماتوا ثم بعد تضرع موسى كشف عنهم الرجفة فاطمأنوا أو ماتوا لكن أحياهم الله تعالى بدعاء موسى (فَلَمَّا أَخَذَتهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ) موسى: (رَبِّ لَوْ شِئْتَ) لو للتمني (أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبلُ وَإِيَّايَ) تمنى هلاكهم وهلاكه قبل أن يرى ما يرى، أو المراد أهلكتهم أي: عبدة العجل من قبل عبادتهم (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا) من التجاسر على طلب الرؤية فإن بعضًا من السبعين طلبوا الرؤية، أو من عبادة العجل، ولذلك قيل: علماؤهم ما عبدوا العجل (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) اختبارك وامتحانك حين أسمعتهم كلامك فطمعوا في الرؤية، أو حين خلقت في العجل خوارًا فضلوا (تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ) ضلاله (وَتَهْدِي) بها (مَنْ تَشَاءُ) هداه (أَنْتَ وَلِيُّنَا) القائم بأمرنا (فَاغْفِرْ لَنَا) ذنوبنا الماضية (وَارْحَمْنَا) بأن لا توقعنا بعد في مثله (وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ) لأنك تغفر الذنوب جميعًا بلا عرض ولا عوض (وَاكْتُبْ) أي: أثبت (لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً) عافية وطاعة (وَفِي الْآخِرَةِ) جنة وقربة (إِنَّا هُدْنَا) رجعنا وتبنا (إِلَيْكَ قَالَ) الله مجيبًا له في قوله: " إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ " (عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ(1/658)
أَشَاءُ) تعذيبه (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) في الدنيا حتى الشجر والحجر (فَسَأَكْتُبُهَا) فسأوجب رحمتي في الآخرة (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الكبائر (وَيُؤتونَ الزكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) بما أنزل على جميع الأنبياء لا يكفرون بشيء منها قيل لما اختار موسى سبعين قال لهم: أجعل لكم الأرض مسجدًا وطهورًا وأجعل السكينة في قلوبكم وأجعلكم تقرءون التوراة عن ظهور قلوبكم؟ فقالوا: لا نريد إلا أن نصلي في الكنائس ولا نستطيع حمل السكينة في القلوب، ولا أن نقرأ التوراة إلا نظرًا قال تعالى: " فسأكتبها للذين يتقون " الآية (الذِينَ يَتَّبِعُونَ) أي: هم الذين أو بدل من الذين يتقون، والمراد اليهود الذين فِي آخر الزمان وآمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام أو عامة أمته الصالحين (الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) الذي لا يكتب ولا يقرأ (الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ) اسمه وصفته (فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأمُرُهُمْ) النبي(1/659)
(بِالْمَعْرُوفِ) والخير (وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) والشر (ويحِل لَهُمُ الطيِّبَاتِ) مما حرموا على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة ومما حرم عليهم في التوراة من لحوم الإبل والشحوم (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) كالدم ولحم الخنزير والميتة والربا (وَيَضَعُ) يخفف ويسقط (عَنْهمْ إِصْرَهمْ) أي: ثقلهم العهد الثقيل الذي أخذ عليهم بالعمل بالتوراة (وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) التكاليف الشاقة التي كانت في دينهم (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) بهذا الرسول (وَعَزَّرُوهُ) عظموه (وَنَصَرُوهُ) على عدوه (وَاتَّبَعُوا النُّورَ) أي: القرآن (الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) أي: مع نبوته وقيل: متعلق باتبعوا القرآن مع اتباع النبي أي: اتبعوا الكتاب والسنة (أُولَئِكَ هُمُ الْمفْلِحون) الفائزون في الدارين.
* * *
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ(1/660)
فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
* * *
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب عام لا يشذ عنها أحد (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي) صفة الله والفصل غير أجنبي أو منصوب بتقدير أعني (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) بدل اشتمال من له ملك السماوات (يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ) جميع كتبه (وَاتَّبِعُوهُ) في الإيمان بالله وجميع الكتب وبما أمر ونهى (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لكي تهتدوا (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى) بني إسرائيل (أمَّةٌ يَهْدُون) الناس (بِالْحَقِّ) محقين (وَبِهِ) بالحق (يَعْدِلُون) في الحكم وهم الثابتون على الحق من اليهود قرنا بعد قرن أو من(1/661)
آمن منهم كعبد الله بن سلام وأتباعه أو قوم وراء الصين هم على الحق آمنوا بمحمد لا يصل أحد منهم إلينا ولا منا إليهم.
(وَقَطَّعْنَاهُمُ) صيرنا بني إسرائيل قطعًا وفرقناهم (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) مفعول ثان لقطع لأنه متضمن معنى صير أو حال وتأنيثه للحمل على الأمة أو القطعة (أَسْبَاطًا) تمييز له وهو من الجمع الذي وقع موقع المفرد فإن معناها القبيلة؛ لأن كل قبيلة أسباط لا سبط أو بدل منه (أُمَمًا) بدل أو نعت لأسباطًا (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ) في التيه (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ) جنس الحجر أو حجرًا خاصًا كان(1/662)
معه كما مر ذكره في سورة البقرة (فَانْبَجَسَتْ) أي: فضرب فانفجرت (مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ) كل قبيلة (مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ) لدفع حر الشمس (وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ) شيء كالترنجبين (وَالسَّلْوَى) طير كالسماني وقلنا لهم (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ) مستلذات (مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا) ما رجع ضر كفران نعمه إلينا (وَلَكِنْ كَانُوا أَئفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) يضرون أنفسهم ووبال فعلهم راجع إليهم (وَإِذ قِيلَ لَهُمُ) أي: واذكر هذا الزمان (اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَريةَ) بيت المقدس أو أريحا (وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شئْتُمْ وَقُولُوا حِطةٌ) أي: مغفرة يعني استغفروا أو أقروا بالذنب أو احطط عنا الخطايا (وَادْخُلُوا الْبَابَ) باب البلد (سُجَّدًا) شكرًا لله تعالى على الفتح والإنقاذ من التيه (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) ثوابًا وهو استئناف ولم يأت بالعطف إشعارًا على أنه تفضل محض (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) بدلوا بحطة حنطة استهزاء (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا) عذائا مقدرًا (مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ) بسبب ظلمهم.
* * *(1/663)
(وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
* * *
(وَاسْأَلْهُمْ) أي: سل يا محمد هؤلاء اليهود الذين بحضرتك سؤال توبيخ وتقريع (عَنِ الْقَريةِ) أي: خبر أهلها (التِي كَانتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) قريبة منه، وهي أيلة بين مدين والطور (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) بدل من اشتمال القرية أو ظرف كانت أو حاضرة،(1/664)
ومعناه يتجاوزون حدود الله يوم السبت (إِذ تَأتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ) ظرف ليعدون أو بدل بعد بدل (يَوْمَ سَبْتِهِمْ) أي: يوم تعظيمهم أمر السبت من سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بالتجرد للعبادة (شُرَّعًا) ظاهرة على الماء حال من الحيتان (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُون) لا يعظمون سبتهم وهو غير يوم السبت (لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ) مثل ذلك الامتحان التام (نَبْلُوهُمْ) نختبرهم بإظهار السمك في اليوم المحرم عليهم صيده، وإخفائها في اليوم المحلل لهم (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) بسبب خروجهم عن طاعة الله تعالى (وَإِذْ قَالَتْ) عطف على إذ يعدون (أُمَّةٌ مِنْهُمْ) أي: فرقة من أهل القرية فإنهم ثلاث فرق: فرقة ارتكبوا الخطيئة، وفرقة ناهية، وفرقة سكتوا فما ارتكبوا وما نهوهم، فقالت الفرقة الساكتة للناهية: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) فإنهم علموا لكثرة عدم نفع الموعظة أنها لا تنفع لا محالة استحقوا سخط الله تعالى (قَالُوا) أي: الفرقة الناهية ترهيبًا لهم هذه (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ) حتى لا ننسب إلى تفريط في النهي عن المنكر، ومن قرأ بالنصب فتقديره وعظناهم معذرة (وَلَعَلَّهُمْ يَتقُونَ) عن الاصطياد في السبت فلا نيأس من أن تدركهم الرحمة (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ) تركوا ترك الناسي (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) خالفوا أمرنا (بِعَذَابٍ بَئِيسٍ) شديد (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) بسبب فسقهم والأصح أن(1/665)
الفرقة المرتكبة دون غيرهم صاروا قردة والفرقتين الأخريين نجوا وعند بعضهم أن الفرقة الساكتة أيضًا مسخوا (فَلَمَّا عَتَوْا) تكبروا (عَن) ترك (مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ) عن بعض السلف أنَّهم سمعوا مناديًا قال: (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) ذليلين أو المراد من أمرهم سرعة التكوين وأنهم صاروا كذلك لا حقيقة الأمر والأصح أن المسخ صوري ومعنوي ثم هلكوا بعد ثلاثة أيام ولم يبق منهم نسل، والعذاب البئيس هو المسخ فهذه الآية تقرير وتفصيل للأولى.
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) أعلم أو قال أو أمر وحكم (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ) على اليهود وأجرى تَأَذَّنَ كعلم الله وشهد الله مجرى القسم ولذلك أجيب بقوله ليبعثن (إِلَى يَوْمِ الْقيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ) يعذبهم (سُوءَ الْعَذَابِ) أي: أوجب الله على نفسه ليسلطن عليهم من يعذبهم بضرب الجزية والإهانة وسبي النساء إلى آخر الدهر (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ) لمن أصر على المعصية (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) على من تاب وأناب (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا) فرقناهم في البلاد فلا تجتمع كلمتهم مفعول ثان؛ لأن القطع بمعنى التصيير (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) صفة أمم (وَمِنْهُمْ) ناس (دُونَ ذَلِكَ) منحطون عن الصلاح (وَبَلَوناهُمْ) امتحناهم (بِالْحَسَنَاتِ) بالنعم (وَالسَّيِّئَاتِ) بالنقم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عما كانوا فيه (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد ذلك الجيل الذي فيهم الصالح والطالح (خَلْفٌ) والخلف بسكون العين البدل السوء (وَرِثُوا الْكِتَابَ) التوراة من أسلافهم (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى) أي: حطام هذه الدنيا الحقير كالرشوة في تبديل حكم الله والجملة حال من فاعل ورثوا (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ(1/666)
لَنَا) الفعل مسند إلى الجار والمجرور (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) أي: يرجون المغفرة والحال أنَّهم مصرون على الذنب عائدون على مثله. عن السدي كان بعضهم يطعن في حكامهم بأخذ الرشوة فإذا جعل مكان حاكمهم من يطعن بأخذ الرشوة هو أيضًا يأخذ فحاصله وإن يأت الآخرين عرض مثله يأخذوه (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ) أي: في التوراة (أَنْ لَا يَقُولُوا) أي: بأن لا يقولوا أو عطف بيان لميثاق (عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ) فهم ذاكرون لهذا الميثاق عطف على (أَلَمْ يُؤْخَذْ) (وَالدَّارُ الْاخِرَةُ خَيْرٌ لِلذِينَ يَتَّقُونَ) المعاصي لا للذين يخالفون أمر الله تعالى فإن مصيرهم إلى النار (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) فيعلموا ذلك ويرتدعوا عما هم فيه (وَالذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكتَابِ) اعتصموا بكتابهم فآمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ) خبر الذين يمسكون (أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) أي: أجرهم لإصلاحهم (وَإِذْ نَتَقْنَا) رفعنا (الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) الظلة: كل ما أظلك (وَظَنُّوا) تيقنوا (أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ) ساقط عليهم إن خالفوا وقلنا لهم: (خُذُوا مَا آتيْنَاكُم) من الكتاب (بِقُوَّةٍ) بجد واجتهاد في العمل به (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) فاعملوا به (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) كي تتقوا عن القبائح وذلك أنَّهم أبوا قبول أحكام التوراة فرفع الطور فوقهم، وقيل لهم: إن قبلتم وإلا ليقعن عليكم فسجدوا وقبلوا.
* * *(1/667)
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلله الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
* * *
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل من بني آدم (ذُرِّيَّتَهُمْ) أي: أن الله أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء في(1/668)
الترتيب (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) أشهد بعضهم على بعض (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) قال بعضهم: شهدنا قول الملائكة لا قول بني آدم وهو أنه قال الله تعالى للملائكة اشهدوا على إقرارهم قالوا شهدنا (أَنْ تَقُولُوا) أي: كراهة أن تقولوا (يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا) أي: عن إنك ربنا (غَافِلِينَ) لم ننبه عليه ولذلك نصبنا الأَدلة على الربوبية وأرسلنا الرسل بذكرهم العهد فلا يكون لهم عذر (أَوْ تقُولُوا) عطف على أن تقولوا (إِنَّمَا أَشْرَكَ آباؤُنَا مِنْ قَبْلُ) قبل زماننا (وَكُنَّا ذُريةً مِنْ بَعْدِهِمْ) فاقتدينا بهم (أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) الآباء المبطلون بتأسيس الشرك. اعلم أن الأحاديث الصحاح الدالة على أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه وميز بين أهل الجنة والنار وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربُّهم ففي حديثين موقوفين على ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - كما حققه الثبات من المحدثين(1/669)
ووافقهما أكثر السلف والخلف كأبي بن كعب ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والسدي وغيرهم وقال بعض السلف والخلف: المراد بهذا الإشهاد أنه خلقهم على فطرة الإسلام ونصب لهم دلائل التوحيد ولظهورها صارت بمنزلة أنه قيل لهم: " أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى " وأنت تعلم أن ابن عباس حبر الأمة وأعلم الناس بمعاني القرآن (وَكَذَلِكَ) مثل ذلك التبيين (نُفَصِّلُ الْآيَاتِ) لفوائد جمة (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لكي يرجعوا عن اتباع الأصل.
(وَاتْل عَلَيْهِمْ) على اليهود أو على قومك (نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا) من الآيات بأن أعرض وكفر (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ) لحقه وأدركه (فَكَانَ مِنَ(1/670)
الْغَاوِينَ) صار من الضالين هو رجل من بني إسرائيل والأكثرون على أنه بلعم بن باعوراء عالم باسم الله الأعظم سألوا عنه أن يدعو على موسى وجنوده فأبى ثم ألحوا فألحوا وجاءوه بالرشوة فقبل فدعا عليهم فقبل الله ثم دعا موسى عليه فنزع عنه الإيمان والاسم الأعظم، وقال بعضهم: ما يسر الله له الدعاء على موسى لكن قال لهم: أخرجوا النساء تستقبلهم فعسى أن يزنوا ففعلوا فوقع واحد من بني إسرائيل في الزنا فنزل عليهم الطاعون فقتل أحد علمائهم الزاني فكشف عنهم العذاب قيل فحسب من هلك في الطاعون في ساعة من النهار فوجدوا سبعين ألفًا (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ) إلى الدرجات العلى (بِهَا) بسبب تلك الآيات (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) مال إلى الدنيا وزخارفها فإن جميع زخارفها من الأرض (وَاتبَعَ هَوَاهُ) في أخذ الرشوة والإعراض عن أمر الله تعالى (فَمَثَلُهُ كَمَثلِ الْكَلْبِ) في أخس أحواله وهو (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ) إن شد عليه فطرد (يَلْهَثْ): هو إخراج الكلب اللسان (أَوْ تَتْرُكْهُ) غير متعرض له بالزجر (يَلْهَثْ) قد نقل: إن بلعم لما دعا عليهم اندلع لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كالكلب أو مثله في أنه إن وعظته أو تركته فهو على(1/671)
الضلال كالكلب في لهثته فِي الحالتين أو إن قلب الكافر ضعيف كالكلب فإن لهث الكلب من ضعف قلبه ولا يلهث سائر الحيوان إلا في حال إعياء أو عطش (ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) المذكور على اليهود أو على كفار مكة (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيعلموا أنها شابهت قصتهم وحالهم فيتعظوا (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ) أي: مثل القوم على حذف المضاف (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ) أي: وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم فتقديم المفعول للتخصيص (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) والاهتداء من أعظم الصفات (وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) والإفراد في الأول والجمع في الثاني إشارة إلى أن طريق الهدى واحد فهم كرجل واحد وأنواع الضلال مختلفة متكثرة (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا) خلقنا (لِجَهَنَّمَ) اللام للعاقبة (كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) وهم الذين حقت عليهم كلمة الشقاوة (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا) أي: لا ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي خلقها الله للاهتداء (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ) فِى عدم فقه معرفة الحق والإبصار للاعتبار والاستماع للتدبر بل صرفوا مشاعرهم وقصروها في أسباب التعيش (بَلْ هُمْ أَضَلُّ) فإن الدواب تفعل ما خلقت له إما بالطبع وإما بالتسخير وترتدع عن مضارها بخلاف الكافر فإنه خلق ليعبد الله وهو يعبد الشيطان ويعلم بعضهم أنه يضره ويرتكبه عنادًا (أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) أشد غفلة لا(1/672)
غفلة بعد (وَلله الأسْمَاءُ الْحُسْنَى) هي أحسن الأسماء دالة على أحسن المعاني وليست منحصرة في التسعة والتسعين (فَادْعُوهُ بِهَا) سموه بتلك الأسماء (وَذَرُوا(1/673)
الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ) ذروهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على آلهتهم بزيادة ونقصان كاللات من الله والمنات من المنان والعزى من العزيز وقيل الإلحاد فيها تسميته بما لم يرد في الكتاب ولا في السنة كـ يا سخي ويا مكار، ويا عاقل (سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) من الإلحاد (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) يقولونه ويدعون إليه (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) يعملون ويقضون وهم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان إلى يوم الدين وهذه صفة من ذرأ للجنة كما وصف من ذرأ لجهنم.
* * *
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي(1/675)
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
* * *
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) سنقربهم إلى الهلاك والعذاب قليلاً قليلاً (مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) كلما جددوا معصية جددنا لهم وأسبغنا عليهم النعم وننسيهم الشكر والاستدراج الاستصعاد أو الاستنزال درجة درجة (وأُمْلِي لَهُمْ) وأمهلهم ليزدادوا ضلالاً بعد ضلال (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) مكري شديد (أَوَلَمْ يَتَفَكرُوا) فيعلموا (مَا بِصَاحِبِهِمْ) أي: محمد عليه الصلاة والسلام (مِنْ جِنَّةٍ) جنون نزلت حين علا عليه الصلاة والسلام الصفا فدعاهم يحذر فقال قائل منهم: إن صاحبكم مجنون بات يهوت إلى الصباح (إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبينٌ) إنذاره (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) نظر استدلال (فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) ربوبيتها وملكها وقيل(1/676)
عجائبها والتاء فيه للمبالغة (وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) وفيما يقع عليه اسمًا لشيء ففي كل شيء له آية (وَأَنْ) أي: أنه (عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) أي: أولم ينظروا في اقتراب آجالهم ليسارعوا إلى ما ينجيهم من العذاب واسم كان ضمير الشأن (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) بعد القرآن (يُؤْمِنُونَ) إن لم يؤمنوا به وليس بعد هذا البيان حديث آخر ينتطر وروده ليؤمنوا به (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) حال من هم ومن قرأ ويذرهم بالياء والجزم فعطف على محل فلا هادي.
(يَسْألونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) أي: القيامة (أَيَّانَ مُرْسَاهَا) متى يكون، وأي وقت إثباتها؟ نزلت في قريش يسألون وقتها استبعادًا لوقوعها (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ) أي: لا يظهر أمرها في وقتها إلا هو أي: الخفاء به مستمر إلى وقت الوقوع واللام للتأنيث كقولهم كتب لثلاث من رجب (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) عظمت وشقت على أهل السماوات والأرض لهولها أو ثقلت عليهما عند الوقوع حتى انشقت وانهدمت، أو ثقل علمها وخفاؤها على أهلهما وعلى الوجوه كلمة في استعارة منبهة على تمكن الثقل، أو معناه خفيت في السماوات والأرض لا يعلمها شيء وكل خفي ثقيل (لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) فجأة على غفلة ونصبه على المصدر فإنها نوع من الإتيان (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) أي: عالم بها(1/677)
من حفى عن الشيء بالغ في السؤال عنه، والمبالغة في السؤال مستلزم للعلم أطلق الحفى وأريد العالم، أو كأنك بالغت في السؤال عنها حتى علمت، أو عنها متعلق بـ يسألونك أي: يسألونك عنها كأنك شفيق بهم من الحفاوة بمعنى الشفقة فإن قريشًا قالوا يا محمد بيننا وبينك قرابة فأسر إلينا متى الساعة، وكأنك في موقع الحال أي: مشبهًا حالك بحال الحفي (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ) لا يطلع عليه أحد كرره تأكيدًا (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن علمها مختص بالله (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا) أي: جلب نفع ولا دفع ضر (إِلا مَا شَاءَ اللهُ) أي: لكن ما شاء يصل فمنقطع أو إلا نفعًا وضرًّا يملكني الله ويوفقني به فمتصل (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) أي: لكانت حالي من استكثار الخير واستفراز المنافع واجتناب السوء على خلاف ما هي عليه، فلم أكن غالبًا مرة ومغلوبًا أخرى، ورابحًا وخاسرًا في التجارة (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي: إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة لهم فإنهم المنتفعون بهما، أو ما أنا إلا نذير(1/678)
للكافرين وبشير للمؤمنين فمتعلق النذير محذوف، ونزلت حين قالت قريش: ألا تعلم الرخص قبل الغلاء فتشتري وتربح والأرض التي تريد أن تجدب فترتحل إلى المخصبة.
* * *
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ(1/679)
الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
* * *
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَة) آدم (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) خلق من ضلع آدم حواء (لِيَسْكُنَ) ليطمئن (إِلَيْهَا) ويأنس بها فإنها جزءه (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا) جامعها (حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا) عليها يعني النطفة (فَمَرَّتْ بِهِ) استمرت به أو قامت وقعدت بالحمل لخفته (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) صارت ذات ثقل لكبر الولد (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا) بشرًا سويًّا فإنهما أشفقا أن يكون بهيمة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لك (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا) (1) لما حملت حواء جاءها إبليس في غير صورته وقال: هذا الذي في بطنك ربما يكون بهيمة، وهل تدري من أين يخرج فخوفها مرارًا كثيرة ثم قال: لي عند الله منزلة وإن دعوت أن يخرج سالمًا سويًّا أتسميه عبد الحارث وهذا اسم إبليس في الملائكة، فلم يزل بها حتى غرها فسمته عبد الحارث بإذن من آدم ولم تعرف حواء أنه إبليس وقد صح هذا النقل عن ابن
___________
(1) قال قتادة أشركا في الاسم ولم يشركا في العبادة.(1/680)
عباس - رضي الله عنهما - وكثير من السلف والخلف، وهذا ليس بشرك حقيقي لأنهما ما اعتقدا أن الحارثَ ربُّه بل قصدا إلى أنه سبب صلاحه فسماه الله تعالى شركًا للتغليظ ويكون لفظ شركاء من إطلاق الجمع على الواحد (فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) فإن الأولى بهما أن لا يفعلا ما أتيا به من الإشراك في الاسم، وعن الحسن البصري رحمه الله يقول: هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادًا فهودوا ونصروا، وعلى هذا تقدير الآية جعل أولادهما له شركاء فيما أتى أولادهما فسموه عبد شمس وعبد مناف وغيرهما، فحذف المضاف وهو الأولاد وأقيم المضاف إليه مقامه، وقوله: " شركاء " و " تعالى الله عما يشركون " بلفظ الجمع يدل عليه قيل معناه هو(1/681)
الذي خلق آل قصي وهم قريش من نفس واحدة وهو قصي فجعل من جنسها زوجها عربية قرشية فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد المناف وعبد العزي وعبد قصي وعبد الدار وقيل تم الكلام عند قوله آتاهما ثم ذكر كفار مكة فقال: " فتعالى الله عما يشركون " (1) (أَيُشْرِكُونَ) ابتداء كلام وإنكار على المشركين (مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا) كالأصنام (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) مخلوقون لله جيء بضمير العاقلين بناء على اعتقادهم وتسميتهم إلهًا (وَلا يَسْتَطعُونَ لَهُمْ) لِعُبَّادهم (نَصْرًا وَلا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) لا يقدرون على دفع مكروه كمن أراد كسرهم (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) أي: الأصنام أو المشركين (إِلَى الْهُدَى) إلى أن يهدوكم أو إلى الإسلام (لا يَتَّبِعُوكُمْ) إلى مرادكم ولا يجيبوكم (سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ) أي: سواء إحداثكم دعاءهم واستمراركم على الصمت عن دعائهم فإن الكفار إذا نزل عليهم أمر دعوا الله تعالى دون الأصنام.
__________
(1) قال الإمام فخر الدين الرازي ما نصه:
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى رَجَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال الشرك وفيه مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَهِيَ نَفْسُ آدَمَ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها أَيْ حَوَّاءَ خَلَقَهَا الله مِنْ ضِلْعِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ غَيْرِ أَذًى فَلَمَّا تَغَشَّاها آدَمُ حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً ... فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أَيْ ثَقُلَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا أَتَاهَا إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ وَقَالَ: مَا هَذَا يَا حَوَّاءُ/ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ كَلْبًا أَوْ بَهِيمَةً وَمَا يُدْرِيكِ مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ؟ أَمِنْ دُبُرِكِ فَيَقْتُلُكِ أَوْ يَنْشَقُّ بَطْنُكِ؟ فَخَافَتْ حَوَّاءُ، وَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمْ يَزَالَا فِي هَمٍّ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهَا وَقَالَ: إِنْ سَأَلْتِ الله أَنْ يَجْعَلَهُ صَالِحًا سَوِيًّا مِثْلَكِ وَيُسَهِّلَ خُرُوجَهُ مِنْ بَطْنِكِ تسميه عبد الحرث، وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أَيْ لَمَّا آتَاهُمَا الله وَلَدًا سَوِيًّا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شَرِيكًا أَيْ جَعَلَ آدَمُ وَحَوَّاءُ له شريكاً، والمراد به الحرث هَذَا تَمَامُ الْقِصَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ فَاسِدٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَتَوْا بِهَذَا الشِّرْكِ جَمَاعَةٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الْأَعْرَافِ: 191] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لله تَعَالَى، وَمَا جَرَى لِإِبْلِيسَ اللَّعِينِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرٌ. الثَّالِثُ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ إِبْلِيسَ لَقَالَ: أَيُشْرِكُونَ مَنْ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا، وَلَمْ يَقُلْ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا، لِأَنَّ الْعَاقِلَ إِنَّمَا يُذْكَرُ بِصِيغَةِ «مَنْ» لَا بِصِيغَةِ «مَا» الرَّابِعُ: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَشَدَّ النَّاسِ مَعْرِفَةً بِإِبْلِيسَ، وَكَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَسْمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها فَكَانَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ أن اسم إبليس هو الحرث فَمَعَ الْعَدَاوَةِ الشَّدِيدَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ ومع علمه بأن اسمه هو الحرث كيف سمى ولد نفسه بعبد الحرث؟ وَكَيْفَ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَسْمَاءُ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَجِدْ سِوَى هَذَا الِاسْمِ؟
الْخَامِسُ: أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا لَوْ حَصَلَ لَهُ وَلَدٌ يَرْجُو مِنْهُ الْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ، فَجَاءَهُ إِنْسَانٌ وَدَعَاهُ إِلَى أَنْ يُسَمِّيَهُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَزَجَرَهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ. فَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ نُبُوَّتِهِ وَعِلْمِهِ الْكَثِيرِ الَّذِي حَصَلَ مِنْ قَوْلِهِ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: 31] وَتَجَارِبِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ بِسَبَبِ الزَّلَّةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا لِأَجْلِ وَسْوَسَةِ إِبْلِيسَ، كَيْفَ لَمْ يَتَنَبَّهْ لِهَذَا الْقَدْرِ وَكَيْفَ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا السَّادِسُ: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أن آدم عليه السلام، سماه بعبد الحرث، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ جَعَلَ هَذَا اللَّفْظَ اسْمَ عَلَمٍ لَهُ، أَوْ جَعَلَهُ صِفَةً لَهُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَخْبَرَ بِهَذَا اللَّفْظِ أنه عبد الحرث وَمَخْلُوقٌ مِنْ قِبَلِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ هَذَا شِرْكًا بالله لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَعْلَامِ وَالْأَلْقَابِ لَا تُفِيدُ فِي الْمُسَمَّيَاتِ فَائِدَةً، فَلَمْ يَلْزَمْ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ حُصُولُ الْإِشْرَاكِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَانَ هَذَا قَوْلًا بِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اعْتَقَدَ أَنَّ لله شَرِيكًا فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْجَزْمَ بِتَكْفِيرِ آدَمَ، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ. فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ فَاسِدٌ وَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَيْهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ وُجُوهٌ صَحِيحَةٌ سَلِيمَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ.
التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ فَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى تَمْثِيلِ ضَرْبِ الْمَثَلِ/ وَبَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ صُورَةُ حَالَةِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي جَهْلِهِمْ، وَقَوْلِهِمْ بِالشِّرْكِ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا إِنْسَانًا يُسَاوِيهِ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ، فَلَمَّا تَغَشَّى الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ وَظَهَرَ الْحَمْلُ، دَعَا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا وَلَدًا صَالِحًا سَوِيًّا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لِآلَائِكَ وَنَعْمَائِكَ. فَلَمَّا آتَاهُمَا الله وَلَدًا صَالِحًا سَوِيًّا، جَعَلَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ لله شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا، لِأَنَّهُمْ تَارَةً يَنْسُبُونَ ذَلِكَ الْوَلَدَ إِلَى الطَّبَائِعِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الطَّبَائِعِيِّينَ، وَتَارَةً إِلَى الْكَوَاكِبِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمُنَجِّمِينَ، وَتَارَةً إِلَى الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ كَمَا هُوَ قَوْلُ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ تَنَزَّهَ الله عَنْ ذَلِكَ الشِّرْكِ، وَهَذَا جَوَابٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ.
التَّأْوِيلُ الثَّانِي: بِأَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ آلُ قُصَيٍّ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسِ قُصَيٍّ وَجَعَلَ مِنْ جِنْسِهَا زَوْجَهَا عَرَبِيَّةً قُرَشِيَّةً لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا آتَاهُمَا مَا طَلَبَا مِنَ الْوَلَدِ الصَّالِحِ السَّوِيِّ جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا حَيْثُ سَمَّيَا أَوْلَادَهُمَا الْأَرْبَعَةَ بِعَبْدِ مَنَافٍ، وَعَبْدِ الْعُزَّى، وَعَبْدِ قُصَيٍّ، وَعَبْدِ اللَّاتِ، وَجَعَلَ الضَّمِيرَ فِي يُشْرِكُونَ لَهُمَا وَلِأَعْقَابِهِمَا الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِمَا فِي الشِّرْكِ.
التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنْ نُسَلِّمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي شَرْحِ قِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي دَفْعِ هَذَا الْإِشْكَالِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَيَرْجِعُ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ إِلَيْهَا، فَذَكَرَ تَعَالَى قِصَّةَ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَحَكَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي ذكرا أنه تعالى لو آتاهما ولداً سوياً صَالِحًا لَاشْتَغَلُوا بِشُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ، ثُمَّ قَالَ:
فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فَقَوْلُهُ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ وَرَدَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالتَّبْعِيدِ، وَالتَّقْرِيرُ: فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا أجعلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا؟ ثُمَّ قَالَ: فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ تَعَالَى الله عَنْ شِرْكِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالشِّرْكِ وَيَنْسُبُونَهُ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنَظِيرُهُ أَنْ يُنْعِمَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْإِنْعَامِ، ثُمَّ يُقَالُ لِذَلِكَ الْمُنْعِمِ: إِنَّ ذَلِكَ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِ يَقْصِدُ ذَمَّكَ وَإِيصَالَ الشَّرِّ إِلَيْكَ، فَيَقُولُ ذَلِكَ الْمُنْعِمُ: فَعَلْتُ فِي حَقِّ فُلَانٍ كَذَا وأحسنت إليه بكذا وكذا وَأَحْسَنْتُ إِلَيْهِ بِكَذَا وَكَذَا، ثُمَّ إِنَّهُ يُقَابِلُنِي بالشر والإساءة والبغي؟ على التبعيد فكذا هاهنا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا فِي حَقِّ آدَمَ وَحَوَّاءَ/ وَلَا إِشْكَالَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَلْفَاظِهَا إِلَّا قَوْلِهِ: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَنَقُولُ: التَّقْدِيرُ، فَلَمَّا آتَاهُمَا وَلَدًا صَالِحًا سَوِيًّا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ أَيْ جَعَلَ أَوْلَادَهُمَا لَهُ شُرَكَاءَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَكَذَا فِيمَا آتَاهُمَا، أَيْ فِيمَا آتَى أَوْلَادَهُمَا وَنَظِيرُهُ قوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] أَيْ وَاسْأَلْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَا الْفَائِدَةُ فِي التَّثْنِيَةِ فِي قَوْلِهِ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ.
قُلْنَا: لِأَنَّ وَلَدَهُ قِسْمَانِ ذَكَرٌ وَأُنْثَى فَقَوْلُهُ: جَعَلا الْمُرَادُ مِنْهُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مَرَّةً عَبَّرَ عَنْهُمَا بلفظ التثنية لِكَوْنِهِمَا صِنْفَيْنِ وَنَوْعَيْنِ، وَمَرَّةً عَبَّرَ عَنْهُمَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ سَلَّمْنَا أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما عَائِدٌ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، إِلَّا أَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا آتَاهُمَا الْوَلَدَ الصَّالِحَ عَزَمَا عَلَى أَنْ يَجْعَلَاهُ وَقْفًا عَلَى خِدْمَةِ الله وَطَاعَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. ثُمَّ بَدَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَتَارَةً كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَمَنَافِعِهَا، وَتَارَةً كَانُوا يَأْمُرُونَهُ بِخِدْمَةِ الله وَطَاعَتِهِ. وَهَذَا الْعَمَلُ وَإِنْ كَانَ مِنَّا قُرْبَةً وَطَاعَةً، إِلَّا أَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا
نُقِلَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ حَاكِيًا عَنِ الله سُبْحَانَهُ: «أَنَا أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي تَرْكُتُهُ وَشِرْكَهُ»
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَالْإِشْكَالُ زَائِلٌ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ نَقُولَ: سَلَّمْنَا صِحَّةَ تِلْكَ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، إلا أنا نقول: إنهم سموا بعيد الحرث لِأَجْلِ أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ إِنَّمَا سَلِمَ مِنَ الْآفَةِ وَالْمَرَضِ بِسَبَبِ دُعَاءِ ذَلِكَ الشَّخْصِ الْمُسَمَّى بالحرث، وَقَدْ يُسَمَّى الْمُنْعَمُ عَلَيْهِ عَبْدًا لِلْمُنْعِمِ. يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: أَنَا عَبْدُ مَنْ تَعَلَّمْتُ مِنْهُ حَرْفًا، وَرَأَيْتُ بَعْضَ الْأَفَاضِلِ كَتَبَ عَلَى عُنْوَانٍ: كِتَابَةُ عَبْدِ وُدِّهِ فُلَانٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنِّي لَعَبْدُ الضَّيْفِ مَا دَامَ ثَاوِيًا ... وَلَا شِيمَةَ لِي بَعْدَهَا تُشْبِهُ الْعَبْدَا
فَآدَمُ وَحَوَّاءُ عَلَيْهِمَا السلام سميا ذلك الولد بعبد الحرث تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا سَلِمَ مِنَ الْآفَاتِ بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ، وَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ عَبْدَ الله مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَمْلُوكُهُ وَمَخْلُوقُهُ، إِلَّا أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ فَلَمَّا حَصَلَ الِاشْتِرَاكُ فِي لَفْظِ الْعَبْدِ لَا جَرَمَ صَارَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُعَاتَبًا فِي هَذَا الْعَمَلِ بِسَبَبِ الِاشْتِرَاكِ الْحَاصِلِ فِي مُجَرَّدِ لَفْظِ الْعَبْدِ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا نَقُولُهُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ وَفِيهَا مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ المشهور أنها نفس آدم وقوله: / خَلَقَ مِنْها زَوْجَها الْمُرَادُ حَوَّاءُ. قَالُوا وَمَعْنَى كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً مِنْ نَفْسِ آدَمَ، أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ.
قَالُوا: وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْجِنْسَ إِلَى الْجِنْسِ أَمْيَلُ، وَالْجِنْسِيَّةُ عِلَّةُ الضَّمِّ، وَأَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ ابْتِدَاءً فَمَا الَّذِي حَمَلَنَا عَلَى أَنْ نَقُولَ إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ جُزْءٍ أَجْزَاءِ آدَمَ؟ وَلِمَ لَا نَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ حَوَّاءَ أَيْضًا ابْتِدَاءً؟ وَأَيْضًا الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ إِنْسَانٍ مِنْ عَظْمِ وَاحِدٍ فَلِمَ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِهِ ابْتِدَاءً، وَأَيْضًا الَّذِي يُقَالُ: إِنَّ عَدَدَ أَضْلَاعِ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ أَنْقَصُ مِنْ عَدَدِ أَضْلَاعِ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ فِيهِ مُؤَاخَذَةٌ تُنْبِي عَنْ خِلَافِ الْحِسِّ وَالتَّشْرِيحِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إِذًا لَمْ نَقُلَ بِذَلِكَ، فَمَا الْمُرَادُ من كلمة (من) في قوله: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها فَنَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِشَارَةَ إلى الشيء تارة تكون بِحَسَبِ شَخْصِهِ، وَأُخْرَى بِحَسَبِ نَوْعِهِ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ الله الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ»
وَلَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ الْفَرْدَ الْمُعَيَّنَ بَلِ الْمُرَادُ ذَلِكَ النَّوْعُ.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ هَذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَظْهَرَ الله فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ»
وَالْمُرَادُ خَلَقَ مِنَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ زَوْجَةَ آدَمَ، وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ زَوْجَ آدَمَ إِنْسَانًا مِثْلَهُ قَوْلُهُ: فَلَمَّا تَغَشَّاها أَيْ جَامَعَهَا، وَالْغِشْيَانُ إِتْيَانُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ وَقَدْ غَشَّاهَا وَتَغَشَّاهَا إِذَا عَلَاهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا عَلَاهَا فَقَدْ صَارَ كَالْغَاشِيَةِ لَهَا، وَمِثْلُهُ يُجَلِّلُهَا، وَهُوَ يُشْبِهُ التَّغَطِّيَ وَاللُّبْسَ. قَالَ تَعَالَى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ
وَقَوْلُهُ: حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً قَالُوا يُرِيدُ النُّطْفَةَ وَالْمَنِيَّ وَالْحَمْلُ بِالْفَتْحِ مَا كَانَ فِي الْبَطْنِ أَوْ عَلَى رَأْسِ الشَّجَرِ، وَالْحِمْلُ بِكَسْرِ الْحَاءِ مَا حُمِلَ عَلَى ظَهْرٍ أَوْ عَلَى الدَّابَّةِ. وَقَوْلُهُ: فَمَرَّتْ بِهِ أَيِ اسْتَمَرَّتْ بِالْمَاءِ وَالْحَمْلِ عَلَى سَبِيلِ الْخِفَّةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُومُ وَتَقْعُدُ وَتَمْشِي مِنْ غَيْرِ ثِقَلٍ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»: وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ فَمَرَّتْ بِهِ بِالتَّخْفِيفِ وَقَرَأَ غَيْرُهُ (فَمَارَتْ بِهِ) مِنَ الْمِرْيَةِ. كقوله: أَفَتُمارُونَهُ [النجم: 12] وفي قراءة أخرى أفتمرونه مَعْنَاهُ وَقَعَ فِي نَفْسِهَا ظَنُّ الْحَمْلِ وَارْتَابَتْ فِيهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أَيْ صَارَتْ إِلَى حَالِ الثِّقَلِ وَدَنَتْ وِلَادَتُهَا دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما يَعْنِي آدَمَ وَحَوَّاءَ لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً أَيْ وَلَدًا سَوِيًّا مِثْلَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لِآلَائِكَ وَنَعْمَائِكَ فَلَمَّا آتاهُما الله صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما وَالْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِهِ قَدْ مَرَّ بِالِاسْتِقْصَاءِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَعَاصِمٌ، فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ (عَنْهُ شُرَكَاءَ) بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ (عَنْهُ شِرْكًا) بِكَسْرِ الشِّينِ وَتَنْوِينِ الْكَافِ وَمَعْنَاهُ جَعَلَا لَهُ نُظَرَاءَ ذَوِي شِرْكٍ وَهُمُ الشُّرَكَاءُ، أَوْ يُقَالُ مَعْنَاهُ أَحْدَثَا لله إِشْرَاكًا فِي الْوَلَدِ وَمَنْ قَرَأَ شُرَكاءَ فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ: أَمْ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ خَلَقُوا [الرَّعْدِ: 16] وَأَرَادَ بِالشُّرَكَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِبْلِيسَ لِأَنَّ مَنْ أَطَاعَ إِبْلِيسَ فَقَدْ أَطَاعَ جَمِيعَ الشَّيَاطِينِ، هَذَا إِذَا حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْقِصَّةِ الْمَشْهُورَةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ نَقُلْ بِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ والله أَعْلَمُ. اهـ (مفاتيح الغيب. 15/ 427 - 430).(1/682)
(إِن الَّذِينَ تَدْعُونَ) تعبدونهم (مِنْ دُون الله) أي: الأصنام (عبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) مملوكون مسخرون (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) أي: لا يقدرون على إنجاح سؤال سائل (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) إنهم آلهة (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا) هذا بيان لقصور معبودهم عن عبادهم كأنه قال: عباد أمثالكم بل أنتم أكمل (أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قلِ) يا محمد (ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ) في عداوتي (ثُمَّ كِيدُونِ) ثم بالغوا أنتم وشركاؤكم في مكروهي (فَلَا تُنْظِرُونِ) لا تمهلوني فإني لا أعبأ بكم (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ) القرآن (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) يلي أمرهم وينصرهم (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) دون الله (لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) فكيف أخاف ذاك العابد وذاك المعبود (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) الأصنام (إِلَى الْهُدَى) أي: ما هو صلاحهم أو إلى أن يهدوكم (لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) أي: كأنهم ينظرون فإنهم نحتوها مصورين بالعين والأنف والأذن (وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) لأنَّهُم لا يقدرون إيجاد النور في أعين أصنامهم أو ضمير تدعوهم وتراهم إلى المشركين لقوله تعالى: " صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ " [البقرة: 18] (خُذِ الْعَفْوَ) من أخلاق الناس من غير تجسس كقبول أعذارهم والمساهلة معهم وقد ورد أنه لما نزل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما هذا يا جبريل قال: إن الله تعالى أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من(1/683)
قطعك " أو خذ الفضل وما تسهَّل به من أموالهم وذلك قبل وجوب الزكاة (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) بالعروف وهو كل ما يعرفه الشرع (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) لا تقابل السفه بالسفه (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ) نزغه إذا طعنه وكأن الشيطان يطعن حين يغري الناس إلى المعاصي وحاصله إذا عرض لك منه أدنى وسوسة تصدك عن الإعراض عن الجهال (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) فإنه الملجأ أو المنجى (إِنَّهُ سَمِيعٌ) بالدعاء (عَلِيمٌ) بالمصالح وبأحوال الناس (إِن الَّذِينَ اتَّقَوْا) الكبائر (إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ) لمة ووسوسة من طاف به الخيال يطيف أو من طاف يطوف ومن قرأ (طَيفٌ) فهو مصدر، أو تخفيف طيف كلين من لان يلين أو كهين من هان يهون (مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا) وعيد الله ووعده (فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) مواقع الخطأ ومكائد الشيطان فأنابوا لا كالكفار العمى (وَإِخْوَانُهُمْ) أي: الكفرة فإنهم إخوان الشياطين وأتى بضمير الجمع للشيطان؛ لأن المراد منه الجنس (يَمُدُّونَهُمْ) ضمير الفاعل للشياطين أي: يكون الشياطين مددًا لهم (فِي الْغَيِّ) أو المراد من الإخوان الشياطين وضمير إخوانهم للجاهلين أي: شياطينهم يكونون مددًا لهم (ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) لا يمسكون على إغوائهم، أو الضمير للكفرة أي: لا يكفون عن الغي أو الضمير للكفرة والشياطين جميعًا أي لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات ولا الشياطين يمسكون عنهم (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ) من القرآن أو معجزة اقترحوها (قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا) اختلقتها من قبل نفسك قيل: كانوا يسألون الآيات تعنتًا فإذا تأخرت اتهموه وقالوا لولا اجتبيتها وأنشأتها من نفسك، أو معناها لم لا تجهد نفسك في طلب الآيات من الله(1/684)
تعالى حتى نراها ونؤمن بها (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) لست بمختلق أو إن منعها لا أسألها إلا بإذنه (هَذَا) أي: القرآن (بَصَائِرُ) للقلوب بها تبصر الحق (مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فلو كان لكم بصيرة لكفاكم القرآن آية (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الأصح أنها نزلت في ترك التكلم في الصلاة أو ترك القراءة مع الإمام إذا جهر فيها ولا شك أنه يستحب(1/685)
الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن مطلقًا (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) أمر بذكره أول النهار وآخره (تَضَرُّعًا) متضرعًا (وَخِيفَةً) خائفًا (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ)(1/686)
وهو كما قال ابن عباس - رضى الله عنهما - أن تسمع نفسك دون غيرك (بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) بهذين الوقتين لفضلهما (وَلا تَكنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) عن ذكره وهدا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء، والآية مكية وأما حمل الآية على غير هذا المعنى فبعيد، ولا يساعده نقل سديد (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) أي: الملائكة المقربين (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ) ينزهونه (وَلَهُ) لا لغيره (يَسْجُدُونَ) لا يشركون بالعبادة غير الله تعالى أي: هم مع كونهم آمنين من سوء العاقبة وعذابه متوجهون إلى الله تعالى دائما فأنتم مع خوفكم تتمادون في الغفلة وتعبدون غيره وهذه أول سجدة في القرن لتاليها ومستمعها بالإجماع.
والحمد لله حقَّ حمده ..
* * *(1/687)
سورة الأنفال
مدنية
وهي خمس وسبعون آية وعشر ركوعات
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لله وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
* * *
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ) أيِ: حكم الغنائم نزلت حين اختلف كلام الشبان(2/3)
والشيوخ في غنائم بدر، والشبان ادعوا الأحقية بأنَّهم باشروا القتال (قُلِ الْأَنْفَالُ لله وَالرَّسُولِ): فيضعها الرسول حيث يأمره الله، ولذلك قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائم بدر بين الشبان والشيوخ على السواء، وعن بعض: إن هذا في بدر ثم نسخت بقوله: " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ " إلى آخره، فإن غنائم بدر قسمت من غير تخميس وفيه نظر، لأن بعض الأحاديث يدل على تخميسها صريحًا (فَاتَّقُوا اللهَ): في الاختلاف (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ): الحال التي بينكم بترك المنازعة (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإن من مقتضى الإيمان طاعة الله ورسوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ): بأن سمعوا الأذان والإقامة (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ): من الله فأدوا فرائضه (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا): تصديقًا (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ): لا يرجون غيره، وإن سألوا غيره، فإنهم يعلمون أنه المعطي والمانع (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ)؛ يديمونها (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ): يؤدون الصدقة الواجبة (وأُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمنونَ حَقًّا): صدقًا من غير شك، صفة مصدر محذوف أي: إيمانًا حَقًّا، أو مصدر مؤكد، بخلاف المنافق، فإنه لا يدخل في قلبه شيء من ذكر الله تعالى عند الصلوات، ولا يصدقون بآيات الله تعالى كلما نزلت، فلا يزداد إيمانهم،(2/4)
ولا يصلون إذا غابوا عن محضر المسلمين، ولا يؤدون الزكاة، فهم ليسوا بمؤمنين حقًّا، هكذا فسرها ابن عباس - رضى الله عنهما -، أو معناها المؤمن الكامل الإيمان من ضم إلى مكارم أعمال قلبه من الخشية عند ذكر الله تعالى من الإخلاص، واطمئنان النفس ورسوخ اليقين، ومن التوكل عليه في جميع الأمور، محاسن أفعال الجوارح، من الصدقة والصلاة (لَهُمْ دَرَجَاتٌ): من الجنة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) يرتقونها بأعمالهم لا للمنافقين (وَمَغْفِرَةٌ) لسيئاتهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ): حسن، وهو رزق الجنة.
(كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ) خبر مبتدأ محذوف، أي: الحال في كراهتهم القتال كحال إخراجك من المدينة، أو متعلق بما بعده، وهو يجادلونك ومعنى الوجهين واحد، أو تقديره: حالهم في كراهة حكمنا بأن الأنفال لله تعالى كحالهم في حكمنا بإخراجك من المدينة (بِالْحَقِّ) أي: إخراجًا متلبسًا بالحكمة والصواب (وَإِن فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ): بعضًا منهم (لَكَارِهُونَ): الخروج وحينئذ الجملة في موقع الحال، وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام في تجارة عظيمة، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عقبهم، فبلغ الخبر أهل مكة، فخرج أبو جهل مع عسكر عظيم، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القتال ووعد الأصحاب بالظفر فقال بعضهم: هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له، ثم واجهوا العدو وقاتلوا في بدر، والظفر للمسلمين (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ): وهو إيثار الجهاد (بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ): نصرتهم بإعلام رسول(2/5)
الله - صلى الله عليه وسلم - (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي: يكرهون القتال كراهة من يجر إلى القتل، وهو مشاهد ناظر إلى أسبابه (وَإِذ يَعِدُكم اللهُ) أي: اذكر إذ يعدكم (إِحْدَى الطَّائِفتَيْنِ): العير التي فيها التجارة، أو النفير التي خرت من مكة (أَنَّهَا لَكُمْ) بدل اشتمال من ثاني مفعوليه، وهو إحدى (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ) أي: العير التي ليس فيها عدد كثير ولا عُدَد (تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ): أن يثبت ويظهر (الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ): بأمره إياكم بالقتال، قيل الباء بمعنى مع أي: يرفع كلمة الله ويجعل دينه عاليًا غالبًا (وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) الدابر: الآخر، وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال، يعني إرادتكم إصابة مال بلا مكروه، وإرادة الله إعلاء كلمته، وفوز الدارين لكم (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ) متعلق بمحذوف أي: لهذين الجهتين فعلنا ما فعلنا أو متعلق بيقطع (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ): ذلك (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ): هو إلحاح دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رأى شوكة الأعداء، وهو بدل من إذ يعدكم بأن يكون عبارة عن زمان واسع وقع الوعد في بعض أجزائه والاستغاثة في بعض، أو متعلق بـ " ليحق " (رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ) أي: بأني ومن قرأ " إني " بالكسر فعلى إرادة(2/6)
القول، أو استجاب بمنزلة قال (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ): متتابعين بعضهم على إثر بعض، أو مردفين بألف آخر فقد نقل عن علي رضي الله عنه -: إن جبريل في ألف عن ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم - وفيها أبو بكر وميكائيل في ألف عن ميسرته وأنا فيها، ومن قرأ بفتح الدال فمعناه أردف الله المسلمين بهم، أو أردف الله ألفًا بألفٍ آخر وقد أنزل الله تعالى أولاً ألفًا ثم ألفًا ثم ألفًا إلى خمسة آلاف كما ذكرناه في سورة آل عمران (وَمَا جَعَلَهُ اللهُ) أي: الإمداد (إِلا بُشْرَى): بشارة (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) فيزول منها الوجل (وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْد اللهِ) وإمداد الملائكة وكثرة العدد والعُدَد وسائط لا تأثير لها (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ): َ لا يغالب (حَكِيمٌ) في أفعاله.
* * *
(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ
* * *(2/7)
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
* * *
(إِذْ يُغَشِّيكُمُ): الله (النُّعَاسَ) بدل ثان من إذ يعدكم أو بإضمار اذكر (أَمَنَةً): أمنًا وهو مفعول له وفيه شرط النصب؛ لأن حاصل معنى يغشيكم النعاس تنعسون والأمنة فعل لفاعله (مِنْهُ) أي: حاصلة من الله تعالى وهذه السِّنَة في البدر أيضًا ففي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الصديق يدعوان يوم بدر في العريش أخذته سنة ثم استيقظ متبسمًا وقال: أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع، وعن علي - رضي الله عنه - قال: لقد رأينا يوم بدر وما فينا إلا نائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ويبكي حتى أصبح (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِن السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ): من الجنابة والحدث (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ(2/8)
الشَّيْطَانِ): وسوسته، فإنهم في البدر نزلوا على غير الماء، فاحتلم أكثرهم وقد غلب الكفار على الماء، وقد وسوس إليهم الشيطان بأنكم تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسول الله وحينئذ تصلون على جنابة، فأنزل الله تعالى المطر، وسال الوادي (وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ) بالصبر واليقين (وَيُثَبِّتَ بِهِ): بسبب المطر والربط (الأقْدَامَ) على المحاربة يعني قوى قلوبهم، وشجعهم أو المطر لبد الرمل بحيث لا يغوص أرجلهم فيه، فثبت أقدامهم، فإنهم في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام (إِذْ يُوحِي) بدل ثالث أو بإضمار اذكر (رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ): بالعون والنصر، وهو مفعول يوحي، وعند بعضهم أن الخطاب مع المؤمنين أي: أوحى للملائكة أن يقولوا للمؤمنين: إن الله معكم (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) ببشارة النصر، أو بتكثير سوادهم، ومحاربة أعدائهم (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ): الخوف (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ) أي: الرؤوس أو أعاليها، وهي المذابح، قال ربيع(2/9)
بن أنس: كان الناس يعرفون قتلى الملائكة من قتيلهم، بضرب فوق الأعناق، وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق بها (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ): أصابع أو كل طرف ومفصل، قيل: الخطاب في قوله فاضربوا للمؤمنين، والأكثرون على أنه للملائكة (ذَلِكَ) أي: الضرب أو الأمر به (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ): خالفوهما، تركوا الشرع فصاروا في شق (وَمَنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ): له (ذَلِكُمْ): الخطاب مع الكفرة أي: الأمر ذلكم، أو ذلكم العذاب (فَذوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ) عطف على ذلكم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا) الزحف: الجيش الكثير منصوب عطى الحال (فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ) بالانهزام (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ): يوم القتال مطلقًا، أو يوم قتال البدر خاصة (دُبُرَهُ): فانهزم (إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ): يفر مكيدة، ليرى أنه خاف، فيتبعه العدو فيكر عليه ويقتله (أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ) فر من ههنا إلى فئة أخرى من المسلمين يعاونونه، حتى لو كان في سرية ففر إلى أميره أو إمامه الأعظم لجاز، ونصب متحرفًا ومتحيزًا على الحال، أو استثناء من المولين أي: إلا رجلاً متحرفًا(2/10)
(فَقَدْ بَاءَ): رجع (بِغَضَب مِنَ اللهِ وَمَأوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ): جهنم، أكثر السلف على أن هذا في يوم بدر خاصة (1)، ولهذا " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم فيه: " اللهم إن تهلك هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض أبدًا "، وأما في سائر الحروب فجاز الفرار إذا كان الكفار أكثر من مثليهم وعن بعض الفرار مطلقًا حرام وكبيرة إلا عن هذين السببين، وعن بعض هذا خاصة الصحابة (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) تقديره: إن فخرتم بقتلهم يوم بدر، فلم تقتلوهم بقوتكم (وَلَكِنَّ الله قَتَلَهُمْ): بأن أظفركم عليهم، وأرسل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم، نزلت حين انصرفوا عن القتال يتفاخرون، يقولون: قتلنا فلانًا أو أسرنا فلانًا، فهو تعالى يبين أنه خالق أفعالهم وأنه المحمود على جميع خير صدر عنهم (وَمَا رَمَيْتَ): يا محمد قبضة التراب في أعينهم (إِذْ رَمَيْتَ) أتيت بصورة الرمي (وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى) أتى بما هو غاية الرمي، فصورة الرمي منك، وحقيقتها مني كأنه قال: ما رميت خلقًا إذ رميت كسبا،
___________
(1) فيه إشكال، فإن الآية نزولها إن كانت قبل وقعة بدر لها فائدة لكن ما قبل الآية وما بعدها صريح في أن نزولها بعد وقعته، إلا أن يقال: مضمونها وحكمها قبل كما في " فثبتوا الذين آمنوا سألقي " لكن لفظها للامتنان بعد تأمل فإنك لا ترى مفسرًا حام حول تحقيقها. اهـ (حاشية الكتاب).(2/11)
" وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ قبضة من تراب، بتعليم جبريل عليه السلام فرمى بها وجوه الأعداء، قائلاً: شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا وامتلأت عينه منها "، فاشتغلوا بأعينهم فردفهم المؤمنون بالقتل والأسر، وهذه الرمية ليست من جنس أفعال البشر وقوتهم (وَلِيُبْلِيَ) تقديره: ولكن الله رمى لفوائد كثيرة وليبلي (الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ): من الله (بَلاءً حَسَنًا) أي: ولينعم عليهم نعمة حسنة عظيمة بالنصر، ومشاهدة الآيات فيشكروا (إِنَّ الله سَمِيعٌ): بدعائهم (عَلِيمٌ) بضمائرهم (ذلِكُمْ): إشارة إلى البلاء الحسن، وتقديره: الأمر والحكمة ذلكم (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) أي: الحكمة إبلاء المؤمنين، وإبطال حيل الكافرين (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ) المشركون حين خرجوا تعلقوا بأستار الكعبة، وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم الحزبين وأهدى الفئتين، أو قال أبو جهل يوم بدر: اللهم أهلك أيتنا أقطع للرحم، فيقول تعالى: إن طلبتم الفتح للأكرمين أو لواصل الرحم، فقد استجاب الله تعالى، فالخطاب على سبيل التهكم (وَإنْ تَنْتَهُوا) عن الشرك (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا): إلى الكفر والمحاربة (نَعُد) لكم بمثل وقعة بدر (وَلَنْ تُغنِيَ): ترفع (عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ): جماعتكم (شَيْئًا) من الإغناء أو المضار (وَلَوْ كَثُرَتْ) فئتكم (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ): بالنصر، فلا يغلبون، ومن قرأ " أن " بفتح الهمزة تقديره: لأن الله مع المؤمنين وقعت تلك الواقعة.
* * *(2/12)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ) لا تتولوا عن الرسول، ولا تعرضوا عنه، فإن طاعته طاعة الله تعالى (وَأَنتمْ تَسْمَعون) القرآن أي: بعد ما علمتم وأجبتم داعي الله (وَلا تَكُونوا كَالذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا) هم الكفرة أو المنافقون (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) سماع انتفاع، فكأنهم ما سمعوا، أو معناه يقولون: أطعنا وهم لا يطيعون.
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ): جميع الحيوانات (عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ): عن الحق (الْبُكْمُ) عن التكلم به (الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) فهذا الضرب من بني آدم شر الخلائق (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا): انتفاعًا بالآيات (لَأَسْمَعَهُمْ): إسماع تفهيم (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) وقد علم ألا خير فيهم (لَتَوَلَّوْا): ما صدقوا وما انتفعوا به، فكيف على تقدير عدم(2/13)
الإسماع، كقوله: نعم العبد صهيب، ولو لم يخف الله لم يعصه (وَهُمْ مُعْرِضون): عنه عنادًا بعد الفهم، أو معناه وهم قوم عادتهم الإعراض عن الحق (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ) بالطاعة (إِذَا دَعَاكُمْ) وحَّد الرسول لأن دعوة الله تسمع من رسوله (لِمَا يُحْيِيكُمْ) أي: الإيمان فإنه يورث الحياة الأبدية، أو القرآن فيه الحياة والنجاة، أو الشهادة فإنهم أحياء عند الله يرزقون، أو الجهاد فإنه سبب بقائكم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ): بين المؤمن وكفره وبين الكافر وإيمانه، أو يحول حتى لا يدري ما يعمل، أو حتى لا يستطيع أن يعزم على شيء إلا بإذنه، أو تمثيل لغاية قربه من العبد كقوله: " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " [ق: 16].
(وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) لجزاء الأعمال.
(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) حذر الله المؤمن عن محنة تعم المسيء وغيره، لا تخص من باشر الذنب، والفتنة إقرار المنكر بين أظهرهم والمساهلة في(2/14)
الحسبة، بمعنى لا تصيبن وبالها، أو نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير وما وقع عليهم يوم الجمل بعد شهادة عثمان - رضى الله عنهم - أو في قوم مخصوصين من الصحابة أصابتهم الفتنة يوم الجمل، والأول أصح، وقوله " لا تصيبن " إما جواب الأمر على مذهب الكوفيين فتقديره إن لا تتقوا لا تصب الظالمين خاصة، ودخول النون لما فيه من معنى النهي، كأن إصابة الفتنة إليهم خاصة مطلوب، وإما صفة فتنة ولا للنهي؛ لأن النون لا تدخل المنفي في غير القسم بتقدير القول أي: فتنة مقولاً في حقها (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
(وَاذْكُرُوا): ياَ معشر المهاجرين (إِذْ أَنتمْ قَلِيلٌ): في العدد (مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ) بمكة قبل الهجرة (تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطكُمُ النَّاسُ): يذهب بكم، ويعدمكم كفار قريش أو كفار سائر البلاد (فَآوَاكُمْ) إلى المدينة (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) على الأعداء يوم بدر وغيره (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) الغنائم، وكانت لا تحل للأمم السابقة (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): لكي تشكروا نعمة، والآية خطاب للعرب كافة لا للمهاجرين خاصة، فإن العرب كانوا أذل الناس وأجوعه وأعراه وأضله، حتى جاء الله بالإسلام فمكنهم في البلاد، وسلطهم على العباد وجعلهم ملوكًا شرفاء، وصيرهم مترفهين أغنياء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) بترك فرائض الله وسننه، أو بما تضمروا خلاف ما تظهرون (وَتَخُونُوا) داخل في النهي، أو نصب(2/15)
بإضمار أن (أَمَانَاتِكُمْ) أي: لا تنقضوا كل عمل ائتمن الله عليه العباد، أو لا تخونوا أماناتكم فيما بينكم بأن لا تحفظوها (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنها أمانة، أو أنتم علماء، قال كثير من السلف: نزلت في أبي لبابة حين حاصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريظة وأمرهم أن ينزلوا على حكم سعد فاستشار قريظة من أبي لبابة في النزول على حكم سعد، وكان أهل أبي لبابة وأمواله فيهم فأشار إلى حلقه أنه الذبح فتلك خيانة (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ): اختبار وامتحان ليختبركم أنكم(2/16)
تشتغلون بها عن الله سبحانه، فتنسونه وتعصونه أو تذكرونه وتطيعونه فيها، فإن أبا لبابة خان بسبب الأولاد والأموال (وَأَنْ الله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ): خير لكم من أموالكم وأولادكم، فحافظوا على حدود الله تعالى فيهم.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
* * *(2/17)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا): مخرجًا ونجاة في الدنيا والآخرة، أو فصلاً بين الحق والباطل أو يفرق بينكم وبين ما تخافون، أو ظهورًا يعلي قدركم (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ): يسترها عن أعين الناس (وَيَغفِرْ لَكُمْ) لا يؤاخذكم بها (وَاللهُ ذو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فبمحض إحسانه يفي بما وعدكم على التقوى.
(وَإِذْ يَمْكُرُ) أي: واذكر هذا الزمان (بِكَ الذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ): ليقيدوك ويحبسوك (أوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخرِجُوكَ): من مكة، اجتمع قريش وشاور بعضهم بعضًا في شأن محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقيل: قيدوه حتى يموت وقيل: أخرجوه فتستريحوا من أذاه ثم اتفقوا على رأى أبي جهل وهو: أن يؤخذ من كل بطن رجل، يضربونه ضربة رجل واحد، فلا يقوى بنو هاشم على طلب قوده من جميع قريش، وهذا بتصويب الشيطان فإنه بينهم في صورة شيخ جليل فأمر الله تعالى نبيه بالهجرة (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ): يعاملهم الله تعالى معاملة الماكرين (وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) إذ مكره أنفذ تأثيرًا (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ(2/18)
الْأَوَّلِينَ): ما هذا إلا ما سطره الأولون من القصص، هو اقتبسها وتعلم منها، نزلت في نضر بن الحارث ومن وافقه ورضى بقوله حين ذهب إلى بلاد فارس وتعلم من أخبار ملوكهم، فلما رجع يحدثهم من أخبار أولئك، ثم يقول: تالله أينا أحسن قصصًا أنا أو محمد، وهذا غاية مكابرته وفرط عناده، فإنهم لا يجدون إلى أقصر سورة سبيلاً.
(وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا) أي: القرآن (هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) هذا قول النضر بن الحارث أيضًا أو قول أبي جهل، وغرضه إظهار عدم الشك في بطلان القرآن، والتعريف في الحق إشارة إلى الحق الذي يدعيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه منزل من ربه، فإنهم يسلمون أنه قصص القرون الماضية، وقد نقل أن معاوية قال لرجل من سبأ ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة أي: بلقيس قال: أجهل من قومي قومك؛ قالوا حين دعاهم إلى الحق: " إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ " الآية، ولم يقولوا إن كان هذا هو الحق فاهدنا له (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ): مقيم بمكة، فإن الله تعالى لا يستأصل قومًا وفيهم نبيهم، واللام لتأكيد النفي (وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي:(2/19)
وفيهم مَن يستغفر كالمومنين الذين كانوا بمكة، وما استطاعوا الهجرة أو لما أمسوا ندموا على قولهم: اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ، فقالوا: غفرانك غفرانك، فنزلت، أو المراد من استغفارهم أنه في علم الله تعالى أن بعضهم يؤمنون، فالمعنى يمهلهم، لأن فيهم من يستغفر بعد ذلك، وقد ورد: " أنزل على أمانين لأمتي: " وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ " الآية فإذا مضيت تركت فيكم الاستغفار "، قيل: هذا دعوتهم إلى الإسلام والاستغفار، أي: استغفروا لا أعذبكم كما تقول: لا أعاقبك وأنت تطيعني، أي: أطعني لا أعاقبك، وقيل معناه: وفي أصلابهم من يستغفر (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) قال بعضهم: قوله: " وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ " نزل بمكة، فلما خرج عليه الصلاة والسلام إلى المدينة نزل: (وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، أي: من بقى من المؤمنين في مكة، فلما خرجوا أنزل الله تعالى " وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ " والتعذيب فتح مكة، أو القتل يوم بدر، أو الجوع والضر، وقال بعضهم: قوله " وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ " الآية منسوخة بقوله: " وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ " وهذا عند من قال المراد بالاستغفار: صدور الاستغفار منهم نفسهم، كما ذكرنا غفرانك غفرانك (وَهُمْ يَصُدُّونَ): يمنعون المؤمنين (عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) كعام الحديبية وإخراج رسول الله - صلى الله عليه وسلم (وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ) مستحقين ولاية أمر المسجد الحرام، فإنهم يقولون: نحن أولياء الحرم نفعل فيه ما نريد (إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ):(2/20)
عن الشرك (وَلَكِن أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) إنهم غير مستحقين لولاية الحرم ومنهم من يعلم ويعاند.
(وَمَا كَانَ صَلاتهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً) أي: كيف لا يستحقون العذاب، وكيف يكونون ولاة الحرم، وتقربهم إلى الله تعالى وما يضعون موضع صلاتهم الصفير يدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون في الطواف (وَتَصْدِيَةً): تصفيقًا، وقد نقل كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفرون بأفواههم ويصفقون بأيديهم، وقال بعضهم: كان إذا - صلى النبي صلى الله عليه وسلم - في الحرم قام رجلان عن يمينه يصفران، ورجلان عن يساره يصفقان ليخلطوا عليه صلاته، وقال بعضهم: المراد صد الناس عن سبيل الله تعالى، فحينئذ من قلب إحدى الدالين تاء كما في ظنيت من الظن (فَذُوقُوا الْعَذَابَ): ببدر (بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا): الناس (عَنْ سبِيلِ اللهِ) لما رجع من بقى من الكفرة من بدر إلى مكة، استعانوا من أبي سفيان وغيره من مال تجارة الشام، واستقرضوا أيضًا ثم أنفقوا في غزوة أحد، ولهذا قالوا: نزلت في أبي سفيان، أو المراد صرف أموالهم في غزوة بدر (فَسَيُنْفِقُونَهَا) أي: بعد ذلك في غزوة أحد (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً): في الآخرة، أو في الدنيا لذهاب الأموال، وعدم نيل المرام (ثُمَّ يُغْلَبُونَ): عاقبة الأمر، وقيل: المراد من قوله: " فَسَيُنْفِقُونَهَا " ذكر قرب زمان الإنفاق ثم الحسرة على صرفه ثم غلبة المؤمنين، فإنه وإن كان الإنفاق وحده واقعًا متقدمًا لكن الإنفاق والحسرة(2/21)
والمغلوبية، لم يقع بعد حين نزول الآية، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُون) يعني: من مات على الكفر منهم (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطيِّبِ): الشقي من السعيد، أو الإنفاق الخبيث في سبيل الشيطان من الإنفاق الطيب في سبيل الله تعالى، واللام متعلق بـ يحشرون، وهذا التمييز في الآخرة أو في الدنيا وحينئذ متعلق اللام مقدر أي: يسر الله للكافرين إنفاق أموالهم في محاربتكم، ليميز الخبيث من الطيب، أي: من يطيعه بقتال أعداء الله ممن يعصيه بالنكول عنه كما قال تعالى " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه " [آل عمران: 109]، وقال تعالى " وما أصابكم يوم التقى الجمعان " [آل عمران: 166] (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ) أي: الفريق الخبيث (بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا): عبارة عن الضم والجمع حتى يتراكبوا لفرط ازدحامهم، أو معناه يضم على الكافر ما أنفقه ليزيد به عذابه، كقوله " فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ " [التوبة: 35]. (فَيجْعَلَهُ في جَهَنَّمَ أُولَئِكَ) أي: الفريق الخبيث (هُم الْخَاسِرُونَ).
* * *
(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ(2/22)
كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
* * *
(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا): كأبي سفيان وغيره أي: لأجلهم (إِنْ يَنْتَهُوا): عن الكفر ومعاداة الدين (يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ): من الذنوب (وَإِنْ يَعُودُوا) إلى القتال ويستمروا على كفرهم (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) في نصرة أنبيائه وإهلاك أعدائه، أو سنة الأولين في قريش يوم بدر (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ): لا يوجد شرك، أو لا يفتن مؤمن عن دينه (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله): لا يعبد غير الله تعالى في جزيرة العرب (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الكفر (فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(2/23)
يجازيهم مجازاة البصير بهم، أو معناه فإن انتهوا عما هم فيه من الكفر والقتال، فكفوا عنهم وإن كنتم لا تعلمون بواطنهم، فإن الله بما يعملون بصير ومن قرأ " تعملون " بالتاء، فمعناه: فإن الله بما تعملون من الجهاد والدعوة إلى الإسلام، وتسببكم إلى إخراجهم من ظلمة الكفر بصير، فيجازيكم (وَإِن تَوَلوْا) ولم ينتهوا عن الشرك والقتال (فَاعْلَمُوا أَن الله مَوْلاكُمْ): ناصركم (نعمَ الْمَوْلَى): لا يضيع من تولاه (وَنِعمَ النَّصيرُ) فمن نصره لا يغلب أبدًا.
(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ): أخذتم من الكفار قهرًا لا صلحًا، أي شيء كان (فأَن لله خُمُسَهُ) مبتدأ خبره مقدر أي: فثابت أن لله خمسه، والأصح أن ذكر الله افتتاح كلام للتبرك، وقال بعضهم: سهم الله يصرف إلى الكعبة (وَلِلرَّسُولِ) كان يصرف فيما شاء، والآن لمصالح المسلمين أو للخليفة، أو مردود إلى الأصناف الباقية، أو لقرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - (وَلِذِي الْقُربى) هم بنو هاشم وبنو عبد المطلب، أو من لا يحل له الزكاة، أو بنو هاشم وحدهم، أو(2/24)
قريش كلهم (وَالْيَتَامَى): يتامى المسلمين فقراءهم، أو فقرائهم وأغنيائهم، أو يتامى ذوي القربى (وَالْمَسَاكِينِ): المحاويج الذين لا يجدون ما يصدون خلتهم، أو مساكين ذوى القربى (وَابْنِ السَّبيلِ): المسافر أو مريد السفر إلى مسافة القصر، وليس له ما ينفقه في سفره، أو ابن السبيل من ذوي القربى، فعلى هذا الغنيمة تقسم على خمسة: أربعة منها للمحاربين، وخمس لهؤلاء المذكورين (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) تقديره: امتثلوا ما شرعت لكم في الغنيمة، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ): يوم فرق فيه بين الحق والباطل، وهو يوم بدر، والآية نزلت فيه (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ): المسلمون والكفار، وهو يوم الجمعة لسبع عشرة من رمضان (وَاللهُ عَلَى كَلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ولهذا قدر على نصر القليل على الكثير.(2/25)
(إِذ أَنْتُمْ) بدل من يوم الفرقان (بِالْعُدْوَةِ): شط الوادي (الدُّنْيَا): الأقرب من المدينة (وَهُمْ): كفار مكة (بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى): جانب الوادى الأبعد من المدينة (وَالرَّكْبُ) أي: ركب أبي سفيان الذين جاءوا من الشام (أَسْفَلَ مِنْكُمْ): في مكان أسفل من مكانكم أي: ساحل البحر، منصوب على الظرف واقع موقع خبر و " الركب " (وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ) أنتم والكفار للقتال (لَاخْتَلَفْتُمْ): أنتم (فِي الْمِيعَادِ): خوفًا وهيبة لقلتكم وكثرتهم (وَلَكِنْ) جمع الله تعالى بينكم بصنعه من غير ميعاد وإرادة لكم (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا): في علمه، أو معناه حقيقًا بأن يفعل من نصر أوليائه، وإعلاء كلمة الإسلام (لِيَهْلِكَ) بدل من ليقضي، أو متعلق بمفعولاً (مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة) أي: ليكفر من كفر بعد الحجة لما رأى من الآيات، فلا يبقى له حجة وعذر بوجه، ويؤمن من آمن عن حجة وبصيرة ويقين، فالهلاك والحياة: الكفر والإيمان، أو ليموت من يموت عن بينة عاينها، ويعيش عن حجة شاهدها، لئلا يكون له حجة ومعذرة (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ): بكفر من كفر، وإيمان من آمن (عَلِيمٌ) بما في قلوبهم.
(إِذ يُرِيكَهمُ اللهُ) بدل ثان من يوم الفرقان، أو مقدر باذكر (في مَنَامِكَ قَلِيلاً) لتخبر أصحابك فيكون تشجيعًا لهم، وهو ثالث مفاعيل يريكم (وَلَوْ أَرَاكَهم كَثِيرًا لَفَشِلْتمْ): لجبنتم (وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ): اختلفت كلمتكم في أمر القتال (وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ): أنعم بالسلامة من التنازع (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) ما كان وما سيكون(2/26)
من الجبن والتنازع (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ) لا في المنام (قَلِيلًا) حال عن ثاني مفعولي يريكموهم لا مفعول ثالث، لأنه من رؤية العين ههنا، وإنما قللهم في أعين المسلمين تثبيتًا لهم، وتصديقًا لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم - (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) ليجترؤا، أو لا يستعدوا للحرب حتى قال أبو جهل: إنهم أكلة جزور، ثم كثرهم في أعينهم حتى يرونهم مثليهم، لتفاجئهم الكثرة فتكسر قلوبهم (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا): من إهلاكهم وإذلالهم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ): فلا أمر إلا وهو خالقه، وعلى الحقيقة هو فاعله، أو بعد الدنيا مصير الكل إليه فيجازيهم.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)(2/27)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً): حاربتم جماعة، والمؤمنون لا يحاربون إلا الكفار (فَاثْبُتُوا): ولا تنهزموا (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا): في تلك الحال بأن تستغيثوا به، وتتوكلوا عليه وتسألوا النصر (لَعَلكمْ تُفْلِحون): كي تظفروا بمرامكم (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا): باختلاف الآراء (فَتَفْشَلُوا) فتجبنوا جواب النهي (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ): دولتكم ووقاركم وريح النصر، فإن النصرة لا تكون إلا بريح كما في الحديث: " نصرت بالصبا " (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا): فخرًا(2/28)
وطغيانًا (وَرِئَاءَ النَّاسِ): ليثنوا عليهم بالشجاعة والغلبة والرياسة، كما قال أبو جهل، لما قيل: إن العير قد نجا فارجعوا، فقال: والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر وننحر الجزور، ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عطف على بطرًا، سواء كان مفعولاً، أو حالاً على تأويل المصدر (وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ): عالم بما جاءوا به وله، ولهذا جازاهم شر الجزاء (وَإِذْ زَيَّنَ) مقدر باذكر (لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) في معاداة الرسول، فإنه تمثل لهم في سورة سراقة بن مالك الكناني، وهو من أكابر بني كنانة معه عسكر وراية (وَقَالَ لا غَالبَ لَكُمُ) خبر لا، أو صفة غالب، ولو كان ظرفًا لغالب لوجب أن يقال: لا غالبًا (اليوْمَ مِنَ النَّاسِ) لكثرة عددكم وعددكم (وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ):
مجيركم من بني كنانة وممدكم في الحرب، وكان بين قريش وبني كنانة حرب وعداوة،(2/29)
وخافوا من بني كنانة فلهذا أجارهم (فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ): التقى الجمعان (نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ): رجع القهقري وكانت يده في يد أحد من المشركين فقال له: أفرارًا من غير قتال؟! فضرب في صدر صاحبه المشرك فانطلق (وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ) من جنود الله: ملائكته (إِنِّي أَخَافُ اللهَ) وهذا كذب منه، ما به مخافة الله تعالى لكن علم أنه لا قوة له ولا منعة، أو أخاف الله أن يهلكني فيمن أهلك، أو خاف أن يصله مكروه من الملائكة، وهذا عادته الشؤمة كما حكاه تعالى " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر " الآية [الحشر: 16] (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) من تتمة كلام الشيطان، أو ابتداء كلام الله تعالى.
* * *
(إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)(2/30)
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
* * *
(إِذْ يَقُولُ) مقدر باذكر (الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ): شرك، أو قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا وخرجوا مع الكفار يوم بدر، ولما رأو المسلمين قليلاً ارتابوا وارتدوا، وقالوا: (غرَّ هَؤلاءِ) أي: المؤمنين (دِينُهُمْ) حتى تعرضوا مع قلتهم كثرتنا، فقتلوا جميعًا، فقال تعالى مجيبًا لهم: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ): لا غالب لأمره، ولا يضام من التجأ إليه (حَكِيمٌ): في أفعاله لا يضعها إلا في موضعها (وَلَوْ تَرَى) يا محمد (إِذْ يَتَوَفَّى الذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ) أي: لو رأيت حالهم حين قتلَهم الملائكةُ يوم بدر، وقال بعضهم: هذا عند الموت لا يخص بيوم بدر (يَضْرِبون وجُوهَهمْ): إذا أقبلوا (وَأَدْبَارَهمْ): إذا أدبروا، والجملة حال (وَذوقوا) أي: ويقولون:
ذوقوا، عطف على يضربون (عَذابَ الْحَرِيقِ): بشارة لهم بجهنم، قال بعضهم: مع الملائكة مقامع من حديد كلما ضربوا التهبت النار منها، وجواب " لو " مقدر أي: لو ترى لرأيت أمرًا فظيعًا هائلاً (ذلِكَ) الضرب (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي؛ بشؤم ذنوبكم (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) عطف على ما قدمت، قيل: للدلالة على(2/31)
أن سببية مقيدة بانضمامه إليه، إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنب، وظلام للتكثير لكثرة العبيد فالظالم لهم كثير الظلم.
(كَدَابِ آلِ فِرْعَوْنَ) أي: دأبهم وطريقتهم كدأبهم (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ): من قبل آل فرعون (كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ) تفسير الدأب (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنوبِهِمْ) كما أخذ هؤلاء (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ) لا يغلبه شيء (شَديدُ الْعِقَابِ): للكافرين (ذَلِكَ) أي: الأخذ بالذنوب، لا التعذيب بغير ذنب (بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) أي: بسبب أن عادة الله جارية، بأن لا يبدل نعمة على قوم [بنقمة] (1)، حتى غيروا حالهم إلى أسوءها كقريش، كذبوا بآيات الله واستهزؤا بما، وصدوا عن سبيل الله وغيرها من القبائح (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ): لما يقولون (عَلِيمٌ) بما يضمرون، ولولا إحاطة علمه كيف يأخذهم بأعمالهم؟! (كَدَابِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي: عادتهم كعادتهم (كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ) تكرير للتأكيد (وَكُلٌّ): من الأولين والآخرينَ (كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا): رسخوا في الكفر (فَهمْ لا يُؤْمِنونَ): لرسوخهم فيه (الَّذِينَ) بدل من الذين كفروا (عَاهَدْتَ مِنْهمْ) أي:
__________
(1) في الأصل " بنعمة " والتصويب من تفسير البيضاوي.(2/32)
أخذت منهم العهد (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) كيهود بني قريظة، نقضوا عهدهم وأعانوا المشركين بالسلاح، وقالوا: نسينا وأخطأنا، فعاهدهم الثانية فنقضوا يوم الخندق (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ): عاقبة الغدر (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ): تظفرن بهم وتأسرهم (فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ) أي: بسبب قتلهم (مَنْ خَلْفَهُمْ) أي: فافعل بهم عقوبة، يفرق منك ويخافك من ورائهم من الكفرة ليعتبروا، فلا ينقضوا العهد بعد ذلك، يعني: غلظ عقوبتهم ليكون عبرة لغيرهم (لَعَلهُمْ) أي: من خلفهم (يَذكرُون): يتعظون، فيحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل صنيعهم (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ): معاهدين (خِيَانَةً): نقض عهد بإمارة تلوح لك (فَانبِذْ إِلَيْهِمْ): اطرح إليهم عهدهم (عَلَى سَوَاءٍ) أي: ثابتًا على طريق مستو متوسط، بأن تخبرهم أنك قطعت العهد الذي بينك وبينهم، فلا يكونون على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك، فالجار والمجرور حال (إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) تعليل لنبذ العهد وعدم مفاجأة القتال بلا إعلام.
* * *
(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ(2/33)
أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
* * *
(وَلا يَحْسَبَنَّ): يا محمد (الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا): فاتونا فلا نقدر عليهم، بل هم تحت قهر قدرتنا، ومن قرأ " لا يحسبن بالياء فالذين كفروا فاعله، بتقدير: أن سبقوا فحذفت أن، أو تقديره: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا، أو فاعله ضمير إلى " من خلفهم " أو إلى جيل المؤمنين، وفي الجميع تكلف (إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ): لا يجدون طالبهم عاجزًا عن إدراكهم، ومن قرأ بالفتح فتقديره: لأنَّهُم لا يعجزون، قال بعضهم: نزلت فيمن أفلت يوم بدر من المشركين.
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ): للكفار (مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ): من كل ما يتقوى به في الحرب، وفي الحديث الصحيح: " ألا إن القوة الرمي " قالها ثلاثًا (وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) الرباط: اسم للخيل التي تربط في سبيل الله (تُرْهِبُونَ): تخوفون (به): بما استطعتم (عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ): كفار مكة (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) أي: من دون كفار مكة (لَا تَعْلَمُونَهُمُ): لا تعرفونهم (اللهُ يَعْلمُهُمْ): يعرفهم، هم المنافقون أو(2/34)
اليهود أو أهل فارس (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ): قليل أو كثير (فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أجره وجزاؤه (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُون) بتضييع العمل.
(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ): مالوا للصلح (فَاجْنَحْ لَهَا): مل إليها، قال بعضهم: الآية منسوخة بقوله: " قاتلوا الذين لا يؤمنون "، وفيه شيء لأن المهادنة لكثرة الأعداء ولغيرها جائزة إذا رأى الإمام، وقال بعضهم: الآية مخصوصة بأهل الكتاب (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في الصلح، ولا تخف خداعهم (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ): لأقوالهم (الْعَلِيمُ) بنياتهم (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ): يريدون بالصلح خديعة (فَإِنَّ حَسْبَكَ): محسبك وكافيك (اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) مع ما فيهم من الضغينة في أدنى شيء (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) لتناهي عداوتهم وجهالتهم، فإن بين الأوس والخزرج من العداوة والحروب ما لا يمكن الإصلاح، فالله بمحض قدرته ألف بينهم فاجتمعوا وأنفقوا، وأنساهم الله تلك الشحناء فصاروا أنصارًا (وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) فإنه مقلب القلوب (إِنَّهُ عَزِيزٌ): غالب لا يغالب أبدًا (حَكِيمٌ) يضع كل شيء في موضعه (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ): كافيك (وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(2/35)
مفعول معه، أي: محسبك مع المؤمنين الله، أو عطف على " الله "، نزلت في غزوة بدر، وقال بعضهم: نزلت حين أسلم عمر، ثم اعترض عليه بأن الأنفال كلها مدنية، وإسلام عمر قبل الهجرة فلا يصح هذا.
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)(2/36)
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) أي: بالغ في حثهم عليه (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) شرط في معنى الأمر بمصابرة الواحد للعشرة والوعد بالغلبة (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ): بسبب جهالتهم بالله يقاتلون لأجل حظ دنيوي، فلا تثبت أقدامهم إذا رأوا شدة القتال وظنوا الهلاك (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) نزلت لما ثقلت على المسلمين مقابلة الواحد مع العشرة، فنسخها وخفف عنهم (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا) في البدن أو في البصيرة، فإن في بعضهم ضعف البصيرة (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ) أي: إن كانوا على الشطر من عدوهم لم يجز الفرار، وإلا جاز ولم يجب القتال، ثم اعلم أنه ذكر في الأول العشرين والمائة، وفي الثاني المائة والألف، للدلالة على أن حكم القليل والكثير واحد (بِإِذْنِ اللهِ) بأمره وإرادته (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ): بالنصر والظفر (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى) ما صح وما استقام لبى من الأنبياء أن يأخذ أسرى، ولا يقتلهم (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ): يكثر القتل فيعز الإسلام ويذل الكفر (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا): حطامها، أي: الفداء (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي: يريد لكم ثواب الآخرة، أو ما هو سبب نيل الجنة من إعزاز الدين وقمع الملحدين (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) يعلم ما(2/37)
يليق بالأحوال، نزلت حين جاءوا بأسارى بدر، فاستشار فيهم، فقال عمر: هم أئمة الكفر والله أغناك عن الفداء فاضرب أعناقهم، وقال أبو بكر: هم قومك وأهلك لعل الله يتوب عليهم، خذ منهم فدية تقو ي بها أصحابك، فقبل الفداء وعفى عنهم (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) يعني في أم الكتاب أن لا يعذب مسلم شهد بدرًا، وهم [مغفور لهم] (1)، أو فيه أن المغانم والفداء حلال لكم، أو لا أعذب من عصاني إلا بعد تصريح بنهي (لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ): من الفداء قبل أن آذن لكم (عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا) أي: أبحْت لكم الغنائم فكلوا (مِمَّا غَنِمْتُمْ): من الفدية، فإنها من جملة الغنائم (حَلَالًا) حال، أو أكلا حلالاً (طَيِّبًا) قيل: إنهم أمسكو عن الغنائم أيضًا، وخافوا وَاتَّقُوا اللهَ أشد خوف، فنزل " فكلوا " الآية (وَاتَّقُوا اللهَ): في مخالفته (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) فيغفر ذنبكم (رَحِيمٌ) فأباح لكم الفداء.
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
__________
(1) في الأصل [مغفورون].(2/38)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا) بأن يتعلق علم الله بحصول إرادة إيمان وإخلاص فيها (يُؤْتِكُمْ) إن أسلمتم (خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ): من الفداء (وَيَغفِرْ لَكُمْ) ما صدر قبل الإسلام منكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) نزلت في [العباس] وأصحابه، أسروا يوم بدر وأخذ منهم الفداء، وكان العباس بعد ذلك يقول: أعطاني الله مكان عشرين أوقية أفديتها لنفسي ولابني أخي كانت معي، والتمست من النبي - عليه الصلاة والسلام - أن يحاسبني من جملة فدائي وفداء ابني أخوي فأبى فأبدلني الله في الإسلام عشرين عبدًا كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجو من مغفرة الله.(2/39)
(وَإِنْ يُرِيدُوا) أي: الأسارى (خِيَانَتَكَ) فيما أظهروا لك من الإسلام والإخلاص (فَقَّدْ خَانوا الله): بالكفر (مِنْ قَبْلُ): من قبل بدر (فَأَمْكَنَ) أي: فأمكنك (مِنْهُمْ) يوم بدر، فإن عادوا فعد، قال بعضهم: نزلت في عبد الله بن سعد الكاتب حين ارتدَّ ولحق بالمشركين، قال بعض: نزلت في العباس وأصحابه حين قالوا: آمنا بك ولننصحن لك على قومنا، والأكثرون على أنه عامر (وَاللهُ عَلِيمٌ): بخيانة من خان (حَكِيمٌ): بتدبيره.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا): أسكنوا المهاجرين منازلهم (وَنَصَرُوا) أي: نصروهم على أعدائهم (أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ): في الميراث دون أقاربهم، آخا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار، كل اثنين أخوان فكانوا يتوارثون بذلك إرثًا مقدمًا على القرابة، حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) أي: ليسوا لكم بأولياء في الميراث (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ) أي: المؤمنون الذين لم يهاجروا (فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) فواجب عليكم نصرتهم على المشركين (إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ): عهد فلا تنقضوا عهدكم في نصرتهم عليهم (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُون) من الوفاء بالعهد ونقضه(2/40)
(بَصِيرٌ): فيجازيكم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) في الميراث دون المسلمين (إِلا تَفْعَلُوهُ) أي: إن لم تفعلوا ما أمرتم من قطعِ العلائق حتَّى في الميراث بينكم وبين الكفار (تَكُنْ): تحصل (فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) في الدين كقوة الكفر وضعف الإسلام (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا): صدقًا من غير ريب، دون من آمن وسكن دار الشرك، وفي الحديث المتفق على صحته بل المتواتر: " المرء مع من أحب "، ونصب حقًا على المصدر المؤكد، أو تقديره: إيمانًا حقًا (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ): في الجنة (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكمْ): من جملتكم، أيها المهاجرون والأنصار، فإن المهاجرين بعضهم هاجروا قبل الحديبية، وبعضهم بعد صلحها قبل فتح مكة وهي الهجرة الثانية (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) في التوارث من الأجانب (فِي كِتَابِ اللهِ) في حكمه، أو في اللوح وهذه ناسخة للإرث بالحلف والإخاء الذي كانوا يتوارثون به أولاً (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم صلاح الأوقات.(2/41)
سورة التوبة
سورة براءة والتوبة ولها أسماء أخر مدنية قيل إلا الآيتين
(لقد جاءكم رسول) وآيها مائة وثلاثون وقيل تسع وعشرون ولها ستة عشر ركوعًا
* * *
(بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
* * *
(بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ)، أي: هذه براءة واصلة من الله ورسوله (إِلَى(2/42)
الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي: الله ورسوله برءا من العهد الذي عاهدتم به المشركين، وإن كان صادرًا من رسوله - صلى الله علمِه وسلم - بإذن الله تعالى، يعني وجب نبذه ولا عهد بعد ذلك (فسِيحُوا في الأَرْضِ): أيها المشركون، (أَرْبَعَةَ أَشْهُر)، والأصح أنه من يوم النحر إلى عاشر ربيع الآخر، وعند بعضهم أنه إلى سلخ المحرم؛ لأن الآية نزلت في شوال والأكثرون على أن من كان له عهد مؤقت ولم ينقض عهده فأجله إلى مدته مهما كان، ومن له عهد غير مؤقت أو دون أربعة أشهر أو أكثر لكن نقضه فيكمل له أربعة أشهر وقد صحت بهذا الروايات عن على رضي الله عنه -، وفي رواية عن ابن عباس أن من له عهد مؤقت أو غير مؤقت فأجله أربعة أشهر ومن ليس له عهد فأجله انسلاخ الأشهر الحرم فمن يوم النحر إلى انسلاخ المحرم خمسون ليلة ثم السيف حتى يدخلوا في الإسلام، (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ): لا تفوتونه وإن أمهلكم، (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ): مذلهم في الدنيا والآخرة، (وَأَذَانٌ) أي: إعلام، عطف على براءة (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ): يوم أفضل أيام المناسك وأكبرها جميعاً وهو يوم العيد أو يوم عرفة أو أيام الحج كلها، وعن الحسن البصري رحمه الله: عام، حج فيه أبو بكر - رضي الله عنه -(2/43)
بالاستخلاف، وعن بعضهم: الذي حج فيها النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود والنصارى والمشركين ولم يجتمع قبله ولا بعده وقال بعضهم الحج الأصغر العمرة، (أَن الله) أي: بأنه (بَرِيءٌ منَ الُمشْرِكِينَ) أي: من عهودهم، (وَرَسُولُهُ) عطف على المستكن في بريء، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي: ورسوله كذلك وعند ابن حاجب جاز في مثله أن يكون عطفًا
على محل اسم " أن "، (فَإِنْ تُبْتُمْ): من الكفر والغدر، (فَهُوَ)، أي: الرجوع، (خَيْرٌ لَكُمْ وَإِن تَوَلَّيتمْ): من التوبة، (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ): غير فائتين أخذه وعقابه، (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيم)، في الآخرة، (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، استثناء من المشركين في قوله " بريء من المشركين " فالمستثنى من جميع المشركين من كان أجل عهده فوق أربعة أشهر ولم ينقضوا العهد، فوجب إتمام عهدهم على الأصح، وأما على ما نقلنا عن ابن عباس - رضي الله عنهما -(2/44)
في بعض الروايات فمعناه: أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، أي: مدة قدرنا وهي أربعة أشهر لكن في الاستثناء يختل الفصل بأجنبي أو تقديره: فقولوا لهم: سيحوا واعلموا أن الله بريء منهم لكن الذين عاهدتم ولم ينقضوا عهدهم أتموا عهدهم وأمهلوهم بعد أربعة أشهر إلى انقضاء أجلهم، (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا): من شرط العهد، (وَلَمْ يُظَاهِرُوا): لم يعاونوا (عَلَيْكمْ أَحَداً): من أعدائكم، (فَأَتِموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهمْ إِلَى)، تمام (مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)، فإتمام العهد من التقوى، (فَإِذَا انسَلَخَ)، انقضى، (الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ): الأشهر التي حرمنا فيها قتالهم وأجلناهم فيها وهو أربعة أشهر لغير من كان معاهدته أكثر من أربعة أشهر ولم ينقض عهده وأكثر من أربعة أشهر لهم فإن بني ضمرة وبني كنانة بقي من مدة عهدهم تسعة أشهر وأوله يوم النحر أو يوم نزول الآية وقد نزلت في شوال كما ذكرنا، (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ): كافة ناكثاً وغير ناكث، وعلى ما نقلنا عن ابن عباس رضي الله عنهما فمعناه: إذا انقضى الأشهر الحرم وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم فاقتلوا المشركين الذين لا عهد لهم أصلاً، فعلى هذا أول [صفر] ابتداء جواز المقاتلة مع من ليس له عهد، (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ): من حل أو حرم، (وَخذوهمْ): ائسروهم، (وَاحْصُروهُمْ)، احبسوهم وضيقوا عليهم، (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ): كل ممر حتى لا يتوسعوا في البلاد، (فَإِنْ تَابُوا): عن الشرك، (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ): فدعوهم ولا تتعرضوا لهم بشيء، (إِنَّ اللهَ غَفورٌ رَّحِيمٌ): يغفر زلاتهم وينعم عليهم.
(وَإِنْ أَحَدٌ منَ المشْرِكِينَ): الذين أمرتك بقتلهم ورفع " أَحَدٌ " بشريطة التفسير، (اسْتَجَارَكَ): طلب منك الأمان، (فَأَجِرْهُ): أمنه، (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ)،(2/45)
تقرأه عليه وتقيم عليه حجة الله تعالى، (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)، هو مستمر الأمان إلى أن يرجع بلاده، (ذَلِكَ): الأمر بأمنه، (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ): جهلة فلابد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا كلام الله لعلهم يعقلون فيطيعون.
* * *
(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا(2/46)
يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
* * *
(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ)، استفهام إنكار، أي: يمكن ذلك وهم على الشرك والكفر وخبر يكون " عند الله " و " كيف " حال من العهد، (إِلا الذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الَمسْجِدِ الحَرَامِ)، يعني يوم الحديبية ومحله الجر والنصب على الاستثناء المتصل، لأنه في معنى ليس للمشركين عهد إلا الذين، أو منقطع أي: لكن تربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم، (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ)، أي: فإن استقاموا على الوفاء بالعهد فاستقيموا أنتم أيضاً " فما " شرطية، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)، والوفاء بالعهد من التقوى، هم أهل مكة نقضوا عهدهم(2/47)
وقاتلوا حلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعند ذلك قاتلهم وفتح مكة، وقال بعضهم: هم قبائل من بني بكر قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية ولم ينقضوا والناقض قريش وبعض قبائل بني بكر فإن بني ضمرة ممن استمر على عهده فما قاتلهم أحد حتى أسلموا بلا مقاتلة، (كَيفَ)، تكرار للاستبعاد، أي: كيف لهم عهد عندك؟! (وَإِن يَظْهَروا عَلَيْكمْ)، والحال أنَّهم إن يظفروا بكم، (لَا يَرْقُبُوا): لا يراعوا، (فِيكُمْ إِلًّا): قرابة، أو حلفا قال بعضهم الإل هو الله عبراني، (وَلَا ذِمَّةً): عهدا، (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ)، استئناف، أي: يظهرون خلاف ما يضمرون، (وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ) الوفاء بما قالوا (وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ): ناقضون للعهد، (اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ): استبدلوا بالقرآن، (ثَمَنًا قَلِيلاً): متاع الدنيا قيل نقضوا العهد بأكلة أطعمهم أبو سفيان، (فَصَدُّوا عَن سبِيلِهِ): أعرضوا عن دينه، أو منعوا الناس عن الدخول في دينه، (إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، عملهم هذا، (لَا يَرْقُبُونَ): لا يحافظون، (فِي مؤْمنٍ)، فإنهم يحبون الكفر وأهله، (إِلًّا وَلَا ذِمَّةً): قرابة وعهداً، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ): المتجاوزون الغاية في الشرارة، (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ(2/48)
فَإِخْوَانُكُمْ)، أي: فهم إخوانكم، (فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ): نكررها ونبينها، (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، وهم المؤمنون، (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ): نقضوا مواثيقهم، (مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ): رؤساء مشركي قريش فإنهم ناقضون للعهد مستهزئون بدين الله، أي: قاتلوهم؛ لأنَّهُم صاروا بذلك ذوي الرياسة في الكفر قال بعضهم: هم أهل فارس والروم وقال حذيفة بن اليمان: لم يأت أهلها بعد، (إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ): لا عهود لهم فإن عهدهم على الحقيقة ليس بعهد ومن قرأ لا إيمان بكسر الهمزة فمعناه لا إسلام أوْ لا أمان لهم، (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ)، أي: قاتلوهم لعلهم يرجعون عما هم عليه من الكفر والعناد، (أَلاَ تُقَاتِلُونَ)، تحريض على القتال، (قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ): كفار مكة(2/49)
نقضوا عهد الحديبية، (وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ): من مكة كما مر في قوله: " وإذ يمكر بك الذين كفروا " (وَهُمْ بَدَءُوكُمْ): بالقتال، (أَوَّلَ مَرَّةٍ)، يعني يوم بدر فإنهم خرجوا لنصر عيرهم فلما نجت استمروا على وجههم طلبًا للقتال بغياً وتكبراً، أو المراد أنَّهم بدءوا بالقتال مع حلفائكم خزاعة، (أَتَخْشَوْنَهُمْ): أتتركون قتالهم خشية منهم (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ): فلا تتركون لدينه ضعفاً وتسعون في إعلاء كلمته (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، فإن الإيمان الكامل ينفى الخشية عن غير الله، (قَاتِلُوهُمْ)، أمر بالقتال بعد التوبيخ على تركه، (يعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ويخْزِهِمْ): يذلهم، (وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ)، وعد من الله بنصر المؤمنين وقتل الكافرين وإذلالهم، (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) أي: بني خزاعة أعانت قريش بني بكر عليهم، (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ): كربها بمعونة قريش بني بكر، (وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ): من المشركين كأبي سفيان وعكرمة بن أبى جهل وغيرهما، (وَاللهُ عَلِيمٌ): بما كان وما لم يكن (حَكِيمٌ): لا يأمر إلا بما هو المصلحة (أَمْ حَسِبْتُمْ): أيها المؤمنون، وأم منقطعة بمعنى الهمزة فيها توبيخ على الحسبان وقيل خطاب للمنافقين، (أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ)، أي: نترككم مهملين ولا نختبركم بأمور يظهر الخلص من غيرهم، نفى العلم، وأراد نفي المعلوم للمبالغة نفياً للملزوم بنفى اللازم، (وَلَمْ يَتَّخِدوا)، عطف على جاهدوا، (مِن دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً): بطانة وأولياء يفشون إليهم أسرارهم، (وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ): يعلم أغراضكم من أفعالكم.
* * *(2/50)
(مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
* * *
(مَا كَانَ): ما صح، (لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ)، أيُّ مسجد كان، أو المراد مسجد الحرام، وجمعه لأنه قبلة المساجد، ويدل عليه قراءة من قرأ مسجد الله وعمارته مرمته عند الخراب، أو الصلاة والقعود فيه أو أعم، قيل: نزلت في العباس حين أسر في بدرٍ فأغلظ علي - رضى الله عنه - له القول في التعيير فأجاب: تعدون مساوئنا(2/51)
ولا تذكرون محاسننا إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج، (شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْر)، حال من فاعل يعمروا، أي: ما استقام الجمع بين عمارة بيت الله وعبادة غيره، (أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ)، لأن الكفر يذهب ثوابها، (وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ)، في باب الدين وأمره يعني من كان بهذه الصفات فهو اللائق بعمارة المساجد قال صلى الله عليه وسلم " إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان "، قال الله تعالى: " إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ "، وقد ورد " عمار المساجد هم أهل الله " (فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)، قيل الإتيان بلفظ عسى إشارة إلى ردع الكفار وتوبيخهم بالقطع في زعمهم أنهم مهتدون فإن هؤلاء مع هذه الكمالات اهتداؤهم دائر بين عسى ولعل فما ظنك بمن هو أضل من البهائم! وإشارة أيضاً إلى منع المؤمنين من الاغترار والاتكال على الأعمال، (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)، أي: أهل السقاية والعمارة، وقيل المصدر بمعنى اسم الفاعل، أي: الساقي والعامر،(2/52)
(كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ)، وفي مسلم قال رجل من: الصحابة ما أبالي أن لا أعمل لله عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال الآخر: الجهاد خير مما قلتم فقال عمر: استفتيت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: " أجعلتم سقاية الحاج " الآية، وعن كثير من السلف: أنها نزلت في مفاخرة العباس وطلحة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، قال طلحة: أنا صاحب البيت معي مفتاحه، ولو أشاء أبيت فيه، وقال العباس بعد إسلامه: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، وقال علي: ما أدري ما تقولان لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، وأنزلت حين قال المشركون: عمارة البيت والقيام على السقاية خير من الإيمان والجهاد، (لاَ يَسْتَوُون عِندَ اللهِ)، بل المجاهد أفضل لكن للمرجوح درجة ثم بين بقوله، (وَاللهُ لاَ يَهْدَي القَوْمَ الظَّالِمِينَ)، أن من ليس له فضل، ولا هداية ولا درجة هم الذين ظلموا أنفسهم بعبادة الأوثان مكان عبادة الله، وإن كان سبب النزول مفاخرة المشركين فقوله: " والله لا يهدي القوم الظالمين " لبيان عدم التساوي (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ): ممن لم(2/53)
يستجمع هذه الصفات، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ): بالنجاة الكلية عن النار والظفر المطلق بالأمنية، (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ): دائم، (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ): يستحقر دونه نعيم الدنيا بأسرها، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ): أصدقاء، (إِنِ اسْتَحَبُّوا): اختاروا، (الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ)، نزلت حين أمروا بالهجرة من مكة فإن بعض المؤمنين قالوا: إن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وخربت دورنا، أو نزلت نهياً عن موالاة التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة، (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ): بوضع الموالاة مكان المعاداة، (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ): أقرباؤكم، (وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا): اكتسبتموها، (وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا): تستطيبونها، (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا)، جواب الشرط، أي: انتظروا، (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ): عقوبته العاجلة والآجلة، (وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الْفَاسِقِينَ): لا يرشد الخارجين عن الطاعة وفي الحديث أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: والله لأنت يا رسول الله أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه فقال عمر: فأنت الآن والله أحب إليَّ من نفسي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الآن يا عمر، قيل المراد الحب الاختيارى دون الطبيعي الذي لا يدخل تحت التكليف.
* * *(2/54)
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
* * *
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ): أماكن، (كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ)، أي: وموطن يوم حنين واد بين مكة وطائف وقع فيه المقاتلة بعد فتح مكة، (إِذ أَعْجَبَتْكُمْ)، بدل من يوم حنين، (كَثْرتُكُمْ)، المؤمنون اثنا عشر ألفا والكفار أربعة آلاف، (فَلَمْ تُغْنِ)، أي: لم تدفع الكثرة، (عَنكُمْ شَيْئًا): من أمر العدو، (وَضَاقَتْ عَلَيْكُم(2/55)
الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ)، أي: برحبها وسعتها فلم تجدوا موضعاً للفرار تطمئن به نفوسكم، (ثُمَّ وَلَّيتم): فررتم، (مُّدْبِرِينَ): منهزمين حتى بلغ فُلُّكُم مكة وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مركزه معه العباس وأبو سفيان، (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ): ما سكن واطمئن به الفؤاد من رحمه، (عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ): فنادى العباس بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان صيتاً: يا عباد الله يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة. فكرُّوا عنقاً واحداً قائلين لبيك لبيك، (وَأَنْزَلَ جُنُودًا): من الملائكة، (لَمْ تَرَوْهَا)، لكن قالوا: سمعنا صلصلة بين السماء الأرض كإمرار الحديد على الطست الجديد، (وَعَذب الذِينَ كَفَرُوا): بالقتل والسبي ستة آلاف أسير من صبي وامرأة، (وَذلِكَ)، إشارة إلى ما فعل بهم، (جَزَاءُ الكَافِرِينَ): في الدنيا، (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ)، فإن كثيراً ممن بقي من هؤلاء المقاتلين بعد الوقعة بقريب من عشرين يوماً قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمين فرد عليهم سبيهم كلها برضى المؤمنين وقسم أموالهم بين الغانمين، (وَالله غَفُورٌ رحِيمٌ): لمن آمن يتجاوز عنه ويتفضل عليه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ): باطنهم ودينهم قال قتادة(2/56)
لأنَّهُم لا يتطهرون من جنابة ولا من حدث، (فَلاَ يَقْربوا المَسْجِدَ الحَرَامَ)، منعوا من دخول الحرم، وقيل: منعوا عن الحج والعمرة لا عن الدخول مطلقًا، (بَعْدَ عَامِهِمْ هَذا)، وكان سنة تسع أرسل علياً ونادى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان، (وَإِذ خِفتمْ عَيْلَةً): فقراً بسبب منع الكفار من الحرم لانقطاع المتاجر، (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ): من عطائه بوجه آخر، (إن شَاءَ)، قيده بالمشيئة لينقطع الآمال إلى الله عوضهم الجزية وأموال البلدان، (إِن الَلَّهَ عَلِيمٌ): بأحوالكم، (حَكِيمٌ): في المنع والإعطاء، (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ)، أمر بقتال أهل الكتاب، فهم لا يؤمنون إيماناً كما ينبغي فإيمانهم كلا إيمان، (وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ): كالخمر والربا، (وَلاَ يَدِينونَ دِينَ الحَقِّ): لا يعتقدون دين الثابت الناسخ لسائر، الأديان، (مِنَ الذِينَ(2/57)
أُوتُوا الْكِتَابَ)، بيان للذين لا يؤمنون، (حَتَّى يُعْطُوا الجِزيةَ): ما تقرر عليهم أن يعطوه، (عَن يَدٍ): عن قهر وذل يقال لكل شيء أعطي كرها: أعطاه عن يد أي: عاجزين فهو حال أو يعطونها بأيديهم ولا يرسلون على يد غيرهم، أي: المسلمين بأيديهم وقيل: عن غنى ولذلك قيل لا يؤخذ من الفقير، (وَهُمْ صَاغِرُونَ)، ذليلون، عن ابن عباس رضي الله عنهما يؤخذ منه وتوجأ عنقه.
* * *
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ(2/58)
مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
* * *
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ)، وذلك لأن العزير كتب التوراة بعدما فات منهم وضاع، ثم لما وجدوا نسخة من نسخ التوراة قابلوها بها فوجدوها صحيحاً فقال بعض جهلتهم، إنما جاء بها لأنه ابن الله، (وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ)، وسبب ضلالهم في المسيح ظاهر، (ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ): لا مستند لهم كالمهمل يتفوهون به ليس له مفهوم عيني، (يُضَاهِئُونَ)، أي: يضاهي قولهم فحذف القول وأقيم المضاف إليه مقامه، (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ)، من قبلهم، أي: قدمائهم فالكفر فيه قدم، أو المشركين الذين يقولون الملائكة بنات الله، (قَاتَلَهُمُ اللهُ)، قال ابن عباس: أي لعنهم الله، (أَنَّى يُؤْفَكُونَ)، كيف يضلون عن الحق (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ)، علماؤهم، (وَرُهْبَانَهُمْ)، زهادهم والأحبار من اليهود والرهبان من النصارى، (أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ)، حرموا عليهم الحلال وحللوا لهم الحرام(2/59)
فأطاعوهم وتركوا كتاب الله تعالى، (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)، بأن جعلوه ابناً له، (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا)، هو الله، (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)، صفة ثانية أو استئناف، (سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)، هو المنزه عن شريك وولد، (يُرِيدُونَ أَنْ(2/60)
يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ) الذي أرسل به رسوله من الهدي ودين الحق، (بِأَفْوَاهِهِمْ)، بتكذيبهم، (وَيَأْبَى اللهُ)، لا يرضى، (إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ)، بإعلاء كلمته، والاستثناء مفرغ لأن الفعل الموجب في معنى النفي وهذا تمثيل لحالهم في طلب إبطال الدين بالتكذيب بحال من يطلب إطفاء نور منبث في الآفاق بنفخة، (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)، إتمامه، ويدل على جواب لو ما قبله، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى)، القرآن والمعجزة، (وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)، ليعليه على سائر الأديان فينسخها فالضمير إما لدين الحق، أو للرسول، أو على أهل الكتاب فيخذلهم، (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، غلبته وهذه الجملة كالبيان للجملة الأولى.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ)، يأخذ علماء أهل الكتاب الرشى ويبطلون دين الله وحكمه والمقصود(2/61)
التحذير من علماء السوء وعباد الضلال، (وَيَصُدونَ عَن سَبِيلِ اللهِ)، يصرفون الناس عن اتباع الحق، (وَالذِينَ يَكْنِزُونَ الذْهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا)، الضمير للدنانير والدراهم الكثيرة الدالة عليها يَكْنِزُونَ الذهب والفضة، أو للكنوز أو للفضة، لأنها أقرب وتدل على أن حكم الذهب بطريق الأولى، (في سَبِيلِ اللهِ فبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، عن كثير من السلف كعمر وابنه وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم أن الكنز مال لم يؤد منه الزكاة وما أدي زكاته فليس بكنز وقد صح عن عليٍّ رضي الله عنه قال: أربعة آلاف فما دونها نفقة فما أكثر من ذلك فهو كنز ومثل هذا مذهب كثير من السلف، والأخبار في مدح التقلل وذم التكثر أكثر من أن يخفى، (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ)، أصل معناه يوم تحمى النار، أي: توقد ذات حمي وحر شديد على الكنوز ثم طوى ذكر النار وحول الإسناد إلى الجار والمجرور للمبالغة في شدة حر الكنوز، (فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ)، لا يوضع دينار على دينار لكن يوسع جلده حتى يوضع كل درهم في موضع على حدة قال بعضهم صاحب الكنز إذا رأى الفقير قبض جبهته وولى ظهره وأعرض عنه كشحه ولهذا خص الجباه والجنوب والظهور، (هَذَا مَا كَنَزْتُمْ)، أي: يقال لهم ذلك، (لِأَنْفُسِكُمْ)، فصار النفع ضرًّا، (فَذُوقُوا): وبال، (مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)، ما(2/62)
مصدرية أو موصولة وأكثر السلف على أن الآية عامة في المسلمين وأهل الكتاب وبه بالغ وحلف أبو ذر.
(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ)، مبلغ عددها، (عِندَ اللهِ)، متعلق بعدة فإنها مصدر، (اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا)، لا أزيد من ذلك كما يفعله المشركون وسنذكره في قوله: " إنما النسىِء زيادة " الآية [التوبة: 37]، (فِي كَتابِ اللهِ): في اللوح المحفوظ أو في حكمه، (يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)، أي: ثابت في كتاب الله يوم خلق الأجسام فيكون " في كتاب الله " صفة لاثني عشر و " يوم خلق " متعلق بمتعلقه، (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)، رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، (ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ)، أي: تحريم الأشهر الأربعة هو الدين القويم دين الأنبياء، (فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ)، بهتك حرمتها فإن الظلم فيها أعظم وزراً فيما سواه، والطاعة فيها أعظم أجراً قال بعضهم: ضمير فيهن راجع إلى اثني عشر، أي: لا تظلموا في الشهور كلها قال الأكثرون: حرمة المقاتلة في أشهر الحرم منسوخة فأولوا نهي الظلم بترك المعاصي، وقال بعضهم: محكمة وجازت المقاتلة إذا كانت البدأة منهم وأجابوا عن محاربة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الطائف بأن ابتداءه في الشهر الحلال، (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً): جميعاً، (كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً): هو تهييج وتحضيض للمسلمين بالاتفاق في محاربة أهل الشرك والنفاق، (وَاعْلَمُوا أَنْ اللهَ مَعَ الُمتَّقِينَ): بشرهم بالنصرة بعدما أمرهم بالمقاتلة، (إِنَّمَا النَّسِيءُ): هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر وذلك لأنه إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا بدله شهرًا من أشهر الحل حتى رفضوا خصوص الأشهر الحرم واعتبروا مجرد العدد، (زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ): فإن(2/63)
تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمه كفر ضموه إلى كفرهم، (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا): ضلالاً زائداً، (يُحِلُّونَهُ): أي: النسيء من الأشهر الحرم، (عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً): إذا قاتلوا فيه أحلوه وإذا لم يقاتلوا فيه حرموه، (لِيُوَاطِئُوا): متعلق بما دل عليه الكلام، أي: حرموا مكانه شهرًا آخر ليوافقوا، (عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ): لا يزيد ولا ينقص الأشهر الحرم من الأربعة، (فيُحِلوا مَا حَرَّمَ اللهُ)، [فإنهم] لم يحرموا الشهر الحرام بل وافقوا في العدد وحده، قيل: وربما زادوا في عدد الشهور فيجعلونها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت فلذلك قال تعالى: " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر " الآية، (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ): فإن الشيطان يغويهم، (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِي)، أي: لا يهدي من هو في علم الله كافر مؤبد الكفر أو معناه، لا يهديهم في حال كفرهم.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)(2/64)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا): اخرجوا، (فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ)، تباطأتم، (إِلَى الْأَرْضِ)، متعلق بـ اثاقلتم لتضمنه معنى الميل والخلود نزلت في شأن غزوه تبوك أمروا بها حين رجعوا من فتح مكة والطائف في وقت عسرة وشدة حر فشق عليهم، (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ)، أي: بدلها(2/65)
يعني الجنة، (فمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، التمتع بها، (فِي الْآخِرَةِ)، أي: في جنبها، (إِلَّا قَلِيلٌ)، فإنها لا تتناهى وأين نعيم الدنيا من نعيمها (إِلا تَنفِرُوا)، شرطية، (يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)، في الدنيا والآخرة، (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ)، يأت بقوم آخرين مطيعين بعد هلاككم، (وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً)، بالتثاقل فإنه هو الناصر لدينه، أو الضمير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أي: سينصره إن قعدتم عن الحرب، (وَاللهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ)، فيقدر على تبديلكم ونصرته بلا مددكم، (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ)، بمنزلة العلة له، (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا)، حاصله أنه ينصره كما نصره جواب الشرط محذوف وهو فسينصره، وقوله: " فقد نصره الله " حين إن وقع الكفار سببًا لخروجه، (ثَانِيَ اثْنَيْنِ)، أي حال كونه أحد اثنين هو - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رضي الله عنه، (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ)، في جبل ثور وهو بدل البعض من " إذ أخرجه "، لأن المراد منه زمان متسع، (إِذ يَقُولُ)، بدل آخر أو ظرف لـ ثاني، (لِصَاحِبِهِ)، أبي بكر حين طلع الكفار فوق الغار يطلبونهما، (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا)(2/66)
بالنصرة والعصمة، (فَأَنزَلَ اللهُ سكِينَتَهُ)، أمنته، (عَلَيْهِ)، أي تجدد أمنته على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - أن الضمير لأبي بكر رضى الله عنه ويؤيد الأول قوله، (وَأَيَّدَهُ)، أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا خلاف، (بِجُنُود لَمْ تَرَوْهَا)، أي: الملائكة ليحرسوه، قال بعضهم: المراد بقوله: " وأيده بجنود لم تروها " التأييد يوم [بدر] فعلى هذا عطف على أخرجه الذين كفروا، (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا)، كلمة الشرك، (السفْلَى)، حيث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم فلم يروه أو حين قتلوا وأسروا يوم بدر، (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا)، كلمة التوحيد عالية ظاهرة حين هاجر المدينة أو حين غلبوا ونصروا يوم بدر، (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، في أمره وتدبيره، (انْفِرُوا)، إلى جهاد تبوك، (خِفَافًا وَثِقَالًا)، شبانًا وشيوخًا أو نشاطًا وغيره أو ركبانًا ومشاة أو فقيرًا وغنيًّا أو قليل العيال وغيره أو خفافاً من السلاح وثقالاً منه أو أصحاء ومرضى أو مسرعين، وبعد الاستعداد، (وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ)، من التثاقل إلى الأرض، (إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون)، فإن من لم يكن من أهل العلم لا يصدق بخيرية النفور ويختار هوى النفس، قال ابن عباس رضى الله عنه: نسخت هذه الآية بقوله: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة "، قال بعضهم: لما نزلت اشتد شأنها على الناس فنسخها الله بقوله:(2/67)
" ليس على الضعفاء ولا على المرضى " الآية [التوبة: 91]، (لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً)، لو كان ما دعوا إليه نفعًا وغنيمة دنيوية قريبة، (وَسَفراً قَاصِداً)، متوسطاً، (لاتَّبَعوكَ)، وافقوك، (وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ)، المسافة التي تقطع بمشقة فإنه عليه الصلاة والسلام خرج بنية الروم، (وَسَيَحْلِفون بِاللهِ)، إذا رجعت من تبوك عذراً للتخلف يقولون، (لَوِ اسْتَطَعْنَا)، استطاعة بدن ومال، (لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ)، هذا ساد مسد جوابي القسم والشرط، (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ)، بإيقاعها في العذاب للحلف الكاذب حال من فاعل سيحلفون، (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)، فإنهم مستطيعون.
* * *
(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا(2/68)
فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ (59)
* * *
(عَفَا اللهُ عَنْكَ)، خطأك في إذنهم للتخلف (1)، بدأ بالعفو قبل [التعبير] (2) بالذنب لنهاية العناية في شأنه عليه الصلاة والسلام، (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ): في القعود وهلا توقفت،
__________
(1) عبارة فيه سوء أدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبع فيها المؤلف الزمخشري والبيضاوي - غفر الله لنا ولهم أجمعين. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).
(2) في الأصل [التعيير] ولعل ما أثبتناه هو الصواب. والله أعلم. (مصحح النسخة الإلكترونية).(2/69)
(حَتَّى يَتَبينَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا): في الاعتذار فتأذن لهم، (وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ): فلا ترخصهم في التخلف، (لاَ يَسْتَئْذِنكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)، في التخلف كراهة، (أَن يُجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ)، لأنَّهُم يرون الجهاد قربة أو لا يستأذنون في أن يجاهدوا بل يسرعون إلى الجهاد من غير طلب إذن، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتقِينَ)، فيجازيهم على حسب تقواهم، (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ)، في التخلف، (الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)، يتحيرون، (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ)، معك إلى القتال، (لأَعَدُّوا لَه)، للخروج، (عُدَّةً)، أهبة من الزاد والركوب، أي: هم أهل ثروة واستطاعة، (وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ)، يعني ما خرجوا ولكن تثبطوا؛ لأن الله أبغض(2/70)
خروجهم معك، (فَثَبَّطَهُمْ)، حبسهم ومنعهم عن الخروج، (وَقِيلَ اقْعُدُوا)، في بيوتكم تمثيل لإلقاء الله تعالى كراهة الخروج في قلوبهم، أو قال بعضهم لبعض، (مَعَ الْقَاعِدِينَ)، الذين لهم عذر، أو مع الصبيان والنسوان وعلى هذا صلاحكم في تخلفهم، وعتاب الله تعالى عليه لمبادرة الإذن في التخلف، (لَوْ خرَجُوا)، يبين وجه كراهته تعالى، (فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ)، بخروجهم شيئاً، (إِلَّا خَبَالًا)، فساداً ولا يلزم من هذا أن يكون للمؤمنين فساد وهم زادوه، (وَلأَوْضَعُوا)، لأسرعوا ركائبهم، (خِلَالَكُمْ)، في وسطكم بإيقاع العداوة للنميمة، (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ)، يريدون أن يفتنوتكم بإيقاع الخلاف فيكم، (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)، مطيعون مستجيبون لحديثهم أو سماعون لهم الأخبار لينقلوها عليهم، (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)، فيجازيهم، (لَقَدِ ابْتَغَوُا الفِتْنَةَ)، تفريق أصحابك(2/71)
وتشتيت أمرك، (مِنْ قَبْلُ)، في أوائل ما جئت المدينة رمته العرب واليهود ومنافقوها عن قوس واحد، (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ)، دبروا لك الحيل، (حَتَّى جَاءَ الحَقُّ)، التأييد الإلهى، (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ)، وعلا كلمته يوم بدر ويوم فتح مكة، (وَهُمْ كَارِهُونَ)، كما قال ابن سلول الملعون حين سمع قصة بدر: هذا أمر قد توجه، (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذن لِّي)، في القعود، (وَلاَ تَفْتِنِّي)، لا توقعني في الفتنة ببنات الأصفر نزلت في جد بن قيس من أشراف بني سلمة حين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له هل لك في جهاد بني الأصفر يعني الروم فقال لنفاقه: ائذن لي ولا تفتني ببنات الأصفر فوالله إني أخشي إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن ولكني أعينك بمالي، (أَلاَ فِي الفِتْنَةِ)، بسبب تخلفهم عنك، (سَقَطُوا)، لا بسبب بنات الأصفر وما دعوتهم إليه، (وَإِنْ جَهنمَ لَمُحِيطَةٌ بالْكَافِرِينَ) جامعة لهم لا مهرب ولا محيص، (إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ)، ظفر وغنيمة، (تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ)، كما أصاب يوم أحد، (يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ)، عملنا بالحزم كما قال ابن سلول وأصحابه حين تخلفوا عنك يوم أحد، (وَيَتَوَلَّوْا)، عن مقام التحدث أو أعرضوا عن الرسول، (وَهُمْ فَرِحُونَ)، بما نالكم من المصيبة، (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا)، في اللوح المحفوظ لا يتغير بموافقتكم ولا بمخالفتكم، (هُوَ مَوْلَانَا)، ملجؤنا وناصرنا، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكلِ المُؤْمِنُونَ)، لا على كثرة العدد والعدد، (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ)، تنتظرون، (بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)، النصرة والشهادة وكل(2/72)
منهما حسنى، (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ)، إحدى السوءين، (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ)، بقارعة وبلاء من السماء، (أَوْ بِأَيْدِينَا) أو بعذاب بأيدينا كالقتل، (فَتَرَبَّصُوا)، انتظروا ما هو عاقبنا، (إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ)، ما هو عاقبتكم، (قُلْ أَنفِقوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً)، طائعين أو مكرهين، (لن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ)، أمر في معنى الخبر، أي: لن يتقبل الله منكم نفقاتكم إن أنفقتم طوعاً أو كرهًا كما قال جد بن قيس أعينك بمالي، (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ)، تعليل لعدم القبول على سبيل الاستئناف، (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا)، أي: إلا كفرهم فاعل منع، (بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى)، متثاقلين ليس لهم قصد صحيح، (وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ)، لأنَّهُم لا يرجون بها ثواباً؛ بل غرضهم إظهار الإسلام، (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ)، فإنها لهم استدراج ووبال، (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، بزكاتها والنفقة في سبيل الله على كره والتعب في جمعها والوجل في حفظها والشدائد والمصائب فيها فهي لهم عذاب وللمؤمنين أجر، قال بعضهم: في الحياة الدنيا متعلق بـ لا تعجبك، (وَتَزْهَقَ)، تخرج، (أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ)، أي: يموتوا كافرين مشتغلين بصعوبة فراق [المستلذات] الدنيوية غافلين عن النظر في العاقبة، (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ)، من جملة المسلمين، (وَمَا هُم مِّنكمْ)، فإنهم(2/73)
منافقون، (وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ)، يخافون فيحلفون تقية، (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً)، حصنًا يلجئون إليه، (أَوْ مَغَارَاتٍ)، غيرانًا في الجبال، (أَوْ مُدَّخَلًا)، نفقاَ ينحجرون فيه كنفق اليربوع، (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ)، لأقبلوا نحوه، (وَهُم يَجْمَحُون)، يسرعون إسراعًا لا يردهم شيء وحاصله أنَّهم لو وجدوا مهربًا منكم أى مهرب لفروا منكم لضيقهم في أيديكم، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ)، يعيبك، (فِي الصَّدَقَاتِ)، أي: في قسمتها، (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ)، أي: ينكرون ويعيبون لحظ أنفسهم، وإذا للمفاجأة نائب مناب فاء الجزاء نزلت في ذوى الخويصرة أصل الخوارج وآبائهم حين قال: اعدل في القسمة فقال صلى الله عليه وسلم: قد خبتَ وخسرتَ إن لم أكن أعدل فمن يعدل؟، أو نزلت في أبي الجواظ من المنافقين حين قال: أتقسم بالسوية، (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ)، أعطاهم، (اللهُ وَرَسُولُهُ)، من الغنيمة والصدقة، وفعل الرسول بأمر الله، فلذلك أتى بلفظ الله، (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ)، محسبنا وكافينا، (سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ)، في أن يوسع علينا من فضله وجواب لو محذوف، أي: لكان خيرًا لهم وأقوم.
* * *(2/74)
(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِم سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
* * *
(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ) أي: الزكاة لهؤلاء لا لغيرهم والفقير المستضعف الذي لا يسأل، وعند الشافعي رضي الله عنه: من لا مال له ولا كسب يقع موقعًا من(2/75)
حاجته أو المحتاج المريض أو فقراء المهاجرين، (وَالْمَسَاكِينِ)، المستضعف الذي يطوف ويسأل وعند الشافعي رضي الله عنه من له مال أو كسب لكن لا يكفيه أو المحتاج الصحيح والفقراء من أهل الكتاب، (وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا)، الساعين في تحصيل الصدقات غنيًا أو فقيرًا، (وَالْمُؤَلفَةِ قُلُوبُهُمْ)، وهم أقسام منهم من يعطى ليحسن إسلامه ويثبت قلبه، ومنهم من يعطى رجاء إسلامه، ومنهم من يعطى لإسلام نظرائهم وأمثالهم، ومنهم من يعطى ليأخذ الزكاة ممن يليه أو ليدفع عن حوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد، قال كثير من العلماء: سهمهم الآن بعد أن أعز الله تعالى الإسلام ساقط، وقال قوم: باق إلى الأبد، (وَفِي الرِّقَابِ)، أي: للصرف في فك الرقاب بإعانة المكاتَب أو باشتراء الرقاب للعتق، والعدول عن اللام إشارة إلى أن الاستحقاق للجهة لا للرقاب، (وَالْغَارِمِينَ)، المديونين إن صرفه في غير معصية وحينئذ لو صرفه في مصالحه فيعطى إذا لم يكن له ما يفيء بالدين ولو صرفه في المعروف وإصلاح ذات(2/76)
البين فيعطى وإن كان غنيًا، (وَفِي سَبِيلِ اللهِ)، هم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان وإن كانوا أغنياء قال بعضهم: والحجاج أيضًا، (وَابْنِ السَّبِيلِ)، المسافر المنقطع عن ماله وإن كان له مال في بلده، (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ)، أي: فرض لهم الزكاة فريضة، (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، يضع الأمور في مواضعها ثم اعلم أن أكثر السلف على أنه لا يجب استيعاب الأصناف الثمانية بل يجوز الدفع إلى واحد منها وقال بعضهم يجب، (وَمِنْهُمُ)، أي: من المنافقين، (الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ)، الأذن: الرجل الذي يصدق كل ما يسمع كانوا يقولون في شأنه ما لا ينبغي فيقول بعضهم: لا تقولوا ربما يبلغه قولكم فقالوا لا بأس إنه أذن لو ننكر ما قلنا وحلفنا ليصدقنا، (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ)، كأنه قال: نعم أذن، لكن
هو أذن خير يسمع الخير ويقبله لا أذن شر فلا طعن ولا ذم بفطنته إلا شرف(2/77)
وشهامته وهو من أهل سلامة القلوب عليه أشرف الصلوات وأكمل التسليمات ثم فسر ذلك بقوله، (يُؤْمِنُ بِاللهِ)، يصدق به، (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)، يسلم لهم أقوالهم لكونهم صادقين، (وَرحْمَةٌ)، أي: هو رحمة، وقراءة جرِّها لعطفها على " خير "، (لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ)، وحجة على الكافرين قيل المراد من الذين آمنوا: من أظهر الإيمان حيث لا يكشف سره، ففيه إشارة إلى أن قبول قولكم رفق وترحم منه لا لجهله وبلاهته، (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ)، على مدعاهم، (لِيُرْضُوكُمْ)، بيمينهم، نزلت في قوم من المنافقين، قالوا: إن كان ما يقول محمد حقًّا فنحن شر من الحمير، فلما بلغت مقالتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - وسألهم حلفوا بالله إن المبلِّغ كذاب، أو في رهط تخلفوا عن غزوة تبوك وحلفوا في معاذيرهم، (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)، بالطاعة والوفاق وتوحيد الضمير لتلازم الرضاءين فكأنهما واحد، (إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ)، صدقًا، (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ)، الضمير للشأن، (مَن يُحَادِدِ الله وَرَسولَهُ)، يشاقق الله ويخالفه، (فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ)، تقديره فحق أن له نار جهنم على حذف الخبر، (خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ)، الذل والفضيحة العظيمة، (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِم)، على المؤمنين، (سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ)، تخبرهم، (بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ)، من الكفر والحسد وتهتك عليهم أستارهم يعني يقولون القول ويستهزئون، ثم يقولون عسى الله أن لا(2/78)
يفشي علينا سرنا، (قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ)، مظهر مبرز، (مَا تَحْذَرُونَ)، ظهوره، (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ)، نزلت في ركب من المنافقين قالوا في غزوة تبوك انظروا إلى هذا الرجل يريد فتح قصور الشام وحصونه هيهات هيهات فلما نزل الوحي دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال قلتم كذا وكذا فحلفوا أن لسنا في شيء من أمرك لكنا في شيء مما يخوض فيه الركب، ليقصر بعضنا على بعض السفر وليقطع الطريق بالحديث واللعب، (قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ)، توبيخًا لهم فإنهم كاذبون في عذرهم، (لَا تَعْتَذِرُوا)، فإني أعلم كذبه، (قَدْ كَفَرْتُمْ)، أظهرتم الكفر بما قلتم، (بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)، بعدما أظهرتم الإيمان، (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ)، لتوبتهم، (نُعَذِّبْ طَائِفَةً)، منكم، (بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ)، مصرين على النفاق والاستهزاء، قيل كانوا ثلاثة فعفى الله عن واحد كان يضحك ولا يخوض.
* * *
(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ(2/79)
الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
* * *
(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ)، أي: وهم على دين وطريق واحد وبعضهم مشابه ومقارب من بعض كأبعاض الشيء الواحد، (يَأْمُرُون بِالْمُنكَرِ)، بالكفر والمعاصي، (وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ)، الإيمان والطاعة، (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ)، عن الإنفاق في سبيل الله، (نَسُوا اللهَ)، تركوا ذكره وطاعته،(2/80)
(فَنَسِيَهُمْ)، تركهم من لطفه وإنعامه، (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، الكاملون في التمرد، (وَعَدَ اللهُ الُمنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا)، مقدرين للخلود، (هيَ)، أي: النار، (حَسْبهُمْ)، كافيهم جزاء على نفاقهم، (وَلَعَنَهُمُ اللهُ)، أبعدهم من رحمته، (وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ)، لا تصير النار قط عليهم بردًا، (كالَّذِينَ)، أي: أنتم مثل الذين أو فعلتم مثل فعل الذين، (مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ)، بدينهم أو بنصيبهم من ملاذ الدنيا، (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ)، فحالكم وفعلكم كفعلهم القبيح الشنيع، بين أولاً بقوله " فاستمتعوا " قباحة طرائقهم ثم شبههم بهم حذو النعل بالنعل، (وَخُضْتُمْ)، في الكذب والباطل، (كَالَّذِي خَاضُوا)، أي: كالفوج الذي خاضوا، أو كالخوض الذي خاضوه، (أُوْلَئِكَ حَبطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنيَا وَالْآخِرَةِ)، لم يستحقوا عليها في الدارين جزاء، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)، دينهم ودنياهم، يعني: كما حبطت أعمال من قبلكم حبطت أعمالكم، (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ)، أهلكوا بالطوفان، (وَعَادٍ)، بالريح، (وَثَمُودَ)، بالصيحة، (وَقَوْمِ(2/81)
إِبْرَاهِيمَ)، بسلب النعمة وهلاك ملكهم نمرود ببعوض، (وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ)، قوم شعيب بالنار يوم الظلة، (وَالْمُؤْتَفِكَاتِ)، قريات قوم لوط ائتفكت بهم انقلبت فصارت عاليها سافلها، (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)، المعجزات الظاهرات فكذبوهم فأخذوا بتعجيل النقمة، (فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ)، بأن عاقبهم بلا جرم، (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، بتكذيب رسلهم فاستحقوا العذاب فنزل عليهم، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، أي: يتناصرون ويتعاضدون في مقابلة قول: " المنافقون والمنافقات " الآية، (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ)، في جميع ما أمر ونهي (أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ)، لا محالة والسين مؤكدة للوقوع، (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ)، غالب، (حَكِيمٌ)، يضع الأشياء في مواضعها، (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، تحت أشجارها وغرفها، (خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيبَةً)، من أنواع الجواهر، (فِي جَنَّاتِ عَدْن)، وقد ورد: العدن دار الله التي لم ترها عين ولم يخطر على قلب بشر، أو نهر في الجنة جناته على حافتيه، أو أعلى درجة في الجنة، (وَرِضْوَانٌ من اللهِ)، أي: شيء من رضاه، (أَكْبَرُ)، من جميع ذلك أو مما يوصف، فإن رضى الله هو المبدأ لكل سعادة وهو المؤدي إلى الوصال واللقاء، (ذلِكَ)، أى: الرضوان أو جميع ما تقدم، (هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ).
* * *(2/82)
(ييَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكفَّارَ)، بالسيف، (وَالْمنَافِقِينَ)، بتغليظ الكلام وترك الرفق، أو بإقامة الحدود عليهم أو بالسيف إذا أظهروا النفاق، (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ(2/83)
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، مصيرهم، (يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا)، نزلت
حين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا في ظل شجرة إذ طلع رجل أزرق
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت وأصحابك فانطلق وجاء بأصحابه وحلفوا بالله أنَّهم ما قالوه، أو نزلت في جلاس ابن سويد حين قال: إن كان ما جاء به محمد - حقًا لنحن أشر من الحمير ومعه ابن امرأته فأوعده بأن يذكر قوله هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - وذكره فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأل أقلت كذا وكذا؟ فحلف، أو نزلت في ابن أبي حين قال لئن رجعنا إلى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فلما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر وحلف، (وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ)، سبه أو تكذيبه، (وَكفَرُوا بَعْد إِسْلامِهِمْ)، أظهروا الكفر بعد إظهار الإيمان، (وَهَمَّوا)، قصدوا، (بِمَا لَمْ يَنَالُوا)، ما قدروا عليه من قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم - في العقبة التي بطريق تبوك، أو من قتل ابن امرأة الجلاس حين أوعد السعاية، أو أرادوا أن يعقدوا على رأس ابن سلول تاجًا يباهي به رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلما سئلوا عن هذه الإرادة حلفوا أنا ما أردنا، (وَمَا نَقَمُوا)، ما أنكروا وما عابوا، (إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) وحاصله أنَّهم جعلوا الشكاية والعيب موضع الشكر والمدح فإنه ما للرسول عندهم ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته بعدما كانوا في ضنك وضيق، (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ)، أي: التوب، (خَيْرًا لَهُمْ)، فتاب الجلاس وحسنت توبته، (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا)، بالإصرار على النفاق، (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)، ينجيهم من عذابه، (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ(2/84)
لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ)، نزلت في ثعلبة بن حاطب التمس الدعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم لتكثير ماله وعهد أن لو رزق ليعطي كل ذي حق حقه فلما رزق غنمًا تضيق بها المدينة أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلب الزكاة منه فأبى وقال: ما هذه إلا أخت الجزية. فلما نزلت الآية جاء بالزكاة فقال: إن الله تعالى منعني أن أقبل منك. فجعل التراب يحثو على رأسه، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فما قبل منه أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان رضى الله عنه، (فَلَمَّا آتَاهُمْ): الله (مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا) عن طاعة الله، (وَهُم مُّعْرِضُونَ)، قوم عادتهم الإعراض، (فَأعْقَبَهُمْ)، أورثهم الله وجعل عاقبة فعلهم، (نِفاقًا)، متمكنًا، (فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)، يلقون الله بالموت، (بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ)، من التصدق والصلاح، (وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)، وبسبب كذبهم فإن خلف الوعد مستقبح من وجهين الإخلاف والكذب، (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ(2/85)
سِرَّهُمْ)، من إضمار النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه، (وَنَجْوَاهُمْ)، ما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين وتسمية الصدقة جزية، (وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، فلا يخفى عليه شيء، (الذِينَ يَلْمِزُونَ)، يعيبون مرفوع أو منصوب بالذم، أو بدل من ضمير سرهم، (الْمُطَّوِّعِينَ)، المتطوعين، (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ)، نزلت لما حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة جاء بعضهم بكثير مال وبعضهم الفقراء بالقليل، فقال المنافقون: من أكثر فهو مراء، ومن أقل أحب أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقات (وَالذِينَ)، عطف على المطوعين، (لاَ يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ)، طاقتهم وهم الفقراء، (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ)، يستهزءون بهم، (سَخِرَ الله مِنْهُمْ)، جازاهم على سخريتهم، أي: أذلهم، (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ)، أي: ساوي استغفارك وعدمه في عدم الإفادة لهم، (إِن تَسْتَغفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً)، المراد منه التكثير لا العدد المخصوص، (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)، وقد نقل أنه لما نزلت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله قد رخص لي فأزيدن على السبعين، لعل الله أن يغفر لهم "(2/86)
حرصًا على مغفرتهم فأنزل الله تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ). وهو من باب حمل اللفظ على ما يحتمل مع العلم بأنه غير مراده، كقول بعضهم: مثل الأمير يحمل على الأدهم. والأشهب في جواب قول الحجاج: لأحملنك على الأدهم. أي: السلسلة إلى (ذَلِكَ)، أي: عدم قبول استغفارك، (بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)، المتمردين في الكفر، فإن من طبع على الكفر لا ينقطع أبدًا ولا يهتدي، فعدم قبول دعائك لا لبخل منا ولا لقصور فيك؛ بل لعدم قابليتهم.
* * *
(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ(2/87)
لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
* * *
(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ)، بقعودهم عن الغزو، (خِلافَ رَسُولِ اللهِ)، أي: خلفه كما في: أقام خلاف الحي. أي: بعده أو من المخالفة، أي: لمخالفته أو مخالفين له، (وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِم وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا)، بعضهم لبعض أو للمؤمنين، (لاَ تَنفِرُوا)، لغزوة تبوك، (فِي الحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا)، وقد اخترتموها بهذه المخالفة، (لوْ كَانُوا يَفقَهُون)، أنها كيف هي، أو أن مصيرهم إليها، أو لو أنَّهم يفهمون ويفقهون لنفروا ليتقوا به من حر جهنم، (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً)، عن ابن عباس رضى الله عنهما - وغيره: الدنيا قليل،(2/88)
فليضحكوا فيها ما شاءوا (وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا)، فإنهم في النار لا يزالون باكين أبد الآباد، (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، من النفاق، (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ)، أي: من المخلفين. وليس كل من تخلف عن تبوك منافقًا، يعني: إن وصلت إلى المدينة وفيها طائفة منهم، (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ)، إلى غزوة أخرى بعد تبوك، (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا)، إخبار في معنى النهي، (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ)، استئناف تعليل له، (أَوَّلَ مَرَّةٍ)، هي الخرجة إلى تبوك، (فَاقْعُدُوا)، حينئذٍ، (مَعَ الْخَالِفِينَ)، أي: الرجال الذين تخلفوا بغير عذر، أو مع النساء والصبيان والمرضى والزمنى قيل: مع المخالفين. (وَلَا تُصَلِّ)، صلاة الجنازة، وقيل: لا تدع ولا تستغفر، (عَلَى أَحَدٍ منْهم مَّاتَ أَبَدًا)، الموت على الكفر موت أبدي، فإن إحياءه للتعذيب أسوأ وأسوأ من الموت فكأنه لم يحيى، (وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ)، لا تقف تستغفر، أو تدع له أو لا تتول دفنه، (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ)، تعليل للنهي، نزلت بعد أن مات ابن(2/89)
أبى بن سلول وهو - صلى الله عليه وسلم - أرسل قميصه الأشرف لكفنه بالتماسه، في مرض موته، وقام ليصلى عليه، وعمر - رضى الله عنه - قام بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقبلة؛ لئلا يصلي عليه، فقال الأكثرون: نزلت بعد أن صلى عليه. وقال بعضهم: نزلت حين قام عمر فلم يصل عليه. ولما رأوا أنه تبرك بقميصه أسلم من المنافقين يومئذ ألف، وقال بعضهم: إنما ألبسه مكافأة؛ لأن ابن سلول ألبسه ثوبه يوم بدر العباس، فإنه بين الأسارى ليس له ثوب، (وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا)، بأخذ الزكاة والنفقة في سبيل الله منها على كره والشدائد والمصائب بلا طمع ثواب، (وَتَزْهَقَ)، تخرج، (أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)، فإن الأبصار طامحة على الأموال والأولاد سيما عند المفارقة فيبغضون حكم الله وملائكته.(2/90)
(وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا)، أي: بأن آمنوا، (بِاللهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ)، أصحاب الغنى، (مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ)، أي: النساء، جمع خالفة، أي: بحيث لا يتحرزون عن هذا العار (وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ)، أحدث فيها هيئة تمرنهم على استحباب الكفر واستقباح الإيمان بحث لا ينفذ فيها الحق كأنه مطبوع مختوم، (فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) ما فيه صلاحهم ولا ما فيه مضرتهم، (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ) أي: إن لم يجاهدوا فقد جاهد من هو خير منهم، (وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ) نقل عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الخيرات لا يعلم معناها إلا الله، (وأُوْلَئِكَ هُمُ الُمفْلِحُونَ) الفائزون، (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فإن من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز.
* * *
(وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لله وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ(2/91)
يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
* * *
(وَجَاءَ الُمعَذِّرُونَ) من عذر إذا قصر أو من اعتذر إذا مهد العذر، (مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) في القعود عن ابن عباسٍ ومجاهد - رضي الله عنهم - هم أهل العذر وقال الحسن وقتادة: اعتذروا فلم يعذرهم الله، (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في ادعاء الإيمان، أي: قعد آخرون من الأعراب المنافقين عن المجيء للاعتذار، وعن الحسن وقتادة الذين كذبوا عبارة عن المعذرون وأتى بالظاهر بدل المضمر إشارة إلى أن كذبهم بعثهم على القعود يعني وقعد عن الحرب من كذب في المعذرة، (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) فإن منهم من قعد للكسل لا للكفر، (عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ) كالزمنى والمشايخ، (وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا(2/92)
يُنْفِقُونَ) الفقراء، (حَرَجٌ)، إثم في التأخر، (إِذَا نَصَحُوا لله وَرَسُولِهِ) أخلصوا الإيمان والأعمال من الغش، (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) إلى عقوبتهم، وضع المحسنين موضع الضمير إشارة إلى أنَّهم المحسنون، (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) للمسيء فكيف للمحسن، (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) هم سبعة نفر من الفقراء التمسوا مراكب للمرافقة في الغزو، (قلْتَ) يا محمد حال من مفعول أتوك بإضمار قد: (لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) من الركب، (تَوَلوْا) جواب إذا وقلت جواب وتولوا استئناف كأنه قيل: كيف صنعوا إذا قيل لهم ذلك؟ (وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) من للبيان والجار والمجرور في محل النصب على التمييز وهي أبلغ من تفيض دمعها، (حَزَنًا) مفعول له أو حال، (أَلَّا يَجِدُوا) أي: لئلا متعلق بتفيض أو حزنًا، (مَا يُنفِقُونَ إِنَّمَا السَّبِيلُ) بالمعاتبة والعقوبة، (عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ) النساء وقبلوا تلك الدناءة، (وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قلُوبِهِمْ) حتى لم يذكروا مواعظ الله، (فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) كأنهم مجانين، (يَعْتَذرُون إِلَيْكُمْ) في التخلف، (إِذَا رَجَعتمْ) من هذه الغزوة، (إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) لن نصدقكم لأنه، (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ) بالوحي، (مِنْ(2/93)
أَخْبَارِكُمْ) بعض ما في صدوركم، (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) في المستأنف أتتوبون أم تستمرون على نفاقكم؟ وجاز أن يكون معناه يمهلكم حتى تكتسبوا جرائم أخرى، (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) الذي [لا] يفوت عن علمه شيء، (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في سركم، (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ) بأن لهم في التخلف أعذارًا، (لتعْرِضُوا عَنْهُمْ) فلا تعاتبوهم، (فأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) دعوهم ونفاقهم، (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) نجس بواطنهم لا يقبل التطهير من النفاق، (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً)، مفعول له، أو مصدر، (بِمَا كَانُوا يكْسِبُونَ) من الآثام، (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) بحلفهم، (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ) بأن تصدقوهم في العذر، (فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) فإنه لا يمكن التلبيس على الله تعالى بوجه والمقصود النهي عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم، وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كانوا ثمانين من المنافقين أمرنا حين قدمنا المدينة بأن لا نكلمهم ولا نجالسهم.
(الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا) أي: أهل البدو وكفرهم ونفاقهم أعظم من أهل الحضر لقساوتهم وبعدهم عن العلماء، (وَأَجْدَرُ)، أولى، (أَلَّا) بأن لا، (يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ) من الشرائع، (وَاللهُ عَلِيمٌ) بقلوب أهل الوبر والمدر، (حَكِيمٌ) فيما قسم بين عباده وفي الحديث (من سكن البادية جفا ومن(2/94)
اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن) (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ) في سبيل الله، (مَغْرَمًا) غرامة وخسارة لا يرجون ثوابًا، (وَيَتَرَبَّصُ) ينتظر، (بكُمُ الدَّوَائِرَ) دوائر الزمان ونوبه لينقلب الأمر عليكم، (عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ) الأَمر منعكس والسوء دائر عليهم فلا يرون فيكم إلا ما يسوءهم، (وَاللهُ سَمِيعٌ) لمقالهم، (عَلِيمٌ) بضمائرهم، (وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ) يعد، (مَا يُنفِقُ) في سبيل الله تعالي ويتصدق به، (قُرُبَاتٍ عِندَ اللهِ) أي: سبب قربات، (وَصَلَوَاتِ الرسُولِ) أي: سبب صلاته فإنه يستغفر ويدعوا للمتصدقين، (أَلاَ إِنَّهَا) أي: نفقتهم، (قُرْبَةٌ لهُمْ) أي: ما يرجون الحاصل ألبتة، (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ في رَحْمَتِهِ) السين للتأكيد، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رحِيمٌ) فيغفر زلاتهم ويدخلهم الجنة برحمته.
* * *
(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا(2/95)
عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
* * *
(وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلونَ مِنَ الُمهَاجِرِينَ)، هم الذين [صلوا إلى القبلتين]، أو من
__________
(1) في الأصل [صلوا القبلتين] والتصويب من البيضاوي. (مصحح النسخة الإلكترونية).(2/96)
أدرك بيعة الرضوان بالحديبية، أو من شَهد البدر، (وَالأَنصَارِ) هم الذين آمنوا قبل قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم، (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ) بإيمان وطاعة إلى يوم القيامة كسائر الصالحين من أهل السنة وقال بعضهم: المراد بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين، (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ)، أي تحت أشجارها، (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الجملة خبر لقوله والسابقون، (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ) أعراب حوالي المدينة، (مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) عطف على ممن حولكم وقوله: (مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ)، صفة لمنافقون فصل بينها وبينه بالمعطوف على الخبر أو عطف الجملة على الجملة تقديره ومن أهل المدينة قوم مردوا، أي: تمردوا أو تمهروا، (لاَ تَعْلَمُهُمْ) يا محمد بأعيانهم، (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) فإنه لا يخفى علينا شيء،(2/97)
(سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) فضيحتهم في الدنيا وعذاب القبر ومصائب في أموالهم وأولادهم فهذه لهم عذاب وللمؤمنين أجر وعذاب القبر أو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم ثم عذاب القبر، (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) وهو الخلود في جهنم، (وَآخَرُون) من أهل المدينة لا من المنافقين، (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) في التخلف عن الغزو، (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا) كصلاتهم وإنابتهم وغيرهما، (وَآخَرَ سَيِّئًا) كتقاعدهم عن تلك الغزوة كسلاً، قيل: الواو بمعنى الباء كما في بعت الشاة شاة ودرهماً أي بدرهم، والأولى أن الواو على أصله دال على أن كل واحد مخلوط بالآخر كما تقول: خلطت الماء واللبن، أي: خلطت كل واحد منهما بصاحبه، كأنك قلت: خلطت الماء باللبن واللبن بالماء، (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) يقبل توبتهم، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) نزلت في أبي لبابة وجماعة من أصحابه تخلفوا عن تبوك ثم إذا رجعت الغزاة عن غزوتهم ربطوا أنفسهم بسواري المسجد وحلفوا لا يحلهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما نزلت حلهم وعفا عنهم، (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً)، نزلت لما أطلق هؤلاء الذين ربطوا أنفسهم بالسوارى وقالوا: هذه أموالنا التي خلفتنا تصدق ها وطهرنا فقال رسول الله - صلي الله عليه وسلم -: " ما أمرت بأخذ شيء من أموالكم "، (تطَهِّرُهُمْ) عن الذنوب، (وَنُزكِّيهِم بِهَا) ترفعهم بهذه الصدقة إلى منازل المخلصين،(2/98)
(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) ادع لهم، (إِن صَلاَتكَ سَكَنٌ) طمأنينة ورحمة ووقار، (لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ) بدعائك، (عَلِيمٌ) بما هو أهل له أو سميع باعترافهم عليهم بندامتهم، (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) تعديته بعن لتضمنه معنى التجاوز، (وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ) يقبلها وهذا تهييج إلى التوبة والصدقة عن ابن مسعود رضي الله عنه أن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل، (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) يقبل توبة تائبين ويتفضل عليهم، (وَقُلِ اعْمَلُوا) يا معشر المخالفين، (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) لا يخفى عليه شيء، (وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) فإن الله يطلعهم على أعمالكم لا محالة، إما في الدنيا أو في الآخرة يوم تبلى السرائر، (وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) بالموت، (فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) بالمجازاة عليه فعلى هذه الآية وعيد أو معناه يا معشر المحسن والمسيء اعملوا فلا يخفى على الله خير وشر والله يطلع الرسول والمؤمنين على ما في قلوبكم فيحبون المحسن ويبغضون المسيء ثم يوم القيامة يجازيكم فعلى هذه الآية وعد ووعيد، (وَآخَرُون)(2/99)
من المتخلفين، (مُرْجَوْنَ) مؤخرون يعني: موقوف أمرهم، (لأَمْرِ اللهِ) في شأنهم، (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) لم يقبل توبتهم، (وَإِمَّا يَتوبُ عَلَيْهِمْ) يقبل توبهم، (وَاللهُ عَلِيمٌ) بمن يستحق العقوبة، (حَكِيمٌ) فيما يفعل والمراد منهم الثلاثة الذين خلفوا من جملة من قعد كسلاً لا نفاقًا ولم يربطوا أنفسهم بالسراري ولم يبالغوا في التوبة كما فعل أبو لبابة وأصحابه فنزلت توبتهم بعد خمسين ليلة بعدما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا) مبتدأ خبره محذوف أي: وفيمن وصفنا من المنافقين الذين اتخذوا أو منصوب على الاختصاص، (ضِرَارًا) مفعول له أو مصدر محذوف الفعل، أي مضارة للمؤمنين، (وَكُفْرًا) أي: تقوية للكفر، (وَتَفْرِيقًا بَيْن الْمُؤْمِنِينَ) فإنهم يجتمعون في مسجد قباء فأرادوا افتراقهم، (وَإِرْصَادًا) ترقبًا، (لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ) أبي عامر الراهب، (مِن قَبْلُ) متعلق بحارب، (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا)، أي: ما أردنا ببنائه، (إِلَّا الْحُسْنَى)، أي: إلا الخصلة الْحُسْنَى وهي الصلاة فيه والتوسعة على المسلمين، (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) في حلفهم كان بالمدينة أبو عامر الراهب تنصر في الجاهلية وما آمن بمحمد عليه السلام وبعد بدرٍ التحق بقريش وحثهم على المحاربة وكان معهم في أُحد ثم ذهب إلى عظيم الروم وكتب إلى أعوانه من المنافقين يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش لمحاربة الإسلام وأمرهم ببناء مسجد له فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء إرصادًا لرجوعه من القيصر فلما أتموا بناءه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع من تبوك وقالوا: أتممنا مسجدًا للضعفاء وأهل العلة والليلة المطيرة نلتمس أن تصلي فيه وتدعوا بالبركة فنزلت(2/100)
في تكذيبهم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه فهدموه وأحرقوه، (لاَ تَقُمْ فِيهِ) في ذاك المسجد، (أَبَدًا) للصلاة، (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ) بني أصله، (عَلَى(2/101)
التَّقْوَى) على طاعة الله ورسوله، (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) من أيام وجوده، (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) للصلاة جماعة من السلف على أنه مسجد قباء منهم ابن عباس رضي الله عنهما وبعض منهم على أنه المسجد الذي في جوف المدينة وعليه حديث صحيح وقال بعضهم لا منافاة، لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى فمسجد المصطفى صلي الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى ولي في هذا التوفيق خدشة والله تعالى أعلم، (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) من الأحداث والنجاسات هم أهل قباء كان من عادتهم أنَّهم يستعملون الماء في الاستنجاء عقيب الحجر قيل: ولا ينامون على الجنابة وقيل: يتطهرون بالتوبة عن الشرك والمعاصي، (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) يرضى عمن طهر ظاهره وباطنه، (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ) أي: بنيان مبنية، مصدر كالغفران، (عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ) أي: على قاعدة محكمة قوية هي التقوى من(2/102)
مخالفته، (وَرِضْوَانٍ) وطلب مرضاته، (خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ) أي: بنيان مبنيه، (عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ) جانب وادٍ من أودية جهنم تكاد تسقط على جهنم والشفا الحرف وجرف الوادي جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهيًا والهار المنصدع الذي أشفى على السقوط قيل حاصله أنه على قاعدة ضعيفة رخوة تكاد تسقط، (فَانْهَارَ بِهِ) طاح ببانيه وأسقطه، (فِي نَارِ جَهَنَّمَ) قد صح عن بعض الصحابة أنه رأى الدخان يخرج من هذه الأرض حين حفر وهو اليوم مزبلة، (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إلى ما فيه صلاحهم، (لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ) أي: مبنيهم مصدر أريد به المفعول، (الَّذِي بَنَوْا) صفة لبنيانهم وجاز أن يكون بنيانهم على معناه المصدري والذي بنوا مفعوله، (رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) سبب شك ونفاق فإنهم بنوا للكفر والتفريق فلما خربوه ازدادوا غيظًا وحسدًا وبغضًا (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) بالموت والاستثناء من أعم الأزمنة، أي: يسئلون عنه حينئذ، (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأعمال الخلائق، (حَكِيمٌ) في مجازاتهم من خير وشر.
* * *
(إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ(2/103)
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
* * *
(إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ)، التي هو خلقها (وَأَمْوَالَهُمْ) التي هو رزقها، (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) تمثيل لإثابة الله من بذل نفسه وماله في سبيل الله الجنة، (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) استئناف ببيان ما لأجله الشرى، (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا) مصدران مؤكدان فإن الاشتراء بالجنة يستلزم الوعد بها، (فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ)، أي: هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين ثابت فيهما(2/104)
كما هو ثابت في القرآن، قال بعضهم: الأمر بالجهاد في جميع الشرائع، وقال بعض: كتب فيهما أنه اشترى من أمة محمد أنفسهم وأموالهم بالجنة كما بين في القرآن، (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ)، يعني لا أحد أوفى بما وعد " وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا " [النساء: 122]، (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ) غاية الفرح فإنه موجب للفرح الأبدي، (وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) نزلت حين قال عبد الله بن رواحة وأصحابه ليلة العقبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: " لربي أن تصدقوه ولا تشركوا به شيئًا ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم "، قالوا: فما لنا؟ قال: " الجنة "، قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، (التَّائِبُونَ) أي: هم التائبون مدحهم الله تعالى به، (الْعَابِدُونَ) بالإخلاص، (الْحَامِدُونَ) لله تعالي على كل حال، (السَّائِحُونَ) الصائمون كما ورد " سياحة أمتي الصوم " يعني في رمضان، وقيل: من يديم الصوم، أو المجاهدون أو طلبة العلم، (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) المصلون، (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) بالإيمان والطاعة، (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) عن الشرك والمعاصي وجاء بحرف العطف إشارة إلى أن ما عطف عليه في حكم خصلة واحدة، (وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) القائمون بطاعته وهذا مجمل الفضائل، وما قبله مفصل، قال بعض العلماء: هذه الثلاثة في حكم خصلة واحدة، يعني: يرشدون الخلائق إلى الطاعة بأمرهم بالمعروف(2/105)
ونهيهم عن المنكر مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركه وهو حفظ حدود الله تعالى في تحليله وتحريمه علمًا وعملاً وعلى هذا وجه العطف أظهر، (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي: الموصوفين بتلك الفضائل وذكر لفظ المؤمنين دون الضمير للإشعار بأن الإيمان داع إلى ذلك وحذف المبشر به للتعظيم كأنه شيء لا يمكن بيانه، (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) بأن ماتوا على الكفر نزلت في استغفار النبي صلي الله عليه وسلم لأبي طالب أو لأبيه وأمه أو حين استأذن المسلمون أن يستغفروا لأبويهم، (وَمَا كَانَ اسْتِغفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا) إبراهيم، (إِيَّاهُ) بقوله: لأستغفرن لك، أي: أطلب لك المغفرة من الله، أو وعدها أبوه إياه أي: إبراهيم وهى عدته بالإيمان والأول أصح عن على رضى الله عنه أني سمعت رجلاً يستغفر لأبويه المشركين فنهيته، فقال: ألم يستغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه فذكرت ذلك(2/106)
للنبي - صلى الله عليه وسلم - فنزل " ما كان للنبي " إلى قوله: " إن إبراهيم لأواه حليم " ولما استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الاستغفار لأمه فلم يأذن رحم عليها وبكى فجاء جبريل عليه السلام بقوله " وما كان استغفار إبراهيم " الآية وقال: تبرأ أنت من أمك كما تبرأ إبراهيم من أبيه، (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) بالوحي أو بموته على الكفر، (أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ) ما دعا له بعد، (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ) متضرع كثير الدعاء أو الرحيم أو الموقن بلسان الحبشة أو المؤمن التواب أيضًا بلسانهم أو المسبح أو كثير الذكر والتسبيح أو فقيه أو يتأوه من الذنوب كثيرًا نقل أنه عليه السلام يتنفس تنفس الصعداء كثيرًا ويقول آه من النار قبل أن لا ينفع آه، (حَلِيمٌ) صبور على الأذى صفوح، (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِل قَوْمًا)، ليحكم عليهم بالضلالة ويؤاخذهم، (بعْدَ إِذ هَدَاهُمْ) للإسلام، (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُون) أي: ما يجب اتقاؤه والغافل غير مكلف فلا نؤاخذكم باستغفاركم أبويكم المشركين قبل أن تعلموا أنه خطر حرام لكن لما بينت حرمته إن عدتم إليه ليتحقق الضلال قال بعضهم: نزلت في قوم عملوا بالمنسوخ قبل أن يعلموا نسخه، (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ(2/107)
مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) فتبرءوا عن المشركين وتوجهوا إلى الله تعالى بالكلية، (لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ)، أي: في وقت العسرة، يعني غزوة تبوك، فإنها في وقت شدة وحر وقلة زاد وماء ومركوب، (مِن بَعْدِ مَا كَادَ) اسم ما كاد ضمير الشأن، (يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيق مِّنْهُمْ)، تميل عن الحق، فإن كثيرًا منهم هموا بالتخلف ثم عصمهم الله تعالى فلحقوا أو لما نالوا شدائدها من الجوع وغاية العطش والحر كادوا يشكون في دين الإسلام وأما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: " لقد تاب الله على النبي " معهم فلأنه أذن للمنافقين في التخلف قبل إذن الله تعالى وقال بعض افتتح به الكلام لأنه كان صلى الله عليه وسلم سبب توبتهم فذكره معهم، (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ) تكرير للتأكيد، فإنه لما ذكر ذنبهم أعاد ذكر توبتهم، (إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
(وَعَلَى الثَّلَاثَةِ) عطف على النبي، (الَّذِينَ خُلِّفُوا) أي: خلف الله تعالى أمرهم عمن ربط نفسه بالسواري وعمن اعتذر بالأكاذيب وقيل: خلفوا عن الغزو، (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ)، أي: برحبها ووسعتها وهو مثل لشدة الحيرة فإنهم مهجورون بالكلية في المعاملة والمجالسة والمكالمة، (وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ) قلوبهم من كثرة الهم، (وَظَنُّوا) علموا، (أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ) من(2/108)
سخطه، (إِلَّا إِلَيْهِ) بالتضرع والاستغفار، (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ) وفقهم للتوبة أو رجع عليهم بالرحمة، (لِيَتُوبُوا) أو قبل توبتهم ليتوبوا في المستقبل إن صدر عنهم خطيئة أو تاب عليهم ليرجعوا إلى حالهم، (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) يقبل توبة العباد بمحض رحمته وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفى.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) في نياتهم وأعمالهم أو في الاعتراف بالذنب لا كمن اعتذر بالأكاذيب والخطاب لأهل الكتاب، أي: كونوا مع(2/109)
محمد عليه السلام وأصحابه، (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) نهي بصيغة النفي للمبالغة، (وَلاَ يَرْغَبُوا)، أي: ولا أن يرغبوا، (بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) لا أن يصونوا أنفسهم عما لم يصن نفسه الأشرف عنه، (ذلِكَ) أي: النهي عن التخلف ووجوب الموافقة، (بِأنَّهُمْ) بسبب أنهم، (لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) عطش، (وَلاَ نَصَبٌ) تعب، (وَلاَ مَخْمَصَةٌ) مجاعة، (فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطَئُونَ) لا يدوسون، (مَوْطِئًا) مكانًا، (يَغِيظُ) وَطْؤُه، (الكُفارَ) يضيق صدورهم ويغضبهم، (وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا) قتلاً وأسرًا أو غنمية وغلبة، (إِلا كُتِبَ لَهُم بِهِ) بكل واحد من الظمأ وغيره، (عَمَلٌ صَالِحٌ)، إلا استوجبوا الثواب والاستثناء المفرغ في موقع الصفة للنكرة قبله أو الحال، (إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ) على إحسانهم وهو كالعلة لكتب، (وَلاَ يُنفِقُونَ نفَقَةً) في سبيل الله، (صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً) قليلاً ولا كثيرًا، (وَلاَ يَقْطَعُون) في سفرهم، (وَادِيًا) أرضًا، (إِلا كُتِبَ لَهُمْ) أثبت لهم كل من الإنفاق والقطع، (ليَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون) أي: يجزيهم جزاء أحسن من أعمالهم، (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ) ما استقام لهم، (لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) أي: جميعًا لغزو(2/110)
نزلت حين بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السرايا بعد تبوك ينفر المؤمنون جميعًا إلى الغزو حذرًا مما أنزل الله تعالى في تخلف المنافقين عن تبوك فيتركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (فَلَوْلَا) أي: هلا، (نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ) جماعة كثيرة، (طَائِفَةٌ) جماعة قليلة، (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) أي: ليحصل القاعدون الفقه والقرآن وأحكامه، (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ): ليعلموا النافرين ويخوفوهم بما نزل(2/111)
من الوحي، (إِذَا رَجَعُوا) من الغزو، (إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) عما ينذروا عنه أو ليتفقه النافر أي: ليتبصروا بالغلبة على المشركين وينظروا صنائع الله تعالى ثم إذا رجعوا ينذروا قومهم من الكفار ويخبرهم بنصرة الدين لعلهم يحذرون، أو نزلت حين نزلت أحياء العرب المدينة فغلت أسعارهم وفسدت طرقهم بالعذرات وحينئذ معنى الآية ظاهر، أو نزلت حين خرج بعض الصحابة في البوادي فأصابوا منهم معروفًا ودعوا الناس إلى الهدى فقال أهل البوادي: ما نراكم إلا وقد تركتم صاحبكم فرجعوا كلهم إلى المدينة فقال تعالى هلا رجع طائفة منهم يستمعوا ما أنزل الله تعالى بعدهم من الوحي ولينذروا ويخبروا قومهم أي: أهل البوادي بالفقه الذي تعلموه إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون وقد ذكر في وجه النزول غير ما ذكرنا أيضًا.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ(2/112)
مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أمروا بقتال الأقرب فالأقرب ولهذا لما فرغوا عن جزيرة العرب شرعوا في الشام، (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) شدة في القتال وصبرًا، (وَاعْلَموا أَنْ الله مَع المتَّقِينَ)، بالإعانة والحفظ، (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ) المنافقين، (مَّن يَقول) أي: يقول بعضهم لبعض استهزاء وتثبيتًا على النفاق، (أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ) السورة، (إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا) بزيادة المؤمن به أو لزيادة عمله الحاصل منها، (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) بنزولها، (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) كفر ونفاق، (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا) كفرًا، (إِلَى رِجْسِهِمْ) الذي كانوا عليه، (وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ) أي: المنافقون، (أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ) يختبرون بالسَّنَة والقحط أو الغزو والمصائب، (فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) لأن يتنبهوا، (ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) ولا يعتبرون، (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) فيها عيب المنافقين، (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) إنكارًا لها وسخرية أو تدبيرًا للفرار قائلين، (هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ) يعني من المسلمين إن قمتم من الخطبة والمسجد فإن لم يرهم أحد قاموا وإلا أقاموا، (ثُمَّ انْصَرَفُوا) عن حضرته، (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن الإيمان دعاء أو إخبار، (بِأَنَّهُمْ) أي: بسبب(2/113)
أنهم، (قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) عن الله دينه، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) تعرفون حسبه ونسبه، (عَزِيزٌ) شديد شاق، (عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) أي: عنتكم ومضارتكم، (حَرِيصٌ عَلَيْكُم) على صلاحكم وإيمانكم، (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ) له شدة الرحمة على المطيعين، (رَحِيمٌ) على المذنبين لكن غليظ شديد على الكافرين، (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإيمان وقاتلوك، (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) في الحماية والنصرة، (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فلا أرجوا ولا أخاف غيره، (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الذي هو سقف المخلوقات وجميع الخلق تحته وعن بعض السلف أن آخر ما نزل هاتان الآيتان.
والْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* * *(2/114)
سورة يونس قيل مكية إلا ثلاث آيات
من قوله (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ) وهي مائة وتسع آيات، وأحد عشر ركوعًا
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا(2/115)
الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
* * *
(الر) عن ابن عباس رضى الله عنهما، أي: أنا الله أرى، (تِلْكَ) إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآي، (آيَاتُ الْكِتَابِ) القرآن، (الْحَكِيمِ) المحكم الذي لم ينسخ، أو الحاكم بين الناس أو ذوي الحكم، (أَكَانَ لِلنَّاسِ) استفهام لإنكار تعجب الكفار، (عَجَبًا) خبر كان، (أَنْ أَوْحَيْنَا) اسم كان، (إِلَى رَجُلٍ منهُمْ) نزلت حين قالت قريش: الله أعظم أن يكون رسوله بشرًا مثل محمد يعني ممن لم يكن له رياسة ومال وما يعدونه من أسباب الجلال (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ)، أن مفسرة، (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ) أي: بأن، (لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ)، أي: سابقة وأثرة حسنة أجرًا حسنًا بما قدموا أو سبقت لهم السعادة في الذكر الأول وذكر الصدق إشارة إلى أن نيل تلك الرفعة بسبب الصدق، (قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا) أي: الكتاب، (لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)(2/116)
كهذه الأيام أو كل يوم كألف سنة، (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عنه بدعة، (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ): يقدر أمر الكائنات على مقتضي(2/117)
حكمته، (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) رد على المشركين أن آلهتهم شفعاء لهم، (ذَلِكُمُ اللهُ) أي: الموصوف بتلك الصفات العظيمة، (رَبُّكُمْ) لا غير، (فَاعْبُدُوهُ) وحده، (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) في أمركم أيها المشركون، (إِلَيْهِ) لا إلى غيره، (مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا) بالموت، (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد لنفسه، (حَقًّا) مصدر مؤكد لغيره، (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد إهلاكه، (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ) بعدله لا ينقص من ثوابهم وفضل الله يؤتيه من يشاء وقيل: المراد عدلهم أي: إيمانهم فإن الشرك لظلم عظيم، (وَالذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ) ماء حار انتهى حره، (وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) بسبب كفرهم وحاصله ليجزى الذين كفروا بشراب لكن غير النظم للمبالغة في استحقاقهم للعذاب، وللإشارة إلى أن المقصود بالذات من الإعادة هو الإثابة، وأما عقاب الكفرة فشيء ساقه إليهم شؤم أعمالهم وهذا أيضًا عدل لكن خصص المؤمنين بذكره لمزيد عناية وبشارة، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً) ذات ضياء، (وَالْقَمَرَ نُورًا)(2/118)
أي: ذا نور قيل: ما بالذات ضوء وما بالعرض نور، (وَقَدَّرَهُ)، أي: مسير القمر، (مَنَازِلَ) أو قدر القمر ذا منازل، (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) حساب الشهور والأيام، (مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ) أي: المذكور، (إِلَّا) متلبسًا، (بِالْحَقِّ) فيه الصنائع والحكم، (يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فإنهم المنتفعون بالتدبر، (إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لقَوْمٍ يَتَّقُونَ) العواقب فإنه يحملهم على التدبر، (إِنْ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ) لا يتوقعون، (لِقَاءَنَا) لأنَّهُم ينكرون البعث، (وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) من الآخرة، (وَاطْمَأَنُّوا بِهَا) قصروا هممهم على زخارفها، (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا) الكونية والشرعية، (غَافِلُونَ) فلا يتفكرون فيها ولا يأتمرون بما، (أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) من المعاصي، (إِن الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ(2/119)
رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ)، بسبب إيمانهم إلى الصراط حتى يصلوا إلى الجنة بالسلامة، (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ) استئناف أو خبر ثان، (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) متعلق بـ تجري أو حال من الأنهار، (دَعْوَاهُمْ) أي: دعاؤهم، (فيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ) مخففة من المثقلة، (الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ) عن كثير من السلف أن أهل الجنة كلما اشتهوا شيئًا قالوا: سبحانك اللهم فيأتيهم الملك بما يشتهون فيسلم عليهم فيردون عليه، وذلك تحيتهم فإن أكلوا حمدوا الله وذلك قوله وآخر دعواهم.
* * *
(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ(2/120)
عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لله فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
* * *
(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم) تعجيل الله تعالى لهم، (بِالْخَيْرِ) حاصله لو يستجيب دعاءهم بالشر عند الغضب لأهلهم وأولادهم وأموالهم كما يستجيب دعائهم بالخير، (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ)، لأميتوا وأهلكوا لكن بفضله يستجيب في الخير سريعًا لا في الشر قال بعضهم: نزلت حين قالوا: " اللهم إن كان هذا هو الحق " الآية [الأنفال. 32]، (فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) لا يخافون(2/121)